يوحنا الداري السرياني
     

 

 

 

 
 
 

 يوحنا الداري السرياني

 

حياته:

    يوحنا الداري، لاهوتي كبير ضليع في علوم الدين. ترهّب في دير حنانيا أو حنينا، المعروف بدير الزعفران، بالقرب من ماردين في طورعابدين. أجاد اللغة وتعمق في العلوم الفلسفية واللاهوتية وبدا فيها شديد التأثر بديونيسيوس الأريوباجي. سيم أسقفاً على دارا حوالي 825 على يد صديقه البطريرك ديونيسيوس التلمحري، وزاول أعمال الأسقفية نحوا من خمس وثلاثين سنة أي حتى وفاته حوالي السنة 860، (بدليل رسامة خلفه اثناسيوس حكيم حول هذا العام أسقفاً على كرسي دارا. ويوحنا هو الذي طلب من البطريرك التلمحري، تأليف كتاب التاريخ، فانصاع البطريرك لطلب صديقه هذا، وكتب كتابه الشهير "تاريخ ميخائيل السرياني" مشيداً في مقدمة الكتاب، بيوحنا، واصفاً انصبابه على صنوف العلوم وشغفه بها منذ زمن زهرة صباه حتى شيخوخته).

بيئته:

    إن دارا التي خدمها يوحنا كأسقف مدة ما يقارب الخمسة وثلاثين سنة، هي بلدة في لحف جبل، بين نصيبين وماردين ودعيت.

    كذلك نسبة إلى الملك داريوس الذي توفي فيها. عُيّن عليها سنة 507 في عهد الامبراطور أناثتاذيوس، توما الآمدي، كأول أسقف وكان من أتباع أوتيخا. وعندما احتل كوزيوس ملك الفرس دارا نفى أسقفها، ثم ما لبث الرومان أن أعادوها إليهم في عهد الأمبراطور موريس. ويروي ديونيسوس المذكور في كتابه التاريخي، أنه في سنة 641 سقطت دارا تحت حكم الاسلام. وبتدبير كنسي يعقوبي، أعلنت دارا مستقلة عن سلطة أسقف آمد، وأصبحت أبرشية قائمة بذاتها. ويبدو ذلك واضحاً من تسمية المؤلف ايوانيس مطران دارا، وظلّت كرسياً أسقفياً للسريان حتى أواسط العام 1200م.

مصنفاته:

    صنّف يوحنا كتباً قيّمة استشهد بها اللاهوتيون الذين خلفوه: ابن كيفا وابن الصليبي وابن العبري، وفرضت دراستها على الاكليريكيين وهي:

    1- كتاب اللاهوت في الرتبة السماوية والرتبة الكنسية وفي الكهنوت (ميمر درسه ب. زينكرله) وترجمه إلى العربية ونسبه إلى يوحنا مارون القس يوسف حبيقه البسكنتاوي، وقيامة الأجساد (درسه ض.ب خلج) والعقيدة المسيحية وتقدمة الأسرار (عني بترجمته ودراسته ونشره الأب يوحنا صادر) والأبالسة، ويقع هذا الكتاب في 490 صفحة.

    2- كتاب في الفردوس والخليقة وقيامة الرب والعنصرة ووجود الصليب وأعمال الفادي ويقع في 443 صفحة.

    3- كتاب نفيس في النفس (درسه ج. فورلاني) في 104 صفحات.

    4- تفسير الأنجيل أو العهد الجديد، ذكره ابن الصليبي في مقدمة تفسير انجيل متى ولم يصل الينا بشيء منه.

    5- رسالة في سياسة الكنيسة وأقرار السلام فيها، في 39 صفحة، وجّهها المؤلف إلى البطريرك يوحنا الرابع.

    6- كتاب في الليتورجيا، ذكره السمعاني.

محتويات الكتاب الأول في الرتبة السماوية والكنسية:

1- ميمر في الرتبة السماوية:

    يقسم ميمر الرتبة السماوية إلى 16 فصلاً مرتَّبة على الشكل التالي:

    الفصل الأول: في الصلاح الإلهي.

    الفصل الثاني: في كيفية ووسيلة الاشتراك بهذا الصلاح الإلهي.

    الفصل الثالث: في ماهية مبدأ الكهنوت.

    الفصل الرابع: في سبب تسمية الملائكة بالجنود السماوية.

    الفصل الخامس: في سبب تسمية الجواهر السماوية ملائكة.

    الفصل السادس: في الترتيب الأول والوسط والأخير للجواهر السماوية.

    الفصل السابع: في أصل أسماء الجنود السماوية.

    الفصل الثامن: في السادات والقوات والسلاطين ورئاسة كهنوتهم الوسطى.

    الفصل التاسع: في الرئاسات ورؤساء الملائكة ورئاسة الكهنوت.

    الفصل العاشر: في ترتيب الكنائس وكيفية تقسيم الطغمات.

    الفصل الحادي عشر: في سبب تسمية كل الجواهر السماوية جنوداً سماوية.

    الفصل الثاني عشر: في سبب تسمية الأسقف عندنا ملاك.

    الفصل الثالث عشر: في خاصية كل من الساروفيم والكاروبيم.

الفصل الرابع عشر: في مدلول العدد الملائكي الذي تسلَّمه لنا الكتب.

    الفصل الخامس عشر: في انبثاق الإنارة الإلهية بواسطة النعمة.

    الفصل السادس عشر: في الطريقة التي تصوِّر لنا فيها الكتب المقدسة الملائكة.

2- ميمر في الرتبة الكنسية:

    يقسم ميمر الرتبة الكنسية إلى خمسة فصول هي:

    الفصل الأول: في العماد المقدس.

    الفصل الثاني: في الافخارستيا والنافور المقدس والليتورجيا.

    الفصل الثالث: في الميرون المقدس.

    الفصل الرابع: في الكهنوت بشكل عام وفي الأساقفة والكهنة والشمامسة بشكل خاص.

    الفصل الخامس: في الرهبان.

معضلة الكتاب:

    إن هذا الكتاب كأغلبية كتب يوحنا الداريّ غير مطبوع، وهو مخطوط سرياني قديم فيه شرح لكتاب الرتبة السماوية والكنيسة المنسوب لديونيسيوس الأريوباجي. ويذكر ذلك المؤلف نفسه في مطلع كتابه المذكور. يبقى أن ديونيسيوس هذا ليس هو فعلاً الأريوباجي الذي عاصر القديس بولس انما هو راهب فيلسوف صنّف كتابه هذا باليونانية في بلاد الشام أو فلسطين بعد سنة 482.

    لم تكن معضلة يوحنا الداري البحث عن صحة نسبة الكتاب إلى الأريوباجي وهو حتى لم يذكر عبارة الأريوباجي بل قال: "إنما الكتاب ظل ّمعروفاً بكتاب "ديونيسيوس الأريوباجي" إلى أن دعي بالكتاب المنحول، في منتصف القرن التاسع عشر.

الفكرة اللاهوتية:

    اقتصر هم يوحنا الداري على التوافق بين الفلسفة الأفلاطونية الحديثة واللاهوت المسيحي، وذلك باعتماد الفلسفة، كوسيلة لفهم اللاهوت. ويضيف يوحنا الداري على كتاب ديونيسيوس، فصلين كمقدمة للولوج في موضوع ديونيسيوس نفسه وبغية دراسة أعمق لخصائص لاهوتية، لذلك سيقتصر بحثنا على هذين الفصلين:

الفصل الأول:

    يعالج يوحنا الداري براهين صلاح الله، وتجلّي هذا الصلاح في خلائقه، فيذكر أن صلاح الله دفعه، بملء حريته إلى خلق الكون دون أن يكون هو نفسه محتاجاً إلى وجوده. وليس هذا فقط، بل خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، مانحاً إياه نعمة المشاركة في الصلاح بواسطة النطق والمعرفة والحرية التي هي حقاً، صورة الله فينا. والله، بخلقه الكائنات، لم يسترح، بل ظهر صلاحه في تتبُّع خطواتها واهتمامه بها. ويوحنا الداري يقصد بالكائنات، الإنسان بنوع أخصّ، الذي، رغم مخالفته الوصايا الالهية، بقي موضوع اهتمام الله، فالله يغذِّيه ويربيه ويحفظه. وقمّة صلاحه تتجلى في تجسّد ابنه يسوع الذي ارسله لخلاص الإنسان على الصليب. وصلاحه هذا لا يقتصر على الإنسان بل يطال كل الموجودات وحتى غير الموجودات لأنه بفعل صلاح جديد سيوصلها إلى الوجود ويبقى الإنسان موضوع صلاح الله الأكبر لأنه يعرف، بواسطة عقله، صلاح الله العظيم ويشاركه فيه ويشكره عليه.

الفصل الثاني:

    يعرض يوحنا الداري، في هذا الفصل مقدار اشتراك كل من الموجودات في صلاح الله. لكنَّ عطيَّة المشاركة الكبرى تكمن في التأله والوجدانية والتشبِّه بالله، وهي عطية خصّ بها الله الملائكة والإنسان على السواء وبغية ابراز كيفية اشتراك كل منها، يدخل يوحنا الداري في عرض كتاب الرتبة الملائكية ومن ثم الكنسية، لمؤلفه ديونيسيوس المذكور. ولأن يوحنا الداري كان قد تفردَّ بعرض الفصلين الأولين، رأينا من المستحسن الولوج في فكر يوحنا الخاص، اختيار قراءة من الفصل الأول تحت عنوان: الصلاح الإلهي.

    قراءة من الفصل الأول من كتاب التراتبيَّة الملائكية ليوحنا الداري: "إن الله صالح بطبعه... فمن دون أن يلزمه أحد، كوَّن البرايا ليس بشعور منه بالوحدة ولا من أجل حاجة، وذلك لأنه بزمن خلقه البرية، كان بامكانه أن يوجد دون أن توجد الخليقة وكان موجوداً قبل أن توجد، وهو من أجل الصلاح فقط، صنعها. ويظهر صلاحه هذا في كونه أعطى الوجود والحياة والإحساس والنطق والمعرفة والحرية للبرايا، وأشركهم بصلاحه الذي يتجلى أيضاً في حفاظه على الكائنات وتحمِّله اياها وصبره عليها خصوصاً عندما تتصرف هذه بخلاف القوانين فهو يغذِّيها ويربيها ويحفظها وأكثر ما يشهد على أنه صنع بصلاح العالم الذي هو صنيع عظيم وعجيب، أنه لشدة عظمته غير المعقولة، تأنس وتألم من أجلنا لأنه بصلاحه أيضاً، خلصنا. يقول القديس بولس ويضيف الانجيلي "لأنه هكذا أحبَّ الله العالم بحيث أنه بذل ابنه الوحيد" ويقول بولس "من حيث كنَّا خاطئين، بفضل حبِّه العظيم الذي أحبنا وقد كنا أمواتاً بخطايانا، أحياناً مع المسيح". ويقول داوود "ما أعظم نعمك اذ تحفظ خائفيك". أما الخاصة التي بحسن يريد أن نخبر بها فهي أنك قلت ليُبنى العالم بالصلاح. وصلاحُ الله يملأ الأرض لأنه صالح ومحسن يريد أن يفيض صلاحه حتى على غير الموجودات. فما لم يكن موجوداً أوجده. وكلا من العقول التي رأى وجودها واجباً خلقها. فمنها ما يكون ويؤتى بها فقط، ومنها ما زاد ومنها ما قد أحيا. وأما ما يلزم أن يكون: فهم الناطقون الذين يعرفون بنطقهم الصلاح المعطى لهم الفائض بدوره على كل الكائنات خصوصاً الناطقة منها لأنها تعرف بواسطة هذا الصلاح، أن عندها صانعاً".

 
 
 

www.puresoftwarecode.com