الاحد 15 تموز 2007
الاحد الثامن من زمن العنصرة
الخدمة والليتورجيا
انجيل القديس متى
12/14-21
خرج الفريسيون
فتشاوروا على يسوع ليهلكوه. وعلم يسوع بالأمر فانصرف من هناك:
وتبعه كثيرون فشفاهم جميعاً، وحذرهم من أن يشهروه، ليتم ما قيل
بالنبي آشعيا: " هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي رضيت به نفسي.
سأجعل روحي عليه فيبشر الامم بالحق. لن يماحك ولن يصيح، ولن يسمع
أحد صوته في الساحات. قصبة مرضوضة لن يكسر، وفتيلةً مدخنةً لن
يطفىء، الى أن يصل بالحق الى النصر. وباسمه تجعل الامم رجاءها".
يسوع
المسيح فادي البشر هو قدوة لكل من يتقي الرب ويواصل عمل الفداء.
يتجلى سرّ الكنيسة المؤتمنة على رسالة الفداء تحملها الى جميع
الشعوب. وبما انه خادم الرب فقد دشّن خدمة الكنيسة التي يشرك فيها
جميع المؤمنين به. وهي خدمة انجيل الخلاص لجميع شعوب الارض والامم.
اولاً، شرح الانجيل
1. خادم الرب
" هوذا عبدي الذي اخترته "
(متى12/18)
هذه الآية هي بداية نشيد اشعيا النبي عن يسوع المسيح (
اشعيا 42/1-4). المؤلف من اربعة. يعلن فيه الله رسمياً عبده
المختار الذي رضي عنه وملاءه من الروح القدس وارسله يعلن الحق
للامم. في النشيد الثاني (اشعيا 49/1-8) يعرب عبد الرب عما يعاني
من اضطهاد ورفض لدى الامم، لكن الله يجدد عهده معه ودعوته " ليكون
نوراً للامم وخلاصاً ". في النشيد الثالث (اشعيا 50/4-9) يسلّم
العبد نفسه للضرب والاهانة، لكن السيد الرب ينصره. في النشيد
الرابع (اشعيا52/13-15؛53/1-13) تظهر آلام الفداء التي يعانيها هذا
العبد الذي اختاره الله.
هذه الاناشيد الاربعة تشكل رسالة فداء البشر التي سيتممها
المسيح، وقد كُتبت قبل مجيئه بستماية سنة. ونجد فيها ملامح وجه
المخلص. ولا عجب، فان اسم اشعيا يعني بالعبرية " الله يخلص" (يا
شعياهو)، والقديس ايرونيموس يطلق على اشعيا لقب " الانجيلي".
فالعبد هو " عابد الله" اي خادمه الشريف، الذي ملاءه من الروح
ليتمم الرسالة الموكولة اليه، وهي ان يتألم ويموت باذلاً نفسه،
ويقوم منتصراً انتصاراً عظيماً: انه " يبشر الامم بالحق"، ويسلك في
التواضع والامحاء، " لا يخاصم ولا يصيح"، وبالصبر والثبات " يسير
بالحق الى النصر"، ويصير رجاء لكل انسان وشعب: " وعلى اسمه تتكل
الامم".
ان عبارة " هوذا عبدي الذي عنه رضيت" سيكررها الآب مرتين عن
المسيح ابنه: في المعمودية على نهر الاردن (متى3/17) وفي التجلي
على الجبل ( متى17/5). وقيلت عن كل واحد منا يوم معموديته.
لكنها تقال عن الكنيسة، شعب الله الجديد، المعروفة "بالمسيح
الكلي"، حسب تعبير القديس اغسطينوس، اي المسيح الرأس واعضاء
جسده المعمدين. هذا يعني ان رسالة " العبد" هي رسالة الكنيسة
وابنائها المسيحيين. انها " خدمة العبادة" القائمة على
اثنتين: خدمة الكلمة ومضمونها اعلان سرّ الخلاص، وخدمة
التقديس التي تحقق هذا الخلاص، انها معروفة بالليتورجيا،
وذروتها الافخارستيا. فالقسم الاول من القداس هو خدمة اعلان
سرّ الخلاص، والقسم الثاني خدمة التقديس او الذبيحة. بل كل سرّ من
اسرار الخلاص مؤلف من هذين القسمين.
لقب " عبد" بمعنى " خادم" هو لقب شرف لكونه دعوة من
الله للمساهمة في تحقيق تصميمه الخلاصي، في الذات وفي الآخرين، وهو
في الوقت عينه واجب ومسؤولية لانه يقتضي الالتزام بالخلاص
الشخصي والشامل. ان عدم الالتزام يعني رفض الخدمة، وهذا الرفض هو
اساس كل خطيئة، لانه رفضٌ للفداء البشري ولتمجيد الله في الانسان
المفتدى (الدستور المجمعي في الليتورجيا المقدسة،5).
2. الخدمة في الكنيسة
الكنيسة خادمة الخلاص في ابعاده الثلاثة المترابطة والمتكاملة:
خدمة الكلمة باعلان الانجيل، كرازةً وتعليماً من اجل ولادة
الايمان في النفوس وتغذيته، وخدمة النعمة بتوزيع اسرار
الخلاص من اجل شفاء النفوس من الخطيئة وتحريرها من العبوديات
وامتلائها من الحياة الالهية، وخدمة المحبة بتعزيز حياة
الشركة بين الناس، القائمة على الاخوّة والتضامن، على العدالة
والسلام، فعلى محاربة الشر والظلم.
هذه الخدمة المثلثة هي امتداد لرسالة خادم الرب يسوع
المسيح، الذي تنبأ عنه آشعيا، ومشاركة في خدمته النبوية
والكهنوتية والملوكية. بهذا المعنى قال يسوع عن نفسه للتلاميذ: "
انا بينكم كالخادم" ( لو22/27)، ودعاهم لهذه الخدمة الشريفة: "
ليكن المترئس فيكم كأنه الخادم" (لو22/26). وارسلهم لتأديتها: "
اذهبوا وتلمذوا جميع الامم ( خدمة التعليم)، وعمدوهم باسم الآب
والابن والروح القدس ( خدمة التقديس)، وعلموهم ان يحفظوا كل ما
اوصيتكم به ( خدمة المحبة)، وهاءنذا معكم طوال الايام الى نهاية
العالم" (امتداد خدمته والمشاركة فيها) (متى28/19-20).
عندما اعلن الملاك لمريم العذراء دعوة الله لتكون ام الكلمة
المتجسد بقوة الروح القدس لخلاص البشر، اعلنت انها " خادمة
الرب" (لو1/38). بفضل هذه الخدمة اصبحت مريم " ملكة السماء
والارض"، شريكة ابنها " خادم الرب" الذي اصبح الملك السماوي الممجد
الى الابد.
القديس
، عندما تبدأ دعوى تطويبه، يسمى " خادم الله" ، ويجري التحقيق حول
بطولة فضائله في الخدمة المثلثة، أكان اكليريكياً ام علمانياً.
لكل مؤمن
في الكنيسة دور في الخدمة بحكم معموديته التي اشركته في خدمة
المسيح النبوية والكهنوتية والملوكية، وله بالتالي مسؤوليته في
الكنيسة والمجتمع. تدعو الكنيسة المؤمنين العلمانيين لموآزرة
الرعاة في خدمة الجماعة الكنسية من اجل نموها وحياتها، ممارسين
خدمتهم وفقاً للنعمة والمواهب التي يوزعها الروح القدس عليهم. انهم
يمارسون خدمتهم سواء بالمشاركة في المجالس الرعوية والحركات
الرسولية ام بالخدم الفردية والجماعية: فعلى صعيد خدمة الكلمة
يشاركون في التعليم وارشاد الاطفال والشبيبة واحياء السهرات
الانجيلية، والقيام بنشاط اعلامي في شتى الوسائل المقروءة
والمنظورة والمسموعة؛ وعلى صعيد خدمة التقديس يشاركون في
احياء الخدم الليتورجية على المذبح، وفي جوقة الرعية، واعداد
الكنيسة لمختلف حفلاتها الطقسية، وتحضير النوايا وتلاوة القراءات
المقدسة، وتنظيم الزياحات والرتب؛ وعلى صعيد خدمة المحبة
يشاركون في خدمة الفقراء، والاعتناء بالمعوزين واليتامى
والمرضى والعجزة والمعاقين، ويعملون على مصالحة المتخاصمين، وتنظيم
احصاء ابناء الرعية.
3. العبادة الليتورجية اساس كل خدمة
ليست الليتورجيا مجرد حفلات دينية
محفوظة للكهنة والمكرسين وبعض المؤمنين. بل هي العبادة الالهية
التي تشركنا في عملية الفداء الخلاصي وتمجيد الله من خلال
بشريتنا المفتداة بنعمة يسوع المسيح. ان العبادة الالهية هي
الوسيلة الوحيدة التي ارادها الله لكي " يخلص جميع الناس، ويبلغون
الى معرفة الحق" (1طيم2/4). تمتّ
الليتورجيا اول ما تمّت في العهد الجديد بشخص يسوع المسيح،
ابن الله، الكلمة المتجسد، الذي مسحه الروح القدس ليعلن بشرى
الانجيل لفقراء هذا العالم، ويشفي القلوب التي كسرتها الخطيئة
والشر. فاصبح " طبيب الاجساد والارواح" و"الوسيط بين الله والناس"
(1طيم 2/5). وسُّمّي " عبد الرب"، بالمفهوم الذي ذكرنا ( الدستور
المجمعي في الليتورجيا،5). فبسره الفصحي، الموت من اجل
فدائنا من خطايانا والقيامة من اجل تقديسنا، فجّر في العالم ينابيع
اسرار الخلاص. وكانت الكنيسة، المولودة من هذا السّر الفصحي،
كسنبلة من حبة قمح، سرّ الخلاص الشامل واداته.
العبادة الالهية في الليتورجيا
هي اعلان الانجيل لجميع الناس مع مضمونه سرّ المسيح الفصحي،
وتحقيق عمل الخلاص النابع من هذا السرّ الفصحي، بواسطة
ذبيحة الافخارستيا والاسرار.
بالمعمودية، التي هي باب جميع الاسرار،
يندمج المؤمنون في السرّ الفصحي ويصبحون "عابدين حقيقيين يريدهم
الله" (يو4/23). وهكذا، منذ العنصرة، راحت الكنيسة تجتمع في يوم
الرب لتحتفل بالسرّ الفصحي بتلاوة الكتب المقدسة، والاحتفال
بالافخارستيا، وتقديم صلاة الشكر لله على ما اغدق على العالم من
عطايا بالمسيح يسوع، وبقوة الروح القدس (في الليتورجيا،6). نقرأ في
كتاب اعمال الرسل: " وكان جماعة المؤمنين يواظبون على تعليم الرسل،
وكسر الخبز والصلوات، والمشاركة في ما يملكون" ( 2/42-44).
العبادة هي " بالروح والحق"
(يو4/24)، ولا يقوم هذا الموقف على مسعى داخلي محض، بل ترافقه
علامات واوضاع خارجية مثل الانطراح على الارض والسجود والانحناءة
والوقوف. انه موقف ينطلق من تكريس الكيان كله من روح ونفس وجسد،
على ما يدعو بولس الرسول: "قدّسكم الله تقديساً تاماً روحاً ونفساً
وجسداً" ( 1تسا5/23).
امام مجد الرب انطرح حزقيال
ارضاً: " وكان منظر يشبه مجد الرب، فنظرت وسقطت على وجهي وسمعت صوت
متكلم يقول لي: " يا ابن الانسان قم على قدميك فاتكلم معك". فدخل
فيَّ الروح. وقال لي: "اني مرسلك...فلا تخف" ( حزقيال1/28؛2/1-7).
وشاول عندما ظهر له يسوع على طريق دمشق " وسطع نور من
السماء حوله، سقط الى الارض وسمع صوتاً يقول له : قم فادخل
المدينة، ويقال لك ما يجب عليك ان تفعل" (اعمال9/3-6).
هذه حال كل واحد منا امام قداسة الله
المتجلية في الليتورجيا. برهبة نخشع امام عظمة الله، ومنه نسمع
صوتاً ليومنا، وننطلق لحياة جديدة، مثل حزقيال وشاول - بولس.
**
ثانياً، راعوية السلام
والديموقراطية
1. السلام
عطية من الله وحاجة للمجتمعات البشرية، وهو ينطوي على كل ما يحتاج
اليه الانسان والجماعات من خيور من اجل حياة كريمة وسعيدة وهادئة.
فلا بدّ من التربية على السلام، وعلى ركائزه الاربع:
الحقيقة والعدالة والمحبة والحرية (البابا يوحنا الثالث والعشرون:
سلام على الارض).
تبدأ التربية على السلام، بركائزه
الاربع، مع الالتزام بتربية الذات والآخرين بحكم ديننا
المسيحي. فاعلان السلام هو البشرى بالمسيح الذي "هو سلامنا" ( افسس
2/14)، وكرازتنا بالانجيل هي التزام " بانجيل السلام" ( افسس
6/15)، والدعوة الشاملة هي ان نكون " فاعلي سلام لنصبح ابناء لله"
( متى 5/9).
السلام ممكن وواجب. هو ممكن
لان اساسه الحقيقة المطلقة، حقيقة الله والانسان والتاريخ،
التي اعلنها ابن الله المتجسد، يسوع المسيح؛ ولان الدافع اليه
هو المحبة المسكوبة في القلوب بالروح القدس، كثمرة للفداء.
والسلام واجب لان العدالة بين الناس تقتضيه , ولان
الحرية لا تتوفر وتعاش بدونه.
وتتسع مساحة التربية على السلام لتصبح
تربية على الشرعية. من شأن هذه ان تحمل الافراد والشعوب على
احترام السلطة القائمة والدساتير، واحترام النظام الدولي مع
التقيّد بالتزاماته. فالقانون يعزز السلام ويضمنه. فهو حاجة دائمة
سعت اليها الشعوب والامم على مرّ العصور. فكانت القاعدة الاساسية:
" المعاهدات تستدعي الحفظ
pacta
sunt servanda". لكن الظاهرة في عالم اليوم، في بعض
انحائه، هي اللجوء الى حق القوة بدلاً من قوة الحق.
عندما أنشئت منظمة الامم المتحدة
ومجلس الامن الدولي كانت الغاية حماية السلام والامن العالميين،
ومنع اللجوء الى القوة. ولكن في الخمسة عشر سنة الماضية تعثرت هذه
الغاية لاسباب هي: انقسام الجماعة الدولية الى مجموعات متعارضة،
والحرب الباردة في جزء من الكرة الارضية، والنزاعات المسلحة في
مناطقة اخرى. فلا بدّ من اعادة احياء منظمة الامم المتحدة لتكون
حقاً "اسرة الامم" (البابا يوحنا بولس الثاني خطاب امام الجمعية
العامة في 5/10/1995).
2. الديموقراطية
القائمة على حكم الشعب الذي يساءل المسؤول الذي ينتدبه للحكم باسمه
ويحاسبه، لا تستقيم من دون الاخلاقية الطبيعية. الكنيسة من هذا
القبيل تلعب دوراً اساسياً في تنوير ضمائر المسؤولين. ان استقلالية
العمل السياسي لا تستطيع الاستغناء عن التعليم الخلقي والاجتماعي
التي تقدّمه الكنيسة.
ان السلطة التعليمية في الكنيسة
لا تبغي ممارسة سلطان سياسي او الغاء حرية الرأي عند ابنائها في
المسائل الزمنية الراهنة. بل تبغي، كما يملي عليها واجبها الخاص،
تثقيف ضمير المؤمنين وانارتهم، وبخاصة ضمائر الذين يتكرسون
للالتزام في الحياة السياسية، بهدف ان يأتي نشاطهم دائماً في خدمة
انماء الشخص البشري انماءً شاملاً، وتعزيز الخير العام. ولذا لا
يمكن اعتبار تعليم الكنيسة الخلقي والاجتماعي تدخلاً في حكم
البلدان ( مجمع عقيدة الايمان: مذكرة تعليمية حول مسائل تختص
بالتزام الكاثوليك في الحياة السياسية،6).
تهدف الكنيسة في تعليمها الى بناء
وحدة الحياة عند المسيحيين، كاعضاء في الكنيسة وفي المجتمع
البشري. فلا يمكن ان يجمع وجودُهم بين حياتين متوازيتين: احدهما
" روحية" بقيمها ومقتضياتها، والاخرى "علمانية" تتمثل
في حياة الاسرة والعمل والعلاقات الاجتماعية، والالتزام السياسي،
والنشاطات الثقافية. ان كل نشاط وكل حالة وكل التزام فعلي، من
القطاعات المذكورة، انما يشكّل فرصة مؤاتية لممارسة الايمان
والرجاء والمحبة بصفة مستمرة. ان كل قطاعات الحياة العلمانية تندرج
في تدبير الله، الذي يريدها " مجالاً تاريخياً" للوحي
ولتحقيق محبة المسيح، لمجد الله الآب وخدمة الاخوة ( العلمانيون
المؤمنون بالمسيح، 59).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي
الماروني
ننهي اليوم تقبل النص التاسع عشر من المجمع البطريركي الماروني:
" الكنيسة المارونية والسياسة"، في النقطة الرابعة من فصل
التحديات وهي: الانتشار الماروني في ابعاده السياسية
(الفقرات 53-59).
يدعو النص ابناء الكنيسة المارونية المنتشرين في مختلف البلدان
والقارات الى الاندماج في الكنيسة الجامعة وفي اوساطهم
الجديدة، والى المشاركة في الحياة العامة مع الشعوب الذين اصبحوا
مثلهم مواطنين مكتملي الحقوق والواجبات، وملزمين بالامانة لاوطانهم
الجديدة ( فقرة 53).
ويرسم خطة لربط الانتشار بالحياة الوطنية في لبنان، من اجل حفظ
هوية الموارنة المنتشرين الروحية والثقافية والاجتماعية، والتزامهم
بلبنان الرسالة كقاعدة مشتركة، بين المقيمين والمنتشرين، في الفكر
والعمل السياسيين؛ تقتضي هذه الخطة اولاً توضيح طبيعة العلاقة بين
المنتشرين ووطنهم الام، مع التشديد على حثهم على المشاركة في
الانتخاب والترشيح. ثم العمل على مكافحة اسباب الهجرة، والمساهمة
في بناء دولة الحق التي تكرّس المساواة في الحقوق والواجبات وتؤمن
حياة كريمة لابنائها. واخيراً العمل على ابقاء لبنان المستقبل
اميناً لدعوته التاريخية ونقل تراثه الانساني والحضاري الى
اللبنانيين المنتشرين ليحافظوا عليه وجداناً نفيساً يقود علاقاتهم
به (فقرة 54 و55). وتقتضي الخطة حفظ الارث الذي يقدمه الوطن
للبناني، اعني: الامانة لله، وقيم الحرية بابعادها الروحية
والثقافية والاجتماعية والسياسية، وخبرة العيش المشترك بين
المسيحية والاسلام، والسير مع الآخر مهما كان صعباً، والمساواة في
الحقوق والواجبات (الفقرة 56 و57).
ويوجّه النص المجمعي الدعوة الى الموارنة المنتشرين في الغرب
ليشددوا الارتباط بتاريخهم والمحافظة على هويتهم
المشتركة، والى الموارنة المقيمين ليعززوا التعاون مع العالم
العربي من اجل توفير شروط التلاقي والحوار البّناء، فيظل هذا
الشرق ارضاً طيبة لعبادة الله وترقي الانسان (الفقرة 58 و59).
**
صلاة
هلّم ايها الروح القدس، واملأنا من روح الحكمة والعلم والفهم
والمشورة، لكي نعرف ارادة الآب، فنخدمه متممين اياها في حياتنا
اليومية ونشاطاتنا الروحية والزمنية. املأنا من روح القوة لنصمد في
خياراتنا الحسنة بثبات وسط المحن والمضايقات. املاءنا من روح
التقوى ومخافة الله لننتصر على " سر الاثم"، ونحمل محبة الله، كفي
إناء من خزف سريع العطب، ونسهر على حفظها وتجسيدها في الاعمال.
ايها الروح القدوس اسكن في اعماق كل انسان لكي يصير مجد الله الحي.
لك التسبيح والشكر مع الآب والابن الى الأبد، آمين.
الاحد 22 تموز2007
الاحد التاسع من زمن العنصرة
الهوية المسيحية والرسالة
من انجيل القديس لوقا (لو4/14-21)
عاد يسوع بقوة الروح الى الجليل، وذاع خبره في كل الجوار.
وكان يعلم في مجامعهم، والجميع يمجدونه. وجاء يسوع الى الناصرة،
حيث نشأ، ودخل الى المجمع كعادته يوم السبت، وقام ليقرأ. ودفع إليه
كتاب النبي آشعيا. وفتح يسوع الكتاب، فوجد الموضِع المكتوب فيه:
"روح الرب عليّ، ولهذا مسحني لأبشر المساكين، وارسلني لأنادي
بإطلاق الأسرى وعودة البصر الى العميان، وأطلق المقهورين احراراً،
وأنادي بسنةٍ مقبولة لدى الرب". ثم طوى الكتاب، وأعاده الى الخادم،
وجلس. وكانت عيونُ جميع الذين في المجمع شاخصة إليه. فبدأ يقول
لهم: " اليوم تمّتْ هذه الكتابة التي تُليتْ على مسامعكم".
اولاً، شرح نص الانجيل
زمن العنصرة
هو زمن الكنيسة التي تواصل رسالة المسيح:
فهي بكيانها واعضائها ومؤسساتها مرسلة لتعلن انجيل الخلاص،
وتشهد
لمحبة الله ورحمته، وتحقق وتنشر ملكوت الله، اي سرّ الشركة
بين الله والناس. اننا في هذا الاحد نكتشف هويتها ورسالتها، وهما
هوية السيد المسيح ورسالته. الهوية هي مسحة الروح القدس،
والرسالة مثلثة: اعلان انجيل الخلاص (البعد النبوي)،
وتحرير الانسان وهدايته ومعاملته بالرحمة (البعد الكهنوتي)،
وبدء زمن جديد لمجتمع بشري يقوم على الحقيقة والعدالة والمحبة
والحرية (البعد الملوكي).
1.
الهوية: " روح الرب علي " ( لو4/18)
عندما دخل يسوع مجمع الناصرة، ذات سبت، كان ممتلئاً من
الروح القدس الذي "مسحه" اذ سبق "ونزل واستقر عليه عندما اعتمد من
يوحنا" ( لو3/21-22)، وقاده الى البرية حيث صام اربعين يوماً،
استعداداً لبدء رسالته العلنية، ومكّنه من الانتصار على الشيطان،
الذي جاء يزيغه عن رسالته المسيحانية الخلاصية، لتكون سياسية
(لو4/1-13). واذ " انصرف عنه ابليس الى حين" ( لو4/13)، فلم ينته
هذا الصراع بين الشيطان ويسوع حول رسالته المسيحانية الا بموته
وقيامته. ان الحياة المسيحية، النابعة من المعمودية، هي امتلاء من
الروح القدس الذي "يمسح" المعمد اي يجعله على صورة المسيح، ابناً
لله مدعواً للانتصار على الشيطان (الهوية)، من اجل التمكن
من مواصلة الرسالة المسيحانية.
ولما قام ليقرأ فصلاً من الشريعة والانبياء، كما كانت
العادة عند اليهود، كانت القراءة في ذلك السبت من اشعيا: " روح
الرب علي، لانه مسحني، وارسلني..." (اش61/1-2). انها نبوءة
مكتوبة عنه وتحققت فيه: " اليوم تمت هذه الكتابة التي تليت على
مسامعكم" ( لو4/21). في الواقع، يخبر لوقا ان " يسوع عاد الى
الجليل بقوة الروح القدس، وكان يعلّم في المجامع ويتمجد من الجميع"
( لو4/14-15).
الهوية هي مسحة الروح القدس. يسوع، هذا الاسم الذي
اعطاه الملاك (لو1/31؛ متى1/21)، يعني باللفظة العبرية " الله
يخلص": يشوع ( يهوشوع=الله خلاص)، وهو المسيح الذي " مسحه"
الاب بالروح القدس، كاهناً وملكاً، كما كان يمسح كهنة وملوك العهد
القديم، ويسلمهم مهمة قيادة شعبه: " لبني هارون تصنع اقمصة وزنانير
وقلانس مجد وبهاء، ويلبس ذلك هارون اخاك وبنيه معهم وتمسحهم
وتكرسهم وتقدسهم ليكونوا لي كهنة" ( خروج28/40-41). و" انا
اقيم لي كاهناً اميناً يعمل بحسب ما في قلبي ونفسي" ( صموئيل2/35).
وعن مسحة الملوك، نقرأ في سفر صموئيل: املأ قرنك زيتاً
وتعال ارسلك الى يسّى من بيت لحم، لاني قد اخترت لي من بنيه ملكاً.
لما حضر داود الفتى، قال الرب: قم فامسحه، لان هذا هو. فاخذ صموئيل
قرن الزيت، ومسحه في وسط اخوته، فهبط روح الرب على داود من ذلك
اليوم فصاعدا" ( 2صموئيل16/1 و12-13).
المسيح لفظة عبرية " ماشيح" وآرامية " ماشيحا"، وسريانبة "
مشيحو" اي الذي " مسحه الله" وكرسّه كاهناً وملكاً، ترجمت
باليونانية
Christos
وباللاتينية
Christus،
التي منها اشتقت الاسماء في اللغات الغربية.
مسحة الروح القدس هي ايضاً هوية المسيحيين، وقد
نالوها بالمعمودية. فالروح القدس "يمسح" المعمد ويختمه بخاتم لا
يُمحى ويجعل منه هيكلاً روحياً، مملوءاً من حضور الله المقدس. انه
جعل من المعمدّين ابناء الله وبنات وفي الوقت عينه اعضاء في جسد
المسيح: " اننا جميعاً اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد (1كور 12/13).
ويشرح القديس اغسطينوس: " ان رأسنا المسيح لم يقبل وحده المسحة،
فنحن ايضاً تقبلناها معه لاننا جسده. اذا كنا جسد المسيح، فلأننا
تقبلنا المسحة واصبحنا في المسيح ممسوحين ومسحاء، لان الرأس والجسد
يؤلفان المسيح الكامل. وكما اننا ندعى جميعاً مسيحيين بسبب المسحة
السرية، كذلك ندعى جميعاً كهنة، لاننا جميعاً اعضاء في جسد الكاهن
الاوحد يسوع المسيح".
بفضل هذه المسحة يستطيع كل مسيحي ان يتبنى قول المسيح: " روح الرب
عليّ، لانه مسحني وارسلني..."، ويصبح مشاركاً في رسالة المسيح
المثلثة: النبوية والكهنوتية والملوكية. انه كهنوت المؤمنين
المسيحيين العام. شرحه شرحاً وافياً المجمع المسكوني
الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي " في الكنيسة" (عدد35)،
والارشاد الرسولي " العلمانيون المؤمنون بالمسيح"
(عدد14)، والارشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" (عدد 113).
العلمانيون المؤمنون بالمسيح
هم " المسيحيون الذين اصبحوا بفضل سرّ العماد اعضاء في جسد
المسيح، واندمجوا في شعب الله، وشاركوا في وظائف المسيح النبوية
والكهنوتية والملوكية، ومن ثم يمارسون في الكنيسة والعالم الرسالة
المنوطة بكل الشعب المسيحي.
يقول البابا بيوس الثاني عشر " ان المؤمنين ولاسيما العلمانيين
منهم هم في الخط الامامي من حياة الكنيسة. والكنيسة هي عبرهم
العنصر الحيوي في بنية المجتمع البشري. انهم لا ينتسبون فقط الى
الكنيسة، بل هم الكنيسة" ( العلمانيون المؤمنون بالمسيح، عدد9).
ومسحة الروح القدس هي هوية الاسقف، ينالها بالرسامة
المقدسة بالخلافة الرسولية. وهي هوية الكاهن ينالها بوضع يد
الاسقف وصلاة التكريس والمسح بالميرون المقدس، فيستقر الروح القدس
عليه، ويوليه كياناً كهنوتياً، يجعله كاهن العهد الجديد، شبيهاً
بيسوع المسيح الرأس والراعي، وامتداداً لحضوره، واهلاً لمواصلة
خدمة التعليم والمصالحة والرعاية، باسمه وبشخصه، في خدمة الكهنوت
العام الذي يتحلى به شعب الله كله ( اعطيكم رعاة، عدد 15-16). انه
يخدم كهنوت المؤمنين العام بممارسة ثلاث مهام، هي امتداد للرسالة
المسيحانية: التعليم والتقديس والرعاية.
2.
الرسالة المثلثة: مسحني وارسلني ( لو4/18)
رسالة اعلان انجيل الخلاص: " ارسلني لابشر المساكين" (
لو4/17)، البعد النبوي.
لفظة " مساكين" او " فقراء" في الكتاب المقدس لا تقتصر على
المعنى المادي اي الفقراء الى مال وممتلكات ووسائل العيش،
بل تشمل بالمعنى الروحي المفتقرين الى غفران الله والنعمة
الالهية والبركة من العلى والنور السماوي وسط ظلمات هذا العالم، وبالمعنى
الادبي اولئك المفتقرين الى تعزية وتشجيع وغفران ومصالحة، وبالمعنى
الاجتماعي المفتقرين الى تضامن في مواجهة صعوبات الحياة، والى
تحرير من العبوديات السياسية والاقطاعية لاشخاص او انظمة، وبالمعنى
الانساني المفتقرين الى ثقافة وتربية وكرامة بشرية وتفهم
واحترام.
انجيل الخلاص يرمي الى اخراج هؤلاء المساكين من حالتهم.
كلنا مصاب بفقر ما لا يخرجنا منه إلا الانجيل، الذي بشر به
السيد المسيح، وتبشر به الكنيسة، من خلال كهنوت الخدمة
والكهنوت العام، وهو، في آنٍ، كلمة تنير العقل والضمير،
وفعل الهي يخلص: " الكلمة صار بشراً (يو1/14)، وحكم على
صوابية المبادىء والافعال والتصرفات البشرية لجهة ارتباطها
بالحقيقة المطلقة والخير، ونعمة الهية تشفي وتقدس وتوجّه.
رسالة الفداء والتقديس- البعد الكهنوتي ( لو4/18).
انها مهمة المسيح الكاهن الذي قدّم ذاته على الصليب ذبيحة
فداء للعالم، ويواصل هذه التقدمة في ذبيحة القداس، عبر الخدمة
الكهنوتية. انه بذبيحة الفداء هذه حقق ويحقق ما تنبأ عنه اشعيا (
لو4/18):
أ- تجلي الرحمة الالهية التي تعزي منكسري القلوب
وتقدس المتألمين في اجسادهم بالألم الحسّي كالمرض والتعذيب والجوع
الاعتداء، وفي ارواحهم بالالم المعنوي كالحزن واليأس والضياع
والاهمال وانتهاك الحقوق والكرامة، وفي نفوسهم بالالم الروحي
كالخطيئة وروح الشر والكبرياء والانانية والاباحية والفساد على
انواعه.
ب- تحرير المسبيين المستعبدين، سواء الذين رهنوا
اجسادهم وارواحهم ونفوسهم للنزوات والمصالح، والشر والانحراف، او
الذين عبدوها، او الذين يعانون من استعباد الغير. هؤلاء جميعاً
حررّهم المسيح بقيامته وانتصاره على الخطيئة والشر والشيطان.
ج- هداية العميان الى رؤية جديدة، في ضوء الكلمة
الالهية، وبهدي الروح القدس.
د- المصالحة والغفران للتأئبين. اذ صالح يسوع المسيح
الله الآب مع البشر بموته عنهم، باذلاً نفسه فداء عن الكثيرين.
مهمة الفداء والتقديس تمارسها الكنيسة في خدمة الاسرار وعيش
المحبة الراعوية. ويمارسها المؤمنون العلمانيون، عندما يتحدون
بالمسيح وبذبيحته من خلال تقدمة ذواتهم واعمالهم وحياتهم الزوجية
والعائلية واشغالهم اليومية، ويمارسونها كلها بروح الله، جاعلينها
قرابينهم الروحية، وعندما يحتملون مشقات الحياة بصبر، ويعبدون الله
بالتقوى والحكمة والمخافة ( رجاء جديد للبنان، 113).
رسالة بناء ملكوت الله ونشره عبر التاريخ: " واعلن سنة مرضية عند
الرب"
(لو4-19)
-البعد
الملوكي.
مارس الرب يسوع مهمته الملوكية بتدشين ملكوت الله على الارض، الذي
نواته الكنيسة، حبة الخردل التي تصبح شجرة عظيمة ( متى13/31).
وتمارس الكنيسة وابناؤها هذه المهمة بتدمير سلطان الخطيئة والشر
واحلال المحبة والعدالة والاخوة والتضامن وكرامة الخلق والشخص
البشري ( رجاء جديد للبنان، 113).
***
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
اصدر المجلس الحبري للعائلة " معجم" التعابير الملتبسة
والمتنازع عليها حول الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية،
ونقلته الى العربية اللجنة الاسقفية للعائلة والحياة في لبنان.
سنعرض تباعاً في القسم الثاني من التنشئة المسيحية هذه المواضيع:
موضوع اليوم: العائلة والطبيعة والشخص، كتبه
jean –marie
meyr
(المعجم ص 67-72 ). هذه الالفاظ آخذة بفقدان معانيها بسبب
تيار المادية الداروينية "(matérialisme
darwinien)
،المتجددة في الزمن المعاصر. هذا التيار المتجدد يفرغ الاسرة
والشأن الجنسي والشخص والجماعة البشرية من مفاهيمها الجوهرية،
ويقوّض بالتالي أسس الحياة الزوجية والعائلية والاجتماعية.
يعاني العالم المعاصر من عمى جزئي، له تداعياته العملية
والمؤلمة على الانسان الذي، أذ يجهل ما هو، يصعب عليه ان يعرف ما
يجب ان يفعل، وكيف يجب ان يعيش، وما هي حدود حريته ومساحاتها.
إننا نشهد عملية تفكيك بين هذه الثلاثة : العائلة والطبيعة
والشخص.
ففي أوروبا الغربية، لفظة "عائلة" لا تستعمل بالمفرد بل
بالجمع، فيقولون: العائلات ، للدلالة على وجود انماط مختلفة للحياة
العائلية، لا تأخذ قيمتها ومعناها إلا في محيط إجتماعي محدد.
استعمال اللفظة بالجمع يغيّب حقيقة عامة جامعة تنير الروابط
العائلية.
ولفظة "طبيعة" تتنوع معانيها وتختلف بين الفيزيائي ورجل
البيئة، فيتفكك مضمونها الجوهري.
ولفظة "شخص" تخضع هي ايضا لتفكك في المعاني بين الطبيب
النفساني والعالم البيولوجي.
فلا بدّ من اظهار الربط بين هذه الالفاظ – الواقعات وتوطيد
وحدتها. فالعائلة هي قيمة المستقبل، والمكان الاول للتضامن
والتقارب والحماية والبقاء. انها مستقبل الشخص والمجتمع والكنيسة.
والطبيعة تشكل جزءاً من الشخص البشري الذي يحدده الفيلسوف
Boèce
( الجيل السادس) بانه " جوهر مادي فردي ذو طبيعة عاقلة". هذا تحديد
صالح لزمننا. طبيعة الشخص تمكننا من التفكير بوحدته وغاية وجوده
وخيره وحقوقه. والشخص هو هذا الكائن الذي يعرف ذاته بالعمق،
ويتساءل حول شمولية الكون.
العائلة
هي جماعة، يشّد الرباط العائلي افرادها بعضهم الى بعض. انها تقدم
لكل واحد الوسائل ليجد مكانه في هذه الجماعة كزوج او زوجة، كأب او
ابن، كأم او ابنة. لكل واحد منا تاريخ عائلي نسبي سلالي، جسدي
وروحي يربطه بآخرين.
الزواج،
في هذا الضوء، عهد فريد يُلزم مدى الحياة، لانه يجمع حرية الشخص،
أي حرية كل زوج، بحقيقة الروابط العائلية. هذا الالتزام الشخصي
يؤمّن لكل واحد مكانه الحقيقي في العائلة، ويؤمن للعائلة استقرارها
الذي يكفل سعادتها واتزانها. ان الخيار الحرّ الخاص بالزوجين يعطي
مفهوماً لممارسة النشاط الجنسي في اطار المسؤولية الواحد تجاه
الآخر، وتجاه اولادهم والمجتمع باسره. عندما يمارس الجنس، منفتحاً
على الحياة، يخرج من دائرة مفهومه الخاص، ليشارك في خصوبة حب شخصي
ومسؤول بكامل معانيه.
ان الجسد، هذا المعطى الطبيعي، والحرية البشرية يتوحدّان ويتناغمان
بالحب البشري المعاش في اطار العهد الزوجي الذي يتّسم من طبعه
بالامانة والديمومة. اما " الاتحاد الحرّ" فيتخلّى عن هذين
الميزتين، وبالتالي يُفقر العلاقة البشرية الى درجة الانطواء على
الذات والانفصال.
الزواج
يعطي استقراراً للعلاقات بين الاشخاص، ويجعل التبادل بين الاجيال
ممكناً. فتكون العائلة، كجماعة بشرية، مكان التفتّح وتأمين خير
الزوجين وخير الاولاد، علماً ان الثاني ينبع من الاول ويغتذي منه.
فتؤدي العائلة دورها الاجتماعي، اذ منها يولد المواطنون وفيها
يتربّون على العيش بديموقراطية. تحتاج الدول الى والدين ينشئون
اولادهم على الديموقراطية مفهوماً وممارسة.
ان تعزيز العائلة وحمايتها يحفظان الامكانية لرؤية مستقبل متأنسن.
**
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
وفقاً للخطة الخمسية التي وضعتها الامانة العامة لتطبيق المجمع
البطريركي الماروني، نبدأ بتقبّل النص العشرين بعنوان: "الكنيسة
المارونمية والشأن الاجتماعي".
في المقدمة، يشير النص الى الاساس اللاهوتي
للحضور الاجتماعي، وهو ان الكنيسة هي استمرار لسرّ تجسّد
المسيح ولعمله الخلاصي في سبيل الانسان. وبهذه الصفة تقوم برسالتها
الهادفة الى تحرير الناس من كل ما يعوق نموّهم البشري والروحي، لان
" مجد الله الانسان الحي"، على ما قال القديس ايريناوس. وبما ان
الكنيسة هي، على صورة المسيح مؤسسها، مؤلفة من عنصرين الهي وبشري،
فلا بدّ من ان تحقق "تجسدها" وحضورها في الزمان والمكان، وتتأصل في
الواقع الملموس ( فقرة 1).
العمل الاجتماعي
يندرج في رسالة الكنيسة لخلاص الانسان بوصفه كائناً اجتماعياً له
علاقاته مع الآخرين، على اساس شريعة المحبة التي لا تكون بالكلام
او اللسان بل بالعطاء والعدل. ويهدف هذا العمل الى تجسيد المحبة في
الارض بين البشر، وبالتالي الى انسنة المجتمع البشري، والى انشاء "
حضارة المحبة" في العالم الذي هو موضوع الخلاص ومكان النعمة، وقد
افتداه المسيح.
ان تكون الكنيسة متجسدة في الواقع الاجتماعي، لا تسطيع إلا ان
تواجه المشاكل الاجتماعية، وتجد حلولاً لها. انها بذلك تتفحص في
كل آنٍ علامات الازمنة وتفسّرها في ضوء الانجيل، وتعطي جواباً
عملياُ على اسئلة الناس، وتعمل على تلبية حاجاتهم ( فقرة 2).
يُطلب من
الهيكليات الراعوية والجماعات والمؤسسات ادراك هذه
المسؤولية بحكم انتمائها الى الكنيسة، والعمل على تكوين الحسّ
الاجتماعي عند اعضائها وعند ابناء وبنات المجتمع.
***
صلاة
يا رب اعطني ان ادرك هويتي ورسالتي اللتين هما منك. لا تجعلني
جزاراً يذبح الخرفان، ولا تجعلني شاةً يذبحها الجزارون. ساعدني على
ان أقول كلمة الحق في وجه الاقوياء. وساعدني على الاّ اقول الباطل
لأكسب تصفيق الضعفاء. اذا اعطيتني نجاحاً لا تأخذ تواضعي. واذا
اعطيتني مالاً لا تأخذ سعادتين. واذا اعطتني قوة لا تأخذ عقلي.
واذا اعطيتني تواضعاً لا تأخذ اعتزاري بكرامتي (طاغور).
لك المجد والتسبيح، ايها الآب والابن والروح القدس الى الابد.
آمين.
الاحد 29 تموز 2007
الاحد العاشر من زمن العنصرة
الارواح الشريرة وطردها
انجيل القديس متى
(متى12/22-32)
قال متى الرسول: حينئذ قدموا الى يسوع ممسوساً أعمى وأخرس، فشفاه،
حتى تكلم وأبصر. فدهش الجموع كلهم وقالوا: " لعلَّ هذا هو ابن
داود؟". وسمع الفريسيُّون فقالوا: " إن هذا الرجل لا يُخرج
الشياطين إلاّ ببعل زبول، رئيس الشياطين". وعلم يسوع أفكارهم فقال
لهم: " كلُ مملكةٍ تنقسم على نفسها تخرب، وكلُ مدينةٍ أو بيت ينقسم
على نفسه لا يثبت. فإن كان الشيطان يخرج الشيطان، يكون قد انقسم
على نفسه، فكيف تثبت مملكته؟ وإن كنت أنا ببعل زبول أخرج الشياطين،
فأبناؤكم بمن يخرجونهم؟ لذلك فهم أنفسهم سيحكمون عليكم. أما إن
كنت أنا بروح الله اخرج الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله. أم كيف
يقدر أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته، إن لم يربط القويّ اولاً،
وحينئذ ينهبُ بيته؟ من ليس معي فهو عليّ. ومن
لا يجمع معي فهو يبدد. لذلك أقول لكم: كل خطيئةٍ ستغفر للناس وكل
تجديف، أما التجديف على الروح فلن يُغفر. من قال كلمة على ابن
الانسان سيغفر له. أما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في
هذا الدهر، ولا في الآتي".
وجه آخر من رسالة الكنيسة ينكشف في انجيل اليوم. انها مدعوة لتسير
على خطى يسوع المسيح، وقد تسلمت منه السلطان لتواصل باسمه رسالته
اي تحرير الانسان من الشر. السيد المسيح نفسه هو الذي بواسطة خدمة
الكنيسة الكهنوتية، يحرر الانسان من استحواذ الشرير عليه ومن
الانقياد لروح الشر ومن المسّ الشيطاني. زمن الكنيسة هو زمن حلول
ملكوت الله بين البشر وفي التاريخ، اي زمن التحرير من عبودية
الشيطان والخطيئة. بفضل عمل الله الخلاصي المتواصل في التاريخ بقوة
الروح القدس.
اولاً، شرح النص الانجيلي
1.
طرد الشياطين
"
بروح الله اطرد الشياطين" ( متى12/28).
هل الشيطان موجود؟ ام هو مجرد رمز؟ واذا كان موجوداً فهل له تأثير
على الانسان وكيف؟ وهل بعد الخلاص الذي حققه السيد المسيح وبعد
حالة النعمة الالهية، يستطيع الشيطان او الروح الشرير ان يستحوذ
على الانسان؟ وهل بعد طرد الارواح النجسة من الانسان بالمعمودية،
يمكن ان تسكنه من جديد؟ وما هي عملية طرد الارواح المعروفة
بالتقسيمات
exorcisme))
؟ اسئلة عديدة من هذا النوع تُطرح.
من الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة نعرف ان الشيطان موجود
حقاً: انه في الاساس ملاك ساقط ومتمرد على الله وتصميمه
الخلاصي. هو كائن روحاني لا جسدي. هو روح مثل الملاك، اما وظيفته
فشيطان، كما ان الملاك روح ووظيفته ملاك اي خادم الله ومبعوثه
ورسوله. ان الملائكة يشاهدون باستمرار وجه الآب الذي في السماء
(نتى18/10). وهم " فعلة كلامه ومنصتون الى صوته" ( مز 103/20).
الشيطان او ابليس هو ملاك ساقط، خاطىء(2بطرس2/4؛
يهوذا 1/6)، لانه رفض بحريته ان يخدم الله وتصميمه. خياره هذا ضد
الله نهائي ولا مجال للتوبة عنه، كما هي حال الانسان بعد موته.
يحاول بالتجربة والحيلة ان يشرك الانسان في التمرد والعصيان على
الله (تعليم الكنيسة الكاثوليكية 415 و393).
2.
من هو الشيطان
لفظة الشيطان بالعبرية " هاشاطان" تعني العدو او الخصم،
الذي يعمل كجاسوس، ويرغب في ان يجعل الانسان في حالة الخطأ وان
يجلب عليه الضرر، وان يدفعه الى الشر
)ايوب1/6؛
احبار الاول 21/1). اما باليونانية فيعبّر عنها بلفظتين: الاولى،
ديابولوس
diabolos))،
يشتق منها
diable
، تعني العدو الذي يعاكس تصميم الله وسير الانسان وفقاً لهذا
التصميم، بما ينصب من اشراك وحيل وغش ( استير 7/4)؛ الثانية
دامون (
damon)،
يشتق منها
démon،
وتعني الروح الذي له قوة شبه الهية ويمارسها لضرر الانسان. بولس
الرسول يسمي الشيطان " اركون العالم" ( كولوسي 2/8 و20)، اي القوات
الشريرة.
الشيطان المرموز اليه بالحية، اغوى الانسان الاول،
حواء، فعصت مع زوجها امر الله، واخطاءا، فاصبح الانسان عرضة للشقاء
والشر والموت ( تك3/1-19(.
وما زال يغوي الانسان بحيلة ليعصي الله. ولذلك يسمى " المجرّب"
( منى4/1و3). ويسميه يوحنا الرسول "الكذاب وابا الكذب" (
يو8/44)، والرب يسوع يسميه " سيد هذا العالم" ( يو12/131). انه
يبغض النور، الذي هو يسوع المسيح، ويجر الناس الى العيش في الظلمة،
اي في الخطيئة والشر، في الظلم والاستبداد، في الحقد والضغينة.
الشيطان والشياطين يؤثرون في الاشخاص والاشياء والامكنة، ويظهرون
بانواع مختلفة. ولهذا علمنا السيد المسيح ان نصلي " نجنا من
الشرير"، " تعال ايها الرب يسوع". وبما ان الكنيسة تدرك، مع بولس
الرسول، " ان الايام سيئة" ( افسس5/16)، فقد صلّت وتصلي لكي يتحرر
الناس من حيل الشيطان: " نجنا يا رب من الشرور الماضية والحاضرة
والمستقبلية".
وبما ان الشيطان خليقة وروح، فهو محدود في قدرته. لانه روح،
هو قدير، ولانه خليقة فقدرته محدودة. يعاكس عمل الله ومسيرة
الانسان، لكنه لا يستطيع ان يوقعه نهائياً. وبالتالي لا يستطيع ان
يمنع بناء ملكوت الله. يعمل بحقد ويسبب اضراراً جسيمة احياناً على
الصعيد الروحي والحسي والمادي في الانسان. ويسمح له الله بذلك، دون
ان يتخلى الله عن سيادته على التاريخ والعالم وعن توجيهه بقوة
ولين. ان هذا السماح الالهي بعمل الشيطان لسرّ عظيم، ولكننا نعلم
ان الله يحوّل كل شيء الى خير الذين يحبونه (روم8/28) ( التعليم
المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 395). مثال على هذا السماح تجارب
الشيطان لايوب (ايوب1/12؛2/6).
3.
ما هو المس الشيطاني
هو استحواذ الشيطان على الانسان او المكان، بحيث يصبح
مسكوناً، وهو احدى الطرق التي تمارس بها عملها الارواح الشريرة
المعادية لله والانسان. لكن المسّ الشيطاني ليس الطريقة الاكثر
شيوعاً. انها الحالة المنظورة التي يستولي فيها الروح الشرير على
قوى الشخص وعلى نشاطه الحسي، قيتلفظ بكلمات غير مفهومة، ويكشف
اموراً خفية وبعيدة، ويظهر قوة تفوق حالته الخاصة، مع نفور شديد من
الله والسيدة العذراء والقديسين والصليب والصور المقدسة، حتى
البغض.
اما التأثير الشرير الذي يمارسه الشيطان واتباعه بشكل مألوف
فهو من خلال الغش والكذب والحيلة والاغراء والفوضى وما شابهها.
يوهم الناس ان سعادتهم في المال والقوة والشهوة الجسدية وانهم
ليسوا بحاجة الى الله ولا الى النعمة والخلاص، وان لديهم الاكتفاء
الذاتي. وهكذا يغيب الشعور بالخطيئة، وتصبح قاعدة الاخلاق لا شريعة
الله الادبية بل العادات والمسلك الاجتماعي العام. ويسود الاعتقاد
بان الحرية هي ان تفعل ما تشاء دونما رجوع الى شريعة الهية ووضعية
ثابتة، علماً ان الحقيقة هي قبول ارادة الله، نبع كل خير وسعادة.
غير ان الارواح الشريرة لا تستطيع الاستيلاء على ارادة
الشخص الحرة. ولذلك لا يتمكن الشيطان الذي يسكن انساناً من توجيه
ارادته الحرة، كما يفعل التنويم المغناطيسي، حتى البلوغ به الى
الخطيئة. لكنه، مع ما يمارس عليه من اكراه حسي، فهو يستحثه على
الخطيئة، وهذا ما يريد. يبقى بمقدور هذا الشخص، اذا ما لجأ الى
الصلاة والاستعانة بالعون الالهي والتشفع بالسيدة العذراء
والقديسين، ان ينتصر على التجربة والاستحواذ، وان يتجنب الوقوع في
الخطيئة والشر. كما يستطيع التحرر من تأثير الارواح الشريرة
بالتقدم المتواتر من سرّ التوبة، والمناولة المقدسة، والصلاة
المنتظمة صباحاً ومساءً ومطالعة الانجيل والتأمل فيه والاقتداء
بسيرة القديسين.
4.
طرد الارواح الشريرة
معروف بالتقسيمات (
exorcisme)
وهو عمل مارسه السيد المسيح على الممسوسين او المسكونين من الارواح
الشريرة ( متى8/16-17/18؛ مرقس1/25-26 و34؛لو9/37-43). واعطى رسله
السلطان لطرد الشياطين ( مر6/12 -13؛ لو9/1؛ لو10/17-20). ولقد
انتصر على الشيطان، انتصاراً نهائياً بموته وقيامته وحررّ الانسان
من عبوديته (يو12/31-32). ويتحقق ذلك، بالنسبة الى كل شخص
بالمعمودية، عندما يمارس الكاهن التقسيم او التعزيم على المدعو
للعماد المقدس مستمداً قوته من المسيح وسلطان الكنيسة.
بما ان عمل الشيطان المعادي لتصميم الله الخلاصي وللمؤمنين الذين
يحفظون وصاياه (رؤيا 12/17-18) لم يتوقف، بالرغم من انتصار الرب
يسوع عليه، ومن انتصار النعمة على الخطيئة، فانه يتواصل ويمارس
بالطريقة غير العادية المعروفة بالمسّ الشيطاني. عند ذلك يتم طرد
الارواح بالتعزيم او التقسيم الكبير على الاشخاص، بواسطة كاهن
مفوّض من مطران الابرشية، و للصيغ الليتورجية التي وضعها مجمع
العبادة الالهية وتنظيم الاسرار ونشرها في 26 كانون الثاني 1999.
ويحرص التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية على ان يتصرف الاسقف
والكاهن بكثير من الحكمة والفطنة، بحيث يجب التمييز بين الاستحواذ
الشيطاني والحالات المرضية العصبية والنفسانية التي تعالج طبياً
(التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 16739).
5.
التجديف على ابن الانسان وعلى الروح القدس
" يغفر للناس كل خطيئة وتجديف، اما التجديف على الروح القدس ، فلا
يُغفر للناس" (متى12/31).
كل هذه الحقائق المعلنة سابقاً هي من صلب ايمان الكنيسة: ان المسيح
جاء يعلن ملكوت الله ويدشنه في العالم وبين الناس. وقد اعطى هؤلاء
القدرة على قبول الله في قلوبهم بهبة الروح القدس ( روم5/5). لكن
الخطيئة والشر يحدّان من قدرة الانسان هذه عندما يأخذان مكان الله
في قلبه. لهذا اتى الرب يسوع ليحرر الانسان من تسلط الشر والخطيئة
عليه، ويعيد اليه " حرية ابناء الله" ويجعله هيكلاً للروح القدس (
روم8/1-17؛ 1كور12/1-11؛ غلا 5/16/26).
تحرير الانسان وتقديسه وخلاصه منوط بعمل الروح القدس. فالانسان
الذي يجدف على الروح القدس، ناكراً عمله الخلاصي، لا يغفر له، لانه
بتجديفه يرفض هو نفسه الغفران النابع من محبة الآب ونعمة الابن
وقوة الروح القدس. اما من يجدف على ابن الانسان، اي السيد المسيح،
ناكراً حقيقة من حقائقه فيُغفر له، لانه يبقى منفتحاً على عمل
الروح القدس الذي يقود الى الحقيقة، ويجري تغييراً جذرياً في باطن
الانسان حتى التوبة والغفران.
**
ثانيا، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
من "المعجم بالتعابير المكتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة والحياة
والقضايا الاخلاقية"، نطرح اليوم موضوع الانجاب المساعَد
والاخصاب في الانبوب ونقل الجنين" كتبه المطران
Jean Louis
Bruguès
( صفحة 111-117).
الانجاب المساعد
تعبير ملتبس وغاشّ. فهو لا يحتوي على " مساعدة" بل على استعاضة:
يُستبدل السرير الزوجي بوسادة المختبر، ويُستبدل الزوج بالطبيب
الذي يحرك النطفة بيده، ويُستبدل اتحاد الاجساد بفعل تقني. هذا
الاستبدال يمسّ في الصميم المجال الاعمق في حياة الكائن البشري
ويحدث فيه تحطيماً داخلياً.
الاخصاب في الانبوب ونقل الجنين
(
FIVETE)
هو عملية انجاب اصطناعي لا تقرّ به الكنيسة لما ينطوي عليه من
محاذير خلقية ونتائج سلبية على الولد، الذي يتم انجابه في الانبوب،
وعلى الزوجين اللذين لم يولد الولد منهما كثمرة لاتحادهما الجسدي
والروحي.
المحاذير الخلقية
هي: طريقة الحصول على زرع الرجل، الذي قد يكون الزوج او اي رجل
آخر، وعلى بويضات المرأة، التي قد تكون الزوجة او اي امرأة اخرى؛
تلقيح بين ست وعشر بويضات في انبوب، لضمانة نجاح التلقيح، ثم نقل
ثلاث منها على الاقل الى رحم الزوجة او رحم امرأة تؤجّر او تقرض
رحمها لهذه الغاية؛ تجميد الاجنة الفائضة وحفظها في الآزوت السائل
بحرارة 196 درجة تحت الصفر. يتم الحمل بطريقة عادية ثم اذا كانت
المرأة "الحامل" غير الزوجة، يُنتزع منها الطفل ليعطى الى امه
الاجتماعية.
عندما يدخل، على خط الاخصاب في الانبوب ونقل الجنين الى الرحم، رجل
او امرأة غير الزوجين يسمى الاخصاب " متغايراً"، وعندما يدخل في
عملية هذا الاخصاب الزوجان نفساهما يسمى الاخصاب "متجانساً".
اما النتائج السلبية فهي عملية التفكيك (
dissociation)
الحاصل على صعيد الافعال والقرابة.
أ-
على صعيد الافعال
ثمة تفكيك بين الافراز الطبيعي للسائل المنوي الذكري عند الرجل
والوسيلة الخارجية للحصول عليه. وهناك تفكيك ثانٍ بين فعل المجامعة
الزوجية وفعل الانجاب، فينحلّ الرباط الذي اوجده الخالق في الفعل
الزوجي بين الاتحاد والانجاب.
وبالنسبة الى الولد، الذي يأتي نتيجة فعل تقني لا ثمرة اتحاد جسدي
لوالديه فهو ليس بعد هبة بل مغروض فرضاً بحيث ان الشريكين يطلبانه
من المجتمع الذي يضع في تصرفهما تقنية تلبي رغبتهما، كما يطلبانه
من التقنيين الذين " ينتجون" ولداً كاملاً، مع رفض اي نقص فيه. في
هذه الحالة يُخرج الولد في كونه آخر وحده الفعل الزوجي باتحاد
الجسدين يحترم صفة الآخر.
ب- على صعيد القرابة
في الاخصاب المتغاير، عندما يكون الزرع من غير الزوج ، ينفى حق
الولد بان يولد من الزواج وفي الزواج، وتنتهك حقوقه ،ويحرم من
العلاقة البنوية باصوله الاهلية، ويعرقل نضوج هويته الشخصية. وهو
لن يعرف ابدا" اباه البيولوجي، ولا العائلة التي يخرج من صلبها.
وبالتالي يمنع من الولوج الى معرفته الذاتية الكاملة.
وعندما تكون المرأة التي تعطي البيوضات او تقرض رحمها لحمل الجنين
غير أم الولد، يصاب هذا الاخير بجرح بليغ، لانه سيكون بمثابة مباع
او مشترى. والمرأة تكون مستعملة كاداة ، اذ يُشترى جزء من جسدها،
وتمنع من ان تهب ذاتها للولد. انها تضحي بكرامتها.
ويحصل تفكيك للعلاقة بين الزوجين مع أخلال في التوازن فلا يكون
الرجل والمرأة في حالة مساواة تجاه الولد الذي هو الثمرة
البيولوجية للواحد لا للآخر. وهكذا يكون للولد اب بيولوجي واب
اجتماعي يعطيه اسمه، وأم بيولوجية تعطي البويضات وأم حامل اعارت
رحمها. ألا يوقع هذا التفكك خللا" في بناء شخصية الولد؟ هذه
الانواع من الانجاب تلبي رغبة الكبار دونما اعتبار لخير الولد ،
بل تجرحه في بعض حقوقه.ان الأخصاب المتغاير يضاد وحدة الزواج
وكرامة الزوجين ودعوة الاهل الخاصة وحق الولد في ان يحبل به ويبصر
النور في الزواج وبواسطة الزواج( هبة الحياة 2/2)
**
ثالثا"، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
"الكنيسة المارونية والشأن الاجتماعي" هو النص العشرون من
المجمع البطريركي الذي نتقبله تباعا" في هذه المرحلة من زمن
العفصرة.
ان ركيزة الكنيسة المارونية نشأتها في مجتمع زراعي، طيلة الالف
واربعماية سنة من وجودها. فنسجت هويتها واستمدت قيمها من اثنين
تعلق بهما الماروني : أرض يستثمرها ويسقيها من عرق الجبين
والدم، وبيت يأوي اليه هو وأسرته. فصارت الارض ومعها البيت
ضمانة أكيدة لبقاء الموارنة، فسدّت جوعهم ووطّدت صمودهم في
الازمنة الصعبة(فقرة 3)
استطاع الموارنة ان يثبتوا بوجه معاناتين: الاولى حالة النفور
والحذر من اخوتهم في الدين المسيحي الذين رفضوا عقيدة مجمع
خلقدونية (سنة 451) والثانية حالة أهل الذمة في إطار الدولة
الاسلامية الناشئة.
اما ثباتهم فكان في جعل ذواتهم جماعة متماسكة ومتحلقة حول كنيستها
بقيادة بطريرك كان يشارك شعبه اتراحهم وفقرهم وزراعتهم، وهي كلها
في حالة شدة. عاشوا متكلين على عناية الله وشفاعة السيدة العذراء
والقدسين(فقرة 4)
يصف النص المجمعي، في الفقرة الخامسة، حالة الموارنة السياسية
والاجتماعية والاقتصادية الصعبة، مع الاضطهاد والظلم، في عهد
المماليك حيث عاشوا تحت وطاة نظام أهل الذمة .
فكان البطريرك الرئيس الديني والزمني في آن. وكان ينتخبه رجال
الدين والاعيان والشعب من دون ان يكون ملزماً بالحصول على موافقة
من السلطة الاسلامية الحاكمة، خلافاً لسائر البطاركة الشرقيين.
استثمر الموارنة هذا الواقع ووطدوا استقلالهم في مجتمع اهلي
يتقاسمون فيه السرّاء والضراء. وعندما كان يتعرض الموارنة الجبليون
الفقراء للاهانة والضرب من قبل السلطة المملوكية الحاكمة، لعدم
قدرتهم على دفع الضرائب المفروضة عليهم، كان البطريرك يترك كل
عائدات الكنيسة لاشباع نهم الطغاة، رافعاً الظلم والاستبداد عن
ابنائه (الفقرتان 6-7).
يُطلب من الهيكليات الراعوية والجماعات المنظمة والمؤسسات ان
يتعرفوا على هذه الصفحة من تاريخ الموارنة، لتكون المعرفة حافزاً
لهم اليوم، ليعيشوا تضامن الماضي مع رعاة الكنيسة، ويتحلقوا حول
السيد البطريرك، الاب والرأس، ليتمكنوا من الصمود بوجه رياح
الانقسامات والخلافات والاستضعاف.
**
صلاة
يا رب، انصرنا على قوى الشر، وردّ الاشرار عن غيّهم الى الصلاح. لا
تسمح ان ننغلب لهم وللشر. ساعدني على ان ارى الناحية الاخرى من
الصورة ولا تتركني اتهم خصومي بأنهم خونة لأنهم اختلفوا معي
بالرأي. علمني ان أحب الناس كما احِبُ نفسي وعلمني ان احاسب نفسي
كما احاسب الناس. لا تدعني اصاب بالغرور اذا نحجت، ولا اصاب باليأس
اذا فشلت. بل ذكّرني دائماً بأن الفشل هو التجارب التي تسبق النجاح
(طاغور).
اليك ايها الآب والابن والروح القدس نرفع المجد والتسبيح الى الابد
آمين.
الاحد 5 آب 2007
الاحد الحادي عشر من زمن العنصرة
لقاء الحب الذي يغيّر
انجيل القديس لوقا
( 19/1-10)
قال لوقا البشير:دخل يسوع اريحا وبدأ يجتازها، وإذا رجل
اسمه زكّا، كان رئيساً للعشارين وغنياً. وكان يسعى ليرى من هو
يسوع، فلم يقدر بسبب الجمع لأنه كان قصير القامة. فتقدم مسرعاً
وتسلّق جميزة لكي يراه، لأن يسوع كان مزمعاً أن يمرّ بها. ولما وصل
يسوع الى المكان، رفع نظره إليه وقال له: " يا زكّا، أسرع وانزل،
فعليّ أن أقيم اليوم في بيتك". فأسرع ونزل واستقبله في بيته
مسروراً. ورأى الجميع ذلك فأخذوا يتذمرون قائلين: " دخل ليبيت عند
رجل خاطىء". أما زكّا فوقف وقال للرب: " يا رب، ها أنا أعطي نصف
مقتنياتي للفقراء، وإن كنت قد ظلمت أحداً بشيء، فإني اردُ له اربعة
أضعاف". فقال له يسوع: " اليوم صار الخلاص لهذا البيت، لأن هذا
الرجل هو ايضاً ابن لابراهيم. فإن ابن الانسان جاء ليبحث عن الضائع
ويخلّصه".
الرب يسوع، القائم من الموت والحاضر في المجتمع البشري، بالروح
القدس وبواسطة جسده السري، الكنيسة، هو على موعد مع كل انسان
لتغيير وضعه في واقع تاريخ الخلاص، مثل ذكا العشار. زمن العنصرة هو
زمن التحويل، بقوة كلمة الانجيل ونعمه الاسرة والمحبة الاجتماعية.
اولا،شرح النص الانجيلي
1. الايمان اساس اللقاء بالمسيح
زكا رجل يهودي يتعاطى وظيفة جابي العشر للدولة الرومانية القائمة
على ارض فلسطين. كان وجيهاً ورئيساً للعشارين، خاطئاً علنياً، لانه
يتعاطى مع الدولة العثمانية على ارض يهوه، ولانه كان، حسب ظنهم
الواقعي، يظلم الناس في مطالبتهم باكثر من كمية الضريبة المفروضة،
ويختلس الفائض. هذا الرجل كان في خاطر يسوع، كما اكد في ختام
اللقاء(لو 19/10) .
سمع ذكا بيسوع، فتولد في قلبه شوق الى معرفته. ولانه كان قصير
القامة، تسلق جميزة ليراه،، متصرفاً تصرف الاطفال. الايمان من
السماع ، يقول بولس الرسول. ويطبق: "كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به،
وكيف يسمعون من دون مبشر؟ وكيف يبشرون من دون ان يرسلوا "(روم
10/14ـ 17).
الايمان رغبة في العقل وثقة في القلب، ودافع باطني فيه شوق. انه
ثمرة المعرفة والكلمة التي نسمعها، فهي مثل الحبة التي يلقيها
الزارع في الارض فتحيا وتنمو. الكلمة هي يسوع المسيح الذي صار
جسداً وحل فينا (يو1/14).
ناخى اغسطينوس الرب، عندما آمن، بهذه الكلمات: "انت كنت في داخلي،
وانا خارجاً عن نفسي. في الخارج بحثت عنك طويلاً، ووثبت نحو
الجمالات التي كونتها. انت كنت معي، وانا لم اكن معك. مسستني
فأتقدت شوقاً اليك. وذقتك فجعت وعطشت اليك"( اعترافات 10)
لقد مسّ يسوع قلب زكا، قبل ان يتوق اليه هذا الاخير ويراه من على
الجميزة. فكان جواب زكا منسجماً مع رؤية الرب، فنسي ذاته وخرج من
ذاته، وتسلق الجميزة ليراه،كما يفعل الاطفال. وبهذا اتم وصية الرب
يسوع ، التي ربما لم يسمعها، لكنها قاعدة الايمان به."ان لم تصيروا
كالاطفال لن تدخلوا ملكوت السماء"(متى 18/3. وكان الرب قد قال قبيل
لقائه بزكا: "الحق اقول لكم إن من لا يقبل ملكوت الله مثل طفل لا
يدخله"(لو 18/17).
2.تجاوب الله مع المؤمن
الايمان هو لغة الانسان مع الله. الرب يسوع يلتقي رغبة زكا
ويكافئها بمفاجأة مشرقة : رفع عينيه اليه وناداه باسمه ووعده بان
يحل ضيفاً في بيته. فوجىء الرجل بان يسوع يعرفه باسمه. هذه ضمانة
لكل انسان. انه يعرفني باسمي، ويودّ ان يحلّ ضيفاً في بيت نفسي
وفي عائلتي ومجتمعي. ولكن، لا يستقبله إلا المؤمنون. فالايمان بابه
اليهم.
لقاء الانسان بالمسيح هو لقاء "بالنور الحقيقي الذي ينير كل انسان
آتٍ الى العالم" (يو1/9). بل يسوع مرآة النفس البشرية. انه لقاء
حب. فيسوع أحب زكا في كل ما فعل له: النظرة، مناداته باسمه، حلوله
ضيفاً في بيته. نور محبته اخترق قلب زكأ وهو جالس على مائدته،
فظهرت له شوائب حياته امام قداسة يسوع ابن الله. وراح يقرأ في
اعماق نفسه ما فعل من اعمال سيئة، قرأها في ضوء حقيقة يسوع ورحمته
ومحبته.
فكانت توبته الكبيرة والتغيير الجذري في حياته: اعطى نصف ماله
للفقراء، هؤلاء الذين لم يكترث لهم مرة ولم يسمع صرخة استغاثتهم،
وردّ للذين ظلمهم بالمال الذي اختلسه منهم اربعة اضعاف (لو19/8).
لقد قبل زكا الحب في قلبه، هذا الحب الذي أحبه به يسوع، واراد ان
يتجاوب معه بأن يحبه اكثر. ان توبة الخاطىء هي ثمرة محبة الله له
في المسيح الفادي الذي " احب حتى النهاية" ( يو13/1) وغفر للص
اليمين من اعلى الصليب ( لو23/40-43).
حرره يسوع من رذيلتين: الانانية ومحبة الذات التي كانت قد أمسكت
قلبه ويده عن مقاسمة الفقراء، والظلم الذي اوقعه بالناس في فرض
ضريبة اكثر من المطلوب. عندما قال يسوع: " اليوم دخل الخلاص الى
هذا البيت" (لو19/10)، انما اعلن ان الحقيقة ومحبة الله والناس
دخلتا قلب زكا.
اما في الخارج، فكان الفريسيون ينتقدون يسوع لانه " حلّ عند رجل
خاطىء" (لو19/7). هذه حال الذين فرغت عقولهم من الحقيقة وقلوبهم من
المحبة. ولهذا الغفران والمصالحة عند الناس صعبة وشبه مستحيلة،
طالما لم ينقادوا الى نور الحقيقة والمحبة.
***
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاجتماعية
من كتاب "المعجم بالتعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الأسرة
والحياة والقضايا الاخلاقية"، واستكمالاً لموضوع " الانجاب
المساعَد والاخصاب في الانبوب ونقل الجنين" (صفحة
111-117)، نتكلم عن " وضع الجنين البشري".
يدور الموضوع حول الاجنة المنتجة تقنياً في الانبوب، وهي
عادة بين خمسة وستة، ينقل منها اثنان او ثلاثة الى رحم المرأة ،والاجنة
الباقية تجمد للاستعمال عند الحاجة او لأجراء اختبارات علمية عليها
،او تتلف فيما الثلاثة الموضوعة في الرحم تخضع لارادة الطبيب
والزوجين مع امكانية اتلاف اثنين لتجنب ولادة توأمين.
السوأل المطروح هل البويضة المخصبة في الانبوب هي كائن بشري
او شيء؟ انها كائن بشري حسب تعليم الكنيسة، وشخص بشري في طور
تكوينه التدريجي، وبهذه الصفة ينعم بالكرامة وبالحقوق الأساسية.
ونقرأ في وثيقة " هبة الحياة " :" يجب أن يعامل الكائن البشري
ويحترم كشخص منذ الحبل به، ويجب الإقرار له بحقوق الشخص، وفي
مقدمتها الحق في الحياة " ( هبة الحياة 1/1)
إنطلاقا" من وضع الجنين القانوني تعلّم الكنيسة ما يلي :
1-
كل اتلاف متعمّد لجنين هو جرم اجهاض. فلا يمكن للضمير المسيحي
قبوله.
2-
تجميد الاجنة لا يتوافق والخليقة الانسانية. فالتي لا تنقل الى
رحم الام، وتسمى "زائدة"، تخضع لمصير مجهول ولا تعطى اي مجال اكيد
للحياة.
3-
منذ الغاء شريعة الرّق، يمنع اعطاء وبيع شخص بشري. مع الاخصاب في
الانبوب تعود عملية العطاء والبيع، تحت شكل آخر. انه منافٍ لكرامة
الاجنة البشرية اعطاؤها مجاناً او بيعاً.
4-
استعمال الجنين لغايات تجارية يتنافى وكرامته.
5-
يمكن للجنين، ككل كائن بشري، ان يخضع للمراقبة الطبية والعلمية
بشرط ان تمارس لخيره فقط، لمعالجة داءٍ ما او لضمانة الحياة. اما
اذا استعمل الجنين البشري لاختبارات علمية ومن اجل حاجات اجتماعية،
فهذا منافٍ لكرامة الجنين (هبة الحياة 1/4).
خاتمة
لقد فتح الاخصاب في الانبوب باباً واسعا لاكتشافات وممارسات علمية
تتجاوز شريعة الله الذي هو وحده سيد الحياة والموت، فاعطي الانسان
هذا السلطان بوجه الله الخالق. هذه الاكتشافات تستأهل الاعجاب، لكن
الضمير، صوت الله في اعماق الانسان، والخليقة المسيحية لا
يقبلانها. فلا يحق للعالم ان يطلق العنان لاكتشافاته، بمعزل عن
الوحي الالهي وشريعة الله. والرغبة في ولد، مع اهميتها السامية، لا
تستطيع التحالف المطلق مع التقنية الطبية بمعزل عن الله وتعليم
الكتب المقدسة والكنيسة.
***
ثالثا"، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني.
"الكنيسة المارونية والشان الاجتماعي"،
عنوان النص العشرين من المجمع البطريركي الملروني، يشكل موضوع هذا
الاسبوع، في ما كان عليه وضع الكنيسة الاجتماعي في العهد العثماني
وحتى الانتداب الفرنسي (الفقرات8ـ14)
اصبح واقع الموارنة الاجتماعي، منذ العهد العثماني ، في حالة توسّع
على مستوى الجغرافيا والمسؤولية: انتشروا، منذ اواسط القرن
السادس عشر في كسروان والمتن والجرد والشوف وجزين والجنوب حتى
جبل عامل، وحرروا من نظام الذمّة. واكبتهم سياسياً واجتماعياً
البطريركية والرهبانيات المنظمة الناشئة حديثاً في عهد البطريرك
اسطفان الدويهي. وقامت على يدهم ثورة بيضاء اقتصادية وثقافية
وديموقراطية. ونصّروا الجبل ارضاً وشعباً. وتملكوا الارض بعرق
الجبين فكانت ملكيات صغيرة للمزارعين، ووقفيات لأديرة الرهبان،
رسّخت الموارنة في مختلف مناطق لبنان (الفقرتان 8 و9).
تميّز القرن الثامن عشر بان كانت للكنيسة المارونية
قيادة ثقافية وسياسية واقتصادية، ما جعل الموارنة يسهمون كروّاد في
النهضة الثقافية بين الشرق والغرب.ثم تكونت حركات اجتماعية اصلاحية
عرفت بالعاميات ساندها الاكليروس الماروني. وانطلقت افكار جديدة ،
محورها مبدأ جديد للسلطة يقوم على المساواة والصالح العام، ويكون
الحاكم واحد منهم غير معيّن من قبل الدولة العثمانية، والحكم
الذاتي من غير حكم اجنبي. وكانت المطالبات بالحرية والمساواة وحق
تقرير المصير(الفقرات 10ـ12).
مع المتصرفية اصبحت الكنيسة المدافع عن امور الناس بكل
طاقاتها السياسية والاقتصادية.وبعد الحرب الكونية الاولى
وانهيار الامبراطورية العثمانية حمل الموارنة، بقيادة البطريرك
الياس الحويك، لواء تظهير الكيان اللبناني وتثبيته،جاعلينه مساحة
حرية.وفي عهد الانتداب الفرنسي، واصل الموارنة نضالهم
،بقيادة البطريرك انطون عريضة ، من اجل الاستقلال الكامل والتحرر
من قوى الهيمنة الاقتصادية والسياسية . فكانت ولادة مؤسسات الخدمة
الاجتماعية على مختلف انواعها(الفقرتان 13و14).
***
صلاة
يا رب، انت تضع نفسك على دربي، فافتتح عينيَّ لاراك، واعرف حقيقة
ذاتي، واجتهد في تصحيحها. علمني ان التسامح هو اكبر مراتب القوة،
وان حُب الانتقام هو اول مظاهر الضعف.
اذا جردتني من المال اترك لي الأمل. واذا جردتني من النجاح اترك لي
قوة العناد حتى اتغلب على الفشل. اذا جردتني من نعمة الصحة اترك لي
نعمة الايمان. اذا آساتُ الى الناس اعطني شجاعة الاعتذار واذا أساء
الي الناس اعطني شجاعة العفو.
اذا نسيتك لا تنسني( طاغور).
وبدون انقطاع نرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس الى
الابد. آمين.
الاحد 12 آب 2007
الاحد الثاني عشر من زمن العنصرة
لقاء الايمان الذي يشفي
انجيل القديس متى
(15/21-28)
قال متى الرسول: إنصرف يسوع الى نواحي صور وصيدا، واذا
بامرأة كنعانية من تلك النواحي خرجت تصرخ وتقول: " ارحمني، يا رب،
يا ابن داود! إن ابنتي بها شيطان يعذبها جداً!". فلم يجيبها بكلمة.
ودنا تلاميذه فأخذوا يتوسلون اليه قائلين: " إصرفها، فإنها تصرخ في
إثرنا!". فأجاب وقال: " لم أُرسلْ إلاّ الى الخراف الضالة من بيت
اسرائيل". أما هي فأتتْ وسجدتْ له وقالتْ: " ساعدني، يا رب!".
فأجاب وقال: " لا يحسنُ أن يؤخذَ خبزُ البنين
ويلقى الى جراءِ الكلاب!". فقالت: "نعم، يا رب! وجراءُ الكلاب
ايضاً تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها". حينئذ أجاب يسوع
وقال لها: " ايتها المرأة، عظيمٌ إيمانكِ! فليكن لكِ كما تريدين".
ومن تلك الساعة شُفيت ابنتها.
في الاحد الماضي، كان لقاء زكا بيسوع لقاء حب عذب وجميل ادّى الى
توبة زكا والى تغيير مجرى حياته جذرياً، والى دخول الخلاص الى
بيته. واليوم لقاء المرأة الكنعانية بيسوع هو لقاء ايمان صاخب
بالتحدّي، ادّى الى شفاء ابنتها المريضة والى اعلاء شأن تلك
المرأة.
اولاً، شرح النص الانجيلي
1.
يسوع كلمة تخاطب كل انسان
المرأة الكنعانية وثنية تنتمي الى الشعب الذي كان يسكن فينيقية
اللبنانية على ساحل صور وصيدا. لا علاقة لها باليهود والكتب
المقدسة. لكن يسوع، كلمة الله، كلّم قلبها، كما يكلم كل
انسان، اياً يكن دينه وعرقه وثقافته. وعندما يكلّم الانسان، ويقبل
هذا الاخير كلامه في عقله وقلبه، يتولّد عنده الايمان، فيلجأ اليه.
سمعت المرأة الكنعانية يسوع يكلّم الجموع في نواحي صور وصيدا.
فشعرت انه يخاطب قلبها، فآمنت به مستغيثة، اذ علّمها ايمانها به
انه الرب، ابن داود، المسيح المنتظر، الذي يرفع شقاء البشرية،
فنادته بلقب نبوي عزيز عليه، صارخة الى رحمة قلبه: " ارحمني
ايها الرب ابن داود، فان ابنتي بها شيطان يعذبها جداً" (متى
15/22). ان يسوع، عندما خاطب الجمع، كان يخاطب قلب كل واحد منهم.
فلا أحد نكرة عنده. هذه قصته مع المرأة النازفة التي شعر انها لمست
طرف ردائه وشفيت فيما الجموع تزحمه وتضايقه (لو8/40-56)، ومع اعمى
اريحا الذي صرخ اليه، فسمع نداءه وسط الجمع الغفير الصاخب
(مر10/46-52) ومع زكا العشار الذي تسلّق الجميزة ليراه ماراً بين
الجموع فقرأ مكنونات قلبه الذي كان جاهزاً للارتداد الى الله
(لو19/1-10).
يسوع المسيح هو كلمة الله المتجسد، وقد ارسله الآب لينير
جميع الناس، ويسكن معهم، ويشرح لهم اسرار الله ( انظر يوحنا
1/1-18). أرسل انساناً بين الناس " ليعلن كلام الله" (يو3/34)،
ويتمم بكمال عمل الخلاص الذي سلّمه اليه الآب (يو5/ 36:17/4). جاء
ليجعل كل شيء جديداً (رؤيا21/5).
هو اياه يسوع المسيح، كلمة الله الازلية، يخاطب كل انسان
عبر كرازة الكنيسة وتعليمها، هي التي ائتمنها الآب على كنز
الوحي الالهي، باعطائها روح يسوع، فجعلها الشاهد بامتياز للكلمة
الالهية المحبة والخلاصية (الدستور المجمعي في الوحي الالهي، 26).
فيما تنقل الكنيسة الى اجيال البشر الوحي الالهي، الذي قد انتهى،
تكون كلمة الله معاصرة لكل جيل وراهنة. ليست الكلمة في حالة ركود،
بل تصبح قاعدة الايمان السميا، وقدرة حياة. انها تنمو في الكنيسة
بقيادة الروح القدس، وتكبر بالتأمل والدرس من قبل المؤمنين،
وباختبار الحياة الشخصية وبكرازة رعاة الكنيسة (المرجع نفسه،8
و21). ان رسالة الكنيسة الاكيدة والاولى هي ان تنقل كلام الله الى
جميع الناس، في كل الازمنة وفي كل الامكنة، عملاً بوصية الرب يسوع
(انظر متى 28/18-20).
2.
تحدي الايمان والنهج الالهي
الايمان تحدٍّ كبير للانسان. ليس سهلاً بل له مصاعبه. ويسميه
القديسون نفقاً مظلماً. هذا التحدي واجهته المرأة الكنعانية
بامتحان صعب اجراه الرب يسوع بنهجه الذي لا يُسبر غوره.
خلافاً لتصرفه مع اعمى اريحا، حيث توقف عند سماع صراخه " يا
ابن داود ارحمني" (مر10/47) وطلب ان يدعوه اليه، فعندما صرخت
المرأة الكنعانية: " ارحمني ايها الرب ابن داود" ( متى15/22)، فلم
يجبها بكلمة. انه نوع من الاهمال وعدم الاكتراث. ألم نختبر نحن في
حياتنا ان الله وكأنه أصمّ، لا يسمع ولا يجيب لصلاتنا وصراخنا اليه؟
اما هي " فأتت وسجدت له قائلة: أعنّي يا رب". انه اصرار
الايمان والصلاة بالحاح ورجاء، متخطية اهمال يسوع لها. لكن الرب
أجابها بكلام جارح وتحقيّر: " ليس حسناً ان يؤخذ خبز البنين ويلقى
للكلاب" كلام كبير وخطير! يسوع، الذي جاء اخاً لكل انسان، والذي
اتى، على ما يقول بولس الرسول، ليهدم الجدران والفواصل القائمة بين
الشعوب، يعتبر اليهود بنيناً، والكنعانيين كلاباً! هذا الكلام جدير
بردة فعل كبيرة وباشعال خلاف مستطير. ما أغرب نهج يسوع! وما أبعد
نهج الله عن نهج البشر!
لكن المرأة الكنعانية قبلت التحدّي وتغلّبت على ردات الفعل،
وبهذا أعطت امثولة رائعة لجميع الاجيال في اهمية تخطي ردات الفعل
في قراراتهم. فبحكمة ورؤيّة وتحدٍ ايضاً اجابت يسوع: " نعم يا رب،
ان الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد اربابلها". كلام رائع
رفع التحدّي الالهي!
لقد علّم يسوع، في بداية كرازته: " اسألوا تعطوا، اطلبوا
تجدوا، اقرعوا يفتح لكم. لان كل من يسأل ينل، ومن يطلب يجد، ومن
يقرع يُفتح له" ( متى7/7-8).
يتساءل اغسطينوس: لماذا يدعونا الرب لنصلي بالحاح؟ ويجيب:
لانه يصلي معنا كرأس، ومن اجلنا ككاهن، ويستجيب لنا كإله.
***
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
من "معجم التعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة
والحياة والقضايا الاخلاقية"،
نتناول موضوع :" الايقاف الطبي للحَمْل" للكاتب
Carlo
Casini(
صفحة 145-156).
الايقاف الطبي للحمْل
تعبير ملتبس تُستبدل به لفظة اجهاض. " فالايقاف" يوحي
بتعليق مؤقت للشيء او لمسار، على ان يعود فيما بعد الى سيره
الطبيعي، اما لفظة " إجهاض" فتثير مشاعر سلبية. "ايقاف
الحمل" يجهلها وينزع وخز الضمير ومسؤولية القتل.
ان الايقاف الطبي للحمل هو في جوحره رديف الاجهاض
الاختياري، وقتل الولد في رحم امه. اما اليوم، فلفظة " ايقاف
الحمل" تعني الاجهاض الشرعي (legal)،
ولفظة " اجهاض" تعني اللاشرعي (
illegal)،
بحيث ترمي الشريعة الى ازالة الوجه السلبي لازالة الولد.
التشريعات المبيحة للاجهاض ظاهرة من القرن العشرين.
منذ العهد الروماني وفي كل الدول الاجهاض الاختياري كان معاقباً
كجرم ضد الحياة البشرية الناشئة. اما في القرن العشرين فبدأت تظهر
الشرائع التي تجيز الاجهاض في قسم كبير من العالم. وكانت حالات لا
تعاقب ازالة الولد اثناء الحَبَل " لحالة الضرورة":
فالشرائع الوطنية لا تعاقب الاجهاض اذا اعتُمد فقط من اجل تخليص
حياة الام.
هذه نظرة خاطفة على التشريعات المبيحة للاجهاض: اصدر
الاتحاد السوفياتي سنة 1920 وهي اول تشريع على وجه الكرة الارضية.
ثم في السنوات الخمسين: بلدان اوروبا الشرقية الداخلة في الكتلة
الشيوعية: ففي سنة 1956 شرعّت الاجهاض بولونيا والمجر وبلغاريا،
وفي سنة 1957 تشيكوسلوفاكيا. ثم كان تشريع الاجهاض في بريطانيا سنة
1967، وفي الولايات المتحدة سنة 1973، حيث قسم التشريع مدة الحَمْل
الى ثلاثة فصول، وحذأ حذوها فيما بعد العدد الاعظم من البلدان
الاوروبية من دون اي اعتبار لمصلحة الولد، باعتماد لفظة "
الخصوصية"
Privacy
كحق للمرأة في ألاّ تُزعج في خياراتها الخاصة. اما فصول الحمْل
الثلاثة فهي:
أ-
في الاشهر الثلاثة الاولى، الاجهاض اقل خطراً من الولادة. فلا توضع
حدود لحرية الاختيار.
ب-
في الفصل الثاني اي بعد 90 يوماً، يُسمح بوضع حدود غير ملزمة، مع
اعتبار
الخطر الاكبر على المرأة من جراء التدخل الاجهاضي.
ج- في الفصل الثالث، اي بعد الشهر السادس، عندما تصبح الولادة
قريبة، تستطيع الدولة وضع حدود أدقّ لمصلحة الدولة نفسها في تجديد
السكان.
انتشرت التشريعات الاميركية في اوروبا في السنوات السبعين:
الدانمارك (1973)، النمسا والسويد ( 1974)، فرنسا ( 1975)، المانيا
( 1976)، ايطاليا ولوكسنبورغ( 1978). وتواصلت في السنوات الثمانين
في كل من: هولندا ( 1981)، البورتغال ( 1984)، اسبانيا ( 1985)،
اليونان ( 1986). اما في بلجيكا فدخل تشريع الاجهاض سنة 1990، ما
حمل الملك بودوان على الاستقالة المؤقتة، لاظهار الوجه المأساوي
لقرار البرلمان.
نستطيع القول ان تشريع الاجهاض عمّ كل اوروبا، باستثناء
ايرلندا ومالطا وسويسرا.
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي العشرين: "
الكنيسة المارونية والشأن الاجتماعي"، وتحديداً الوضع الراهن
في لبنان وعالم الانتشار (الفقرات 15-20).
1. ان الوضع الذي تعيشه الكنيسة المارونية في لبنان
اليوم متأثر مثل غيره بعاملين: التغيرات الطارئة من
جراء الحضارة التكنولوجية وقيمها وانماطها، والحرب التي
زعزعت اسس البنيان الاجتماعي اللبناني.
فمن جهة المتغيرات سيطرت ذهنية مادية على المجتمع
والشعب، بنتيجة " حضارة وعقلية الاستهلاك" التي تنظر الى الزوائد
والكماليات على انها ضروريات حياتية، متناسين ان للانسان اولوية
مطلقة على الاشياء. فكان السعي الى امتلاك السلع وتكديسها كأنها
هدف بحدّ ذاته، لا مجرد وسيلة لتأمين حياة كريمة وتحقيق محبة
الآخرين. فاصبح الناس عبيداً لغريزة " التملك" والمتعة الفورية (
رسالة البابا يوحنا بولس الثاني في الاهتمام بالشأن الاجتماعي،
28).
اما من جهة الحرب، فضُربت في العمق البنى الاساسية،
السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الاسس النفسية والشخصية
لدى الفرد، والقيم والاخلاق. فضلاً عن التشريد والتهجير وتدمير
البيوت والممتلكات وهدم العديد من الكنائس، وخراب الاراضي
والمؤسسات. وتتوسع الفقرة 18 و19 في نتائج الحرب الوخيمة وما قامت
به الكنيسة من مبادرات مادية ومعنوية.
2. في عالم الانتشار تختلف الاوضاع الاجتماعية
لابناء الكنيسة المارونية باختلاف المجتمعات المتواجدين فيها. فعلى
كل جماعة مارونية وابرشية في بلاد الانتشار ان تحدد المشاكل
وتستعمل الوسائل والامكانات المتوافرة لديها لتضعها في خدمة
المحتاجين، وان تتعاون فيما بينها بحيث تساعد القديرة من كانت اقل
اقتداراً.
وينبغي ان يقوم تعاون بين الكنيسة الام وموارنة الانتشار من
اجل التعاضد وتشديد روابط الانتماء الفعلي بانشاء دوائر مختصة في
البطريركية وفي ابرشيات الانتشار. ومن الضرورة اقامة مبدأ التوأمة
من اجل التعاضد والموآزرة (فقرة 20).
****
صلاة
ايها الرب يسوع، كلمة الله المتكلمة لكل انسان، أعطنا ان نميّز
كلامك، وان نقبله كيفما اتى، حلواً او مراً، ملائماً لرغباتنا او
معاكساً. فانت لا تبغي سوى خير كل انسان. ويا رب، في زمن المادّية،
فليرفعنا كلامك الى قمم الروح، لكي يرتفع مجتمعنا الى مستوى القيم
التي تضمن حماية الحياة البشرية، وتعزز كرامتها وقدسيتها، بوجه
ذهنية الاستهلاك والتعدّي على الحياة الناشئة. لك المجد ايها الآب
على محبتك، وايها الابن على نعمتك، وايها الروح القدس على حلولك
فينا، الآن والى الابد، آمين.
الاحد 19 آب 2007
الاحد الثالث عشر من زمن العنصرة
مقتضيات سرّ الله في الانسان
انجيل القديس لوقا
(8/1-15)
أخذ يسوع يطوف المدن والقرى، ينادي ويبشر بملكوت الله، ومعه
الاثنا عشر، وبعض النساء اللواتي شفاهن من ارواح شريرة وامراض،
هنّ: مريم المدعوة بالمجدلية، ألتي كان قد
أخرج
منها سبعة شياطين، وحنة امرأة خوزى وكيل هيرودس، وسوسنة، وغيرهن
كثيرات كنّ
يبذلن
من أموالهن في خدمتهم. ولمّا احتشد جمع كثير، واقبل الناس إليه من
كل مدينة، خاطبهم بمثل: "خرج الزارع ليزرع زرعه. وفيما هو يزرع،
وقع بعض الحب على جانب الطريق، فداسته الاقدام، وأكلته طيور
ألسماء. ووقع بعضه الآخر على الصخرة، وما إن نبت حتى يبس، لأنه
لم يكن له رطوبة. ووقع بعضه الأخر في وسط الشوك، ونبت الشوك معه
فخنقه. ووقع بعضه الآخر في الأرض الصالحة، ونبت فأثمر مئة ضعف. قال
يسوع هذا، ونادى: "من له اذنان سامعتان فليسمع". وسأله تلاميذه:
"ما تراه يعني هذا المثل. فقال: "أنتم قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار
ملكوت الله، أما الباقون فأكلمهم بالأمثال، لكي ينظروا فلا يبصروا،
ويسمعوا فلا يفهموا. وهذا هو معنى المثل: الزرع هو كلمة الله.
والذين على جانب الطريق هم ألذين يسمعون، ثمّ يأتي إبليس فينتزع
الكلمة من قلوبهم، لئلا يؤمنوا فيخلصوا. والذين على الصخرة هم
الذين يسمعون الكلمة ويقبلونها بفرح. هؤلاء لا أصل لهم، فهم يؤمنون
إلى حين، وفي وقت التجربة يتراجعون. والذي وقع في الشوك هم ألذين
يسمعون ويمضون، فتخنقهم الهموم والغنى وملذات الحياة، فلا ينضج لهم
ثمر. أما الذي وقع في الأرض الجيدة فهم الذين يسمعون الكلمة بقلب
جيد صالح فيحفظونها، ويثبتون فيثمرون".
مثل الزارع ابراز لسرّ ملكوت الله، المتجلي في شخص
المسيح-الكلمة، المزروعة في هذا العالم. الكنيسة هي زرع الملكوت
بعنصريها الالهي والبشري: العنصر الالهي هو كلمة الله، شخص
يسوع المسيح، ابن الله المتجسد، المزروع كلمة حياة في العالم.
والعنصر البشري هو الجنس البشري، كل انسان، وكل جماعة مدعوة
لتقبل زرع الكلمة مثل ارض طيبة. فتثمر مثل الكلمة وينمو الملكوت،
سرّ الله في الانسان.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
ملكوت الله بالامثال:
الامثال صيغة فريدة للتعليم استعملها الرب يسوع، فشكّلت قلب كرازته.
انها تختلف عن التشابيه والرموز والاستعارة. انها حقيقة ملكوت الله
الراهنة. لفظة " ملكوت الله" باليونانية تعني " اسكاتون-
Eskaton".
فلا تعني حصراً ملكوت الله " الذي سيأتي" بعد نهاية الازمنة، بل
ايضاً الملكوت الذي يأتي بشخص المسيح. ولذا يصبح سرّ الملكوت "
الاسكاتولوجيا المتحققة" و " الاسكاتولوجيا التي تتحقق". في
الامثال، يسوع يعلن اقتراب مجيء ملكوت الله، ومجيئه في شخصه. انه
سرّ الابن الحاضر فيه الله فيما بيننا. والمسيح الذي اتى هو، في
مسار كل التاريخ، المسيح الذي يأتي. عن هذا " المجيء" في العمق
تتكلم الامثال (البابا بندكتوس السادس عشر: "يسوع من الناصرة" (ص
223-224).
عندما اعلن يسوع في هيكل الناصرة " بدء سنة نعمة الله"، انما أعلن
بروز المخلص المخبوءة الوهته وراء كل كلمة ومثل. فلا يستطيع الشعب
ان يظل في حال عدم الاكتراث بكلام الله وعمل الخلاص. فارسل اليه
الله اشعيا يحذرّ ويقول: " غلّظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأغمض
عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى.
فقلت الى متى أيها السيد. فقال الى أن تصير المدن خربة بغير ساكن
والبيوت بغير انسان والارض خراباً مقفراً. ويقصي الرب البشر وتبقى
في الارض وحشة عظيمة. وان يبقى فيها العشر من بعد فإنها تعود وتصير
الى الدمار، ولكن كالبطمة والبلوطة التي بعد قطعها يبقى جذلٌ فيكون
جذلها زرعاً مقدساً ( اشعيا 6/10-13).
2.
الموقف من سرّ الملكوت
يدعو الرب يسوع في انجيل اليوم الى اعتماد الموقف الشبيه بالارض
الطيبة، اي موقف العقل المنفتح لكلام الله، والقلب التوّاق لقبول
النعمة الالهية، والكيان المنقاد لعمل الروح القدس.
لكنه يشجب ثلاثة مواقف:
أ- موقف اللامبالين
المشبّهين بقارعة الطريق، حيث اذا سقط الزرع اكلته الطيور. هؤلاء
يسمعون كلمة الله باذانهم لا بقلبهم، وبدون مبالاة، وكأنهم يهمشون
الله عن حياتهم اليومية. تأتي تجربة الشيطان وتسلبهم الكلمة.
ب- موقف السطحيين المشبّهين بالصخر، حيث اذا سقط
الزرع ونبت احرقته الشمس. هؤلاء يسمعون الكلمة ويفرحون بها في
دقيقتها ثم ينسونها حالاً، ولا تدخل في عمق نفوسهم، لانهم يفتقرون
الى اصالة وعمق، ولا جذور روحية لهم.
ج- موقف الاستهلاكيين المشبّهين بالارض المملؤة
شوكاً، حيث اذا سقط الزرع، خنقته الاشواك. هؤلاء ينهمكون بهمومهم
وحساباتهم وتطلعاتهم وشؤون الحياة المادية وملذاتها والمصالح
وهواجس الاكل والشرب والعمل واللباس. كل هذه الامور المادية
والاستهلاكية تخنق كلمة الله في مهدها.
الموقف المطلوب هو الذي يشبه الارض الطيبة،
حيث ينبت الزرع ويثمر الواحد مئة. ان الذين يقبلون كلمة الله في
قلب جيّد وصالح يثمرون بالصبر.
امنا مريم العذراء الكلية القداسة، التي نحيي عيد
انتقالها بالنفس والجسد الى السماء في هذا الاسبوع، هي القدوة
في قبول كلمة الله. منذ حدث البشارة، تبقى لنا ولكل جيل المثال
الحي لكل لقاء شخصي وجماعي مع الكلمة الالهية، التي قبلتها
بالايمان، وتأملتها بالرجاء، واودعتها قلبها ونفسها بالحب ( انظر
لوقا 1/38؛ 2/19 و51؛ اعمال الرسل 17/11). كانت تسمع الكتب المقدسة
وتتأملها، وتربط كلمات يسوع باحداث حياتها التاريخية.
ولان مريم قبلت كلمة الله في قلبها بالايمان والرجاء
والمحبة، قبلتها بتدبير الهي، جنيناً في حشاها، هو ابن الله
المتجسّد، الذي اعطته طبيعة بشرية، فكانت ام الاله في الطبيعة
البشرية (عقيدة ايمان اعلنها مجمع افسس سنة 431)، وام يسوع المسيح،
الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس، الاله الكامل بالوهته والانسان
الكامل ببشريته ( عقيدة ايمان اعلنها مجمع خلقيدونية سنة 451).
ولانها منذ اللحظة الاولى للحبل بها في حشى امها حنة عصمت من
الخطيئة الاصلية التي يتوارثها كل بشر من الابوين الاولين آدم
وحواء، استباقاً لاستحقاقات ابنها الفادي الالهي ( عقيدة ايمان
أعلنها البابا الطوباوي بيوس التاسع في 8 كانون الاول 1854)،
ولانها شاركت يسوع ابنها آلام الفداء، نقلها الله، عند وفاتها،
بالنفس والجسد الى مجد السماء، لتملك مع ابنها ملك الملوك وتتوّج
سلطانة السماء والارض ( عقيدة ايمان اعلنها البابا بيوس الثاني عشر
في اول تشرين الثاني 1950).
***
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
" الايقاف الطبي للحمْل"
هو الموضوع الذي نواصل النظر فيه، والمأخوذ من" المعجم
بالتعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة والحياة والقضايا
الاخلاقية". (صفحة 111-117).
ان التشريعات المبيحة للاجهاض، المسمى بالتباس " الايقاف
الطبي للحمّل" تعطي ثلاثة تبريرات لما يسمى بالاجهاض الشرعي (
avortement
légale).
وهي تبريرات ترفضها الكنيسة لانها تعدٍ سافر على الحياة البشرية،
وليس لآحد غير الله سلطة عليها.
1) حالة الضرورة.
انها حالة واسعة بدون حدود. ويبقى النزاع بين حقوق الام ومصالحها
وحقوق الجنين ومصالحه. يحاول الشرع اعطاء حلّ لهذا النزاع، مع
توسيع مجالات الام وتضييق مجالات الولد.
2) حق المرأة في الخيار
(privacy).
يُهمل كلياً هنا النزاع بين الام وابنها. ولكن يفترض وجود نزاع في
الفصلين الثاني والثالث من مدة الحمْل، وفقاً للفصول الثلاثة التي
حددتها شريعة الاجهاض في الولايات المتحدة الاميركية. في الفصل
الثاني، اي بدءاً من الشهر الرابع للحمْل حتى السادس، يوجد تضارب
بين حقوق المرأة نفسها ومصالحها؛ ثم بين مصلحة المرأة ومصلحة
الدولة.
3) واجب المواطن تجاه صالح الدولة العام. انه واجب
من اجل تجنب التزايد السكاني. ينتقلون هكذا من فكرة الاجهاض
كمعالجة الى فكرة الاجهاض كحق في الحرية، وصولاً الى فكرة الاجهاض
كواجب. في بعض بلدان الشرق الكبيرة، مثل الصين والهند، الايقاف
الطبي للحمْل او الاجهاض، مفروض كحدّ للنسل وضعته السلطة المدنية.
****
ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
" الكنيسة المارونية والشأن الاجتماعي"
هو النص المجمعي العشرون، الذي نواصل تقبّله في فصله الثاني: "
اي مجتمع تصبو الكنيسة المارونية الى بنائه؟"
يجيب النص المجمعي ان المجتمع المنشود هو اولاً مجتمع تكون
مؤسساته متطورة ومنظمّة، والعلاقات الداخلية ذات عمق روحاني
وانساني. فتكون المؤسسات والعلاقات فاعلة في خدمة الانسان. وهو
ثانياً مجتمع يتألف من اشخاص احرار ومتساوين ومسؤولين. وهو
ثالثاً مجتمع قائم على الثوابت التي تتلاءم مع المبادىء
الاساسية في تعليم الكنيسة الاجتماعي، واهمها التضامن والعدالة
والترقي (الفقرات 22- 24).
التضامن
هو العزم الثابت والدائم على العمل من اجل الخير العام، الذي هو
خير الكل وخير كل فرد، لاننا جميعاً مسؤولون حقاً عن الجميع
(البابا يوحنا بولس الثاني: الاهتمام بالشأن الاجتماعي،38).
العدالة
هي ان جميع الناس، مع تمايزهم، هم متساوون في بنوّتهم لله، وفي
كرامتهم الانسانية، وفي تمتّعهم بالحقوق البشرية الاساسية. هذه
"عدالة طبيعية" من صنع الله، ولا يحق لأي كان، فرداً او جماعة
او دولة، ان يتخطاها او يعمل بنقيضها. بل واجب على الجميع العمل
على احترام هذه العدالة وتحقيقها، فتصبح " عدالة اجتماعية"
لجميع الناس، هدفها تخفيف الفوارق بين الافراد والجماعات، وتوفير
تكافؤ الفرص للجميع على كل المستويات.
الترقي
هو ترقي الانسان، الذي يكمّل العدالة، ويرتكز على النمو الاقتصادي
والانماء الاجتماعي، والنمو الروحي والخلقي. ان لكنيستنا مبادرات
تاريخية في ترقي الانسان والمجتمع، على مستوى التعليم والتطبيب
والزراعة والصناعة الخفيفة والسكن، وعمل الارض واستثمارها، وتوفير
فرص العمل، والنهوض الاقتصادي.
****
صلاة
يا رب، اعضد كنيستك ورعاتها لكي، بنشر الانجيل وتوزيع
الاسرار وخدمة المحبة، تهيّء العقول والضمائر والقلوب لقبول كلمة
الحياة، قبول الارض الطيبة لحبات القمح فيثمر كلامك فيهم حضارة
حياة، ونهجاً مستقيماً بنّاءً، وموقفا هادياً الى الحق. اعطنا، يا
رب، ان نعمل على حماية الحياة البشرية من المعتدين عليها بالاجهاض،
وان ننميها بمبادرات التضامن وممارسة العدالة وتعزيز الانماء. انت
اردت، يا رب، ان يكون الانسان الحي انعكاسَ مجدكِ الذي ننشره مدى
الدهور، مجداً وتسبيحاً وشكراً للآب والابن والروح القدس، الى
الابد. آمين.
الاحد 26 آب 2007
الاحد الرابع عشر من زمن العنصرة
معرفة المسيح خلاص الانسان
انجيل القديس لوقا
(10/38-42)
دخل يسوع إحدى القرى، فاستقبلته في بيتها امرأة اسمها مرتا. وكان
لمرتا أخت تُدعى مريم. فجلست عند قدمي الرب تستمع كلامه. أما مرتا
فكانت منهمكة بكثرة الخدمة، فجاءت وقالت: " يا رب، أما تبالي بأن
أختي تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تساعدني!". فأجاب الرب وقال
لها: " مرتا، مرتا، إنك مهتمين بأمور كثيرة، وتضطربين! إنما
المطلوب واحد! فمريم اختارت النصيب الأفضل، ولن يُنزع منها".
يسوع المسيح هو "المطلوب الاوحد" الذي يحتاج اليه
الانسان في ما يقوم به من عمل ونشاط وتفكير وبحث. يسوع يحلّ ضيفاً
في بيت مرتا ومريم، شقيقتي لعازر الذي سيقيمه من الموت. وهو بيت
صديق ليسوع. مرتا تنهمك، على الطريقة الشرقية، في اعداد واجب
الضيافة بغداء يليق بيسوع، فيما مريم تجلس عند قدميه تسمع كلامه.
وعندما اعترضت عليها مرتا، قال لهما الرب ان المطلوب واحد، وهو
البحث عنه وسماع كلامه.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
يسوع هو المطلوب الاوحد
سترى مرتا ومريم معنى كلام يسوع عندما سيقيم اخاهما لعازر من الموت
بعد اربعة ايام، مؤكداً انه هو " القيامة والحياة، من آمن به، وان
مات، فسيحيا" ( يو11/25). اقام لعازر من الموت ليبيّن لكل انسان
وجماعة وشعب انه قادر على إحيائهم من موتهم الروحي والخلقي
والمعنوي والاجتماعي. قيامة لعازر هي البرهان والدليل. هذا القادر
على ان يقيم ميتاً بالجسد، قادر ايضاً ان يقيم كل ميت بالروح. لقد
جاء مخلصاً للعقول من موت الكذب والضلال، وللضمائر
من موت العمى الروحي، وللارادات من موت الشر والانحراف،
وللقلوب من موت الحقد والضغينة. انه يقيم الانسان الى الحقيقة
والنور والصلاح والحب. وقد قال يوماً لسامعيه: "ان لم تؤمنوا اني
انا هو، تموتون في خطاياهم" ( يو8/24).
2.
يسوع المسيح، المطلوب الاوحد، هو الله بيننا ومعنا
عندما سأل موسى الرب المتجلي له في العليقة التي " تلتهب ولا
تحترق" عن اسمه اجابه " انا هو الذي هو" ( خروج 3/14): انا
هو الذي هنا، انا هو الحاضر ابداً مع الناس ومن اجلهم، امس واليوم
وغداً.
لقد كشف الله عن مفهوم اسمه هذا بلسان اشعيا النبي: " انتم شهودي،
انتم عبدي الذي اخترته، لكي تعلموا وتؤمنوا بي وتفهموا اني انا
هو، لم يكوّن اله قبلي ولا يكون بعدي. انا انا الرب، ولا مخلص
غيري. انتم شهودي وانا الله... انا الرب قدوسكم، خالقكم وملككم"
(اشعيا43/10-15).
الله هو المطلوب الواحد والاوحد،
ولا الهٌ سواه من صنع البشر، ونحن "شهود له" بوجه عابدي
اصنام هذا العالم، من اشخاص واشياء، وايديولوجيات. يقيم الناس
اصناماً عديدة يعبدونها كآلهة: صنم المال والسلطة، صنم الجنس، صنم
السلاح والقدرة، صنم التسلط والديكتاتورية والتوتاليتارية، صنم
المادّية والاستهلاكية. ونحن "عبده" اي عابدوه ومعاونوه
في تحقيق تاريخ الخلاص عبر تاريخ البشر.
3.
سرّ الله الاوحد حاضر في المسيح
أكد الرب يسوع: " انا والآب واحد"، بمعنى ان " من رآه رأى الاب"
(يو14/9). وعندما يرتفع على الصليب تظهر علاقته هذه بالآب في
ذروتها، ذروة الحب الذي هو الله، "فأحب حتى النهاية" ( يو13/1).
" العليقة المتقّدة" هي الصليب. هذا هو معنى كلمة يسوع
عن نفسه: " انا هو". وقد أشار اليه بقوله: " اذا رفعتم ابن
الانسان فحينئذٍ تعرفون اني انا هو، واني لست افعل شيئاً من
عندي، ولكن كما علّمني الآب كذلك اقول. والذي ارسلني هو معي، ولم
يدعني وحدي لاني افعل ما يرضيه كل حين" (يو8/28-29).
هذه المعرفة نالها اهل زمانه، اليهود الذين عرفوه يوم
العنصرة، حلول الروح القدس. فلما سمعوا بطرس، نفذ كلامه الى
قلوبهم، فقالوا له ولسائر الرسل: " ماذا علينا ان نعمل، ايها
الرجال الاخوة؟" فقال لهم بطرس: " توبوا وليعتمد كل واحد منكم باسم
يسوع المسيح، لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس". فقبلوا
كلامه واعتمدوا. وانضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس ( اعمال
2/37-38 و41).
لكن هذه المعرفة لا تقف عن حدود اهل زمان يسوع، بل تمتد عبر
التاريخ الى كل انسان، لكونه هو " المطلوب الاوحد"، ومبتغى
الشعوب وتوق الاجيال. تبقى حياة الانسان لغزاً اذا لم تلتقِ كلمة
الله يسوع المسيح. وتتحقق المعرفة بكاملها في نهاية التاريخ، كما
رآها يوحنا الرسول: " ستراه كل عين، وايضاً الذين طعنوه"
(رؤيا1/8). كل الذين طعنوا ويطعنون وسيطعنون المسيح الرب بخطاياهم
وشرورهم مدعوون لينظروا اليه، فيشفوا من موت خطاياهم.
هذا التفسير مأخوذ من كتاب البابا بندكتوس السادس عشر "
يسوع الذي من الناصرة" (صفحة 395-400).
***
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
" الايقاف الطبي للحمْل"
هذا التعبير الملتبس الذي يعني في مضمونه " الاجهاض"، هو
الموضوع المأخوذ من " المعجم بالتعابير الملتبسة والمتنازع
عليها حول الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية" للمطران
Jean-Louis
Bruguès(
صفحة 111-117). وقد تناولناه سابقاً في حديثين.
نتوقف اليوم عند الاساس – المصدر الذي ترتكز عليه التشريعات
المبيحة للاجهاض، وتسميه " اجهاضاً شرعياً-
Légal،
للتخفيف من الجرم. لكن قتل الحياة البشرية في حشى الام
جريمة يحرّمها الله وتدينها الكنيسة.
ان الاساس-المصدر هو المفهوم الماّدي للوجود. ليس
صدفة ان يكون الاتحاد السوفياتي المكان حيث ظهرت كلمة الاجهاض لاول
مرة، وتمّ تشريعه. فالاتحاد السوفياتي هو المساحة حيث تيّار
المادّية يشكل العقيدة الرسمية لنظام الحكم، التي تُعلّم في
الجامعات، والتي تحوّل الكنائس الى متاحف الالحاد. وليس صدفة ان
يسبق بقليل دخول الشيوعية الى بلدان اوروبا الشرقية مع التشريعات
المبيحة والانحلالية. ان تشريع الاجهاض في الاتحاد السوفياتي سبق
تشريعه في بريطانيا تحت عنوان "Abortion
Act"
بسبع واربعين سنة. ما يعني ان الاجهاض لقي في بلدان اوروبا الغربية
مقاومة كبيرة قبل فرضه كواقع شرعي. وقد تمَّ فرضه عندما راح تيّار
الماّدية العملية، الذي لا يجرؤ على نكران الله، يتوطد في تلك
البلدان. وهكذا ظهر واضحاً ان " غياب مفهوم الله والشعور به" هو في
اساس التشريعات المعادية للحياة (البابا يوحنا بولس الثاني، انجيل
الحياة، 21).
تعتمد التشريعات لفظة " ايقاف طبي للحمْل" لتعني شرعية
الاجهاض، عندما يمارس كتدخّل طبي في المستشفى. لكنه اجهاض بكل
معنى الكلمة، لكونه قتلاً للولد-الجنين، مهما حاولت التشريعات
المدنية اظهار شرعيته. انها في ذلك آخذة في فقدان قانونيتها. هذا
ما اكدّه خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة :
انجيل الحياة" ( عدد 72):
" القوانين التي تسوّغ وتشجّع الاجهاض والقتل الرحيم تناقض
لا منفعة الفرد وحسب بل المنفعة العامة، وتمسي بالتالي مجرّدة من
كل شرعية قانونية صحيحة. ولا غرو، فتجاهل حق الانسان في الحياة،
لانه يفضي، بالتحديد، الى إلغاء الفرد الذي جُعل المجتمع لخدمته،
هو أشد ما يتصدى لتحقيق الخير العام، بطريقة مباشرة لا تعوّض.
وينجم عن ذلك ان كل قانون مدني يشرِّع الاجهاض والقتل الرحيم يبطل،
بالفعل نفسه، ان يكون قانوناً مدنياً حقيقياً ملزماً إلزاماً
ادبياً. "
امام هذا الواقع لا بدّ من طرح سؤالين، ما الذي
يميّز الشرعية عن امر من هو اقوى؟ وما الذي يميّز الدولة عن جمعية
اشرار منظمة؟
الجواب نجده في مقدمة الاعلان العالمي لحقوق
الانسان الذي اقرّته منظمة الامم المتحدة في 10 كانون الاول
1948 اي: ان الاقرار بكرامة اعضاء الاسرة البشرية،
وبحقوقهم المتساوية غير قابلة الانتهاك، يشكّل الاساس للحرية
والعدالة والسلام في العالم.
لكن هذا الاعلان عن كرامة الشخص البشري والمساواة
بين الجميع نال انتكاسته باقرار الاجهاض او الايقاف الطبي للحمْل.
وقد سمّى البابا يوحنا بولس الثاني هذه الانتكاسة " انكساراً
للدولة" و " انكساراً للانسان، وبالتالي "انتصاراً لمبدأ
الرفاعية المادّية والانانية على القيمة الاقدس، قيمة الحياة
البشرية. ان من انكسر هو الرجل، وهو المرأة، وهو الطبيب الذي أنكر
قَسَمه ولقبه الشريف الذي هو حماية الحياة البشرية ونجاتها. انه
انكسار الدولة المتعلمنة التي تخلت عن حماية الحق الشرعي
والمقدس في الحياة" ( خطابه امام هيئة المجالس الاسقفية الاوروبية
في 11 تشرين الاول 1985).
***
ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي العشرين بعنوان:
" الكنيسة المارونية والشأن الاجتماعي"، وعلى وجه التحديد "
السياسة الاجتماعية، التي تتبناها الكنيسة، وهي تقوم على اهداف
ثابتة وعميقة، انطلاقاً من ثوابت التضامن والعدالة والترقي
(الفقرات 25-27).
ان الاهداف اربعة:
1)
تحقيق نظام اجتماعي قائم على احترام الانسان والمساواة في الحقوق
والواجبات، وعلى الانفتاح الثقافي والروحي والاستقرار المادي.
2)
تحقيق عدالة اجتماعية تؤمّن مستوى لائقاً من العيش الكريم لكل
افراد المجتمع، وتمكّن كل شخص من تنمية كفاءاته وقدراته وتحقيق
ذاته، ومن المشاركة في بناء مجتمعه.
3)
تثمير القدرات البشرية المتوفّرة
لدى افراد المجتمع.
4)
استغلال الثروات الطبيعية وزيادة الانتاج بهدف تأمين حاجات الجميع،
وبخاصة المعوزين والفقراء وغير المنتجين، وبغية تأمين عيش كريم
للانسان الذي هو غاية لا وسيلة، وهو هدف الكنيسة الاساسي.
من شأن هذه الاهداف ان تصل الى قيام مجتمع عادل يرتكز على
علاقة كيانية وعضوية بين الفرد والمجتمع. هذه العلاقة تعرف
بمعادلة الحقوق والواجبات. ان لكل مواطن حقوقاً اساسية على
مجتمعه، وعليه واجبات تجاهه. وتقع على الجميع واجبات تؤمّن حقوق
الافراد، من دون ان تكون تصدّقاً يُحسن به عليهم او منّة.
على اساس المعادلة بين الحقوق والواجبات، يقاس تطور المجتمع، وتقاس
كرامة الانسان فيه. والكنيسة من جهتها تدافع عن الحقوق الاجتماعية
الاساسية الواجبة لكل فرد وجماعة، واهمها: الحق في بناء عائلة،
الحق في السكن، الحق في العمل، الحق في الصحة والطبابة والحق في
التعليم والثقافة. سنراها لاحقاً بالتفصيل.
صلاة
ايها الرب يسوع، انت مطلوب الانسان الاوحد، اذا وجدك استنار بكلام
الحياة، وشفي بنعمة الاسرار، وانتعش بروح المحبة. ساعدنا لنلج الى
سرّ الله الحاضر فيك، فنشهد لمحبته في مجتمعنا. وبهذا نبني مجتمعاً
عادلاً وعدالة اجتماعية توفّر للجميع عيشاً كريماً وتحقيقاً للذات
مع الاستقرار والسلام. انها ارادة الله المتجلية في محبة الآب
ونعمة الابن وشركة الروح القدس. للثالوث القدوس كل مجد وتسبيح وشكر
الى الابد. آمين.
الاحد 2 ايلول 2007
الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة
الايمان والحب اساس التوبة والغفران
انجيل القديس لوقا
(7/36-50)
سأل واحد من الفريسيين يسوع أن يتناول الطعام
معه، فدخل بيت الفريسي وأتكأ. وإذا امرأةٌ، وهي التي كانت في
المدينة خاطئة، علمت ان يسوع متكىءٌ في بيت الفريسي، فجاءت تحمل
قارورة طيب. ووقفت باكية وراء يسوع، عند قدميه. وبدأت تبُل قدميه
بالدموع، وتنشفهما بشعر رأسها، وتقبل قدميه، وتدهنهما بالطيب. ورأى
الفريسي، الذي دعا يسوع، ما جرى، فقال في نفسه: " لو كان هذا نبياً
لعلم أي امرأة هي تلك التي تلمسه. إنها خاطئة". فأجاب يسوع وقال
له: " يا سمعان، عندي شيء أقوله لك". قال الفريسي: " قل، يا معلم".
قال يسوع: " كان لدائن مديونان، أحدهما مديون بخمسمئة دينار،
والآخر بخمسين. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما كليهما.
فأُيهما يكون أكثر حباً له؟". أجاب سمعان وقال: " أظن، ذلك الذي
سامحه بالاكثر". فقال له يسوع: " حكمت بالصواب". ثم التفت الى
المرأة وقال لسمعان: " هل ترى هذه المرأة؟ أنا دخلت بيتك فما سكبت
على قدمي ماء، أما هي فقد بلّت قدميَّ بالدموع، ونشفتهما بشعرها.
أنت لم تقبلني، أما هي فمنذ دخلت لم تكفْ عن تقبيل قدميَّ. أنت ما
دهنت رأسي بزيت، أما هي فدهنت بالطيب قدميَّ. لذلك أقول لك:
خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنها أحبتْ كثيراً. أما الذي يغفر له
قليلٌ فيحب قليلاً؟". ثم قال للمرأة: " مغفورة لك خطاياك". فبدأ
المتكئون معه يقولون في أنفسهم: " من هو هذا الذي يغفر الخطايا
ايضاً؟". فقال يسوع للمرأة: " إيمانك خلصكِ إذهبي بسلام".
هذا انجيل التوبة الذي يشرح بالعمق الصلاة التي علّمنا
اياها الرب يسوع في الابانا: "اغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفر لمن
أخطأ الينا". لفظة " خطايا" حسب اللفظة الاساسية هي "ديون"، بسبب
ما ترتب على مرتكبيها من واجبات تعويض وتكفير، من باب العدالة، لكي
ينالوا الصفح والغفران.
1.
الخطايا مثل الديون
يوجد ديون في العالم: ديون تجاه الناس، وديون تجاه الله. استبق
الرب يسوع الغفران للمرأة التائبة، فشرح لسمعان الفريسي الذي
استضافه، وتشكك من مبادرة المرأة الخاطئة، ان الخطيئة دين تجاه
الله ككل دِين بين الناس، وان مغفرة الخطايا هي مثل مسامحة الديون.
لا يسامح إلا الذي يحب، لشعوره بعجز المديون عن ايفاء دينه.
ليست الخطيئة بحد ذاتها ديناَ، بل مفاعيلها عند الله والناس ديون،
وهذه تقتضي عدالة لتركها. الخطيئة جرح يصيب الحقيقة والمحبة، سواء
ارتُكبت تجاه الله او تجاه الانسان، فكل خطيئة الى انسان هي في
الوقت عينه ضد الله، الذي هو الحقيقة والمحبة (البابا بندكتوس
السادس عشر: " يسوع الذي من الناصرة"، صفحة 189).
ادركت المرأة جسامة خطيئتها فندمت، ومن دون اي خوف على صيتها بين
الناس، بل ومن اجل حفظ كرامتها قدام الله، جاءت واقرّت ليسوع
بخطاياها، وعبّرت عن ندامتها بدموعها، وكفّرت عن ديونها " ذارفة"
قارورة الطيب على قدمي الفادي. قرأ يسوع، في انجيل آخر، حركة
الخاطئة واعتبرها مبادرة نبوية استبقت بها تطييب جسده يوم دفنته
فادياً للعالم (يو12/7). وعاتب يسوع سمعان الفريسي على تشكيكه، هو
الذي كان الاحرى به ان يكون اول التائبين، وقد دخل الرب بيته. وشرح
له، بمثل المديونين اللذين سامحهما الدائن على قدر حبّهما، معاني
افعال المرأة التي " احبّت كثيراً، فغُفرت لها خطاياها الكثيرة".
وعاتبه بطريقة لطيفة على عدم محبته وتوبته، مبيّناً له انه لم يفعل
شيئاً من افعالها الثلاثة الغنية بالمعاني: هي بلّت قدميه بالدموع
ونشفتها بشعرها، وسمعان لم يسكب نقطة ماء على قدمي يسوع؛ هي قبّلت
قدميه، وسمعان لم يعطه قبلة واحدة؛ هي دهنت بالطيب قدميه، وسمعان
لم يدهن باي زيت رأسه. وكأن يسوع قال له: " يُغفر لك القليل لانك
احببت قليلاً".
2.
غفران الخطايا
تشكك الجالسون في بيت سمعان الفريسي عندما سمعوا يسوع يقول للمرأة:
" مغفورة لك خطاياك"! فقالوا في نفوسهم: " من هو هذا الذي يغفر
الخطايا"؟
فكشف يسوع ميزة ثانية تتحلّى بها المرأة التائبة هي ايمانها
الكبير بيسوع الفادي الالهي، الى جانب حبها الكثير.
التوبة فعل ايمان وفعل حب متلازمان. بالايمان يدرك الخاطىء
شرَّ خطيئته ويبحث عن الغفران عند الله. وبالحب يتوب الى
ربّه، وقد اساء الى محبته والى الحقيقة.
وبقوله للمرأة: " ايمانك خلّصك! اذهبي بسلام"، وامتدح يسوع ايمانها،
كما سبق وامتدح حبّها، وكشف عن السلام الذي ملأ قلبها من جراء
التوبة الكاملة والغفران، وفي الوقت عينه عاتب الجالسين، بطريقة
غير مباشرة، على قلة ايمانهم، وعلى عدم قبول السلام الذي يزرعه
يسوع حيثما وجد، اذا انفتحت له القلوب بالتوبة.
الهنا هو اله يغفر، ويريدنا ان نتشبّه به ونسامح بعضنا بعضاً.
ولهذا علمنا يسوع ان نصلي: " اغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفر لمن
خطىء الينا". وجعل الغفران شرطاً للصلاة وتقديم القربان لله: " اذا
كنت تقدّم قربانك لله، وتذكرّت ان لاخيك عليك شيئاً، دع هناك
قربان، واذهب صالح أخاك، ثم عُدّ وقدّم قربانك" ( متى5/23).
هذا هو شرط العبادة لله، وإلا كانت من الشفاه.
لقد اخذ الله مبادرة الغفران هو اولاً، فانحدر من الوهيته
الينا وصالحنا.
قبل ان ينشىء سرّ القربان، ذبيحة الفداء الاسرارية، ووليمة الحياة
الجديدة، انحنى يسوع على اقدام الاثني عشر وغسل ارجلهم، وطهّرهم
بحبه الوضيع.
في مثل الخادم العديم الرحمة ( انظر متى 18/23-35) بيّن يسوع كيف
ان سيده ترك له دينه الكبير، عشرة آلاف دينار لأنه سأله الرحمة له
ولعائلته لعدم قدرته على الايفاء، بينما هو لم يشأ ان يترك دين
رفيقه بماية دينار، وكان يتوسّل منه الرحمة. ويقول الرب يسوع ان ما
علينا ان نتبادل الغفران عنه هو دائماً اقل بالنسبة الى جودة الله
الذي يغفر لنا.
ومن اعلى الصليب، غفر يسوع لصالبيه بصلاة الى الآب: " يا ابتِ اغفر
لهم، لانهم لا يدرون ما يفعلون" (لو23/43)، وغفر للص اليمين عندما
تاب اليه: " تكون معي في الفردوس" (لو23/43).
الخطيئة واقع وقوة تتسبب بالهدم، فيجب تجاوزها واصلاحها والشفاء
منها. الغفران هو اكثر من تجاهل الخطيئة ونسيانها. ان له ثمناً
يتوجب اولاً على من يغفر، اذ عليه ان يتجاوز هو في نفسه الشر الذي
اُنزل به، فيحرقه في داخل نفسه، ويجدد نفسه، لكي يُدخل الخاطىء في
عملية التغيير والتطهير الداخلي. واذ يتألم الاثنان من الشر
بتجاوزه فأنهما يتجددان (يسوع الذي من الناصرة، صفحة 190). يقول
الكردينال جون هنري تيومان: استطاع الله ان يخلق العالم كله من
العدم بكلمة، اما خطيئة البشر وآلامهم فاستطاع تجاوزها فقط بجعل
ذاته في الابن الوحيد رجل آلام، فحمل هذا الثقل وتجاوزه بهبة ذاته.
ان تجاوز الخطيئة يقتضي ثمن التزام الصليب، والتزام الذات الكامل.
لا يغفر إلا الذي يدخل في الشركة مع هذا الذي حمل ثقل الجميع( يسوع
الذي من الناصرة، صفحة 192).
هذا ما فعله يسوع مع سمعان الفريسي والحاضرين والمرأة الخاطئة.
وهذا ما فعلته هذه الاخيرة بما قامت به من مبادرات.
" اغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفر لمن خطىء الينا"
هي صلاة كريسولوجية، تذكّرنا بالمسيح الذي من اجل الغفران دفع
الثمن بانحداره الى بؤس الوجود البشري، وبالموت على الصليب؛
وتدعونا لنزيل الشر بالحب ونلغيه بالألم؛ وتعطينا العزاء الكبير
بأن ضعفنا الذي يجعلنا مديونين كل يوم، وعدم قدرتنا على الغفران،
مأخوذان بقوة حب المسيح الذي به ومعه نصبح قوة شفاء (المرجع نفسه).
****
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
من "المعجم بالتعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة
والحياة والقضايا الاخلاقية"، نتناول موضوع " حرية الخيار"
الذي يعالجه كل من
William E.
May
( المعجم، صفحة 287-300)، وجوزف وميكل
Meaney
(المعجم، صفحة 363-373).
" حرية الخيار" او " الخيار الحرّ"
تعبير ملتبس لانه ينطوي على حق المرأة في اختيار الاجهاض، وعلى
واجب الشرع ان يحترم هذا الحق. كما ينطوي على حق الفرد في تناول
المخدرات واختيار الموت اي الانتحار المساعَد. ان " حرية الخيار"
تساهم في نشر" ثقافة الموت" وخيار الموت، والعداء للحياة.
فما هو " الخيار الحر" في ضوء الوحي المسيحي؟
يعلمنا الوحي الالهي ان الشخص البشري، المخلوق على صورة الله
ومثاله، مزدان بحرية الخيار، لكي يتمكن من الدخول في علاقة مع الله
الذي يكشف له ذاته. بخياره الحر، يستطيع الانسان ان يكسب حياته او
يهدمها. فلكي تكون حياة الله الثالوث وحبه هبة حقيقية
للانسان، يجب ان يقبلهما الشخص البشري بخيار حرّ. وكما هما ثمرة
خيار حرّ من الله في الوحي والهبة، ينبغي ان يقبلهما الانسان بخيار
حرّ، فلا تفرضان عليه فرضاً، ولا تُقبلان كرهاً.
يؤكد كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ان " الله
خلق الانسان عاقلاً، ومنحه كرامة الشخص المزيّن بالسيادة على
افعاله، " اذ ترك الله للانسان مشورة نفسه" ( ابن سيراخ15/14)، لكي
يتمكن من البحث عن خالقه، ومن البلوغ الى ملء الكمال السعيد
بالاتحاد الحرّ به" (عدد1730).
وتؤكد الكتب المقدسة وآباء الكنيسة والتقليد الكاثوليكي قدرة الشخص
البشري على حرية الخيار، التي يسمًيها المجمع المسكوني الفاتيكاني
الثاني " علامة ساطعة للصورة الالهية في داخل الانسان" (الدستور
الراعوي" الكنيسة في عالم اليوم، 17).
يصف القديس غريغوريوس النيصي حرية الخيار بانها القدرة
المعطاة للانسان "ليخلق ذاته"، فيقول:
" كل الكائنات المعرضة للتحول والتطور لا تثبت ابداً على حال، إنما
هي في مخاض مستمر ينتهي الى الافضل او الى الاسوأ... الحياة
البشرية في تحوّل مستمر، وبما انها ليست أبدية، غير قابلة التغيير،
هي في ولادة مستمرة، ولادة لا تتم بتدخل من الخارج كما في الولادة
الجسدية، بل أن ولادة كل احد تتم بخياره الخاص، فيكون كما لو كان
كل منا اباً لنفسه، نلد ذاتنا كما نريدها بخيار حر" (البابا يوحنا
بولس الثاني: تألق الحقيقة،71).
مؤسف ان تحوّل ثقافة اليوم " حرية الخيار" الى ردّة فعل تسعى
للحصول على تشريع الاجهاض والقتل الرحيم، وان تستعمل كل الوسائل
لنشر هذه الايديولوجية الخالية من اي اساس علمي وخلقي.
انطلقت هذه الذهنية ما بين السنوات الستين والسبعين في الولايات
المتحدة الاميركية، عندما سعى القادة الاميركيون الى تشريع الاجهاض،
فأنشأوا "الجمعية الوطنية لالغاء القوانين المحّرمة للاجهاض". وبعد
ان شرّعت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الاجهاض سنة 1973،
راح دعاة الاجهاض يعملون على تجنب الاشارة اللفظية الى الاجهاض في
شرعة حركتهم. فاستبدلوا اللفظة بعبارة "Pro
choice"-
" من اجل الخيار". وهكذا حوّلوا الانتباه عن جريمة القتل المشرّعة
الى عملية تحرير انساني.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي العشرين: الكنيسة
المارونية والشأن الاجتماعي"، وتحديداً الحقوق الاجتماعية الاساسية
التي يحتاجها المجتمع الذي تصبو اليه الكنيسة. نذكر منها اثنين:
1) الحق في بناء عائلة
هو الحق في بناء الخلية الاساسية والمؤسسة الاولى التي تتكّون منها
الحياة الاجتماعية وتتجسّد فيها. كل تزعزع في العائلة ينعكس حتماً
على ثبات المجتمع وسلامته وتطوره وتماسكه، ذلك ان الروابط التي
تجمع اعضاء العائلة الواحدة وعائلات المجتمع الواحد لا تتوقف عند
حدود الروابط العاطفية والحبّية، بل تتعداها الى روابط اجتماعية
وسياسية واقتصادية.
من حق العائلة في لبنان على المجتمع ان يعتني بها، لانها
متروكة لذاتها تجابه وحيدة مشاكلها. تحتاج من المجتمع ان يؤمن لها
ضماناً فاعلاً وكافياً للطبابة، وضماناً للعمل ومحاربة البطالة،
وضماناً للشيخوخة، وسياسة اسكانية.
ولا بدّ من مساعدة العائلة لحلّ مشكلة قلّة الانجاب وقلّة
الزيجات وكثرة الهجرة وضعف التعلّق بالارض وضياع الاجيال الطالعة
والشبيبة وتدني الاخلاق العامة وتفشي الفساد (الفقرات 28-30).
2) الحق في السكن
البيت اساس المجتمع المستقر والثابت. فالبيت يؤمّن الاطار
الطبيعي لنمو الانسان والعائلة، حسياً وروحياً ومعنوياً
واجتماعياً. لان في البيت تُنسج العلاقات الانسانية والاجتماعية،
وفي البيت تتواصل العادات والتقاليد، وفيه تُنقل القيم من جيل الى
جيل.
يعاني معظم اللبنانيين من مشكلة السكن بسبب الهجرة والتهجير
والفقر والبطالة وعدم الاستقرار الامني، والسياسي والاقتصادي.
فكانت من نتائج هذه المعاناة تأخر عمر الزواج والاحجام عن الزواج
نفسه، وفشل العديد من الزيجات، وتراجع القيم الخلقية في العائلة
وتدني الاخلاق ومفهوم الحب والجنس.
فلا بدّ من معالجة معضلة السكن، ومن خطة راعوية شاملة تنقذ
الزواج والعائلة والشبيبة. الكنيسة، من جهتها، تلتزم وضع امكاناتها
في سبيل عمل مشترك بين المؤسسات الرسمية والقطاع الخاص والمؤسسات
الكنسية لاحياء سياسة اسكانية من اجل المحافظة على مؤسسة الزواج
والعائلة، ضمانة " لمستقبل مستقر وزاهر" ( الفقرات 31-33).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، كما دخلتَ بيت سمعان الفريسي حاملاً
الغفران والمصالحة، نتوسل اليك ان تدخل كل بيت ومجتمع لكي، من خلال
لقائك بابنائه وبناته، يستنير الجميع بنور الحقيقة وتضطرم القلوب
بالمحبة. وحدها الحقيقة والمحبة تحمل الى التوبة، وتؤدي الى
المصالحة. ولتكن خياراتنا الحرة في افعالنا ومبادراتنا لصالح
الانسان والمجتمع، بدءاً من حماية الحياة البشرية الناشئة. واجعلنا
نعمل من اجل تعزيز العائلة، نواة المجتمع وخلية الكنيسة والوطن.
انت يا رب قدّست العائلة وافتديت الحب الزوجي واطلقت الاسرة من
جديد من اجل مستقبل للبشرية أفضل. لك الحمد والشكر ولابيك المبارك
وروحك الحي القدوس الى الابد. آمين.
الاحد 9 ايلول 2007
الاحد السادس عشر من زمن العنصرة
الصلاة مسلك وموقف
انجيل القديس لوقا
(18/9-14)
قال الرب يسوع هذا المثل لأناس يثقون في انفسهم أنهم أبرار،
ويحتقرون ألاخرين:"رجلان صعدا الى الهيكل ليصليا، أحدهما فريسي
والآخر عشار. فوقف الفريسي يصلي في نفسه ويقول: أللّّهم، أشكرك
لأني لست كباقي الناس الطماعين الظالمين الزناة، ولا كهذا العشار.
إني أصوم مرتين في الاسبوع، وأؤدّي العشر عن كل ما أقتني. أما
العشار فوقف بعيداً وهو لا يريد حتى أن يرفع عينيه الى السماء، بل
كان يقرع صدره قائلاً: أللّهم، إصفح عني أنا الخاطىء أقول لكم إن
هذا نزل الى بيته مُبرراً، أما ذاك فلا لأن كل من يَرفّعُ نفسه
يُواضع، ومن يُواضعُ نفسهُ يُرفَع".
نختتم اليوم زمن العنصرة بانجيل الصلاة التي تحدد العلاقة بين
المؤمن وربه، وبينه وبين اخيه الانسان. فالصلاة مسلك يعيشه
الانسان امام الله مدركاً كم هو بعيد عن قداسة الله، فيلتمس
الغفران بتواضع وانسحاق، كما فعل العشار. والصلاة موقف
للانسان تجاه اخيه الانسان، قائم على غضّ النظر عن نقائصه، وعلى
التفهمّ بروح الرحمة، خلافاً لِما فعل الفريسي. الصلاة – المسلك
امام الله والموقف تجاه الانسان هي الوسيلة للتبرير والتجدد.
1.
الصلاة مسلك امام الله
" اللهم ارحمني انا الخاطىء"
( لو8/13).
العشار الخاطىء اتخذه الرب يسوع في هذا المثل ليبيّن لنا ان اساس
الصلاة القلب المتواضع: : "من الاعماق دعوتك يا رب" ( مز
130/1). وقف العشار عن بعد في الهيكل ولم يشأ ان يرفع عينيه حتى
الى السماء وراح يقرع صدره. بهذا القلب المتواضع رفع نفسه
الملطخة بالخطايا والشرور نحو قداسة الله، مقرأ بشرّه وملتمساً
الغفران.
الصلاة- المسلك امامك الله هي حياة قبل ان تكون كلمات: هي
تواضع القلب وارتفاع النفس نحو قداسة الله، وهي اقرار بالضعف
والخطيئة: " لك وحدك خطئت والشر قدامك صنعت" ( مز50/1)، واقرار
بقداسة الله اللامتناهية: " قدوس قدوس قدوس، السماء والارض
مملوءتان من مجدك العظيم"، وهي التماس رحمة الله: " ارحمني يا الله
كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امح مآثمي، اغسلني كثيراً من اثمي
ومن خطيئتي طهرني ( مز 50/ 9).
الصلاة عطش الى الله
يقابله عطش الله الى خلاص الانسان. هذا عبّر عنه يسوع للمرأة
السامرية: " لو كنت تعرفين من هو هذا الذي يقول لك: اعطيني لاشرب،
لكنتٍ انت تسألينه، ولكان هو يعطيك الماء الحي" ( يو4/10).
الصلاة حوار مع الله
ينير ويغيّر مسلك الانسان. حاور يسوع المرأة السامرية وحاورته هي:
بدأ الحوار متعثراً: " كيف وانت اليهودي تطلب مني ان اسقيك،
وانا المرأة السامرية، لان اليهود لا يخالطون السامريين" ( يو4/9).
كم من موقف جفاء وابتعاد وعتاب بين الانسان والله، وفقاً لظروف
الحياة! وانطلق هذا الحوار مشككاً: " ليس لك دلوٌ والبئر
عميقة، فمن اين لك الماء الحي؟ أانت اعظم من ابينا ابراهيم؟" (
يو4/11-12). كم من تشكيك عندنا في قدرة الله امام مقدرة المال
والسلاح والنافذين، وامام الحالة الزريّة التي بلغنا اليها شخصياً
او اجتماعياً وسياسياً! ويتواصل الحوار بشيء من السخرية: "
اعطني من هذا الماء، حتى لا اعطش ابداً واجيء الى هنا واستقي
بدلوي" ( يو 4/15). ماء الحياة الذي يعطيه يسوع لحياة النفس لا
يغني عن الماء المادي لحياة الجسد. هذه هي الصلاة من الشفاه، كلمات
حلوة وعظيمة لكنها لا تصعد من القلب، ولا تتلاءم مع شرّ المسلك
والاعمال: " هذا الشعب يكرمني بشفتيه وقلبه بعيد عني، فباطلاً
يعبدونني" (متى15/8-9). ثم ينتقل الحوار الى الكذب: " ليس
لي زوج"، بينما لها خمسة ازواج والذي معها حالياً ليس زوجها
(يو4/17-18). كم نكذب على الله في اعترافاتنا وفي تعاملنا، وفينا
ظنٌّ ان الله بعيد لا يعرف ولا يرى! ولكن تأتي ساعة يفتح الله
عينيك على ذاتك في ضوء معرفته وقداسته، كما جاء جواب يسوع للسامرية،
فيصبح الحوار اقراراً بحقيقة الله: " يا سيدي ارى انك نبي"
(يو4/19). ويتخذ الحوار منحى آخر على مستوى الله، فسألته
السامرية عن " العبادة الحقيقية لله"، فاجابها انها " بالروح
والحق"، وان الله يريد مثل هذه العبادة ( يو/25). ويصبح الحوار
مزيداً من الاستفسار وطلباً للمعرفة لارواء عطش النفس" " انا
اعلم ان المسيح سيأتي، وحين يأتي هو يعلمنا كل شيء" ( يو4/25).
وهكذا بلغ الحوار ذروته، فاجابها يسوع: " انا هو، انا الذي يتكلم
معك" ( يو4/26). وينتهي الحوار بالايمان والارتداد.
والبتغيير: تركت المرأة جرّتها، نسيت حاجتها المادّية، ارتوت نفسها
فشبعت، وراحت تدعو الناس الى معين الماء الحي: " هلموا انظروا
رجلاً قال لي كل ما فعلتّ ! لعلّه هو المسيح". فخرج الناس من
المدينة واتوا اليه، وطلبوا منه ان يمكث عندهم، فمكث عندهم يومين،
وآمن به كثيرون لكلامه (يو4/29-30؛40-41). هؤلاء جميعاً حاورهم
يسوع وحاوروه في ذينك اليومين، فاقرّوا: " اننا سمعنا وعرفنا ان
هذا هو المسيح حقاً، مخلص العالم" (يو4/42).
2.
الصلاة موقف تجاه الانسان
التواضع امام الله تواضع مع الانسان، والتكبّر امام الله تجبّر على
الانسان واحتقار واهمال. هذه مشكلة الفريسي في صلاته. فيما
العشار وقف بعيداً منخفض العينين نحو الارض ويقرع صدره نادماً
مستغفراً، تقدّم الفريسي الى الامام وانتصب امام نفسه متباهياً: "
اشكرك يا الله لاني لست كباقي الناس الخطفه الفجار ولاكهذا العشار،
بل اصوم في الاسبوع مرتين واعشّر جميع مالي" (لو18/11-12).
ليست الصلاة تباهياً بالذات واحتقاراً للغير. ولا هي اتكال على
الذات واكتفاء ذاتي واعتداد بالبرارة واحتقار للناس ( انظر
لو18/9).
بل الصلاة موقف صالح تجاه الانسان،
يعكس المسلك النقي امام الله. وهذا ما يبرر الانسان ويقدسه
ويخلّصه. هذه هي الامثولة التي اعطاها الرب في مثل الانجيل: " اقول
لكم ان العشار نزل الى بيته ابرّ من الفريسي. لان كل من يرفع نفسه
يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (لو18/14).
عندما سقط سمعان – بطرس على قدمي يسوع صارخاً: " تباعد عني
يا رب فاني رجل خاطي"، امام معجزة صيد السمك، وكان قد شكك بكلام
يسوع، رفعه الرب وقال له: " لا تخف، فمن الآن تكون تصطاد الناس
للحياة" ( لو5/8 و10).
لقد اصبح بطرس راعي الرعاة ومثبّت الاخوة في الايمان.
وعندما سقط شاول- بولس مضطهد المسيح والكنيسة، على الارض في طريقه
الى دمشق، وسأل الصوت الذي ناداه: " من انت يا رب؟ ماذا تريد ان
افعل؟" قال له يسوع: "انهض وادخل المدينة. وهناك يقال لك ما عليك
ان تفعل". وقال الرب عنه لحننيا الكاهن: " هذا اخترته لي اناء
مصطفى، ليحمل اسمي امام الامم والملوك وبني اسرائيل. واني سأريه كم
سيتألم لاجل اسمي" ( اعمال 9/15).
لقد اصبح بولس رسول الامم والشعوب داعياً الجميع الى انجيل الخلاص
ومعرفة الحق.
***
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
نواصل تناول موضوع " الخيار الحرّ" –
Pro Choice
الذي يعالجه كل من جوزف وميكل
Meaney
ووليم
May
في " المعجم بالتعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة
والحياة والقضايا الاجتماعية" (الصفحات287-300؛363-373).
"الخيار الحرّ"
لفظة واضحة في معانيها، لكنها استُعملت بشكل ملتبس لتعني خيار
المرأة الحرّ في تعمّد الاجهاض. ان مروّجيها لا يستعملون التعبير "
خيار حرّ من اجل الاجهاض او ضد الاجهاض"، بل فقط: " الخيار الحرّ،
ليبيّن انهم المثل الاحدث والايجابي للتحرير البشري.
وصف الكردينال لوبيز تروخيليو، رئيس المجلس الحبري للعائلة، هذا
التلاعب الثقافي كالآتي: " الغاء الأضعف بيننا يظهر وكأنه ممارسة
شريفة للحرية، وعملاً رفيعاً من الحضارة لصالح النساء بنوع آخصّ.
كل هذا مقنّع بتعبير
Pro Choice-الخيار
الحرّ. ان ايديولوجية الموت هذه غير مقبولة، وهي تفرض نفسها فرضاً؛
انها مستوردة ومحوَّلة الى خطاب امبريالي يهدم كل ما سبقه" (
العائلة والحياة والانجلة الجديدة، سنة 2000، صفحة 228).
يستعمل مروّجو" الخيار الحرّ"، بمفهومه السلبي، بوجه المعارضين
الصامدين من ابناء الكنيسة وبناتها الملتزمين بالموقف المضاد
للاجهاضن الوسائل الاعلامية وصناعة الادوية. لقد اصبحت الحركة
المروّجة للاجهاض مركزاً للاجهاض ولما يسمى " جمعية مساعدة الاهل"،
و"مركز التصميم العائلي". بالنسبة اليهم الولد المنتظرة ولادته
اصبح " سلعة" او " انتاج الحَبَل" او " مضمون الرحم". وهكذا امسى
عندهم " قتل طفل تُنتظر ولادته " فعلاً او تدخلاً طبّياً"، وامسى "
نهاية حَبَل" او " ايقاف الحمل طبياً". وصار الجنين من بعد " لا
فرداً" ولا عضواً في الاسرة البشرية، بل و " عنصر ازعاج لامه" لان
من حقها ان تسود على جسدها.
وهكذا فصلوا بين فكرة الاجهاض وجريمة قتل انسان.
انهم لا يقدّمون اي برهان علمي للتأكيد ان الحياة البشرية في مراحل
نموها " ليست شخصاً"، بينما نعرف من الوحي الالهي والعلم ان الحياة
البشرية " شخص بشري" منذ اللحظة الاولى للحبل. سيدتنا مريم
العذراء عصمها الله كشخص من خطيئة آدم في اللحظة الاولى للحبل
بها في بطن امها حنّه كسائر الناس. ويوحنا المعمدان هو ابن
الوعد الالهي منذ اللحظة الاولى للحبل به في بطن امه العجوز
والعاقر اليصابات. وسيدنا يسوع المسيح هو الكلمة الالهي،
ابن الله الحي، الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس، الذي حبلت به
مريم الكلية القداسة واتخذ منها الطبيعة البشرية.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تنهي الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي العشرين: الكنيسة
المارونية والشأن الاجتماعي، وتحديداً في القسم الاخير المختص
بالحقوق الاجتماعية الاساسية، الواجبة لكل فرد وجماعة في المجتمع
وهي، بعد الحق في بناء عائلة والحق في السكن اللذين بحثنا فيهما
سابقاً، الحق في العمل والحق في الصحة والطبابة والحق في التعليم
والثقافة (الفقرات 34-37).
1.
الحق في العمل
من حق الانسان ان يعمل جسدياً ومادياً ليبقى، ونفسياً ليتوازن
وينضج، وخلقيا ليثبت ويقوى. ومن حق المجتمع ان يعمل الانسان لكي
ينمو المجتمع ويتطوّر ويُنتج، ولكي تتأمن العدالة الاجتماعية
والتوزيعية.
يكشف النص المجمعي اربع اشكاليات تختص بالحق في العمل:
1)
مشكلة البطالة
الناتجة عن الازمة الاقتصادية والسياسية والامنية التي تتسبب
بالهجرة، وتتفاقم المشكلة من جراء مزاحمة اليد العاملة الاجنبية،
واغراق سوق البلاد بالسلع والمنتوجات الخارجية.
2)
الخلل الكبير في سوق العمل
بسبب اخضاعه حصراً لنظام العرض والطلب، من دون اي اعتبار لبنية
القوى العاملة ونوعيتها.
3)
قلة الاقبال على التعليم المهني والتقني،
بالرغم من الحاجة الماسّة الى اختصاصيين فنيين. فلا بدّ من توجيه
سليم نحو هذا القطاع الحيوي، ومن تحسين مستواه العلمي.
4)
عدم تناسب الاجر مع المستوى المعيشي
وتدني الخدمات العامة الجيّدة والمجاّنية مثل التعليم والتطبيب
وتقديمات للسكن وتسهيل المواصلات العامة.
يقترح المجمع حلولاً لضمانة الحق في العمل منها: تنظيم جديد لسوق
العمالة وقانون العمل، تنظيم العمل النقابي على اسس مهنية وقطاعية
لا سياسية، تحديد اجر عادل، تصويب عمل مؤسسات الضمانات والخدمات
الاجتماعية.
2.
الحق في الصحة والطبابة
حق الانسان بالتمتع بالصحة حق مطلق ويشمل: الحق بحماية المجتمع له
من التعرّض للامراض بسبب التلوّث البيئي، والحق بسبل العلاج
الصحيح. ومعلوم ان هذا الحق اذا تأمن يكون لصالح المجتمع اذ يستفيد
الكثير الكثير من افراده الاصحاء والاقوياء.
المشكلة في لبنان ان الكثرة الكبيرة لا تستفيد من الضمان الصحي، ما
يرغم المواطنين على الاستدانة الباهظة ليتطببوا، هذا اذا قدروا.
كما ان الوقاية شبه معدومة والاوبئة مستشرية في الماء والهواء.
ان الكنيسة تعمل مع مؤسساتها الاستشفائية على ان تتسع للفقراء
والمعوزين.
3.
الحق في التعليم والثقافة
هذا حق اساسي من حقوق الانسان الاولية. وفي لبنان يشكل التعليم
والثقافة الثروة شبه الوحيدة. يشير المجمع الى قضيتين:
الاولى مادية
تتعلق بتكاليف التعليم والثقافة، ما يتسبب باحجاف وطبقية في
المجتمع، وبؤثر على حجم الاسرة ويؤخّر عملية انماء الشخص البشري
والمجتمع.
الثانية ثقافية تختص بتدني المستوى التعليمي
والثقافي، وضعف في برامج التعليم، الامر الذي يُفقد شيئاً فشيئاً،
اذا استمر، ميزة لبنان وثروته الثقافية ودوره الرائد في هذا
المجال.
ان الكنيسة المارونية تلتزم بأن تعمل، من خلال مؤسساتها
وابنائها وبناتها وذوي الارادة الحسنة، على تأمين هذه الحقوق،
فترسم خط عملها وتحدد مواقفها على مستوى القيم والاخلاق (
فقرة 39)، وعلى مستوى الاشخاص (فقرة 40 و41)، وعلى مستوى
التطلعات ( فقرة 42). وتهدف في كل ذلك الى توفير الاطمئنان
لابنائها وسواهم، ليعيشوا في حياة فضلى، فيكون لهم ايمان اقوى
والتزام أعمق ( فقرة 43).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، تعال لملاقاتنا في هيكلك وعلى بئر همومنا
ومشاغلنا، لندخل في حوار معك بصلاة تنير منا العقول، وتفتح الضمائر
لسماع صوت الله في اعماق النفس، وتحرك القلوب اليك. افتح عيوننا
لنراك على دربنا فنحاورك بصلاة خاشعة تبدّل مسلكنا امام الله،
وتصحح موقفنا تجاه الناس. اعطنا ان نحترم كل حياة بشرية في جميع
مراحل نشأتها ومسارها، فنعطي كل واحد حقوقه الاساسية، " فيصير
الانسان مجد الله الحي". للثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس
التسبيح والشكر الى الابد. آمين.
|