مقدّمة
1.
لقد وَعَت الكنيسة المارونيّة باكرًا أنّ التعليم العالي مجالٌ
واسع للرسالة وأداةٌ من أدواتها المميّزة، لأنّه يتيح خدمة
الكنيسة والبشر من خلال العقل، فأولَته اهتمامها الكبير. ولئن
تعذّر على الباحث أن يُحدّد بدقّة أوّلَ عهد الموارنة بالتعليم العالي، لاضطراب
مدلول هذا المصطلح في القرون الماضية من جهة، ولافتقارنا من جهةٍ
أخرى إلى المعطيات التاريخيّة الدقيقة والثابتة في شأن هذا الموضوع، فإنّ
ثمّة إجماعًا على اعتبار تاريخ تأسيس المدرسة المارونيّة في روما، في
العام 1584، الانطلاقة الفعليّة لانفتاح الموارنة،
انفتاحًا ملحوظًا ومنظّمًا وهادفًا، على التعليم العالي[1].
إلاّ أنّ بذورَ اهتمام الموارنة بهذا التعليم بدأت تظهر مع
إرسال الدُفعة الأولى من الشبّان الموارنة إلى الغرب لتلقّيه، في الربع
الأخير من القرن الخامس عشر[2].
2.
ولقد جدّ الموارنة في طلب التعليم العالي وأقبلوا على تلقّيه وتحصيله في
روما أوّلاً، ولاحقًا منذ القرن التاسع عشر حتى أيّامنا،
في الجامعة الأميركيّة في بيروت التي أُنشئت على يدِ بعض
الإرساليّات البروتستانتيّة في العام 1866، وفي جامعة القدّيس يوسف في
بيروت التي أنشأتها جمعيّة الآباء اليسوعيّين في العام 1875، وفي الجامعة
اللبنانيّة التي تأسّست في العام 1951، فضلاً عن جامعات
أوروبا وأميركا. وقد سعى الموارنة بدورهم إلى نشر التعليم العالي من خلال
المؤسّسات التي أنشأوها لهذه الغاية، وفي طليعتها مدرسة عين ورقة (1789)
في كسروان
التي أطلقها البطريرك يوسف اسطفان الغوسطاويّ، خرّيج
المدرسة المارونيّة في روما. كما يعود الفضل للمطران يوسف الدبس، راعي
أبرشيّة بيروت المارونيّة، بتأسيس معهد الحكمة العالي لتدريس الحقوق
(1875-1913) بفرمان عثمانيّ،
وقد تمّ تحويله في العام 1999 إلى جامعة الحكمة. وفي
المدّة الأخيرة، وبعد صدور قانون التعليم العالي في لبنان، في العام
1961، أنشأت بعض الرهبانيّات المارونيّة مؤسّسات جديدة للتعليم العالي
وهي: جامعة الروح القدس، الكسليك (1962) التابعة للرهبانيّة اللبنانيّة
المارونيّة، وجامعة سيّدة اللويزة (1987) التابعة للرهبانيّة المارونيّة
المريميّة، والجامعة الأنطونيّة (1996) التابعة للرهبانيّة المارونيّة
الأنطونيّة، والمعهد العالي للعلوم التمريضيّة والعلاج الفيزيائيّ
(2000) وهو لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات.
تجدر الإشارة إلى أنّ مبادرة أبرشيّة بيروت المارونيّة، ومبادرة
الرهبانيّات المارونيّة المذكورة أعلاه، إلى تأسيس الجامعات، لم تكن
حدثًا مرتجلاً في تاريخها، بل تندرج في مسيرة طويلة قامت على
توارث المعرفة ونقلها وتثّمينها وتطويرها، وكانت امتدادًا لمسيرة الترقّي
الثقافيّ الذي كانت تلك المؤسّسات التربويّة من روّاده.
3.
وغنيّ عن البيان أنّ الظروف التاريخيّة للتعليم العالي بالنسبة إلى
الموارنة هي اليوم غيرها بالأمس. فإنّ تأسيس المدرسة المارونيّة يندرج في
إطار التحدّيات التي أثارتها حركة الإصلاح البروتستانتيّ، وفي
سياق التدابير التي اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكيّة في وجهها، ومنها
انعقاد المجمع التريدنتيّ (1554 – 1563) الذي أطلق حركة التجديد
الكاثوليكيّ المضادّة. وبفضل تقدّم الحركة المسكونيّة بين الكنائس، تمّ
اليوم تجاوز هذه الأوضاع التي رافقت نشوء كلّ من الجامعتين الأميريكيّة
واليسوعيّة. ولقد تبدّلت المعطيات تبدّلاً جذريًّا، وحسبنا
للتدليل على ذلك التذكير بأنّ التعليم العالي كاد يكون، في هذه المراحل
التاريخيّة المتقدّمة، محصورًا في الإكليروس المارونيّ[3]،
وقد أقبل اليوم عليه جميع اللبنانيّين، على اختلاف طوائفهم؛ وبأنّ
المدرسة المارونيّة في روما كانت المؤسّسة الوحيدة المختصّة
حصرًا بالتعليم العالي والتي شارك اللبنانيّون في مشروع إنشائها،
وقد تجاوز عدد مؤسّسات التعليم العالي العاملة اليوم في لبنان الأربعين.
4.
في ضوء ما تقدّم يعرض النصّ في الفصل الأوّل أبرز الثوابت التي يمكن
استخلاصها من مسيرة الموارنة الطويلة في مجال التعليم العالي. وبما أنّ
هذه الثوابت زاخرةٌ بالعِبَر، فلا ريب في أنّ استذكارها والتأمّل
فيها من شأنه أن يرسم أمامنا، في إطار مجمعنا، بعض آفاق المستقبل وتحدّياته،
ومن شأنه أيضًا أن يساعدنا في تبنّي الخيارات التي تحقّق خير كنيستنا
ووطننا بجميع أبنائه. ويعرض النصّ في الفصل الثاني واقع
التعليم العالي في لبنان حاضرًا، كما يبدو من خلال
تجربة الجامعة اللبنانيّة والجامعات الخاصّة عامّةً، بالإضافة إلى
تجربة الجامعات المارونيّة المذكورة أعلاه. وفي الفصل الثالث والأخير
يعرض النصّ موقف الكنيسة المارونيّة ورسالتها تجاه هذا التعليم مع ما
يستتبعُ ذلك من اقتراحات وتوصيات من شأنها أن تُسهم في تعزيز هذا التعليم
ونموّ رسالة الكنيسة.
الفصل الأوّل:
الثوابت التاريخيّة والعِبَر من تجربة الموارنة في التعليم العالي
أوّلاً:
الثوابت التاريخيّة التي يمكن استخلاصها
من مراجعة تجربة مدرستَي روما وعين ورقة
1. إقبال الموارنة على طلب التعليم العالي
5.
إنّ مَن يطّلع على تاريخ المدرسة المارونيّة في روما، لا يسعه إلاّ أن يُقدّر
وعي البطاركة الموارنة لحاجة كنيستهم الملحّة إلى تنشئة رجال الإكليروس
فيها تنشئة علميّة رصينة ووافية، وأن يقدّر أيضًا بذلهم المساعي
الحثيثة والجهود الدؤوبة لأجل تأمينها في أفضل الظروف المؤاتية. وتشهد
على هذين الوعي والسعي تقارير الموفَدين الذين تولّوا التفاوض
باسمهم، بغيةَ إنشاء المدرسة، مع المسؤولين في الدوائر الرومانيّة
المعنيّة، ومراسلات البطاركة في هذا الخصوص. وخير دليلٍ على أنّ اهتمام
الموارنة بالتعليم العالي لم يكن عابرًا أو ظرفيًّا، بل
مركّزًا ومتواصلاً، هي المهمّة الطويلة والشاقّة التي
تولاّها المطران الياس الحويّك، قبل أن يصبح بطريركًا، للعمل على
إعادة فتح المدرسة المارونيّة بعد إقفالها عام 1808 إثر احتلال الجيوش
الفرنسيّة مدينة روما، فاقتضت منه بذل جهودٍ مضنية والقيام بجولةٍ تنقّل
في المدن الإيطاليّة ثمّ الفرنسيّة وصولاً إلى الآستانة، لجمع
التبرّعات وتأمين التمويل الضروريّ.
6.
ولا بدّ أيضًا من تقدير التضحيات الجسديّة والمعنويّة الجسيمة
التي ارتضاها تلامذة المدرسة المارونيّة في روما، في سبيل تحصيل العلم.
وتؤكِّد ذلك الرسالة التي وجّهها إليهم البطريرك اسطفان الدويهي
وهو يقول لهم:
"تعرفون أنّكم تغرّبتم عن الأوطان وتركتم الأهل رغبةً في تحصيل
العلوم الإلهيّة، وتحمّلتم لهذه البغية مشقّةَ الأسفار ومرارة الاغتراب،]...[.
فإذا كنتم منذ نعومة أظفاركم فضّلتم اكتساب العلوم على الأهل والآباء،
وجب عليكم أن تبذلوا نفوسكم في تحصيلها وتسهروا هجعات الليالي بمسامرتها
]...[.
ونحن نعلم أنّ الطريق لا تخلو من مشقّة وشقاء...".
7.
وإضافةً إلى وعي المسؤولين الكنسيّين ضرورة التعليم العالي وسعيهم
لتأمينه، وقبول التلامذة أن يتكبّدوا عناء تحصيله، نتبيّن أنّ
الموارنة أقبلوا بأعدادٍ ملحوظة على طلب هذا التعليم[4].
قد تبدو هذه الأعداد ضئيلةً بالنسبة إلى
الأعداد في أيّامنا، ولكنّها تكتسب دلالتها الكاملة وتعبيرها
الأكيد عن اهتمام الموارنة البالغ بالتعليم العالي، إذا وضعناها في
إطارها التاريخيّ الصحيح. وهذا يدعو إلى الأخذ في الاعتبار
المعطيات الديموغرافيّة في أيّام المدرستَين، وطاقتهما على
استيعاب عددٍ محدودٍ من الطّلبة الذين كان يتعيّن عليهما أن تؤمّن لهم
متطلّبات الدراسة والإقامة والإعالة، بصورةٍ مجّانيّة، طوال
المدّة التي تستغرقها تنشئتهم، إضافةً إلى
ضرورة تأمين نفقات السفر للتلامذة الذين كانوا يقصدون
روما. فيتبيّن لنا في ضوء ذلك كلّه أنّ أعداد خرّيجي هاتَين المدرستَين
تدلّ بوضوحٍ على أنّ الموارنة أقبلوا على الالتحاق بهما بأعدادٍ
تسترعي الانتباه.
ويضاعف من دلالة هذه الأعداد وقيمتها الأثر الكبير الذي تركه هؤلاء
الخرّيجون، في لبنان والشرق، على صعيد الدّين والأدب والفكر والسياسة
والثقافة، ودورهم الرائد والحاسم في النهضة العربيّة.
2. إهتمام الموارنة باللغة العربيّة واللغات
الأجنبيّة
8.
أدرك الموارنة، منذ تجربة المدرسة المارونيّة في روما، أهميّة اللغات
أداةً للتواصل والتفاهم والحوار.
وتميّزت هذه التجربة باهتمام تلاميذ تلك المدرسة باللغات الأجنبيّة وإتقانهم
هذه اللغات، ونقلهم منها وإليها تعريبًا وترجمةً. فأثّر ذلك كلّه في
تعرّف الغرب بحضارات الشرق وتراثه، وانفتاح الشرق على حضارات الغرب
وثقافته، ودخوله في عصر الحداثة، وإحياء اللغة العربيّة وآدابها، وتحقيق
النهضة.
9.
واللافت أنّ الموارنة أدركوا أهميّة إتقان اللغات الأجنبيّة، وفي طليعتها
اللاتينيّة، ليفيدوا من علوم الغرب، ويقيموا معه اتّصالاً شخصيًّا
وعلاقاتٍ مباشرة تُغني عن الوسيط وتُزيل الالتباسات وسوء التفاهم.
وأدركوا في الوقت نفسه أهميّة إتقان اللغات الشرقيّة، وفي طليعتها
السريانيّة والعربيّة، ليضطلعوا اضطلاعًا فعّالاً بأعباء
الرسالة المسيحيّة التي دُعوا إلى تأديتها، ولينشروا في أوطانهم
وخارجها عقائد الإيمان ومكتسبات المعارف والعلوم الحديثة[5].
فالانفتاح على الغرب، عن طريق إتقان لغاته، لا يسوّغه في نظرهم
إلاّ ارتباطهم الأصيل بالشرق ورغبتهم في خدمة أبنائه. وقد يكون تلامذة
المدرسة المارونيّة في روما خيرَ مَن وعّى المعنى الحقيقيّ والعميق
للثنائيّة اللغويّة السليمة التي لا تكون مصدر غنىً إلاّ إذا وجّهت
توجيهًا مقصودًا نحو إغناء اللغة الوطنيّة وتطويرها[6].
ويندرج في إطار هذا الوعي حِرصُ جمعيّة الآباء اليسوعيّين الذين تولّوا
إدارة المدرسة المارونيّة على مدى 189 سنةً، منذ تأسيسها حتى توقيف
رهبانيّتهم سنة 1773، على أن تُعيِّن فيها رهبانًا موارنة
من الجمعيّة "ضنًّا منهم على إحياء الحياة الطقسيّة الأصيلة،
وتعليم السريانيّة والعربيّة، وتسهيلاً للصلاة الروحيّة، في لغة
الطلاّب الأمّ"[7].
10.
ولنا في المدرسة الإعداديّة التي أنشأها البطريرك
يوحنّا مخلوف سنة 1624 في سيّدة حوقا القديمة، خير دليلٍ على اهتمام
الموارنة باللغات في بلادهم، ووعيهم دورَها في تنشئة النُخب
المثقّفة. فقد كانت هذه المدرسة تعلّم ستّ لغات هي:
السريانيّة والعربيّة واليونانيّة واللاتينيّة والتركيّة والفارسيّة،
وتُعِدُّ بذلك الطلاّب المتفوّقين لإرسالهم إلى المدرسة
المارونيّة في روما. وتجلّى هذا الاهتمام باللغات في مدرسة عين ورقة أيضًا.
فالبطريرك يوسف حبيش، خرّيج مدرسة روما، أضاف اللغتَين اللاتينيّة
والإيطاليّة إلى اللغتَين السريانيّة والعربيّة بعد أن تبيّن له أنّهما
أصبحتا عاجزتَين عن تلبية الحاجات المتولّدة من التحوّلات الاقتصاديّة
والسياسيّة في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، وسوف يضيف القيّمون على
المدرسة تدريس اللغة الفرنسيّة، في المرحلة التي أعقبت أحداث العام 1860،
لتمكين تلامذتها من مواكبة التحوّلات الجديدة[8].
11.
ولا ريبَ في أنّ الموارنة، بدفاعهم عن غنى
التعدّد اللغويّ، كانوا أوفياء لما تميّز به، منذ أقدم العهود،
سكّان المناطق التي يتألّف منها اليوم لبنان. ففي حقبات كثيرة من تاريخ
هذا الوطن شاعت فيه ظاهرةُ التعدّد اللغويّ، فتجاورت فيه اللغةُ الساميّة
المهيمنة واللغات الساميّة الأخرى المتداوَلَة، مع لغاتٍ أخرى غير ساميّة.
فبعد المرحلة التأسيسيّة التي طغت فيها اللغة الفينيقيّة، تعاصرت على هذه
الأرض لغتان هما الفينيقيّة والآراميّة، وفي المدن الساحليّة ثلاث لغات
هي الفينيقيّة والآراميّة واليونانيّة. ثمّ استعمل السكّان، في العهد
الرومانيّ، الآراميّة واليونانيّة واللاتينيّة. ومع الفتح العربيّ، عرف
لبنان وجهًا جديدًا من الثنائيّة اللغويّة الساميّة، تمثّل
في اللغتَين العربيّة والآراميّة وامتدّ حتى القرن الثامن عشر، الذي
تقلّص فيه تداول اللغة الآراميّة، ولكنّه شهد مبادلات تجاريّة مع إيطاليا
أدّت إلى دخول اللغة الإيطاليّة لبنان، وشهد أيضًا قيام عددٍ من
المدارس التي تولّت تعليم اللغتَين الإيطاليّة والفرنسيّة إلى جانب
العربيّة. وقُدِّر للفرنسيّة أن تحلّ، منذ أحداث 1840-1860، محلّ
الإيطاليّة بصورةٍ كاملة، بفضل انتشار المؤسّسات التعليميّة التي أنشأتها
الإرساليّات الفرنسيّة. ولا حاجة بنا إلى الاستفاضة في الحديث عن ظاهرة
التعدّد اللغويّ السائدة حاليًّا في لبنان، وقد بدأت طلائعها في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع البعثات البروتستانتيّة التي أدخلت
إليه اللغة الإنكليزيّة.
فيبدو جليًّا أنّ التعدّد اللغويّ هو من سمات لبنان العريقة
والراسخة والدائمة، وهو من خصائصه المميِّزة.
12.
وتُبيّن دراسة تاريخ لبنان على الصعيد اللغويّ
أنّ التعدّد اللغويّ الذي قام فيه منذ أقدم العهود حتى اليوم، هو
على نوعَين: تعدّد لغويّ ذو طابع نفعيّ، ناجمٌ عن ضرورات التبادل التجاريّ
ومقتضيات العلاقات السياسيّة الدوليّة، ولكنّه لا يخلو من انعكاساتٍ
ثقافيّة، وتعدّد لغويّ يغلب عليه الطابع الثقافيّ. ويمكن الجزم بأنّ هذا
التعدّد اللغويّ، أيًّا تكن أسبابه ـ وغالبًا ما
يكون مردّها إلى دوافع سياسيّة أو اقتصاديّة أو ديموغرافيّة أو دينيّة،
أو إلى خليطٍ منها – هو تقليدٌ يعود إلى نيّفٍ وثلاثة آلاف سنة،
وهو من الثوابت في تاريخ لبنان القديم والمعاصر، وقد حقّق انفتاح لبنان
على العالم الخارجيّ وتواصله معه، وكانت له دومًا آثارٌ ثقافيّة
متبادلة ومتفاعلة، فيصحّ اعتباره عنصرًا أساسيًّا في
مكوّنات هويّة هذا البلد الوطنيّة، وسمةً مميّزة في أبعاد رسالته
الحضاريّة والإنسانيّة.
3. تحصيل العلم بهدف توظيفه في خدمة الجماعة
والمجتمع
13.
إنّ براءة تأسيس المدرسة المارونيّة في روما وثيقةٌ مرجعيّةٌ
بالغة الأهميّة، لأنّها ترسم بوضوحٍ الغاية من إنشاء هذه المدرسة، وتحدّد
بدقّةٍ المسؤوليّات التي تعيّن على تلامذتها الاضطلاع بها بعد
تخرّجهم. ويَحْسُن بمجمعنا البطريركيّ أن يستوحي من
تلك البراءة بعض مبادئ الشرعة التربويّة التي سيدعو إلى إعلانها
والتي ستركّز على خدمة الإنسان المخلوق على صورة الله. فالغاية
الأُولى والأساسيّة من إنشاء المدرسة المارونيّة هي،
في نظر البابا غريغوريوس الثالث عشر، "تقوية الإيمان عند الموارنة،
وتثقيفهم بالعلوم الصالحة، وتربيتهم على التعليم السليم والفضائل
المسيحيّة الكاملة، ليكونوا رسلاً ينشرون عبير التقوى وتعاليم
الكنيسة المقدّسة على أرز لبنان، وعلى طائفتهم، وفي بلدانهم". وفي موضعٍ
آخر تتابع البراءة: "ولنا الأمل الوطيد أنّ تلاميذ هذه المدرسة، على مدى
الأيّام المستقبلة، بعد امتلائهم من عبير التقوى والديانة الحقيقيّة ]...[
يوزّعونه على أرز لبنان وعلى طائفتهم، عاملين في خدمة الربّ، ومجدّدين في
بلدانهم الإيمان الضعيف ومُساندينه. وهكذا يتحوّل عملٌ مادّيٌّ لا
يفيد إلاّ القليل من زائري روما، إلى عملٍ روحيّ يكون للطائفة كلّها
ولخلاصها". ويظهر جليًا من هذه البراءة التشديد بقوّة على عودة التلاميذ
بعد اكتمال تنشئتهم إلى البلدان التي انطلقوا منها، من أجل
الخدمة. وبهذا تأكيد الرابط العضويّ بين اغتناء التلامذة الفكريّ
والروحيّ، على المستوى الفرديّ، عن طريق التعلّم، وبين توظيف ما اكتسبوه
في خدمة الجماعة، أيّ ربط التربية بمفهوم الرسالة. وتدعو البراءة
التأسيسيّة إلى روح الانفتاح التي تنادي بتعزيزها. فهي لا تقصر
الفائدة المرجوّة من إنشاء المدرسة على الموارنة وحدهم، أو حتى على لبنان،
بل دعت أيضًا الى تعميم هذه الفائدة، بنشرها "في بلدانهم"، أيّ سائر
البلدان التي كان تلامذتها يفِدون منها، أو يعودون إليها، وهي،
بالإضافة إلى لبنان، سورية وفلسطين وقبرص ومالطا. ونجد صدىً أمينًا
لهذه التوجّهات في رسالتَين وجّههما البطريرك اسطفان الدويهي إلى طلاّب
مدرسة روما. وتستوقفنا فيهما نفحتهما الإنجيليّة البارزة، وما تتضمّنه من
مفاهيم تربويّة تبدو على درجةٍ كبيرةٍ من الحداثة في ربطها بين اكتساب
العلم ونفع الآخرين به: "فنرغب إليكم أيّها الأبناء الأعزّاء أن لا تتوانَوا
في النعمة التي أُعطِيتموها ولا تستخفّوا بما دُعيتم
إليه، لأنّ الربّ انتخبكم من بين ألوف، وكفاكم كلّ الحاجات، لتزيّنوا
نفوسكم بالفضائل والصالحات، أملاً بأن تفيدوا قريبكم بعلمكم...".
ويذكّرهم في رسالةٍ أخرى بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقهم: "لم نرسلكم إلى
بلدان بعيدة برًّا وبحرًا إلاّ لتتعلّموا العلوم الإلهيّة
وترجعوا فتفيدوا غيركم وتتاجروا بالوزنات لأنّ الشرق مفتقرٌ إلى
من يعلّمهم ويهذّبهم..."[9].
ثانيًا: إسهام
الموارنة في التعليم العالي قبل صدور قانون تنظيم هذا التعليم (1961)
وبعده
14.
بعد أن استعرض النصّ بعض الثوابت الزاخرة بالعِِبَر من مسيرة الموارنة في
التعليم العالي في ضوء تجربة المدرسة المارونية بروما ومدرسة عين ورقة،
لا بدّ من دعوة المسؤولين عن مؤسّسات التعليم العالي المعنيّة إلى كتابة
نصٍّ يعرض في مرحلة أولى إسهام جامعة القدّيس يوسف في مسيرة التعليم
العالي في لبنان عامّة، وفي إعداد الهيئات الإداريّة والتعليميّة التي
ستتولّى شؤون مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة خاصّة، وفي مرحلةٍ ثانية
إسهام كلّ من أبرشيّة بيروت المارونيّة وبعض الرهبانيّات المارونيّة في
مجال هذا التعليم قبل أن تنشئ رسميًّا المؤسسات الجامعيّة المعروفة وفق
قانون تنظيم التعليم العالي في لبنان الصادر في العام 1961، على أن يعرض
النصّ بإيجاز، في مرحلة ثالثة، الخصوصيّة التي تتميّز بها كلٌّ من تلك
الجامعات.
الفصل الثاني : الواقع الراهن، المعطيات
والتحدّيات
15.
أخذ المجمع علمًا بأنّه قبل الأحداث التي اندلعت في العام 1975 في
لبنان، كان عدد المؤسّسات التي تؤمّن التعليم العالي فيه، محدودًا؛
وبأنّ سنوات الحرب قد عرفت، لأسباب ودوافع مختلفة، تكاثرًا
ملحوظًا في عدد هذه المؤسّسات، الذي بات يومها يناهز العشرين؛
وبأنّ التعليم العالي
قد شهد، في النصف الثاني من عقد التسعينيّات، وبالتحديد في
الأعوام 1996، 1999، 2000، و2001، حركة توسّع ملحوظةً في عدد جامعاته
وكليّاته ومعاهده، وأحجامها، واختصاصاتها، وشهاداتها، وطلاّبها،
وخرّيجيها، تجاوزت التوسّع الذي عرفه هذا التعليم
طوال قرنٍ من الزمن، بعد أن رخّصت الحكومة، في حقبة زمنيّة
محدّدة (1996 ـ 2001) لثلاثة وعشرين كليّةً أو معهدًا
جامعيًّا أو جامعة، وحوّلت كليّات إلى جامعات، وأجازت إنشاءَ
عشرات الكليّات والمعاهد الجديدة داخل الجامعات القائمة قبل هذا التاريخ،
فتضاعف عدد المؤسّسات العاملة في لبنان من 22 إلى 41، وارتفع عدد الطلاّب
من حوالي ثمانين ألفًا في العام (1995 ـ 1996) إلى ما
يناهز مئةً وثلاثين ألف طالبٍ في العام (2002 ـ 2003)، وتنوّعت الاختصاصات
الجامعيّة فقاربت المئة وخمسين اختصاصًا؛ وبأنّ في لبنان
حاليًّا: جامعة رسميّة واحدة، 17 جامعة خاصّة، 18 معهدًا
جامعيًّا أو كليّة جامعيّة، 5 معاهد تكنولوجيّة جامعيّة.
16.
فرأى المجمعُ أنّ قيام أربعين مؤسّسة ونيّف للتعليم العالي في
لبنان ليس في حدّ ذاته جوهر المشكلة، فقد تكون هذه الظاهرة دليل عافية،
ويمكنها أنْ تُعتبر ثروة. ولكنّ المشكلة تكمن بصورةٍ أساسيّة، من جهةٍ،
في الأوضاع الصعبة التي تعاني منها الجامعة اللبنانيّة، وتكمن من
جهةٍ أخرى في
المراسيم الصادرة عن الحكومة، سواء لتنظيم قطاع
التعليم العالي الخاصّ أو للترخيص لمؤسّساته، وتكمن أخيرًا
في ممارسات بعض هذه المؤسّسات.
أوّلاً:
المشاكل التي تعاني منها الجامعة اللبنانيّة[10]
1. الأبنية والتجهيزات
17.
أخذ المجمع علمًا:
-
بأنّ
الجامعة اللبنانيّة
تتألّف من 13 كليّة و4 معاهد موزّعة جغرافيًّا على 40
فرعًا و3 شُعب، إضافةً إلى 11 مركز دراسات وأبحاث وتعليم
مرتبطة بعشر كليّات. وتتوزّع هذه الكليّات والمعاهد
والفروع مع الإدارات على 94 مبنىً تقريبًا.
-
وبأنّه لا يتوافر
في الأغلبيّة الساحقة من هذه الأبنية الحدّ الأدنى من شروط
البناء الجامعيّ. فباستثناء عدد قليل جدًا منها،
إنّ أغلبيّتها الساحقة هي أبنية سكنيّة غير معدّة
للتعليم الجامعيّ[11].
وبأنّ
معظم الكليّات والمعاهد لا يملك الأجهزة والمعدّات والمكتبات
والمختبرات المناسبة.
ولا بدّ،
مع ذلك، من التنويه بإنجاز المجمّع الجامعيّ الجديد في
الحدث ـ الشويفات، وهو مجمّعٌ عصريّ يستوفي شروط النوعيّة
من حيث البناء والمساحات الخضر، والتجهيزات المتطوّرة، وغرف نوم الطلاّب.
إلاّ أنّ الفروع الأخرى ما زالت تنتظر بناء مجمّعات خاصّة
بها في مختلف مناطق لبنان، ويخشى أن يطول انتظارها.
2. الإداريّون وأوضاعهم
18.
وأخذ المجمع علمًا بأنّه لا يوجد في الجامعة اللبنانيّة
نظام خاصّ لاختيار العاملين الإداريّين[12]
وتعيينهم، وبأنّ تعيينهم يخضع أحيانًا لتدخّلات سياسيّة
وطائفيّة ومناطقيّة، وبأنّ نظام الرواتب المعمول به منخفض
جدًّا، إضافةً إلى الخلل في التقديمات الصحيّة والاجتماعيّة،
والضعف في مجال المكننة.
3. الهيئة التعليميّة وأوضاعها
19.
وأخذ المجمع علمًا بأنّ أبرز المشاكل التي تعاني منها الهيئة
التعليميّة[13]
هي:
-
غياب
الأمن الوظيفيّ بالنسبة
إلى عدم تفريغ مَن يستحقّ من المتعاقدين بالساعة،
وعدم فتح الملاك للمتفرّغين المستوفين الشروط
القانونيّة والأكاديميّة.
وثمّة خلل في قانون التفرّغ وفي آليّة تطبيقه، الأمر
الذي يستدعي إصدار قانونٍ جديد يأخذ في الاعتبار ضرورة تأمين مستلزمات
التفرّغ وتمكين الأستاذ الجامعيّ من الاتّصال بسوق العمل.
-
غياب الخطط
لتحضير أفواج جديدة في الاختصاصات التي تحتاج إليها الجامعة،
علمًا بأنّه سيحال على التقاعد حتى العام 2020 ما يزيد عن 1277 أستاذًا،
ومعدّل عمر أفراد الهيئة التعليميّة 55 عامًا،
-
غياب
تقويم الأداء
والتطوير المهنيّ: لا أنظمة خاصّة لتقويم
الأداء الأكاديميّ، ولا برامج خاصّة لتجديد المعارف لدى
الهيئة التعليميّة،
-
شكوى الأساتذة
على صعيد الرواتب والتقديمات: هناك حقوق منصوص عليها في القوانين لا
يحصل عليها الأساتذة
(المادّة 14 من القانون 717)، ولا إعطاء لغلاء المعيشة منذ 1996 (زيادة
30٪)، وثمّة خلل في تطبيق نظام الأبحاث، ومصاعب في صندوق تعاضد الهيئة
التعليميّة. وهناك ظلم واسع في نظام التقاعد على عدّة مستويات.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اتّفاقيّات
تعاون عديدة وُقِّعت مع جامعات أوروبيّة سمحت بإنشاء
Ecole doctorale لطلاّب الدراسات العليا والدكتوراه، يخضعون
بموجبها لإشرافٍ مشترك بين الأساتذة اللبنانيّين والأوروبيّين. هذه
الخطوة تسمح للطلاّب اللبنانيّين بمتابعة تحصيلهم العالي من دون الاضطرار
إلى الهجرة، وتساهم في إنشاء المختبرات وتشجيع البحث العلميّ وتبادل
الخبرات.
4. ضعف موازنة الجامعة اللبنانيّة
20.
وأخذ المجمعُ علمًا بالخلل في آليّة
وضع الموازنة، إذ تفرضها السلطة التنفيذيّة بما يناقض أنظمة الجامعة.
تجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة تخفّض موازنة الجامعة ( 1.6٪ فقط من
الموازنة العامّة) رغم زيادة عدد
الناجحين في البكالوريا (عددهم في السنوات الأربع الأخيرة أكثر من
90 ألف تلميذ). وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ 96.3٪ من موازنة
الجامعة تُصرَف على الأجور والتعويضات.
5. الطلاّب
21.
وأخذ المجمع علمًا بأنّه، بالإضافة إلى ضعف القدرة الاستيعابيّة
في الأبنية الجامعيّة، لا اهتمام بكلّ جوانب إعداد الطلاّب اجتماعيًّا
ونفسيًّا ومهنيًّا وثقافيًّا. فلا غرف سكن لهم، ولا مطاعم، ولا
توجيه وإرشاد، ولا اهتمام بمشاكل التسرّب أو التخرّج، ولا رعاية
لتنظيمهم النقابيّ، ولا مِنَح وطنيّة، ولا مِنَح تفوّق. كما لا
يُعْتبَر الطلاّب شركاء في تقويم أساليب التدريس والمناهج
وتجديدها، ولا اشتراك لهم في إطار البنى القائمة لرسم السياسات
الأكاديميّة أو في إدارة الجامعة. وبالمقابل ثمّة محاولات لهيمنة الأجهزة
المتعدّدة على حركتهم.
6. التعليم والبحث العلميّ
22.
وأخذ المجمع علمًا بالتباعد في العلاقة بين محتوى التعليم وعالم العمل،
وبغياب مشاركة عالم العمل في تقويم التعليم، وبغلبة
للدراسات النظريّة على حساب التدريب في موقع العمل؛
ورغم الجهود التي بذلتها لجنة البحث العلميّ في رئاسة الجامعة من أجل
تنسيق مشاريع الأبحاث ووضع آليّات لصياغتها وإقرارها، ما زالت السياسة
البحثيّة في الجامعة بحاجة إلى رؤيا أشمل وأعمق، وإلى التخلّي عن
المركزيّة المفرطة تنشيطًا لمراكز الأبحاث وللأقسام الأكاديميّة
والمبادرات الفرديّة والفريقيّة في الكليّات والمعاهد على اختلافها.
ثانيًا:
المشاكل التي يعانيها التعليم العالي الخاصّ في لبنان[14]
23.
واعتبر المجمع أنّ التعليم العالي الخاصّ عالمٌ واسع، وأنّ أبعاده
لكثيرة. وعلى الرغم من أهميّة البُعد التربويّ فيه، من برامج
ومناهج وأساتذة وطرائق تدريس وأنماط تعليم وأبحاث علميّة، وعلى
الرغم من خطورة شأن الجوانب الماليّة فيه عامّةً، وخاصّةً في الظروف
الاقتصاديّة الراهنة، فسيقتصر التركيز هنا على النواحي القانونيّة. ومردّ
ذلك إلى أنّ علاقة الدولة اللبنانيّة بمؤسّسات التعليم العالي الخاصّ
تنحصر عمليًّا في هذه النواحي، وتكاد تختزلها. ومردّه أيضًا إلى أنّ قطاع
التعليم العالي الخاصّ في لبنان يتخبّط حاليًّا في فوضى عارمة، باتت
تهدّد بانعكاساتٍ سلبيّة، بل بالغة الخطورة، على حريّة التعليم العالي،
وجودته، وديمومته، ومستقبله ومستوى الشهادات.
1.
مسؤوليّة الدولة على صعيد التشريع
أ) تأخّر صدور التشريعات
24.
وإنّ المجمع، بعد أن تبيّن له أنّ
السِمةَ المميِّزة لعلاقات الدولة اللبنانيّة
بالتعليم العالي فيها،
ترتبط إلى حدٍّ بعيد بدورِها المحدود في نشوئه وتطوّره وتنظيمه؛
وأنّ
مؤسّسات التعليم العالي الخاصّ، التي يعود
تأسيس بعضها إلى القرن التاسع عشر، مارست رسالتها التربويّة في استقلالٍ
شبه تامّ عن السلطات الرسميّة؛ وأنّ
حريّة التعليم التي كرّسها الدستور بقيت في الواقع،
وعلى مدى عقود، بدون ضوابط تنظّمها، فالنصّ الأوّل، بل النصّ
الوحيد إلى عهدٍ قريب، الذي يهدف إلى تنظيم التعليم العالي الخاصّ في
لبنان هو القانون الصادر بتاريخ 26/12/1961، أيّ بعد انقضاء خمس وتسعين
سنةً على تأسيس الجامعة الأميركيّة في بيروت، وأمّا المرسوم
القاضي بتحديد الشروط والمواصفات والمعايير المطلوبة للترخيص بإنشاء
مؤسّسةٍ خاصّة للتعليم العالي، أو باستحداث كليّةٍ أو معهدٍ في مؤسّسةٍ
قائمة، فلم يصدر في الواقع إلاّ بعد انقضاء خمسٍ وثلاثين سنةً على
صدور هذا القانون[15]؛
اعتبر أنّ الدولة اللبنانيّة
تأخّرت كثيرًا في إصدار التشريعات التي تنظِّم قطاع التعليم
العالي الخاصّ.
ب) نواقص في صياغة التشريعات
25.
وإنّ المجمع، بعد أن تبيّن له أنّ
هذا المرسوم يخالف في عددٍ من أحكامه أحكامَ قانون تنظيم
التعليم العالي[16]؛
وأنّه لم يلحظ ضرورة منح
الترخيص بإنشاء مؤسّسةٍ جديدة للتعليم العالي، أو باستحداث كليّةٍ أو
معهدٍ أو اختصاصٍ جديد في مؤسّسةٍ مرخّصة قانونًا، على مرحلتَين: مرحلة
أولى يكون فيها الترخيص مبدئيًّا وفي صيغة الموافقة الأوّليّة المشروطة،
ومرحلة ثانية يصبح فيها الترخيص نهائيًّا ونافذًا[17]؛
وأنّه
يشكو من خللٍ في صياغته، على صعيد صلاحيّات اللجنة
الفنيّة، فنصوصه النافذة حاليًّا لا تمكّن اللجنة من
القيام بالمهام الموكولة إليها، على الوجه المطلوب،
لأنّ هذه اللجنة ذات صفة استشاريّة بحتة، ولا تتمتّع بصلاحيّاتٍ تقريريّة[18]؛
اعتبر أنّ نواقص جوهريّة تشوب
صياغة هذا المرسوم التطبيقيّ.
ج) خلل في تطبيق التشريعات
26.
وإنّ المجمع، بعد أن تبيّن له أنّ معظم مراسيم
الترخيص التي صدرت في السنوات الأخيرة يفتقر إلى الدقّة والوضوح،
لأنّه يخلو من كلّ ما من شأنه تحديد الاختصاصات التي رُخّص للمؤسّسة
بتدريسها، والشهادات التي رُخّص لها بمنحها، وتاريخ بدء سريان الإذن
المعطى لها بمباشرة التدريس...[19]
الخ؛
اعتبر
أنّ مرسوم الشروط والمواصفات والمعايير يشكو
خللاً في تطبيقه،
واعتبر أنّه قد لا يجانب الصواب مَن يدّعي أنّ مجلس التعليم
العالي، في غياب المعايير الواضحة والآليّات الدقيقة للترخيص، غالبًا ما
دقّق في عدد المستندات التي أرفقها طالبو الترخيص بملفّاتهم أكثر من
تدقيقه في مضمونها، وأنّ المراسيم التي أصدرها مجلس الوزراء هي في معظمها
إلى الاستنساب أقرب منها إلى الموضوعيّة، وإلى الارتجال أقرب منها إلى
التخطيط، وأنّها قد راعت التوازنات الطائفيّة أكثر ممّا راعت ضرورات
الإنماء المتوازن، واستلهمت الاعتبارات السياسيّة أكثر ممّا استلهمت
مقتضيات السياسة التربويّة.
2.
مسؤوليّة المؤسّسات
أ) المؤسّسات غير المرخّصة قانونًا
27.
وتبيّن للمجمع أنّ في لبنان حاليًّا عددًا لا يُستهان به من مؤسّسات
التعليم العالي الخاصّ التي تمارس عملها بصورةٍ غير شرعيّة، فتستقبل
الطلاّب، وتسدي التعليم، وتمنح الشهادات، من غير أنْ تكون قد استحصلت على
الإذن الرسميّ بذلك، وأنّها لا تتورّع عن الإعلان عن نفسها
ونشاطاتها، في وسائل الإعلام المختلفة، وتخالف بالتالي مخالفةً
صريحةً أحكام قانون تنظيم التعليم العالي[20].
ب) المخالفات التي ترتكبها المؤسّسات
28.
وتبيّن للمجمع أنّ بعض هذه المؤسّسات يعمد إلى
انتحال تسميات غير صحيحة أو غير دقيقة، ومختلفة عن
التسمية الرسميّة كما وردت في مرسوم الترخيص، ويقوم بتدريس
اختصاصات غير مرخّص بها والترويج لها، وتضليل الرأي العامّ عن طريق
إيهامه بأنّها تحظى بالتغطية القانونيّة، ويُقدم على
إنشاء فروع جغرافيّة من دون الحصول على ترخيص،
وعلى فتح أقسام للدراسات العليا قبل توفير المستلزمات الأكاديميّة وقبل
استيفاء الشروط القانونيّة، والإعلان عن منح شهادات ماجستير ودكتوراه غير
مرخّص لها بها، وعلى قبول طلاّب لا يستوفون شروط الانتساب إلى
التعليم العالي، لجهة حيازة الثانويّة العامّة اللبنانيّة أو ما
يعادلها رسميًّا، وأنّه يعطي إفادات كاذبة، ويمنح شهادات
جامعيّة من جامعات قائمة خارج لبنان، ولا يلتزم جزئيًّا أو كليًّا
المعطيات التي تَضمّنها الملفّ الذي نالت المؤسّسة الترخيص على
أساسه.
29.
في ضوء ذلك يتساءل
المجمع بقلقٍ مع الكثيرين ممّن يحرصون على استقامة أوضاع التعليم العالي
في لبنان، عن انعكاسات هذه المخالفات الفاضحة على هيبة القانون، وسمعة
التعليم العالي الخاصّ، وحقوق الطلبة الذين يُغرّر بهم، ومصلحة
المجتمع ويتساءل أيضًا عن مسوّغات سكوت وزارة التربية والتعليم العالي عن
هذه المخالفات[21].
ج) تغليب المنطق التجاريّ الاستثماريّ
30.
وإنّ المجمع، بعد أن تبيّن له أنّ
حقّ تولّي شؤون مؤسّسات التعليم العالي
الخاصّة كان، إلى عهدٍ قريب، وقفًا على الهيئات أو الجمعيّات
المجازة على وجهٍ قانونيّ والتي لا تتوخّى الربvح، وأنّ السلطات
المعنيّة أجازت مؤخّرًا[22]
للشركات المساهِمة أو المُغفلة، التي بطبيعتها تتوخّى الربح من خلال
ممارستها نشاطاتٍ استثماريّة، تجاريّة أو عقاريّة أو غيرها، تقديم طلبات
لإنشاء مؤسّسات للتعليم العالي، بمجرّد أنْ تضيف إلى نظامها التأسيسي
بندًا ينصّ على أنّ من أهدافها نشر التعليم العالي،
رأى أنّ أحدَ أبرز مسبّبات الأزمة
التي يواجهها قطاعُ التعليم العالي اليوم، مردّه إلى أنّ عددًا لا بأس به
من مؤسّسات التعليم العالي التي تمّ الترخيص لها في المدّة
الأخيرة، يغلب المنطق الاستثماريّ والاعتباراتِ التجاريّة
على منطق الرسالة ومفهوم الخدمة، وينحرف بالتالي بالتعليم العالي
عن تقاليده العريقة وعن غاياته التربويّة النبيلة وأهدافه الإنسانيّة
السامية. وإنّ مَن يقرأ لوحات الإعلانات المنتشرة على الطرقات وفي
الساحات العامّة، أو يطّلع على الدعايات التي تبثّها وسائل الإعلام
المقروءة والمرئيّة والمسموعة، لا بدّ له من أنْ يلاحظ الأساليب
المستهجنة التي تعتمدها هذه المؤسّسات في الترويج.
د) عدم جواز التعميم
31.
وإنّ
المجمع، إذ يسجّل هذه المخالفات ويشجبها، يحرص على عدم التعميم،
لأنّه يعرف أنّ في لبنان مؤسّسات للتعليم العالي تحترم القوانين، وتحافظ
على الأعراف والتقاليد الجامعيّة، وتلتزم مقتضياتها، ويعرف أنّ في
لبنان مؤسّسات جامعيّة تسعى إلى الاضطلاع بمهامّ الجامعة
الأصيلة، والقيام برسالتها التربويّة في نقل المعارف ونقدها،
وتطوير البحث العلميّ، وتأدية دورها في خدمة الطلاّب، والمجتمع، بأفضل
صورةٍ ممكنة. وهو يقدّر حرص هذه المؤسّسات على تأمين
مستلزمات جودة التعليم، وضمان نوعيّته، ويرى في هذا الحرص مدعاة
اطمئنان إلى سلامة أوضاعها، وإلى مستقبل مسيرة التعليم العالي الخاصّ في
لبنان، ويشدّد المجمع على أنّ القصد من تسجيل هذه المخالفات
ليس بهدف التنكّر للخدمات الجلّى التي تسديها مؤسّساتُ التعليم
العالي الرصينة، أو للإنجازات المضيئة والواعدة التي حقّقتها، أو للجهود
الدؤوبة التي تبذلها لتطوير مناهجها وتجهيزاتها، وتحسين مستوى برامجها
وشهاداتها، بل القصد هو تعيين بعض مكامن الخلل في بنية التعليم
العالي الخاصّ، وتحديد ملامح من أوجه تقصير الدولة في تنظيمه، وتسجيل
عددٍ من المخالفات التي ترتكبها مؤسّساتُه، بهدف التنبيه من عواقب تفاقم
الفوضى، والدعوة إلى إصلاح الأوضاع.
ثالثًا:
ضعف التنسيق بين مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة
32.
يلاحظ المجمع أنّ مؤسّسات التعليم العالي التابعة للكنيسة المارونيّة،
وهي حاليًّا خمس: جامعة الروح القدس في الكسليك التابعة للرهبانيّة
اللبنانيّة المارونيّة، وجامعة سيّدة اللويزة التابعة للرهبانيّة
المارونيّة المريميّة، والجامعة الأنطونيّة التابعة للرهبانيّة
الأنطونيّة، وجامعة الحكمة التابعة لأبرشيّة بيروت المارونيّة، ومعهد
العائلة المقدّسة العالي للعلوم التمريضيّة والعلاج الفيزيائيّ التابع
لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، تقيم علاقاتٍ بعضها مع بعض، لها
أشكال مختلفة، وهي على درجات متفاوتة. وأمّا طابعها العامّ -
شأنها في ذلك شأن سائر مؤسّسات التعليم العالي في لبنان – فهو أنّها تكاد
تقتصر على علاقاتٍ ظرفيّة، وتقوم في مجالاتٍ محدودة.
33.
وإذ يقدّر المجمع الجهود المبذولة في إطار مجلس
التنسيق بين المؤسّسات الكاثوليكيّة للتعليم العالي، يرى أنّها ترسم بعض
ملامح التعاون المنشود ومجالاته، ولكنّها تبقى قاصرةً عن سكب هذا التعاون
في إطارٍ مؤسّساتي ثابت، وعن وضعه موضع التنفيذ الفعليّ، والمنتظم،
والشامل.
34.
إنّ المجمع يؤكّد على ضرورة التنسيق وأهميّة التعاون
بين مؤسّسات التعليم العالي الكاثوليكيّة، التي أبرْزَها
المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، في الوثيقة التي عنوانها بيان في
التربية المسيحيّة، عندما قال: "إنّ التنسيق الذي غدا كلّ يومٍ أشدّ
ضرورةً وفعاليّةً على صعيد الأبرشيّات والشعوب وما بين الأمم، لَيَفرِضُ
ذاته بشدّة في المجال التربويّ
]...[. ومن هذا التنسيق
المتزايد في الجهود المشترَكة على صعيد المدارس العليا، تُجنى الثمار
الغزيرة. ولتْتعاون المعاهد المختلفة في كلّ الجامعات، كلّ واحد منها في
نطاق اختصاصه. بل أكثر من ذلك، لتتّفق الجامعات كي توحّد أعمالها، وذلك
بتنظيم مؤتمراتٍ عالميّة، مقتسمةً في ما بينها قطاعات التنقيب العلميّ،
مُطْلعةً بعضها بعضًا على الاكتشافات، متبادلةً أساتذتها إلى وقت،
ناشرةً أخيرًا كلّ ما من شأنه أن يعزّز التعاون المتزايد"[23].
35.
ويذكّر المجمع بأنّ الإرشاد الرسوليّ رجاء جديد
للبنان، بعد أن أشار إلى أنّ آباء مجمع سينودس الأساقفة الخاصّ بلبنان
أخذوا علمًا بواقع تعدّد مؤسّسات التعليم العالي الكاثوليكيّة فيه،
أصدر ثلاث توصيات أساسيّة، تمّت صياغتها بإيجازٍ مكثّف، ولكنّها
جاءت بليغةً في عمق دلالتها، لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين هذه
المؤسّسات. فقد دعا أوّلاً إلى عدم إنشاء مؤسّسات جديدة بعد اليوم، بهدف
وضع حدّ لخطر تكاثرها، ثمّ دعا ثانيًا المؤسّسات القائمة إلى أن تنمّي في
ما بينها روح التشاور والتعاضد، بهدف تعزيز التنسيق والتعاون في ما
بينها، ثمّ أصدر توصية ثالثة، تتجاوز التوصيتين السابقتين، وتؤسّس
لتغييرٍ جذريّ في نمط العلاقة بين هذه المؤسّسات، قوامه الضمّ والتوحيد،
على ما نصّت عليه المادّة 108 من الإرشاد: "في لبنان مراكز أكاديميّة
مختلفة، يؤمّن بعضٌ منها تدريسًا في العلوم الدينيّة. لهذه المؤسّسات
تاريخها وتقاليدها الخاصّة. مع ذلك، يمكن أن يسبّب هذا التكاثر مصاعب في
بعض الظروف، إذا لم يُنَمّ روح تشاورٍ وتعاون. إنّه لَمِنَ المفيد ألاّ
تسعى بعد اليوم كلّ كنيسة بطريركيّة إلى إنشاء مراكز جديدة، بل أحيانًا
إلى ضمّ هذه المؤسّسات وتوحيدها، فتتضامن القوى الفاعلة وتسمح لبعض
المراكز أن تزيد في اختصاصها، لخير المؤمنين (...). وكما رأى ذلك، أيضًا،
آباء المجمع، إنّ مؤسّسات التعليم العالي تضمّ عددًا محدودًا من الطلاّب،
مقارنةً مع مَن تضمّهم جامعة الدولة. ولأجل مواجهة التحدّيات الثقافيّة
الكبرى، ولتأمين تعليمٍ أفضل، ولفعاليّةٍ أعظم في البحث وفي تنشئة أساتذة
الغد، من الهامّ أن تتشاور المعاهد الجامعيّة المختلفة فتقدّم مقترحاتٍ
مشترَكة، وعند الاقتضاء، تتجمّع وتكل إلى بعض المؤسّسات اختصاصًا
جامعيًّا معيّنًا. إنّي أدعو الأساقفة إلى أن يوحّدوا جهودهم لدعم
المعاهد القائمة، وأشجّع اللجنة المنبثقة من مجلس البطاركة والأساقفة
الكاثوليك في لبنان المختصّة بالشؤون المدرسيّة والجامعيّة على تعزيز
التعاون بين مختلف معاهد التعليم، منعًا للهدر في الأشخاص والطاقات
والوسائل الماديّة"[24].
36.
ويسترجع المجمع مواقف السيّد البطريرك التي دعا فيها
إلى تطبيق توصيات المجمع الفاتيكانيّ الثاني، متسائلاً: "أين جامعاتنا
الكاثوليكيّة من هذه التوصيات؟ قد يقوم بينها وبين بعض الجامعات خارج
لبنان توأمة أو ما يشبهها، ولكنّنا لم نسمع أنّه قام تعاونٌ بين الجامعات
الكاثوليكيّة في لبنان. وهذه أمنية عزيزة على قلب الكنيسة الجامعة،
وخاصّةً على كنيسة لبنان. وهذا ما تمنّيناه، وحضضنا عليه غير مرّة. ولكنّ
الأماني بقيت أماني ليس إلاّ. وكلّ جامعةٍ تسعى إلى إبراز ما لها من
شخصيّة بدون أن تلتفت إلى ما سواها من جامعات في لبنان، الكاثوليكيّة
منها على الأقلّ"[25].
37.
فيحثّ المجمع مؤسّسات التعليم العالي التابعة للكنيسة المارونيّة على أن
تأخذ بما أوصت به النصوص المذكورة أعلاه ودعت إليه.
38.
ويحثّها أيضًا على أن تحاذر الوقوع في شراك التزاحم
الذي قد يبعدها عن روح رسالتها الكنسيّة، ويجعلها تكرّر ذاتها فلا تبلغ
أرقى المستويات الأكاديميّة.
39.
ويدعوها المجمع إلى أن تنمّي في ما بينها التشاور المستمرّ، والتنسيق
الدائم، فتعبّر مواقفُها من القضايا التربويّة والوطنيّة عن رؤيا
مشترَكة، وتندرج في
إستراتيجيّة متوافقٍ عليها، وتجسّد سياسةً جامعيّة موحّدة التطلّعات
والأهداف.
40.
كما يدعوها إلى العمل الحثيث والدؤوب لفتح قنوات
اتّصالٍ دائم ومجاري حوارٍ مثمر بين إداراتها وأساتذتها وطلاّبها
وخرّيجيها، ولتنسيق جهودها وتوظيف طاقاتها البشريّة ومواردها الماليّة
ومنشآتها وتجهيزاتها توظيفًا ذكيًّا في مشاريع مشتَرَكة، منتجة وناجحة،
تجسيدًا لرغبتها المشتركة في خدمة الكنيسة والمجتمع.
الفصل الثالث
: توصيات واقتراحات
أوّلاً:
على الصعيد الدوليّ العامّ
1.
ضمان جودة التعليم العالي وتأمين ديموقراطيّته
41.
تعلن الكنيسة بقوّة أنّ التعليم العالي الجيّد
والنوعيّ يجب ألاّ يكون ترفًا أو حكرًا على قلّة من المحظوظين، بل هو حقّ
لجميع مَن تتوافر فيهم المؤهّلات الضروريّة، كما
أنّ تحصيله بات في الكثير من الحالات ضرورةً ملحّة،
وحاجةً مستمرّة مدى الحياة.
42.
وتستمدّ الكنيسة من حقّ المواطنين عمومًا وحقّ أبنائها خصوصًا
بالتعلّم، حقّها بالتدخّل لدى المعنيّين جميعًا – مسؤولين
حكوميّين ومجتمعًا مدنيًّا وأولياء طلاّب– لتأمين ديموقراطيّة التعليم
العالي، والسهر على ضمان
نوعيّته ومستواه، وقيمة شهاداته وصحّة اعتمادها. ولذلك فهي تطالب
السلطات المختصّة في كلّ بلدٍ يوجد أبناؤها فيه بتحمّل مسؤوليّاتها
واتّخاذ الإجراءات الضروريّة والعمليّة لحسن تنظيم التعليم العالي
الرسميّ والخاصّ، وضمان جودته.
ثانيًا: على الصعيد
اللبنانيّ العامّ
1. رسم سياسة وطنيّة للتعليم العالي
43.
في ضوء ما تقدّم، يرى المجمع أنّ في طليعة الإجراءات التي يدعو السلطات
اللبنانيّة إلى اتّخاذها، رسم سياسة وطنيّة للتعليم العالي. لأنّه،
وبالرغم من بعض الوثائق التي نُشِرت[26]،
وهي تتضمّن مجموعةً كبيرة من المعطيات والعناصر الضروريّة لرسم
هذه السياسة، يمكن القول إنّ لبنان ما زال يفتقر إليها،
لأنّها لم تُقَرّ بعد، ولم يتمّ اعتمادها بصورةٍ رسميّة.
ولا بدّ من الاعتراف بأنّ
الدولة والمسؤولين عن مؤسّسات التعليم العالي، مقصّرون في
تقدير دور التخطيط الإستراتيجيّ في تطوير التعليم العالي، ودور
إستراتيجيّة التعليم العالي في تطوير البلاد على مختلف المستويات. ولذلك
يحثّ المجمعُ على نشر ثقافة التخطيط، والاستشراف، والرؤيا، وإدخال العنصر
التوجيهيّ في السياسة الوطنيّة العامّة التي ترسمها الدولة للتعليم
العالي في لبنان، وتعزيز حضور الأبعاد المستقبليّة في السياسة الخاصّة
التي تضعها كلّ مؤسّسةٍ للتعليم العالي لنفسها.
44.
ويرى المجمع أنّ وضع هذه السياسة هو من مسؤوليّة الدولة، بل هو أحد أبرز
الأدوار المنوطة بها. ولكن يتعيّن عليها أنْ تُشرِك في رسمها جميع
الأطراف المعنيّة[27].
45. ويرى
المجمع أنّ على هذه السياسة
الوطنيّة
أن تستوحي في منطلقاتها الأساسيّة أحكام الدستور اللبنانيّ، وأحكام
المواثيق الدوليّة الصادرة عن الأمم المتّحدة بشكلٍ عامّ وعن الاونسكو
بشكلٍ خاصّ، وأن تراعي
واقع التربية والتعليم في لبنان والتراث الخاصّ به، ولاسيّما من
حيث الشراكة الوطيدة بين القطاعَين العامّ والخاصّ في تأمين الخدمات
التربويّة، وأن تُبنى في مبادئها العامّة على الحقّ في التعلّم، وحريّة
التعليم، وتكافؤ الفرص، وأن تتوخّى في أهدافها التنمية الشاملة
والمتكاملة للشخصيّة الإنسانيّة، وتعزيز الإحساس بالكرامة البشريّة
واحترام حقوق الإنسان وحرّياته الأساسيّة وانفتاحه الروحيّ واندماجه
الاجتماعيّ.
46.
ويرى المجمع ضرورة بناء هذه السياسة على دراسات وأبحاث وتحقيقات علميّة
رصينة تعتمد الأرقام والإحصاءات الموثوق بها وتُحسن تحليلها
واستنطاقها. فلا بدّ بالتالي من توفير قواعد معلومات، يجب أن تصدر
سنويًّا، وأنْ تكون دقيقة وواضحة وشفّافة
موثوقًا بها، وأنْ تكون متاحة للجميع بمختلف وسائل الاتّصال والإعلام[28].
47.
ويرى المجمع أنّ رسم هذه السياسة ضروريّ لمتّخذي القرارات، سواء أفي
القطاع الرسميّ
كانوا أم الخاصّ، ليبنوا خياراتهم وقراراتهم على أساسها.
أ.
فيمكن الحكومة أنْ تستوحي منها المبادئ والمعطيات الضروريّة لإصدار
التشريعات الخاصّة بتنظيم التعليم العالي، وأنْ تتّخذ في ضوئها قرارات
الترخيص بإنشاء مؤسّساتٍ للتعليم العالي، أو باستحداث كليّات أو معاهد أو
اختصاصات جديدة في مؤسّسات قائمة.
ب. أمّا
مؤسّسات التعليم العالي، فيمكنها أنْ تستند إليها لصياغة أهدافها، وبناء
خططها، ورسم إستراتيجيّتها، إن لجهة إنشاء المؤسّسة، أو تطويرها،
أو توسيعها من خلال فتح كليّات جديدة أو استحداث اختصاصاتٍ جديدة، أو
إعادة توجيه برامجها في ضوء حاجات سوق العمل...
2. تعزيز التنسيق بين مؤسّسات التعليم العالي وبينها
وبين وزارة التربية والتعليم العالي
48.
تكثر في بلدان العالم الحريصة على تعزيز التعليم الجامعيّ وإعلاء
شأنه وتمكينه من القيام بوظائفه والاضطلاع بمسؤوليّاته الوطنيّة
والإنسانيّة، رابطاتٌ تجمع، في صيغ مختلفة، بين مؤسّسات التعليم
العالي. فإنّ
المجمع يشجّع على قيام تنسيق حقيقيّ، فعّال ومثمر، بين
مؤسّسات التعليم العالي، الرسميّة
منها والخاصّة. وهو يرى أنّ قيام هذا التنسيق رهن باقتناع هذه
المؤسّسات بضرورة إحداث تغيير جذريّ في موقفها بعضها من بعض،
فتتحوّل عن علاقات التزاحم والمضاربة، الى علاقات التعاون
والتكامل والمنافسة في سبيل المستوى الأكاديميّ والعلميّ
الأفضل.
49.
ويشجّع المجمع بصورةٍ خاصّة قيام تنسيق حقيقي،
فعّال ومثمر، بين مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة
ومؤسّسات التعليم العالي المسيحيّة التي تستوحي في شرعتها وأهدافها
التعاليم الإنجيليّة، وذلك على مختلف الأصعدة وفي المجالات كلّها.
50.
ويشجّع المجمع
على قيام تنسيق حقيقيّ، فعّال ومثمر، بين
مؤسّسات التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم العالي. وهو يرى
أنّ قيام هذا التنسيق رهنٌ باقتناع المؤسّسات بدور الوزارة، ورهنٌ
باقتناع الوزارة بدور هذه المؤسّسات الإيجابيّ، وبأنّها وزارة
التعليم العالي بقطاعيه، الرسميّ والخاصّ، وبأنّ كلّ
مؤسّسة للتعليم العالي، أرسميّةً كانت أم خاصّة، تؤمّن
خدمات ذات طابع عامّ، هي مؤسّسات وطنيّة.
3. تأليف مجلس وطنيّ للتعليم العالي
51.
يرى المجمع أنّ إرساء العلاقات بين وزارة
التربية والتعليم العالي ومؤسّسات التعليم العالي الخاصّة، على
مبدأ الشراكة وعلى أسسٍ سليمة، وعصريّة، وديموقراطيّة،
يقتضي إعادة نظر جذريّة في تأليف مجلس التعليم العالي، وإدخال
تعديلات جوهريّة على آليّة عمله، لإصلاح الخلل الفادح والفاضح
الذي يشوبه، وإعادة التوازن إليه، وتمكينه من القيام بالمهمّات الجسام
التي تنتظره وستوكل إليه، إنْ لجهة رسم السياسة الوطنيّة للتعليم
العالي والبحث الجامعيّ والعلميّ، أو لجهة تحديد الحاجات
والأولويّات، وإعداد الخطط لتلبيتها، أو لجهة وضع معايير الاعتراف
بالشهادات وتقويم نوعيّة التعلّيم المؤدّي إليها، أو لجهة
النظر والبتّ في طلبات الترخيص بإنشاء مؤسّسات جديدة للتعليم العالي.
52.
فلقد منح قانونُ تنظيم التعليم العالي مجلس التعليم العالي
صلاحيّات واسعة بل شاملةً جميع شؤون المؤسّسات الخاصّة للتعليم
العالي، وهذه الصلاحيّات الواسعة التي لم يقيِّد القانون
ممارستها بضوابط سليمة تجعل من مجلس التعليم العالي مرجعًا وحيدًا في هذا
الباب ومرجعًا مطلق الصلاحيّة.
53.
وإنّ الصيغة التي نصّ عليها قانون تنظيم التعليم العالي
لتأليف مجلس التعليم العالي[29]
يجعل منه في الواقع مجلسًا رسميّا ينظر في جميع شؤون المؤسّسات
الخاصّة للتعليم العالي.
إنّ مؤسّسات التعليم العالي الخاصّة غير ممثّلة في هذا المجلس، فيُستطلع
رأي رؤساء الجامعات القائمة، بصفة استشاريّة غير مُلزِمة،
ولا يُستطلع رأيهم على كلّ حال الاّ حين النظر في
طلبات الترخيص لإنشاء جامعات أو كليّات أو معاهد جديدة، أو
لاستحداث فروع فيها. لا يحضر رؤساء الجامعات القائمة جلسات مجلس التعليم
العالي، ولا يشاركون في التصويت على القرارات التي يتّخذها، ومجلس
التعليم العالي غير مُلزَم بالأخذ بالآراء التي يُبدونها.
54.
يدعو المجمع
الى إعادة تأليف مجلس التعليم العالي
وفق صيغةٍ تؤمّن تمثيل رؤساء الجامعات القائمة أو مَن ينتدبونهم،
إضافةً إلى سائر الهيئات الحكوميّة وهيئات المجتمع المدنيّ المعنيّة،
فيصبح مجلسًا وطنيًّا للتعليم العالي، الرسميّ والخاصّ.
4. إنشاء هيئة وطنيّة للاعتماد (Conseil national d’accréditation)
55.
يرى المجمع أنّ عمليّة الإصلاح، بل عمليّة الإنقاذ، لا يمكن أنْ تقتصر
على الدولة. فالمخاطر مشتركة، والمصلحة مشتركة، والمسؤوليّة أيضًا مشتركة
بين الدولة ومؤسّسات التعليم العالي.
أ.
يتعيّن أوّلاً على هذه المؤسّسات
أنْ تلتزم تطبيقَ القوانين النافذة حاليًّا،
للإسهام في الحدّ من الفوضى القائمة،
ب. ويتعيّن
ثانيًا على هذه المؤسّسات أنْ تلتزم أصولَ الأخلاقيّات الجامعيّة،
في تعاملها بعضها مع بعض، ومع أساتذتها وطلاّبها، ومع المجتمع
الذي تقوم فيه،
ج.
وعليها أن تعي أنّ التمييز الحقيقيّ في ما بينها، يقوم
بين التنافس الأكاديميّ المشروع والمفيد
والمستحبّ، وبين
المضاربة التجاريّة المسيئة والمذمومة، أيّ
من جهة، بين مؤسّساتٍ تربويّة تهدف إلى نشر المعارف، وتعزيز القيَم،
وخدمة الطالب والمجتمع، ومن جهةٍ أخرى بين
شركاتٍ تتوخّى الربح، وتغلّب المنطق الاستثماريّ،
وتعمل لخدمة مصالح أصحاب المؤسّسة،
د.
ويتعيّن أخيرًا على مؤسّسات التعليم العالي أنْ تلتزم
معايير الجودة والامتياز.
56.
ويرى المجمع أنّه في ظلّ القانون الحاليّ لتنظيم التعليم العالي
الذي لم يَعد ملائمًا، وفي ظلّ مراسيم تطبيقيّة تفتقر إلى الدقّة والوضوح
والفعاليّة، وفي غياب سياسةٍ وطنيّةٍ للتعليم العالي، لم يعد بوسع أيّ
مؤسّسةٍ للتعليم العالي ولا من مصلحتها، سواء
أحكوميّةً كانت أم خاصّة، أنْ تعفي نفسَها من شرط تقديم الأدلّة
المُقنعة على جودة برامجها وتعليمها، ونوعيّة الشهادات التي تمنحها،
ومستوى خرّيجيها[30].
57.
ويرى المجمع أنّ الحلّ الأمثل والأقوى فاعليّةً قد يكون في إنشاء هيئةٍ
وطنيّةٍ مستقلّة لتقويم النوعيّة والاعتماد في التعليم العالي،
تتألّف من شخصيّاتٍ أكاديميّة مشهود لها بالاختصاص والكفاية
والخبرة في ميدان التعليم العالي، على غرار ما هو
معمول به في الدول العريقة بالتعليم العالي[31].
تتولّى هذه الهيئة، بصورةٍ دوريّة، مهمّة التثبّت من جودة البرامج
المعتمدة في مؤسّسات التعليم العالي، وتقدّمُ التوصيات الآيلة إلى رفع
مستواها وتحسين نوعيّتها وتعزيز مواءمتها لحاجات التنمية، وذلك بهدف ضمان
جودة التعليم العالي، واعتماد شهاداته.
58.
ويرى المجمع أنّه لا بديل عن هذه الهيئة الوطنيّة إذا كنّا فعلاً حريصين
على ضمان جودة التعليم العالي في مؤسّساتنا. إنّ هيئة الاعتماد ضروريّة
ومفيدة للمؤسّسة أوّلاً، في علاقتها بأولياء الطلبة، والطلبة،
والأساتذة، والجهات المانحة، وسوق العمل؛ وهي ضروريّة ومفيدة أيضًا للأهل
والطلبة، وللقطاعات التي ستوظّف الخرّيجين، وللهيئات المحلّيّة
والدوليّة المعنيّة بالاعتراف بالشهادات ومعادلتها، ولمؤسّسات التعليم
العالي، في أوروبا وأميركا وسائر أقطار العالم، التي ينتقل إليها طلبتنا.
وهذه الهيئة ضروريّة ومفيدة لأنّ من شأنها أنْ تحدّ من الفوضى القائمة،
وأنْ ترتقي بالمنافسة إلى نطاقها الأكاديميّ، وأنْ تحفّز على تحسين
النوعيّة والمستوى.
ثالثًا: على صعيد
الجامعة اللبنانيّة
59.
إنّ الكنيسة المارونيّة تستوحي المواقف التي تعلنها في شأن
الجامعة اللبنانيّة من نظرتها إلى هذه المؤسّسة، وذلك في إطار رؤيتها
الشاملة للتعليم العالي في لبنان، ولموقع مؤسّساتها فيه، وللعلاقة بين
القطاعَين الرسميّ والخاصّ.
60.
وإنّ الكنيسة المارونية تعي، من جهةٍ أولى، أهميّة الجامعة
اللبنانيّة على الصعيد الوطنيّ. فهي
تحتلّ موقعًا مميّزًا على خريطة التعليم العالي في
لبنان، لأسباب شتّى، منها أنّها الجامعة الرسميّة الوحيدة، وأنّها
مجّانيّة، وأنّها، عبر فروعها المختلفة، الأوسع انتشارًا في
المناطق اللبنانيّة كافّةً، وأنّها تستقطب، في كليّاتها ومعاهدها
المتعدّدة الاختصاصات، أكثر من نصف مجموع الطلاّب المنتسبين إلى
مؤسّسات التعليم العالي، وأنّ طلاّبها يرسمون – بتنوّع انتماءاتهم
الاجتماعيّة والطائفيّة والسياسيّة – صورةً حقيقيّة عن واقع المجتمع
اللبنانيّ، بغناه وتعقيداته.
61.
والكنيسة تدرك، من جهة ثانية، أنّ أساتذة
الجامعة اللبنانيّة وطلاّبها وموظّفيها الموارنة هم في عداد أبنائها
وأنّهم جزء من مسؤوليّاتها، بل أنّ الجامعة بكاملها مساحة فريدة يمكنها
أن تشهد فيها لانفتاحها على جميع اللبنانيّين، ولإيمانها بالعيش المشترك
بينهم، ولاهتمامها بأبناء الطبقات الاجتماعيّة الفقيرة والمتوسّطة،
ويمكنها أن تؤدّي فيها رسالة الخدمة والمحبّة التي يدعوها المسيح إلى
الاضطلاع بها.
62.
وتولي الكنيسة المارونيّة مسألة الجامعة اللبنانيّة
وشؤونها المختلفة ومطالب أهلها المحقّة، ما تستحقّ من الاهتمام والعناية
والرعاية، وهي عازمة على أن تضع طاقاتها في خدمة مشروع إنماء الجامعة
اللبنانيّة وتطويرها، بهدف تعزيز هذه الجامعة وتعزيز دور الكنيسة
وإشعاعها على الصعيد الفكريّ والثقافيّ والروحيّ، من خلال حضورها فيها.
63.
يرى المجمع مع أهل الاختصاص أنّ تحقيق اللامركزيّة في مجال
التربية عمومًا، بات مطلبًا ملحًّا ويتناسب وتطلّعات القرن
الحادي والعشرين[32]،
وأنّ من شأن تحقيقها على صعيد التعليم العالي أن يلبّي حاجاتٍ
أكاديميّة وإنمائيّة ماسّة. ويرى أنّ تبنّي مبدأ اللامركزيّة يؤول إلى
المطالبة بإنجاز مجمّعات جامعيّة متكاملة لفروع الجامعة الخمسة
ونشرها في المناطق اللبنانيّة كلّها. ويرى المجمع أنّ مشاريع ضمّ
الفروع أو توحيدها إنّما هي اقتراحات سياسيّة لا تخدم الجامعة
اللبنانيّة، وهي غير مبرَّرة من الناحية الأكاديميّة، كما أنّها تتعارض
مع مبادئ الإنماء المتوازن واللامركزيّة الإداريّة وتكافؤ الفرص.
64.
ويرى المجمع أنّ
هذه السلسلة من المجمّعات أو المدن الجامعيّة
يجب أن تتّصف بأعلى مستوى من التجهيزات والمكتبات، والمشاركة في
الشبكات، ونقل التكنولوجيا، وتنمية الموارد البشريّة، وتطوير المواد
التعليميّة. وهذه المجمّعات يمكن أن تنظّم أشكالاً معيّنة للتنسيق في ما
بينها في إطار لامركزيّة الجامعة الواحدة، أو الجامعات التي يجمعها مجلس
أعلى للتعليم العالي الرسميّ.
65.
يشدّد المجمع على ضرورة صيانة الحريّات الأكاديميّة، والحريّات
النقابيّة، وحريّة البحث، بعيدًا عن أشكال الضغوط والرقابة كافّةً.
66.
ويدعو إلى احترام استقلاليّة الجامعة اللبنانيّة على المستوى الماليّ
والإداريّ والأكاديميّ، من خلال
شرعنة المجالس التمثيليّة على مستوى الكليّات والفروع
والأقسام، كما على مستوى مجلس الجامعة.
67.
ويدعو إلى الاهتمام بالطلاّب، إن لجهة تأمين
التوجيه والإرشاد لهم، وتحسين ظروف إعدادهم، وتحديث
مناهجهم التعليميّة، ومعالجة ما يواجهونه من مشاكل التسرّب والبطالة،
وإن لجهة احترام حقوقهم في التنظيم النقابيّ، ورفع الوصاية عن
تحرّكهم.
68.
ويرى أنّ زيادة موازنة الجامعة ضروريّة لتطويرها، بما يتّفق وحاجات
الجامعة والمادّة 14 من الإعلان العالميّ للتعليم العالي التي
تقول: "إنّ الدّعم الحكومي للتعليم العالي والبحوث يظلّ عاملاً أساسيًّا
لتأمين التوازن في أداء المهامّ التعليميّة والاجتماعيّة".
رابعًا: على صعيد
مؤسّسات التعليم العالي الخاصّ
1. إصدار قانون جديد للتعليم العالي الخاصّ في
لبنان
69.
على الدولة، من جهة، أنْ تسهر على حسن تطبيق
القوانين والأنظمة النافذة حاليًّا؛ وعليها، من جهةٍ ثانية،
أنْ تضطلع بمسؤوليّاتها التشريعيّة، فتسنّ قانونًا جديدًا، ينظّم قطاع
التعليم العالي الخاصّ[33].
فيضمّ المجمع صوته إلى أصوات الحريصين على دور الدولة حرصهم على احترام
حريّة مؤسّسات التعليم العالي،
ويطالب معهم بالتعجيل
في استصدار قانونٍ
جديد، ومتطوّر، ومتكامل، ومتجانس، يأخذ في
الاعتبار المتغيّرات على الصعيد المحلّي، ويأخذ
في الاعتبار تحدّيات العولمة على الصعيد الدوليّ، ويكون شاملاً
وجوه التعليم العالي وجوانبه المختلفة، وقابلاً للتطبيق، فيحقّق الطموحات
ويلبّي الحاجات، ويُسهم في ضمان جودة التعليم وتأمين تطوّره
المستقبليّ السليم.
2. مساهمة الدولة
في تمويل مؤسّسات التعليم العالي
الخاصّة التي لا تتوخّى الربح
70.
لقد بات عددٌ كبيرٌ ومتزايد من أهالي الطلاّب عاجزين
عن تسجيل أبنائهم في مؤسّسات التعليم العالي الخاصّة التي يختارونها،
بسبب تفاقم الضائقة الاقتصاديّة من جهة وارتفاع الأقساط التي تستوفيها
هذه المؤسّسات من جهة ثانية. كما لم يعد سرًّا أنّ مؤسّسات التعليم
العالي الخاصّة التي لا تتوخّى الربح تواجه صعوبات جمّة في إقامة التوازن
المطلوب بين مداخيلها من الأقساط وما يترتّب عليها من أعباء ماليّة
متنامية، لا بدّ لها من تحمّلها لتتمكّن من تمويل مشاريعها التطويريّة،
وتحديث معدّاتها وتجهيزاتها، والقيام بالأبحاث العلميّة، والمحافظة على
موقعها مركزًا مرموقًا ومشهودًا له بالامتياز.
وتكتسب هذه القضيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة أبعادًا أخرى، فهي ترتبط
ارتباطًا وثيقًا بالحريّات التربويّة التي نصّ عليها الإعلان العالميّ
لحقوق الإنسان[34]،
وترتبط أيضًا بحقوق المواطن اللبنانيّ على دولته في أن تؤمّن له
الوسائل المادّيّة التي تمكّنه من ممارسة حقّه المشروع في اختيار
المؤسّسة التي يرغب في تسجيل أولاده فيها.
71.
فالمجمع إذ يذكّر بهذه المبادئ التربويّة التي
نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان وأقرّتها اليونسكو، يرى أنّ من واجب
الكنيسة وحقّها الدفاع عن حريّة التعليم التي يصونها الدستور اللبنانيّ،
والدفاع عن حقوق أبنائها على دولتهم، والدعوة إلى استصدار التشريعات التي
تضمن بصورة عمليّة احترام هذه الحريّة وتأمين هذه الحقوق.
خامسًا: على صعيد
مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة
72.
إنّ علاقة الكنيسة المارونيّة باللغة السريانيّة
علاقة عريقة ووطيدة، وذات أبعادٍ طقسيّة ومجتمعيّة وثقافيّة. واللغة
السريانيّة من اللغات المهدّدة بالانقراض، وهذا ما حدا منظَّمة
اليونسكو الدوليّة على التفكير الجدّي في اتّخاذ مبادراتٍ
لإنقاذها والحفاظ عليها. فيدعو المجمع مؤسّسات الكنيسة
المارونيّة المعنيّة إلى التفكير في الموقف الذي يحسن بها أن
تقفه، بالتعاون مع سائر الكنائس الشرقيّة المعنيّة بهذا الموضوع؛ ويدعوها
أيضًا إلى التفكير في الخطّة المحدّدة التي تنوي وضعها والإجراءات
العمليّة التي تعتزم القيام بها لتعزيز اللغة السريانيّة، والعمل على
تحقيق التراث الأدبيّ والفكريّ والروحيّ الموضوع باللغة
السريانيّة، ونشره، وترجمته، وإدخاله في المناهج الدراسيّة[35].
73.
أمّا أبرز دواعي تعزيز اللغة العربيّة فهي الآتية:
أ.
إنّ تعزيز اللغة العربيّة يندرج في خطّ الأمانة لنهجٍ مسيحيّ عريق
ولخيارٍ حاسم وشامل تبنّاه الموارنة منذ أجيال، ولاسيّما منذ أيّام
البطريرك الدويهي وأعماله[36].
ب.
وإنّ تعزيز اللغة العربيّة – تأليفًا وتعريبًا –
يلبّي حاجةً عند المسيحيّين العرب[37].
ج.
وإنّ تعزيز اللغة العربيّة هو في صلب مسؤوليّات الموارنة الوطنيّة، لا
لكونها لغة لبنان الوطنيّة والرسميّة فحسب، بل لأنّه لن يتسنّى للبنان أن
يحافظ على إشعاعه الثقافيّ في العالم العربيّ إن أهمل الموارنة في
مؤسّساتهم التربويّة – خلافًا لتقاليدهم الراسخة – اللغة العربيّة.
د.
وإنّ تعزيز اللغة العربيّة هو في صُلب رسالة الموارنة الروحيّة، لأنّها
أداة اتّصالهم الفُضلى بالعالم العربيّ والإسلاميّ. فشهادتهم هي أوّلاً
في مجتمعاتٍ عربيّة وإسلاميّة، ولا يستطيعون أن يؤدّوها كما ينبغي
وبالفعاليّة المرجوّة، إلاّ بالعربيّة.
فيدعو
المجمع، في ضوء ذلك، مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة
إلى تحديد المبادرات التي تستطيع إطلاقها، وإعداد المشاريع التي تستطيع
تنفيذها لتحقيق هذه الأهداف، وهذه المبادرات والمشاريع هي كثيرة ومتاحة.
74.
يُجمع اللبنانيّون
اليوم على التسليم بأولويّة اللغة العربيّة، وبضرورة تعزيز تدريس اللغات
الأجنبيّة والتدريس بها. فيدعو المجمع جميع المعنيّين،
والموارنة منهم بصفة خاصّة، إلى الاضطلاع بمسؤوليّة العمل الجادّ لئلاّ
يصبح إتقان اللغات الأجنبيّة حكرًا على طبقة الميسورين، لأنّ ديموقراطيّة
التعليم تقوم، في بعض وجوهها، على تمكين جميع الطلاّب، من الفئات
والطبقات والمذاهب والمناطق كلّها، من معرفة اللغات الأجنبيّة وإتقانها،
وقد باتت هذه اللغات حاجةً ضروريّة بل ماسّة لكلّ المواطنين في المجتمعات
الحديثة. فلا يجوز حرمان أيّ طالبٍ لبنانيّ من التمتّع بهذا الحقّ وبهذه
الفرصة.
75.
يلاحظ المجمع أنّ عدد اللبنانيّين الذين يضيفون إلى لغتيهما الأساسيّتين
العربيّة والفرنسيّة، لغةً ثالثةً هي الإنكليزيّة، بدافع الحاجة إلى
استعمالها لأغراض شتّى، يتنامى يومًا بعد يوم. أمّا مَن تعلّم منهم أو
يتعلّم في مؤسّساتٍ تربويّة، مدرسيّة أو جامعيّة، تتبنّى الإنكليزيّة
لغةً ثانيةً، فقلّما يُعنَون بتعلّم الفرنسيّة[38].
76.
ويخشى المجمع أن تؤدّي
الاستعاضة عن الفرنسيّة بالإنكليزيّة إلى حرمان المسيحيّين من
النهل المباشر من بعض أهمّ مصادرهم الروحيّة وأغناها. وهو يذكّر
بأنّ المسيحيّين عامّةً والموارنة خاصّةً، يتّصلون بجذورهم الروحيّة
على نحوٍ أساسيّ بواسطة اللغة الفرنسيّة التي تركت فيها المسيحيّةُ أثرًا
لا يمّحى، وبها هُمْ على اتّصال مباشرٍ ووثيق بالتراث
اللاهوتيّ الكاثوليكيّ وبقِيَمه الإنسانيّة الأساسيّة.
77.
ويرى المجمع أنّ الأفراد يستطيعون أن يقرّروا، لأسباب مادّيّة
نفعيّة، أو لدواعٍ عاطفيّة، أو لحاجاتٍ ظرفيّة، تعلّم هذه اللغة لا تلك.
أمّا الجماعات: الأوطان، والطوائف، والمؤسّسات الكنسيّة والتربويّة، فلا
يمكنها، ولا يحقّ لها أن تقرّر استبدال لغةٍ بلغةٍ أخرى، أو إيثار لغةٍ
على لغةٍ أخرى، بدون تبصّر ورؤيا وتخطيط، وبدون استلهام
المصالح العليا والأساسيّة[39].
78.
لذلك يدعو
المجمع المؤسّساتِ الجامعيّة المارونيّة – شأنها في ذلك شأن
المدارس المارونيّة – إلى اعتماد الثلاثيّة اللغويّة، فيتقن
التلامذة والطلاّب اللغتَين الفرنسيّة والانكليزيّة، إضافةً إلى اللغة
العربيّة.
79. ويدعو
المجمع أيضًا هذه المؤسّسات والمدارس إلى أن تبلور بوعيٍ
ومسؤوليّة، الخيارات اللغويّة التي تقضي مصلحةُ الكنيسة في لبنان، بل
مصلحةُ لبنان، بتبنّيها، وأن تقرّر، برويّةٍ وعمق، سياستها
اللغويّة وموقع اللغتَين الفرنسيّة والإنكليزيّة
ومرتبتهما فيها، فتأتي خياراتها واعية، هادفة، وسليمة.
1.
تعزيز التنسيق بين مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة
وتنظيمه في إطار الهيئة الموكول إليها التنسيق
بين مؤسّسات التعليم العالي الكاثوليكيّة
80.
إنّ مسوّغات توجيه الدعوة إلى تعزيز التنسيق
بين مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة وتنظيمه في إطار الهيئة
الموكول إليها التنسيق بين مؤسّسات التعليم العالي الكاثوليكيّة كثيرةٌ
ووجيهة. وإنّ إمكانيّة
التجاوب معها متوافرة، رغم المعوقات والصعوبات الكثيرة والكبيرة، إذا صحّ
العزم وصفت النوايا وتضافرت الجهود، وتمّ تغليب مصلحة الكنيسة وخير
الطائفة والوطن على ما عداها.
فيطلب المجمع من اللجنة الأسقفيّة للتربية والثقافة أن تكلّف لجنةً
مختصّة، يتمّ اختيار أعضائها بعناية، وأن تعهد إليها بإعداد دراسة دقيقة
وشاملةٍ جوانب الموضوع المختلفة، وتطلب منها
أن تركّز أبحاثها بصورة
أساسيّة على الهيئة التي ستتولّى مهمّة التنسيق بين المؤسّسات.
81.
ويرى المجمع
أن تبحث هذه اللجنة
في مهامّ الهيئة التي ستتولّى التنسيق بين
المؤسّسات، وفي طليعتها المساهمة في إعداد الدراسات اللازمة لرسم سياسة
الكنيسة الكاثوليكيّة في ما يختصّ بالتعليم العالي في لبنان، وتزويد
السلطات الكنسيّة المعنيّة الدراسات والأبحاث والإحصاءات والتقارير التي
تحتاج إليها، في المواضيع والملفّات التربويّة، وفي الحقول والمجالات
الأخرى كافّةً.
وإضافةً إلى هذه المهمّة
الأساسيّة، قد تكون هذه الهيئة مدعوّة إلى الاضطلاع بعدّة وظائف،
منها وظيفة تمثيل المؤسّسات الأعضاء لدى المراجع الكنسيّة، ووظيفة
التحدّث والمراجعة والمفاوضة باسمها لدى الدولة ووزاراتها ومؤسّساتها،
ووظيفة السّهر على احترام حريّة التعليم، ووظيفة المشاركة في إعداد
القوانين والمراسيم الخاصّة بالتعليم العالي أو تعديل نصوصها الحاليّة،
ووظيفة التنسيق بين مؤسّسات التعليم العالي الأعضاء والأمانة العامّة
للمدارس الكاثوليكيّة، ووظيفة التنسيق بين المؤسّسات الأعضاء على صعيد
النشاطات، والأبحاث المشتركة، وتبادل الأساتذة، وفي شتّى المجالات وعلى
مختلف الأصعدة، ووظيفة التخطيط لإنشاء مؤسّسات مارونيّة أو كاثوليكيّة
جديدة للتعليم العالي، أو لاستحداث اختصاصات جديدة في المؤسّسات القائمة،
أو لتوسّعها الجغرافيّ عبر إنشاء فروع لها في المناطق.
82.
ويرى المجمع
أن تبحث هذه اللجنة أيضًا في صلاحيّات هيئة
التنسيق، والمجالات التي ستمارس فيها صلاحيّاتها، ومدى هذه
الصلاحيّات، وطبيعة القرارات التي تتّخذها، ما كان منها على سبيل
الاستشارة والتوصية أو كان ملزمًا ونافذًا، وفي نوع القرارات التي يتعيّن
على المؤسّسات الأعضاء أن تعرضها عليها لنيل موافقتها.
83.
ويرى المجمع أن تحدّد هذه اللجنة، في ضوء مهامّ الهيئة ووظائفها
ومسؤوليّاتها وصلاحيّاتها، الشروط والمؤهّلات والخبرات والصفات التي يجب
أن تتوافر في منسّق هذه الهيئة
ومعاونيه، وأن تفكّر في المصادر الضروريّة
الكفيلة بتأمين التمويل الضروريّ لتمكين الهيئة من القيام
بالأعباء الملقاة على عاتقها.
2. صياغة الشرعة التربويّة لمؤسّسات التعليم العالي
المارونيّة
84.
يرى المجمع أنّه من الضروريّ أن تشترك مؤسّسات
التعليم العالي المارونيّة في صياغة وثيقةٍ مرجعيّة، تكون بمثابة شرعة
الكنيسة للتعليم العالي، تعلنها في إطار مجمعها.
وغنيٌّ عن البيان أنّ الدراسات في موضوع التعليم العالي التي يُمكن
الإفادة منها لصياغة هذه الشرعة، كثيرةٌ وغنيّةٌ بالمعطيات والرؤى، وفي
طليعتها الوثائق المختلفة التي أصدرتها منظّمة اليونسكو. ولكنّ ثمّة
نصوصًا مرجعيّة في هذا المجال لا غنىً عنها، يتعيّن الرجوع إليها، هي
الآتية:
·
البيان في التربية المسيحيّة، الصادر عن المجمع المسكونيّ
الفاتيكانيّ الثاني، والمنشور في الوثائق المجمعيّة.
·
دستور رسوليّ في الجامعات الكاثوليكيّة: من قلب الكنيسة، البابا
يوحنّا بولس الثاني، 15 آب 1990.
·
الإرشاد الرسوليّ: رجاء جديد للبنان[40].
·
النصّ التأسيسيّ أو مجموعة النصوص التأسيسيّة لكلّ مؤسّسة من مؤسّسات
التعليم العالي المارونيّة: أكانت شرعةً، أم قوانين، أم غيرها من النصوص
(محاضرات لمسؤولين في الجامعة، رسائل سنويّة موجّهة إلى أهل الجامعة،
كلمات في مناسبات أو محطّات أساسيّة من تاريخ الجامعة ومسيرتها)... الخ.
85.
فيدعو المجمع مؤسّساتِ التعليم العالي المارونيّة إلى
أن تستوحي من هذه الدراسات عمومًا، وخصوصًا من النصوص المرجعيّة، العناصر
الأساسيّة لصياغة شرعتها. وعليها أن تستوحي من هذه العناصر الأبعاد التي
تكوّن شخصيّتها الخاصّة ورسالتها المميّزة، متذكّرةً باستمرار أنّها:
· جامعة،
· كاثوليكيّة،
· مارونيّة،
· عاملة في وطنٍ هو لبنان،
قائم على ضفاف المتوسّط، في قلب العالم العربيّ، ويواجه معه تحدّيات
مشتركة ومصيرًا مشتركًا في سياق العولمة،
· تؤدّي مهمّتها في
مطلع الألفيّة الثالثة.
86.
إنّ كلّ مكوّن من هذه المكوّنات الخمسة، يتضمّن
مجموعةً من المعطيات، ويرتّب عددًا من المسؤوليّات. فالمطلوب من مؤسّسات
التعليم العالي المارونيّة أن تفكّر في مضمون هذه المكوّنات، وتبعاتها
المختلفة، وأن تسعى لتفي بمقتضيات كلّ مكوّنٍ وبمقتضيات المكوّنات
كافّةً، فلا تَهْمل أحد المكوّنات، ولا تغلّب أحدها. وعليها أن تعي أنّ
هويّتها مركّبة، ودوائر انتمائها متعدّدة: فكيف لها أن تراعي كلّ عنصرٍ
من عناصر هذه الهويّة، وكيف لها أن توفّق بين دوائر انتمائها المختلفة،
في ائتلافٍ تكامليّ خلاّق؟ وكيف لها أن تبقى أمينةً لتراثها وثوابت
التاريخ، وأن تتقبّل في الوقت نفسه معطيات الحداثة وتُسهم فيها؟
سادسًا: على صعيد
أولياء الطلبة
1. تشجيع أبناء الطائفة على طلب التعليم
العالي
87.
يشجّع المجمعُ أبناء الطائفة، إكليروسًا وعلمانيّين، وعلى نطاقٍ
واسع وشامل الفئات الاجتماعيّة كلّها، على الإقبال بهمّةٍ
واندفاعٍ وكثافة على طلب التعليم العاليّ، بأنواعه الثلاثة الأكاديميّ
والتكنولوجيّ والفنيّ – المهنيّ، وفي اختصاصاته المختلفة، وعلى مستوياته
ودرجاته كافّةً. ولأنّ هذا التوجّه جزءٌ من سياسة الكنيسة المارونيّة
التربويّة التي
تكوِّن، على الصعيدَين المدرسيّ والجامعيّ، كلاًّ متداخلاً
ومتكاملاً ومتجانسًا، فيدعو المجمع
إلى أن يُنمَّى في أوساط الشباب، منذ مقاعد
المدرسة، التعطّش إلى المعارف والعلوم، والرغبة في اكتسابها، والتمرّس
بمستلزمات تحصيلها ومتطلّباته.
2. التشجيع
على إنشاء مراكز معلومات وتوجيه
وإرشاد في
مدارس الطائفة ورعاياها
88.
يشجّع المجمع
على إنشاء مراكز معلومات وتوجيه وإرشاد في المدارس التابعة
للطائفة، على غرار ما هو قائم في عددٍ كبير ومتنامٍ من المدارس، لمساعدة
التلامذة في اختيار المسار الأكاديميّ أو التكنولوجيّ أو الفّيّ
– المهنيّ المناسب، وبالتالي الاختصاص الجامعيّ المناسب.
ويدعو
المجمع إلى أن
تولي
الرعايا مراكز الإرشاد
التابعة لها، عنايتها الخاصّة، لتوعية أولياء التلامذة على حقوقهم
وواجباتهم في المجال التربويّ عامّة، وبخاصّة على الصعيد الجامعيّ. فهم،
بصفتهم مواطنين، معنيّون بالشأن التربويّ، ومدعوّون إلى ممارسة واجبهم
ودورهم في الاطّلاع على أوضاع بلادهم التربويّة، وهم قادرون – إذا
اهتمّوا بتجميع المعلومات والمعطيات الضروريّة، وبتكوين الآراء الوافية –
على دعم الدولة
من جهة، ومن جهة أخرى على مساءلتها في أمر السياسة التربويّة التي
تعتمدها، والخطط التي تضعها لتنفيذ هذه السياسة، وقادرون بالتالي على تقويم
هذه السياسة والمشاركة في رسمها أو توجيهها أو تصويبها.
وإنّهم
مسؤولون أيضًا، بصفة كونهم أولياء، عن حُسْن اختيار مؤسّسة
التعليم العالي التي سينتسب أبناؤهم إليها، وعن حسن اختيار المسار أو
الاختصاص الذي سيتابعون تحصيلهم فيه
لذا يشجّع
المجمع المعنيّين على أن يضعوا في متناول الأولياء،
في مراكز الإرشاد التي تُنشئها كنيستنا في رعاياها لهذه الغاية، الأسس
والمواصفات والمعايير التي يمكنهم أن يبنوا عليها تقديرهم لكفاية
المؤسّسة التي يختارونها وجودة تعليمها، وأن تزوّدهم المعلومات
الدقيقة عن الاختصاصات المتوافرة، وشروطها، وفرص العمل التي
تتيحها، ليأتي اختيار المسار أو الاختصاص ملائمًا قدرات كلّ طالب
واستعداداته ومؤهّلاته من جهة، وحاجات المجتمع من جهةٍ أخرى. فلا يبقى
هذا الاختيار، كما هو حاليًّا في الكثير من الحالات، متسرّعًا وعشوائيًّا
ورهنًا باعتبارات خاطئة،
ومساهمًا في تضخيم البطالة أو تفاقم الهجرة، بل يُسهم في تنمية الفرد
بأبعاده وطاقاته كلّها، وفي إسعاده وتأمين مستقبله، ويُسهم في تطوير
المجتمع بقطاعاته ومناطقه المختلفة، وفي تحقيق العدالة الشاملة والإنماء
المتوازن.
سابعًا: على صعيد
الطّلبة
1. إعداد إحصاءات
دقيقة وشاملة عن التعليم العالي
89.
يرى المجمع
أنه قد يكون من المفيد، ولعلّه من الضروريّ، تكليف
مراكز أو هيئات متخصّصة ورصينة بإعداد إحصاءات دقيقة وشاملة عن
التعليم العالي في لبنان، في جوانبه المختلفة عمومًا، وخصوصًا بأعداد
الطلاّب الموارنة، وتوزّعهم على مؤسّسات التعليم العالي، في لبنان
والخارج، وعلى الاختصاصات التي يتابعون تحصيلهم فيها،
إضافةً إلى أعداد الخرّيجين منهم، والمهن التي يتعاطونها، والمراكز التي
يتبوّأونها، والبلدان التي يعملون فيها...
2. العمل على الحدّ من هجرة الأدمغة
90.
لقد برزت، في أثناء الأحداث، ظاهرةُ هجرة
الشباب الجامعيّ، سعيًا وراء تحصيل العلم في مناخاتٍ آمنة. وقد تفاقمت
هذه الظاهرة، في السنوات الأخيرة، رغم إقرار وثيقة الطائف، وذلك لأسباب
شتّى، لعلّ أبرزها الضائقة الاقتصاديّة، وتفشّي البطالة، والشكوى من
الأوضاع السياسيّة التي يفتقر الشباب في ظلّها إلى حريّة التعبير عن
الرأي، وإلى المشاركة في القرار، وإلى
توافر العدالة والمساواة، وإلى تمتّع وطنهم باستقلاله الناجز وسيادته
التامّة.
وغالبًا ما
نبّه المسؤولون عن كنيستنا إلى حدّة هذه الظاهرة وخطورتها. فما أحوجنا
اليوم إلى أن نعي ضرورة حضّ طلاّبنا الذين يتابعون تحصيلهم
الجامعيّ في الخارج، على عدم الاستقرار النهائيّ خارج وطنهم،
وتشجيعهم على العودة إليه، وما أحوجنا أيضًا إلى العمل السريع والجادّ
للحدّ من هجرة الأدمغة.
3. إنشاء صندوق القروض والمِنَح
الجامعيّة للتضامن الاجتماعيّ
91.
لا مسوّغ لاستمرار مؤسّسات التعليم العالي المارونيّة
في ممارسة نشاطها التربويّ إلاّ إذا تميّزت بمستواها العلميّ
الرفيع، ممّا يؤول بها لأن تصبح عمليًّا حكرًا على النّخبة الفكريّة.
ولكنّها ليست حكرًا على أبناء الميسورين، ولا يجوز، من وجهتَي النّظر
المسيحيّة والوطنيّة، أن تتحوّل إلى نادٍ مغلق يُحَرّم الانتساب إليه على
أبناء الفقراء، لاعتبارات ماليّة واجتماعيّة بحتة، على ما يوصي به
الإرشاد الرسوليّ: "فأشجّع الجماعات الكاثوليكيّة على أن تنمّي تضامنًا
حقيقيًّا ما بينها ومع الشباب الذين ترعاهم، كيلا يقطع أيّ شابٍّ تحصيله
لأسباب ماديّة أو ماليّة محض. وفي هذا النطاق، إنّا نقدّر سخاء المؤسّسات
التربويّة والمؤمنين، ونرجو أن يتابعوا التشارك في إطار التنشئة
المدرسيّة والجامعيّة معًا، لصالح تلامذةٍ وطلاّبٍ معوزين، ولصالح
القادمين من مناطق ريفيّة، والذين غالبًا ما يصعب عليهم السكن وتأمين
الضرورات الأوّليّة"[41].
ومن المسلّم
به أنّه ليس بمقدور هذه المؤسّسات أن تعفي طلاّبها من دفع الأقساط التي
ترهق الكثيرين من أهلهم، لأنّ ما تستوفيه منهم
هو الجزء
الأساسيّ من المداخيل التي توفّر لها مقوّمات الصمود والاستمرار، وبعضَ
عناصر التطوّر والنموّ، والشروطَ الماديّة التي لا غنىً عنها في سعيها
إلى بلوغ الجودة. فيتعيّن علينا أن نتّخذ مبادرات عاجلة وفعّالة لدعم هذه
المؤسّسات على الصعيد الماليّ، ولمساعدة الطلاّب الموارنة
المحتاجين في الحصول على المنح والقروض الجامعيّة التي تمكّنهم من تسديد
ما يترتّب عليهم من أقساط في هذه المؤسّسات المارونيّة، أو في غيرها من
مؤسّسات التعليم العالي الخاصّة في لبنان. ولعلّ في طليعة هذه المبادرات
إنشاء صندوق خاصّ لهذه الغاية، يستفيد منه الطلاّب الموارنة المحتاجون،
وتتولّى الإشراف عليه هيئة مختصّة، تقوم بتنظيمه وإدارته ووضع المعايير
لإفادة الطلاّب منه، وتسهر على تنمية موارده، وتتّخذ القرارات التي قد
تراها ضروريّة لمساعدة الطلاّب الموارنة المتفوّقين في الحصول على منح
جامعيّة لمتابعة تحصيلهم العالي أو أبحاثهم العلميّة في الخارج. فلا
يُحرَم طالبٌ مارونيّ يملك المؤهّلات العلميّة المطلوبة، فرصة الالتحاق
بمؤسّسة للتعليم العالي في لبنان، ولا يُحرَم طالبٌ ماروني يتحلّى بكفايات
علميّة مميّزة، من فرصة الالتحاق بأرقى مؤسّسات التعليم العالي أو أبرز
مراكز البحث العلميّ في الخارج.
92.
لقد كانت كنيستنا المارونيّة رائدةً في هذا المضمار،
وقد حفظ تاريخ التربية في لبنان والشرق للمجمع اللبنانيّ
الذي انعقد
العام 1736 في دير سيّدة اللويزة، مأثرته في التوصية بتحقيق مجّانيّة
التعليم وإلزاميّته: "ونحن نحثّ بأحشاء يسوع المسيح كلاًّ من
المتولّين رئاسة الأبرشيّات والمدن والقرى والمزارع والأديار جملةً وأفرادًا
أنْ يتعاونوا ويتضافروا على ترويج هذا العمل الكبير الفائدة عن مزيد
الهمّة والنشاط، نريد بهم الأساقفة والخوارنة الأسقفيّين والخوارنة
ورؤساء الأديار. فيُعنون أوّلاً بنصب معلّم حيث لا يوجد معلّم، ويدوّنون
أسماء الأحداث الذين هم أهل لاقتباس العلم، ويأمرون آباءهم بأن يسوقوهم
إلى المدرسة ولو مكرَهين. وإن كانوا أيتامًا أو فقراء فلتقدّم لهم
الكنيسة أو الدير ضروريّات القوت، وفي حالة تعذّر الكنيسة أو الدير
يُجمَع لهم في كلّ يوم أحد من صدقات المؤمنين ما يفي بمعاشهم. أمّا أجرة
المعلّم فيترتّب جزءٌ منها على الكنيسة أو الدير (شرط ألاّ يكون المعلّم
راهبًا من رهبانه) والجزء الآخر يقوم بدفعه آباء الأولاد"[42].
فنحن مدعوّون اليوم إلى تطبيق مقرّرات المجمع اللبنانيّ
السابق، وإلى الاقتداء بمبادرات البطريركين يوسف اسطفان ويوسف التيّان،
لاستنباط الوسائل العصريّة الكفيلة بتغذية صندوق القروض والمنح
الجامعيّة، ومنها إطلاق حملة تبرّعات واسعة ومبرمجة في لبنان وبلاد
الانتشار، تشمل
إضافةً إلى الأبرشيّات والرعايا المارونيّة، الهيئات والجمعيّات
والمنظّمات والمجالس والرّابطات المارونيّة، والشركات والمصارف التي
يملكها أو يديرها موارنة، وشبكة أصدقائهم ومعارفهم. ومنها أيضًا التشجيع
على إحياء التقليد الذي درجت عليه العائلات المارونيّة والمتمثّل في
الوقفيّات، ولكن بصيغته العصريّة المتجسّدة في المؤسّسات.
ثامنًا: على صعيد
الأساتذة الجامعيّين الموارنة
93.
يُجْمِع المعنيّون بأمور التعليم
العالي على أنّه يقوم، بصورة
أساسيّة، على عاتق الأساتذة، ويرون أنّ دورهم لا يقتصر على نقل
المعارف إلى طلاّبهم وإكسابهم المهارات، بل يشمل أيضًا تثقيفهم، وتنشئتهم
المدنيّة، وتنمية المواطنيّة فيهم، وتوعيتهم على القيم الإنسانيّة
والأخلاقيّة والروحيّة، ويُبرزون تأثيرهم القويّ فيهم. ونجد في الرسائل
التي وجّهها يوحنّا بولس الثاني إلى الأساتذة الكاثوليك، وفي الكلمات
التي ألقاها في مؤتمراتهم، اعترافًا من الكنيسة بخطورة شأن الرسالة التي
يؤدّونها من جهةٍ أولى، وتحديدًا للمبادئ التي تدعوهم إلى أن يستوحوها في
ممارسة هذه الرسالة من جهةٍ ثانية[43].
فكيف السبيل
إلى مساعدة الأساتذة الجامعيّين الموارنة في تجسيد حضور الكنيسة المشرق
والفاعل في التعليم العالي؟
يقود هذا
السؤال إلى التفكير في مسؤوليّة كنيستنا المارونيّة تجاه أبنائها من
الأساتذة الجامعيّين، وفي التزام هؤلاء الروحيّ ومسؤوليّاتهم الكنسيّة.
وقد يكون المنطلَق السليم للتأمّل في هذا الموضوع، التذكير بحقيقتين
متلازمتَين: - أمّا الحقيقة الأولى فمفادها أنّ الكنيسة مسؤولة عن هذه
الفئة المستنيرة من أبنائها، وهي مسؤولة أمام الله والطائفة
والوطن عن تثمير وديعة الإيمان فيهم، وعن تعميق التزامهم الروحيّ، وعن
ترسيخ انتمائهم الكنسيّ – وأمّا الحقيقة الأخرى فمفادها أنّ
الأساتذة بدورهم مسؤولون أمام الله والطائفة والوطن، عن الوزنات الكثيرة
التي وُهبت لهم، ومطالَبون بأن يساعدوا طلاّبهم، من خلال تعليمهم
وأبحاثهم، وفي الأمانة المطلقة لمستلزمات العمل الأكاديميّ الجامعيّ، في
الانفتاح على القِيَم الروحيّة، ومطالَبون أيضًا بأن يشهدوا
على تكامل العقل والإيمان.
94.
في ضوء هذا كلّه، يوصي المجمع بأن
تهتمّ الكنيسة بتنشئتهم المسيحيّة وحياتهم الروحيّة، فتؤمّن لهم
المرشدين الكفوئين، والأطر الملائمة، والبرامج المناسبة، فيتعرّف
الأساتذة، بما يتناسب مع درجاتهم العلميّة، بعقائد أيمانهم،
وتاريخ طائفتهم، ويَحيَون إيمانهم، ويعون،
من دون عُقَد، شرف انتمائهم إلى تراثٍ عريق وجماعةٍ حيّة، ويسعون
إلى أن يفوا بتَبِعات هذا الانتماء.
95.
ويوصي المجمع بإنجاز إحصاءٍ للأساتذة
الجامعيّين والعلماء والباحثين الموارنة، وإعداد لوائح مفصّلة وموثّقة
بهم، وفق اختصاصاتهم، وتبعًا لتوزّعهم على مختلف مؤسّسات التعليم العالي
ومراكز الأبحاث في لبنان، والعالم العربيّ، وسائر بلدان العالم.
96.
ويوصي المجمع بالتشّجيع على تأليف روابط أو شبكات تجمع بينهم[44].
وليس المقصود بالطبع إنشاء تجمّعات ذات طابع طائفيّ،
بل المقصود أن يتلاقى، في إطار هذه الروابط أو الشبكات، أساتذةٌ
وعلماء وباحثون تجمع بينهم شراكتان: الشراكة العلميّة المتمثّلة في
اختصاصهم الواحد، والشراكة الروحيّة المتمثّلة في إيمانهم الواحد.
والغاية من هذه الروابط، أن تؤمَّن للأساتذة المعنيّين الأطرُ
المنظّمة لتبادل الخبرات، والمشاركة في التفكير في الإشكاليّات التي
تثيرها الاختصاصات التي يدرّسونها، وفي التحدّيات التي يواجهونها في
ممارسة مهنهم وأبحاثهم وأخلاقيّاتها وآدابها، وذلك في ضوء معطيات العلم،
ومبادئ إيمانهم المسيحيّ، والتزامهم المارونيّ. فمن شأن اجتماع الأساتذة
الجامعيّين والعلماء والباحثين الموارنة في إطار هذه الروابط، أن يؤتي
ثمارًا خيّرة على مختلف الأصعدة: الفكريّ، والمهنيّ، والوطنيّ، والروحيّ،
وأن يعزّز فيهم روح الزمالة، وينسج بينهم شبكة صداقات، وينمّي عندهم روح
التعاون وثقافة المشاركة والعمل المؤسّساتي.
97.
إنّ كنيستنا زاخرة بالأساتذة الجامعيّين، وهم
يكوّنون نُخبةً كبيرة ومنوّعة من الكفايات والطّاقات، يمكن
الكنيسة أن تفيد منها في مجالات مختلفة. فعلى صعيد النشاط الجامعيّ،
يوصي
المجمع بإشراكهم في إطار الرعايا الجامعيّة حيث لشهادتهم ثقلها
ووقعها. وعلى صعيد الأبرشيّات والرعايا، يوصي
المجمع بإشراكهم في مجالسها. ولكنّ مجال الإفادة من علومهم
وخبراتهم وأبحاثهم يتجاوز النطاق الجامعيّ والأبرشيّ والرعويّ إلى الصعيد
الوطنيّ. فكلّنا يعرف أنّ كنيستنا المارونيّة مدعوّة باستمرار لإبداء
رأيها في الكثير من الشؤون العامّة[45].
فمَن أَوْلى من الأساتذة الجامعيّين الملتزمين، بإعداد الدراسات، ووضع
التقارير، وتقديم الاقتراحات، التي تستطيع السلطات الكنسيّة المعنيّة أن
تبني عليها مواقفها وخياراتها؟
98.
وتلتقي هذه الدعوة إلى إشراك الأساتذة الجامعيّين
الموارنة في الرأي والقرار،
الدعوةَ الملحّة إلى إشراك العلمانيّين التي
أطلقها المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، في الفصل
الرابع من دستور عقائدي في الكنيسة[46]،
والإرشاد الرسوليّ في الفصل الثالث[47].
فإنّنا مدعوّون – رعاةً وأساتذة جامعيّين – إلى أن نعي مسؤوليّاتنا
المشترَكة، وإلى أن نتشرَّب مبادئ ثقافة المشاركة،
والتمرّس بتطبيقها، وفق روح الإنجيل. بل نحن مدعوّون إلى إحياء تقليدٍ
مارونيٍّ راسخٍ وتفعيله وتحديثه. فلقد دأبت كنيستنا، على مدى حقبات طويلة
من تاريخها، على إشراك العلمانيّين الموارنة في المشورة والرّأي
والقرار، في شؤون الطائفة الكبرى كلّها، بما في ذلك انتخاب بطاركتها
وأساقفتها.
تاسعًا: على صعيد
الانتشار المارونيّ
99.
يوصي
المجمع بـ:
أ.
إنشاء رابطة للأساتذة الجامعيّين الموارنة، في كلّ دولةٍ من دول
الانتشار، وإنشاء اتّحادات قارّيّة ودوليّة لهذه الرابطات.
ب.
إنشاء رابطة للطلاّب الجامعيّين الموارنة، في كلّ دولةٍ من دول الانتشار،
وإنشاء اتّحادات قارّيّة ودوليّة لهذه الرابطات.
ج. تكليف
لجنةٍ مختصّة التقصِّي عن المغتربين الموارنة المجلّين في
مجالات عملهم الأكاديميّة أو المهنيّة، والعمل على استضافتهم في الجامعات
المارونيّة، للإفادة من خبراتهم ولإعادة ربطهم بوطنهم وكنيستهم.
د.
تنظيم مؤتمرات يشارك فيها طلاّب وأساتذة موارنة من بلاد الانتشار.
ه.
تأسيس شبكتَين على الانترنت:
·
Maronite university professors network (MUPN)
·
Maronite students network university (MUSN)
و.
تخصيص مِنَح جامعيّة لأبناء موارنة الانتشار.
ز.
تعليم لغات بلدان الانتشار الرئيسيّة في الجامعات المارونيّة، وهي،
إضافةً إلى الإنكليزيّة، الإسبانيّة والبرتغاليّة.
ح.
السعي إلى أن تكون اللغة العربيّة اللغة الأجنبيّة
التي يختارها طلاّب التعليم العالي الموارنة في الجامعات التي يتابعون
فيها دراستهم في بلاد الانتشار.
خاتمة
100.
لقد تغيّرت مسوّغات طلب التعليم العالي عمّا كانت
عليه أيّام المدرسة المارونيّة في روما، وتغيّرت أهدافه، وسُبل تأمينه،
ومؤسّساته، ومناهجه، وطرق تدريسه، وأساليبه، ومستلزماته... لا بل شهد عقدُ
التسعينيّات في أواخر القرن العشرين، ونشهد حاليًّا
في مطلع القرن الحادي والعشرين،
تحوّلات جذريّة في مفاهيم هذا التعليم وأهدافه
ومتطلّباته وآليّات عمله، لأسباب شتّى تُسهب أدبيّاتُ
اليونسكو في عرضها وتحليلها ودراسة نتائجها، فلا حاجة إلى التوسّع فيها.
أمّا الأمر الثابت فهو أنّه يتعيّن على الموارنة أن يثابروا على
تحصيل التعليم العالي وإسدائه، وأن
يستمرّوا، كما كانوا، روّادًا في طلبه، في
أرقى مؤسّساته، وروّادًا في تأمينه، في مراكزَ مشهودٍ لها
بالامتياز، مترسّمين في ذلك خطى تلامذة المدرسة المارونيّة في روما
وتلامذة مدرسة عين ورقة،
فيزدادوا تأصُّلاً في تراثاتهم إذا عرفوها بعمق وأحبّوها بصدق
وحافظوا عليها بأمانة، ويكمِّل الأبناء، على غرار الآباء، مسيرة الترقّي
الفكريّ والثقافيّ والحضاريّ والإنسانيّ بتوارُث المعرفة ونقدها
وتطويرها.
101.
التعلّم من أجل الآخرين وفي سبيل خدمتهم، هذا هو
المبدأ الجوهريّ الذي نستخلصه من دراسة علاقة الموارنة بالتعليم العالي،
في القرون الماضية، كثابتةٍ وكعِبرة. فعلينا أن نفهم الإنجازات
الكبيرة التي حقّقها تلامذة مدرسة روما، وتلامذة مدرسة عين ورقة بعدهم،
ودورهم الرّائد في نهضة لبنان والعالم العربيّ، في ضوء الرسالة التي
نذروا أنفسهم لحمل مشعلها، وبوَحْي روح الانفتاح المسيحيّ الذي
حمل الموارنة على تجاوز الذات لملاقاة الجماعة، وعلى الانطلاق من الطائفة
إلى رحاب الوطن، وعلى الإشعاع من لبنان على البلدان المجاورة، بل على دول
الشرق كافّةً. ولا بدّ لكلّ تجديدٍ روحيٍّ وتربويٍّ، مع مراعاة تبدّل
الأزمنة واختلاف المفاهيم والمعطيات والأهداف، أن يستلهم هذه المبادئ
ويكون أمينًا لهذه الروح، لأنّ في التنكّر لها، أو في الإخلال بتبعاتها،
خيانةً لتاريخٍ عريقٍ ومشرق، ونسيانًا لما يترتّب على الموارنة من
دورٍ متجدّد، مميّز وفاعل على مستوى التعليم العالي، في المستقبل. |