فبينما كان
الجبل يعاني أزماته الطاحنة، وسكانه يتوقعون إعفاءهم
من الضرائب، لمدة ثلاث سنوات، كما وعدتهم السلطات
العثمانية. إذا بها تفرض الضرائب على الجبل، وتسعى،
بأساليبها التقليدية إلى جمْعها.
مما أثار سخط
الجماهير الشعبية، التي راحت تقابل العهد المصري
بالعثماني. حتى قيل إن الناس، كانوا مستعدين لأن
يستقبلوا المصريين بأذرع مفتوحة.
وبعد وقت طويل
اعترف الانجليز، بأن الحكم المصريكان خيراً للمنطقة،
وأنه ما كان ليصيبها ما أصابها، لو استمر هذا
الحكم.
رأت السلطات
العثمانية، في تلك التطورات، فرصتها لفرض نظام الحكم
المباشر على الجبل، على أساس أنه يحُول دون عودة
الاقتتال الطائفي. فعقد مصطفى باشا اجتماعاً، حضره
زعماء لبنان. استعرض فيه النكبات، التي ألمّت
بالبلاد، خلال حكم البيت الشهابي، وأعلن إنهاء حُكم
الشهابيين. وتلا فرماناً يعهد بالحكم إلى عمر باشا
النمساوي.
قابل الدروز
الإجراءات العثمانية بالترحيب والرضا، وزادهم
تهليلاً لها، أن الحاكم الجديد، قد اعتنق الإسلام.
بينما امتعض الموارنة، لأن الإكليروس الماروني، كان
متمسكاً بأن يحكم الجبل أمير مسيحي. وأن الأمير
بشيراً الكبير، هو الملائم لهذا الحكم؛ على ما كان
يعتقده الموارنة. وتركزت مهمة عمر باشا النمساوي في
الأهداف التالية:
- القضاء التام
على فكرة عودة البيت الشهابي إلى الحُكم.
- إقناع
الأطراف المتنازعة كافة، بقيمة الحُكم العثماني
المباشر، ووضْع البطريرك الماروني أمام الأمر
الواقع.
- إرضاء
الزعامات الدرزية.
- إرضاء
الإقطاعيين الموارنة.
|
حرص الحاكم الجديد على أن
يكسب الدروز إلى جانبه. فأعاد إليهم أموالهم
وأراضيهم، وبعض نفوذهم. كما سعى لأن يثبت لكافة
الجهات المعنية بأوضاع لبنان، أن الحُكم العثماني
المباشر، هو المقبول من الأهالي. فحثهم على توقيع
عريضة بهذا المعنى، وأنهم يرغبون في تثبيت عمر باشا
في الحُكم.
وإزاء معارضة
البطريرك الماروني، وإكليروس الكنيسة المارونية، عمد
عمر باشا إلى الوعد والوعيد، للحصول على توقيعات
الموارنة. حتى إن بطريركهم، شعر بأن حياته قد أصبحت
في خطر. ونصحه القنصل الفرنسي بالحذر مما يدبّره له
عمر باشا، ففرّ، عام 1842، إلى معقل منيع في الجبل.
غير أن علاقات
عمر باشا الحسنة بالجانب الدرزي، لم تدم طويلاً فإذا
به يستعدي الدروز، إلى جانب عدائه للموارنة.
والواقع، أن الظروف والملابسات، التي أدت إلى تصادم
الدروز وعمر باشا، لا تزال غامضة. ولعل من أسبابها
ما يلي:
- لا شك أن العثمانيين كانوا
يعملون على التحكم في أمور الطائفتين الدرزية والمارونية. وذلك إلاّ
بإضعافهما. ثم ضرب كلٍّ منهما، الواحدة بعد
الأخرى. فسعوا إلى استعار الحرب بينهما. ولكن
زعماء الدروز، استذكروا تجربة سابقة، عندما دفعهم
العثمانيون إلى مهاجمة الموارنة، عام 1841. وبعد
أن انتهت المعارك، تنصّلوا من المؤامرة. فإذا
أرادوا تكرار هذا العمل؛ وكان الدروز يودّون
تكراره، فعلى العثمانيين، أن يضعوا في يد الـدروز
فرمانـاً بذلك، حتى لا يتحمل الدروز، وحدهم، وزر
هذا العمل. وما كان العثمانيون ليوافقوا على الطلب
الدرزي.
- حاول عمر
باشا إرغام الدروز على إعادة ما سبق أن نهبوه من
الموارنة، خلال الحرب الأهلية الأولى. ولكنهم
هدّدوه بأنهم سيفشون سر التواطؤ، بينهم وبين
العثمانيين، عام 1841، ضد الموارنة، إذا استمر في
هذه السياسة.
- أثيرت قضية
الهوية الدينية للدروز، إذ كان العثمانيون يرون
أنهم مسلمون، بينما كان الدروز يرون أنهم أصحاب
عقيدة خاصة. ودار جدل وضغط لتأكيد إسلام الدروز،
الأمر الذي جعل هؤلاء يتوجسون خيفة من وراء ذلك،
فازدادت الهوة عمقاً، بينهم وبين عمر باشا.
|
ومما يذكر أن الأهداف
العثمانية الرئيسية، كانت غير مقبولة، لا لدى
الموارنة، ولا لدى الدروز، ولا سيما منها فرض الحكم
المباشر، الذي يسلب الطرفين، الدرزي والماروني،
الكثير من امتيازاتهما وسلطاتهما، ويحُول دون أن
يحقق الموارنة تفوّقهم الواعد، ودون أن يستعيد
الدروز تفوّقهم السابق. وهكذا كانت الأطراف الثلاثة،
تتنافس في شيء واحد: اليد العليا في أمور البلاد.
ومِثل هذا التنافس، في مِثل تلك الظروف، لا يحسمه
سوى السلاح.
استخدم عمر باشا الخديعة،
وسيلة للقبض على كبار زعماء الدروز، ونجح في ذلك.
ولكن أحدهم، وهو يوسف عبدالملك، لم يقع في الفخ،
فتولّى قيادة الثورة ضد العثمانيين. ونجح في أن يثير
النفوس، بما كان يردّده وينشره على أوسع نطاق، من أن
العثمانيين ينوون نزع سلاح الجبل، تمهيداً لسَوق
الشباب إلى الجندية العثمانية الرهيبة. وازدادت ثورة
دروز لبنان حدّة، على أثر انضمام دروز حوران إليهم،
بقيادة شبلي العريان (أكتوبر 1842)، الذي عُرف بشدته
وصلابته، خلال الثورة الدرزية على الحكم المصري.
واشترط الدروز على العثمانيين إذا أرادوا تجنّب
التصادم:
وهي مطالب لم يكُن من
الممكِن تنفيذ معظَمها؛ إذ رأى فيها العثمانيون
تعارضاً مع الخط السياسي العثماني العام.
هكذا، أصبح
العثمانيون الخصم المشترك لكلٍّ من الدروز
والموارنة. بيد أن الخطر المشترك، لم يمكِنه حمْلهما
على التضامن في وجْه الآستانة، على غرار ما فعلوه
عام 1840، إذ كانت خلافاتهما قد استحكمت، بل ربما
أمسى الخصام الماروني ـ الدرزي أشد من الخصام
الماروني ـ العثماني. ولم يكن قادراً على الحدّ من
هذا الخصام، سوى قبول الدروز بتولي حاكم مسيحي
الإمارة اللبنانية، وهو ما كانوا يرفضونه تماماً.
خاض الدروز المعركة،
وحدهم. وشن العثمانيون عليهم حملة عنيفة، ضربت
معاقلهم. وأحرقت ودمرت عدداً من قراهم. وعلى الرغم
من ذلك، صمد الدروز لقوات عمر باشا النمساوي، حتى
يئس من الوصول إلى نصر حاسم. وشرع الإنجليز ينتقدون،
بشدة، إجراءات العنف تلك. في الوقت الذي كان فيه
سفراء الدول الكبرى في الآستانة، يتباحثون مع الباب
العالي في نظام حُكم للبنان، يتلاءم مع وضْعه ومع
الأهداف الأوروبية.
وأخيراً، عزل العثمانيون عمر
باشا النمساوي، وسعى الباب العالي وسفراء الدول
الأوروبية، إلى تطبيق نظام
القائمقاميتَين.