ويبدو أنَّ القيادة العسكرية الألمانية
العليا في سورية انزعجت من الموقف الشعبي في لبنان الناقم على ألمانيا
من جراء المجاعة، فأرسلت ضابطاً، ويدعي زاندل (Sandel)، للاستقصاء عن
الأوضاع في لبنان وبيروت. فرفع الأخير إليها تقريراً سرياً على أثر
جولة قام بها في حوران ودمشق وحلب ورياق وبيروت وجبل لبنان، جاء فيه
بأنَّ قسماً من السكان المحليين، مسلمين ومسيحيين، غير مبالين
بالمجاعة، فيما قسم آخر يحقد على الألمان. وقال إنه سمع بشكل خاص في
دمشق وجبل لبنان وبيروت كلاماً كبيراً يحمّل الألمان مسؤولية المجاعة
الكبرى وارتفاع الأسعار. وعزا الاتهامات التي توجّه إليهم حول شراء
كلِّ مخزون الحبوب وإرساله إلى بلادهم عبر سكّة حديد رياق، بأنَّ
أنصار” دول الوفاق الودي” في جبل لبنان من جهة، وبعض العثمانيين،
يروّجون هذه الشائعات لرفع المسؤولية عنهم بالنسبة إلى المجاعة. ومضى
التقرير بأنَّ “أناساً عقلاء يتهموننا نحن الألمان بأنّنا كنا
المستفيدين من تجويع لبنان”، وإلّا “لكانت ألمانيا العظمى القوية، التي
تفرض إرادتها على كلِّ جبهات القتال، أرغمت الحكومة العثمانية على
إرسال كميات كافية من المواد الغذائية إلى جبل لبنان، أو لكانت سمحت،
على الأقلِّ، للبنان باستيراد الحبوب”.
وعلى الرغم من أنَّ زاندل لا يتبنَّى رقماً
لضحايا المجاعة، إلا أنَّه يشير إلى إحصاءات متصرفية جبل لبنان بموت
حوالى 200 ألف نسمة. لكنّه يقرّ بأنَّه مقتنع شخصياً بأنَّ مأساة فظيعة
حلّت ببيروت وجبل لبنان، وعدداً كبيرأً من الأطفال والأمهات ماتوا بسبب
الجوع”. وأكّد التقرير نفسه، وجود مخازن كبيرة للحبوب في بيروت ودمشق،
وأنَّ المضاربين يعملون بمعرفة السلطات المحلية، والمدعو ميشال سرسق،
الذي سبق ذكره في تقرير القنصل الألماني موتيوس، يملك مخزناً كبيرا
مليئاً بالحبوب، وهو يتمتّع بحماية جهات نافذة.
وفي معرض تقويمه للوضع الإنساني في جبل لبنان
وبيروت، حثَّ زاندل حكومته على الاقتداء بالأميركيين والبريطانيين
وتأسيس مطابخ شعبية في برمانا وبيروت لإطعام الجائعين. ورأى أنَّ هكذا
نشاط يحقّق أفضل دعاية لألمانيا. من هنا، اقترح على السفير في استانبول
لو أنَّ المارشال فون زاندرز يعمل على الاقتداء بالجمعيات الخيرية
الأميركية والبريطانية، لأنَّ ذلك: “سيرفع اسم ألمانيا عالياً ويكون له
صدى آخر، وسيدعو الناس لها في الكنائس والمساجد”. ويرى زاندل أنَّ هكذا
مشروع لن يكلف كثيراً، فيكفي تأمين وسائل النقل وعدد من عربات الحبوب
ما بين 2- 3 عربات أسبوعياً.
وفي حال لم تتأمّن عربات النقل، اقترح زاندل
استخدام وسائل النقل الخاصّة بالجمعية الأميركية، من دون أن يؤثّر ذلك
في سمعة ألمانيا، كما إرسال شاحنات فارغة من دمشق إلى بيروت لتنقل
سلعاً إلى دمشق، فتعود هذه الشاحنات محمّلة بالحبوب إلى بيروت. ويضيف
أنَّه سرعان ما سينتشر الخبر بأنَّ قيادة الجيش الألماني العليا هي
التي تطعم الناس، وسيكون له ثمار في المستقبل. فيقول: “لقد دفعنا دماً
في سورية وفلسطين لا يقدّر بثمن، وضحينا بملايين من الذهب والمواد من
أجل رفع سمعة ألمانيا. لكن حتى الآن لم نقم بدعاية صحيحة بين السكان
النصف متحضرين من أجل رفع سمعة ألمانيا”. ويختم: “إنّه من واجب الجيش
(الألماني) بأن يفكر في تثبيت سمعة ألمانيا في المنطقة، كي تتمكّن في
مرحلة السلام بعد الحرب من تقوية وتنمية الصناعة والتجارة
الألمانيتين.” ويكرر زاندل: “إنّه من واجبنا أن نهتم من الآن بأنَّ
ألمانيا التي قدّمت تضحيات الكبيرة عليها أن تحصل في المستقبل على
تعويض بطرق شرعية”.
وبعد أربعة أيام من إرسال تقرير زاندل إلى
قيادة الجيش “أف”، بعث رئيس “دائرة ألمانيا” إلى السفير في استانبول
الكونت فون برنستورف (Graf von Bernstorff) بأنَّ دائرته على دراية
بالأوضاع في جبل لبنان، والتي يجب عدم إخفائها عن المراكز الموثوقة في
استانبول. ولكي تقطع على فون زاندرز أي تدّخل لصالح اللبنانيين، ذكرت
الدائرة أنَّ المارشال زاندرز لا يستطيع أن يمارس نفوذاً على السلطات
العثمانية العسكرية والمدنية، ولا حتى على الوالي نفسه، في شأن التموين
العثماني للمدنيين. وأنَّه من الصعوبة بمكان، في الوقت الراهن، أن تقوم
الجهات العسكرية الألمانية فجأة بالتدخّل وتبدي اهتماماً أكثر بالسكان
العرب، وخاصّة بالمسيحيين منهم، وهي تعرف حساسية السلطات العثمانية
تجاه مسحيي لبنان. أمّا في حال حصل ذلك، فإنَّ الدوائر العثمانية
الحاكمة سوف تعتبره تدّخلاً في الشؤون الداخلية العثمانية.
وفي المقابل، تبلّغ برنستورف من “الدائرة
الألمانية” أنَّ لديها معلومات عن أنَّ والي بيروت عزمي بك يقوم بما
يستطيع لجلب الحبوب إلى لبنان، لكنها تستدرك بأنَّ إطعام الفقراء وكلَّ
الناس في غاية الصعوبة، خاصّة أنَّ غالبيتهم موالون لدول الوفاق. يُضاف
إلى ذلك، أنّ السلطات العثمانية غير قادرة على تموين القطاع المدني،
حتى أنَّها لا تقوم بتموين موظفيها وعسكرها بشكلٍ كاف. ورأت الدائرة
كذلك، أنّه لا يمكن تزويد كلِّ الناس بالرغيف، أو وضع التوزيع بأيدي
جمعيات خيرية، من دون حدوث مضاربات غير أخلاقية على حساب الدولة
العثمانية.
ومع ذلك، ختمت “الدائرة الألمانية” حول
إمكانية المساعدة في بيروت وجبل لبنان، وبالتالي القيام بدعاية صحيحة
لألمانيا، عندما تقوم جمعيات ألمانية بأعمال الإغاثة، وبكميات صغيرة
بداية، وإنشاء مطابخ شعبية ومراكز لتوزيع الرغيف. لكن الدائرة نفسها،
اعتبرت أنَّ أي عمل في هذا المجال من دون تنسيق مع السلطات المدنية
العثمانية لا معنى له، لأنَّ هناك عدم ثقة وغيرة غير محدودتين من قبل
العثمانيين، مدنيين وعسكريين، تجاه النفوذ الألماني في البلاد
العربية.
وبدوره، بعث موتيوس، قنصل ألمانيا في بيروت،
أواخر حزيران 1918 إلى سفير بلاده في استانبول يقترح عليه أن تقوم
ألمانيا بعمل إغاثي في بيروت وجبل لبنان، حيث الغلاء لا يُطاق
والمعاناة عامّة. واعتبر أن َّذلك سيكون له مردود دعائي عليها،
إنسانياً وسياسياً. وقال القنصل إنّه وزع أموالاً على الفقراء خلال
العامين 1917 و1918، إلّا أن ذلك كان بمثابة قطرة على حجر ساخن، ذلك
أنَّ قلّة قليلة من المحتاجين جرى تخفيف معاناتها، بهدف أن “نظهر نحن
الألمان هنا كأصدقاء ومنقذين للفقراء، أسوة بالأميركيين الناشطين في
المدينة والجبل”. وذكر القنصل أنَّ أسرة من خمسة أشخاص كانت تحتاج
شهرياً إلى 400 ليرة لشراء القمح على أساس أسعار شتاء العام 1917 –
1918. وقال: إذا كان المرء في ألمانيا يريد بالفعل أن يساعد أعداداً
غفيرة من الفقراء، ويحقّق من خلاله دعاية لألمانيا، فعليه عندئذ توظيف
أموال أكبر، وشراء الحبوب لـ 6 شهور مسبقاً بعد موسم الحصاد مباشرة،
لأنَّ الأسعار تكون متدنية. واقترح أن ينحصر عمل الألمان في بيروت
بإنشاء المطابخ، بينما يتمّ توزيع الحبوب على كسروان من مركز في جونيه.
وختم أنَّه يوجد في بيروت مطبخ شعبي ألماني واحد يمكن توسيعه. من هنا،
طالب بالإسراع بتحويل الأموال للبدء في المشروع.
وفي آب 1918، نقل السفير الألماني في
استانبول إلى رئيس الوزراء مقترحات القنصل، وطلب في حال الموافقة عليه
بتحويل مبلغ 4,320 ليرة تركية للغرض نفسه، معتبراً أنَّ ذلك سيكون أفضل
دعاية لألمانيا. وهذا المبلغ الذي طلبته السفارة الألمانية، لا يكفي
سوى لشراء 36 طناً من القمح على أساس سعر شراء الطن الواحد البالغ 120
ليرة ذهبية تركية في العام 1916. ومن المؤكّد أن الأسعار ارتفعت بشكلٍّ
جنوني بعد العام 1917، بحيث لا يكفي هذا المبلغ لشراء الكمية نفسها في
العام 1918. من هنا، يبرز الجانب الدعائي على حساب العمل الإنساني.
وحتى هذا المبلغ المتواضع، لن تقرّه رئاسة الحكومة
الألمانية. |