زمن العنصرة - تابع
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
العنصرة 1   العنصرة 2
التنشئة المسيحية 2005 - 2006  
  • العنصرة 1 - من عيد العنصرة الى الاحد السابع من زمن العنصرة
  • العنصرة 2 - من الاحد الثامن من زمن العنصرة الى الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة
  1. تقديم
  2. عيد العنصرة - حلول الروح القدس متواصل في حياة المؤمنين والكنيسة
  3. عيد الثالوث الاقدس - الرسالات الالهية ورسالة الكنيسة
  4. الاحد الثالث من زمن العنصرة - الشركة مع الله وبين الناس
  5. الاحد الرابع من زمن العنصرة - الكنيسة في بعدها الرسالي والليتورجي والاسكاتولوجي.
  6. الاحد الخامس من زمن العنصرة -  الوجود المسيحي لصُنع الحقيقة في المحبة
  7. الاحد السادس من زمن العنصرة - مرسلون للشهادة لانجيل الخلاص
  8. لاحد السابع من زمن العنصرة - الرسالة المسيحية متأصلة في الكهنوت العام
     
  9. الاحد الثامن من زمن العنصرة - الهوية المسيحية والرسالة المسيحانية
  10. الاحد التاسع من زمن العنصرة - المشاركة في الرسالة المسيحانية
  11. الاحد العاشر من زمن العنصرة  - عيد تجلي الرب يسوع
  12. الاحد الحادي عشر من زمن العنصرة - المسيح  على موعد مع كل انسان
  13. الاحد الثاني عشر من زمن العنصرة - الايمان وكرامة المرأة
  14. الاحد الثالث عشر من زمن العنصرة - كلمة الله حيّة وفاعلة
  15. الاحد الرابع عشر من زمن العنصرة - الجوع الى كلمة الله
  16. الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة - محبة الله والانسان

 

 

الاحد الثامن من زمن العنصرة

انجيل القديس متى 12/14-21

الهوية المسيحية والرسالة المسيحانية

 

       يعطي هذا الانجيل ملامح هوية المسيح والكنيسة وملامح الرسالة المسيحية. وهي هوية تعطيها مسحة الروح القدس، ورسالة يقودها الروح عينه، وتندفع بنعمة المسيح الحاضر ابداً في الكنيسة. هذه الهوية والرسالة قالهما يسوع عن نفسه ليشدّد المؤمنين والكنيسة بوجه الاضطهادات والمصاعب، عندما "خرج الفريسيون وتشاوروا عليه ليهلكوه، انصرف من هناك وتبعه كثيرون فشفاهم جميعاً" ( متى 12/14-15).

 

اولاً، الهوية المسيحية والرسالة

 

1.                                            الهوية المسيحية

 

" هوذا فتاي الذي اخترته... سأجعل روحي عليه" ( متى 12/18).

انها نبؤة اشعيا عن المسيح النبي والكاهن والملك، الذي يجسّد في شخصه ملامح الشعب المسيحي وافراده. تندرج هذه النبؤة في ما يسمى بالاناشيد الاربعة عن المسيح والشعب المسيحاني، نجدها على التوالي في سفر اشعيا: 42/1-4؛ 49/1-6؛ 50/4-9؛52/13-53).

يسمي الله الآب ابنه الوحيد الذي سيرسله مخلصاً وفادياً: " فتاي الذي اخترته. حبيبي الذي رضيت به نفسي". لفطة " فتاي" تعني حسب اللفظة العبرية الاصلية " عبدي" بمعنى عابدي، من فعل " عَبَدَ" لا "استعبد"، الذي اخترته انا الله وهو حبيب نفسي، ليكون معاوني وخادم محبتي لدى جميع الامم. ولهذا اطلق يسوع على نفسه لقب " الخادم"، عندما اعلن للتلاميذ: " انا بينكم كالخادم" ( لو22/27). ودعا كل من اراد ان يكون الاول في الجماعة، ليكون خادم الجميع ( مر10/43-44). ومريم العذراء عندما اعلن لها الملاك جبرائيل ارادة الله بأن تكون اماً لابن العلي الذي سيجلس على عرش داود الى الابد، قالت: " انا خادمة الرب" ( لو1/38).

تحققت نبؤة اشعيا في يسوع يوم معموديته في نهر الاردن ( متى3/16-17)، وعند تجليه على جبل طابور ( مر9/2-7). فمسحة الروح القدس، مكرساً اياه، في بشريته، نبياً وكاهناً وملكاً، كما قال يسوع عن نفسه في مجمع الناصرة ذات يوم: " روح الرب عليّ مسحني وارسلني" ( لو 4/18).

ان مسحة الروح التي انسكبت على يسوع الرأس، انسكبت ايضاً على اعضاء جسده السرّي الذي هو الكنيسة، يوم العنصرة ( اعمال2/3-4)، جاعلاً منها جماعة خلاص ووساطة شاملة. وتحققت المسحة عينها في كل مؤمن بالمسيح بواسطة المعمودية والميرون، فيحمل اسم " مسيحي" اي الممسوح بمسحة الروح في هويته، والمكرّس لرسالة مسيحانية في العالم، هي رسالة خلاص وتحرير وعدالة، من خلال المشاركة في رسالة النبؤة والكهنوت والملوكية.

ان الذين قبلوا المسيح بالايمان واعتمدوا بالماء والروح، قد " اعطاهم القدرة ليصيروا ابناء الله" (يو1/12). هذه هي هوية المسيحي التي ينبغي ان ينمو وينضج يوماً فيوماً، في صيرورة دائمة. بالمعمودية نال " القدرة" التي تجعله ابن الله، في  تكوينه (in facto esse)، ولكن بالممارسة، اي بقبول كلام المسيح كل يوم، ونعمته الشافية من سرّي التوبة والافخارستيا بشكل دؤوب، " يصير" يوماً بعد يوم ابناً لله ( in fieri) بالابن الوحيد وعلى مثاله. " القدرة" من دون " ممارسة" تتبخر مع الزمن وتضيع. ذلك ان "القدرة" تنطوي على امكانية النمو والنضوج، ولهذا تقتضي " ممارسة" هي الالتزام بالعبور من الكينونة الجامدة الى دينامية الحياة المسيحية وصيرورتها بالممارسة، على مستويين. النمو في حياة الايمان المسيحي، بالسعي، من خلال التنشئة المسيحية، الى معرفة " ما يجب ان نؤمن به"، والى تطبيق مضمون المعرفة والايمان في حياتنا الزمنية اليومية، ملتزمين هكذا " بما يجب ان نعمل" ، على المستوى الخلقي، اعني الالتزام بالصلاح وتجنّب الشر. هذا الالتزام يقتضي منا ان نطرح كل يوم سؤال ذلك الشاب ليسوع: " ايها المعلم الصالح، ما الذي يجب ان اعمل من الصلاح لارث الحياة الابدية ؟" ( متى 19/16).

 

2.                                            الرسالة

 

" يعلن البّر للامم" ( متى12/18).

ان نبؤة اشعيا ( 42/1-4)، التي طبّقها متى الانجيلي على يسوع ( متى12/17-21) تكشف مضامين الرسالة المسيحانية في ابعاد مسحة الروح المثلثة: النبؤة والكهنوت والملوكية.

انها رسالة النبؤة بالنطق بكلام الله، كرازة وتعليماً  وشهادة حياة، بصبر وثبات، في وقته وغير وقته (2 تيطس 45/2)، برجاء تجلي مجد الله وغَلَبة ارادته وحقيقته على قوى الشر والضلال، " حتى ينتصر العدل" (متى12/20).

وهي رسالة الكهنوت بهبة الذات وبذلها في سبيل خير جميع الناس، بروح العبادة لله وبالصلاة وبأنات لا توصف ( روم 8/26)، وبالتواضع واخلاء الذات، " فلا يماحك، ولا يصيح، ولا يسمع احد صوته في الشوارع" ( متى 12/19).

وهي رسالة الملوكية بتوطيد العدل والخير على الارض في كل الوجوه الروحية والخلقية والقضائية والاجتماعية، وبنصرة الضعيف وهداية المتردد: " قصبة مرضوضة لا يكسر، وسراجاً مدخناً لا يطفىء" ( متى12/20). فتصبح الرسالة محطّ رجاء اذ "على اسم يسوع المسيح تتكل الامم" (متى12/21).

هي الكنيسة، "عبد الله" الجديد المختار، المعمدة بمسحة الروح يوم العنصرة، قد وضعت علامة رجاء واداة لجميع الشعوب. انها من اجل العالم، وبخاصة من اجل الفقراء والمتألمين. ان دعوتها النبوية تستحثها لشهادة جريئة، ملأى بالرجاء، بوجه العبودية والاستضعاف، وضدّ الخطيئة والشر، صوناً للحقيقة التي تجمع وتحرر، وتعزيزاً للعدل والانصاف، لكي ينعم كل انسان وكل شعب بحقوقه الاساسية، ويحقق ذاته بالنمو الشامل، فيعّم السلام المجتمع البشري.

ان الكنيسة، بمسيحييها ومؤسساتها، مدعوة، بحكم هويتها ورسالتها، لأن تعنى بكل انسان وكل الانسان. فكم من اخوة معوزين ينتظرون مساعدة، وكم من اخوة مظلومين ينتظرون عدالة، وكم من عاطلين عن العمل ينتظرون عملاً، وكم من شعوب ينتظرون احتراماً. ان الشرع الطبيعي، المكتوب في قلب الانسان، والمعزّز بوصايا الله العشر ( خروج 19-24؛ 34/28؛ تثنية 4/13؛10/4)، يقتضي الالتزام بهذه الدعوة. فالوصايا العشر تعلّم انسانية الانسان، وتشكّل القواعد الاولية لكل حياة اجتماعية، وتسلّط الضوء على الواجبات الجوهرية، وبشكل غير مباشر، على الحقوق الاساسية المرتبطة بطبيعة الشخص البشري، وتحدّد الشروط الأسلم لوجود انساني متحرر من عبودية الخطيئة والشر، وتفتح الطريق الى الحياة الابدية (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1070؛ البابا يوحنا بولس الثاني: تألق الحقيقة،97). على سؤال ذاك الشاب " عما يجب ان يعمل من الخير ليرث الحياة الابدية"، اجاب يسوع: " احفظ الوصايا" ( متى19/17).

في هذا العالم المتعدد الاديان والثقافات عامة، وفي عالمنا اللبناني والمشرقي خاصة، المسيحيون  مدعوون، في انجيل اليوم، الى اتخاذ مواقف ومبادرات وتدابير تعزيز العيش معاً بين المسيحيين والمسلمين وسواهم.

ينبغي علينا نحن المسيحيين ان نعيش هويتنا المسيحية بكل ابعادها، كما انكشفت لنا في كلام الرب، وهي الوصية الاولى للكنيسة الناشئة: " وتنالون قوة من فوق، بحلول الروح القدس، وتكونون لي شهوداً في اورشليم واليهودية والسامرة، حتى اقاصي الارض" ( اعمال 1/8).

ومن صميم رسالتنا القيام بمبادرات حوار على مستوى الحياة والثقافة والقيم الروحية والاخلاقية والمصير. هذا الحوار يهدف، على المستوى الوطني، الى وضع تشريعات تحمي حقوق الجميع، مسيحيين ومسلمين وسواهم، والمساواة فيما بينهم في جميع البلدان المسماة مسيحية او اسلامية. فثمة اليوم في العالم، مع حركة الهجرة والتهجير والتحرك الثقافي والتجاري والاقتصادي والسياحي، مجموعات واقليات من المسلمين يعيشون في بلدان الغرب حيث الديانة المسيحية هي  الاكثرية، ومجموعات واقليات مسيحية تعيش في البلدان الاسلامية، حيث الاغلبية من المسلمين. فلا بدّ من الفصل بين الدين والدولة، مع المحافظة، على العلاقة والتعاون بينهما. فالاثنان يسعيان، كل بوسائله الخاصة، الى الخير العام الذي هو خير الانسان وكل انسان وكل الانسان. ان الخلط بين المحيط الديني والمحيط السياسي ينتهي الى تداعيات الحرية الدينية سواء لدى المواطنين الاصليين ام لدى المهاجرين. من الضرورة انضاج فكرة التمييز بين هذين المحيطين، وتعزيز  استقلاليتهما مع التعاون بينهما، وتفعيل الحوار بين السلطات الدينية والسلطات السياسية، باحترام الصلاحية الخاصة بكل منهما والاستقلالية المتبادلة، وبانشاء افضل العلاقات بين هذه السلطات. مثل هذا التعاون والحوار يكفل احترام الاقليات والحقوق الانسانية، وبخاصة الحرية الدينية التي تشمل حرية ابدال الدين، من غير قسر، بمصير مستنير، ومنزّه عن اي مصلحة شخصية تستغل امكانية هذا التبديل، كأن يحصل على طلاق او يحرم من ارث او يسعى الى مكاسب مادية( محاضرة المطران Giovanni Lajolo في الجمعية العمومية للمجلس الحبري لراعوية المهاجرين 15-17 ايار 2006).

 

ولا يمكن باي شكل من الاشكال ان يُستغل الدين لتبرير الارهاب والعنف.

ولا يجوز، من باب العدالة والانصاف والمساواة، ان يخضع الزواج المختلط بين مسيحيين ومسلمين لترتبات قانونية وممارسات قضائية، يكون فيها فريق أضعف وغير قادر على حماية حقوقه، بسبب الاغلبية الدينية في هذه او تلك من البلدان. هذه الممارسات والترتيبات تزول اذا قام حوار مسؤول بين السلطات، يؤكد قيم الاحترام المتبادل، والتضامن، والسلام، وقدسية الحياة، وخدمة القيم الاخلاقية الاساسية والدفاع عن كرامة الشخص والحقوق الناتجة عنها ( خطاب البابا بندكتوس السادس عشر الى الجماعات المسلمة في المانيا، كولونيا في 20 آب 2005).

ان وسائل الاعلام التابعة للكنيسة تساهم اسهاماً كبيراً في تنشئة المسيحيين على هذا الصعيد، وفي نشر معرفة ايماننا بين الذين نعيش معهم، من خلال برامج منظمة لهذه الغاية. وينبغي ان يحتل هذا الموضوع مكانة في التعاون المسكوني بين الكنائس، وفي الحوار بين الاديان والثقافات لما لهما من ضرورة حيوية يرتيط بها الى حدّ كبير مستقبلنا المشترك.

ان نجاح الرسالة، في كل ابعادها مضمون من المسيح الذي يمسك بيده الخفية مقاليد التاريخ، وهو القائل: " انا معكم طول الايام الى انتهاء العالم" ( متى28/  ).

 

3.                                            وجوه عاشت مسحة الروح

 

تحتفل الكنيسة في هذا الاسبوع بقديسين عاشوا مسحة الروح والرسالة، تضعهم قدوة لنا ونموذجاً:

القديسة مارينا راهبة قنوبين ( 17 تموز) عاشت مقتضيات معموديتها بالتقوى والصلاة: " روح الرب عليّ مسحني". وصبرت على التهمة البريئة والظلم وانتهاك كرامتها اربع سنوات : " لا يماحك ولا يصيح"، حتى انجلت حقيقتها وظهر العدل في قداستها وتبرئتها: " الى ان يُعلن البّر للامم" ( الرسالة الملوكية والرسالة الكهنوتية).

مار الياس الحي ( 20 تموز) اخلص لله بغيرة اذكاها فيه روح الرب الذي كان عليه وجعله يقول:  "غرت غيرة للرب". وكان يقوده الروح، بشخص ملاك من مكان الى مكان، حمايةً له من ظلم الملك آحاب وزوجته ايزابيل ومن كل الذين نبذوا عهد الله وقوّضوا مذابحه وقتلوا انبياءه بالسيف" ( 3 ملوك  ). وارسل اليه قوتاً وماء في البرية بواسطة غراب. ودافع عن العدالة لصالح نابوت وحارب ظلم الملك الذي قتله ليستولي على كرمه. فظهرت عدالة الرب وغضبه على آحاب وايزابيل ( الرسالة الملوكية).

مار نهرا ( 22 تموز) الوثني آمن بالمسيح واعتمد فامتلأ من الروح القدس الذي انار عقله وقلبه، وراح هو يبشر بالانجيل ويرد الوثنيين الى الايمان بالمسيح. أمسى نوهرا بمثله وكرازته نوراً للعقول وهدياً الى كل خير وصلاح، فلٌقب باسم " نوهرا" لفظة سريانية تعني النور، و" لوشيوس" باللاتينية (الرسالة النبوية).

 

ثانياً، الخطة الراعوية

 

الآن وقد نُشرت نصوص المجمع البطريركي الماروني وتوصياته، نحن امام مسؤوليتين: الاولى، تقبل النصوص والتفكير معاً فيها بغية خلق فكر حضاري؛ الثانية، العمل على تطبيق هذه النصوص والتوصيات، بحيث يترجم الفكر الحضاري بالاعمال والمواقف. هذان المستويان يشكلان الخطة الراعوية الاسبوعية. وبما ان زمن العنصرة هو زمن الكنيسة، سنتناول تباعاً حضورها في عالم اليوم، بدءاً من النص 16 وعنوانه: " الكنيسة المارونية والتربية – التعليم العام والتقني" ( المجمع البطريركي الماروني، صفحة 545-600).

1. نقرأ في هذا النص ان الميزة الاولى للتربية، منذ القديم، هي بعدها الشخصي اي العلاقة الشخصية بين التلميذ ومعلمه، بحيث ان المعلم يجسّد في ذاته كل ما يبغي ان ينقله الى تلاميذه، فيصبح على مثال المسيح، المعلم الاول، القدوة الحيّة التي يتمثل بها التلميذ ليبني ذاته. هذه حال القديس مارون واهل زمانه: هو لم يؤسس كنيسة، بل كان المعلم الروحي المسيحي في المدى الانطاكي. هذه الروحانية التي جمعتهم كانت في اساس قيام الكنيسة المارونية بعد حوالي ثلاثماية سنة (النص المذكور، 3).

تقتضي الخطة الراعوية ان كل جماعة رعائية وديرية وتربوية وعائلية تستعرض نشأة المدارس في الكنيسة عامة والمارونية خاصة منذ مدرسة انطاكية في الجيل الرابع حتى المجمع اللبناني ( 1736)، مروراً بالمدرسة المارونية في روما سنة 1584، واول مدرسة اكليريكية مارونية في دير سيدة حوقا، قرب اهدن سنة 1624(النص 16، عدد3-5). فتستعيد الى الذاكرة كيف ان تنشئة الكهنة والمؤمنين كانت تتم على يد تلامذة القديس مارون الذين، وقد تخمروا بتعليم مدرسة انطاكية والآباء السريان، نشروا الايمان من خلال اديارهم وكنائسهم التي شكّلت مدارس للمؤمنين ومعاقل لنشاطهم الديني والاجتماعي والثقافي.

في ضوء هذه الذاكرة، لا بدّ من ان يتساءل القيمون على التربية في العائلة والمدرسة والدير والرعية حول بعدهم الشخصي في عيش ما ينقلون الى الاجيال الجديدة. " فالناس بحاجة الى شهود اكثر منها الى معلمين" ( البابا بولس السادس).

2. يوصي المجمع البطريركي الماروني الابرشيات والرهبانيات " بالاستمرار في فتح المدارس، لما لها من دور اساسي في رسالة الكنيسة وانتشارها ونموها"، وهي رسالة اعلان الحقيقة النابعة من الانجيل وتثقيف الايمان وتهذيب الاخلاق بالقيم الانسانية والاجتماعية والوطنية.

هل المدارس القائمة حالياً تحمل هذه الرسالة؟ اية تدابير ينبغي اتخاذها لحماية الرسالة من ضمن البرامج الرسمية، ووسط المصاعب المتنوعة؟

 

صلاة

ايها المسيح يسوع، لقد تركت لنا ولكل الاجيال ذاتك قدوة، نبياً  وكاهناً وملكاً بامتياز. فأنت المعلم والكلمة، وانت الكاهن والذبيحة، وانت الملك والمملكة. لقد علمتنا بمثلك اولاً ثم بتعليمك. افتديتنا بذبيحة ذاتك على صليب الجلجلة. واحببتنا حتى النهاية تاركاً لنا وصية المحبة المبنية عليها كنيستك، هذه المملكة التي تدوم الى الابد. اعطِ المعلمين والمربين في العائلة والمدرسة والرعية ان يبلغوا هم اولاً الى معرفتك الهادية ونعمتك الشافية ومحبتك المنعشة، لكي يحسنوا التعليم والتربية، ويصلوا باجيالنا الطالعة اليك، كما وصلوا هم. لك المجد ولابيك المبارك وروحك الحي القدوس الى الابد، آمين.

 


الاحد التاسع من زمن العنصرة

انجيل القديس لوقا 4/14-21

المشاركة في الرسالة المسيحانية

 

مسحة بشرية يسوع المسيح بالروح القدس شملت كل اعضاء جسده، على قياس قامة ملء المسيح  (افسس 4/13؛ اعمال 2/36)، فكان " المسيح الكامل" او بتعبير القديس اغسطينوس " المسيح الكلي"  (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 436). هذه ملامح جديدة من وجه الكنيسة واعضائها في زمن العنصرة، المعروف بزمن الكنيسة.

 

اولاً، مسحة الروح والرسالة المسيحانية

 

1.                                       مسحة الروح القدس

" روح الرب عليّ مسحني..."

 هذه نبؤة اشعيا عن المسيح المنتظر حسب وعد الله بلسان الانبياء. انه ابن الله الذي اخذ الطبيعة البشرية، " فمسحة الآب بالروح القدس" ( اعمال 10/37)، وملأ بشريته كلها وجعله " المسيح" المرسل من لدن الآب، والمكرّس لرسالة خلاص الجنس البشري. ان ابن الله المولود من الآب منذ الازل، وغير المخلوق، اصبح اسمه في التاريخ " يسوع المسيح". " يسوع" هو الله الذي يخلّص ( متى1/21)، و "المسيح" هو الذي مسحه الآب بالروح القدس، وارسله لتدشين ملكوته في العالم بوصفه نبياً وكاهناً وملكاً بامتياز (التعليم المسيحي، 436). واللفظتان في الاساس عبريتان- اراميتان.

لم يمسح يسوع بالزيت المادي بل بالروح القدس نفسه. استُعمل الزيت في العهد القديم لتكريس الملوك، مثل داود والكهنة واحياناً الانبياء؛ وفي العهد الجديد لتكريس المعمدين والمثبتين والمرضى وذوي الدرجات المقدسة. وكانت تستعمل مسحة الزيت غير المقدسة لتطهير الجسم وتقوية العضلات، ولجعل الجسم مشعاً بالجمال والصحة والقوة. وراحت الكنيسة تستعمل زيت الميرون المقدس ( chrism)، الذي يشتق منه اسم المسيح (Christus) والمسيحي ( Christianus) حسب الاصل اليوناني- اللاتيني، كعلامة لعطية الروح القدس وفعله في النفس، فعل الزيت في الجسد. لكن الروح يعطى بوضع اليد الكهنوتية، ويعطي مواهبه السبع: الحكمة والفهم والمعرفة لتعضد ايمان المؤمن وعقله بالمعرفة الالهية والرؤية السليمة؛ المشورة والقوة لتعضدا رجاءه وارادته في اتخاذ القرارات والخيارات والثبات فيها؛ التقوى ومخافة الله لتعضدا محبته وقلبه في السعي الى الخير ومرضاة الله.

عندما يُمسح المعّمد بالميرون، يُطبع بطابع المسيح الذي هو نفسه " طُبع بخاتم الآب" ( يو6/27)، ويصبح مسيحياً اي انساناً وضع عليه الآب ختم ابنه يسوع، وافاض روحه القدوس في قلبه كضمانة ( 2كور1/21-22؛ افسس1/13؛4/30)، وجعله خاصة المسيح الكاملة، وادخله في خدمته الدائمة، واشركه في  رسالته المسيحانية، بحيث تصبح حياته " رائحة المسيح الطيّبة" ( 2 كور2/15)، ووعده بالحماية الالهية في صراعه ضد قوى الشر ( رؤيا7/2-3؛ 9/4؛  حزقيال9/4-6؛ التعليم المسيحي 1294-1296). الختم الذي يطبع به المعمّد، عندما يمسح بالميرون، هو رمز لشخص المسيح وسلطته، فيصوّره الروح القدس على مثال المسيح، ممسوحاً بالنبؤة والكهنوت والملوكية (التعليم المسيحي 1297).

عندما طبّق الرب يسوع على نفسه نبؤة اشعيا: " روح الرب علي مسحني"، اشار الى انه ممتلىء من الروح القدس" فالعذراء امه حبلت به بالروح القدس، والروح اعلنه بلسان الملاك يوم ميلاده " المسيح الرب" ( لو2/11)، وألهم سمعان الشيخ الحضور الى الهيكل ليعاين " مسيح الرب" ( لو2/26)، والروح القدس عضده في صومه اربعين يوماً واربعين ليلة، وفي انتصاره على تجارب الشيطان الثلاث ( لو4/1-12)، وكان يخرج منه فيشفي ويخلّص (لو4/1؛6/19؛8/46)، والروح اياه أقامه من الموت ( روم1/4؛8/11)، والمسيح الجالس في المجد ببشريته يفيض الروح القدس بغزارة على الكنيسة، على ابنائها وبناتها، فيدعون " قديسين" بسبب مسحة الروح المقدسة.

تحققت نبؤة اشعيا: " روح الرب عليَّ، مسحني وارسلني" ( افسس 61/1-2). صباح العنصرة، كما اورد بطرس الرسول ( اعمال2/16-21). فقد أفيض الروح على الكنيسة الناشئة، المجتمعة في العلية، فراح الرسل، كهنة العهد الجديد، يعلنون عظائم الله، ويمنحون هبة الروح القدس للذين كانوا يؤمنون بكرازتهم ويعتمدون ( اعمال2/38)، واضعين ايديهم عليهم ليكملوا نعمة المعمودية بهبة الروح، وهكذا راحت تتواصل نعمة العنصرة في الكنيسة ( اعمال8/15-17؛ 19/5-6؛ عبرانيين 6/2)، بواسطة الاساقفة خلفائهم والكهنة معاونيهم.

 

2.                                       الرسالة المسيحانية

 

" روح الرب عليَّ، مسحني وارسلني..."

مسحة الروح، التي تقدس قابليها، انما ترسلهم، اذ تشركهم بمسحة النبؤة لتبشير المساكين، وبمسحة الكهنوت لمغفرة الخطايا، وبمسحة الملوكية لتحرير المظلومين وبناء عالم جديد. من مسحة الروح نال المعمّد الهوية المسيحية، فاصبحت حياته منفتحة على واجب يتخطى ذاته، فلا يعيش فقط لنفسه، بل لرسالة تتصف بالشمولية تجاه كل الناس من جهة، وتجاه ابعادها من جهة ثانية. فهي رسالة تمتد الى كل انسان دونما استثناء في العرق او اللون او الثقافة؛ وتشمل كل ابعاد حياته الروحية والانسانية والاجتماعية؛ وتهدف في النهاية، حسب نبؤة اشعيا الى تعزية كل حزين، والى زرع الفرح والسرور من خلال: ابدال الرماد بالتاج، وثوب الحداد بدهن السرور، والقلب الكئيب بهتاف التسبيح" ( اشعيا 61/3). ان الرسالة هذه، التي تقتضيها الهوية الجديدة بمسحة الروح، ليست خياراً شخصياً نتخذه او لا نتخذه، بل هي قضية المسيح، نقولها مع بولس الرسول: " لسنا ندعو الى انفسنا، بل الى ربنا المسيح يسوع. وما نحن سوى خدام لكم من اجل المسيح" ( 2كور4/5). اما مصدر قوتنا في الرسالة فهو الافخارستيا التي هي ضمانتنا، وهي يسوع نفسه الذي يعطي حياته من اجلنا، حباً بنا" ( الكردينال كارلو مارتيني، على دروب الرب، صفحة 254-255).

ان انجيل اليوم يدعونا الى وعيٍ ذاتي جديد.

أ‌-                                        ارسلني لابشّر المساكين

المساكين هم الناس الذين ينتظرون خلاص الله بالتواضع والوداعة، وهم فقراء الى الله. هذا هو الفقر الحقيقي. من منا ليس فقيراً؟ خطيئة الانسان الكبرى هي الاستغناء عن الله، وهذه تجربة يرزح تحتها عادة الاغنياء والمقتدرون والنافذون والذين حصّلوا شيئاً من العلم والمكانة الاجتماعية. هؤلاء يُبشرون بانجيل الخلاص وبالحقيقة التي تنير الحقائق النسبية.

والمساكين هم " صغار الانجيل" الذين كشف لهم الآب ما هو خفي على الحكماء والفهماء ( متى11/25)، وشاركهم الرب يسوع في اوضاع حياتهم من مهده الى الصليب، مختبراً التهجير والجوع والعطش والحرمان ( متى21/18؛ مر2/27؛ يو4/6-7؛ 19/28؛ لو9/58)، وتماهى معهم جاعلاً محبتهم شرطاً لدخول ملكوت السماء ( متى25/31-46)، وهم: الجائع والعطشان والعريان والغريب والسجين والمريض. هؤلاء يُبشرون بحكمة الانجيل، وبحضارة المحبة.

والمساكين هم المظلومون والمستضعفون بسبب الجور والتسلط والديكتاتورية وهم المحرومون من حقوقهم الاساسية، والمضطهدون والقابعون في اقبية التعذيب بسبب آرائهم السياسية. هؤلاء يُبشرون بانجيل التحرير الروحي والمعنوي اولاً، ثم الحسّي. هذا ما اعلنه الرب يسوع عندما سأله يوحنا المعمدان، وهو في السجن، بواسطة بعثة ارسلها اليه: " أأنت هو الآتي  أم ننتظر آخر؟ ، فاجابهم: "المساكين يُبشرون"  (متى11/5)، للدلالة انه هو عزاء يوحنا ومشدده في محنته وظلمه.

يسوع المسيح وحده طريق خلاصنا، اليه نكل ذواتنا بسماع كلامه والعمل به، فنفهم من نحن، ولماذا نعيش، وما معنى مسيرتنا التاريخية ( الكردينال مارتيني، المرجع المذكور، ص 110-111).

 

ب‌-                                   ارسلني لاعلن الحرية للمأسورين

المأسورون هم المستعبدون لمصالحهم الرخيصة ونزواتهم وانحرافاتهم. وهم المقيّدون بسلاسل الانشغال الحصري في شؤون الدنيا، حيث قلوبهم مأسورة عن عالم الله وقيم الروح. هم الخاضعون لعبوديات الانظمة السياسية والايديولوجيات وارادة المتسلطين. هم الذين يجدون كنوزهم في حطام هذه الدنيا ويضعون فيها وحدها قلوبهم: " حيث كنزكم هناك قلبكم" ( متى6/21). من منا لا يعيش اسراً ما؟

 يسوع هو مرسل الآب، المملؤ من الروح القدس، الذي يستطيع وحده، بهبة الروح، ان يحررنا من اسرنا. انه محرر القلوب والعقول والارادات. يعطي الانسان حرية مسؤولة، ليمسك ذاته بيده، ويكون سيّد نفسه، لا آلة صماء في يد غيره، او لغرائزه. يعطيه حرية تخرجه من انانيته فيعيش جمال تقاسم خيرات هذه الدنيا مع المحتاج، مادياً وثقافياً واجتماعياً وروحياً، وينتصر على اللامبالاة.

" لقد حررنا المسيح لكي لا تُستعبدوا لأحد" ( غلاطية 5/1).

 

ج- ارسلني لاعلن للعميان عودة البصر

العميان هم المصابون بعمى القلب والبصيرة والضمير، بعمى الحقد والبغض واللامبالاة. يسوع هو نورهم، نور الله فينا، بكلامه وعطية جسده ودمه في سرّ القربان: " انا نور العالم! من يتبعني لا يمشي في الظلام" ( يو 8/12). وعنه كتب يوحنا الرسول: " انه النور الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم" ( يو1/9).

نور المسيح يولّد الفرح الحقيقي الناتج عن الرؤية الجديدة في ضوء نور الكلمة الالهي.

 

د- ارسلني لاشفي منكسري القلوب

منكسرو القلوب هم الحزانى والمجروحون في كرامتهم، وهم التائبون الذين يعودون بانسحاق القلب الى الله. هؤلاء يبلسم المسيح، ابن الله، قلوبهم وجراحهم. انه المعزي والشافي بنعمته وكلمته ومحبته. فهو القائل: " تعالوا اليّ ايها المتعبون والثقيلو الاحمال وانا اريحكم" ( متى11/28).

 

ه- ارسلني لاعلن زمناً مرضياً لله

انه الزمن المسيحاني المعروف بزمن الرحمة. بدخول ابن الله هذا العالم، كشف معنى التاريخ والزمن. فالتاريخ هو تواصل تجليات الله. كان التجلي الاول مع بداية التاريخ في عمل الخلق، والتجلي الثاني في عمل الفداء بتجسّد ابن الله، والتجلي الثالث في عمل تقديس الانسان، كل انسان، بحلول الروح القدس. والزمن هو طبع تاريخ البشر بالحقيقة والمحبة والرحمة.

 

3.                                       وجوه بُشروا بكرازة الانجيل

 

" ارسلني لابشر المساكين"

تحيي الكنيسة في هذا الاسبوع اعياد شهداء قديسين، هم لنا النموذج في ثمار تبشير المساكين: الايمان بالمسيح والاعتماد باسمه والصبر على العذاب والاضطهاد من اجله، هؤلاء تمت فيهم كلمة يسوع ليوحنا المعمدان وهو في السجن: " طوبى لمن لا يشك في" ( متى11/6).

الشهيدة كريستينا من صور ( 24 تموز)، ولدت في صور في اواخر القرن الثالث من عائلة وثنية. وكان والدها حاكم المدينة  ويضطهد المسيحيين. تأثرت كريستينا بما رأت من عذابات يتحملها المسيحيون وهم ثابتون في ايمانهم، فمسّتها النعمة الالهية، وآمنت بالمسيح وشغفت بشخصه وتعليمه، واعتمدت خفيةً عن ابيها ونبذت الوثنية والعبادة للاصنام. انزل بها ابوها العذابات، فكانت تردد بكل شجاعة: " انت قادر، يا ابي ان تعذبني وتعدمني الحياة. لكنك لا تستطيع ان تفصلني عن ايماني بيسوع المسيح وعن محبتي له".

واصل تعذيبها الوالي الذي خلف والدها بعد موته المفاجىء في  سريره، فيما زجّ ابنته في السجن. فظلت صامدة في ايمانها وهي تنادي امام الوالي المضطهد: " ان الهنا في السماء، اما اوثان الامم فما هي سوى فضة وذهب صنع البشر". فعلّقوها على شجرة ورموها بالسهام، ونالت اكليل الشهادة سنة 300. لُقبت باسم " كريستينا"، وهي لفظة لاتينية تعني " المسيحية الصغيرة".

الشهيد بنديلايمون (27 تموز)، شفيع كنيسة بجدرفل (البترون)، من مواليد نيكوميدية في آسيا الصغرى في اواخر القرن الثالث. ابن رجل وثني وجيه وام مسيحية، ماتت وهو صغير السّن. درس الطب وتعرف الى كاهن أرشده الى المسيح بعد ان اخبره ان امه كانت مسيحية. حدثّه الكاهن عن المسيح طبيب النفوس، وعن خدامه الكهنة الذين يرشدون النفوس الى معرفة الحقيقة. فاستنار واعتمد وهدى اباه الى الايمان بالمسيح، ولما مات ابوه ترك له كل ثروته، فوزعها على الفقراء، وراح يطببهم مجاناً ويردّ الخطأة الى التوبة بصلاته.

ميّزه الله بموهبة المعجزات  فارجع البصر الى اعمى وشفى مخلعاً. اضطهده الامبراطور مكسيميانوس والاطباء وكهنة الاصنام، فظل  صامداً في ايمانه، وظهرت من خلاله قوة المسيح التي فيه، فبأسمه كان يأتي بالمعجزات بعد العذابات المتنوعة. امر الملك بقطع رأسه فنال اكليل الشهادة سنة 303.

 
***
 
ثانيا، الخطة الراعوية

 

الرسالة المسيحانية تهدف الى تحرير الانسان من الجهل والضياع والظلم والخطيئة، فرأت الكنيسة المارونية ان الوسيلة التحريرية للانسان هي التعليم والمعرفة والتربية. فكانت النهضة، في هذا المجال، اطلقها المجمع اللبناني ( 1736). النص 16 من المجمع البطريركي الماروني وعنوانه: " الكنيسة المارونية والتربية في التعليم العام والتقني"، ينقل الينا توصيات المجمع اللبناني، المرتكزة على ميزتين خاصتين بالتربية: الاولى، حب المعرفة والانفتاح على التراث البشري والسعي الحثيث للارتقاء الى النبوغ؛ الثانية، تعميم المدارس والتعليم ( النص 16، عدد6). شدد المجمع اللبناني على الاساقفة ورؤساء الاديار ان يعنوا بتعليم الاحداث، صبياناً وبنات، علمياً وروحياً واخلاقياً.

بدأت ورشة العلم والمعرفة والتربية في القرى في اعقاب المجمع اللبناني بتأسيس ما عرف  بمدرسة تحت السنديانة مع خوري الرعية. وانتشرت كوكبة من المدارس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اسسها بطاركة ومطارنة وخرّجت نوابغ هذين القرنين وهي على التوالي:

مدرسة عين ورقة ( 1789)، مدرسة مار يوحنا مارون في كفرحي ( 1812)، مدرسة الروميّة   ( 1817)، مدرسة صربا ( 1827)، مدرسة مار عبدا هرهريا في جديدة غزير ( 1830)، مدرسة مار يوسف ريفون ( 1832)، مدرسة الكريم ( 1872)، مدرسة الحكمة في بيروت ( 1875)، فمدرسة مار يوسف في قرنة شهوان ( 1884).

وكان الآباء اليسوعيون السباقين بين الارساليات اللاتينية، فأسسوا قبيل انعقاد المجمع اللبناني كلاً من مدرسة عينطوره ( 1728) التي تسلّمها بعد مئة سنة الآباء اللعازريون ( 1834)، مدرسة زغرتا    ( 1735). وهكذا فعل الآباء الفرنسيسكان والكبوشيون والكرمليون واللعازريون. وتلا هذه الارساليات الرهبانيات المارونية التي اسست مدارسها في لبنان وبلدان الانتشار ( النص 16، عدد6-10).

وهكذا استطاعت الكنيسة ان تغذي ابناء مجتمعاتها بالقيم الانسانية والمسيحية، وان تشجع انفتاحهم العلمي والثقافي، وان تنقيّ طاقاتهم الابداعية وتهيئهم للالتزام الكنسي والوطني في اطار الخير والحق والحرية والمحبة. وهذا ما جعل شعلة النهضة في العالم العربي تبدأ من لبنان.

تقتضي الخطة الراعوية ان نتقبّل معاً تعليم المجمع البطريركي الماروني ونعمل على تطبيق توصياته. في اطار ما استعرضنا اعلاه، يوصي المجمع:

1. ان يتبنى المعنيون بالتعليم والتربية " الشرعة التربوية" التي اقرّها مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان، من اجل وحدة التنشئة المعطاة لاجيالنا الجديدة من مختلف نواحيها الروحية والانسانية والاجتماعية والثقافية والوطنية. يبقى للوالدين الحق والواجب في اختيار المدرسة التي تؤمّن لاولادها افضل معرفة وتربية في ضوء "الشرعة التربوية". ومعلوم ان ثروتنا اللبنانية محصورة بالتربية والتعليم.

2. ان يدرك اللبنانيون عامة والمسؤولون عن تربية الاجيال، في العائلة والمدرسة والرعية والمجتمع خاصة، هوية اللبناني وجذوره التاريخية والثقافية؛ وان يعطوا الاولية للتربية المدنية والوطنية من اجل ان تتأصل الاجيال الجديدة في الارض والمنطقة، حماية لهذه الهوية ولهذا التاريخ، وتثميراً لهما في تعزيز الحضارة الانسانية والخلقية، والقيام بالدور المنتظر على مستوى الاسرة الدولية والعولمة.

 

***

    صلاة

ايها الروح القدس، روح الحق، نشّئنا في مدرسة الكلمة الالهي، مكملاً فينا الرسالة التي من اجلها ارسلت من الآب باستحقاقات الابن فادي البشر. املاء كل قلب بحلولك، واضرم في الشبيبة التوق الى ما هو كبير وجميل في الحياة، مع الشوق الى الكمال الانجيلي، والغيرة على خلاص النفوس وتحريرها من العبوديات الداخلية والخارجية. أخصِبْ ايها الروح القدوس عمل المعلمين والمربين وبارك جهودهم وتضحياتهم في سُبُل الخير. حرّر قلوبنا وطهرّنا من اجل بناء مجتمع اكثر انسانية وجمالاً, لك المجد والتسبيح مع الآب والابن الى الابد، آمين.

 


الاحد العاشر من زمن العنصرة

عيد تجلي الرب يسوع

انجيل القديس مرقس 9/1-8

في المسيح تتجلى كرامة الانسان

 

بعد ستة ايام من اعلان سمعان – بطرس الوهية يسوع في قيصرية فيليبس: " انت هو المسيح ابن الله الحي" ( مر8/29)، ونبؤة يسوع يومها عن آلامه وموته وقيامته ( مر8/31)، وتحديده الشروط لاتباعه: الكفر بالنفس وحمل الصليب والسير وراءه ( مر8/34)، كان التجلي على جبل عال امام بطرس ويعقوب ويوحنا ( مر9/1-8)، وفيما هم نازلون من الجبل اوصاهم ألآّ يخبروا احداً عما رأوا، الى ان يقوم ابن الانسان من بين الاموات" (مر9/9). هؤلاء الثلاثة اصطحبهم يسوع معه ليلة الامه في بستان الزيتون.

يدلّ حدث التجلي الى اثبات الوهية يسوع، واستباق مجد قيامته من بين الاموات، وكشف مصير من يسير على خطى المسيح، وابراز مجيئه الثاني بالمجد في نهية الازمنة.

 

اولاً، حدث التجلي ومفهومه

 

1.   التجلي حدث تعليمي روحي

 

عندما تنبأ يسوع لاول مرة عن آلامه وموته ( مر8/31)، بعد روعة اعلان بطرس لالوهيته في قيصرية فيليبس، كانت صدمة التلاميذ التي عبّر عنها بطرس على انفراد " فاخذ يلوم يسوع ويقول: حاشاك، يا رب، ان يكون لك هذا" (متى16/22). فبكّته يسوع وقال: " ابتعد عني يا شيطان، فانك تفكّر لا في ما هو لله، بل في ما هو للناس" ( مر8/33).

قال القديس البابا لاوون الكبير: " كانت الغاية من التجلي انتزاع شك الصليب من قلب الرسل، لئلا يضطرب ايمانهم لذلّ آلامه، مستبقاً سموّ كرامته الخفية" ( مجموعة مؤلفاته، 51/3).

بدأ رسمياً عيد التجلي في الروزنامة الليتورجية الشرقية في الجيل الثامن، وفي الروزنامة الغربية سنة 1457 مع البابا كاليستوس الثالث، كفعل شكر لله على الانتصار، الذي أحرز في السنة السابقة، على الاتراك في بلغراد.

اعتبرت الكنيسة ان التجلي تحقيق واستباق لعهدين، ماضٍ ومستقبل: انه يحقق الماضي في ترائي موسى وايليا، وهما رمزان لبهاء صورة الله المرتسمة على وجه الانسان منذ الخلق؛ والمتبلورة في موسى على جبل سيناء، حاملاً الشريعة الالهية الموحاة، وفي ايليا على جبل الكرمل. ويستبق المستقبل باظهار مجد القيامة، ومجيئه الثاني الاخير، حيث يتلألأ الابرار كالشمس في ملكوت الله" ( متى13/43). وهكذا يبيّن الرب يسوع انه " محور الازمنة" بل " محور العالمين"، عالم الله وعالم البشر.

التجلي استباق وتحقيق على شبه العشاء السرّي. أستبق يسوع سرّ موته ذبيحة فداء عندما أنشأ سرّ الافخارستيا، فكسر الخبز وقدّم كأس الخمر للتلاميذ، ليلة آلامه وموته، قال: " خذوا كلوا هذا هو جسدي يُبذل من اجلكم، خذوا اشربوا من كأس  دمي الذي يراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا ( لو22/19-20؛ 1كور11/23-26)، وحقق سرّ موته ذبيحة فداء بشكل دائم وآني في خدمة الكهنوت: "اصنعوا هذا لذكري". كذلك في التجلي استبق، بشكل غير اسراري، تمجيده الذي سيحصل في قيامته، وحقق بداية تمجيد الابرار بنعمة الفداء، وهو تمجيد خفي متحقق في انسانية يسوع وفي شخص امه مريم العذراء،  "الممتلئة نعمة ومباركة بين النساء" ( لو1/28)، والقديسين.

التجلي بداية واكتمال لتغيير في الخلق. انه بداية التغيير فينا، على وجه هذه الدنيا، عبّر عنه بولس الرسول بالدعوة: " ايها الاخوة، تغيروا بتجديد افكاركم، ولا تتشبهوا بهذا العالم، بل ميّزوا اين هي مشيئة الله الصالحة والمقبولة والكاملة، واقيموا من اجسادكم ذبيحة حيّة، مقدسة، ومقبولة لدى الله بعبادة عقلية" (روم 12/1-2)، وفي الرسالة الى اهل كورنتس يؤكد كيف يتم التغيير: " نحن جميعنا، اذ نعكس، كما في مرآة، مجد الرب، نتحوّل الى تلك الصورة، من مجد الى مجد، وفقاً لعمل روح الرب" ( 2كور3/18). وهو اكتمال التغيير، في العالم الآتي، كما يقول الرسول نفسه: " اننا ننتظر محيينا ربنا يسوع المسيح، الذي سيغيّر جسد حقارتنا، لنصير شبه جسد مجده، بحسب قوته العظيمة التي بها أخضع كل شيء لنفسه"  (فيليبي3/20-21). ويؤكد القديس البابا لاوون الكبير ان التجلي حصل " لكي يعي ويدرك الجسد كله وهو جماعة المؤمنين بالمسيح-اي تغيير سيصيبه، ولكي يعدّ الاعضاء نفوسهم للمشاركة في ذلك المجد الذي تلألأ في الرأس".

 

2.                                            التأمل في سرّ التجلي صيرورة شخصية

 

بالتأمل نستطيع منذ الآن الدخول في سرّ التجلي، وجعله سرّنا وصيرورتنا. الانسان الذي يتأمل لا يعكس فقط ما يتأمل فيه، بل يصبح ما يتأمل، اذ يتغيّر الى صورته. عندما نتأمل المسيح نصبح شبيهين به، لان مشاعره وافكاره وغاياته تنطبع فينا، وتغيّر ما هو خاص بنا. التأمل يغيّر، وهو فعل عبادة تمثّل في موقف موسى وايليا، كما تصوّره الايقونوغرافيا، وعاشه الرسل الثلاثة الذين شاهدوا بعيونهم واستغرقوا في الرؤية، حسبما اخبر لوقا في انجيله: " وكان سمعان واللذان معه قد أثقلهم النعاس، وبجهد استيقظوا، فشاهدوا مجده والرجلين القائمين لديه" ( لو9/32).

التأمل يساعد على ادراك المعنى المقصود من الحدث التاريخي او المستنتج منه. فالحدث يكون تاريخياً عندما يحتوي اثنين: حصوله في الزمن ومفهومه الحاسم بالنسبة الى الاشخاص الذين شاهدوه او كتبوا عنه. التأمل حدث تاريخي بامتياز، كتب عنه الانجيليون واستخرجوا جزءاً من مضمونه الذي لا ينضب.

التجلي متواصل في الكتب المقدسة، " فثياب يسوع البيض كالثلج" هي كلماته التي تنجلي نوراً للعقول والضمائر، للارادات والقلوب. فكما انه " لا يمكن لأحد ان يبيّض مثل ثياب يسوع" هكذا لا يستطيع اي عقل بشري ان ينير السّر المكنون في الكتب المقدس، بل وحده الروح القدس يستطيع ذلك.

ذاك الذي تجلّى على الجبل هو اياه متجلٍ تحت غشاء القربانة البيضاء. فلا ندرك تجليه إلاّ بالتأمل والعبادة. مع هذا الادراك تصبح حياتنا مطبوعة بحضارة الافخارستيا، حضارة الحب والبذل وعطاء الذات.

 

3.                                            التجلي يكشف مصير الانسان- وجوه

 

بتجليه استبق يسوع ما سيكون مصيره ومصير الانسان اذا تبعه سائراً على خطاه، ملبياً مقتضيات الدعوة الموجهة لكل انسان " اتبعني" ( متى9/9 )، " انا هو الطريق والحق والحياة" (يو14/6). ولهذا كان نداء الآب من السماء، عبر الغمامة التي ظللتهم: " هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا" ( مر9/7).

       كان التجلي لينتزع يسوع من قلب التلاميذ وقلب كل انسان شك الصليب والصدمة من الألم والفشل والفقر والاضطهاد والظلم. التلاميذ الثلاثة الذين اصطحبهم الى جبل التجلي فانذهلوا من بهاء مجده الالهي، هم اياهم سيشاهدون ضعف بشريته في آلام العرق والدم في بستان الزيتزن. كان التجلي، لكي، اذا ما رأوه معلقاً على الصليب، يفهمون ان آلامه اختيارية لخلاصنا ( الليتورجيا البيزنطية). ألم يقل يسوع يوماً: "ليس احد ينتزع نفسي مني. بل انا ابذلها بارادتي. فلي سلطان ان ابذلها، ولي سلطان ان استعيدها ايضاً" ( يو10/18).

       ان الرب يعلمنا في كل هذا ان نقبل صليب الحياة، مرضاً كان ام حزناً، فقراً ام فشلاً، اضطهاداً ام ظلماً، فهو يعيننا على حمله، ويعطيه قيمة خلاصية، وبُعداً نهيوياً، على ما يؤكد بولس الرسول: " اني ارى ان آلام هذا الزمان، لا توازي المجد المزمع ان يتجلّى فينا" ( روم8/18).

       تعيّد الكنيسة في هذا الاسبوع لقديسين، هم وجوه رائعة تجلى فيهم مجد الله والاشعاع الالهي.

        الشهداء رهبان مار مارون الثلاثماية والخمسون ( 31 تموز). قتلوا سنة 517 بسبب مساندتهم للعقيدة التي اعلنها مجمع خلقيدونيا ( 451) والقائلة ان في المسيح طبيعتين الهية وانسانية. فكانت دماؤهم زرعاً مقدساً أنبت الكنيسة المارونية الشاهدة للمسيح التي اعطت عبر تاريخها شهداء امثالهم نذكر منهم البطريرك دانيال الحدشيتي الذي حاصره المماليك في قلعة الحصن اهدن اربعين يوماً، والبطريرك جبرائيل حجولا الذي قتله المماليك في طرابلس في نيسان 1367، والبطريرك خادم الله اسطفان الدويهي الذي احتمل بصبر اضطهاد آل حماده له، والطوباويين الاخوة المسابكيين الثلاثة الذين قتلهم المسلمون في دمشق سنة 1860 بسبب عدم اعتناقهم الاسلام ولم يجحدوا الدين المسيحي، وسواهم في الحرب اللبنانية الاخيرة، ما حمل خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني على تأسيس ابرشية مارونية في المكسيك باسم " سيدة شهداء لبنان" في 6 تشرين الثاني 1995.

       القديس اغناطيوس دي لويولا (31 تموز) عاش ارتداداً عميقاً الى الحياة المسيحية بعد تعرضه، وهو جندي، الى حادث أدى الى كسر في رجله جعله اعرج مدى الحياة. في زمن النقاهة بعد العملية الجراحية طالع الانجيل ومؤلفات عن حياة المسيح والقديسين، فأثمرت آلامه دعوة  جديدة. اعتنق الكهنوت وكتب " الرياضات الروحية" المعروفة "بالرياضات الاغناطيوسية" واسس مع ثلاثة رفقاء سيم معهم كاهناً  الرهبنة اليسوعية سنة 1537، ونال موافقة البابا بولس الثالث عليها سنة 1540، فابرزوا نذورهم الرهبانية سنة 1541. انه مثال الصبر على الألم والاضطهاد والمحنة وسوء الفهم وتهم الزور. اُعلن قديساً سنة 1622، وحُدد عيده في يوم وفاته 31 تموز 1556.

       القديسة شموني واولادها السبعة ( اول آب). قضوا شهداء ايمانهم ولم يتزعزعوا، فيما كان الملك يامر بقتلهم واحداً واحداً، من كبيرهم الى صغيرهم، امام نظر امهم. ثم الحقّها بهم، سنة 161 قبل المسيح.

القديس جان ماري فياناي، خوري آرس ( 4 آب). كان فرنسي لم يكن ناجحاً في دروسه الفلسفية واللاهوتية، ومع ذلك سيم كاهناً بفضل شهادة النائب العام في الابرشية الذي قال: " الكنيسة بحاجة طبعاً الى علماء، لكنها تحتاج ايضاً الى قديسين". نجح في خدمة رعية آرس متميزاً بالوعظ والارشاد، وقائماً بحملة ضد الخلاعة في الرقص وشرب الكحول والتصرفات غير الاخلاقية، متسلحاً بالصبر والصلاة وتمضية ساعات النهار في كرسي الاعتراف، باكياً على خطايا الناس. مات في 4 آب 1859، أعلنه البابا بيوس الحادي عشر قديساً سنة 1925، وشفيعاً لكهنة الرعايا سنة 1929.

 

***

 

ثانياً، الخطة الراعوية

 

       قال القديس ايريناوس: " مجد الله الانسان الحي". تحقق هذا القول بامتياز في تجلّي الرب يسوع. من اجل استمرارية تحقيقه اعتمدت الكنيسة خدمة التعليم والتربية.

       تهدف الخطة الراعوية الى كشف الوسائل التي تمكّن المدرسة من العمل على ان يصبح الانسان، الذي يتخرّج منها، " مجد الله الحي". النص 16 من المجمع البطريركي الماروني: " الكنيسة المارونية والتربية: في التعليم العام والتقني" يؤكد ان الكنيسة حققت انجازات اساسية في حقل التعليم والتربية منها: دور المعلم وانفتاحه على انواع التراث البشري؛ اذكاء حب المعرفة والتوق الى النبوغ؛ تعميم التعليم وانشاء المدارس في كل المناطق. ويكشف النص عن تحديات ثلاثة كبرى يتعلق بها تحقيق كلمة القديس ايريناوس ( عدد13-17)، وتشكّل توصيات للخطة الراعوية في ضوء انجيل اليوم.

       1. ابقاء المدرسة وسيلة اساسية للتربية والتثقيف والتعليم. نقول " اساسية" بالنسبة الى سواها وهي العائلة والدولة ووسائل الاعلام والمحيط الاجتماعي. تعمل الخطة الراعوية على تعزيز المدرسة لكي يظل لها دورها الاساسي في عالم متراخ. تربي على قيم الواجب والالتزام مكان التراخي، وعلى بذل الذات مكان اللذة، وعلى التآخي والحوار مكان التباغض والعنف (النص 16، عدد13).

       2. تحقيق النمو المتوازن لدى الشبيبة الطلابية من خلال تربية شاملة على المستويات الروحية والانسانية، الاكاديمية والخلقية، الاجتماعية والوطنية، بهدف انماء الشخصية. تسعى الخطة الراعوية الى تعزيز هذه التربية الشاملة التي تعدّ الشبيبة الطلابية للغايتين من الوجود: بناء مدينة الارض، والعمل على نشر ملكوت الله. النص المجمعي 16 يتوسّع في مضمون مستويات التربية المذكورة اعلاه ( عدد 14).

       3. التوازن بين التقليد والحداثة. ثمة ازمة تجاذب بين ما تقدمه الحداثة من حرية فردية ذاتية، وقدرات معرفية واسعة، وثقافة علمية واجتماعية وخلقية لا مرجعية دينية لها، وروح استهلاكية تحدد نشاطات الانسان وحاجاته ورغباته، وبين ما يدعو اليه التقليد من تقيّد بالدين والايمان ومقتضياتهما، ومن تأكيد للعادات الاجتماعية والعائلية. تهدف الخطة الراعوية الى تحقيق هذا التوازن وفقاً للمبادىء والمضامين التي يرسمها النص المجمعي 16، (عدد17).

 

***

 

       صلاة

       ايها الروح القدس، اجعلنا وشبيبتنا الطلابية ملتزمين، كأداة، في تحقيق ارادة الله الخلاصية. نسألك ان تقود رغبات اجيالنا الجديدة وتطلعاتها الى كل ما هو حق وخير وجمال، فتبني مستقبلها، المنفتح نحو الحداثة وقدراتها وتقنياتها، على اسس القيم الروحية والانسانية والخلقية. اليك نصلي، ايها الروح القدس، لكي نكون واجيالنا الطالعة في جهوزية دائمة لتحقيق تصميم الله الخلاصي وبناء ملكوت الوحدة والمحبة، ملكوت الترقي والقيم، في مدينة الارض. فليأت ملكوتك ايها الرب بنعمة الابن وقوة الروح القدس، لك المجد الى الابد، آمين
   
( مقتبسة من صلاة البابا يوحنا بولس الثاني).

 


الاحد الحادي عشر من زمن العنصرة

انجيل القديس لوقا 19/1-10

المسيح  على موعد مع كل انسان

 

توق زكا الى رؤية يسوع والمبادرة التي قام بها، دونما حياء وبروح الاطفال، اكسبته زيارة يسوع الى بيته واعلاء شأنه بين الناس، وتوبته، واعطاء معنى لثروته، ودخول الخلاص اليه والى اسرته. هذه اللوحة الانجيلية تعلمنا كيف ان عمل الله وعمل الانسان متكاملان ومترابطان، وان لا خلاص ولا حياة جديدة من دونهما.

 

اولاً، الموعد مع المسيح

 

1.                                         عمل الله وعمل الانسان

 

ظهر حب الله لجميع الناس ورحمته بشخص يسوع المسيح. بالنسبة الى زكا العشار الخاطيء ظهر حب الله ورحمته بابهى وجه، بينما الناس والفريسيون كانوا يحتقرون زكا ويعتبرونه رجلاً خاطئاً بسبب وظيفته كجابي ضريبة العُشر من الدخل للدولة. خطيئة زكا في نظرهم مزدوجة: كان يجبي الضريبة للدولة الرومانية الوثنية المحتلة لارض يهوه، ويختلس لنفسه مما كان يجبي من المواطنين.

يبدو ان زكا كان يتوق الى رؤية يسوع (لو19/3)، فقام الرب بالمبادرة الخفية، وجاء الى اريحا، وفي نيته ان يلتقي زكا وسواه من امثاله، كما صارحه يسوع: " ان ابن الانسان جاء يطلب ويحيي من كان هالكاً" ( لو19/10). توق زكا الخاطيء الى رؤية يسوع كان كافياً لمبادرة الرب نحوه، فناداه باسمه وشرّفه بزيارة بيته، هو الذي " يفحص القلوب والكلي، ويقرأ نوايا البشر" (مر70/10). اجل، حنان الله عظيم لجميع الناس، وهو شفوق على الجميع، و " لا يريد موت الخاطيء، بل ان يتوب ويحيا" (حزقيال33/11)، ما جعل القديس ايريناوس يقول: " مجد الله الانسان الحي".

جاء يسوع يبحث عن كل منبوذ سواء من النظام السياسي كالفقراء والمستضعفين، ام من النظام الديني كالوثنيين والعشارين والبغايا، دونما اعتبار لظنون الناس الذين، لكبريائهم وقساوة قلوبهم، يرفضون نهج الله، مثلما فعل الجمع عندما دخل يسوع بيت زكا: " فتذمروا وقالوا انه دخل ليقيم في بين رجل خاطىء"  (لو19/8)، بينما كانت تجري في الداخل عملية توبة وتكفير وخلاص. فما أبعد احكام الله عن احكام البشر!

اما عمل زكا فكان على التوالي: شوق في القلب الى رؤية يسوع، وتسلّقه الجميزة بتواضع الاطفال، وهو الغني ورئيس العشارين، من دون اي عقدة نقص لقصر قامته، ثم استقباله يسوع في بيته بسرور كبير، واخيراً ما هو اعظم، توبته العميقة والتزامه بالتعويض عن اخطائه: فيعطي الفقراء نصف ماله، ويردّ اربعة اضعاف لكل من ظلمه في جبايته. انه في آن اعتراف بالخطايا وتعويض عنها. وهذه هي التوبة الحقيقية، اذ " لا غفران من دون عدالة". في الواقع اعلن يسوع الغفران الالهي بقوله: " اليوم دخل الخلاص هذا البيت" ( لو19/9).

 

 

 

2.                                         استعمال الغنى

 

  تسبق حادثة زكا حادثتان مع غنيين اساءا استعمال غناهما: الغني المترف والمتبجح (لو16/19/31)، والشاب الغني ( لو18/18-23). الفرق بين زكا الغني والغنيين الآخرين يكشف الطريقة الفضلى لاستعمال الغني والبلوغ الى الله والخلاص.

الغني المترف والمتبجح يرفض اطعام لعازر الفقير حتى من الفتات المتساقط عن مائدته، بينما زكا يعطي نصف ماله للفقراء. الغني يستعمل ماله لنفسه فقط ولاصدقائه الاغنياء الذين سيبادلونه بالمثل، بينما زكا يلتزم بأن يوظف امواله لصالح الآخرين. انها دعوة الى الاغنياء من خيرات هذه الدنيا للاقتداء بالله، الغني بامتياز، الذي اغدق ويغدق خيراته على جميع الناس دونما تمييز ( متى7/7-12).

الشاب الغني سأل يسوع عما يجب ان يفعله من صلاح ليرث الحياة الابدية، فاجابه يسوع بأن يحفظ الوصايا، ثم سأله عما يجب ان يفعل اكثر، اجابه: " امضِ فبع كل ما لك، واعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني". اما هو " فلما سمع هذه، حزن لانه كان ذا مال كثير" ( لو18/22-23). هذا الشاب طلب منه يسوع ان يعطي كل شيء للفقراء، اما زكا فيعطي نصف ماله للفقراء ويستبفي الباقي لنفسه، وهكذا يبقى غنياً.

يتبيّن من كل هذه الواقعات ان يسوع لا يدين الغني بحدّ ذاته، بل استعماله السيّء. وعندما قال:"ما أصعب دخول ملكوت الله على ذوي الاموال!"، واضاف: " ما لا يستطاع لدى الناس، هو مستطاع لدى الله" ( لو18/24 و27)، جاءت حادثة زكا تبيّن ان الله يستطيع انجاز المعجزة وحمل الغني على ان يتوب ويخلص، من دون ان يحوّله حتماً الى حالة فقر. هذا رجاء عززه دائماً الرب يسوع ولم ينكره.

قبل ان يسمع زكا كلمة يسوع " اليوم دخل الخلاص هذا البيت"، اتخذ قراراً شجاعاً مزدوجاً: اعطاء نصف ماله للفقراء، والتعويض عن الظلم بردّ المال اربعة اضعاف. وهكذا تاب الى الله بتوبته الى الاخوة. شرطان مطلوبان من كل غني: الشجاعة على اتخاذ القرار، والتضحية بشيء من ثروته، فيرى في توبة زكا، كما في مرآة، التوبة الانجبلية المطلوبة منه.

هذه اللوحة الانجيلية تشكل، بالنسبة الى الاغنياء، رجاء ودعوة. رجاء بلقاء المسيح الغني الفقير، ودعوة ليكونوا تلاميذ حقيقيين له، اذا ارادوا. عليهم ان يغيّروا جذرياَ موقفهم من ثروتهم وطريقة استعمالها. ليس المطلوب حتماً ان " يبيعوها ويعطوها للفقراء"، كما في عهد الرسل والكنيسة الناشئة (اعمال4/34-35)، بل ان يستعملوها بروح المسؤولية والتضامن والعدالة الاجتماعية، وفقاً للقاعدة الاساسية: ان " خيرات الارض معدّة من الله لجميع الناس" ( الكنيسة في عالم اليوم، 69)، وان الملكية الخاصة ليست مطلقة، بل مثقلة برهن اجتماعي" ( الاهتمام بالشأن الاجتماعي).

في زمن العنصرة، حيث الكنيسة تهتف: " ارسل روحك، ايها المسيح، فيتجدد وجه الارض"، نأمل ان يتوق الاغنياء الى رؤية يسوع، فهو يحبهم ويبحث عنهم ليدخلهم في صداقته، فيمنحهم الروح القدس. هنا الروح يفتح عيونهم وقلوبهم الى آفاق جديدة في هذا الظرف والمكان والزمان، مثلما فعل مع زكا الذي تاق الى رؤيته، فكان اللقاء الحاسم.

 

3.                                         قديسون التقوا المسيح

 

تحتفل الكنيسة في هذا الاسبوع بعيد قديسين التقوا يسوع المسيح على دروب الحياة، فكان اللقاء حاسماً.

القديس ضوميط الشهيد ( 7 آب). وثني فارسي ووزير في البلاط الملكي، عاش في الجيل الرابع، وكانت مهمته اضطهاد المسيحيين ولاسيما رجال الاكليروس. التقى يسوع المسيح عندما اصيب بداء المفاصل، ورجع الى نفسه، الى اعماق ضميره، حيث الله يسمع صوته للانسان. فاعتبر ان داءه قصاص الهي لاضطهاد المؤمنين بالمسيح. طلب المعمودية وهجر بلاد فارس وجاء الى ناصيبين في منطقة سوريا حيث الجماعة المسيحية السريانية. ثم ترهّب وسيم شماساً، ورفض درجة الكهنوت تكفيراً عن اضطهاده للكهنة، وراح يعيش في مغارة حيث تبعه الناس وكان يشفيهم بصلاته. امر الملك يوليانوس برجمه وسدّ باب المغارة عليه فمات فيها سنة 360.

القديس عبد الاحد – Dominique ( 8 آب) كاهن اسباني عاش في القرن الثاني عشر، اغواه يسوع المسيح واجتذبه، فراح يغوي الناس ويجتذبهم الى المسيح بوسيلتين الكرازة بالانجيل وحياة الفقر الانجيلي. وعليهما ارسى الرهبانية التي اسسها، والمعروفة برهبانية الواعظين اوالدومينيكان. مات في 6 آب 1221 تحت وطأة العمل والتقشف عن 51 سنة من العمر.

القديس الشهيد لورنسيوس ( 10 آب)، شاب  اسباني وطالب جامعي، اصبح رئيس شمامسة في روما على عهد البابا سيكستوس الثاني القديس الشهيد الذي قُطع رأسه في 6 آب 258 بامر من فاليريانوس الملك. اوكلت اليه بحكم رتبته العناية بالفقراء والايتام والمرضى, سجن مع البابا سيكستوس ومسيحيين آخرين في احدى دياميس روما، حيث استشهد البابا قبله بثلاثة ايام. وفيما كان يناجيه وهو مساق الى القتل: " لقد وزعت كنوزك يا ابي على الفقراء"، قبض عليه الجنود وشكوه للملك انه سارق الكنوز. فاستحضره الملك فاليريانوس وامره بتسليم الكنوز المالية المسروقة. فطلب مهلة ثلاثة ايام، فمضى وجمع كل من كانت الكنيسة تتصدق عليهم من عميان وعرج ومشوهين وفقراء واحضرهم امام الملك وقال: "هذه هي كنوزنا ايها الملك، لان الرحمة والصدقة على هؤلاء تجعل لنا كنوزاً في السماء لا تفنى". فاغتاظ الملك وانزل به اشد العذابات واحرقه بالنار سنة 259.

       القديسة كلارا ( 13 آب) ابنة عائلة غنية وشريفة في اسيزي. اجتذبها الى المسيح بعمر 18 سنة فرنسيس الاسيزي، فكرست ذاتها لله في حياة العزلة والفقر يوم احد الشعانين سنة 1212. كانت تعرّف بنفسها انها " نبتة القديس فرنسيس الصغيرة". وزعت على الفقراء كل ثروتها الوالدية، وعاشت في الاماتة والتقشف، تمشي حافية وتنام على الحضيض. تصوم كل ايام الاسبوع ما عدا الاحد. وفي صومي الميلاد والكبير يقتصر طعامها على الماء والخبز فقط. كانت تستمد قوّتها من القربان المقدس، وبه ردّت عن الدير هجوم عساكر البرابرة.

 

***

ثانياً، الخطة الراعوية

 

       الانسان على موعد مع يسوع المسيح. فاذا تمَّ اللقاء، كان حاسماً وغيّر نظرة الانسان وموقفه ومسلكه. عمر الفتوة والشباب يشكل افضل ظرف لمثل هذا اللقاء من خلال التعليم والتربية.

       الخطة الراعوية تواصل تقبّل النص السادس عشر من المجمع البطريركي الماروني: " الكنيسة المارونية والتربية، في التعليم العام والتقني"، وتطبيق تعليمه والتوصيات.

       1. لكي يتأمن التعليم والتربية للجميع، وبالتالي طرق اللقاء بيسوع المسيح، يوصي النص 16 المجمعي بتأمين عدالة توزيعية توفّر فرص التعليم والتربية لجميع الاولاد، وتؤمّن للوالدين الحرية الحقة في اختيار مدرسة بنيهم بحسب ما يمليه عليهم الضمير. وهذا واجب الدولة التي تستوفي الضرائب من المواطنين على ان تبادلهم العدالة التوزيعية، وحقوقهم الاساسية ومنها المساواة في التعليم والتربية، وحرية اختيار المدرسة (النص 16، عدد18).

       2. ويوصي النص المجمعي 16 الكنيسة بأن تظل المدرسة  المارونية مفتوحة لجميع افراد المجتمع وخصوصاً المحتاجين، وسط الازمة الاقتصادية، جرياً مع تقليدها الذي يرقى الى المجمع اللبناني (1736)، وتلبية لدعوة الارشاد الرسولي  "رجاء جديد للبنان" (النص 16،عدد19). فتقتضي التوصية عملياً ان تضع الاسرة التربوية في المدرسة، ادارة واولياء وطلاباً ومعلمين وقدامى، خطة استراتيجية لبقاء امكانية التعليم والتربية للطالب الفقير، كأنشاء صناديق دعم وسواها من النشاطات (المرجع نفسه،عدد20).

       3. ولكي تعلن المدرسة الكاثوليكية عامة والمارونية خاصة من خلال التعليم والتربية، سرّ المسيح لجميع الناس، ليلتقوا الحقيقة التي يكشفها عن الله والانسان والتاريخ، يوصي النص المجمعي 16 بان تبقى هذه المدرسة جذابة لغير المسيحيين. فتكون كذلك اذا وفّرت جواً ملائماً لتلاقي الشباب المسلم باخوة لهم في المواطنية هم المسيحيون، واذا كانت الاقساط المدرسية معقولة، والتربية على القيم متوفرة، والمستوى التعليمي رفيعاً، والانفتاح على الثقافات العالمية مضموناً، واذا هدفت بتضافر جهود الجميع الى خلق وعي اعمق لقيمة قبول الآخر المختلف، وتثمين التنوع الثقافي، وتقديس حرية المعتقد والتعبير(النص 16، عدد21-22).

 

***

       صلاة

       ايها الرب يسوع، عمانوئيل الاله الذي هو معنا وفي وسطنا، انت معنا كإنسان، في مختلف حالات الانسان وظروفه! وفي الوقت نفسه انت الله الخالق والفادي والمبرر وسيد العالم! انت الله القدير والانسان الضعيف. ها اجيالنا الطالعة تتطلع الى المستقبل بقلق وانشغال بال، كن انت لهم باب المستقبل، يلجونه عبر  التعليم والتربية، بل انت مستقبل العالم، لك المجد ايها الابن المتجسد لخلاصنا مع ابيك الذي ارسلك الينا بفيض من محبته، وروحك القدوس نورنا الهادي الى كل حق، آمين
   
( صلاة البابا يوحنا بولس الثاني).

 


الاحد الثاني عشر من زمن العنصرة

انجيل القديس متى 15/21-28

الايمان وكرامة المرأة

 

       هذه اللوحة الانجيلية تكشف طريقة الله التربوية، وهي رمز لقيمة المثابرة في الايمان والصلاة. المرأة الكنعانية وثنية استنارت بنور الروح الذي هداها الى معرفة المسيح في جوهره المسيحاني، فتوسلت اليه بعبارات ايمانية، لا يألفها الوثنيون: " ارحمني يا سيدي، يا ابن داود، ان ابنتي يعذبّها شيطان ويضنيها" ( متى15/22). ثباتها في الايمان بقدرة يسوع اعطاها مبتغاها، وابرز كرمتها، وهي كرامة المرأة التي ظهرت بامتياز في شخص مريم العذراء الكلية القداسة.

 

اولاً، مدرسة الايمان

1.    محنة الايمان وكرامة المرأة

 

يسوع في نواحي صور وصيدا، في لبنان، في الاراضي التي كان يسكنها الكنعانيون الوثنيون غير اليهود، وهم الشعب الذي كان يستوطن فلسطين قبل اليهود. جاءت لملاقاته امرأة كنعانية وثنية. لسنا ندري كيف عرفته، لكننا نؤكد ان الروح القدس، الذي يملأ العالم، فتح ذهنها فعرفت يسوع في عمق جوهره. انه ابن داود القادر على شفاء ابنتها. بهذا الايمان ابتهلت اليه. اما يسوع فقد شاء ان يمتحن ايمانها بموقف وكلمات جارحة:

الموقف هو ان يسوع لم يعطِ اي انتباه او جواب للمرأة التي كانت تناديه وتصيح: " ارحمني يا سيدي، يا ابن داود، ان ابنتي يعذبها شيطان ويضنيها" ( متى15/22-23).

الكلمة الجارحة الاولى قالها يسوع عندما توسل اليه التلاميذ ليصرف المرأة لانها تزعج بصياحها، فاجاب: " ما أرسلت إلا الى الخراف التي ضلّت من بيت اسرائيل" ( متى15/23-24).

اما المرأة، بدلاً من ان تتراجع بردة فعل وعتاب، فسجدت له وتوسّلت باحترام وثقة: " يا سيدي أعنّي" ( متى15/25).

لكن يسوع بادرها بالكلمة الجارحة الثانية: "لا يحسن ان نأخذ خبز البنين، ونطرحه للكلاب"  (متى15/26). امام هذه الاساءة الكبيرة التي تحطّ من كرامة المرأة الكنعانية، بل والشعب الكنعاني برمته، اذ يسميهم كلاباً، واليهود ابناء لانهم من ذرية ابراهيم. كأني بالرب يسوع في كل ذلك يقفز من قفزة الى اخرى بوتيرة متعالة، كقفز الرياضيين، ونيته لا الاساءة لهذه المرأة بل امتحاناً لايمانها، وربما لاظهار بطولته وهذا ما حصل. فالايمان له مقتضياته المتسامية، ولا يعيشه وفقاً لمقتضياته سوى الابطال. هذه المقتضيات الغامضة تبدو وكأنها محنة الايمان. فلا ايمان من دون صبر وثبات.

وهنا قفزت المرأة الكنعانية قفزتها البطولية الاخيرة، امام اساءة تترك في السامع جرحاً بليغاً في كرامته. فاجابت يسوع بقول دلّ الى قلب كبير فيه ذروة الايمان والرجاء، مع محبة لشخص يسوع ابن داود: " نعم يا سيدي، والكلاب ايضاً تأكل من الفتات المتساقط على مائدة اربابها وتحيا" ( متى15/27).

فما كان من يسوع إلا ان اعلن بطولة ايمانها، وكشف ملء كرامتها، وأبرز انتصارها في بلوغ مطلبها: " عظيم ايمانك، يا امرأة، ليكن لك ما تريدين" ( متى15/28). ويختم الانجيلي هذه الحادثة بالقول: " ومن تلك الساعة شُفيت ابنتها". عجيب نهج يسوع، نهج الله، في تربية الايمان! انه انتصار المرأة في ايمانها، وانتصار يسوع في رهانه ومجازفته.

نحن امام معجزتين: ايمان اول امرأة وثنية بشخص يسوع، وشفاء ابنتها. المسيح مرسل من الآب لجميع الناس، كلمته فاعلة بقوة الروح القدس في كل انسان، اياً كان دينه وثقافته وعرقه. لا احد يمتلك المسيح، بل الكل مدعوون ليكونوا شهوداً لمحبته ورحمته.

المسيح في الانجيل هو هذا الباحث عن ايمان في الانسان. لان حياته وخلاصه من الايمان. ولهذا طرح يسوع السؤال الاساس يوماً: " تُرى، اذا اتى ابن الانسان ثانية، هل يجد ايماناً على الارض" (لو18/8). واكّد في موضع آخر: " المؤمن يستطيع كل شيء" (مر9/23).

من موقف يسوع ندرك ان الله يسمع حتى عندما لا يسمع، تماماً كما يتظاهر في كثير من الاحيان الوالدون والاطفال. وفي عدم سماعه ينفّذ ويساعد. هذا ما جرى مع القديس انطونيوس ابي الرهبان عندما كان الشيطان يجرّبه ويحاربه، وهو يستغيث بالله الذي بدا له وكأنه " غائب". وعند نهاية المعركة وانتصار انطونيوس، ظهر الرب، فسأله انطونيوس معاتباً: " ربي اين كنت عندما كان الشيطان يعذبني؟" أجابه: " كنت من ورائك اعينك عليه!".

من موقف المرأة الكنعانية الصابرة والمثابرة في طلبها، ندرك ضرورة الصلاة من دون ملل، ونفهم لماذا ألحّ الرب علينا: " سلوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم. من يسأل ينل، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له" ( متى7/7-8). علّق القديس اغسطينوس على هذا الالحاح قائلاً: لماذا يلحّ علينا يسوع لنصلي ونطلب؟ ويجيب: لانه يصلي معنا كرأس، ويصلي من اجلنا ككاهن، ويستجيب لنا كأله. ان في قلب اغسطينوس وذاكرته صلاة امه مونيكا الملحّة التي كانت في اساس ارتداده. وكان القديس امبروسيوس اسقف ميلانو اكدّ لها: " ان هذه الدموع وهذه الصلاة لن تصاب بالخيبة". وفي الواقع تاب اغسطينوس واصبح اسقفاً لقرطاجة وقديساً وملفان الكنيسة الجامعة، بفضل صلاة امه بصبر ورجاء وثبات.

لقد تجلّت كرامة المرأة في هذه الكنعانية. اما في شخص مريم العذراء ام الفادي الالهي، فقد تجلت الكرامة بامتياز. ونحن نحتفل بعيد انتقالها بالنفس والجسد الى مجد السماء.

 

2.                                         انتقال العذراء مريم الى السماء

 

تحتفل الكنيسة في 15 آب بعيد انتقال السيدة العذراء الى السماء بنفسها وجسدها. ونحن نتأمل في اسس العقيدة وثمارها.

أ. العقيدة واسسها

 

الانتقال هو تذكار موت مريم ام يسوع الاله، المعروف، بنياحها" " نياح" لفظة سريانية تعني راحة الموت. الله ينيّح الانسان اي يريحه بالموت. صلاة المرافقة للميت هي ابتهال الى الله لكي يريحه في مشاهدة وجهه القدوس في سعادة السماء، وينجيه من العذابات.

 وهو عيد انتقال مريم ام الاله بنفسها وجسدها الى السماء. يخبر التقليد ان عند نياح مريم اجتمع الرسل بوحي الهي لوداعها، كما نصلي في حساي قداس العيد ( الشحيمة المارونية): اجتمعوا من كل اقطار الارض حول جثمانها: سمعان-بطرس من روما، يوحنا من افسس، توما من الهند، اندراوس من بلاد اصفهان ( ايران)، يعقوب من القدس، يعقوب بن حلفى من سروج، تادي من الرها ( اورفا- تركيا)، برتلماوس من ارمينيا، سمعان الغيور من قبرص، يهوذا من كيليكيا. الاخرون وصلوا بعد وفاتها، ولما توجهوا الى القبر للتبرك من حثمانها، لم يجدوه. هذا هو الحدث التاريخي.

كانت الجماعة المسيحية الاولى تعيّد انتقال العذراء مريم بنفسها وجسدها الى السماء. لكن العقيدة الايمانية ترقى الى سنة 1950 عندما اعلنها البابا بيوس الثاني عشر بالدستور الرسولي الصادر في اول تشرين الثاني 1950 وعنوانه " Munificentissimus Deus" ( الله الغني بالجودة): " ان مريم البريئة من دنس الخطيئة، وام الله الدائمة البتولية وشريكة ابنها في الفداء، بعد نهاية حياتها على الارض، نقلت بجسدها ونفسها الى المجد السماوي,

اما اسس العقيدة فاربعة:

1) الحبل البريء من دنس الخطيئة الاصلية. عقيدة ايمانية اعلنها البابا بيوس التاسع عشر في 8 كانون الاول 1854 بالبراءة الرسولية " Ineffabilis Deus" ( الله الفائق الوصف): " ان الكلية الطوبى مريم العذراء، قد عصمها الله من دنس الخطيئة الاصلية، بنعمة منه وامتياز، واستباقاً لاستحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري".

2) انتصار مريم الكامل على الخطيئة الشخصية ونتائجها، طيلة حياتها الارضية. بنعمة خاصة من الله. لم ترتكب اي نوع خطيئة، حسب تعليم المجمع التريدنتي ( 13 كانون الاول 1545 – 4 كانون الاول 1563) في الدورة 6 القانون 223 (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 411).

3) أمومتها الالهية وبتوليتها الدائمة: مريم ام الاله Theotokos عقيدة ايمانية اعلنها مجمع افسس ( 431). " ان مريم هي ام الاله، لا بمعنى ان طبيعة الكلمة الالهية والوهيته اخذتا من مريم مبدأ وجودها، بل بمعنى ان جسد ابن الله المكمّل بنفس مفكّرة قد انبثق منها، وبالتالي ان الكلمة الالهي، بفضل اتحاده بالجسد في حشاء مريم بشكل غير قابل للتفسير والفهم، قد ولد منها بالجسد البشري".
ومريم دائمة البتولية: عقيدة اعلنها المجمع اللاتراني ( 5-13 تشرين الاول 1649): ان الله الكلمة، الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس، نزل من السماء وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء الدائمة البتولية وصار انساناً...وان مريم هي ام الاله القديسة والدائمة البتولية والبريئة من كل وصمة، وان الاله الكلمة، المولود من الآب قبل كل الدهور، حُبل في حشاها بالروح القدس في الازمنة الاخيرة، بدون زرع رجل، وهي ظلت بعد الحبل " دائمة البتولية". الحبل البتولي تحقيق لوعد الهي اعلنه اشعيا: " العذراء تحبل وتلد ابناً" ( اشعيا 7/14)، وقد كشفه الملاك ليوسف ( متى1/10). ولادة يسوع لم تنتقص من كمال بتولية امه بل كرسّتها.

4) مريم شريكة ابنها في الفداء: شاركته في آلامه، وفي قبوله الآلام والموت فداء عن البشر. بقولها " انا آمة الرب"، اعلنت تكرسيها الكامل لخدمة ابنها الكلمة المتجسد، وانفتاحها الكلي على شخص المسيح وكل عمله وكل رسالته، لذلك، ليست مريم ام يسوع ابن الانسان وحسب، بل " اصبحت شريكة المسيح الفادي السخية بنوع فريد على الاطلاق" ( الدستور العقائدي في الكنيسة عدد61). " في مسيرتها، مسيرة الايمان، حتى الصليب، قدمت مساهمتها كأم في رسالة المخلص التي اتمها بافعاله وآلامه. طيلة هذه المساهمة في عمل ابنها الفادي، انطبعت امومتها بطابع "المحبة المتقدة" نحو كل الذين تتوجه اليهم رسالة المسيح. وبهذه " المحبة المتقدة" الرامية الى نقل الحياة الفائقة الطبيعة الى النفوس، دخلت مريم شخصياً في عمق الوساطة الوحيدة بين الله والناس، التي هي وساطة الانسان يسوع المسيح. ولادتها مملؤة نعمة وحياة فائقة الطبيعة، كانت مؤهلة للتعاون مع ابنها، الوسيط الوحيد لخلاص البشرية" (البابا يوحنا بولس الثانتي، ام الفادي، عدد39).

 

ب‌.                                      ثمار الانتقال في حياة المؤمنين والكنيسة

 

انتقال القديسة مريم ام الفادي بنفسها وجسدها الى مجد السماء يجعل منها تحفة الفداء وعمل الله الثالوث: انها ابنة الآب وام الابن وعروس الروح. بواسطتها تحقق تصميم الآب الخلاصي، ومنها ظهر للعالم الكلمة المتجسد، ومعها بدأت الشركة بالروح القدس بين الله والانسان. محبة الآب ملأتها، ونعمة الابن خلصتها، وحلول الروح قدّسها.

الانتقال يجعلها نموذجاً لعمل الله الثالوث في كل انسان في دعوته الشاملة الى القداسة،وفي دعوته الخاصة وسط مسيرة شعب الله. ويجعل منها قدوة في اختبارات الانسان مع عمل الله.

انتقالها بالنفس والجسد مشاركة فريدة في قيامة ابنها وصعوده بالمجد نفساً وجسداً الى السماء، واستباق لقيامة القلوب ولمشاركة النفوس المفتداة بدم ابنها الفادي الالهي في مجد السماء، ولقيامة الاجساد في نهاية الازمنة للمشاركة في هذا المجد. الانتقال، في كل ما يحتوي من حقائق، اعلان لكرامة الشخص البشري في نفسه وجدسه، ولمصيره الابدي الذي يتساءل حوله الكثيرون: ماذا بعد الموت؟

بانتقالها الى مجد السماء، ظلت امومتها في الكنيسة وساطة ام بالتشفع ترفعه لاجل ابنائها المسافرين في هذا العالم وسط محنه وتعزيات الله، تضرع من اجلهم وتستنزل عليهم النعم التي تضمن خلاصهم الابدي، فيكتمل نهائياً عقد المختارين جميعاً، ولهذا تدعوها الكنيسة: المحامية، المعينة، المغيثة، الوسيطة  (الدستور العقائدي في الكنيسة،62). ونحن ننشد لها: " وان كان جسمك بعيداً منا، صلواتك هي تصحبنا...".

مريم العذراء، منذ تكوينها بريئة من دنس الخطيئة حتى نياحها محرّرة من فساد الموت والقبر، هي الى جانب ابنها ايقونة الحرية والتحرير بمعناها الروحي وبُعدها الانساني والاجتماعي والسياسي. ان الكنيسة، بالنظر الى مريم امها ومثالها، تفهم فهماً كاملاً معنى رسالتها وابعادها، وتلتزم بها دونما خوف او تردد او مساومة.

 

**

 

ثانيا، الخطة الراعوية

 

ان كرامة المرأة، كما تجلّت في لقاء يسوع بالكنعانية وفي سيدتنا مريم العذراء المنتقلة بنفسها وجسدها الى السماء، تنبسط الى كل كائن بشري، لاسيما وان للمرأة المربية والام دوراً مرموقاً في تعزيز كرامة الحياة البشرية. الكنيسة، " الام والمعلمة"، تضع ثقتها الكاملة في المدرسة، الخاصة والرسمية، وتنتظر منها ان تعدّ للمجتمع والكنيسة، بالتعليم والتربية، اجيالاً جديدة تتحلّى بالكرامة.

نستمد الخطة الراعوية مجدداً من النص السادس عشر للمجمع البطريركي الماروني: " المدرسة المارونية والتربية، في التعليم العام والمهني".

1. يوصي النص المجمعي 16 بأن تقوم الدولة بواجبها تجاه المدرسة الرسمية وتزيل نقاط الضعف فيها، وهي: تعزيز المستوى التعليمي التربوي عند الطلاب؛ التوازن في مختلف المناطق بين الابنية والتجهيزات وحالاجات العمليبة التعليمية التربوية؛ التكوين المستمر للهيئة التعليمية وتجديد التجهيزات التكنولوجية والمختبرية من اجل تطبيق المناهج الجديدة؛ اصلاح اداري باصدار تشريعات جديدة تختص  بصلاخيات المدير واعداده وتعيينه، وبتشكيل المجلس الوطني للتربية، وتمكين المجتمع المحلي من دعم المدرسة وتطويرها، وحسن توزيع المعلمين وتعزيز قدراتهم ( عدد24).

2. انطلاقاً من حرية التعليم، التي يكرّسها الدستور اللبناني ودساتير معظم الدول، يوصي النص المجمعي 16 بتمكين الاهل من ممارسة حرية اختيار المدرسة الرسمية والخاصة، ويبرز النص دور حرية التعليم في تنمية الفكر النقدي، وتفتّق الابداع، والتمرس بحمل المسؤولية، وانتاج المعرفة بدلاً من استهلاكها ( عدد25).

3. في ضوء انجيل لقاء يسوع بالمرأة الكنعانية الوثنية، لقاءً ايمانياُ شافياً، سقط الجدار الفاصل بين اليهود والوثنيين. يوصي النص المجمعي 16 بالتربية على قيمة حق الآخرين في الاختلاف لوناً وديناً وعرقاً ومعتقداً، واعتبار التعددية ثروة وغنى، وبناء وحدة الوطن في اطار التعددية الدينية والثقافية، بروح المسؤولية الوطنية والانسانية ( عدد26). ويوصي ايضاً بتعزيز التعليم المهني والتقني بجعل الكفاءات المعطاة ملائمة لتطلعات المجتمع اللبناني،  وبتجديد مناهج هذا التعليم باعادة النظر فيها اعادةً شاملة وعميقة، وباجراء توازن بين المعلومات النظرية والتدريب المهني واللحاق بالمتغيرات في انماط الانتاج وتقنياته، فضلاً عن واجب تحسين اللغات الاجنبية لدى الطلاب ( النص 16، عدد27).

 

***

صلاة

ايها الآب السماوي، يا ابا جميع الناس، لقد جعلت بيسوع ابنك الناس اجمعين ابناء لك. فهو اصبح للجميع اخاً وصديقاً، وبخاصة للبعيدين والمهمشين والمهملين. نسألك ان تحرر العالم من شر الانانية والعنف. ساعدنا لنحب الناس كما انت تحبهم بدون شرط او حدود. إقبل صلاتنا بيسوع المسيح، ابنك وربنا والهنا، الذي يحيا ويملك معك بوحدة الروح القدس الى الابد، آمين
   
( صلاة البابا يوحنا بولس الثاني).

                            


الاحد الثالث عشر من زمن العنصرة

انجيل القديس لوقا 8/4-15

كلمة الله حيّة وفاعلة

 

       كلمة الله الصادرة من قلب الله موجهة لتستقر في قلب الانسان (القديس البابا غريغوريوس الكبير). انها فاعلة دائماً بحدّ ذاتها. لكن الانسان يستطيع ان يقاومها بحريته ويجعلها من دون ثمرة. فتصبح مثل المطر الذي يهطل على الحجارة. هذا المثل الانجيلي يطرح العلاقة بين النعمة والقرار الحرّ، بين قدرة الله وحرية الانسان.

اولاً، كلمة الله من قلبه الى قلب الانسان

      

1.   كلمة الله وموقف الانسان

 

كلمة الله مثل النور. انه واحد، لكنه يعطي الواناً مختلفة، ابيض واحمر واسود واصفر، حسب نوعية الجسم الذي يقع عليه. هكذا كلمة الله حيّة ابداً وفعّالة، لكنها تؤتي مفاعيلها وثماراً مختلفة، حسب القلوب التي تقع عليها. هذا ما اراد الرب يسوع ان يعلّمنا اياه في مثل الزارع والارض. نوعية قلب الانسان تشكل موقفه وحريته تجاه كلام الله والنعمة الالهية. ثمة اربعة انواع من القلوب او المواقف:

القلب السطحي، مثل حاشية الطريق التي يقع عليها الزرع، فيدوسه الناس، وتلتقطه العصافير. هذا القلب لا يحفظ كلمة الله، بل يتعاطى معها بسطحية ويهملها ولا يكترث لها، فينتزعها الشيطان منه. ويبقى هو على ما كان عليه بدون ايمان وحياة ( لو8/5 و12).

القلب الحجري القاحل، مثل الارض الحجرة، يقع عليها الزرع فينبت لساعته. لكنه سرعان ما ييبس بسبب عدم رطوبة المكان. هذا القلب هو بدون مناعة وجذور. يفرح لساعته بالكلمة لكنه لا يتأمل فيها بقلبه ولا يغذيها بصلاته وعمق ايمانه. فتتبخر الكلمة عند اول تجربة ( لو8/6 و13). انه رمز الذين يسمعون وينسون حالاً ما سمعوا. هؤلاء يشبههم يعقوب الرسول: " بمن يسمع الكلمة ولا يعمل بها، فيشبه من رأى وجهه في المرآة ومضى، فنسي كيف كان". ويدعو الرسول الى العمل بالكلمة، لا الى سماعها فقط، الى امعان النظر في شريعة الحرية بكامل مفهومها، فلا يكون سماعه سماع من ينسى، بل سماع من يعمل، فهذا يكون سعيداً في عمله" ( يعقوب1/22-25).

القلب المنهمك، مثل الارض التي يخنقها الشوك، اذا وقع عليها الزرع، ينبت لكن الشوك يخنقه فلا ينمو ولا يثمر. هذا القلب تخنقه هموم الدنيا وهواجسها، والاهتمام المفرط بالمال، والغنى وشهوات العالم الثلاث: شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الحياة. عندما يسمع كلمة الله، يفضّل عليها همومه وهواجسه واهتماماته، فتختنق ولا تثمر اعمالاً ومبادىء حياة ومواقف جديدة خلقية ( لو8/7و14).

القلب الطيّب، مثل الارض المفلوحة والمنقاة من الشوك والحجارة، عندما يقع فيها الزرع يثمر الواحد مئة. هذا القلب نقي وصالح وجاهز لقبول كلام الله، فيحتضنه بعمق، ويتأمل فيه، ويحفظه بالصلاة وممارسة الاسرار، فتتكوّن عنده حضارة حياة جديدة، وبالصبر والثبات يثمر اعمالاً صالحة ومبادرات جميلة ومواقف شاهدة ( لو8/8 و15).

هذا المثل البليغ دعوة الى تحرير الذات من السطحية والقحط والانهماك المفرط بشؤون الدنيا. دعوة الى حرية ابناء الله التي تنقي القلب وتفتحه على انوار كلام الحياة. انها حرية القلب والفكر والارادة من الذات والناس وثروة الدنيا. وحدها هذه الحرية تلتقط كلمة الله كاملة وتعيش مقتضياتها، وتعمل بموجب وصية سيزار دَارْلْ (+542): " كما نحتاط عندما يُوزّع علينا جسد المسيح، لئلا يقع من ايدينا شيء على الارض، كذلك علينا ان نحتاط ذلك الاحتياط، لئلا تُفلت من قلبنا كلمة الله الموجّهة الينا. من يسمع كلمة الله، بدون اكتراث، ليس اقلّ اثماً ممن يدع جسد الرب يسقط على الارض غير عابىء به!".

كلام الله الموحى لنا مسؤولية علينا. انه كلام حي كالزرع، ينمو في اي حال ومكان، لكنه يشترط وجود ارض طيّبة. وهو كلام مشع كالنور، لكنه لا يستطيع ان ينير اذا خبأة شيء. وهو كلام يغيّر كالخميرة التي لا تستطيع ان تُخمِّر ما لم تحفظ داخل العجين ( متى13/33). كل هذه الشروط هي التي تحكم العلاقة بين قدرة الله وحرية الانسان. اذا عطّل الانسان كلام الله، كان مسؤولاً عنه تجاه الله والناس. فالله يكلّم جميع الناس ليقبلهم في الشركة معه والاتحاد فيما بينهم (الوحي الالهي، 2).

لا تقتصر فاعلية كلام الله على مفاعيله في الاشياء والاشخاص: في الشيء الذي ينيره، او في الزرع الذي ينمو ويثمر، او في العجين الذي يخمّره، بل يجعل المفعول علّة بذاته: فالمستنير يصبح بدوره شعاع نور، والثمرة تصبح زرعاً، والعجين خميرة جديدة. وفي الواقع، الله يدعونا لنحيا من  كلامه، ولننقله الى غيرنا، ولنعرفه ونعرّف الناس اليه. كلمة الله صار بشراً في يسوع المسيح ( يو1/14)، هذه الكلمة اياها تنتظر ان تتجسّد فينا ومن خلالنا.

 

2.                                            تشابيه كتابية لكلمة الله وفاعليتها

 

يشبّه اشعيا النبي كلمة الله بالمطر والثلج، حيث تقع تنبت:

" كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع الى هناك، بل يروي الارض ويجعلها تنبت لتؤتي الزارع زرعاً، والآكل طعاماً، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع اليّ فارغة، بل تتم ما شئت، وتنجح في ما ارسلتها له" ( اشعيا 5/10-11).

وكلمة الله مثل سيف ذي حديّن ( عبر 4/12) يخرج من فم ابن الانسان ( رؤيا1/16)، فهي سيف الروح ( افسس 6/17). حيث تدخل تقطع، فينقشع امامنا الطريق، كما يفعل المنجل في الادغال. تقطع كل ما هو غير نافع، وتشذّب، وتقتلع جذور الانسان العتيقة، على ما قال الرب يسوع: " انتم انقياء بالكلمة التي قلتها لكم" ( يو15/3). وهي الفأس على اصل الشجرة، فتدعو الى تنقية الذات والقيام باعمال تليق بالتوبة، كما دعا يوحنا المعمدان ( متى3/9 و10).

وكلمة الله " خبز النفس"، اذ " ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" ( لو4/4). هذه الكلمة تغذّي النفس، وتقود خطاها الى المراعي الخصبة. " لا شيء غير كلام الله يستطيع إحياء نفس الانسان" ( القديس امبروسيوس).

يبقى الجوع والعطش الحقيقيان جوعاً وعطشاً الى كلمة الله، في الانسان الضائع، المتخم مادياً، كما وفي المجتمعات الاستهلاكية، وحيث يعمّ الفساد والظلم والاستضعاف، على ما ينبىء النبي عاموس:

" تأتي ايام، يقول الرب، ارسل فيها الجوع على الارض. لا الجوع الى الخبز ولا العطش الى الماء، بل الى استماع كلمة الله" ( عا8/11).

بما ان الله يتكلم، وكلمته حيّة وفاعلة، يجب سماعه، وسماعه بالقلب، المشبّه بالارض الطيّبة، بحيث يصبح كلامه كأنه نار في عظام السامع، كما جرى مع الانبياء، النبي معروف بانه " رجل السماع": النحات الايطالي العبقري Michelangelo صوّر في لوحة الدينونة اشعيا النبي باذنين كبيرتين. اشعيا ترك لنا هذه الصلاة: " نبهّ يا رب اذني، صباحاً فصباحاً، لاسمع كالعلماء" ( اشعيا 50/4).

ويعطي القديس اغسطينوس السبب والغاية من سماع كلمة الله: " بسماع بشرى الخلاص، الانسان، بل العالم باسره، يؤمن، واذ يؤمن يترجى، وفيما يترجى يحب".

لا نسمع او نقرأ كلام الله مرة، وندّعي معرفته وحفظه، بل نقصده كل يوم، فهو، على ما يقول القديس افرام السرياني، " كالينبوع الذي لا ينضب، ويروي ظمأ العطشان".

تبقى لنا مريم، ام الكلمة، المثال الاسمى لسماع كلمة الله كل يوم وحفظها في القلب ( لو11/28)، هي التي قبلت الكلمة بالايمان والرجاء والحب في قلبها، حتى صار جسداً في احشائها.

 

***

ثانياً، الخطة الراعوية

 

الله في حوار دائم مع الانسان. كلامه كالزرع ينتظر قلباً مستعداً، كالارض  الطيبة، لقبول كلمة الله التي تثمر حضارة حياة تتحلى بالقيم الروحية والانسانية والخلقية والاجتماعية.

الخطة الراعوية تتناول دور المدرسة في تنشئة العقول والقلوب بتربية مسيحية على قيم الانجيل. النص السادس عشر للمجمع البطريركي الماروني يوجّه هذا الدور، وعنوان النص: " الكنيسة المارونية والتربية، في التعليم العام والمهني".

1. يوصي النص المجمعي 16 بأن تنشر المدرسة كلام الله مباشرة، بحيث لا تعطي الطالب ثقافة دينية عامة فقط، بل ترسّخه في الانجيل، وتدرّبه على ممارسة حياة الايمان، حباً للمسيح وخدمةً للقريب. ويوصي بأن تكون الثقافة العلمية كلها مشبعة بالقيم الانجيلية. ولهذا السبب يوصي بتخصيص ساعتين للتعليم المسيحي في المدارس الكاثوليكية ( عدد34).

       2. ويعتبر النص المجمعي 16 ان التربية عمل مشترك تتولاه ثلاث جماعات: العائلة والدولة والكنيسة ( عدد30)، وان التلميذ هو محور العملية التربوية وهدفها، انساناً متكاملاً في ذاته، مواطناً فاعلاً وفعّالاً ، ومؤمناً ملتزماً، فهو ابن الله وابن الكنيسة وابن المجتمع، ولذا ينبغي ان تتوفر له تنشئة روحية وخلقية متوازية مع التنشئة العلمية والاجتماعية ( عدد31). يوصي النص المجمعي 16 بأن تكشف المدرسة للتلاميذ حقيقة سرّ المسيح، وتقدمه هدفاً اسمى للحياة؛ وبان تنشيء التلاميذ على اسلوب حياة مشبعة بروح الصلاة والممارسة الدينية والنشاطات الراعوية؛ وبان تدرّبهم على الثبات في الحقيقة باقتناع وشجاعة ومحبة، وعلى الحوار المنفتح الذي يحترم الآخر المختلف؛ وبأن تهيّئه ليكون رسولاً مستقبلياً مستعداً للتخلي عن كل شيء من اجل المسيح، اذا من سمع نداءه في اعماقه ( عدد34).

       3. وبما ان الوالدين هم المربون الاولون لاولادهم، وناقلو الايمان اليهم، ولهذه الغاية يختارون المدرسة التي تلائم تطلعاتهم، يوصي النص المجمعي 16 بأن تكون المدرسة اسرة تربوية، وبمثابة امتداد للعائلة. اعضاء هذه الاسرة التربوية المؤلفة من ادارة ومعلمين ومسؤولين تربويين واهلاً، مدعوون لاقامة روابط ثقة وعدالة ومحبة فيما بينهم، ولاتمام سعيهم بتضامن وحبّ وشخاء في البذل والعطاء ( عدد32).

 

***

       صلاة

       يا مريم، فجر العالم الجديد، ام الاحياء، اليك نكل قضية الحياة لكي تنمو في كل كائن بشري بالقامة والنعمة والحكمة امام الله والناس، بتضافر جهود العائلة والمدرسة والكنيسة. اعطي المؤمنين بابنك ان يعلنوا انجيله لاجيالنا الطالعة بحب وسخاء. ساعدي سامعي كلمة الانجيل ان يقبلوها كعطية جديدة ابداً، وان يحتفلوا بها بشكر طيلة حياتهم، وان يشهدوا لها بشجاعة وثبات، لكي يبنوا، مع جميع الناس ذوي الارادة الحسنة، حضارة الحقيقة والمحبة، لمجد الله الثالوث، الاب الخالق والابن المخلص والروح المحيي، وتسبيحه الى الابد، آمين
   
( صلاة البابا يوحنا بولس الثاني).


 


الاحد الرابع عشر من زمن العنصرة

انجيل القديس لوقا 10/38-42

الجوع الى كلمة الله

 

 المطلوب الاساسي في حياة كل انسان ان يسمع كلام الله ليعمل به في كل نشاط ينجزه. هذا المطلوب كان نصيب مريم، واشار به يسوع لمرتا. لم يكن كلام يسوع لمرتا عتاباً بل كان توجيهاً عاماً. ما من شك ان مرتا انهمكت بخدمة يسوع بتأنٍ ومحبة واخلاص، وجاءت خدمتها ممتازة حباً بيسوع الذي كانت تعرفه وتؤمن به. قول يسوع لها موجّه بالحقيقة الى كل انسان، لكي يصغي اولاً الى كلام الله، فيكون نوراً وقوة لعمله ونشاطه، وضمانة لصلاحه.

 

اولاً، شرح النص الانجيلي

1.                                         طعام الكلمة

 

" المطلوب واحد" ( لو10/41).

" المطلوب الواحد" هو الجلوس على مائدة طعام الله، مثل مريم التي " اتت وجلست عند قدمي يسوع تسمع كلامه" ( لو10/39). كل مرة نسمع كلام الله، فليكن جلوساً الى مائدة يسوع، حيث " نتناول" في القلب كلام الحياة. جميل ان تحوّل العائلة مائدة الطعام، بعد العشاء، الى مائدة كلام الله، فتصغي الى نصّ الانجيل يغذي العقل والقلب، كما غذى الطعام المادي اجساد افرادها! وأجمل ايضاً ان تجلس كل عائلة دموية مع العائلة المسيحية القربانية الى مائدة الافخارستيا في قداس الاحد، " تتناول" كلام الله على مائدة الكلمة في القسم الاول من القداس، ونعمة الفداء على مائدة ذبيحة الفادي في القسم الثاني، وجسد الرب ودمه على مائدة محبة الله الواهب ذاته خبزاً سماوياً في القسم الثالث. فالقداس كلمة تُعلن وتُسمع، وذبيحة تفتدي، وخبز يعطي من جسد الرب ودمه الحياة الجديدة ( مختصر التعليم المسيحي، 277).

هذا هو " المطلوب الواحد".

 

عندما جاع يسوع الى الطعام المادي، بعد صيامه في البرية اربعين يوماً واربعين ليلة، وجاء الشيطان يجربّه ليحوّل الحجارة الى خبز فيسّد جوعه، اجاب يسوع: " ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" ( متى4/4). في صومه المادي، كان يسوع يغتذي من كلام الله الذي هو نور للعقل يقوده الى الحقيقة، وقوة للارادة يوجهها الى الخير، ودفع بالقلب يحركه الى مبادرات حب وبذل وعطاء. ولهذا جاء الشيطان، عدو الحقيقة والخير والمحبة، يجرّب يسوع ويحتال عليه ليخرجه من عالم الروح الى عالم الجسد، عالم الاستهلاكية والماديّة. وكانت الحيلة الشيطانية: " ان كنت ابن الله،  قل لهذه الحجارة ان تصير خبزاً" ( متى4/3). يسوع هو حقاً ابن الله، وهو كلمته التي خلق بها الآب كل شيء (سفر التكوين، الفصل الاول)، لكنه مطيع في بشريته للآب في كل ما يقول.

جاع يسوع الى الخبز، ككل انسان. لكن جوع الانسان الحقيقي انما هو جوع الى كلام الله، وجوع الى جسد المسيح، وجوع الى الروح القدس ( مختصر التعليم المسيحي، 593).

هذا هو "الحظ الصالح" الذي اختارته مريم ولا يُنزع منها" ( لو10/42).

 

عندما عطش يسوع جلس على حافة بئرّ يعقوب، وطلب من المرأة السامرية، التي جاءت تستقي، ان تعطيه ليشرب، ورفضت، فقال لها: " لو تعرفين عطية الله! لكنتِ انت تسألين، ولكان هو يعطيك الماء الحي" (يو4/10). وعندما طلبت، اعطاها بالمقابل ماء الحقيقة المزدوجة: الايمان بيسوع انه نبي وانه المسيح المنتظر ( يو4/19 و23)، وحقيقة عبادة الله بالروح والحق (يو4/23). وهكذا تمم لها قوله السابق: " من يشرب من الماء الذي اعطيه انا، لن يعطش الى الابد! بل الماء الذي انا اعطيه، يصير فيه معين ماء يجري للحياة الابدية " ( يو4/14). لقد منحها الروح القدس، الذي هو معين الماء الجاري للحياة الابدية". هذا الروح ايقظ فيها الايمان، واطلقها رسولة الى جماعتها مندفعة للشهادة ليسوع: " هلموا انظروا رجلاً قال لي كل ما فعلت! لعله هو المسيح" ( يو4/29). ويورد يوحنا الانجيلي ان " الكثير من السامريين آمنوا بيسوع لكلام المرأة" ( يو4/39).

واللافت ان المرأة "تركت جرّتها ومضت الى المدينة، وقالت للناس..."(يو4/28). لم تعد بحاجة الى الماء المادي، على ضرورته، فقد روت ظمأها الحقيقي من كلام يسوع.

العطش الحقيقي انما هو الى كلام الرب الذي هو ماء الحياة الابدية!

 

ما اراد يسوع قوله، من خلال جوابه لمرتا، هو انه لم يأتِ العالم طلباً لطعام هذه الدنيا، المتوفر لكل حي من العناية الالهية، بل ليعطيه طعامه الروحي، الذي هو كلمته وجسده ودمه والروح القدس. لم يشجب يسوع ولم ينتقد خدمة مرتا، بل دعاها الى اولوية الطعام الروحي الذي يسند سعينا الى الطعام المادي، عن طريق الحقيقة والعدالة والنزاهة، بدون جشع او طمع.

 بالعودة الى لقائه بالسامرية لم يشرب يسوع من ماء البئر الذي سبق وطلبه من المرأة: ولما عاد التلاميذ من المدينة حاملين معهم طعاماً ودعوا يسوع ليأكل، اجاب " لي طعام آكله، لا تعرفونه انتم. طعامي أن أعمل بمشيئة الآب الذي ارسلني، وان اتمم عمله" ( يو4/32-34).

 

2.                                         وجوه اعتذت من طعام الكلمة

 

قديسون عظام اغتذوا من طعام الكلمة ولمعوا في الكنيسة والسماء، نعيّد لهم في هذا الاسبوع.

القديس اغسطينوس ( 28 آب). ولد سنة 354 في مدينة تاغستا في افريقيا الشمالية المعروفة بافريقيا الرومانية. والده باتريسيوس ضابط روماني وامه مونيكا ( القديسة) مسيحية. فتربى على يد امه تربية مسيحية، لكنه فقدها كلياً عندما درس الفلسفة والآداب في قرطاجة، وساكن امرأة مدة 15 سنة انجب منها ولداً وهو بعمر 18 سنة، سماه عطالله Adeodatus. انتقل الى روما بعمر 29 سنة ليعلّم في جامعاتها ثم الى ميلانو، وهناك التقى اسقفها القديس امبروسيوس فاجتذبه بعظاته، وهو في صراع كبير بين حقيقة المسيح المعلنة والتيارات الفلسفية التي كانت تجتذبه. اما امه فكانت ترافقه بالدموع والصلاة من اجل ارتداده، فأنبأها القديس امبروسيوس ان "هذه الدموع والصلوات لن تذهب سدى".

وذات يوم فيما كان اغسطينوس يستغرق في قراءة الانجيل شعر بنداء الهي، فعاد الى الله واعتمد بعمر 33 سنة ليلة عيد الفصح. ثم عاد الى افريقيا واسس جماعة رهبانية قائمة على ركيزتين: الصلاة والعلم. رسمه اسقف ايبونا كاهناً وعينه نائباً له، وعند وفاته بعد سنة انتخب اغسطينوس خلفاً له سنة 391 وهو بعمر 37 سنة. خاطب شعبه يومها قائلاً: " انا معكم مسيحي ومن اجلكم اسقف. الاسم الاول هو اسم النعمة، والثاني اسم الخطر. فصلوا لاجلي لكي تتغلب النعمة". ترك لنا اغسطينوس العديد من المؤلفات وشروحات للكتب المقدسة تبلغ 120 كتاباً، ومن اهمها "اعترافاتي" و " مدينة الله". وله الكلمة الشهيرة التي اختزل بها كل حياته: " لقد خلقتنا لك يا رب، ويبقى قلبناً قلقاً ومضطرباً حتى يستقر فيك".

 

يوحنا المعمدان (29آب) شهيد الحقيقة التي رآها ساطعة في شخص يسوع المسيح، كلمة الله المتجسّد، واعلنها وقاوم الانحرافات المناهضة لها لدى الشعب والقادة الدينيين والسلطة السياسية. فأمر هيرودس بقطع رأسه استجابة لحقد هيرويا التي كان يبكته على علاقته بها غير الشرعية(مر6/17-29).

شهد يوحنا للحقيقة واستشهد في سبيلها، وقال: " مَن قبل شهادة المسيح الآتي من فوق، فقد ختم على ان الله حق. لان من ارسله الله، فبكلام الله يتكلم. من يؤمن بالابن، له الحياة الابدية؛ أما من لا يطيع الابن، فلن يرى الحياة، بل ان غضب الله يستقر عليه" (يو3/21-36).

 

القديس سمعان العامودي ( اول ايلول). عاش ناسكاً على العامود. سمعان الكبير تلميذ مار مارون الذي حمل الرسالة المارونية الى جبل لبنان من جهة ارز بشري، فيما ابراهيم القورشي دخله من جهة العاقوره. سمعان الكبير ولد سنة 390 وتعيّد له الكنيسة في 24 ايار. اما سمعان العامودي الصغير، فولد سنة 521. كلاهما عاشا سرّ الكلمة على عامود قائم بين الارض والسماء، بالتأمل في كلام الله والصلاة والتقشف، سمعان الكبير بقي مدة ثلاثين سنة فوق العمود والصغير خمساً واربعين. فكانا بصلاتهما والآيات التي كانت تجري على ايديهما بمثابة وسيط بين الله والناس، على مثال الرب يسوع الوسيط الوحيد. اما شعارهما فكان: " وانا متى رُفعت عن الارض، اجتذبت اليَّ كل احد" ( يو12/32).

 

القديس ماما الشهيد ( 2 ايلول)، ولد في السجن حيث كان والداه اسيرين، وماتت امه اثر مولده، فتربى على يد امرأة  مسيحية على التقوى والاخلاق الحميدة، فتحت قلبه على ابوّة الله وعنايته. لم يتعلم القراءة والكتابة، بل كلّف برعاية الغنم. اجتذبته كلمة الله، لا المكتوبة بالاحرف، بل في الطبيعة والخلق، وفيما كان الغنم يرعى ويغتذي من عشب الحقول، كان ماما في النهار يستغرق متأملاً بعظمة الخالق البادية في الكائنات المخلوقة، وفي الليل يراقب النجوم ويعلم اوقاتها ويناجي مبدعها، ما حمله الى تمجيد الله فيها وفي عمله الوضيع. استشهد بعمر 15 سنة، ايام الاضطرابات الوثنية سنة 275.

اجل، العالم المخلوق طريق لمعرفة الله، الذي هو اصل الخلق وغايته. يقول القديس بولس شاجباً الذين لا يرون وجه الله في مخلوقاته: " معرفة الله ظاهرة فيهم. ان خفيات الله، منذ انشاء العالم، وقوته والوهيته الابدية، تراها مخلوقاته بالعقل، حتى لا يكون لهم عذر، لانهم عرفوا الله، ولم يؤدوا له المجد والشكر كما يجب لله، ولكنهم ضلّوا بافكارهم، وأظلم قلبهم لئلا يفهموا. وحين ادّعوا انهم حكماء، كانوا هم الجهلة" ( روم1/19-22).

وكتب القديس اغسطينوس كلاماً شبيهاً بمضمونه: " إسأل جمال الارض، اسأل جمال البحر، إسأل جمال السماء، إسأل كل المخلوقات، تجيبك كلها: انظر، نحن جميلات. لكن جمالاتها تتغير، اما الذي صنعها فهو  الجميل الذي لا يتغيّر" (التعليم المسيحي  للكنيسة الكاثوليكية،32).

 

الله يكلم الانسان بالخلق المنظور. العالم المادي معروض لعقل الانسان لكي يقرأ فيه علامات الخالق: " ان الاله الحي الذي صنع السماء والارض والبحار وجميع ما فيها، شهد امام الامم لنفسه بما كان يرزقهم من الخير، وينزل عليهم المطر، ويؤتيهم في اوانه الثمر، مالئاً قلوبهم غذاء وفرحاً" ( خطبة بولس الرسول في ليسترا، اعمال 14/15-17). ان النور والليل، الهواء والنار، الماء والارض، الشجرة والثمار، كلها تتكلم عن الله، وترمز في آن الى عظمته وقربه. كل هذه المخلوقات الحيّة يمكن ان تصبح للمتأملين المصغين، تعبيراً عن عمل الله الذي يقدس الناس وعن عمل البشر الذين يؤدون العبادة لله (التعليم المسيحي، 1147-1148).

قبل ان يكشف الله عن ذاته للانسان بكلمات، انكشف له بلغة المخلوقات، التي هي كلمته وحكمته. فنظام الكون وتناغمه وعظمة المخلوقات وجمالها التي يكتشفها الولد ورجل العلم على السواء انما تحمل كلها الى التأمل في خالقها، الذي هو ينبوع كل جمال (الحكمة 13/3و5؛ التعليم المسيحي،2500).

يلتقي في هذه الحقيقة كلٌ من اغسطينوس الفيلسوف في مؤلفاته النفيسة وسمعان العامودي المصلي على رأس عمود، وماما الولد المتأمل في الطبيعة وراء الغنم.

***

ثانياً، الخطة الراعوية

 

كما كلمة الله تغذي الانسان وتشبعه، كذلك العلم والتربية تكمله. هنا تبرز اهمية المدرسة التي اشار اليها المجمع البطريركي الماروني وتناولها من كل جوانبها في النص 16: " الكنيسة المارونية والتربية، في التعليم العام والتقني",

          1. يعلّم النص 16 ويوصي، في ما يختص بالمدرسة وتعزيز الحسّ الوطني الاجتماعي (عدد35)، ما يلي:

أ‌-     تدريب التلميذ على معرفة حقوقه وواجباته بالاستناد الى شرعة حقوق الانسان، ليدافع عن الحقوق ويؤدي الواجبات، عنده وعند غيره من الناس.

ب‌-          تربية الجيل الطالع على ما تقتضي مواطنيته من معرفة عميقة لهويته الذاتية، ولجذوره        المتأصلة في الارض والتاريخ والثقافة والمحيط الاجتماعي.

ج- تعزيز الحسّ الوطني عند التلامذة من خلال تلقينهم تاريخ الوطن، وانماء حبّ الارض

    والطبيعة فيهم، واطلاعهم على ما يمّيز وطنهم عن باقي الاوطان، وعن دوره الخاص الذي

    يسهم في مستقبل الانسانية جمعاء.

د‌-       تربية الطلاب على القيم التي تجعل من لبنان رسالة تعايش ومثالاً للشرق وللغرب، يمكّنانه من

    المساهمة في بناء الحضارة العالمية. والقيم هي هذه: الانفتاح على الآخر ومعرفته كما هو،

    واحترام خصائصه وتقاليده، والحوار معه على مستوى الحياة والثقافة والمصير المشترك،

    والوفاق في الشؤون الوطنية العامة، والمشاركة في الحكم والادارة.

ه- تعريف التلامذة بعطاءات مشاهير البلاد في ميادين الثقافة الوطنية والاقليمية والدولية.

و- التعمّق في اللغة العربية وثقافتها الى جانب اتقان لغات وثقافات اجنبية للتواصل مع باقي

     الشعوب، ثقافياً واقتصادياً وسياحياً وتجارياً.

 

2. ويوصي النص المجمعي 16 بجعل ابواب المدرسة وقدراتها مفتوحة للجميع من اجل محو الامّية والخروج من ظلمات الجهل؛ وتمكين الفقراء واليتامى والمعاقين وذوي الحاجات الخاصة من اكتساب العلم والتربية بغية تحقيق ذواتهم، خدمة للحياة البشرية، وصوناً لحقوق الانسان، وانماء لحضارة المحبة والتضامن ( عدد36).

 

3. ويوصي النص عينه بتعزيز التعليم المهني والتقني، فهو يشكل العامود الفقري للاقتصاد اللبناني، لكونه يؤهل الكفاءات الانسانية الضرورية في مختلف القطاعات المنتجة.

***

صلاة

يا يسوع الراعي الصالح، اليك نكل كل معلمي الكلمة لكي يقودوا الاجيال الجديدة، الموكولة اليهم، الى اكتشاف معنى الحياة المسيحية الاصيلة. فيدركوا انها دعوة الى اتباعك من خلال كل عمل ونشاط يقومون به. حوّل رعايانا الى جماعات حيّة تعطي رسلاً مندفعين ومواطنين ملتزمين، بفضل الصلاة الجماعية والحياة الليتورجية، وسماع الكلمة الالهية باصغاء وامانة، وممارسة المحبة الاجتماعية السخية. اعطِ الشبيبة، وسط الانهماكات والهواجس وضجيج هذا العالم، ان تختار النصيب الاوفر، مثل مريم، وتبحث عن "المطلوب الواحد" الذي هو انت يا كلمة الحياة، لك المجد مع الآب والروح القدس الى الابد، آمين 
      (مقتبسة من صلاة للبابا يوحنا بولس الثاني).

 


الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة

انجيل القديس لوقا 7/3-50

محبة الله والانسان

 

         التوبة ومغفرة الخطايا فعل حب من الانسان ومن الله. من يتوب عن خطاياه ويرجع الى الله، انما يقوم بفعل حب، والله الذي يغفر الخطايا يؤدي فعل حب. هذا ما تكشفه اللوحة الانجيلية عن توبة المرأة وغفران يسوع.

اولاً، التوبة عن الخطايا فعل حب كبير

 

1.                                             التوبة عن الخطايا فعل حب كبير

 

" خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لانها أحبت كثيراً " ( لو7/47).

أحبّت المرأة الخاطئة يسوع فندمت عن خطاياها. واحبّت كثيراً لانها تواضعت فقامت بفعل توبة علني، وهي معروفة في المدينة، ودخلت بيت سمعان الفريسي، غير آبهة لحكمه الصارم: " ان التي لمسته امرأة خاطئة " ( لو7/39)؛ وأحبّت كثيراً لانها جثت على قدمي يسوع وبكت خطاياها وذرفت دموعاً غزيرة، ونشّفت رجلي الرب بشعرها، ثم دهنتهما بالطيب. هذه كلها افعال تعبيرية عن توبتها الكبيرة وحبّها الشديد ليسوع. انه اعتراف واقرار بخطاياها، وبقداسة الله المتجلية في شخص يسوع، وفعل ايمان بالمسيح وبقدرته الالهية الشافية.

من يتوب الى الله توبة صادقة، بندامة كاملة على خطاياه، هذا يحب الله ويحبه كثيراً. ذلك انه عندما ارتكب الخطايا رفض الحب الله، وأفرغ قلبه من محبة الله، وأمعن في الاساءة اليه. من يحب لا يرتكب الاساءة، ومن يسىء لغيره لا يحبه.

وصايا الله العشر وسائل عملية لعيش الوصية العظمى في الشريعة الالهية، اي محبة الله من كل القلب والنفس والقوة والفكر، ومحبة القريب كالنفس ( متى 22/37-39؛ تثنية 6/5). الوصايا الثلاث الاول وسائل لمحبة الله: اعتبار الله الهاً وحيداً ولا احد سواه من اصنام هذه الدنيا، وتقديس اسم الله بقول الحقيقة وعدم الحَلَف باسمه باطلاً، وحفظ يوم الرب باداء العبادة لله بالانفتاح على كلامه ونعمته ومحبته، وبدء حياة جديدة ومسلك جديد. والوصايا السبع الباقية وسائل ايضاً لمحبة الانسان: باكرام الوالدين واحترامهم وطاعتهم وخدمتهم؛ بعدم الاعتداء على حياة اي انسان قتلاً او تعذيباً او امتهاناً لكرامته؛ بعدم انتهاك قدسية نفسه وجسده وطهارته فقد اصبحت هيكل الروح القدس؛ بعدم الاعتداء على امواله بالسرقة او الاختلاس او الرشوة او فرض خوّة؛ بعدم اداء شهادة زور بحقه مهما كانت الاسباب؛ بعدم اشتهاء زوجه او ممتلكاته.

من انتهاك هذه الوصايا العشر التي سلّمها الله لموسى مكتوبة على لوح من حجارة، وكتبها في قلب الانسان وطبيعته، تتحدر كل خطيئة ضد محبة الله ومحبة الانسان. والخطيئة ضد احدى الوصايا هي مخالفة صريحة لها او تكون إما بالفعل وإما بالنية وإمل بالاهمال وإما بسؤ الاستعمال، شرط ان تتم بوعي كامل وحرية تامة وقصد متعّمد (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1859).

 

2.                                            مغفرة الخطايا فعل حب كبير

 

" أحب اكثر ذاك الذي سامحه بالاكثر" ( لو7/43).

غفران الخطايا فعل حب كبير، نابع من قلب الله الذي هو محبة ( 1يو4/8)، وغني بالرحمة (افسس2/4). انه مصالحة الله للانسان التائب، اذ يعود الله فيعطيه حبّه الشافي. التوبة من جهة الانسان الخاطيء والمصالحة من قبل الله القدوس فعل حب متبادل. هو الله، بشخص يسوع المسيح ابن الانسان، يمنح تلك المرأة الغفران لانها أحبّت كثيراً وآمنت: " مغفورة لك خطاياك... ايمانك احياكِ، اذهبي بسلام"  ( لو7/48 و50).

هذه الكلمات التي قالها يسوع الاله للمرأة التائبة، وضعتها في نعمة الله وفي صداقته السامية؛ واعطتها سلامة القلب وطمأنينة الضمير وتعزية روحية عميقة؛ وحملت لها " قيامة روحية"؛ وارجعت اليها كرامتها المفقودة بخطاياها وبصيتها في المدينة؛ واعادت اليها خيرات البنوّة لله واعزّها صداقة الله ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1468).

 غفران الخطايا ينبع من محبة الله العظمى: " هكذا احب الله العالم حتى جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية" ( يو3/16). تجلت محبة الله في التجسد والفداء:  "صار الله انساناً ليؤله الانسان" (القديس امبروسيوس)؛ بالفداء، موتاً على الصليب، كانت ذروة الحب: " ما من حب أعظم من هذا، وهو ان يبذل الانسان نفسه عن احبائه" ( يو15/13). وما زال يتفجّر غفران الخطايا من موت المسيح وقيامته من ذبيحة الفداء ووليمة المصالحة المستمرتين هنا والآن، حتى نهاية الازمان، في سرّ الافخارستيا: " خذوا كلوا منه جميعكم هذا هو جسدي يبذل من اجلكم ومن اجل الكثرين لمغفرة الخطايا. خذوا اشريوا من هذه الكأس، هذا هو دمي يراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا"    ( متى26/26-28؛ 1كور 11/24-25). ويبلغ الى التائبين غفران الله بالروح القدس الذي هو حب الله الكبير المفاض في قلوبنا، من خلال خدمة الكهنوت وسلطان الحلّ من الخطايا المعطى لكهنة العهد الجديد بشخص الرسل: " خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه غفرت، ومن أمسكتم عليه خطاياه اُمسكت" ( يو20/22-23).

         كل هذه الحقائق نجدها مختصرة في صيغة الحلّ من الخطايا يقولها الكاهن للتائب:

       " الله ابو المراحم، الذي صالحنا بموت ابنه الوحيد وقيامته، وأفاض روحه القدوس لمغفرة الخطايا، هو يمنحك، بواسطة خدمة الكنيسة، الحلّ  والغفران. وانا بالسلطان المعطى لي احلّك من جميع خطاياك، باسم الآب والابن والروح القدس، آمين. اذهب بسلام المسيح".

 

3.   وجوه عاشت كمال المحبة

 

تعيّد الكنيسة في هذا الاسبوع ميلاد السيدة العذراء وقديسين عاشوا في صداقة الله بالمحبة الكاملة.

القديس شربل اسقف الرها ( 5 ايلول). كاهن وثني في الاساس آمن بالمسيح وأحبه بعد سماعه بشارة الانجيل من فم اسقف الرها برسيما. اعتمد واصبح كاهناً ثم انتخب اسقفاً على الرها في عهد ترايانوس قيصر، في اوائل القرن الثاني. فاضطهده حاكم المدينة وامر بصلبه وتسمير رأسه على الصليب سنة 121. فظل صامداً في ايمانه ومحبته للمسيح. اختاره القديس شربل مخلوف شفيعاً واتخذ اسمه عندما ابرز نذوره الرهبانية.

 

الطوباوية تريزا دي كلكوتّا ( 5 ايلول)، ولدت في مكدونيا سنة 1910 ودخلت جمعية راهبات سيدة لوريت. احبت المسيح والفقراء، والمهمشين وطلبت ان تكون رسولة المحبة في الهند. اتخذت في الرهبانية اسم ماري تريز الطفل يسوع 1928، تشفعاً بالقديسة تريز الطفل يسوع- ليزيو، التي اُعلنت قداستها سنة 1925. اكتشفت في كلكوتا حالات البؤس والفقر، فشعرت بنداء الهي يدعوها لتتقاسم حياة الفقراء والمشردين والمهملين. نالت من الكرسي الرسولي سنة 1948 الاذن بالخروج من جمعية راهبات سيدة لوريت لتعيش مع الفقراء، فلبست ثوباً ابيض وازرق مع صليب صغير على الكتف، كرمز منظور لمحبة المسيح. في 7 تشرين الاول 1950 اسست جمعية مرسلات المحبة وجعلت قاعدتها الاساسية: " مرسلة المحبة تختمر بالحب، وتشهد لحب الله لدى جميع الناس، مسيحيين وغير مسيحيين، مؤمنين وغير مؤمنين، وبخاصة الفقراء بين الفقراء.

عندما كان يسألها احد الفقراء لماذا تعتني به عناية الام الشاملة كل حاجاته، كانت تجيب: " لاني احبك، ولان الله يحبك". وكانت الام تريزا تسمع على شفاه الفقراء كلمة يسوع على الصليب: " انا عطشان". اسست مركزاً لاعالة البؤساء قرب هيكل للإلهة الوثنية خالي، باذن من الادارة المدنية. فامتعض كهنة الاوثان وشكوها الى السلطة المدنية، فارسلت موظفاً للاطلاع. فلما دخل المركز ورأى مئات من المنازعين مصفوفين على الارض والراهبات يعتنين بهم وعلى رأسهم الام تريزا جاثية بقربهم، خرج وقال لكهنة الاوثان: " في هيكل خالي انتم تعبدون إلاهة من حجر، اما في هذه القاعة يوجد إلاهة حية". ماتت الام تريزا في 6 ايلول 1997 واعلنها البابا يوحنا بولس الثاني طوباوية بعد ست سنوات.

 

عيد ميلاد العذراء مريم ( 8 ايلول). انها ام المحبة التي اجبت كلمة الله وقبلتها في قلبها بايمان ورجاء وحب، فاصبح الله الكلمة جنيناً في حشاها. وعلى اقدام الصليب عاشت ملء المحبة واصبحت ام البشرية جمعاء بشخص يوحنا الحبيب: " يا امرأة هذا ابنك، يا يوحنا، هذه امك" ( يو   ).

ولدت مريم، ككل انسان، من والدين تقيين تكرمهما الكنيسة بين القديسين هما يواكيم وحنه، لكن الله عصمها، بسرّ تدبيره من الخطيئة الاصلية الموروثة من ابوينا الاولين. تسمى "سيدة الخلاص" لان فيها ظهرت ثمرة الخلاص قبل حدوثه واضحت مثالاً للمخلصين ورجاء لكل انسان، ولانها شريكة الفداء مع ابنها فادي البشر؛ وتسمى ايضاً "سيدة النجاة" لانها نجت من خطيئة آدم، وصانت نفسها من كل خطيئة فعلية شخصية، ولهذا تسهر على ابنائها المسافرين في بحر هذا العالم، فتنجي اللاجئين الى حمايتها من الهلاك المسبب بالخطيئة.

بتكوينها في حشى امها وبميلادها تُظهر قدسية كل حياة بشرية منذ اللحظة الاولى لتكوينها في حشى الام حتى آخر نسمة من العمر. " فحياة كل انسان مقدسة لانها تفترض منذ البدء عمل الله الخالق، وتظل ابداً في علاقة خاصة مع الله خالقها، وهدفها الوحيد. الله وحده سيد الحياة من بدايتها حتى نهايتها، ولا يحق لأحد، ايا كانت الظروف، ان يدّعي لنفسه حق الاعتداء او القضاء مباشرة على اي كائن بشري بريء"  (انجيل الحياة،53). بامكان كل انسان ان يصلي: " رأتني عيناك جنيناً ( مز 138/16).

 

" المرأة الحامل الملتحفة بالشمس، وتحت قدميها القمر، وعلى رأسها اكليل من 12 كوكباً" ( رؤيا12/1) التي رآها يوحنا " آية ظاهرة من السماء" ترمز، من جهة، الى الكنيسة التي تغوص في التاريخ وتسمو عليه، ومعها يبدأ سرّ ملكوت الله، وترمز من ناحية ثانية الى مريم العذراء، المرأة المجيدة التي تمّ فيها مخطط الله على اكمل وجه. فكما مريم حملت وولدت للعالم " الاله الحق المولود من اله"، كذلك الكنيسة تحمل مخلص العالم، وتهبه ليجدد ميلاد الناس لحياة الله. وكما انتصرت مريم-المرأة على " التنين العظيم  الواقف قبالة المرأة ليبتلع ولدها حين تضعه" ( رؤيا12/3-4)، كذلك الكنيسة تنتصر على الشيطان وجميع قوى الشر التي تعمل في التاريخ معرقلة رسالتها وبناء الملكوت، حامية اولادها والحياة البشرية من كل قوى الشر التي تهددهم (انجيل الحياة،103-104).

 

       الطوباوي فريدريك اوزانام ( 9 ايلول). طوّبه البابا يوحنا بولس الثاني في كاتدرائية سيدة باريس سنة 1998 بمناسبة الايام العالمية للشبيبة في العاصمة الفرنسية، واعلنه نموذجاً للشبان الكاثوليك. طالب جامعي في الفلسفة والحقوق والآداب، علماني، متزوج ورب عائلة. ولد سنة 1813 والده طبيب في مستشفى اوتيل ديو في باريس، وامه من عائلة غنية تتاجر بالحرير. خرج من ازمته الروحية بمساعدة استاذه في الفلسفة وحدد هدفاً في حياته الدفاع عن الدين الكاثوليكي. بعمر 20 سنة اسس مع خمسة رفاق في مركز جريدة " المنبر الكاثوليكي" جمعية المحبة" التي اصبحت فيما بعد " جمعية مار منصور دي بول"، وارادها صيغة جديدة لرسالة العلمانيين. كان يلقي محاضرات في كاتدرائية " نوتردام" في عهد الواعظ الشهير لاكوردير، واصبح الناطق باسم الشباب الكاثوليكي. عاش المحبة الاجتماعية بين الفقراء بالتعاون مع الطلاب الجامعيين. تضم الجمعية التي اسسها 47.600 مركزاً في 132 دولة، وينتسب اليها 880.000 عضو.

 

 

***

ثانياً، الخطة الراعوية

 

       الانسان بحاجة الى تنشئة تهيئه للحياة، فيهتدى الى ما هو حق وخير وجمال. ترتكز الخطة الراعوية في هذا الاسبوع على "شركاء التربية" المعنيين " بفنّ تنشئة الاشخاص". يتناول المجمع البطريركي الماروني في النص السادس عشر: " الكنيسة المارونية والتربية، في التعليم العام والتقني"، شركاء التربية وهم الطالب والعائلة والاسرة التربوية والدولة والمجتمع الاهلي والمدني والكنيسة ووسائل الاعلام ( عدد 56-63).

       تعمل الخطة الراعوية على ابراز الادوار الخاصة بكل واحد من " شركاء التربية"، وتوصي بالقيام به.

       1. الطالب المتعلم هو في آن غاية العملية التربوية و " العامل الاول في تربيته الذاتية". دوره ان يفتح ذهنه وقلبه لما يلقي عليه المعلم من بذور العلم ويقيم معه علاقات محبة واحترام ( عدد57).

       2. العائلة شركة تربوية مميزة تقوم على اتفاق الرأي عند الوالدين في تربية اولادهم. عليهم يقع واجب خطير يلزمهم الاعتناء ما استطاعوا بتربية ابنائهم وبناتهم روحياً وخلقياً، علمياً واجتماعياً، مسيحياً ووطنياً.

       ان مسؤوليتهم هذه تقتضي منهم ان يخضعوا تربية اولادهم لغاية الانسان  الاخيرة وللشريعة الالهية والطبيعية ( عدد58).

 

       3. الاسرة التربوية، المؤلفة من الادارة والهيئة التعليمية والموظفين ومجالس الاهل، تضطلع بدور محوري في تربية الاجيال الطالعة. لا يقتصر الدور على تنفيذ المناهج الاكاديمية، بل يتسع الى التربية بادائهم وخبرة حياتهم وطريقة عيشهم، ويمتد الى تقويم خيارات الطالب وقراراته، وانماء حسّه النقدي وقدرته على المساءلة، وتربيته على حسن التعاطي مع نفسه والآخرين، وادراجه في طريق المعارف الجديدة واكتساب المهارات وتفعيل القدرات (عدد59).

 

       4.الدولة توفر لجميع الاجيال الجديدة الحق في فرص متكافئة للحصول على تعليم شامل وذي جودة عالية، باستعمال ما لديها من سلطة تشريعية وادارية ومالية. فالى جانب مسؤولية الدولة عن المناهج التربوية للتعليم الخاص والرسمي، وعن سن القوانين والانظمة للمؤسسات التربوية، والاعتناء بالمدارس الرسمية ودعم التعليم الخاص، يبقى من واجبها تعزيز القيم الاجتماعية والاخلاقية والثقافية والروحية  (عدد60).

 

       5. المجتمع الاهلي المدني، كالبلديات والنوادي والجمعيات الاهلية والثقافية والانمائية والنقابات، مسؤول عن ارساء ارقى العلاقات مع المدرسة، والعمل على اندماج التلميذ في مجتمعه ليكون عنصر تطوّر له عبر الثقافة التي يكتسبها من المدرسة ( عدد61).

 

       6. الكنيسة معنية، في جوهر رسالتها الانجيلية، بتربية الاجيال: " اذهبوا وتلمذوا جميع الامم ( متى28/19). دورها في مؤسساتها التربوية والاجتماعية العمل على تقوية الايمان عند الطلاب، وتثقيفهم بالعلوم الصالحة، وتربيتهم على التعليم السليم والفضائل المسيحية. من واجب ابناء الكنيسة وبناتها ان يدركوا ان الكنيسة " مدعوة لتكون مربية الاشخاص والشعوب" ( رجاء جديد للبنان، 106).

 

       7. وسائل الاعلام شريكة هي ايضاً في العملية التربوية، واذا التزمت، في برامجها، بالشأن الثقافي والعلمي، الاخلاقي والوطني، واذا عملت على بث روح الاعتراف بالآخر، واحترام حقوق الانسان، وتعزيز الحوار بين الثقافات، وأسهمت في تكوين الرأي العام حول ما هو حق وعدل، وحدّت من شدة التواترات، وحققت التواصل السليم بين الناس والشعوب، واقلعت عن البرامج الهدامة احتراماً لكرامة الانسان وقدسية الضمائر، التي ارادها الله صوتاً داخلياً في كل انسان يهديه الى ما هو حق وخير، ويجنبّه كل ضلال وشر.

 

***

        صلاة

" يا مريم ، فخر العالم الجديد، وام الاحياء، نكل اليك قضية الحياة: انظري، يا امنا، الى ما لا يحصى من عدد الاولاد الذين يمنعون من أن يولدوا، والى الفقراء الذين أمست حياتهم صعبة، والى الرجال والنساء ضحايا العنف الشرس، والى العجزة والمرضى المقتولين بدافع اللامبالاة او بدافع شفقة كاذبة. أعطي المؤمنين بابنك أن يعلنوا لأهل زماننا، بحزم ومحبة، انجيل الحياة. لكِ الشكر الى الابد، آمين
       ( صلاة البابا يوحنا بولس الثاني).

 


     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code