زمن العنصرة
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
العنصرة 1   العنصرة 2

التنشئة المسيحية 2006 - 2007

 
  • العنصرة 1 - من عيد العنصرة الى الاحد السابع من زمن العنصرة
  • العنصرة 2 - من الاحد الثامن من زمن العنصرة الى الاحد السادس عشر من زمن العنصرة
  1. تقديم
  2. عيد العنصرة - العنصرة حدث متجدد
  3. الاحد الثاني، عيد الثالوث الاقدس - ينبوع رسالة الكنيسة
  4. الاحد الثالث من زمن العنصرة - غذاء حقيقة المحبة ومواهب الروح القدس
  5. الاحد الرابع من زمن العنصرة - الافخارستيا ينبوع الشركة والرسالة
  6. الاحد الخامس من زمن العنصرة -  الرسل والكنيسة
  7. الاحد السادس من زمن العنصرة - الرسالة المسيحية وتحدياتها
  8. لاحد السابع من زمن العنصرة - الاختيار والارسال لعمل الخلاص
     
  9. الاحد الثامن من زمن العنصرة - الخدمة والليتورجيا
  10. الاحد التاسع من زمن العنصرة - الهوية المسيحية والرسالة  
  11. الاحد العاشر من زمن العنصرة  - الارواح الشريرة وطردها
  12. الاحد الحادي عشر من زمن العنصرة - لقاء الحب الذي يغيّر
  13. الاحد الثاني عشر من زمن العنصرة - لقاء الايمان الذي يشفي
  14. الاحد الثالث عشر من زمن العنصرة - مقتضيات سرّ الله في الانسان
  15. الاحد الرابع عشر من زمن العنصرة - معرفة المسيح خلاص الانسان
  16. الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة - الايمان والحب اساس التوبة والغفران
  17. الاحد السادس عشر من زمن  العنصرة - الصلاة مسلك وموقف
 

 

تقديم

 

       يطيب لي ان اقدّم للكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين العلمانيين العدد الثاني عشر من سلسلة التنشئة المسيحية لزمن العنصرة، ويشمل الآحاد الثمانية الاولى من اصل ستة عشر اسبوعاً، وهو بعنوان: " نادوا بانجيلي في الخليقة كلها" (مر16/15).

 

       يتألف موضوع كل احد من ثلاثة اقسام: شرح نص الانجيل من الناحية اللاهوتية والخلقية والحياتية، وراعوية السلام والديموقراطية، وخطة راعوية لتطبيق النص التاسع عشر من المجمع البطريركي الماروني " الكنيسة المارونية والسياسة"، حسب الخطة الخمسية التي وضعتها الامانة العامة للمجمع.

 

       ان سلسلة التنشئة المسيحية تلبي دعوة الكنيسة الى تثقيف الايمان عند المؤمنين، والى تزويد كهنة الرعايا ومرشدي المنظمات الرسولية والهيكليات الرعوية والجماعات العيلية ومعلمي التعليم المسيحي، بما يساعدهم على اعداد العظات والارشاد والتعليم واللقاءات الانجيلية، وفقاً للاحداث الخلاصية المتسلسلة في السنة الليتورجية.

 

       هي الكنيسة، على هدي الهامات الروح القدس، تنطلق بقوة محبة الآب ونعمة الابن الفادي الذي ارسلها الى جميع شعوب الارض والثقافات، من جيل الى جيل، وصدى وصيته يتردد في ضمير رعاتها وابنائها وبناتها: " انطلقوا الى العالم كله، ونادوا بانجيلي في الخليقة كلها" ( مرقس 16/15).

 

 

+ بشاره الراعي  مطران جبيل


 الاحد  27 ايار 2007

احد العنصرة

العنصرة حدث متجدد

 

       انجيل القديس يوحنا 14/15-20

         قال الرب يسوع لتلاميذه: " إن تحبوني تحفظوا وصاياي. وأنا اسأل الآب فيعطيكم برقليطاً مؤيداً يكون معكم الى الأبد. هو روح الحقّ الذي لا يقدر العالم أن يقبله، لأنه لا يراه، ولا يعرفه. أما انتم فتعرفونه، لأنه مُقيم عندكم، وهو فيكم. لن أترككم يتامى. إني آتي إليكم. عمّا قليل لن يراني العالم، أما أنتم فترونني، لأني أنا حيٌّ وأنتم ستحيون. في ذلك اليوم تعرفون أني انا في أبي، وانتم فيّ وأنا فيكم".

***

فيما كان الرسل، ومريم ام يسوع معهم، مجتمعين في اليوم الخمسين للاحتفال بعيد العنصرة، حسب العادة اليهودية، وكان في اورشليم عدد كبير من شعوب الارض للاحتفال بهذا العيد ( اعمال 2/1و5)، حدثت العنصرة الجديدة المتمثلة بحلول الروح القدس على الرسل.

 

اولاً، حدث العنصرة المتجدد

 

1.   حدث العنصرة ( اعمال 2/1-13)

 

       كان الاحتفال بالعنصرة القديمة بعد خمسين يوماً من الفصح اليهودي وهي معروفة باللفظة اليونانية pentecostés،  احتفالاً بعيد الاسابيع السبعة ( طوبيا2/1)، لجمع الغلة من منتوجات الارض ( عدد28/26 وما يليها)، فيقدمون فيه لله بواكير القمح ( خروج 23/16 ؛ تثنية 16/9). ثم راحوا يعيدون، في زمن الرب يسوع، تذكار تسليم شريعة الله القديمة بلوحي الوصايا لموسى على جبل سينا.

 حلت العنصرة الجديدة محلّ القديمة، مثلما حلّ فصح المسيح محل فصح اليهود، فبعد خمسين يوماً من قيامة الرب يسوع، كان حلول الروح القدس على الكنيسة الناشئة " بقدرة من علُ جعلت الرسل شهوداً للمسيح الى اقاصي الارض" ( اعمال 1/28) وكان بمثابة غلة التجسد والفداء. وهكذا سُلمت الشريعة الجديدة بحلول الروح القدس، وهي شريعة الحياة الالهية "المكتوبة" في قلوب بشرية، بدلاً من الواح من حجر. انها الشريعة الروحية التي طبعت العهد الجديد الابدي وكرّست شعب الله الجديد، الذي هو الكنيسة، بالنبوءة والكهنوت والملوكية على مثال المسيح (1بطرس2/9-10). هذا ما اكده القديس اغسطينوس: "بعد خمسين يوماً من تقدمة حمل الفصح اليهودي في مصر، وخروج شعب الله منها، كتب اصبع الله وصاياه وسلمها الى موسى على جبل سينا، واليوم بعد خمسين يوماً من تقدمة حمل الفصح الجديد، يسوع المسيح، كتب اصبع الله، الذي هو الروح القدس"، هذه الحياة الجديدة ووصية المحبة في قلوب ابناء الكنيسة.

ظهرت حقيقة حلول الروح القدس في الرموز: الرياح الشديدة والألسن النارية والتكلم باللغات: الريح او الهواء رمز لهبوب الروح القدس، قاله يسوع لنيقوديمس : " الريح تهب حيث تشاء، انت تسمع صوتها، ولكنك لا تدري من اين تأتي ولا الى اين تذهب. هكذا حال كل انسان مولود من الروح" (اعمال 3/8). لفطة " روح" تحتوي نسمة الحياة، فالله عندما خلق الانسان " نفخ فيه نسمة الحياة" ( تك 2/7)، وما زال يفعله في كل مرة يتكون انسان في بطن امه؛ وهكذا الروح هو مبدأ الحياة. والرب يسوع في مساء قيامته من الموت " نفخ في التلاميذ وقال لهم : خذوا الروح القدس" ( يو20/22)؛ الروح هو مبدأ الحياة الالهية في المؤمنين، وهو القدرة على محو الخطايا: " من غفرتم خطاياه غفرت" ( يو20/23).

 الالسن من نار رمز لقوة الروح القدس التي تغيّر جوهر الامور والاشياء، وقد رَمَزَ اليها المسيح قائلاً: " جئت ألقي على الارض ناراً، واريد ان تكون اضطرمت" (لو12/46)، ويوحنا المعمدان في الاعلان ان يسوع، الذي هو اقوى منه، "سيعمّدكم بالروح القدس والنار" ( لو3/16)، وبولس الرسول في دعوة الجميع " لئلا يطفئوا الروح" (1تسا5/19)، هذه النار التي تعطي القوة والغيرة للرسالة، كما قيل عن ايليا النبي انه " قام واتقد كالنار"  (سيراخ48/1)، وعن يوحنا المعمدان " الذي سار امام الرب بروح ايليا وغيرته" ( لو1/17).

 التكلم باللغات رمز للروح القدس الذي هو مبدأ شمولية الكنيسة الجامعة المنفتحة على جميع الشعوب والمرسلة اليها، والذي يلهم المؤمنين فيتنبأون متكلمين بحقائق الله الموحاة، كما شرح بطرس حدث حلول الروح القدس غير المنظور (اعمال2/17-18). لكن اللغة واحدة يفهمها كل الشعوب مهما اختلفت ألسنتهم، وهي المحبة، لغة الروح القدس المفاض في قلوبنا.

 

2.   الروح البارقليط وعمله في المؤمنين والكنيسة ( يو 14/15-20)

 

هذا الروح يعطيه الآب، بطلب من الرب يسوع، للذين يحبونه حافظين شريعة المحبة المتمثلة في الوصايا العشر: محبة الله والوالدين وكل انسان، ومتقبلين كلام الانجيل في القلب، وعاملين به (يو14/23)،  وسالكين في نور الحقيقة التي كشفها المسيح للعالم ( 1يو2/4-6). "انه روح المحبة والحقيقة" (يو14/15 و17).

هو " البارقليط" الذي يدافع عن المؤمن بوجه الظلم والضلال، كما تعني اللفظة اليونانية paráclete، والذي يساعد ويعضد، ويشفع، ويعزي. انه بارقليط آخر بالنسبة الى بارقليط اول، هو المسيح، به يصبح المؤمنون ابناء لله في الابن الوحيد: "تعرفون اني في ابي وانكم فيّ وانا فيكم"  )يو 14/20)؛ ولكنه " يبقى الى الابد" مع الرسل والكنيسة. هذا ما يعنيه يسوع بقوله في انجيل يوحنا : "لا اغادركم يتامى، لاني اعود اليكم" ( يو14/18)، وفي انجيل متى: " انا معكم جميع الايام الى انتهاء العالم" ( متى 28/20). وقد تحقق ذلك بواسطة الروح القدس الذي عضد الرسل في ممارسة سلطان الخدمة المثلثة: خدمة الكلمة بالتعليم، والنعمة بالتقديس، والمحبة بالتدبير ( متى 28/18-20)، و"ثبّت كلماتهم بالايات التي كانوا يصنعونها" (مر 16/20)، و "فتح اذهانهم ليفهموا الكتب" ( لو24/45).

لقد ظهر عمل الروح البارقليط في حياة يسوع المسيح بانواع شتى:

ظهر يوم معموديته على نهر الاردن، وقد رآه يوحنا المعمدان نازلاً بشكل حمامة واستقر على يسوع (يو1/32)؛ ويوم دخل يسوع مجمع الناصرة وقرأ من اشعيا النبي": " روح الرب عليّ، مسحني وارسلني"، وقال: " اليوم تمت هذه الكتابة" ( لو4/16-21)؛ وظهر عندما اقتاده الروح الى البّرية وعضده في الانتصار على تجارب الشيطان  ( لو4/1-13)؛ وعندما عزّاه في بستان الزيتون وشدده ليصمد في تتميم ارادة الآب لفداء البشرية جمعاء ( لو22/43)؛ وعندما مات فوق الصليب وأسلم للآب هذا الروح ( يو19/30) الذي احيا بشريته منذ التجسد حتى الفداء، وقد احب الناس حتى النهاية  (يو13/1). وظهر الروح قوة  اقامت يسوع من الموت (روم 8/4-11؛  2كور 3/17)، وهبة للرسل نفخها فيهم يسوع حياة جديدة وسلطاناً لمغفرة الخطايا (يو20/19-22)، وارسلها اليهم، يوم العنصرة، قوة من السماء ( لو24/49) لرسالة الشهادة (اعمال1/13-14؛ 2/1-4).

هذا هو سرّ الروح القدس الذي ظهر في حياة المسيح:

المسيح يولد، الروح يسبقه في اتمام حبل مريم البتول بقوة هذا الروح ( لو1/35).

المسيح يُعمَّد، الروح يشهد له بحلوله على رأسه بشبه حمامة ( مر1/10).

المسيح يُجرّب، الروح ينصره ويعيده الى الجليل لاتمام الرسالة ( لو4/14).

المسيح يجترح العجائب، الروح يرافقه قوة الهية.

المسيح يُرفع الى السماء، الروح يأتي بعده باراقليطاً آخر ( يو14/16).

ان عمل البارقليط ظاهر في مواهبه السبع التي يفيضها على المؤمنين وهي:

       الحكمة والفهم ليعضد ايمانهم ويساعدهم في الاجابة على تساؤلاتهم.

       المشورة والعلم لتمييز طريقهم، وانارة قراراتهم، ومعرفة ما يجب فعله وقوله، وما يجب ان يفكروا به او يصمتوا عنه.

       القوة للثبات بوجه المحن والمصاعب.

       تقوى الله ومخافته لاذكاء محبتهم لله والناس.

       ويكشف يوحنا وبولس ان الروح البارقليط هو الذي يصلي فينا، (روم 8/16)، ويسكن (غلا4/6)،ويحيا ( روم 8/14 غلا5/25)، ومن خلالنا يحب ( يو17/26).

       هذا الروح البارقليط اُعطي على الارض للتلاميذ. "نفخ فيهم وقال: خذوا الروح القدس" (يو20/22)، ثم اُرسل من السماء يوم العنصرة ( يو14/16) "لكي نحب الله" (القديس غريغوريوس الكبير).

 

**

ثانياً، راعوية السلام والديموقراطية

 

       عالم اليوم، ولاسيما في لبنان والشرق العربي، آخذ في فقدان ثقافة السلام والديموقراطية، وبخاصة لدى المسؤولين الساسيين والمنتمين الى الاحزاب والتيارات. وقد دفعنا ومازلنا ندفع الثمن الغالي لهذا الفقدان.

       نواصل في زمن العنصرة نشر ثقافة السلاممن خلال رسالة يوم السلام العالمي ( اول يناير 2007) لقداسة البابا بندكتوس السادس عشر "الشخص البشري قلب السلام"، ونشر ثقافة الديموقراطية بالاستناد الى الوثائق الحبرية. وبهذا نوآزر عمل لجنة راعوية السلام والديموقراطية المنبثقة من مجلس البطاركة الكاثوليك في لبنان.

 

       1. السلام، في رسالة البابا " الشخص البشري قلب السلام"، يقوم على الالتزام بقواعد الحق الطبيعي واولها الحق في الحياة والحرية الدينية. انه يقوم اساساً على احترام كل كائن بشري وحقوقه الاساسية، لان طبيعته تعكس صورة الله. فلا يحق لأي سلطة سياسية وتقنية واقتصادية ان تتصرف بالانسان على هواها او ان تستخدم نفوذها لانتهاك حقوق اناس اقلّ حظاً منها.

       أ- يقوم السلام على احترام الحق في الحياة

       ان الحياة تُحترم في جميع مراحلها، فهي عطية من الله، وصاحبها لا يمكنه ان يتصرف بها كما يشاء. الحق في الحياة لا يخضع لسلطة الانسان. والسلام يحتاج الى اقامة حدّ واضح بين ما يمكن التصرّف به، وما لا يمكن التصرّف به: وهذا ما يجنّب ادخال عناصر غير مقبولة في تراث القيم الخاصة بالانسان بوصفه انساناً. لذلك يجب التشهير بكل الانتهاكات المخيفة التي ترتكب ضد هذا الحق في مجتمعنا: فضلاً عن ضحايا النزاعات المسلّحة، هناك الموت الصامت الذي يتسبب به الجوع، والاجهاض والاختبارات التي تجري على الاجنّة، والموت الرحيم. كيف يمكننا ألاّ نرى في كل ذلك اعتداءات على السلام، تشكل نقصاً فاضحاً لموقف تقبّل الآخر، وهو موقف لا بدّ منه لاقامة علاقات سلام طويل الامد" ( فقرة 4 و5).

 

       ب- ويقوم السلام على احترام الحرية الدينية

       تطالب الكنيسة باحترام الحرية الدينية لكل انسان، كأساس للسلام، لان تأكيدها يجعل الكائن البشري في علاقة بمبدأ سامٍ يضعه في مأمن من استبداد الانسان. وهي كتعبير حرّ عن الايمان بالله، لا تخضع لسلطة الانسان. غير أننا نرى مظهراً مقلقاً يتمثل في فقدان السلام في العالم، هو ما يلقاه المسيحيون، في غالب الاحيان، ومؤمنو أديان اخرى، من صعوبات في المجاهرة علنا بمعتقداتهم الدينية. فهم لا يمنعون فقط في بعض الاصقاع من الممارسة الدينية، بل يضطهدون، وقد أمكن مؤخراً تسجيل احداث عنف مأساوية بغيضة. وهناك أنظمة تفرض على الجميع ديانة واحدة، فيما هناك انظمة لا مبالية لا تغذّي اضطهاداً عنيفاً وحسب، بل استهزاءَ ثقافياً منظماً بالمعتقدات الدينية. وفي كل الحالات، ثمة حق انساني أساسي غير محترم، له تأثيره الخطير على العيش المشترك السلمي. وهذا يعمل على تطوير عقلية وثقافة سلبيتين بالنسبة الى السلام ( فقرة 5).

 

       2. الديموقراطية في اطارها الصحيح هي التي تفسح في المجال لجميع المواطنين، مسيحيين ومسلمين وسواهم، ليشاركوا في ادارة الشأن العام في جوّ من الحرية الحقة. غير ان الديموقراطية تقتضي وجود سلطة حازمة من جهة، ووجود قيم تستحث المواطنين على خدمة بني قومهم. عندئذٍ يمكننا الاعتقاد بحق ان مستقبل البشرية في ايدي اولئك الذين استطاعوا ان يهيئوا للاجيال الطالعة اسباب الحياة والرخاء ( الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم،31).

       من ميزات الديموقراطية ان تيتكر صيغاً جديدة واوسع للمشاركة في الحياة العامة من قبل المواطنين، فضلاً عن الاقتراع في الانتخابات النيابية وسواها. من بين هذه الصيغ، المشاركة في تحديد التطلعات السياسية والخيارات التشريعية التي تخدم، بشكل افضل، الخير العام (المرجع نفسه،75؛ مجمع عقيدة الايمان: تعليم حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك ومسلكهم في الحياة السياسية، 1).

       يؤثر المسيحيون النظام الديموقراطي لانه يتيح للجميع ولكل فرد امكانية المشاركة في " السياسة" اي في النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والاداري والثقافي الذي يستهدف الخير العام. فلا يجوز ان يتخلى المسيحيون عن هذه المشاركة،مهما صعبت ظروفها، لان من واجبهم ان بيثّوا الروح المسيحية في النظام الزمني، عن طريق خدمة الشخص والمجحتمع. ويمكن لهذه المشاركة ان تتحقق من خلال اشكال ومستويات ومهمات ومسؤوليات متنوعة ومتكاملة الى حدّ كبير (الارشاد الرسولي: العلمانيون المؤمنون بالمسيح،42).

       ليس من الديموقراطية بشيء ان يخوّل المواطنون اصحاب السلطة السياسية نفةذاً يفوق الحدّ، مقابل خدمات شخصية وفئوية، او ان تسعى الاحزاب السياسية الى تفضيل مصلحتها على مصلحة البلاد والجماعى (الكنيسة في عالم اليوم، 75).

 

**

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

       عملاً بالخطة الخمسية التي وضعتها الامانة العامة لتطبيق نصوص المجمع البطريركي الماروني الثلاثة والعشرين، فبعد النصوص الاربعة الاول التي استعرضناها في الازمنة الطقسية السابقة، نصل في زمن العنصرة، الى النص التاسع عشر: الكنيسة المارونيةى والسياسة.

       تعنى الهيكليات والجماعات الراعوية والتربوية والرهبانية والاجتماعية بالتفكير الاسبوعي في هذا النص وفقاً للخطة المرسومة، اجل تقبّله واكتساب الثقافة السياسية والعمل بموجبها.

       يتألف النص من ثلاثة فصول تتبع المنهجية المجمعية المعتمدة: الاول المسار التاريخي، وهو العودة الى الجذور من اجل تحديد الهوية والرسالة؛ الثاني، مرحلة ما بعد حرب 1975 واتفاق الطائف 1989، وهو تسليط اضواء الماضي على الحاضر لتجديد ما يلزم وبلورة الثوابت؛ الثالث، التحديات، وهو رسم خطة مستقبلية لحماية الهوية وتحديد أطر الرسالةز

       عند الكلام عن الكنيسة المارونية والسياسة نعني امرين: اولاً، الكنيسة كمرجعية دينية تتعاطى الشان السياسي، وهي متمثلة بالبطريركية المارونية، بطريركياً ومجلس مطارنة؛ ثانياً، الموارنة ابناء الكنيسة على مختلف انتماءاتهم واتجاهاتهم في لبنان وبلدان الانتشار، الملتزمين في اشكال الحياة العامة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية 0فقرة3).

       لقد ميّز نشاط الموارنة السياسي عبر الحقبات التاريخية، في عهود الانظمة الامبراطورية حتى الحرب العالمية الاولى، وفي عهد نشأة الدولة منذ مطلع القرن الماضين بخبرات اساسية غلّب فيها مبدأ الانفتاح والوصل على مبدأ الانغلاق والفصلن فتعاونوا مع الغير بغية خلق ارادة عيش مشتركن ورفضوا دائماً ان يكون لهم بلد يتفرّدون به وحدهم. وكانت الحرية الدينية والاجتماعية المتأصلة فيهم روح هذا النشاط وغايته. كما كانت عامل اطمئنان وانفتاح في الداخل والخارجن واداة للتواصل مع دول وثقافات وحضارات متنوعة كسباً للمعرفة. هذه الحرية اياها حملت الموارنة احياناً على الانطواء والانكفاء صوناً لها ولقيمها، في مراحل الخوف والقلق (فقرة3-3). ولانهم انخرطوا في المعترك السياسي، من اجل الصالح العام والقيم، وكانت لهم اخطاؤهم في الممارسة السياسية والخيالرات (فقرة1).

**

 

       صلاة

       نفتتح زمن العنصرة بصلاة استدعاء الروح القدس:

       " هلم ّايها الروح القدس، وأرسل من السماء شعاع نورك.

       هلمّ يا ابا المساكين، هلمّ يا مانح المواهب، هلمّ يا ضياء القلوب.

       يا معزياً جليلاً، يا ضيف النفس العذب، يا هناءً حلواً.

       انت في الكدّ راحة، وفي الحرّ برودة، وفي البكاء عزاء.

       يا بهجة النور، املأ قلوب من أمنوا بك، املأها حتى الصميم.

       بدون معونتك، ليس في الانسان شيء، وليس من شيء سليم.

       نقِّ ما كان دنساً، أروِ ما كان جافاً، واشفِ منّا الجراح.

       ليّن ما كان صلباً، دفِّ ما كان بارداً، وقوم منا الانحراف.

       امنح عبيدك المتوكلين عليك مواهبك السبع المقدسة.

       امنحهم الفضيلة ثواباً، والخلاص مصيراً، والفرح سعادة ابدية. آمين.


الاحد 3 حزيران 2007

 

الاحد الثاني من زمن العنصرة

عيد الثالوث الاقدس/ ينبوع رسالة الكنيسة

 

       انجيل القديس متى 28/16-20   

      " أما التلاميذ الاحد عشر فذهبوا الى الجليل، الى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما راوه سجدوا له، برغم أنهم شكّوا. فدنا يسوع وكلّمهم قائلاً: " لقد أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الارض. إذهبوا إذاّ فتلمذوا كل الامم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به. وها انا معكم كل الايام الى نهاية العالم"
          بعد انجاز تصميم الله الخلاصي الذي أعده الله الآب فارسل الابن الوحيد متجسداً لفداء بني البشر، والروح القدس لتحقيق ثمار الفداء فيهم ( الدستور العقائدي في الكنيسة،2-14)، تحتفل الكنيسة بعيد الثالوث الاقدس، في الاحد الاول بعد العنصرة، لانها تبدأ رسالتها باسم الثالوث وتنهيها بتمجيده.

         انجيل اليوم يحدد رسالة الكنيسة التي تسلمها الرسل، كهنة العهد الجديد، وسلّموها بدورهم الى الاساقفة خلفائهم، وهؤلاء مارسوها مع معاونيهم الكهنة والشمامسة، بموآزرة المكرسين والمكرسات والمؤمنين العائشين وسط العالم.

 

اولاً، شرح الانجيل

 

1.    الثالوث الاقدس ينبوع رسالة الكنيسة

 

         الله هو شركة حب كاملة بين الآب والابن والروح القدس. والانسان المخلوق من الله مدعو الى هذه الشركة، اذ نفخ فيه الله نسمة حياة الهية ( تك2/7). ولكن في المسيح المائت فداءً لخطايا البشر، والقائم من اجل تبريرهم، وفي حلول الروح القدس، اصبح الانسان شريكاً في الحياة الالهية التي تُعطى له في سرّ القربان، بجسد المسيح ودمه، الخبز النازل من السماء (يو6/32-33 و56).

         ان تصميم الحب الالهي يقود كل تاريخ الخلاص. الله الثالوث، الذي هو في ذاته محبة (1يو4/7-8) يلتزم كلياً في الواقع البشري، ليعطينا حياته الالهية. فسلّم الكنيسة هذه الرسالة التي تسلّمها الابن الالهي: " كما ارسلني ابي، ارسلكم انا ايضاً" ( متى28/  ). انها رسالة نقل محبة الله الى جميع البشر، " فمن يرى المحبة يرى الثالوث" ( القديس اغسطينوس)، وتتم بالسلطان المثلث المعطى للرسل وخلفائهم وكهنة العهد الجديد:

-         التعليم: " اذهبوا وتلمذوا كلّ الامم" ( متى28/19).

-         والتقديس: " عمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" ( متى28/19).

-         والتدبير: " علّموهم ان يحفظوا كل ما اوصيتكم به" ( متى28/20).

ان الرسالة مع مهامها تنبع من الافخارستيا التي هي سرّ الله، الحب الثالوث (البابا بندكتوس السادس عشر: الارشاد الرسولي " سر المحبة"،7). هذا ما اكده الرب للكنيسة ولرعاتها. " انا معكم طول الايام الى انتهاء العالم" ( متى28/20). وهي معطاة بسلطان الهي الى الاساقفة، ومن خلالهم الى معاونيهم الكهنة والشمامسة بحكم الدرجة المقدسة في الرسامة والتولية القانونية. وقد نصّ عليها القرار المجمعي حول " مهمة الاساقفة الراعوية في الكنيسة" (الفقرات 12-16)، والدستور العقائدي " في الكنيسة" (الفقرات 25-27)، بالنسبة الى الاساقفة؛ اما بالنسبة الى الكهنة، فقد نص عليها القرار المجمعي حول " خدمة الكهنة وحياتهم" ( الفقرات 4-6). ويشارك في رسالة الكنيسة بمهامها الثلاث  المكرسون والمكرسات بحكم النذور الرهبانية والوعود العمومية، والمؤمنون العلمانيون بحكم المعمودية والميرون، وقد نصّ عليها القرار المجمعي حول " رسالة العلمانيين في العالم" (الفقرات 5-8).

كلنا ملتزمون برسالة الكنيسة، لان كنيستنا قربانية، وقد ولدت من الافخارستيا ومنها تحيا (انظر رسالة البابا يوحنا بولس الثاني: " الكنيسة من الافخارستيا تولد")، ولذلك هي رسالية. فالافخارستيا ليست فقط " ينبوع حياة الكنيسة وذروتها"، بل هي ايضاً " ينبوع رسالة الكنيسة وذروتها". في الواقع، جوهر الرسالة هو معرفة المسيح ونقل محبته الى الآخرين، فهو المرسل من الآب لفداء العالم (يو3/16-17)؛ روم8/32). المشاركة في المناولة القربانية اندراج في دينامية رسالة الكنيسة النابعة من قلب الله (" سرّ المحبة"، 84).

 

2.    باسم الثالوث القدوس ولمجده

 

الله الواحد في جوهره وطبيعته ليس منفرداً بل هو مثلث الاقانيم: آب وابن وروح قدس، يتميز الواحد عن الآخر لا في الطبيعة فانهم جوهر واحد، بل بالعلاقة الواحد بالآخر مثل المثلث في علم الهندسة. فالابن مولود ازلياً من الآب وغير مخلوق كالشعاع من الشمس، والروح القدس منبثق من الآب بواسطة الابن مثل نور الشمس وحرارتها. افعال الثالوث القدوس مشتركة اعني الخلق والفداء والتقديس، ولكن كل واحد من الاشخاص الالهية الثلاثة يقوم بالفعل الخاص به: الآب انجز الخلق، والابن الفداء، والروح القدس التقديس. ان الثالوث الاقدس  لا يعني ثلاثة الهة بل الهاً واحداً بثلاثة اقانيم.

سرّ الثالوث هو السّر المحوري للايمان المسيحي والحياة المسيحية، وهو المصدر والينبوع لكل اسرار الايمان، والنور الذي يضيئها ( التعليم المسيحي،234). ان حقيقته الموحاة اعلنت بواسطة المعمودية انطلاقاً من كلام الرب يسوع: " عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" ( متى28/19). ثم صيغت في الكرازة والتعليم كما نجدها في رسائل القديس بولس (2كور13/13؛ 1كور12/4-6؛افسس4/4-6). واصبحت جزءاً من القداس في افتتاح قسم الذبيحة المعروف بالنافور: " محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد، وشركة وحلول الروح القدس تكون معكم".

حدد المجمع المسكوني الاول عقيدة الثالوث الاقدس باستعمال ثلاث لفظات ( التعليم المسيحي، 252-255):

الاولى، "الجوهر" او " الطبيعة" للدلالة على الكائن الالهي في وحدانيته. فنقول الثالوث الواحد. لا نؤمن بثلاثة الهة بل باله واحد في ثلاثة اقانيم، الثالوث المتساوي في الجوهر. الاشخاص الالهية لا يتقاسمون الطبيعة الوحيدة بل كل شخص هو الله كله، اي اله واحد في الطبيعة، وكل شخص هو كل الجوهر والطبيعة ( انظر مثلث علم الهندسة).

الثانية، " الشخص" او "الاقنوم" للدلالة على الآب والابن والروح القدس في تمايزهم الحقيقي الواحد عن الآخر، من جهة  علاقاتهم الاصلية: الاب هو المصدر الذي  يلد، لا يخلق، الابن هو المولود، الروح القدس هو الذي ينبثق. فنقول الوحدانية الالهية ثالوث.

الثالثة،" العلاقة" للدلالة على ان واقع التمايز قائم في الارتباط بين الاشخاص: الاب مرتبط بالابن، والابن بالآب، والروح بالاثنين، والجوهر واحد. وكل واحد منهم هو كله في الآخر.

        نعبّر عن ايماننا بالثالوث في اشارة الصليب. نبدأ بها كل عمل: "بأسم الآب والابن والروح القدس" استلهاماً واستنجاداً واستناداً؛ وننهي " بالمجد للآب والابن والروح القدس" تمجيداً وشكراً وتسبيحاً.

 

ثانياً، راعوية السلام والديموقراطية

 

2.    في تعليم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر بمناسبة يوم السلام العالمي (اول يناير 2007) بعنوان " الشخص البشري قلب السلام"، تأكيد ان السلام يقوم على احترام القواعد الطبيعية التي كتبها الخالق الالهي في ضمير الانسان. ومن بينها مساواة جميع الناس من حيث الطبيعة.

فالمساواة الاساسية بين الناس، النابعة من كرامتهم المشتركة، تشكّل عنصراُ مهماً للغاية بالنسبة الى بناء السلام، لانها تؤمّن خير الجميع. وهو خير لا يمكن اهماله او امتهانه من دون اثارة تداعيات خطيرة تضع السلام في خطر، بل تصيبه بجرح عميق. ان هذا الخير يشمل الطعام والماء والمنزل والصحة والحقوق الاساسية لكل من الرجل والمرأة. الفوارق الموجودة في العالم على هذا المستوى هي في اساس التوترات التي تهدد السلام (الفقرة6).

والسلام القائم على المساواة يقتضي احترام كرامة المرأة الشخصية التي طبعها الخالق في كل كائن بشري. ان استغلال النساء ومعاملتهم معاملة اشياء وامتهان كرامتهن، تشكل كلها عوامل لعدم الاستقرار في النظام الاجتماعي. فلا يمكن الكلام عن سلام حقيقي طالما لا تزال قائمة في بعض الثقافات نظريات تجعل المرأة خاضعة لهوى الرجل، وما يتبع ذلك من نتائج تنال من كرامة الشخص ومن ممارسة الحريات الاساسية ذاتها (الفقرة7).

 

3.    الديموقراطية هي اشراك المواطنين المباشر في الخيارات السياسية. ومن اجل هذه الغاية، تفترض في اساسها مفهوماً سليماً للشخص البشري الذي هو مبدأ المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو هدفها وموضوعها (مجمع عقيدة الايمان: تعليم حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك في الحياة السياسية،3؛ الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم، 25).

للديموقراطية مبادىء متأصلة في قيمة الشخص السامية، وفي المقتضيات الخلقية والموضوعية لحسن سير الدول. هذه المبادىء هي: الحقيقة التي تقوم عليها العلاقة بين الحكام والمواطنين، الشفافية في الادارة العامة، عدم التحيّز في الخدمة العامة، احترام حقوق الاخصام السياسيين، حماية حقوق المتّهمين بوجه محاكمات مختصرة، الاستعمال العادل والمخلص للاموال العامة، رفض الوسائل المبهمة وغير الجائزة للاستيلاء، مهما كان الثمن، على السلطة، والاحتفاظ بها والتوسّع فيها ( تألق الحقيقة، 101)،

وتقتضي الديموقراطية السليمة ان تنطلق من كرامة الشخص البشري، لكي تعزّز حقوق الناس اجمعين وحقوق كل فرد. فيجب ان ترتكز ممارسة السلطة السياسية على روح الخدمة، المقترنة بالكفاءة والفعالية، لكي يأتي عملها صافياً وشريفاً. وهذا يتطلب تصدّياً معلناً للاغراءات من مثل اللجوء الى المناورات الخسيسة، والى الكذب واختلاس اموال الدولة لصالح بعض الاشخاص او بهدف كسب الانصار والوصول الى السلطة والتمسك بها على حساب الخير العام (العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 42).
 

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

تبدأ الخطة الراعوية بالنظر في الفصل الاول من النص المجمعي الماروني التاسع عشر: الكنيسة المارونية والسياسة. يستعرض الفصل الاول المسار التاريخي للكنيسة المارونية في الحقل السياسي، فكانت لها خبرتها في جبل لبنان، وسط الانظمة الامبراطورية المتتالية: البيزنطية والعربية والمملوكية والعثمانية (الفقرات4-14). انها حقبة الامبراطورية التي مرّت في ثلاث مراحل:

        المرحلة الاولى امتدت من نهاية القرن السابع حتى نهاية القرن الحادي عشر، زمن الامبراطورية البيزنطية والفتح الاسلامي (فقرة 8). تميزت بالانطواء على الذات، والتكيّف مع طبيعة لبنان الوعرة، والاتصال بروما والغرب في نهاية القرن السابع ( 641-742). على اثر سقوط انطاكية، بعد الفتح  الاسلامي سنة 636، انقطعت انطاكية عن الصلة بالبطريركيات الاخرى وبروما، ودخلت في مرحلة من الضياع والفوضى في بطريركيتها، فانتخب الموارنة من دير مار مارون على العاصي قرب افامية، بطريركاً عليهم لسدّ فراغ قيادي وحفظ الرعية من التشتت والارتهان. ثم انتقلوا الى جبال لبنان ووديانه، واقاموا في اديرة يانوح وكفرحي وميفوق ثم قنوبين، لان الفاتح الاسلامي عبر السهول وترك الجبال وشأنها. في هذه المرحلة من الانكفاء، حافظ الموارنة على هويتهم وكيانهم،واصبحوا شعباً صلباً موحّداً، غيوراً على كيانه ودينه (فقرة 7 و8).

 

        المرحلة الثانية كانت مرحلة الامتحان العسير في عهد المماليك والمقدَّمين على مدى قرنين . في هذه المرحلة تمّ اعتقال البطريرك لوقا البنهراني واسره في بلاد طرابلس، وتبيّن حرص الموارنة على الحرية والاصالة في الشأنين الديني والمدني ( فقرة8).

المرحلة الثالثة  تمثلت بحكم العثمانيين سحابة اربعة قرون. كانت مرحلة بناء الداخل اللبناني وامتداد مساحته الجغرافية من شماله الى جنوبه، حيث تبلورت نواة فكرة لبنان الحديث التعددي المبني على المصالح المشتركة، لان آل  عساف  المسلمين السنة الذين كانت قاعدة حكمهم في غزير، ابتداءً من سنة 1506، حكموا بحسب النظام الاقطاعي المدني، لا بحسب الشريعة الاسلامية، مكتفين بجمع الضرائب، وتاركين لرعاياهم  حريتهم الدينية. فتعاون الموارنة معهم في الحكم بواسطة آل حبيش منذ 1516 (فقرة9). ثم حكم امراء بني سيفا بحسب الشريعة الاسلامية لا بحسب العرف المدني وحموا الشواطىء. فانتقل الموارنة في اتجاه المناطق الجنوبية، وشددوا اتصالهم بروما والغرب بواسطة المرسلين الفرنسيسكان وسواهم من المؤسسات المسيحية المتواجدة في الاراضي المقدسة ( فقرة9 و10).

في عهد الامارتين المعنية والشهابية (1584-1842)، قوي نفوذ الموارنة وتميزوا بمساهمتهم الفعلية في النهضة العربية، بفضل تعاونهم مع المعنيين وبخاصة الامير فخر الدين، بواسطة آل الخازن ثُم آل ابي اللمع. كان فخر الدين يطمح الى الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية، ويرغب في الانفتاح على الغرب. فسهّل الموارنة اتصاله بروما وفلورنسا وباريس. وقوي هذا التعاون بين الموارنة والدروز وسائر ابناء الجبل، وتأصلت فكرة لبنان التعددي المبني على المصالح المشتركة. وبفضل المدرسة المارونية في روما سنة 1584، كسر الموارنة طوق الجهل واحضروا المطبعة الاولى العربية بالحرف السرياني الى دير مار انطونيوس قزحيا، شمالي لبنان سنة 1610، وانطلقت شرارة النهضة العربية والانفتاح على الحضارة الغربية ونقلها الى معاصريهم. وكان انسجام تام بين الكنيسة المارونية والامارة اللبنانية من جهة، وبينها وبين الزعامة المارونية من آل حبيش والخازن وابي اللمع، الشديدي الغيرة على مصلحة الكنيسة من جهة اخرى (فقرة 10 و11).

      امتدت هذه المرحلة الى عهد  القائمقاميتين وامتحانها القاسي بمأـساة 1860 وبداية الهجرة نحو الغرب ( فقرة 12)، فالى مرحلة المتصرفية حيث نبذ الموارنة الاحقاد وعاودوا تعاونهم مع الدروز لانجاح تجربة العيش المشترك مع كل الطوائف. فتشكلت النواة السياسية والقانونية والجغرافية لدولة لبنان الكبير، التي اكتملت ونضجت، بعد انهيار السلطنة العثمانية سنة 1918 (فقرة 13)، باعلان دولة لبنان الكبير بحدوده الحاضرة في اول ايلول1920 (فقرة 14).


صلاة

تعالَ ايها الروح الخالق لزيارة نفوس محبيك، املأ قلوب عبادكم نعمة من علُ: انت المعزي وعطية الرب ذي الجلال، انت الينبوع المروي والنار المطهّرة والمحبة المشتعلة والمسحة الروحية. ضع نورك في عقولنا، وانشر محبتك في قلوبنا، واقم بقوتك القديرة اجسادنا الواهنة.

اليك والى الآب الذي ارسلك، والى الابن الذي نفخك فينا، كل مجد واكرام وشكر، الى الابد. آمين.


 

الاحد 10 حزيران 2007

 

الاحد الثالث من زمن العنصرة

غذاء حقيقة المحبة ومواهب الروح القدس

 

انجيل القديس يوحنا 14/21-26

 

قال الرب يسوع لتلاميذه: " من كانت لديه وصاياي ويحفظها، هو الذي يحبني. ومن يُحبني يُحبه أبي، وأنا أحبه وأُظهر له ذاتي". قال له يهوذا، لا ذاك الاسخريوطي: " يا رب، ماذا جرى حتى تظهر ذاتك لنا، لا للعالم؟". أجاب يسوع وقال له: " من يُحبني يحفظ كلمتي، وأبي يُحبه وإليه نأتي، وعنده نجعل لنا منزلاً. من لا يحبني لا يحفظ كلمتي. والكلمة التي تسمعونها ليست كلمتي، بل كلمة الآب الذي ارسلني. كلمتكم بهذا، وأنا مُقيم عندكم. لكن البرقليط، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، هو يُعلمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما قلته لكم. السلام استودعكم، سلامي اعطيكم. لا كما يعطيه العالم انا اعطيكم. لا يضطرب قلبكم ولا يخف!".

***

بحلول الروح القدس يوم العنصرة، سادت في الكنيسة شريعة المحبة. الانسان يحب الله حافظاً وصاياه، والله يستقر فيه: الآب بمحبته، والابن بنعمته، والروح القدس بمواهبه. انها شركة المحبة العامودية، التي منها تنبثق شركة المحبة الافقية بين الناس. الكلمة الالهية، التي تتخذ شكل وصايا، هي التي تولّد المحبة في قلب المؤمن، وهي التي تجمع قابليها ومحبّي يسوع المسيح. ما عدا ذلك، لا رابط صداقة واخلاص بين الناس.

 

اولاً، مضمون الانجيل

 

1.   شركة الحقيقة والمحبة

تغتذي شركة المحبة من سرّ القربان الذي هو " سر المحبة"، كما يسمّيه القديس توما الاكويني (الخلاصة اللاهوتية،3 المسألة 73،3). ففيه يهب يسوع المسيح ذاته مأكلاً ومشرباً يعطيان الحياة الالهية، ويكشف محبة الله اللامتناهية لكل انسان. هي محبة قدّم بها يسوع حياته من اجل احبائه، مائتاً على الصليب لفدائهم (يو15/13)؛ وأحبهم حتى النهاية (يو13/1) مقدّماً لهم جسده ودمه خبزاً سماوياً لعدم الموت (الارشاد الرسولي: " سرّ المحبة"،1). هذه الحقائق كشف عنها الرب يسوع  بقوله في انجيل اليوم: : "من يحبني يحفظ كلمتي، انا احبّه وابي يحبه واليه نأتي وعنده نجعل منزلاً" (يو14/21 و23).

الله المحبة الثالوثية يسكن في كيان الانسان، ويكون الروح بمواهبه السبع المعلّم والمعزي الذي يعلّم حقيقة المحبة التي تحرر (يو8/36) ويذكّر بها ( انظر يوحنا 14/26). ان الكنيسة التي تجد في سرّ القربان محورها الحيوي تلتزم دونما انقطاع بالاعلان للجميع، في وقته وغير وقته، ان الله محبة، وبما ان المسيح جعل نفسه عذاء الحقيقة، فالكنيسة تتوجه الى كل انسان وتدعوه ليقبل بحرّية مسؤولة ومُحبّة عطية الله ( سرّ المحبة، 2).

كل انسان يتوق الى الحقيقة والى الحرية لكي يحيا بسعادة وطمأنينة يجد جواباً عند المسيح الذي يجتذبه: " انا هو الطريق والحق والحياة" (يو14/6)، " فاذا حرركم الابن كنتم احراراً حقاً"  (يو8/36). يسوع المسيح هو النجم القطبي الذي يهدي حرية الانسان لكي لا تضيع. فبدون معرفة الحقيقة، تفقد الحرية طبيعتها وتنعزل وتصير مجرّد تعسّف عقيم ( سر المحبة، 2).

 

2.   الروح القدس في حياة المؤمنين والكنيسة

 

" الروح القدس، البارقليط، يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما اقوله لكم" ( يو14/26).

ثلاث صفات تكشف عمل الروح القدس في المؤمنين والكنيسة: انه المعزي والمعلم والذاكرة. صفات تختصر مواهبه السبع:

الروح المعزي يعطينا القوة لمواجهة المحن والمعاكسات، الآتية من الداخل او من الخارج. لا أحد منا الا ويختبر الرياح المعاكسة في حياته واعماله ومسؤولياته. وحده روح القوة يشجعنا على الصمود والصبر والاحتمال، ويشدّد الرجاء بتجاوز المحنة.

الروح المعلم يمنحنا موهبة المشورة، كل مرة نتساءل عما يجب ان نفعل او نقول؛ وموهبة العلم عندما نصمت ونتأمل ونفكر، باحثين عن حقيقة ما، وعن نور يقود معرفتنا؛ وموهبة الحكمة عندما تستدعي ظروف الحياة ان نتخذ قراراً او موقفاً حاسماً لقضية؛ وموهبة الفهم التي تعضد ايماننا، وتساعدنا في البحث عن جواب على تساؤلاتنا.

والروح الذاكرة يفيض علينا موهبة التقوى في لقائنا مع الله عبر الليتورجيا وافعال العبادة، بحيث نتذكّر ان الرب هنا؛ وموهبة مخافة الله في علاقاتنا مع الناس، وفي تعاطينا شؤون العالم واستخدام خيراته، فنتممها وفقاً لمرضاة الله، مخافة الاساءة اليه وخسارة رضاه.

بفضل مواهب الروح القدس نقبل وصايا الله وكلام يسوع المسيح ونحفظها. هذا القبول والحفظ دليل على محبتنا للمسيح. فلنصغ مجدداً الى كلام الرب في انجيل اليوم: " من يقبل وصاياي ويحفظها، فذاك يحبني... ومن يحبني يحفظ كلمتي" ( يو14/21و23). عندما نقبل وصايا الرب وكلامه ونحفظها، هذا يعني اننا نحبه، لان " محبة الله افيضت في قلوبنا بالروح القدس" (روم5/5). وبما ان الروح القدس هو رباط الحب بين الآب والابن، فاننا موضوع محبة الثالوث: "من يحبني، انا احبه، وابي يحبه، واليه نأتي، وعنده نجعل منزلاً" ( يو14/21 و23).

بعمل الروح القدس يصبح الانسان " سكنى الله" ( افسس2/22)، وتصبح الكنيسة، اورشليم الجديدة، مسكن الله، وفيها يصبح المؤمنون شعب الله، حسب رؤيا يوحنا: " ورأيت المدينة المقدسة، اورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله... وسمعت صوتاً عظيماً من السماء يقول: " هوذا مسكن الله مع الناس، يسكن معهم، هم يكونون له شعباً، والله معهم يكون لهم الهاً (رؤيا21/3).

 

3.   وجوه احيتها مواهب الروح القدس

 

 الحكمة: " رأى الناس في سليمان الملك حكمة الله في اجراء الحكم" (1ملوك3/16- 28). عندما حضرت امامه امرأتان تتنازعان الامومة لطفل  فأمر سيافاً بشطر الولد الى اثنين. فصرخت واحدة: "ارجوك يا سيدي. اعطوها الولد حياً ولا تقتلوه "، بينما الاخرى قالت: " لا، بل اشطروه". ففهم الملك ان الاولى امه، وقد تحركت احشاؤها على ابنها، وامر باعطائها الولد.

 

 القوة على الاحتمال والصبر تميزت بها القديسة رفقا، رسولة الالم المشارك في آلام الفداء على مدى 29 سنة وقد عميت وتفككت اوصال جسدها ما بين سنة 1885 وسنة وفاتها 1914. هي  اطلقت تكريم الجرح  السادس في كتف المسيح "الجرح المؤلم لان عليه حمل يسوع صليب خطايانا الثقيلة". وكانت تنال تعزية خفية تظهر للعيان في بسمتها الدائمة وهدوئها. يسوع  نفسه عندما كان يتألم في بستان الزيتون " ظهر له ملاك من السماء يشدده" ( لو22/43).

 

 تقوى الله: موهبة تميز بها القديس نعمة الله الحرديني. فكان يحتفل بقداسه كل يوم الساعة 11.00، ليقسم نهاره الى اثنين: يكون القسم الاول استعداداً للذبيحة الالهية، والثاني فعل شكر. وكان يعترف بخطاياه كل يوم قبل ان يحتفل بذبيحة القداس. وهكذا عاش في محبة الله والاخوة وجميع الناس، ساهراً متيقظاً على ألاّ يسيء الى احد او يجرح احداً.

 

        الفهم: أعطيت القديسة Paola Elizabetta Cerioli موهبة فهم عطية الامومة الروحية، بعد ان فقدت زوجها واولادها الاربعة وهي بعمر 39 سنة، ثلاثة في اولى اشهر الطفولة، والرابع كارلو بعمر 15 سنة. في قلب الوجع والضياع واليأس، استطاعت بقوة الايمان، على صدى صوت ابنها كارلو الذي قال لها وهو على فراش النزاع: " ماما، لا تبكي بسبب موتي، فالله سيعطيك ابناء آخرين كثيرين"، وبارشادات مطرانها في Bergamo   (ايطاليا)، ان تفهم سرّ آلام مريم العذراء، وان تنفتح على فهم قيمة الامومة الروحية، التي قدمها لها الله بواسطة الروح القدس، مكافأة لها على تتلمذها الجديد للمسيح، وتحقيقاً لنبؤة ابنها كارلو. فكرست نفسها لخدمة الاولاد الصغار والفقراء. واسست جمعية راهبات العائلة المقدسة للعناية بالبنات، وجمعية العائلة المقدسة الرجالية للاعتناء بالصبيان.

 

        المشورة اتصفت بها القديسة طبيبة الاطفال  Gianna Beretta Molla،فأتخذت  قرار الزواج  بالمهندس بيترو Molla. كانت تتساءل بالصلاة حول دعوتها التي تعتبرها عطية من الله، وتطلب من اخوتها ان يصلوا من اجلها لتقرر: هل تذهب طبيباً رسولاً الى البرازيل حيث شقيقها الكاهن، وحيث انشأ شقيقان آخران مستشفى، لتساعد العائلات الفقيرة، اذ كانت ملتزمة في خدمة الفقراء من خلال منظمة العمل الكاثوليكي، وجمعية مار منصور دي بول، ام تذهب للرسالة الى الهند حيث شقيقتها الراهبة Virginia؟

رافقت  في حزيران 1945 قطار مرضى في زيارة الى سيدة لورد فطلبت من العذراء ان تلهمها على اختيار دعوتها: " الرسالة في البرازيل ام الزواج" ؟ سألت مرشدها الروحي فقال لها : اسسي عائلة مسيحية. ثمة حاجة عظيمة الى امهات صالحات. فتزوجي وانجبي اولاداً يحبون الله ويخدمونه". وهكذا فعلت.

 

 مخافة الله هي مرضاته وعدم الاساءة اليه بالانتصار على التجربة والخطيئة. بعد ان امتلأ يسوع من الروح القدس ساعة اعتماده على يد يوحنا في نهر الاردن، سار به الروح الى البرية، حيث صام اربعين يوماً وجرّبه الشيطان. استطاع يسوع ان ينتصر على تجارب الشيطان الثلاث بالعودة الدائمة الى كلام الله: " مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الانسان" ( متى4/4)؛ " مكتوب ايضاً : لا تجرب الرب الهك" ( متى4/7)؛ " مكتوب: للرب الهك تسجد، واياه وحده تعبد" ( متى4/10). مخافة الله هي الحرص على عدم الاساءة اليه وخسارة مرضاته، بحفظ كلامه ووصاياه. كانت النتيجة ان فارقه الشيطان منهزماً، وجاءت ملائكة تقوّيه وتخدمه ( انظر متى4/11).

 

 العلم الذي يفتح الاذهان لمعرفة سرّ الله وارادته، وينير الجماعة في قراراتها، انار الرسل عند انتخاب متيا الرسول خلفاً ليهوذا الاسخريوطي فصلوا : " يا رب، انت تعلم ما في قلوب الجميع، فأظهر من تختار من هذين الاثنين، ليقبل نصيب الخدمة والرسالة التي تخلّى يهوذا عنها، وذهب الى مكان هو مكانه". ثم القوا القرعة، فوقعت على متيا. فعدّ من الاثني عشر ( اعمال 1/24-26).

 

***

 

ثانياً، راعوية السلام والديموقراطية

 

1. ثقافة السلام، كما كشفها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في  رسالته ليوم السلام العالمي "الشخص البشري قلب السلام": (اول يناير 2007)، تشمل على السواء "الاكولوجيا الطبيعية" و" الاكولوجيا البشرية": يعلّم الاختبار، يقول البابا، ان كل تصرّف لا يحترم البيئة الطبيعية، انما يؤذي العيش البشري المشترك، والعكس صحيح. هناك رباط  لا ينفصم ينكشف دائماً بين السلام مع الخليقة والسلام مع الله. اننا نجد في انشودة القديس فرنسيس الاسيزي " اختي الشمس"، النموذج الرائع لاكولوجيا السلام الكثيرة الالوان" ( فقرة 8).

على مستوى الجمع بين الاكولوجيا الطبيعية والاكولوجيا البشرية، يقتضي السلام ألا تحتكر الدول الصناعية الكبيرة التزوّد بالطاقة، وتحرم منها شعوباً ودولاً اخرى. ان تدمير البيئة، وسوء استعمالها الاناني، ووضع اليد قسراً على موارد الارض، يولّد جروحاً ونزاعات وحروباً، لانها تمنع شعوباً من امكانية النمو البشري الشامل بابعاده الخلقية والروحية، وابعاده العلمية والاقتصادية. يظهر جلياً من كل ذلك ان احترام الطبيعة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحاجة الى نسج علاقات بين الناس والامم من شأنها ان تعير انتباهاً كبيراً يعزز كرامة الاشخاص ويسدّ حاجاتهم الاصلية ( فقرة9).

 

2. ثقافة الديموقراطية تقوم على مبادىء خلقية تشكل الاساس للحياة الاجتماعية. فلا ديموقراطية في مجتمع تسود فيه تعدّدية خلقية مع نسبية ثقافية، فانهما تنفيان وجود شريعة خلقية متأصلة في طبيعة الكائن البشري نفسها، يحتكم اليها كل مفهوم للانسان والخير العام والدولة. ان التعددية الخلقية تُسقط مبادىء الشريعة الادبية الطبيعية ( مجمع عقيدة الايمان، تعليم حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك في الحياة السياسية،2).

تنتفي  الحياة الديموقراطية عندما يُعتمد النفوذ الانتخابي والتأثير المالي في المطالب، على حساب مقاييس العدالة والاخلاق. من مغبّة هذه الانحرافات في المسلكية السياسية خلقُ جوّ من الريبة

واللامبالاة، وتخفيض نسبة المشاركة السياسية والحسّ الوطني عند الشعب المتألم من خيبته (السنة المئة،47)، لرؤيته المصالح الخاصة والفئوية تطغى على الصالح العام، بسبب انعدام الاحترام لكرامة الانسان وحقوقه (الكنيسة في عالم اليوم، 26).

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تواصل الجماعات الراعوية والرهبانية والتربوية والاجتماعية تقبّلها للنص المجمعي الماروني التاسع عشر " الكنيسة المارونية والسياسة"، باستعراض القسم الثاني من المسار الماروني التاريخي في حقل السياسة.

تشمل الخطة الراعوية الماضي القريب والمعاصر من سنة 1920 الى سنوات حرب 1975 (الفقرات 15-27). انها مرحلة انجاز الاستقلال واعلان الميثاق الوطني سنة 1943،عبر بابين:  البطريركية المارونية كمرجعية روحية وسياسية، وقيادات  سياسية جديدة وتنظيمات حزبية (الفقرة 15 و16). يكشف النص المجمعي جوهر الميثاق الوطني: وهو توافق اللبنانيين على صيغة للتلاقي تقوم على مشاركة حقيقية فيما بينهم على اساس التوافق والمساواة والتوازن. له بُعد داخلي معروف بصيغة المشاركة المتوازية في الحكم والادارة وفقاً للتمثيل الطائفي، وبُعد خارجي قائم على الاستقلال عن الانتداب الفرنسي يقابله الاعتراف العربي بكيان دولة لبنان المستقل (فقرة 17). ان الميثاق الوطني ببعديه خيار حضاري عنوانه التعددية السياسية وادارتها بالحوار والتسويات النبيلبة باعتدال وواقعية. ولكن في المقابل لم تتخذ الدول العربية المجاورة، في استقلالها الخيار اللبناني. بل حسمت امر عروبتها اما بالشعارات الايديولوجية واما بالدين. فكان التجاذب بين الميثاق الوطني اللبناني ومواثيق وطنية عربية لا تتفق  مع الحالة اللبنانية. هذا ما جعل اللبنانيين غير قادرين الى اليوم على استكمال بناء الدولة اللبنانية المستقرة، القائمة على عمل المؤسسات الدستورية، غير المرتهنة للمتغيرات الاقليمية والدولية، وغير المقيّدة بالتجاذب الطائفي، في اطار الحرية والديموقراطكية التوافقية (فقرة 19).

وهكذا كانت مرحلة الانتكاسات الثلاث: احداث العام 1958 وهي انتكاسة فعلية اولى للميثاق الوطني واجهتها الشهابية بتكيّف واقعي ومعتدل لهذا الميثاق. ففعّلت مؤسسات الدولة، واطلقت مشاريع اصلاح وتنمية ( فقرة 20)؛ الحرب العربية-الاسرائيلية عام 1967، وبروز المقاومة الفلسطينية المسلحة، واتفاق القاهرة ( 1969) الذي اتاح للمنظمات الفلسطينية الدخول في مواجهات عسكرية مع اسرائيل عبر الحدود اللبنانية-الاسرائيلية، ووضع المخيمات الفلسطينية تحت سيطرة المنظمات الفلسطينية المسلحة. هذه كلها حوّلت لبنان الى دولة مواجهة، وجعلت جنوب لبنان ساحة الحرب الوحيدة للنزاع العربي-الاسرائيلي (فقرة21 و22)؛ اندلاع الحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975 التي برزت معها مسألة الاصلاح السياسي المعروفة بمسألة مشاركة المسلمين المتوازنة بالسلطة. وهذا ما تمَّ في اتفاق الطائف ووثيقة الوفاق الوطني سنة 1989(الفقرات 23-24).

ويستعرض النص انقسام الصف الماروني الى موقفين حيال التغيير في هيكلية السلطة: واحد معارض لأي تعديل في الدستور، وآخر متجاوب مع الواقع الراهن (فقرة 25)، ومآسي سنوات الحرب التي دامت 15 سنة، وموقف الكنيسة منها، ومرارة الواقع المسيحي ( فقرة 27).

 

***

صلاة

هلمّ ايها الروح القدس واملأ باطن قلوب محبيك. يا موزّع المواهب السبع، نوّر بها عقولنا، شدّد اراداتنا، قوّم خياراتنا، انعش  قلوبنا بالمحبة. يا قدرة يد الله، اهدِ الكنيسة وسط محن  هذا العالم، وانصرها على قوى الشر، ومتّعها بالسلام. يا هبة الله في القلوب، صعّد منها صلاة الشكر والتسبيح والتمجيد  الى الآب الذي ارسلك، والابن الذي استحقك بتجسده والفداء، الآن والى الابد، آمين.


الاحد 17 حزيران 2007

 

الاحد الرابع من زمن العنصرة

الافخارستيا ينبوع الشركة والرسالة

 

انجيل القديس لوقا 10/21-24

 

قال لوقا البشير: ابتهج يسوع بالروح القدس، فقال: " أعترف لك، يا أبتِ، ربّ السماء والارض، لأنك أخفيت هذه الامور عن الحكماء والفهماء، واظهرتها للاطفال. نعم، أيها الآب، لانك هكذا ارتضيت. لقد سلّمني أبي كل شيء، فما من أحد يعرفُ من هو الابن إلاّ الآب، ولا من هو الآب إلاّ الابن، ومن يريد الابن أن يظهره له". ثم التفت الى تلاميذه، وقال لهم على انفراد: " طوبى للعيون التي تنظر ما انتم تنظرون! فاني أقول لكم: إن أنبياء وملوكاً كثيرين ارادوا أن يروا، وأن يسمعوا ما تسمعون، فلم يسمعوا".

***

يكشف كلام الرب يسوع الشركة الحياتية بين الثالوث والمؤمنين المنفتحين "بروح الاطفال"، صغار الانجيل، لكلمة المسيح ونعمته. لهؤلاء يكشفها الآب، ويحجبها عن الممتلئين من حكمتهم الخاصة وفهمهم الشخصي، والمكتفين بهما.

زمن العنصرة هو زمن رسالة الكنيسة التي تعلن سرّ المسيح، لكي ينكشف وجه الله ووجه الانسان لكل الشعوب، فيبلغ الجميع الى الحقيقة والخلاص بالمسيح. في سرّ الافخارستيا تتحقق الشركة مع الله الثالوث القدوس، ومنه تنطلق الرسالة المسيحية التي تعلن ان  لا خلاص إلا بالمسيح الذي يملأ رغائب الانسان، وبدونه ثروة الدنيا سراب: " انبياء كثيرون وملوكاً اشتهوا ان ينظروا ما انتم تنظرون ولم ينظروا، وان يسمعوا ما انتم تسمعون ولم يسمعوا" ( لو10/24).

 

اولاً، الافخارستيا ينبوع حياة الكنيسة ورسالتها

 

لا بدّ من تذكير المسيحيين بقيمة القداس الالهي، الذي تقود اليه كل صلاة ومنه تنبع، فلا تكفي الصلاة في البيت اذا لم تصل بالمؤمن الى الشركة الحياتية مع الله في القداس، هذا السّر الذي  اسسه الرب يسوع، ليلة الآمه وموته، من اجل استمرارية ذبيحة الفداء عن خطايا كل انسان، واستمرارية وليمة جسده ودمه للحياة الالهية فينا، من فيض محبة الآب وفعل الروح القدس في الاسرار. بل اقول، في زمن ابتعاد الكثيرين من المسيحيين عن قداس يوم الاحد، لا بدّ من مصالحتهم مع سرّ الافخارستيا. بسبب هذه القطيعة انكسرت العلاقة الحياتية مع الله، وكثر الفساد وتبخرّت الرسالة، وباتت الممارسة الدينية، عند الكثيرين، مجرد عمل اجتماعي، خالٍ من اي مضمون روحي وخلقي. كما ان الكثيرين يظنون ان الرسالة المسيحية تقتصر على تعزيز الانماء البشري دونما اعتبار للنمو الروحي والخلقي على قياس المسيح ( انظر الارشاد الرسولي للبابا بندكتوس السادس عشر: " سرّ المحبة"، 86).

ان سر القداس يحتوي كل الخيرات الروحية اعني المسيح نفسه، الخبز الحي، الذي يعطي الحياة للبشر بجسده الحي والمحيي بالروح القدس، ويدعوهم ليقدّموا ذواتهم واعمالهم وكل شؤونهم المادية بالاتحاد معه (القرار المجمعي " في خدمة الكهنة وحياتهم"،5).

الكنيسة مؤتمنة على هذا الكنز الروحي، " وهي في المسيح، نوعاً ما، بمثابة السّر  sacrement))، اي العلامة والاداة للاتحاد العميق بالله ولوحدة الجنس البشري" (الدستور العقائدي " في الكنيسة"،1). هذا هو جوهر رسالتها ونشاطاتها الاجتماعية والثقافية والانمائية والروحية والكنسية، يقول القديس قبريانوس، " شعب يأخذ وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس". وهي بالتالي سرّ )  اداة وعلامة) الشركة الثالوثية ( سرّ المحبة،16)، بواسطة الاسرار السبعة التي توزعها، عبر الخدمة الكهنوتية، فتؤثر عملياً نعمة الله في حياة المؤمنين، وتجعل حياتهم، المفتداة بالمسيح، عبادة حية لله (المرجع نفسه).

ان نشأة الحياة المسيحية تبدأ في المعمودية، الولادة الثانية ابناءً وبنات لله، وتتقوى بالميرون، هبة الروح القدس ومواهبه، وتغتذي وتكتمل بالقربان، الحياة الالهية فينا. المشاركة في سرّ الافخارستيا، وهو القداس الالهي، تكمّل فعلياً مفاعيل المعمودية اي الانخراط عضوياً في جسد المسيح الواحد، الذي هو الكنيسة (1كور12/13) وشعب كهنوتي؛ وتكمّل مواهب الروح المعطاة لبنيان جسد المسيح (1كور12)، ولشهادة انجيلية اكبر في العالم (القرار المجمعي في نشاط الكنيسة الرسالي،9 و13).

هي " نشأة" من حيث الكيان المسيحي، وهي "تنشئة" من حيث تثقيف الايمان بشكل دائم يتلازم مع النمو في السّن. لكن نشأة الحياة المسيحية وتنشئتها هما طريق ارتداد الى الله، نسلكه بهدي الروح القدس، وبالعلاقة الدائمة مع الجماعة الكنسية، وبراعوية العائلة المسيحية التي تعضدها الرعية في مهمتها التربوية، لتواكب ابناءها في تقبّل اسرار المعمودية والميرون والقربان، بوعي وفاعلية (سرّ المحبة،19).

***

ثانيا، راعوية السلام والديموقراطية

1. العالم والاوطان بحاجة الى سلام. لكن السلام عطية من الله مركزها قلب الشخص البشري، كما جاء في موضوع رسالة البابا بندكتوس السادس عشر ليوم السلام العالمي ( اول يناير 2007)، وعنوانها: " الشخص البشري، قلب السلام".

تكشف الرسالة البابوية ان السلام يتعزز بمقدار المفهوم المعطى للشخص البشري، انطلاقاً من طبيعة الانسان الحقيقية. فاي مفهوم ضعيف عنه او شاذّ انما يفسح في المجال لموافق تسلّط، تقود الى عزل الانسان عن حق الدفاع عن النفس، وتجعل منه فريسة سهلة للقمع والعنف (فقرة 11).

يقتضي السلام تحرير الشخص البشري من الاحكام المسبقة والايديولوجيات التي تحرّض على البغض والعنف. معروف ان النظرة الى الانسان تختلف باختلاف الثقافات. وصحيح ايضاً ان مفهوماً خاطئاً عن الله يؤدي الى مفهوم خاطىء للانسان. يؤكد قداسة البابا بحزم:

" ان المفاهيم عن الله التي تحضّ على التصلّب واللجوء الى العنف تجاه امثالنا من البشر،

 يستحيل التسليم بها. وهذه نقطة يجب التذكير بها بوضوح: ان حرباً تُشّن باسم الله

 يستحيل قبولها. وعندما يكون ثمة مفهوم عن الله في اساس ممارسات اجرامية، فهذه

 علامة ان مثل هذا المفهوم قد تحوّل نظاماً عقائدياً" ( فقرة 10).

 

2. العالم والاوطان بحاجة ايضاً الى ديموقراطية سليمة تقود الى حقيقة اخيرة من شأنها ان توجّه العمل السياسي والافكار والقناعات. وإلاّ استُغلت كلها لمصلحة اصحاب السلطة. ان ديموقراطية من دون قيم تتحوّل بسهولة الى توتاليتارية معلّنة او متستّرة، كما يتبيّن من التاريخ (تألق الحقيقة،101).

الديموقراطية تتنافى والتعددية الخُلقية (éthique pluralisme). فنجد، من جهة ان المواطنين يطالبون، من اجل خياراتهم الخلقية الخاصة، أوسع استقلالية؛ ومن جهة ثانية، ان المشرّعين، احتراماً منهم لحرية الخيار، يسنّون قوانين بمعزل عن مبادىء الاخلاقية الطبيعية (مجمع عقيدة الايمان: تعليم حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك في الحياة السياسية، 2).

عندما يغيب مغهوم الله،  تتلاشى مبادىء الاخلاقية الطبيعية، ويمسي مفهوم الانسان مهدداً ومفسوداً، وتظلم الخليقة، ويصبح الانسان بمثابة " شيء" من الاشياء، وتنحطّ ميزته الراقية وسمو وجوده كانسان، ولا يعود يعتبر الحياة هدية سنيّة من يد الله، وحقيقة " مقدسة" موكولة الى مسؤوليته، وبالتالي الى حمايته ومحبته واجلاله (انجيل الحياة،22). الديموقراطية السليمة هي التي تُبنى على هذه النظرة للانسان.

 

***

ثالثا، الخطة الراعوية

 

بعد المسار التاريخي الذي سلكته الكنيسة المارونية على المستوى السياسي، تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي التاسع عشر: " الكنيسة المارونية والسياسة"، وتحديداً الفصل الثاني منه الذي يصوّر الحاضر في مرحلة ما بعد حرب 1975 واتفاق الطائف ( سنة 1989).

انه الحاضر اللبناني عامة والماروني خاصة في واقعه الدستوري الموصوف في مقدمة وثيقة الوفاق الوطني التي ادرجت في مقدمة الدستور المعدل سنة 1990. تظهر فيها طبيعة العقد الاجتماعي بين اللبنانيين، وفي اساسه ان " لا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"؛ وتتوضح ماهية النظام اللبناني: ان لبنان واحد موحّد، سيد حرّ مستقل، نهائي لجميع ابنائه على كامل اراضيه، عربي الهوية والانتماء، ملتزم في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، بكونه عضواً مؤسساً في جامعة الدول العربية وفي منظمة الامم الماحدة؛ وان نظام لبنان جمهوري ديموقراطي برلماني، قائم على احترام الحريات العامة، لاسيما حرية المعتقد، وعلى العدالة والمساواة، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، التي مصدرها الشعب ( فقرة 29).

لقد حُورّ مضمون هذه الوثيقة على يد سلطة الوصاية السورية، ما افرغ الدولة من قرارها، والحياة السياسية من ممارستها. فكانت خطة استهداف مبرمجة طاولت كلاً من السياسة والامن والديموغرافية والاعلام والديموقراطية القائمة على المساءلة والمحاسبة ( فقرة 30).

        ويستعرض النص موقف الكنيسة المارونية حيال هذا الواقع الراهن، الداعي الى المحافظة على هوية لبنان ورسالته باستعادة سيادته وقراره الحر وسلامة اراضيه واستقلاله الناجز، وقد عبّرت عنه في مذكرة 16 اذار 1998 الى رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، وفيها الدعوة الى تحقيق الوفاق الوطني بتطبيق وثيقة اتفاق الطائف نصاً وروحاً؛ وفي نداء 20 ايلول 2000، اثر تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي في 23 ايار 2000، الذي طالب بانهاء سلطة الوصاية السورية على لبنان وقد أصبح في حالة  احتضار (فقرة 31و32). وينتهي تصوير الواقع الحاضر مع انتفاضة الاستقلال في 14 اذار 2005، اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وهي انتفاضة اخرجت الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان 2005، بعد ثلاثين سنة من سلطة الوصاية، تتويجاً لنضال الشعب اللبناني المقيم والمنتشر، وتوحّده. فاذا بالحلم يتحول الى حقيقة ( فقرة 33).

 ان للحاضر الراهن هماً ثلاثياً مشتركاً للبنانيين، مسيحيين مسلمين:

1.   استكمال بناء الدولة المدنية الحديثة.

2.   اعادة بناء علاقات طبيعية مع سورية على قاعدة التكافؤ والمساواة والمصالح المشتركة.

3.   تطبيع العلاقات بين الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية ( فقرة 34).

ومن اهم التحديات على المستوى السياسي، ثلاثة ايضاً:

أ‌-       المحافظة على الهوية المارونية في لبنان وبلدان الانتشار.

ب‌- تعزيز الحوار المسيحي- الاسلامي في عالم من الانقسامات.

ج- دعم التضامن مع العالم العربي لدحض مقولة صراع الحضارات التي تضع الاسلام والمسيحية في مواجهة بعضهما البعض ( فقرة 34).

***

صلاة

هلّم ايها الروح القدس، وافتح قلوبنا على نفحة الله، لتستقر حياته الالهية في نفوسنا، فنكون شعباً واحداً مولوداً من المعمودية. اليك، ايها الروح القدوس، نفتح اجسادنا لآلسنتك النارية التي حلّت على الرسل القديسين في العلية، فاشعل بها قلوبنا لتحيا من مواهبك، وتعلن سرّ مجدنا. ارفع جباهنا الموسومة بميرون قدسك، واجعلنا شعب الحقيقة والمحبة، نشهد لهما في حياتنا كل يوم وظروفنا. اليك يا ضيفنا السماوي نفتح عيوننا الداخلية لتستنير بصيرتنا بنورك الهادي، لك المجد والشكر والتسبيح مع الآب والابن الى الابد، آمين.


الاحد 24 حزيران 2007

الاحد الخامس من زمن العنصرة

 الرسل والكنيسة

       انجيل القديس متى(10/1-8)

       دعا يسوع تلاميذه الاثني عشر، فأعطاهم سلطاناً يطردون به الارواح النجسة، ويشفون الشعب من كل مرضٍ وكل علّة. وهذه اسماء الرسل الاثني عشر: الاول سمعان الذي يدعى بطرس، واندراوس اخوه، ويعقوب بن زبدى، ويوحنا أخوه، وفيليبس وبرتلماوس، وتوما ومتى العشار، ويعقوب بن حلفى وتداوس، وسمعان الغيور ويهوذا الاسخريوطي الذي اسلم يسوع. هؤلاء الاثنا عشر ارسلهم يسوع، وقد أوصاهم قائلاً: " لا تسلكوا طريقاً الى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين، بل اذهبوا بالحري الى الخراف الضالة من بيت اسرائيل. وفيما انتم ذاهبون، نادوا قائلين: لقد اقترب ملكوت السماوات".

 

***

 

       زمن الكنيسة، المرموز اليه بزمن العنصرة، هو زمن الرسالة الموكولة اليها من السيد المسيح بشخص الرسل الاثني عشر. وهؤلاء سلموها بدورهم الى خلفائهم الاساقفة ومعاونيهم الكهنة والشمامسة والمكرسين والمكرسات. انها رسالة الشعب المسيحي باسره، ليقوم بها حيثما دعاه الله ليكون، وهي: تحرير النفوس من الارواح الشريرة والعبوديات، وشفاء الاجساد من الامراض والآفات، وبناء ملكوت الله في المجتمع البشري. انها تتلون بالنشاطات الروحية والانمائية، الثقافية والاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، وتشمل كل الاوضاع التي تؤمّن الخير العام، الذي منه خير كل انسان وكل الانسان.

اولاً، مضمون الانجيل

1.   من هم الرسل؟

هم الاثنا عشر الذين اختارهم يسوع من جماعة المؤمنين به، الذين تبعوه وتتلمذوا له: "دعاهم وارسلهم ليكرزوا بالانجيل وينادوا بالتوبة لمغفرة الخطايا" (متى10/1و7؛ مر6/12؛ لو9/1-2). انهم معاونوه الذين اختارهم ليبنوا ملكوت الله بالتلمذة والتقديس والتدبير ( انظر متى 28/16-20؛ مر15-15؛ لو24/45-48؛ يو20 /21-23). وهكذا ينشرون الكنيسة، التي هي زرع الملكوت وبدايته في ابعاده الثلاثة: السّر وهو الانتماء اليه بالكلمة ونعمة المعمودية والاسرار؛ والشركة التي هي الاتحاد بالله عامودياً، والوحدة مع الناس افقياً؛ والرسالة الرامية الى تحقيق تصميم الله الخلاصي. ويكونون في الكنيسة خداماً ورعاة، هم وخلفاؤهم، طول الايام الى انتهاء العالم ( متى 28/20).

        هؤلاء الاثنا عشر نظمهم الرب يسوع في هيئة تتصف بالجماعية ( collegialité)، وأقام رئيساً عليهم سمعان بطرس الذي اختاره من بينهم لما اتصف به من ايمان بالمسيح وحب له ( انظر متى16/16-19؛ يو21/15-17). ينتمي الى هذه الهيئة جميع الاساقفة المستقمي الايمان،، ويرئسها اسقف روما خليفة بطرس. وتعمل بتنظيم قانوني سينودسي (synodalité)، وبروح مجمعي conciliarité)).

اراد الرب يسوع 12 رسولاً للدلالة ان الكنيسة هي شعب الله الجديد، الذي حلّ محلّ الشعب القديم باسباطه ( قبائله) الاثني عشر. لقد شاء الله ان يخلص جميع الناس ويقدسهم، لا افرادياً فقط من دون اي رباط فيما بينهم، بل جماعياً ايضاً فجعل منهم شعباً يعرفه بالحق ويخدمه بامانة. وكان اول من دعاهم ليكونوا شعبه ابراهيم الخليل، واقام الله عهداً مع شعبه في سيناء على يد موسى : " ان سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي، تكونون خاصتي من بين جميع الشعوب، لان الارض كلها لي وانتم تكونون لي مملكة من الكهنة وامّة مقدسة"  ( خروج19/5-6). واصبح يعقوب حفيد ابراهيم الاصل الجامع لهذا الشعب، وقد اطلق الله عليه اسم " اسرائيل" (تكوين 32/29). هذا الاسم الشخصي اعطي فيما بعد لشعب الله، وريث المواعيد المسيحانية (غلا6/16).

 اسس السيد المسيح الكنيسة، شعب الله الجديد، وجعل الرسل الاثني عشر خداماً لكلمته ونعمته ومحبته، معلمين وكهنة ورعاة ( انظر الدستور العقائدي " في الكنيسة"،9). هذا الشعب المسيحاني يتمييز باربعة اوصاف: رأسه المسيح، الذي مات لفدائه وقام لتبريره؛ حالته كرامة وحرية ابناء الله، الذين يسكن الروح القدس في قلوبهم، كما في هيكل؛  شريعته وصية المحبة الجديدة على مثال محبة المسيح ( يو13/34)؛ غايته الاخيرة ولوج ملكوت الله الذي بدأه الله على هذه الارض، ويكتمل في السماء في نهاية الازمنة. هذا الشعب الجديد، يشكّل للبشرية باسرها زرع الوحدة والرجاء والخلاص، وشركة حياة وحب وحق، واداة فداء للجميع، ونوراً للعالم وملحاً للارض ( انظر متى 5/13-16)، انه مرسل الى العالم كله ( انظر الدستور العقائدي " في الكنيسة"،9).

 

2.   لفظة اسرائيل البيبلية واللفظة الصهيونية

 

" انطلقوا الى الخراف التي ضلّت من بيت اسرائيل" (متى 10/6).

          هذا الارسال بكلمة " انطلفوا" يواصله المسيح في ختام قداس كل يوم على لسان الكاهن: "اذهبوا". ان لفظة " قداس" باللاتينية missa  تشتق من missio اي الارسال. الافخارستيا مصدر الارسال.

      في الكتاب المقدس، لفظة "اسرائيل" تعني شعب الله  المتحدّر من ابراهيم، والموجهة اليه الرسالة المسيحانية؛ وفي تعليم بولس الرسول تعني الكنيسة ويسميها "اسرائيل الله" ( غلاطية 6/16)، ويميّز بين اسرائيل الذي في الروح وهو الكنيسة، واسرائيل الذي في الجسد وهم اليهود (1كورنتس10/18)؛ السيد المسيح نفسه يُسمى " اسرائيل، من حيث انه، مثل يعقوب، رأس شعب المفتدين: "انت عبدي يا اسرائيل، فأني بك اتمجد"  (اشعيا49/3).

       الرسل الاثنا عشر يدلّون اذن بعددهم الرمزي الى اسباط اسرائيل الاثني عشر، لانهم اساسات اسرائيل الجديد، أي الكنيسة. هكذا ينبئهم الرب يسوع عندما سأله سمعان بطرس: " ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فما عساه يكون لنا" ؟ اذ أجاب: "الحق اقول لكم: انتم الذين تبعتموني ، حين يجلس ابن الانسان على عرش مجده في العالم الجديد ، تجلسون انتم ايضاً على اثني عشر كرسياً وتدينون اسباط اسرائيل الاثني عشر" ( متى19/27-28).

       اساء التلاميذ فهم ذلك. وارتجى الشعب مسيحاً ملكاً يخلص الشعب اليهودي من الحكم الروماني الوثني المحتل لارضهم ارض يهوه، كما قال تلميذا عماوس ليسوع ولم يعرفاه: " أفلا تعلم ما جرى في هذه الايام ما يتعلق بيسوع الذي من الناصرة ، والذي كان نبياً قديراً قولاً وفعلاً، امام الله وجميع الشعب. فاسلمه عظماء الكتبة والشيوخ لحكم الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو ان يكون هو المزمع ان يخلص اسرائيل" ( لو24/18-21).على هذا الاساس  استقبله الشعب  في اورشليم: " هوشعن، مبارك الآتي باسم الرب، ملك اسرائيل" ( يو12/13). والى اللحظة الاخيرة، ظل هذا الاعتقاد سائداً عند الرسل ، فسألوه قبيل صعوده الى السماء بلحظات: " يا رب، أفي هذا الزمن تعيد الملك الى اسرائيل ؟" عندها اعلن لهم سرّ مملكته ومكانهم فيها: "حين يأتيكم الروح القدس، تنالون القوة، وتكونون لي شهوداً في اورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة ، الى اقاصي الارض" (اعمال 1/6و8). طالب اليهود بصلب يسوع لانهم اعتبروه "ملك اليهود" الجديد، واضطهدوا اتباعه، فاستشهد اسطفانوس رجماً ( اعمال 7/54-60)، ويعقوب الرسول اخو يوحنا بقطع الرأس وكان اضطهاد كنيسة الله في اورشليم وعلى رأس مضطهديها شاول اليهودي، الذي اصبح بولس رسول يسوع المسيح (اعمال8).

        في الجيل التاسع عشر نشأت الحركة الصهيونية وكان رائدها تيودور هيرسل  Théodor Herzel)) الكاتب اليهودي المجري (1860-1904) ، كردة فعل على التيار القائم ضد السامية، والغاية منها العودة الى ارض اسرائيل وانشاء دولة يهودية. على هذا الاساس كان وعد بلفور (Balfour) سنة 1917 بانشاء ما سمي اولاً " وطن قومي يهودي في فلسطين". كان ارثر جيمس بلفور يومها وزير خارجية بريطانيا (1916-1919). عمل الانتداب الانكليزي في فلسطين على اطلاق يد الحركة الصهيونية في اجتياح المنطقة، تحت رعاية الحاكم اليهودي هربرت صموئيل، وقد بدت معادية للكنيسة الكاثوليكية، كما وصفها بطريرك اورشليم المطران  Barlessina في محاضرة القاها في روما في 11 ايار 1921 . وقد ابدى البابا بندكتوس الخامس عشر قلقه بهذا الشأن في 13 ايار 1921: " نشعر بقلق وخيبة ، وقد عمد الاسرائيليون الى اقامة وضع مميز ومتفوق لهم في فلسطين. ان حال المسيحيين في فلسطين قد ازدادت سوءاً، بسبب الانظمة المدنية هناك التي تهدف الى ابعاد المسيحية عن المواقع التي كانت تشغلها حتى الآن لتُحلّ مكانها اليهود" ( خطاب الى مجمع الكرادلة). وسبق للبابا نفسه ان نبّه في 11 اذار 1919 الى ما يجري: " يقلقنا بنوع خاص مصير الاماكن المقدسة، اذ يُعهد بالمعابد المقدسة الخاصة بالمسيحيين الى سواهم".

       وتطور "الوطن القومي اليهودي في فلسطين" حتى اصبح دولة اسرائيل بالقرار 181 لمنظمة الامم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 الذي قسم فلسطين الى دولتين. وفي 14 ايار 1948 اعلنت نهاية الانتداب البريطاني ، الساعة السادسة مساء، وبعد دقيقة اعلن بن غوريون في الكنيست ولادة دولة اسرائيل التي اعترفت بها فوراً الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي. وحالاً كانت هجرة 400,000 عربي من بيوتهم، فيما كان قد استقر في القدس 100,000 اسرائيلي. وهكذا بدأ سنة 1949 الصراع العربي-الاسرائيلي، والفلسطنيي-الاسرائيلي بمحطاته الكبيرة : حرب حزيران سنة 1967، وحرب تشرين سنة 1973. فكان ان دفع لبنان ثمن هذا الصراع بالحروب التي بدأت سنة 1975، كما دفع وما زال ثمن مفاوضات السلام العربية-الاسرائيلية والفلسطينية - الاسرائيلية  التي تتعثر سنة بعد سنة، ويتفاقم النزاع.

       في 30 كانون الاول 1993، وُقّع في القدس الاتفاق الفاتيكاني الاسرائيلي، وعنوانه: "اتفاق حول بعض المبادىء الاساسية التي تنظم العلاقات بين الكرسي الرسولي ودولة اسرائيل". يعتبر الكرسي الرسولي هذا الاتفاق مرحلة مهمة في التزامه التاريخي الطويل في حماية حقوق الكنيسة وحرياتها في الارض المقدسة، ومساهمة في دعم ارادة حوار أفضل، وصداقة اعمق، وتعاون اكبر بين الكاثوليك ويهود اسرائيل والعالم، ومساهمة ايضاً في تعزيز التقدم على مسار السلام الجاري في منطقة الشرق الاوسط. اساس هذا الاتفاق الرسالة الروحية والادبية الخاصة بالكرسي الرسولي، الذي يظل خارج أي صراع او نزاع زمني بحت. غير انه لا يستطيع ان يتخلى عن رسالته المميزة ولا عن حقه في الادلاء بحكمه على البعد الادبي الذي يتصل بسائر المعضلات.

 

**

ثانياً، راعوية السلام والديموقراطية

 

لن تخرج الجتمعات البشرية هنا وهناك من ازماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما لم تحتل التربية على السلام والديموقراطية مكانها الاول. هذا ما تسعى له اللجنة الاسقفية لراعوية السلام والديموقراطية، وما درجنا على نقله في التنشئة المسيحية لزمن العنصرة.

1.يقوم السلام العادل والدائم على احترام حقوق الانسان. هكذا تؤكد رسالة البابا بندكتوس السادس عشر ليوم السلام العالمي ( اول كانون الثاني 2007). وهذه الحقوق تقوم على مفهوم صحيح وكامل للشخص البشري. فاذا ضعف مفهومه ضعفت حقوقه. من المؤسف حقاً ان تخضع الحقوق، التي تُعلن بصفة المطلق، لمفهوم نسبي للشخص البشري. هل يقوم المطلق على اساس نسبي؟ وبأي حق ترفض الحقوق او توضع جانباً من احد، عندما تكون مقتضاياتها "مزعجة" له ولمصالحه الخاصة؟

السلام يتحقق فقط عندما يُعطى كل انسان حقوقه، دونما خوف من نكرانها، وعندما تُعتبر متأصلة في مقتضيات طبيعته المعطاة له من الخالق. ومن المعلوم ايضاً، لكي يكتمل بناء السلام، ان تقتضي حقوق الانسان واجبات منه بالمقابل. فيما يعطى حقوقه، يؤدي هو ما عليه من واجبات. اذا كانت هذه المبادىء واضحة، يمكن عندئذٍ الدفاع عن حقوق الشخص البشري وحمايتها من الاعتداءات المتواصلة عليها.

وثمة التباس يظهر في استعمال لفظة " الحقوق البشرية"، لانه ينطوي على نوايا غامضة تميّز بين الاشخاص.:بالنسبة الى البعض، الشخص البشري هنا مطبوع بكرامة ثانية ويعطى دائماً وينما كان كل حقوقه، وبالنسبة الى غيرهم، يكون الشخص البشري ذا كرامة متغيّرة وحقوق متنازع عليها في مضمونها وزمنها ومكانها (الرسالة، فقرة 12).

هذا هو اساس النزاعات التي تقوّض السلام الاجتماعي.

 

2. الديموقراطية، من جهتها، تنطلق هي ايضاً من كرامة الشخص البشري المتأصلة في احترام الحياة البشرية، بدءاً من اللحظة الاولى للحبل بها، وتحمي هذه الكرامة. ولكي تفعل الديموقراطية ذلك، ينبغي ان تتصف بالخلقية.

لذا تدعو الكنيسة البرلمانيين المسيحيين لاستعمال حقهم وواجبهم في التدخل من اجل حماية المفهوم العميق للحياة، وتحمل مسؤوليتها المشتركة. فاعتبرت بلسان خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني ان على المسؤولين عن التشريع " واجباً نفيساً يلزمهم بالاعتراض" بوجه كل شريعة تؤدي الى اغتيال الحياة البشرية، وان من غير الممكن ان يشاركوا في حملات اعلامية لصالح شرائع من هذا النوع، ولا يُسمح لأحد ان يساندها بصوته الشخصي ( انجيل الحياة،73).

وبالمقابل " اذا تعذر على عضوٍ في البرلمان ان يتجنب او ان يُلغي تماماً قانوناً يجيز الاجهاض، فيسوغ له، في حال اعتلان معارضته الشخصية المطلقة على الاجهاض، وشيوعها عند الجميع، ان يدلي بدعمه لمقترحات تهدف الى الحدّ من اضرار مثل هذا القانون، والتخفيف من مفاعيله السلبية على صعيد الثقافة والاخلاق العامة. فاذا تصرف هكذا، لا يقوم بمساهمة لا شرعية في قانون ظالم، بل يضطلع بمسعى شرعي وبواجب يؤول الى الحدّ من مفاعليه الجائرة.   (انجيل الحياة، 73)

في هذا الاطار، لا بدّ من الاضافة ان الضمير المسيحي المثقّف، لا يسمح لأحد بأن يصوّت من اجل تحقيق برنامج سياسي او تطبيق شريعة تتنافى والمضامين الاساسية للايمان والاخلاقية، في ما تقترح من بدائل او في ما هو معاكس لهذه المضامين ( مجمع عقيدة الايمان، مذكّرة تعليمية حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك ومسلكهم في الحياة السياسية، 4).

 

**

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

نواصل التفكير معاً في مضمون النص التاسع عشر من نصوص المجمع البطريركي الماروني: " الكنيسة المارونية والسياسة"، وبوجه التحديد في الفصل الثالث وعنوانه " التحديات".

يكون هذا الفصل النظرة الاستراتيجية الى المستقبل انطلاقاً من عيش الهوية والرسالة في ظروف تتميّز بثلاثة: اولاً، ممارسة السيادة والاستقلال وحريّة القرار بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوب، وجلاء القوات السورية منالمناطق اللبنانية؛ ثانياً، المخاض المحضاري الذي يعاني منه العالم العربي؛ ثالثاً، النظام العالمي الجديد. يرى النص تحديات اولية ينبغي مواجهتها: العيش المشترك، بناء دولة ديموقراطية حديثة، المصالحة مع السياسة، والانتشار الماروني في ابعاده السياسية (الفقرات 35-59).

 

العيش المشترك

 

العيش المشترك تجربة لبنانية مميزة، وخبرة، ومسؤولية مشتركة وقدر اللبنانيين وخيارهم الحرّ، يرسّخونه كل يوم، رغم الصعوبات، على الاسس التي تجمع وهي: الايمان بالله باله واحد، الانتماء الى وطن واحد، والارتباط بمصير واحد، ودعوة من الله لنكون معاً ونبني معاً، مسؤولين بعضنا عن بعض (فقرة 36). وهو نمط حياة قوامه: تواصل وتفاعل بين الاشخاص، واحترام الآخر في تمايزه وفرادته، واحترام الحياة في تنوعها وغناها؛ وخلاصة موحّدة لمكونات الانسان المتعددة (فقرة37). انه وعي جديد للذات اللبنانية والوطن ادّت اليه اختبارات  الحرب وهو ان يعيش المسيحيون والمسلمون في وطنهم الواحد، مختلفين من حيث الانتماء الديني، ومتساوين في مواطنيتهم؛ وان مصير كل واحد منهم مرتبط بمصير الآخر. فليس من حلّ لمجموعة دون اخرى، ولا لمجموعة على حساب اخرى (فقرة 38).

والعيش المشترك  مساهمة ضرورية لوضع حدّ لدوامة العنف التي تضع وجها لوجه هويات ثقافية وسياسية متنوعة، تجعل من كل واحدة منها خطراً يتهدد الاخرى (فقرة39). اذا حافظ اللبنانيون على صيغة العيش المشترك بوجهه الصحيح والسليم، في مجتمع ديموقراطي قائم على التعددية في الوحدة، وانتقل هذا الاختبار الى العالم العربي في مخاضه الحالي، يتم التعريف بأن العروبة رابطة حضارية تقرّب بين العرب، لا مشروع سياسي يباعد بينهم، بل  ايضاً عنصر ايجابي في صنع الحضارة الانسانية، وفي تثبيت دعامة الاستقرار والسلام (فقرة40).

العيش المشترك حاجة مستمرة للتفاعل بين  المسيحية والاسلام. فلا تكون النظرة الغربية الى المسلمين كأنهم يشكلون تهديداً، ولا تكون النظرة الاسلامية الى تحرّك الغرب كأنه مبني على اعتبارات دينية، في حين انه محكوم بمصالح لا تمتّ الى الدين بصلة ( فقرة 43).

تفاعلت الكنيسة المارونية بانفتاح مع التاريخ السياسي لمحيطها العربي، ملتزمة قضاياه، ولاعبة دوراً رائداً في بلورة الوعي السياسي العربي عبر دور الموارنة في الحداثة وحركة التحرر والفكر والصحافة (الفقرة،42).

 

**

صلاة

تعال ايها الروح القدوس، واجعل الانجيل قوة حياة، والكنيسة شركة، والسلطة خدمة، والليتورجيا تذكاراً حياً، والنشاط البشري مسلكاً خلقياً ومسيرة شجاعة تعلن الحقيقة وتوطّد الحرية. بحلولك ايها الروح، وبفعلك في داخل الانسان، تبيّن للعالم ان الله قريب، لا بعيد، وانه يعيش وسط شعبه، وتجعلنا ندرك ان " ملكوت الله في داخلنا"  (لو17/21). لك وللآب والابن، كل مجد وسجود واكرام الى الابد، آمين.


الاحد 1 تموز 2007

الاحد السادس من زمن العنصرة

الرسالة المسيحية وتحدياتها

 

       انجيل القديس متى10/16-20

      

       قال الرب يسوع لتلاميذه: " ها انا ارسلكم كالخراف بين الذئاب. فكونوا حكماء كالحيات، وودعاء كالحمام. احذروا الناس! فانهم سيسلمونكم الى المجالس، وفي مجامعهم يجلدونكم. وتساقون الى الولاة والملوك من اجلي، شهادة لهم وللامم. وحين يسلمونكم، لا تهتموا كيف او بماذا تتكلمون، فانكم ستعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به. فلستم انتم المتكلمين، بل روح ابيكم هو المتكلم فيكم. وسيسلم الاخ أخاه الى الموت، والاب ابنه، ويتمرد الاولاد على اولادهم ويقتلونهم. ويبغضكم جميع الناس من اجل اسمي، ومن يصبر الى المنتهى يخلص. واذا اضطهدوكم في هذه المدينة، اهربوا الى غيرها. فالحق اقول لكم: لن تبلغوا آخر مدن اسرائيل حتى يأتي ابن الانسان. ليس تلميذ أفضل من معلمه، ولا عبدٌ من سيده. حسب التلميذ ان يصير مثل معلمه، والعبد مثل سيده. فان كان سيد البيت قد سموه زبول، فكم بالاحرى أهل بيته؟".

 

**

 

        تنطلق الكنيسة بارسال من يسوع المسيح "الى اقاصي الارض" (اعمال1/8)، لتواصل اعلان انجيل الخلاص للعالم اجمع:، كما ارسله الآب، ولهذا يمنحها الروح القدس (انظر يوحنا 20/21-23). يكشف الرب لابناء الكنيسة الصعوبات والمحن والاضطهادات التي سيلقونها، لكنه يعطيهم الضمانة انهم لن يكونوا وحدهم لتأدية رسالتهم، بل سيتلقون العون والوسائل الكفيلة بتأديتها، من الرب يسوع وحضور الروح وقوته (رسالة الفادي،22-23).

 

اولاً، مضمون الانجيل

 

 

الرسالة وتحدياتها

" ها انا مرسلكم كالخراف بين الذئاب" ( متى10/16).

الكنيسة من طبعها مرسلة لتواصل رسالة الفادي التي اؤتمنت عليها، بحيث تشمل البشرية جمعاء، فتجدد، من جهة، الايمان وتقوّيه وتنشط الحياة المسيحية لدى ابنائها، ومن جهة ثانية، تعلن انجيل المسيح الى جميع شعوب الارض، "لغاية وحيدة هي خدمة الانسان باظهار محبة الله التي في يسوع المسيح"، ذلك ان " الفداء الذي تمَّ بالصليب اعاد الى الانسان، والى الابد، كرامته ومعنى وجوده في العالم" ( رسالة الفادي،2).

المسيحيون، بحكم معموديتهم، مرسلون، ليعلنوا، في سيرة حياتهم وكلامهم ومواقفهم واعمالهم، ان يسوع المسيح هو المخلص الوحيد للجميع، وهو الذي وحده يقدر ان يظهر الله وان يقود الى الله. رسالتهم هي اياها رسالة الكنيسة التي تهدف الى ان توجه عقل الانسان وتهدي البشر اجمعين وخبرتهم نحو سرّ المسيح (المرجع نفسه،4-5).

غير ان للرسالة مخاطرها وصعوباتها، لان الكنيسة وابناءها " مرسلون كالخراف بين الذئاب" (متى10/16). "الخراف" رمز البراءة والصفاء والفداء والانتصار، وقد اصبح يسوع المسيح " حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (يو1/29)، بصلبه وقيامته، " منتصراً على التنين العظيم، الحية القديمة المدعوّة الشيطان، مضلل المسكونة باسرها" (رؤيا12/9). بدم هذا الحمل يتنقى وينتصر حاملو رسالة الخلاص، كما رآهم يوحنا في رؤياه: " رأيت جمعاً غفيراً من الناس واقفين امام العرش وامام الحمل، موشحين بالحلل البيضاء، وبايديهم سعف النخل... انهم الآتون من الضيق الشديد، وقد غسلوا حللهم وبيّضوها بدم الحمل (رؤيا7/9و14).

"الذئاب" هم اعداء المسيح، واعداء كل حق وخير وجمال. هم الاشرار، الذين باعوا نفوسهم للشيطان وللشر،  "ويقتحمون حظيرة الخراف لافتراسها وتبديدها" (يو10/12). هكذا ودّع بولس الرسول كهنة كنيسة افسس: " اهتموا بانفسكم وبكل القطيع الذي اقامكم الروح القدس عليه، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدم ابنه يسوع. انا اعلم ان ذئاباً ضارية سوف تندس بينكم،بعد رحيلي، ولن ترفق بالقطيع. ومنكم انتم سيقوم رجال ينطقون بتعاليم منحرفة ليجرّوا التلاميذ وراءهم" (اعمال20/28-30). والذئاب هم رمز الرؤساء الذين، بدلاً من حماية القطيع، ينقضون عليه كالذئاب، كما كانت كلمة الرب على لسان حزقيال النبي: " في وسط الارض مؤامرة: كأسدٍ زائر مفترس فريسة قد التهموا النفوس واخذوا المال والنفيس، وكثّروا الارامل فيها. وفي وسطها رؤساؤها كالذئاب المفترسة الفريسة، سافكين الدم، مهلكين النفوس، لكي يكسبوا كسباً "  (حز22/25و27).

يوصي الرب يسوع هؤلاء المؤمنين حاملي رسالة الشهادة "بوداعة الحمام وحكمة الحيّات" (متى10/16)، في اداء الرسالة والحذر من سطوة الذئاب. ان كتاب اعمال الرسل يروي لنا رسالة الكنيسة الاولى وما عانت من اضطهاد ومحن، كما انبأها يسوع في انجيل اليوم. وكتاب رؤيا يوحنا استباق لما ستعاني الكنيسة من محن واضطهادات، من جيل الى جيل حتى نهاية العالم. لكن الرب المسيح يهديها: انه " كوكب الصباح الساطع، الآتي عاجلاً الى الكنيسة العروس الهاتفة مع الروح: "تعال ايها الرب يسوع" ( رؤيا 22/16 و17 و20).

 

2. نظرة الى الحاضر

 

تواجه رسالة الكنيسة اليوم صعوبات داخلية وخارجية. فمن الداخل، " تتعرض المسيحية لتجربة  تقليصها الى مجرد حكمة بشرية، وبنوع ما الى علم حياة الرفاهية. في عالم متعلمن للغاية، ظهرت علمنة متطورة لمفهوم الخلاص. لكن في المقابل، نحن نعلم ان يسوع جاء حاملاً الخلاص الكامل العجيب الذي يتناول الانسان كله جسداً ونفساً وروحاً والبشر جميعاًٌْ، ويجعلهم ينفتحون على افق البنوة الالهية" (رسالة الفادي،11). ومن الخارج، " ان بعض البلدان تمنع المرسلين من الدخول اليها، والبعض الآخر لا يمنع فقط من اعلان انجيل الخلاص، بل ايضاً من الاهتداءات واعمال العبادة المسيحية، وفي امكنة اخرى تكون الحواجز على صعيد ثقافي بحيث يُعتبر اهتداء المرء تخلياً عن شعبه وثقافته" ( المرجع نفسه،35).

ولا بدّ من الاشارة الىصعوبات اخرى هي " التعب والانزعاج، الرتابة واللامبالاة، وبالاكثر فقدان الفرح والرجاء" (البابا بولس السادس، واجب التبشير بالانجيل،80). اضف اليها انقسامات المسيحيين، في الماضي والحاضر، والتي تشكل عقبات كبيرة امام روح الرسالة في الكنيسة (القرار المجمعي في نشاط الكنيسة الارسالي،6). ثم هناك التقلص المسيحي في عدة بلدان مسيحية، والنقص في الدعوات الى الرسالة، والشهادات المعاكسة من قبل المؤمنين وجماعات مسيحية لا يتبعون مثال المسيح في حياتهم. واخيراً احد العوامل الاشد خطراً لفقدان الاهتمام بالالتزام بالرسالة هو الذهنية المطبوعة باللامبالاة الكثيرة الانتشار بين المسيحيين، والمبنية غالباً على مفاهيم غير صحيحة مثل القول: "كل الاديان متساوية" (رسالة الفادي، 36).

ان هذه الصعوبات الداخلية والخارجية يجب الاّ تحمل الى التشاؤم والتقاعس. لنا ثقة تأتي من الايمان تؤكد اننا لسنا نحن انفسنا ابطال الرسالة، بل يسوع المسيح وروحه، وما نحن سوى معاونين: " حين يسلّمونكم، لا تهتموا كيف او بماذا تتكلمون، فانكم ستُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به. فلستم انتم المتكلمين، بل روح ابيكم هو المتكلم فيكم" (متى10/19-20).

ليست الرسالة محصورة بالانجيل والشأن الروحي، وكأنها منسلخة عن واقع الانسان بكليته وبمختلف ابعاده الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والانمائية. الكنيسة ومؤسساتها تعمل من اجل كل هذه الابعاد. نأمل ان يفعل اهل الحكم كذلك. من المؤسف ان لا صلة بين الحاكم والشعب الذي انتدبه. فلكي يكون الحاكم متصلاً بالجميع ينبغي ان يلتمس الاتحاد بالله، اي منصرفاً عن شهواته وشهوة المتملقين لكي يخدم جميع الموطنين بدون روح الزبانية المتأصلة عند الحاكم والمحكوم. وطالما الشعب لا يثق بان مسؤولي الدولة الكبار منزهون، فان حاكمية الدولة مستحيلة. أجل ما لم يُلغ الطلاق بين اهل العلم والمتعاطين الشأن العام، لن تشفى الامّة وتستقيم الدولة. عند ذاك يبدأ الرجاء.

على المستوى الاقتصادي مؤسسات القطاع الخاص تعاني اختناقاً حاداً قضى على الكثير منها ويهدد بقاء اخرى. خزينة القطاع العام تنؤ باثقال الديون. فلا الاقتصاد قادر على تخفيف ديون القطاع العام، ولا القطاع العام يرعى مصالح القطاع الخاص او يفك الخناق عن مؤسساته. والسبب في ذلك هو السلوك الاقتصادي والنقدي الرسمي الذي سخّر الموارد المالية للبلاد في خدمة أوهام اقتصادية وسياسية، وفي انفاق رسمي طحن مليارات الدولارات واستنزف قدرات القطاعين العام والخاص لمصلحة بعض اهلهما. ان القطاع العام في لبنان بات يعمل لنفسه متخلياً عن دور الادارة والرعاية لشؤون القطاع الخاص، همّه عجزه وديونه وحساباته والتمسك ببعض الاوهام الاقتصادية على حساب القطاع الخاص ومصالحه الحيوية.  وسائلة ضرائب ورسوم ومصادرة مزيد من الثروة المالية في البلاد واستبعاد القطاع الخاص عنها. فهو كأم تأكل من صحن طفلها ( الدكتور ايلي يشوع، في جريدة النهار: لا ليغيّروا بل ليتغيروا، الاحد 20 تموز 2003). اضف الى هذه الازمة الاقتصادية الخانقة الازمة السياسية التي تعطل منذ شهور كل شيء. وهذا اجرام بحق الشعب والدولة.

 

**

ثانياً، راعوية السلام والديموقراطية

 

نقتنع يوماً بعد يوم كم أن أبناء هذا المجتمع بحاجة الى التربية على السلام والديموقراطية. الواقع الذي نعيشه في مجتمعنا يبيّن ان الناس، ولاسيما المسؤولين، فقدوا مفهوم السلام والديموقراطية.

1. السلام يعني في جوهره اعطاء الانسان والشعب، في مجتمع محدد وواقعي، ما له من حقوق اساسية، تتحدّر مباشرة من طبيعة الانسان. اذا فقدنا هذا المفهوم وقع الخلل.

في رسالته ليوم السلام العالمي ( اول كانون الثاني 2007)ذكّر البابا بندكتوس السادس عشر الدول، وبخاصة منظمة الامم المتحدة، ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 1948، انما كان التزاماً ادبياً اخذته البشرية بكاملها على عاتقها، وان لهذا الاعلان اساساً، ليس فقط في قرار منظمة الامم التي اقرّته، بل في طبيعة الانسان عينها، وفي ما له من كرامة لا تنتزع، لان الله هو الذي خلقه.

واضاف قداسته: " من الاهمية بمكان ألاّ يغيب عن خاطر الامم المتحدة هذا الاساس الطبيعي لحقوق الانسان، لكي تتجنّب خطر الانزلاق، واذا صدف ان انزلقت، فستفقد هذه سلطتها اللازمة لتقوم بدور المدافع عن حقوق الانسان والشعوب الاساسية. وهذا مبرر وجودها" (فقرة13). والسلام يتطلب وسيلة فاعلة لحماية هذه الحقوق وتعزيزها.

يشير الاب الاقدس الى انه مذ صار الوعي بان ثمة حقوقاً انسانية لا تنتزع لارتباطها بطبيعة الانسان المشتركة، وضع شرع دولي انساني، تعهدت الدول التقيد به وبخاصة في حال الحرب. انه يقتضي حماية الضحايا البريئة ومساعدتها، والامتناع عن توريط المدنيين في قلب الصراع. ومن الضرورة ان تواجه الدول المدّ الاصولي، الذي يبتكر صيغاً للعنف، بمقتضيات الشرع الدولي الانساني. ومن الملّح، امام آفة الاصولية، التفكير العميق بالحدود الاخلاقية المتعلقة باستعمال الادوات المسلحة، وبواجب العمل على توطيد الامن الوطني ( فقرة14).

 

2. الديموقراطية ايضاً تقوم على اسس الاخلاقية الطبيعية، فتثمر سلاماً هو بدوره ثمرة العدالة والمحبة ( كتاب التعليم المسيحي، 2304). اذا فُقدت الاخلاقية الطبيعية وقعت الفوضى الادبية، وقامت الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وسواها. نعرف من التاريخ ان ديموقراطية آتينا المثالية سقطت عندما انهارت الاخلاقية الطبيعية ( éthique naturelle).

يقوم النظام الديموقراطي على حق المساءلة والمحاسبة من قبل جميع المواطنين.

ما هو مضمون المساءلة والمحاسبة؟

يُساءل اصحاب السلطة ويحاسبون عن الحياة البشرية، وحمايتها من اي تعدٍ او تعذيب او حرمان، بدءاً من اللحظة الاولى لتكوينها في حشى الام حتى آخر نسمة من حياتها، التي للخالق وحده وضع حدّ لها.

يُساءلون ويحاسبون عن العائلة وحقوقها وكرامتها، عن وحدتها واستقرارها، عن خيرها ونموها، عن هنائها وسعادتها، وعن حق الوالدين في تربية اولادهم وفقاً لقناعاتهم وتقاليدهم وقيمهم.

يٌُساءلون ويحاسبون عن حماية القاصرين الاجتماعية؛ وعن انحراف  المواطنين نحو الادمان على المخدرات والدعارة، وهي اشكال جديدة للعبودية؛ وعن اقتصاد يكون في خدمة الشخص، والخير العام، باحترام العدالة الاجتماعية ومبدأ التضامن الانساني، وتأمين حقوق الاشخاص والعائلات والمجموعات وممارستها ( مجمع الايمان: مذكرة تعليمية حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك في الحياة السياسية، 4).

**

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تواصل الجماعات في الرعية والمدرسة والمؤسسات الرهبانية والمجتمع، التفكير معاً في النص المجمعي التاسع عشر: " الكنيسة المارونية والسياسة"، وتحديداً في الفصل الثالث، حول التحديات الاولية التي تواجهها النظرة الاستراتيجية الى المستقبل. بعد العبش المشترك، يأتي الالتزام ببناء دولة ديموقراطية حديثة ( فقرة 44 و45).

يعتبر النص المجمعي ان صيغة العيش المشترك تحتاج، من اجل حمايتها، الى دولة ديموقراطية حديثة، قائمة على التوافيق بين المواطنية والتعددية. المواطنية تقتضي المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع؛ والتعددية تقتضي العمل بمبدأ المشاركة في الحكم والادارة من قبل الجميع، عملاً بمقدمة الدستور اللبناني: " لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"(فقرة44).

اما الدولة الديموقراطية المنشودة فهي التي تؤمن:

أ‌-       التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، فلا الدين يسّيس ولا الدولة تعتّد بالدين.

ب- الانسجام بين الحرية التي هي في اساس فكرة لبنان والعدالة القائمة على

      المساواة في الحقوق والواجبات، كأساس للعيش المشترك.

ج‌-   الانسجام بين حق المواطن الفرد في قراراته الشخصية المصيرية، وحق الجماعات في الحضور والحياة على اساس خياراتها.

د‌-     الانسجام بين استقلال لبنان ونهائية كيانه، وبين انتمائه العربي وانفتاحه على العالم (فقرة 45).

 

**

       صلاة

       هلّم ايها الروح القدس، نحن بحاجة اليك لتنير الدرب الذي يجب ان نسلكه في رسالة الكنيسة وبناء المجتمع. اليك نفتح قلوبنا لتملأها عزاءً، وشفاهنا لتضع عليها كلمة الحق. نحن نؤمن انك ساكن فينا، وانك ضيف نفوسنا الدائم واللطيف، صوّرنا ايها الروح القدوس على صورة المسيح لنشهد له باللسان والعمل. صلِّ فينا لنرفع آيات الحمد والتسبيح والشكر للثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس، آمين.


الاحد 8 تموز 2007

الاحد السابع بعد العنصرة

 الاختيار والارسال لعمل الخلاص

 

       انجيل القديس لوقا10/1-7

 

        عيّن الرب يسوع اثنين وسبعين آخرين، وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه الى كل مدينة وموضع كان مزمعاً أن يذهب إليه. وقال لهم: " إن الحصاد كثير، أما الفعلة فقليلون. اطلبوا إذاً من ربّ الحصاد أن يُخرج فعلة الى حصاده. إذهبوا. ها انا أرسلكم كالحملان بين الذئاب. لا تحملوا كيساً، ولا زاداً، ولا حذاءً، ولا تسلموا على أحد في الطريق. وأي بيتٍ دخلتموه، قولوا اولاً: السلام لهذا البيت. فإن كان هناك ابن سلام فسلامكم يستقر عليه، وإلا فيرجع إليكم. واقيموا في ذلك البيت تأكلون وتشربون مما عندهم، لان الفاعل يستحق أجرته. ولا تنتقلوا من بيت الى بيت".

 

***

اختيار وارسال عامودان يقوم عليهما تصميم الله الخلاصي. فالله، بالمسيح يختار من يقود شعبه الى ميناء الخلاص، ويرسل المختارين، في كل مكان وزمان، ليعدّوا طريقه الى العقول بكلمة الانجيل الهادية، والى النفوس بنعمة الاسرار الشافية، والى القلوب بهبة روح المحبة المحيية. انها رسالة انجيل السلام لكل انسان. ولان الحصاد كثير، وحاجات البشر لا حدّ لها، يدعو الرب يسوع الى الصلاة الى الله " ليرسل فعلة لحصاده" ( لو10/2).

 

اولاً، حول نص الانجيل

 

        1. الاختيار والارسال

 

        انجيل اليوم يكشف مظهراً آخر من وجه الكنيسة الرسولية، هو وجه الاختيار والارسال.  الهدف ادخال جميع الناس في شركة الخلاص، بالاتحاد بالله، وبالوحدة بين البشر.

        "إذهبوا، ها انا ارسلكم كالخراف بين الذئاب" (لو10/3).

        " الخراف " هم رمز الذين يعيشون في هذه الشركة، و "الذئاب" رمز الذين لم يعرفوها. فيما الاولون يتميزون بالوداعة والبراءة والعطاء، الآخرون يعتدون ويخطفون وينهشون. واشترط الرب على المرسلين – الخراف ان يتميزوا بالتجرد من خيرات الدنيا: " لا تحملوا أكياساً ولا مزاود ولا حذاء"، وعدم التلهي بشؤون الناس الزمنية: " لا تسلّموا على احد في الطريق" (لو10/4-5). وحمّلهم رسالة السلام لجميع الناس: " اي بيتٍ تدخلون، قولوا اولاً: السلام لهذا البيت" (لو10/5). وحث المؤمنين على الاحسان لفعلة الانجيل: " كونوا في ذلك البيت تأكلون وتشربون مما عندهم، لان الفاعل يستحق اجرته"، وحذّر حاملي رسالة المسيح من أن يكونوا عبئاً على أحد: " لا تنتقلوا من بيت الى بيت" (لو10/7).

        في رسالته بمناسبة يوم الصلاة الرابع والاربعين من اجل الدعوات الاكليريكية لهذه السنة،  قال قداسة البابا ان الاختيار والارسال يهدفان الى خدمة الكنيسة –الشركة. من هذه الرسالة نستخلص شرح انجيل اليوم.

        لقد اختار الله دائماً اشخاصاً ليعاونوه مباشرة في تحقيق تصميمه الخلاصي. فدعا في العهد القديم ابراهيم لينشىء شعباً كبيراً (تك12/2)، ثم موسى ليحرر شعبه من عبودية مصر (خروج3/10)، ومن بعدهما الانبياء ليدافعوا عن العهد الذي قطعه مع شعبه، ويحفظوه حياً في النفوس. وفي العهد الجديد، بدأ بدعوة صيادي السمك في الجليل لاتباعه وجعلهم صيادين للبشر (مر1/17؛ متى4-19)، واستكمل دعوة الاثني عشر ليكونوا معه ويشاركوه في رسالته (مر3/14). وما زال الى اليوم يدعو من يشاء للغاية نفسها.

        لماذا الاختيار والدعوة؟ والى مَ تهدف رسالة الكنيسة في جوهرها؟ الجواب يأتي من صلاة يسوع من اجل الذين دعاهم وارسلهم: " ايها الآب، لقد عرّفتهم اسمك، وسأعرّفهم ايضاً، لكي تكون فيهم محبتك التي احببتني بها، واكون انا فيهم" (يو17/26). انها الشركة العميقة والامينة مع الله وفيما بينهم.

        الكنيسة شعب يأخذ وحدته من اتحاد الآب والابن والروح القدس، فينعكس عليه سرّ الله الثالوث، بحيث يشكّل برباط المحبة الثالوثية المسكوبة في القلوب، بفعل الروح القدس، جسداً واحداً وروحاً واحداً، هو المسيح الكلي (الدستور العقائدي " في الكنيسة"،4).

        هذا الشعب المنظّم عضوياً بقيادة رعاته الكنسيين، يعيش سرّ الشركة مع الله وبين الاخوة، عندما يجتمع حول مائدة الافخارستيا، في قداس يوم الاحد. سرّ القربان هو ينبوع وحدة الكنيسة وشركتها. فيه يمتلىء قلب المؤمن من محبة الله، وينطلق الى خدمة ملكوته، ملكوت الحقيقة والحرية، العدالة والمحبة، القداسة والغفران. في الجماعة الكنسية الموحّدة والمتضامنة، المسؤولة والفاعلة، يمكن سماع نداء الله وتمييز صوته.

 

        2. خدمة الشركة

 

" ارسلهم اثنين اثنين، امام وجهه الى كل موضع ومدينة حيث كان مزمعاً ان يمضي" (لو10/1).

من بعد ان ادخلهم الرب يسوع في الشركة معه ومع الله، وجعلهم واحداً في الشركة مع بعضهم البعض، ارسلهم ليعرّفوا الناس على اسمه وعلى الحقيقة التي حملها اليهم، وهي حقيقة الله والانسان والتاريخ. في كتاب اخير لقداسة البابا بعنوان " يسوع الذي من الناصرة"، يطرح السؤال الذي ينبغي ان يطرحه كل انسان: من هو الله؟ ويجب ان تطرح كل الديانات والثقافات سؤالاً آخراً ناتجاً عن الاول: من هو الانسان؟ كم يحتاج عالم اليوم الى ان يطرح، في ظلمة ازماته السياسية والاقتصادية، الروحية والثقافية، هذين السؤالين المتلازمين!

في اساس الارسال للنداءالالهي. فلا بدّ من سماع صوت الله الذي يدعو ويرسل. نحتاج كلنا الى " التربية" على سماع نداء الله، كما ساعد عالي فتاه صموئيل على فهم ما يطلب منه الله وعلى اتمامه سريعاً. لقد علّمه ان يقول عندما يسمع صوت الرب: " تكلم، يا رب، فان عبدك يسمع" (1صموئيل3/9). ولما اخبر الفتى صموئيل ما قاله الرب بشأن عالي، وكان كلاماً صعباً ومحرجاً، قال عالي: " هو الرب، فما حسن في عينيه، فليفعل"(1صموئيل3/18). وهكذا اصبح صموئيل نبياً مرسلاً من الله الى الشعب كله.

يعلّق قداسة البابا، في رسالته بمناسبة يوم الصلاة من اجل الدعوات الكهنوتية، على هذا الحدث: ان سماع نداء الله، سماعاً مطواعاً واميناً، يقتضي جواً من الشركة مع الله لتمييز صوته، والشركة بين الناس لخلق جوّ ملائم لسماعه، فحيث "يلتقي اثنان باسم الله، يكون هو الثالث بينهما"، واذا اتفق اثنان لطلب امر من الله، كان لهما"  (متى18/19-20).

فلا بدّ من التربية على الشركة الكنسية الاصيلة. وهذا واجب على الوالدين في البيت، وعلى الكهنة في رعاياهم. فالزواج والكهنوت هما لخدمة الشركة. الكاهن هو " خادم الكنيسة- الشركة، لانه بالاتحاد مع الاسقف والرباط الوثيق مع الجسم الكهنوتي، يبني وحدة الجماعة الكنسية في تناغم الدعوات والمواهب والخدمات" (اعطيكم رعاة،16). ومن واجب الاساقفة والكهنة ان يوجهوا كل خدمة وكل موهبة، عند ابناء الكنيسة وبناتها، الى الشركة الكاملة. ومعروف ايضاً ان الحياة المكرسة، في الاديار وفي العالم، انما هي في خدمة الشركة، من خلال اذكاء المحبة الاخوية تحت شكل الحياة المشتركة، والاخوّة النابعة من الايمان بالثالوث القدوس (الارشاد الرسولي " في الحياة المكرسة،41).

ان الشركة في العائلة وفي الرعية وفي الجماعة المكرسة، تجد نبعها وغايتها في سرّ القداس، " فالافخارستيا ينبوع حياة الكنيسة وذروتها". من يلتزم بخدمة انجيل العائلة والحياة او انجيل الخلاص او انجيل المحبة الكاملة، وهو انجيل واحد، ويعيش من سرّ القربان، انما يتقدّم في المحبة تجاه الله والناس، ويساهم في بناء الكنيسة - الشركة. ما احوجنا الى مسيحيين يطبعون بروح الانجيل الشؤون الزمنية التي يعملون فيها: السياسة والادارة والقضاء والاقتصاد والتجارة والاعلام والامن وسواها. "الحب القرباني" هو الذي يطلق ويؤسس كل نشاط كنسي ومدني، وفي الليتورجيا نختبر محبة الله، ونتبصّر حضورها، ونتعلم معرفتها في حياتنا اليومية ( من رسالة البابا ليوم الدعوات).

 

**

 

ثانياً، راعوية السلام والديموقراطية

 

1. السلام هو غاية رسالة الكنيسة، لان مجد الله في السماء يظهره السلام على الارض. ننهي اليوم ما جاء في تعليم البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته بمناسبة يوم السلام العالمي 2007، وهي بعنوان: الشخص البشري قلب السلام".

الطريق الذي يؤمّن مستقبل سلام للجميع يمرّ عبر اتفاقات دولية تهدف الى اثنين: التزام الدول بعدم انتشار الاسلحة النووية، والتزامها بمتابعة العمل عن تصميم على التخفيف منها وتفكيكها نهائياً. وهذا ما يمكن الوصول اليه بالمفاوضات. وهو امر ملحّ لان مصير البشرية جمعاء على المحك. ولا بدّ من الاشارة الى ما يؤكده المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ان " كل عمل حربي يسعى دونما تمييز الى تدمير مدن بكاملها ومناطق واسعة مع سكانها، انما هو جريمة ضد الله والانسان ذاته، يجب استنكارها بقوة ودونما تردد" (الكنيسة في عالم اليوم، 80 ( فقرة15).

التماس السلام من الله، وهو خير اساس في حياة كل انسان، واجب على المسيحي ان يفاخر بالقيام به. فهو ملتزم، بحكم انتمائه الى الكنيسة، بالعمل دونما كلل في سبيل السلام، والدفاع الجريء عن كرامة الشخص البشري وحقوقه التي لا تُنتزع. فالدفاع عن تسامي الشخص البشري يرسي اسس الكرامة البشرية والسلام الحقيقي والعادل ( فقرة 16).

نكون بناة السلام عندما نعمل جاهدين في سبيل تطوير انسانية حقيقية كاملة، وفقاً لتعليم الكنيسة الاجتماعي، ولاسيما في الرسالتين العامتين: " ترقّي الشعوب" للبابا بولس السادس، و "الاهتمام بالشأن الاجتماعي" للبابا يوحنا بولس الثاني. في هذه السنة نحتفل بمرور 40 سنة على صدور الاولى، و20 سنة على صدور الثانية ( فقرة 17).

     

2. الديموقراطية الحقيقية هي التي تقرّ استقلالية المساحة المدنية والسياسية عن المساحة الدينية، ولكن لا عن المساحة الخلقية. فالفصل بين السياسة والدين، لا بين السياسة والاخلاقية، قيمة مكتبسة ومعترف بها من قبل الكنيسة، وتنتمي الى التراث الحضاري الذي اُحرز.

لقد نبّهت الكنيسة بلسان خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني الى المخاطر الناتجة من اي خلط بين المساحة الدينية والمساحة السياسية: " يجب الاخذ بعين الاعتبار التمييز بين صلاحيات الدين وصلاحيات المجتمع السياسي. فانه لامر دقيق للغاية ان تصبح شريعة دينية او تسعى لتصبح شريعة الدولة. إن تماهي الشريعة الدينية مع الشريعة المدنية قد يؤدي الى خنق الحرية الدينية والحدّ من حقوق انسانية غير قابلة للانتهاك او انكارها" ( الرسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 1991).

من اجل ديموقراطية سليمة ينبغي ان تظل الاعمال الدينية، كاعلان الايمان، واتمام افعال العبادة والاسرار، والعقائد الدينية، والاتصالات المتبادلة بين السلطات الروحية والمؤمنين، وسواها، خارج صلاحيات الدولة. فلا يحق لهذه ان تتدخل فيها، ولا تستطيع، بأي شكل من الاشكال، ان تفرضها او تمنعها، مع اعتبار مقتضيات الانتظام العام. ان اقرار الحقوق المدنية والسياسية واداء الخدمات العامة لا تستطيع ان تكون مشروطة بقناعات او واجبات ذات طبيعة دينية من قبل المواطنين (مجمع عقيدة الايمان: مذكرة تعليمية بشأن بعض المسائل المختصة بالتزام الكاثوليك ومسلكهم في الحياة السياسية،6).

 

**

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

نواصل في هذا الاسبوع تقبل النص التاسع عشر من المجمع البطريركي الماروني، بعنوان: " الكنيسة المارونية والسياسة"، وعلى وجه التحديد المصالحة مع السياسة (الفقرات 46-52).

يعتبر النص انه من غير الممكن بناء دولة ديموقراطية حديثة من دون المصالحة مع السياسة، التي هي فن شريف يعمل في سبيل خدمة الخير العام، ويهدف الى تكوين مجتمع يعترف فيه كل شخص بالآخر على انه اخوه ويعامله على هذا الاساس؛ وهي ممارسة يومية تسعى الى ايجاد الحلول لمشاكل المجتمع ولتأمين حق الانسان المواطن في الحرية والعدالة والسلام والعيش الكريم؛ وهي الاهتمام بالآخرين بالاستماع الى مشاكلهم ومساعدتهم على حلّها. بينما في الواقع اصبحت لدى الكثيرين نوعاً من المناورات والخصومات واستعمال النفوذ، وسعياً بكل الوسائل، وعلى حساب كل المبادىء والمصلحة العامة، للوصول الى السلطة والاحتفاظ بها، والوسيلة الاسهل لتحقيق الثروات الخاصة على حساب المال العام (الفقرات 46 و47).

تقتضي المصالحة مع السياسة ثلاثة:

أ‌-       المشاركة في ادارة الشأن العام، اي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي مشاركة يقوم بها كلٌ من موقعه وامكاناته. انها واجب على المسيحيين لكي يبثوا روح الانجيل في الشؤون الزمنية، عن طريق خدمة الشخص والمجتمع، بهدف تعزيز الخير العام ( فقرة 48).

ب‌-   الالتزام بالقيم الانجيلية من اجل استقامة الاداء السياسي وتأمين المصلحة العامة. على اساس هذه القيم يتجدد الافراد بالمبادىء والفضائل المسيحية والانسانية والاجتماعية، وتتجدد القيادات متحلّية بالمصداقية والشفافية والاستقامة المسلكية والشجاعة الفكرية، وبالقدرة على التسوية من دون المساومة على المبادىء، وبالقدرة على الابتكار وتحسس مشاكل العصر، وبالالتزام في تقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية والفئوية (الفقرة 49 و50). من واجب المسيحيين التصدي للعنف والظلم والبغض والاستبداد، والعمل على بناء مستقبل اكثر انسانية، فيقاوموا بشدة مظاهر الفساد السياسي والاجتماعي، ويدافعوا عن الفقراء والمهمشين والمرضى، ويعملوا على تأمين المساواة بين الجميع (الفقرتان 49و50).

ج- تعزيز الثقافة الديموقراطية وممارستها، لانها الشرط الاساس لبقاء لبنان. من شأن هذه الثقافة والممارسة ان تعطي الاولوية للنقاش بدل التنافر، وان تغلّب المنطق على الانفعالات الآنية، وان تنقل من مرحلة المواطن القابل بما هو مفروض عليه الى المواطن الفاعل والمؤثر في مجتمعه. كل ذلك بالمثابرة والعزم الثابت والرجاء بأن التحولات ممكنة كي يتحسن وضع البشر. ومن الضرورة ان تشمل الثقافة الديموقراطية الشبيبة والنساء، وان توفر لها ولهن الفرص للممارسة الديموقراطية (الفقرة 51 و52).

 

**

صلاة

         هلّم ايها الروح القدس، واضرم في قلوبنا تلك النار التي اتقدت في قلبي تلميذي عماّوس، عندما كانوا يسمعون في الطريق كلام الله من فم الرب يسوع. ففي الزمن العسير حيث الرسالة تواجه العديد من المصاعب، تعال اليها الروح القدوس واملأ قلوبنا المنطفئة، واضرم فيها شعلة الحياة  والرجاء ونعمة القداسة. قدْ  عقولنا لتلج الى عمق سرّ المسيح والكنيسة، وقوِّ فينا الحميّة لاعلان الانجيل. نسألك ذلك بشفاعة سيدتنا مريم العذراء المملؤة من كمال الامومة والنعمة. للثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس كل تسبيح ومجد وشكر الى الابد، آمين.


     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code