ليلة ميلاد الاله، ابن الله، انساناً متخذاً في التاريخ اسم يسوع
المسيح، أنشد الملائكة " المجد لله في العلى وعلى الارض السلام
والرجاء الصالح لبني البشر" (لو2/14). فظهر مجد الله بشخص يسوع
المسيح، على ان يظهر في كل انسان حيٍ مستنير بسرّ الكلمة المتجسّد.
لكن هذا المجد وهذه الاستنارة لن يتمّا، ما لم " يملأ سلام
المسيح قلوب البشر" ( كولسي 3/15). اما الرجاء فهو ان سلام
المسيح سيملأ القلوب، وسيستعيد الانسان بهاء صورة الله فيه، فيسطع
من خلاله مجد الله في العالم.
ان العدد التاسع من سلسلة التنشئة المسيحية لزمن الدنح او
الغطاس يكشف سرّ المسيح وسرّ الانسان. ويعطي لمحة عن وجوه من
البشر القديسين الذين " ملأ سلام المسيح قلوبهم" فكانوا فاعلي سلام
على ارضنا، وتلألأ فيهم مجد الله. ويكرّس للخطة الراعوية النص
الثاني من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان: " هوية
الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها"، من اجل تقبّل هذا
النص والعمل معاً على تطبيقه في حياة الافراد والجماعات.
نأمل ان تبلغ التنشئة المسيحية الى هدفها الاخير وهو " ان يملأ
سلام المسيح قلوب جميع الناس".
+ بشاره الراعي
مطران جبيل
الاحد 31 كانون الاول 2006
احد وجود الرب في الهيكل
العائلة مكان تجليات الله
من انجيل القديس لوقا
2/41-52.
كان أبوا يسوع يذهبان كل سنة في عيد الفصح الى اورشليم. ولمّا
بلّغ يسوع اثنتي عشرة سنة، صعدوا معاً كما هي العادة في العيد.
وبعد انقضاء أيام العيد، عاد يوسف ومريم، وبقي الصبيّ يسوع في
اورشليم، وهما لا يدريان. وإذ كانا يظنان أنه قي القافلة، سارا
مسيرة يوم، ثُمّ أخذا يفتشان عنه بين الأقارب والمعارف. ولم يجداه،
فعادا الى اورشليم يفتشان عنه. وبعد ثلاثة أيام، وجداه في الهيكل
جالساً بين العلماء، يسمعهم ويسألهم. وكان جميع الذين يسمعونه
منذهلين بذكائه وأجويته. ولمّا رآه أبواه بهتا، وقالت له أمه: " يا
بُنيّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ فها أنا وأبوك كنا نطلبك متوجعين!".
فقال لهما: " لماذا تطلبانني؟ ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون في ما
هو لأبي؟". أما هُما فلم يفهما الكلام الذي كلمهما به. ثُمّ نزل
معهما، وعاد الى الناصرة، وكان خاضعاً لهما. وكانت أمه تحفظ كل هذه
الأمور في قلبها. وكان يسوع ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند
الله والناس.
***
في
حدث ضياع يسوع ووجوده في هيكل اورشليم وكلماته، وهو في الثانية
عشرة من العمر، كان اعتلان لبنوة يسوع الالهية، واستباق لسرّ
الفصح، الآلام والموت والقيامة. وفي عودة يسوع مع والديه الى
الناصرة ونهج حياته تنكشف قيمة الاسرة وقدسيتها. يضفي هذا الحدث
على بداية السنة الجديدة، التي يسبقها بيوم واحد، قيمة خاصة يبرزها
موضوع نداء قداسة البابا لليوم العالمي للسلام في اول كانون الثاني
2007: " الشخص البشري: قلب السلام".
اولاً، مضمون الانجيل
1.
الحدث وايحاءاته
كانت الشريعة اليهودية تقضي بالصعود
الى اورشليم ثلاث مرات في السنة للمشاركة في احتفالات الفصح
والعنصرة والمظال (خروج23/14-17؛34/18-23): الفصح او عيد
الفطير يحتفل به في 14 نيسان، والعنصرة او عيد الحصاد او
الاسابيع، بعد سبعة اسابيع او خمسين يوماً من الفصح لختام الحصاد
ولذكرى قبول شريعة الله في سيناء، والمظال او عيد الاكواخ
في ختام موسم القطاف في الخريف.
لكن الشريعة كانت تستثني من هذا
الإلزام من ليسوا قادرين لاسباب قاهرة مثل طول المسافة والحالة
الشخصية والعمر. فلا يوسف كان ملزماً بالذهاب الى اورشليم
بسبب المسافة بين الناصرة واورشليم التي تستدعي ثلاثة ايام سفر،
فيما الشريعة تحدد الالزام ضمن مسافة يوم واحد اي 30كلم؛ ولا
مريم لكونها امرأة؛ ولا يسوع لانه دون الثالثة عشرة من
العمر الذي تحدده الشريعة للالزام. ومع هذا كانت عائلة الناصرة
" تذهب الى اورشليم كل سنة في عيد الفصح"، بداعي التقوى،
فالروح القدس " يهبّ حيث يشاء، ولكن لا ضدّ الشريعة بل فوق
الشريعة، وبداعي تربية يسوع على حفظ الشريعة باشراكه في
الحفلات الطقسية والموجبات الدينية، قبل بلوغ السّن الملزم.
تسبب ضياع يسوع بألم شديد
لابيه وامه دام ثلاثة ايام: " ها انا وابوك كنا نبحث عنك بغمّ
شديد". فتذكّرا نبوءة سمعان الشيخ لمريم عندما قدّما الطفل للرب في
هيكل اورشليم في اليوم الاربعين لمولده: " اما انتِ، فيجوز قلبكِ
رمح" (لو2/35). هذه مرحلة اخرى من مراحل المشاركة في آلام
الفداء، بعد حالة الفقر والحرمان في الميلاد، والهرب الى مصر
ليلاً وخوف ومشقات وهواجس، ثم العودة الى البيت المهجور في الناصرة
(متى2/14-23). لقد ادخلهما يسوع في تصميم الآب الخلاصي: " اما
تعلمان انه ينبغي لي ان اكون في ما هو لابي".
لما وجداه في الهيكل بين العلماء يسمعهم ويسألهم اندهشا كما اندهش
جميع الذين كانوا يسمعونه. كان علماء الشريعة يعرضون الكتب المقدسة
على الشعب، رجالاً ونساءً واولاداً، ايام السبت والاعياد الكبرى،
معتمدين اسلوب السؤال والجواب. فكان الانذهال من حكمة الفتى
يسوع: فهو حكمة الآب المتجسدة، وكأنه بدأ نشاطه المسيحاني
بكل نجاح. فستقول عنه يوماً الشرطة التي كُلفت القبض عليه وأحجمت:
"لم يتكلم قط انسان، كما يتكلم هذا الرجل"( يو7/46).
الهيكل حيث
وجداه هو المكان الذي تحفظ فيه الحكمة. فتمت فيه كلمة يشوع بن
سيراخ قالها قبل 200 سنة من ميلاده: " انا الحكمة من فم العلي
خرجت، قبل الدهور ومنذ البدء خلقني والى الدهور لا ازول. في هيكل
قدسه امامه خدمت.
فتأصلت في شعب مجيد. كالارز في لبنان ارتفعت،
وكالسرو في جبال حرمون وكغراس الورد في اريحا" ( ابن سيراخ 24/3
و9-14). في بيت الله، الكنيسة، نصغي الى الحكمة الالهية، اذ
يقول القارىء في الطقس البيزنطي:
"
الحكمة فلننتصب ونصغ". وعند دخول بيت الله والاستعداد للاصغاء يقول
الكاهن في الطقس الماروني: "دخلت بيتك يا الله، وفي هيكلك سجدت".
لفظة هيكل، في السريانية – الارامية "بيما "، تعني المكان
الذي تعلن منه كلمات الحكمة الالهية، القراءات والكرازة. والسجود
يعني الاصغاء بالروح والحق" (يو4/23)، فيقف الشعب وتضاء
شمعتان؛ ويعني انحناء الجسد امام الرب، وخضوع العقل للحقيقة
الموحاة، واعتراف اللسان، والتزام الارادة، وتعظيم القلب لعجائب
لله، والاشادة بحبه: " كونوا في السكوت لان الانجيل المقدس يتلى
الآن عليكم، فاسمعوا ومجدوا واشكروا كلمة الله الحي". لكن الهيكل
الحجري المخصص لله رمز لجسد المسيح: " اهدموا هذا الهيكل وانا
ارفعه في ثلاثة ايام" (يو2/19)، ولهيكل الله الذي حجارته الحيّة هم
المؤمنون: " انتم هيكل الله لان روح الله ساكن فيكم"
(1كور3/16).
ان جواب يسوع:
" اما تعلمان انه ينبغي عليّ ان اكون في بيت ابي"؟ يشكل ظهوراً
الهياً، اذ يعلن الصبي يسوع وعيه الشخصي " انه ابن الله" ويعترف
بلسانه ما سبق واعلنه الملاك لمريم (لو1/32). فحدد الفرق بين ابيه
بالطبيعة الالهية الذي هو الله ويدعوه " ابي"، وابيه
بالشريعة الذي هو يوسف وتقول عنه مريم " ابوك". وفي جوابه
اعلن وعيه لرسالته الالهية، وكشف القيمة الاولية لطاعته للآب الذي
هو فوق كل سلطة بشرية اخرى، واكّد ان ارادة الله تفوق كل روابط
الدم: " من يعمل بمشيئة الله هو اخي واختي وامي" (مر4/35). سيقول
جبران خليل جبران: " اولادكم ابناء الحياة. هذا يعني، في ضوء جواب
يسوع، ان لكل ولد دوراً في تصميم الآب الازلي، سيد الحياة
والتاريخ، وان الحياة العامة تفصل الاولاد عن وصاية والديهم عند
بلوغهم الثامنة عشرة من العمر. وهكذا يصبحون في " بيت الآب" لا في
بيت والديهم، في عالم الله الفسيح لا في حدود النسب والاسرة
الصغيرة. انه العبور من الخاص الى العام، ثم من البيت
الارضي الى بيت الآب في السماء، وهو العبور الاخير:
" ان كان بيتنا الجسدي الذي في الارض ينحل، فان لنا بنياناً من
الله، بيتاً لن تصنعه الايدي، ابدياً في السماء" (2كور5/1). المهم
ان نحسن العبور في هذه الدنيا وفي الاخرة. وحده يسوع المسيح هو
طريق العبور.
اما " القيمة النبوية" للحدث
ولكلمات يسوع والايحاءات فلم يفهمها يوسف ومريم، لكنهما قبلاها
بايمان ليتعمقا فيها، وسيكتشفانها شيئاً فشيئاً مع الزمن: " كانت
امه تحفظ كل هذه الكلمات في قلبها". ان احداث الحياة اسرار ينبغي
ان نقبلها ونقرأها في ضوء الانجيل.
2.
استباق الفصح
كان الحدث والكلمات صورة للفصح الاخير
وهو " عبور يسوع من هذا العالم الى الآب" (يو13/1) بالآمه وموته
والقيامة، بعد العبور الاول من الآب الى العالم بتجسده: " والكلمة
صار بشراً وحلّ بيننا، فرأينا مجده، المجد الذي له من الآب، كأبن
وحيد مملوء نعمة وحقاً (يو1/14). كل عناصر الحدث تدلّ الى فصح
المسيح وتستبقه.
اورشليم هي مكان آلام المسيح وموته
وقيامته. الهيكل هو مكان الاحتفال بالفصح، الذي ينتهي دوره
مع قيام هيكل جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة، ومكان الاصغاء
والعبور. زمن التواجد في الهيكل كان في عيد الفصح اليهودي. ثلاثة ايام من الضياع رمز لثلاثة ايام يسوع في حالة الموت. البحث عنه بغمّ شديد هو اول " سيف" جاز في نفس مريم ويوسف،
وجعلهما شريكين في الآم الفداء لخلاص البشر، وسيبلغ ذروته في مريم
على اقدام الصليب. اولى كلمات يسوع " ينبغي ان اكون في بيت
ابي" (لو2/49) تستبق آخر كلماته على الصليب: يا ابتِ بين
يديك استودع روحي" (لو23/46)، وهي تعلن عودته ومكوثه الدائم في "
بيت الآب". عدم فهم يوسف ومريم لجواب يسوع اختبار للايمان
المتألم في مسيرة رسالة المشاركة في الفداء التي بدأت مع فقر بيت
لحم واضطهاد هيرودوس الوحشي، وانضجت ايمانهما وحبهما. حفظ
الكلمات في قلب مريم هو رمز لحبة الحنطة التي تموت في الارض
لتعطي ثمراً كثيرا" ( يو12/24)، هذا الحفظ جعل مريم ترتقي اكثر في
فهم تصميم الله الخلاصي الفائق الطبيعة.
لكن يسوع عاد فوراً
معهما من " بيت ابيه" في هيكل اورشليم الى بيت ابيه في الناصرة.
وهذا دليل على القيمة النبوية للحدث ولكلماته. فبعد الفسحة الزمنية
لفهمها وللنضوج في مسيرة الايمان والمشاركة في رسالة الفداء، عاد
يسوع الى حياته الخفية، " خاضعاً لهما" بانتظار بدء رسالته
العلنية.
في كل هذا اعتلان لسر التقوى
العظيم، سرّ المسيح، الذي تجلى بالجسد وتبرر بالروح واُعلن عنه
على انه حامل الخلاص، وآمن به العالم انه مرسل من الآب، الذي اصعده
الى السماء (1تيم3/16). انه سرّ التجسد والفداء وفصح المسيح
التام الذي يحررنا من الخطيئة، وينتصر على " سر الاثم"، ليبعث في
نفوسنا حركة توبة وارتداد، ويفتديها ويقودها الى المصالحة. " سر
التقوى" هذا يعني السلوك المسيحي القائم على التقوى والمحبة ( انظر
الارشاد الرسولي للبابا يوحنا بولس: في المصالحة والتوبة،19-21).
3.
الاسرة منبت السلام
في عائلة الناصرة، وعلى مدى ثلاثين
سنة، كان يسوع " ينمو في القامة والحكمة والنعمة امام الله والناس"
(لو2/52). ينمو في بشريته خاضعاً لابيه وامه، محاطاً بعاطفتهما
وحبهما الشديدين وقدوة حياتهما في العمل والصلاة والتأمل باسرار
الله الخفية. كان ينمو بالقامة يوماً بعد يوم من تعب يوسف
ومريم ومن عمله اليومي في النجارة، وبالحكمة باكتساب
المعرفة والخبرة والفضائل الانسانية والاجتماعية من خلال التربية
الوالدية، وبالنعمة الالهية بامتلائه من الروح القدس من
خلال الصلاة والتزامه الفرائض الدينية في كل يوم سبت.
في هذا دليل قاطع ان الانسان لا
يستطيع ان ينمو بكليته، في الجسد والنفس والافكار والافعال بدون
العيش في هذه المدرسة الطبيعية الاولى" و " الكنيسة المنزلية" التي
هي العائلة. اما المدرسة والرعية والمجتمع فكلها تأتي في المرتبة
الثانية، وفقاً لمبدأ الاستنابة، بحيث تسقي ما تكون الاسرة قد
غرست، وتعتني به. في العائلة تتهيأ دعوة الحياة وتنكشف مشاريع
الله، تحت سهر الاب ونظر الام، وعناية الاثنين، وخضوع الولد لهما.
تنبع ثقافة السلام من العائلة
حيث يلقى الشخص البشري احترام كرامته التي طبعها الله فيه، عندما
خلقه على صورته ومثاله ( تك 1/26-27). تحتفل الكنيسة في اليوم
الاول من كانون الثاني 2007 باليوم العالمي الستين للسلام. وقد
وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في المناسبة نداء بعنوان:
" الشخص البشري: قلب السلام". وآكّد ان كل تعدٍّ على الشخص
البشري تهديد للسلام، وان كل تهديد للسلام تهديد لحقيقة الشخص
والله. ان احترام كرامة الشخص البشري شرط اساسي للسلام في العائلة
البشرية".
ويشير قداسته الى ثلاثة تتهدد العائلة
اليوم: ايديولوجيات التعصّب المادي والديني التي تفرض
مفاهيم مقيتة عن الانسان والله والواقع الاجتماعي؛ والعلم
التكنولوجيا، وبخاصة ما يتعلق بطب الحياة، اللذين يُستخدمان
لغاية أنانية في الترقي وهناء العيش، بدلاً من خدمة خير البشرية
العام؛ ونشر انماط حياة غير مرتّبة ومضادّة للكرامة البشرية
التي تضعف القلوب والارواح حتى اطفاء التوق الى تعايش منظّم
وسلّمي.
كل هذه تشكل تهديداً للبشرية، ذلك ان
السلام يكون في خطر عندما تفقد الكرامة البشرية احترامها، وعندما
لا يبحث المجتمع عن الخير العام. فلا بدّ للكنيسة من ان تعلن انجيل
الحياة الذي يؤكد محورية الانسان في الكون ومحورية محبة الله
للبشرية، وان تعمل على تعزيز انسنة شاملة ومتضامنة تسعى الى انماء
كل انسان وكل الناس (البابا بولس السادس: ترقي الشعوب).
نقرأ في مستهل الرسالة العامة "
السلام على الارض" للبابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرين ان "
الانسان الشخص هو في اساس النظام الالهي للسلام" ( فقرة1). تضعه
كرامته في موقع متفوّق على الاشياء والمؤسسات وفي علاقة مساواة
جوهرية مع الاشخاص الآخرين، اياً كان عرقه او جنسه او لغته او دينه
او اصله القومي والاجتماعي. هذه الكرامة الشخصية الكيانية هي منبع
الحقوق الانسانية، ما يجعل الانسان الشخص صاحب حقوق وحامل حقوق،
يتعيّن على الآخرين اقرارها ورعايتها.
كل انتهاك لكرامة الشخص البشري في
كيانه وحقوقه تهدد السلام وسط العائلة البشرية. وكل تعزيز لكرامة
الشخص البشري تعزيز لثقافة السلام.
***
ثانياً، وجه قديس عزز كرامة الشخص وخير العائلة
القديس
Maximilien Kolbe
راهب فرنسيسكاني بولوني، قدّم نفسه فدية عن زوج ورب عائلة هو
فرنسوا
Gajowniczek،
في 31 تموز 1941، في سجن
Auschwitz
في بولونيا. فرنسوا هذا كان بين المئتي الف شخصاً الذين شاركوا في
احتفال تقديس الاب
Maximilien
في 10 تشرين الاول 1982.
اوقف الاب كولب بتاريخ 17 شباط 1941 في غرفة ديره على يد اربعة
عسكريين من النازيين
Gestapo،
ورُمي في سجن
Pawiak،
في وارسو، مع اربعة كهنة فرنسيسكان من الدير نفسه دير
Nie
pokanov.
وبعد تعذيبه نقل الى معسكر (
Auschwitz)
في تموز 1941 بتهمة ان الدير استقبل الفي يهودي ولاجئين آخرين
هربوا من وجه النازيين وكان الاب كولب يعتني بهم.
كان بعمر 47 سنة، حاملاً شهادة دكتورا في الفلسفة، مؤسس رسالة
الحبل بلا دنس في بولونيا، وهي جماعة صلاة وعمل نشر، وله محطة
اذاعية. في السجن الذي كان يضم 600 سجين في القسم 14، حيث وَجد،
خلعت عنه وعنهم الكرامة الشخصية ليصبحوا اعداداً، فكان يحمل رقم
16670. على باب السجن كانت الكتابة: " العمل يحرر". انه
عمل الاشغال الشاقة. وكان عمله ان يحمّل ويفرّغ الشاحنات بجثث
القتلى الى فرن الحريق ومنه. لكن رسالته كانت الصلاة الدائمة
وتشجيع الاسرى وتثبيتهم في الرجاء بأن الله يسهر عليهم في سجن
العذاب.
في 31 تموز 1941 ضاع احد المساجين، فحُكم على عشرة بالموت جوعاً
وعطشاً، كان بينهم فرنسوا
Gajowniczek.
واذ كان يبكي مفكراً بزوجته واولاده الذين سيتركهم يتامى. تقدّم
مكسيميليان كولب وادّى التحية الى الضابط، فقال له هذا الاخير
بنبرة: " ماذا يريد هذا الخنزير البولوني؟" فاجاب: انا كاهن
كاثوليكي بولوني، اريد ان آخذ محل هذا الرجل الذي له زوجة واولاد".
وبعد صمت وجيز قال الضابط للرجل: " اخرج"، واخذ الاب كولب محله.
نقل العشرة الى القسم 11 المخصص للتحقيقات والقتل. فاُدخل العشرة
عراة الى غرفة مساحتها 9 امتار فيها فقط دلو صحي. وعندما اغلق
الحارس الباب عليهم قال لهم: " ستيبسون هنا كالزهر".
في هذه الغرفة كان الاب كولب يشجعهم ويرتّل، وهم يرددون معه بقوة
اليأس. بعد 14 يوماً لم يبق سوى اربعة احياء يصارعون الجوع والعطش
ومن بينهم الاب كولب، فاُنهوا بابرة سامّة في 14 آب 1941 ليلة عيد
انتقال السيدة العذراء الى السماء. يقول الاب
Szweda:
" عندما فتحت باب الغرفة وجدت الاب مكسيمليان، كأنه حيّ، وجهه مشع
وعيناه مفتوحتان ومصوبتان الى نقطة معيّنة، وكأنه في حالة أنخطاف.
انه مشهد لن انساه ابداً". طوّبه البابا بولس السادس معترفاً
في 17 تشرين الاول 1971، واعلن قداسته شهيداً البابا يوحنا
بولس الثاني في 10 تشرين الاول 1982.
***
ثالثا، الخطة الراعوية
لا بدّ من التذكير ان الخطة الراعوية موجهة، فضلاً عن الافراد الى
الجماعة الرعائية والى المجالس واللجان في الرعايا، والى العائلة
والجماعة الديرية، الى الاخويات والمنظمات الرسولية، الى النوادي
وسائر الجماعات على انواعها. هذه تجتمع لتفكّر سوية، ولتتخذ
مبادرات عملية تطبيقية.
تتمحور الخطة الراعوية طيلة زمن الغطاس والتذكارات حول النص الثاني
من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان: " هوية الكنيسة
المارونية ودعوتها ورسالتها"
1. يُبرز هذا النص العناصر التي تكوّن هوية الكنيسة المارونية
والتي في ضوئها تنجلي دعوتها وتتجدد رسالتها. هذه العناصر تؤلف
مجتمعة التراث الحي الذي يعطي الكنيسة المارونية
خصوصيتها، ضمن الكنيسة الجامعة، في عيش سرّ الخلاص بيسوع
المسيح والشهادة له في النطاق الانطاكي وبلدان الانتشار. الغاية
الاولى من ابراز الهوية هي الامانة لسرّ الخلاص هذا الذي منه
تنطلق وعليه تُبنى هويتنا المسيحية؛ والغاية الثانية اعادة
نظر شاملة في شؤون كنيستنا من اجل تجديدها وانطلاقتها المستقبلية (
فقرة1)؛ والغاية الثالثة تنشئة الموارنة المنتشرين في بلدان
العالم على هويتهم وصون وحدتهم وحفظهم من الذوبان والتشتت، وتأوين
عناصر هويتهم لتتلاءم مع ثقافات الشعوب التي ينتمون اليها (
فقرة 4).
2. الكنيسة البطريركية المارونية هي قبل كل شيء تحقيق
لسرّ الكنيسة الواحدة، الجامعة، المقدسة، الرسولية، حيثما
يتواجد ابناؤها وبناتها، من اجل الشهادة على ايمانهم الرسولي
وقيمهم الانجيلية. وبالتالي هي عمل الله الآب الخلاصي بواسطة ابنه
يسوع المسيح وبفعل روحه القدوس، وليست وليدة اعتبارات ثقافية او
قومية او سياسية بحتة (فقرة 2).
3.
ان عناصر هوية الكنيسة المارونية مشتركة في جوهرها بين الكنائس
الانطاكية السريانية، ولو اخذت من الزمن طابعاً مارونياً.
ولهذا كنيستنا ملتزمة في الحركة المسكونية من اجل الشركة
التامة بين الكنائس في الحقيقة والمحبة ( افسس 4/15)، وفي سبيل
تعزيز الحضور الشاهد معاً في هذا الشرق وفي العالم، امانة " لدعوة
المعلم الالهي"(فقرة 3).
4. العنصر الاول من هويتنا المارونية هو اسم موارنة. انه
مأخوذ من اسم القديس مارون المتوفي حوالي سنة 410، شفيع
كنيستنا الذي ابتكر طريقة نسكية فريدة من نوعها لعيش ايمانه
بالمسيح وقيم الانجيل، على جبل قورش، في المنطقة الجغرافية من
الامبراطورية الرومانية المسماة سورية الاولى، يرجّح من علم الآثار
ان مارون تنسّك في قلعة كالوتا في جبل سمعان، وهي على مسافة 30 كلم
من مدينة حلب، وان جثمانه وضع في مدينة براد القريبة من قلعة
كالوتا. اما طريقته النسكية فقوامها العيش في العراء. نجد سيرة
حياته في كتاب تيودوريطس اسقف قورش آنذاك بعنوان: " تاريخ أصفياء
الله". واسم موارنة يرجع ايضاً الى الدير الذي بُني على اسم
مارون، بعيد مجمع خلقيدونيا ( 451) في منطقة افاميا الكائنة في
سورية الثانية. يُعتبر دير مار مارون بحق مهد الكنيسة المارونية
الذي في كنفه وحوله نشأت بطريركية مستقلة بين نهايات القرن السابع
والنصف الاول من القرن الثامن ( فقرة 6).
***
صلاة
ايها الله الآب، نشكرك على عائلة الناصرة المقدسة، عائلة يوسف
ومريم ويسوع، وقد اردت ان تكون عائلاتنا على مثالها. نشكرك على
العائلة التي اعطيتنا اياها، لكي نقبل منك فيها الحب كل يوم: به
ننمو ونتعاون ونتصالح، وبه نشهد لحبك الذي خلقت به كل حياة وتعتني
بكل انسان.
نشكرك ايضاً على جماعتنا المسيحية، في الرعية وفي الابرشية، وعلى
انك تجعل علامات محبة يسوع حاضرة في الكلمة والافخارستيا والمحبة
الاخوية. اجعل عائلاتنا شبيهة بالكنيسة اكثر فاكثر، في ايمانها بك
وفي قبول كلمة يسوع كما قبلتها مريم، وفي الطاعة لالهاماتك في حياة
كل يوم مثل يوسف. لك المجد، ايها الاب، مع ابنك الوحيد وروحك
القدوس الى الابد، آمين ( من كتاب الكردينال كارلو- ماريا مارتيني:
عند الفجر بحث عنك).
الاحد 7 كانون الثاني 2007
الاحد الاول بعد الدنح
وعيد الغطاس
ظهور الله بالمسيح والشهادة له
من انجيل القديس يوحنا1/29-34.
في الغد (بعد شهادة المعمدان) رأى يوحنا يسوع مقبلاً إليه
فقال: " ها هو حملُ الله الذي يرفع خطيئة العالم. هذا هو الذي
قُلتُ فيه: يأتي ورائي رجلٌ قد صار قُدامي، لأنه كان قبلي. وأنا ما
كنتُ أعرفه، لكني جئت أعمد بالماء لكي يظهر هو لاسرائيل". وشهد
يوحنا قائلاً: " رأيت الروح نازلاً كحمامة من السماء، ثم استقّر
عليه. وأنا ما كنت أعرفه، لكن الذي أرسلني أعمدُ بالماء هو قال لي:
من ترى الروح ينزل ويستقر عليه، هو الذي يُعمد بالروح القدس. وأنا
رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله".
***
هذه الشهادة التي اعطاها يوحنا عن يسوع أتت غداة اعتماده
في نهر الاردن، كما يرويها القديس لوقا في انجيله الذي نقرأه في
عيد الغطاس (لو3/15-22). يقول لوقا الانجيلي: " لما اعتمد الشعب
كله، اعتمد يسوع ايضاً. وفيما كان يصلّي، انفتحت السماء ونزل عليه
الروح القدس في صورة جسدية بشكل حمامة، وجاء صوت من السماء يقول:
انت هو ابني الحبيب، بك رضيت" ( لو1/34).
من هذين النصين نستمد العنوان: ظهور الله بالمسيح
والشهادة له.
اولاً، شرح نصّ الانجيل
1.
ظهور الله بالمسيح
الله غير المنظور ظهر للبشر في تجسّد ابن الله، الكلمة الالهي،
بالميلاد، الذي اخذ اسماً هو يسوع المسيح، اي ابن الله الذي كرّسه
الاب بمسحة الروح القدس في بشريته وارسله الى العالم (المسيح)،
لكي يخلّصه من خطاياه (يسوع). ويوم تقدّم يسوع ليقبل
معمودية يوحنا، وهو في الثلاثين من العمر، ظهر للمجتمع ببنوته لله
وبرسالة الفداء، على ما شهد يوحنا: انه ابن الله وحمل الله الذي
يحمل خطيئة العالم. وظهر ايضاً الله الثالوث: الآب بالصوت،
والابن بشخص يسوع، والروح القدس بشكل حمامة. هذا الظهور
يسمى باللفظة السريانية " الدّنِح"، من فعل " دناح" (
دِنٍحو)، توازيها اللفظة اليونانية "ثيوفانيا"، ظهور الله،
واللفظة اللاتينية " ابيفانية". " الدِنٍح" مرتبط بظهور ابن
الله يوم ميلاده متجسّداً، وبظهور الثالوث الالهي يوم معمودية يسوع
المعروفة بعيد الغطاس. هذه
اللفظة عربية وتعني النزول في الماء للاعتماد.
بسبب هذا التمازج بين الظهور والاعتماد، الدنح والغطاس، كانت
الكنيسة الجامعة، حتى منتصف القرن الرابع، تعيّد في الشرق والغرب
عيد الميلاد في 6 كانون الثاني، اما اليوم فتحتفظ به كنيستا الارمن
الارثوذكس والاقباط الارثوذكس. وبعد منتصف القرن الرابع فصلت
الكنيسة العيدين، فاصبح عيد الميلاد في 25 كانون الاول، استبدالاً
لعيد الاله الوثني " الشمس"، لان يسوع هو الشمس الجديدة للعالم،
واصبح عيد الغطاس في 6 كانون الثاني.
ففي
العهد القديم،
ظهر الله من خلال علامات خارجية، وظهورات ملموسة، واحداث كونية: "العليقة
المتقدة"
التي ترمز الى قداسة الله المطلقة وقد رآها موسى( خروج 3/1-12)؛
"
العمود من غمام
في النهار
ومن
نار
في الليل" الذي يسير امام الشعب نهاراً وليلاً عند خروجهم من ارض
مصر ( خروج 3/21-22)، وهو يرمز الى الله الحاضر بنوره؛
الرعود والبرق
والغمام الكثيف على الجبل وصوت
برق
شديد جداً" التي حدثت عندما ابرم الرب عهده مع الشعب القديم في
سيناء مظهراً مجده وقدرته ( خروج 19/16-19).
اما في العهد الجديد،
فكان ظهور الله بالجسد البشري في الميلاد، عندما " صار كلمة الله
بشراً وسكن بيننا، ورأينا مجده الذي له من الآب، كأبن وحيد ملؤه
النعمة والحق" (يو1/14). رأه الرعاة والمجوس فآمنوا. ثم ظهر يوم
اعتماده على يد يوحنا فادياً للبشر، متضامناً مع الخطأة في توبتهم،
لا في خطيئتهم. وظهر ثالوثاً قدوساً بمناسبة معمودية يسوع. وظهر
السيد المسيح الهاً وانساناً في التجلي على جبل طابور امام ثلاثة
من تلاميذه ( متى 17/1-8)، وقد بان وجهه كالشمس وثيابه بيضاء
كالنور، مشاركاً كلياً في مجد ابيه الالهي (2بطرس1/16-18). ويظهر
حاضراً بجوهره في الافخارستيا، حيث يحوّل الخبز الى جسده والخمر
الى دمه. وانطلاقاً من هذا الحضور الدائم في القربان، يظهر
حاضراً ايضاً في الكنيسة، كما يعلم آباء المجمع
المسكوني الفاتيكاني الثاني، " وبنوع خاص في الافعال الليتورجية؛
وحاضراً في ذبيحة القداس، سواء بشخص الكاهن ام تحت اشكال
الخبز والخمر؛ وحاضراً بنعمته وقدرته في الاسرار، فهو الذي
يجريها بشخص الكاهن؛ وحاضراً في كلامه لانه هو الذي يتكلم
عندما نقرأ الكتب المقدسة في الكنيسة؛ وحاضراً في الكنيسة
عندما تصلي وتسّبح: " حيث يجتمع اثنان او ثلاثة باسمي، اكون هناك
بينهم" ( متى18/20) ( دستور في الليتورجيا المقدسة،7).
2.
العادات المسيحية في عيد الغطاس
عبّر المسيحيون عن عقيدة ظهور الرب في الغطاس بتقاليد وعادات
شعبية وكنسية مختلفة.
شعبياً،
عبّروا عن قيمة العيد، باقبال ربات البيوت على اعداد اطعمة وحلويات
خاصة به مثل الزلابية والعوام والمعكرون، ويسمونها " بركة العيد".
وعبّروا عن حضور الرب معهم في هذا العيد في السهر حتى منتصف الليل،
واضاءة القناديل والانوار وفتح الابواب مشرّعة للدلالة ان المسيح
الرب سيمّر في منتصف الليل على المنازل، ويقول: " دائم دائم"،
ويلقي البركة؛ وعند منتصف الليل كانت العائلة تركع وتصلي وتنشد
انشودة روحية لتنال بركة المسيح عند مروره، ومن هنا الاحتفال
بالقداس في منتصف الليل او ليلة العيد. وكانوا يعتقدون ان الاشجار
تركع للمسيح عند مروره ما عدا شجرة التوت المتكبرة، لذلك كانوا
يأخذون من جذوعها شظايا لمواقدهم في تلك الليلة عقاباً لها على
كبريائها. وفي ليلة الغطاس تطوف ربة البيت على ما عندها من مؤن
وتحركها بيدها وتقول: " دائم دائم"، اعتقاداً منها ان البركة تحلّ
فيها فتزداد. وكان الله يستجيب لهذا الدعاء والاعتقاد مفيضاً النعم
والبركات.
كنسياً،
كان الكهنة في القديم يحتفلون بالقداس صباح العيد على عين القرية
ليتبارك ماؤها ويُطرد روح الشر منها، كما تباركت مياه الاردن بنزول
الرب يسوع اليها. وكان الشعب يأخذ من هذا الماء الى بيوتهم،
يستحمون به فيبعد عنهم الاضرار، ويسقون مرضاهم منها لينالوا به
الشفاء، والحبالى لتسهيل الولادة، ويرشون منها لطرد الحشرات وابطال
اذاها. ولما بطلت العادة نشأت عادة حمل الماء في قرارير الى
الكنيسة لمباركته في القداس، وجرت عادة زيارة الكهنة للمنازل ورشها
بالماء المبارك. ثم كان الماء المبارك بشكل دائم في جرن صغير على
مدخل الكنيسة للتبريك.
وكنسياً
ايضاً يؤثر المؤمنون تقديم اطفال لقبول سرّ العماد، في عيد
الغطاس، تبركاً بتذكار معمودية الرب يسوع، ويضربون المثل: " يلي ما
عنده معمود يعمّد لو في الغطاس عود". ومن هنا العادة انهم عندما
يحملون قارورة ماء الى الكنيسة، يضعون فيها عودة خضراء من زهرة او
غصن شجرة، يصلي عليها الكاهن وتحفظ في المنزل للتبريك بها عند
الحاجة.
3.
الشهادة ليسوع المسيح
كانت ليسوع شهادة الآب والروح القدس يوم اعتماده، كما رأينا، وكان
" ظهور" سرّه وسر الله الواحد والثالوث. وكانت في انجيل عيد الغطاس
شهادة ليوحنا المعمدان الذي كان الشعب يسأله هل هو المسيح اي الملك
القوي والسياسي المنتظر، فشهد يوحنا ان يسوع هو اقوى منه، وسيعمد
لا بالماء، كعلامة خارجية للتوبة، بل في الروح القدس والنار
(لو3/15-16)، مشيراً بذلك الى حلول الروح القدس بألسنة من نار يوم
العنصرة. ان المسيح يعمد الكنيسة وكل مؤمن، بواسطة ماء المعمودية،
والروح القدس " يمسح" المعمد، ويختمه بختم لا يُمحى (2كور1/21-22)
ويجعل منه هيكلاً روحياً، اذ يملاءه من حضور الله ويجعله متحداً
بيسوع. عن كل معمّد يردد الآب من السماء: " انت ابني الحبيب عنك
رضيت"، فيصبح ابناً لله بالابن الوحيد، ويستطيع ان يتبنى قول يسوع:
" روح الرب عليّ: مسحني وارسلني..." ( لو4/18).
المعمودية عطية مجانية من الله للانسان، يقدم له فيها البنوة
الالهية بالمسيح، الابن الوحيد الازلي وفادي الانسان: " لسنا نحن
احببنا الله بل هو الذي احبنا وارسل ابنه كفارة عن خطايانا" (
يو4/10). ولهذا السبب درجت الكنيسة على تعميد الاطفال، على ايمانها
وايمان اهلهم. كذلك معمودية البالغين هي مجانية ولا تنسينا ان "
الله احيانا هو، لا باعمال برّ عملناها، بل بمراحمه، بعماد الولادة
الثانية وتجديد الروح القدس الذي افاضه علينا غزيراً بيسوع المسيح
مخلصنا، لنتبرر بنعمته، ونصير وارثين، بواسطة رجاء الحياة
الابدية"(تيطس3/5-7).
ويشهد يوحنا المعمدان ان عهداً جديداً يبدأ مع يسوع. انه نقطة
الفصل، فهو مخلص وديان. يعتمد يوحنا صورة البيدر (لو3/17) التي
اعتمدها الانبياء: ارميا عن اورشليم التي رفضت الرب وارتدت الى
الوراء: " فمددت يدي عليك واتلفتك، فقد مللت العفو عنك، وذرّيتكم
بالمذراة عند ابواب الارض" ( ارميا15/6-7). واشعيا عن الذين نبذوا
شريعة الله: " كما يلتهم لهيب النار القش، هكذا يفنون" ( اش 5/24)،
وغيرها. وهذا ما تنبأ عنه سمعان الشيخ، قائلاً لمريم: " ها انه جعل
لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم، وآية معرّضة للرفض" (
لو2/34).
وشهد يوحنا ان يسوع هو " حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (
يو1/29) اي انه فادي الانسان. هذه اشارة الى موت يسوع التكفيري،
على صورة حمل الفصح ( خروج12/1-14؛21-28) التي يعود اليها
يوحنا الانجيلي عند موت يسوع على الصليب: " لن يُكسر له عظم" (
يو19/36)؛ وبولس الرسول يقول: " ان فصحنا هو المسيح الذي ذُبح
لاجلنا" (1كور5/7)، وسيراه يوحنا في رؤياه: " مستحق هو الحمل
الذبيح ان يأخذ على عاتقه خطايا الناس فيكفّر عنها، والذي مع انه
بريء يقرّب نفسه تقدمة حمل ليزيلها ( اشعيا 53).
***
ثانياً، معمودية ملوك وشعوب
معمودية المسيح بالماء والروح هي باب الخلاص، انفتح امام افراد
وشعوب، نذكر اليوم معمودية أمير كييف-
Kiev
فلاديمير ومعمودية روسيا سنة 988.
كانت روسيا وثنية وكذلك الامير فلاديمير فاعتمد هو والشعب على يد
اليونانيين، بعد ان ارسل بعثة من عشرة حكماء للاطلاع على الطقوس
والعبادات في بلغاريا لدى المحمديين، وفي المانيا المسيحية، وفي
القسطنطينية لدى الروم، قبل انشقاق الشرق سنة 1054. غير ان
المسيحية كانت قد دخلت جزئياً روسيا على يد القديسين كيرللس
وميتوديوس من بلغاريا اللذين بشّرا في اوروبا الوسطى في القرن
السابق.
اعجبت البعثة بالطقس اليوناني وقالوا: " لم نعرف اذا كنا في السماء
ام على الارض. فلا يوجد على الارض مثل هذا المنظر وهذا الجمال،
ونحن عاجزون عن وصفه. انما نعرف فقط ان هناك يسكن الله مع الناس،
وان طقسهم يفوق اياً آخر في جميع البلدان". لقد دوّن احد الرهبان
هذه الشهادة في " احداث الازمنة الغابرة" بعد جيل ونصف.
كان للامير فلاديمير خمس نساء وثمانماية متسرّية. فتركهن كلهن لكي
يتزوج حنّة الاميرة البيزنطية، كشرط وضعه فلاديمير للامبراطور
باسيليوس الثاني الذي طلب مساندته العسكرية في حرب الامبراطورية
البيزنطية ضد بارداس فوكاس (
Bardas
Phocas)
في
Crimée،
بينما اشترط الامبراطور باسيليوس من جهته على الامير فلاديمير ان
يقبل سرّ المعمودية، كان ذلك سنة 987. وما شجعه على المعمودية جدته
الاميرة
Olga
التي اتجهت الى القسطنطينية في منتصف القرن العاشر.
بعد ان اعتمد فلاديمير في 6 كانون الثاني 988 اعتمد اهل
Kiev
اجماعياً في مياه
Dniepr،
في الاشهر اللاحقة. لقد افتدت الاميرة حنّة، التي تزوجها، خطاياه
الكثيرة بسخائها. في عهده وبنتيجة اعتماده وزواجه استقرت المسيحية
في روسيا، وبنيت الكنائس. وهو نفسه بنى سنة 996 كنيسة ام الله في
كييف. وسميّت " كنيسة العُشر"، لانه خصص لها عُشر مداخيله.
الكنيسة الروسية تعتبر فلاديمير قديساً منذ اواخر القرن الثالث
عشر، اما الكنيسة الكاثوليكية فلا، بسبب عدم وجود عجائب. كانت
وفاته سنة 1015، وظل اسمه متناقلاً من جيل الى جيل، لا بفضل
فتوحاته العسكرية، بل بفضل اكتسابه النفوس بارتداده الى المسيحية.
***
ثالثا، الخطة الراعوية
تواصل الخطة الراعوية التفكير معاً في النص الثاني من نصوص المجمع
البطريركي الماروني، وعنوانه: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها
ورسالتها. ونفكر اليوم بعنصرها الثاني: انها كنيسة انطاكيه
سريانية ذات تراث ليتورجي خاص (فقرة 7-13).
1. كون كنيستنا انطاكيّة، فانها تحمل امانة مثلثة:
للهوية المسيحية " ففي انطاكية دُعي التلاميذ لاول مرة
مسيحيين" ( اعمال 11/26)، للوحدة الكاملة مع خليفة بطرس
وكنيسة روما، ففي انطاكية انشأ بطرس الرسول كرسيّه الاول،
وللنفحة الرسولية لان الكنيسة الانطاكية نشأت من تبشير الرسل،
فانفتحت على الامم ( فقرة 7).
اما ميزتها من انطاكيتها فهي الوحدة في الايمان والشركة ضمن تعددية
ثقافية وحضارية. هذه التعددية ذات وجهين: التيّار الارامي
السرياني الطاغي في المدن الداخلية والارياف، والتيّار
الهلّيني المسيطر على بعض المدن الساحلية ( فقرة 9). بفضل هذا
التنوع الحضاري واللغوي نشأت كنائس محلية، لكلٍ منها طابعها
الخاص، انما مع المحافظة على الشركة والوحدة: " كان الذين آمنوا
جماعة واحدة، يجعلون كل شيء مشتركاً بينهم... وكانوا قلباً واحداً
ونفساً واحدة" ( اعمال 2/44؛4/32). وظهرت هذه الشركة والوحدة في
مجمع اورشليم ( اعمال 15/1-29). وكانت قاعدتهم لاهوت جسد المسيح
الواحد والمتعدد الاعضاء (1 كور 12/12-30). وقد ابرز القديس
اغناطيوس الانطاكي لاهوت الكنيسة المحلية التي تتكون حول سرّ
الافخارستيا، ويضمن الاسقف وحدتها ( فقرة9-10).
وتجلّت الشركة والوحدة في النظام الاسقفي المجمعي الذي هو
في اساس النظام البطريركي. واصبح السينودس البطريركي المكان
الذي تعتلن فيه الشركة بين الكنائس المحلية من خلال ممارسة
المجمعية الاسقفية بروح التشاور في الشؤون المشتركة واتخاذ
القرارات المناسبة ( فقرة 11).
2. كون الكنيسة المارونية ذات تراث ليتورجي خاص هو السرياني،
فانها تنتمي الى عائلة الكنائس ذات التراث السرياني في فرعيه
الغربي والشرقي. انه تراث لاهوتي وروحي وليتورجي علمته مدارس
انطاكية والرها ونصيبين اللاهوتية. وتجلى على الصعيد الليتورجي
بالصلوات الشعرية التي نظمها لاهوتيون شعراء امثال: القديس
افرام ( 373+)، والقديس يعقوب السروجي (526+)، وبلاي
(432+) وسواهم. يشكّل هذا التراث السرياني المصدر الاساس للصلوات
المارونية ويتميز بثلاثة: الطابع المريمي، والدعوة الى التوبة،
ورجاء ملاقاة العروس السماوي في نهية الزمن ( فقرة 12).
تقتضي الخطة الراعوية وعي هذا التراث السرياني المشترك،
والنهل من روحانيته، والعمل على نبش كنوزه، بهدف تعزيز رسالة
كنيستنا، وتأوينها في ضوء خصوصيتها ( فقرة 13).
***
صلاة
ايها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع ان ترسل الينا روحك القدوس
الذي يسبر اعماق الانسان ويعرف ما في داخله، لكي يعطينا القدرة على
معرفة ذواتنا، كما تعرفنا انت، ونعرف هوية كنيستنا ودعوتها
ورسالتها. فنعكس وجهها في مجتمعنا ونلتزم برسالتها في خدمة الانسان
والشعوب بتثمير تراثها الروحي والاجتماعي والثقافي، لك المجد ايها
الآب على محبتك، وايها الابن على نعمتك، وايها الروح القدوس على
انوارك. آمين.
الاحد 14 كاون الثاني 2007
الاحد الثاني بعد الدنح
سرّ المسيح يكشف سرّ الانسان
من انجيل القديس (يوحنا 1/35-42)
في الغد أيضاً كان يوحنا هو واثنان من تلاميذه. ورأى يسوع ماراً
فحدّق إليه وقال: " ها هو حملُ الله. وسمع التلميذان كلامه، فتبعا
يسوع. والتفت يسوع، فرآهما يتبعانه، فقال لهما: " ماذا تطلبان؟"
قالا له: " رابّي، أي يا معلم، اين تقيم؟". قال لهما: " تعاليا
وانظرا". فذهبا ونظرا أين يقيم. وأقاما عنده ذلك اليوم، وكانت
الساعة نحو الرابعة بعد الظهر. وكان اندراوس أخو سمعان بطرس أحد
التلميذين اللذين سمعا كلام يوحنا وتبعا يسوع. ولقي أولاً أخاه
سمعان، فقال له: " وجدنا مشيحا، أي المسيح. وجاء به الى يسوع، فحدق
يسوع إليه وقال: " أنت هو سمعان بن يونا، أنت ستدعى كيفا، أي بطرس
الصخرة".
***
جرى هذا الحدث غداة اعتماد يسوع في نهر الاردن على يد
يوحنا المعمدان. فسُمي اعتماده بالغطاس، للدلالة الى نزوله
في الماء وسكبه عليه. وفي المناسبة اعتلن سرّ يسوع انه " ابن
الله"، وظهر الله في حقيقته انه ثالوث قدوس: الآب بالصوت، والابن
بشخص يسوع، والروح القدس بشكل حمامة، فسمي الحدث بالدنح،
وهي لفظة سريانية تعني " الظهور".
وجاءت شهادة يوحنا المعمدان عن يسوع، في انجيل اليوم،
لتكمل اعتلان سرّه ، انه " حمل الله"، واضافت شهادة تلميذه
اندراوس انه " المسيح". فكان ان انكشف في ضوء سرّ المسيح
سرُّ الانسان.
***
اولاً، مضمون النص الانجيلي
1.
حمل الله
سار يسوع في موكب الخطأة الطالبين " معمودية يوحنا للتوبة " (
مر1/4)، هو الذي لم يعرف خطيئة. وقد سأل يوماً: " من منكم يستطيع
ان يبكتني على خطيئة؟" ( يو8/46). وسيقول عنه بولس الرسول: " هو
مجرّب في كل شيء مثلنا، ما عدا الخطيئة" ( عبرانيين4/15). ونقول في
القداس الماروني: " واحد ظهر على الارض بلا خطيئة هو ربنا يسوع
المسيح، غفران جنسنا العظيم". هذا لا ينفي ان سيدتنا مريم العذراء
الكلية القداسة هي ايضاً ظهرت من دون خطيئة، لكن الذي عصمها من
خطيئة آدم الاصلية هو الله باستحقاقات من سيكون ابنها يسوع المسيح،
ابن الله المتجسد، وعصمتها النعمة الالهية من كل خطيئة شخصية
بتجاوبها الكامل معها، فكانت الام القدوسة للابن القدوس، فادي
الانسان ومخلص العالم.
لكن يوحنا المعمدان، الممتلىء من الروح القدس، رأى فيه " حمل
الله" الذي يدشّن رسالة الفداء، هو الذي قال انه اتى " ليبذل
نفسه فدىً عن الكثيرين" ( مر10/45). بهذه الكلمة استبق معمودية
الدم بموته على الصليب، تكفيراً عن خطايانا وغفرناً عنها، وستكتمل
معموديته بقيامته التي تفجرت منها الحياة الالهية في المؤمنين.
المعمودية بحدّ ذاتها عبور فصحي بالموت والقيامة: الموت عن حالة
الخطيئة، والقيامة الى حالة النعمة.
شهادة يوحنا المعمدان عن يسوع " حمل الله" هي شهادة
نبوية: ففيما سماّه أشعيا النبي " عبد يهوه" او " خادم الله
المتألم"، وشبّهه بحمل صامت يساق الى الذبح، ولا يفتح فاه، وهو
يحمل خطايا الكثيرين ويشفع في معاصيهم" ( اشعيا53/7
و12)، اعتبره يوحنا المعمدان هذا الحمل الفصحي اياه، المرموز اليه
بحمل الفصح اليهودي ( خروج 12/2). سيقول عنه فيما بعد بولس الرسول:
" لقد ذُبح حمل فصحنا وهو المسيح" ( 1كور5/7)، و" لم يُكسر له
عظم" ( يو19/36)، كما ترسم الشريعة بالنسبة الى حمل الفصح
اليهودي ( خروج12/46).
حمل الله يعني الفادي الالهي الذي ارسله
الله، فأتمّ بموته وقيامته الفداء، و" اشترانا بثمن دمه الغالي،
لكي لا نصير عبيداً لاحد" ( 1كور6/20؛7/23)، مكتسباً الخلاص لجميع
الناس، وباعثاً فينا قوة الرجاء الذي لا يُقهر، والذي يعضدنا في
تعزيز العدالة والسلام، ويمكّننا من الانتصار على الشر بالخير (
روم12/21)، وعلى بناء عالم افضل. هذا الحمل الفادي الالهي يسميّه
بولس الرسول " سرّ التقوى" (1تيم 3/16) الذي " يرفع"، يزيل، " سرّ الاثم الحاضر والفاعل في العالم" (2تسا2/6-7)، ويعطي
الانسان ما يكفيه من الطاقات لمقاومة سرّ الاثم، الذي يسميه الرب
يسوع " ابواب الجحيم" ( متى16/18) وقداسة البابا بندكتوس السادس
عشر " قوى الظلمة" (المقابلة العامة في 22/11/2006). ذلك بفضل
اتحاد المسيح بكل انسان، وهو اتحاد تمّ بتجسّد ابن الله والفداء
بموته، والتبرير بقيامته، وبحلول الروح القدس الذي يملاء العالم
(الكنيسة في عالم اليوم، 22؛ حكمة 1/7).
في زمن يتفشى فيه " سرّ الاثم" ويكثر الشر والقتل والحقد،
وتتسع رقعة العداوات والانقسامات، ويؤثر الناس والمسؤولون لغة
العنف والحرب والترهيب، من الضرورة ان نوجّه العقل والارادة والقلب
الى المسيح الرب الذي هو وحده فادينا، فادي الانسان، وان نتلّمس
وجهه لان فيه وحده الخلاص، لكونه " ابن الله الذي تأنس من اجلنا
ومن اجل خلاصنا" ( قانون الايمان). انه حاضر في الكنيسة التي هي
جسده، ويعمل بواسطتها وهو رأس هذا الجسد؟ " الكنيسة هي في المسيح
كالسّر، اي هي علامة الاتحاد الحميم بالله واداته، وهي كذلك علامة
وحدة الجنس البشري كله واداتها (الدستور العقائدي: في الكنيسة،5).
هذه الشركة العامودية مع الله والافقية مع جميع الناس، هي ثمرة
الفداء بدم " الحمل الالهي"، وهي رسالة الكنيسة في عالمنا.
2.
المسيح
" وجدنا المسيح! "
(يو1/41). هذه شهادة اندراوس احد تلميذي يوحنا المعمدان اللذين
تبعا يسوع، اعطاها لاخيه سمعان – بطرس بعد ان قضى النهار معه بصحبة
تلميذ آخر. انه وجه جديد من شخصية يسوع يضاف الى كونه " حمل الله"،
فهو " المسيح" الذي، حسب اللفظة الارامية، " مسحه لله
بالروح القدس" (اعمال10/38)، وكرّسه لرسالة الفداء، نبياً وكاهناً
وملكاً بامتياز لكونه " ابن الله"، بشهادة يوحنا المعمدان امام
التلميذين (اعمال1/34). لقد جرت " مسحة التكريس" ساعة قبوله
المعمودية على يد المعمدان، اذ انفتحت السماوات، وحلّ عليه الروح
القدس بشبه حمامة، واعلنه الآب بالصوت: " انت ابني الحبيب، بك
سررت" ( لو3/22).
شهادة اندراوس مكتَسبة من " اقامته مع يسوع طيلة النهار"،
بفضل الروح القدس الذي ناله هو ايضاً بنتيجة هذه "الاقامة". فمن
يلتقي يسوع بايمان ينال هبة الروح القدس. في الواقع، اندراوس رجل
ايمان ورجاء. بتتلمذه ليوحنا كان يبحث بشوق عن المسيح ويشارك شعبه
في رجاء انتظاره. فما ان سمع من المعمدان ان يسوع هو " حمل الله"،
حتى سار وراءه وتبعه، فكان المدعو الاول. ولما اكتشف المسيح، صار
رسوله فأخذ اخاه سمعان وجاء به الى يسوع. " اندراوس"
اسم يوناني اللفظة، تكرّمه الكنيسة البيزنطية بلقب بروتوكليتوس-
Proto'klitos
الذي يعني " المدعو الاول".
ثمة رابط عضوي بين لقبي يسوع الجوهريين: حمل الله والمسيح. فيسوع
هو مرسل الآب، " مسحه" مالئاً بشريته من الروح القدس،
وارسله ليبذل نفسه فدىً عن الكثرين (متى20/28). لفظة
مسيح تنطوي في آن على الارسال والفداء. وهكذا تكتمل شهادتا يوحنا
المعمدان واندراوس: " يسوع هو ابن الله المرسل بمسحة الروح القدس
لفداء العالم".
3.
سرّ الانسان: حب وطاعة
يسوع المسيح، هذا " النور الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم" (
يو1/9)، عندما يدعو انساناً " ليأتي وينظر"، كما دعا التلميذين
(يو1/39)، يكشف ذاته لهذا المدعو، ويكشف له سرّ الانسان. لقد كشف
يسوع نفسه لاندراوس، فعرفه انه " المسيح"، وكشف لسمعان بن يونا،
شقيق اندراوس الذي اقتاده الى يسوع، دعوته في الحياة، فحوّل اسمه
من سمعان الى بطرس اي الصخرة. وبعد ايام، " فيما كان يسوع سائراً
على شاطىء البحر رأى سمعان واندراوس يلقيان الشباك في الماء، فقال
لهما: اتبعاني، اجعلكما صيادي البشر! وللحال تركا شباكهما وتبعاه"
( مر1/16-18).
حب وطاعة،
هذه هي قصة الانسان مع الله. احب اندراوس يسوع، على شهادة
المعمدان، وتبعه مع التلميذ الآخر، ومكث عنده طوال النهار، وفهمه
على حقيقته انه " المسيح". وعندما دعاه ليتبعه نهائياً اطاع
النداء وترك كل شيء وتبعه. كذلك سمعان اخوه أحب يسوع وجاء
يبحث عنه، على شهادة اندراوس، فبادره يسوع بانه يعرفه ويعرف اسمه
وبدّله الى " بطرس-الصخرة". ولما مرّ به يسوع على شاطىء البحيرة
وقال له: " اتبعني"، أطاع وترك الشباك وتبعه.
يقول الطوباوي شارل دي فوكولد ان حياتنا " سير على دروب
الله غير المتوقعه". فعندما يأتي الله في حياتنا، من خلال اية حالة
او ظرف، و" يأمر"، ينبغي ان نطيع. ولكن الذي يطيع هو من تعوّد على
محبة الله. لبّى سمعان واندراوس دعوة يسوع في لحظة وتركا كل شيء
وتبعاه (لو5/11), لآن حياتهما السابقة كانت مبنية على حبّ في القلب
لله، وتعوّدا، دونما شك، ان يقولا " نعم" في كل لحظة. المحبة اساس
الطاعة الاصيلة والسخية التي تنفي كل شعور بالعبودية. ألم يقل الرب
يسوع: " من يحبني يحفظ وصاياي!" (يو14/15). واعطانا المثل بنفسه: "
اتيت لأصنع مشيئة الآب الذي ارسلني" ( يو6/38). قبل ساعات من
تسليم ذاته للصلب فدى عن البشرية جمعاء، قال: " ينبغي ان يعرف
العالم انني احبّ الآب، وانني اعمل بما اوصاني به " ( يو14/31).
هذا هو الرباط بين المحبة والطاعة.
ان لله تدبيراً لكل واحد منا في تاريخ الخلاص. ما يعني ان
له دوره الخاص في تتميم ارادة الله عبر التاريخ. ولهذا علّمنا الرب
يسوع في صلاة الابانا ان نقول: " لتكن مشيئتك". لا يوحي لنا الله
ارادته بظهور ملاك او بصوت واضح وصريح، بل نكتشفها نحن بالصلاة
وسماع كلامه في الكتب المقدسة، واستلهام الروح القدس، وقراءة
علامات الازمنة، وتسليط انوار الكلمة، يسوع المسيح، على هذا الحدث
او ذاك في حياتنا اليومية. الله يقود خطانا بواسطة رسول هو كل حدث
يومي او ظرف. يقول الطوباوي الاخ شارل: لندع ذواتنا بين يدي الله
بامانة وحب وطاعة كبيرة، ليقودنا الى حيث يشاء. والاخت الصغيرة
مدلين كانت تردد: " اخذني الله بيده، فتبعته بطاعة عمياء". هذه حال
الرسولين اندراوس وسمعان- بطرس في انجيل اليوم.
مع الله نعيش يوماً بيوم، ولحظة بلحظة، متممين ارادته،
كيفما تجلّت، فنكون في سلام داخلي عميق. نخطط للمستقبل بارادتنا
التي تتكيّف وفقاً لارادة الله، الذي غالباً ما يأتي بمبادرات
تخالف مشاريعنا، وتقتضي تبديل اتجاهها.
***
ثانياً، وجوه من كبار الدنيا نالوا ثمار الفداء
ثمار الفداء جارية في التاريخ مذ رُفع يسوع عن الارض، وراح يجتذب
كل انسان ( راجع يوحنا 12/32). انها جارية بواسطة المعمودية، هذا
الخلق الجديد بالمسيح، الذي شمل ملوكاً وشعوباً، ما جعل المسيحية
تنتشر وتشكل حضارة الشعوب. رأينا في الاسبوع الماضي انتشار
المسيحية في روسيا بواسطة معمودية فلاديمير امير كييف ومعمودية
شعبها. ونستعرض اليوم معمودية كلوفيس
Clovis
( 495-511) اول ملوك فرنسا الفرنج ( 481)، جرماني الاصل ووثني.
سعى الاساقفة الفرنج الى ان يتزوج كلوفيس من كلوتيلد
الكاثوليكية، وهي من اسرة ملوكية، فكان ان اجتذبته الى الايمان
المسيحي الكاثوليكي في بلد كانت فيه بدعة آريوس تشكل الغالبية. في
حربه ضد الالمان التجأ الى اله كلوتيلد، وقطع وعداً بأن يعتمد اذا
نصره على اعدائه، فكان الانتصار العجيب. وفيما راح يتردد بين
اعتناق الاريوسية او الدين الكاثوليكي، دبّرت كلوتيلد لقاء بين
كلوفيس ومطران
Reims
الاسقف ريمي لمناقشة العلاقة بين اللاهوت والسياسة. واذ ظل كلوفيس
متردداً، اشارت اليه جنفياف النبية حامية باريس ان يقوم بزيارة الى
ضريح القديس مرتينوس في
Tours.
فوجد مدينة تحوّلت الى مركز روحي كبير حيث يجتمع جماهير المؤمنين
في يوم عيده، 11 تشرين الثاني. وصل اليها كلوفيس في تلك المناسبة
من سنة 499. ورأى هناك حول ضريح القديس ومزاره كل
انواع
البؤس في مملكته باعداد كبيرة من العرج والعميان والمصابين بشتى
الاعاقات، وشاهد العديد من الشفاءات. فكان له وحي الهي جديد،
اجتذبه بالله الكلي القدرة. فادرك ان قوة الله ليست بالجيوش
المنتصرة بل برحمته. طلب المعمودية وقبلها في عيد الميلاد سنة 499
في
Reims،
مع 3000 مقاتل من حرسه الخاّص. وقال الكلمة الشهيرة: " ليس من
السهل ان يتفلّت احد من يد الله". فسلّم ذاته للرب وتركه يحوّله من
عمق اعماقه.
بفضل المعمودية تبدلت طريقة حكم الملك كلوفيس، وحقق
الانتصارات في حروبه، واعتنى عناية كبيرة بتجنيب المدنيين وتحرير
اسرى الحرب. فنال من امبراطور الشرق الروماني، انستاز
Anastase،
لقب حامي الارث الروماني الروحي والزمني. وبطلب من كلوفيس انعقد
قبيل وفاته مجمع
Orléans
سنة 500 الذي صلح العادات ووحد الشعوب الفرنسية الرومانية، وعزّز
الدين المسيحي، وصحح الممارسات الجرمانية القائمة على القوة
والعنف.
شكّل كلوفيس للاجيال التي تليه نموذجاً ومرجعية وملكاً
كبيراً،
وترك
لها ارثاً مسيحياً عظيماً. بمعموديته بدّل المستقبل اذ معه انتهت
سلسلة الملوك الفرنج الوثنيين. وهكذا تمكن ارتداد رجل من تغيير وجه
شعب، وترك في التاريخ اثر رجاء ونور عظيم.
ما احوج وطننا وهذه المنطقة من العالم الى ارتداد ملوك
ورؤساء لكي تسلم الشعوب وينبثق فجر السلام!
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
تتناول الخطة الراعوية النص الثاني من نصوص المجمع البطريركي
الماروني، وهو بعنوان: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها
ورسالتها. نفكرّ معاً في العنصر الثالث من هويتها وهو أنها
كنيسة خلقيدونية ( الفقرات 14-17).
1. هي خلقيدونية، نسبة الى مجمع خلقيدونيا، المجمع المسكوني
الرابع المنعقد سنة 451 الذي أثبت ان المسيح هو في طبيعتين كاملتين
الهية وانسانية، متحدتين بشخص ربنا يسوع المسيح. وبهذا تأكيد على
انسانية السيد المسيح وعلى حقيقة التجسّد والخلاص. هذا الايمان
اعترف به رهبان دير مار مارون، مهد الكنيسة المارونية.
الميزة الاولى
التي ينبغي وعيها والشهادة لها في حياتنا هي الامانة لسرّ
التدبير الخلاصي، الذي وضعه الله بالمسيح للبشرية جمعاء (فقرة
14).
2. وكون كنيستنا خلقيدونية، فقد بدأت ظهورها لاول مرة في
اتحادها مع كرسي بطرس في روما، لان العقيدة التي اعلنها المجمع
قد حددها البابا لاوون الكبير في الرسالة الموجهة سنة 449 الى
فلافيانوس بطريرك القسطنطينية بشأن الطبيعتين في المسيح، خلافاً
للقائلين بأن فيه طبيعة واحدة بعد التجسّد، حيث تتلاشى الانسانية
في الالوهية، وهذا يؤدي الى افراغ حدث التجسد من معناه الخلاصي.
الميزة الثانية
في حياتنا وشهادتنا هي الامانة لمفاعيل سرّ التجسد عبر
اتحادنا بالله في المسيح بواسطة سرّ الافخارستيا: " وحدّت يا رب
لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك.
اخذت ما لنا واعطيتنا ما لك، لتحيينا وتخلّصنا، لك المجد الى
الابد"( نافور القداس الماروني) ( فقرة 15).
3. الهوية الخلقيدونية هي الاساس لدعوة الكنيسة المارونية ورسالتها
اعني لأن تعيش روحانية التجسّد في بيئتها اللبنانية
والمشرقية. فيسعى ابناؤها مع شركائهم في المصير، من مسيحين
ومسلمين، الى العمل معاً من اجل ترقي الانسان والمجتمع، ثقافياً
واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وبذلك يستعيد الانسان بهاء صورة
الله فيه، المتجلية بشخص المسيح، ويحافظ على كرامته ويعززها (فقرة
17).
***
صلاة
ايها الرب يسوع اعطنا ان ندرك كل يوم انك تدعونا الى مدرستك، حيث
نتعلّم من شخصك واقوالك وافعالك ان نشهد للقيم الروحية والخلقية في
بيئتنا، قيم الطيبة والجودة والاستقرار. علّمنا ان نكون حاضرين
بقرب العائلات التي تعاني من التعب والمرض والفقر والخلافات، لنزرع
فيها الوئام والطمأنينة والسلام. علّمنا كيف نجعل عائلاتنا مدرسة
ايمان وتجرد ونشاط، فتكون في خدمة العائلة الوطنية الاكبر، لك
المجد مع الآب والروح القدس، الى الابد، آمين.
الاحد 21 كانون الثاني 2007
الاحد الثالث بعد الدنح
حياة المسيح فينا
من انجيل القديس يوحنا 3/1-16
كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس، رئيس لليهود. هذا جاء
ليلاً الى يسوع وقال له: "رابي، نحن نعلم أنك جئت من الله معلماً،
لأنه لا أحد يقدر أن يصنع الآيات التي أنت تصنعها ما لم يكن الله
معه". أجاب يسوع وقال له: " ألحق الحق أقول لك: لا أحد يقدر أن يرى
ملكوت الله ما لم يولد من جديد". قال له نيقوديموس: " كيف يقدر
إنسان ان يولد وهو كبير في السنّّ؟ هل يقدر ان يدخل ثانية حشا امه
ويوُلد؟". أجاب يسوع: " الحق الحق اقول لك، لا أحد يدخل ملكوت الله
ما لم يولد من الماء والروح. مولود الجسد جسد، ومولود الروح روح.
لا تَعجبْ إن قلت لك: عليكم ان تولدوا من جديد. الريح تهب حيث
تشاء، وأنت تسمع صوتها، لكنك لا تعلم من اين تأتي ولا الى اين
تمضي: هكذا كلُّ مولود من الروح". أجاب نيقوديموس وقال له: " كيف
يمكن أن يصير هذا؟". أجاب يسوع وقال له: " أنت معلم إسرائيل وتجهل
هذا؟ الحق الحق اقول لك، نحن ننطق بما نعلّم، ونشهد بما رأينا،
وأنتم لا تقبلون شهادتنا. كلمتكم في شؤون الارض ولا تؤمنون، فكيف
تؤمنون إذا كلمتكم في شؤون السماء؟ ما من أحد صعد الى السماء إلاّ
الذي نزل من السماء، أي إبن الانسان. وكما رفع موسى الحيّة في
البرية، كذلك يجب أن يُرفع ابن الانسان، لكي تكون لكل مؤمن به حياة
أبدية. هكذا أحب الله العالم، حتى إنه جاد بابنه الوحيد، لكي لا
يهلك أي مؤمن به، بل تكون له حياة أبدية".
***
اولاً، مضمون النص الانجيلي
كشف الرب يسوع لنيقوديمس، الفريّسي والرئيس اليهودي، جوهر رسالته
وغايتها، اعني خلق الانسان من جديد بولادته الثانية من الماء
والروح بواسطة المعمودية. هذه الولادة الثانية تدخله من جديد في
شركة اتحاد بالله عامودياً، وفي شركة الوحدة مع الجماعة المؤمنة في
الكنيسة افقياً. هذا ما عناه الرب يسوع بقوله لنيقوديمس: " إنْ لم
يولد الانسان من الماء والروح، لا يستطيع ان يدخل ملكوت الله" (
يو3/5).
1.
الولادة الثانية من الماء والروح
الولادة الثانية من الماء والروح تتم بواسطة المعمودية التي تشرك
المعَّمد في موت المسيح وقيامته: " بالموت" عن الخطيئة و" القيامة"
الى الحياة الجديدة بالروح القدس. هذه الولادة الثانية هي الخلق
الجديد ( 2 كور 5/17) الذي يعيد للانسان بهاء طبيعته الاولى
المخلوقة على صورة الله، والتي خسرها بخطيئة آدم وحواء. فانكسرت
الشركة مع الله وبين الناس، كما يصفها سفر التكوين في فصوله
الاولى.
لفظة معمودية، حسب الاصل اليوناني من فعل
baptizein،
تعني الغطس او النزول في الماء ثم النهوض منه. النزول والنهوض هما
رمز الموت والقيامة. فالماء المتفجّر من الارض يرمز الى الحياة،
وماء البحر يرمز الى الموت ويمثل سرّ الصليب. من هذه الرموز نفهم
ان المعمودية تعني الشركة مع المسيح في موته ( كتاب التعليم
المسيحي، 1220).
الرب يسوع نفسه استعمل لفظة " معمودية" عندما تكلم عن سرّ
آلامه وموته مع يعقوب ويوحنا ابني زبدى، اذ سألهما: " أتستطيعان ان
تشربا الكأس التي انا اشربها، وان تصطبغا الصبغة التي انا
اصطبغها؟" ( مر10/38). فاصبح الماء مجرد رمز للموت والحياة، أما من
يحقق الولادة الثانية او الخلق الجديد، فهو الروح القدس محقق ثمار
الفداء. وكانت العلامة النبوية في الدم والماء اللذين سالا من جنب
يسوع المطعون بالحربة وهو ميت على الصليب، وكانا صورة المعمودية
والافخارستيا، سرّي الحياة الجديدة (يو19/34). هذه هي " شهادة
الروح والماء والدم. والثلاثة هم في واحد" ( 1 يو5/8). هذا
الواحد هو المسيح.
كانت المعمودية موجودة قبل المسيح، وهي معمودية التوبة التي مارسها
يوحنا المعمدان. وكانت معمودية رمزية بالماء، لكن غفران الخطايا
اتى من بعد تحقيق سرّ الفداء بموت المسيح وقيامته. ومن بعده سلّم
الرب الرسل، كهنة العهد الجديد، سلطان الحلّ من الخطايا: " خذوا
الروح القدس، من غفرتم له خطاياه غُفرت، ومن حفظتم عليه خطاياه
حُفظت" ( يو20/23)، وسلطان تعميد المؤمنين: " امضوا الآن
واعلنوا الانجيل لكل الامم، وعمدّوهم باسم الآب والابن والروح
القدس، ( متى28/19)، واضاف الرب: " هذا ما كتب: على المسيح ان
يتألم ويقوم في اليوم الثالث من بين الاموات. وباسمه ينادى بالتوبة
وبغفران الخطايا في جميع الشعوب" ( لو24/46-47)، وختم: " من يؤمن
ويعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يدان" ( مر16/16).
الولادة الثانية من الماء والروح تأتي من موت المسيح: " لقد
مات من اجلنا، به افتُدينا، وبه خلصُنا". هذا ما يؤكده القديس
امبروسيوس ( راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،
1225). وقد اعطانا الرب يسوع نموذجاً عن هذه الولادة الجديدة في "
حبة الحنطة التي اذا وقعت في الارض وماتت، أتت بثمر كثير" ( يو
12/24). اما في انجيل اليوم فالحقيقة اكدّها بهذا الكلام: " كما
رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي ان يُرفع ابن الانسان، حتى
لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية" ( يو3/13-15).
2.
الدخول في ملكوت الله
ملكوت الله هو الكنيسة،
التي " هي زرعه وبدايته في العالم" (الدستور العقائدي: في
الكنيسة،5)، على ان يكتمل في نهية الازمنة في السماء. ونعني
بالكنيسة " المسيح الكلي" اي المسيح واعضاء جسده، جماعة المؤمنين
به. ملكوت الله هو الاتحاد القائم بين الله والناس، فظهر اولاً في
شخص المسيح، الاله والانسان، وفي اقواله وامثاله ومعجزاته، وتكوّن
بشكل منظور في الكنيسة المؤلفة من العنصرين الالهي والبشري، برباط
الروح القدس (المرجع نفسه).
الدخول
في هذا الاتحاد بالله الثالوث يتم بواسطة الايمان بالمسيح
والمعمودية التي هي بمثابة الباب الى الحياة بالروح، اعني
التحرّر من الخطيئة، والولادة من جديد كابناء لله، والانتماء
العضوي الى جسد المسيح، والاندماج في سرّ الكنيسة والشركة في
رسالتها. ولذا تكون المعمودية الباب الى سائر الاسرار التي
لا ينالها سوى الذين اعتمدوا، اي الذين اصبحوا اغصاناً في كرمة
المسيح (يو15/1-8) وبالتالي تصل اليهم الماوية الروحية التي تنبع
من الاسرار اعني هبة الروح القدس وغذاء جسد الرب وغفران الخطايا
ونعمة الشفاء ومسؤولية الخدمة والرسالة.
فالاسرار السبعة تحتوي، بالنسبة الى الحياة الجديدة الروحية، على
الولادة والنمو، وعلى الشفاء والرسالة، تماماً كما تقتضي الحياة
الطبيعية. ولذا تقسم الاسرار الى ثلاثة مجموعات: اسرار النشأة
والتنشئة (المعمودية والميرون والقربان)، واسرار الشفاء (التوبة
ومسحة المرضى)، واسرار الخدمة والشركة ( الكهنوت والزواج). لكنها
تشكل معاً وحدة عضوية، يحتل فيها سرّ الافخارستيا مكاناً فريداً،
لكونه " سرّ الاسرار"، فهي كلها مرتبة اليه كالى غايتها، كما يقول
القديس توما الاكويني ( كتاب التعليم المسيحي،1210-1211).
3.
الحياة في المسيح والسلام
الدخول في ملكوت الله هو في الجوهر الحياة في المسيح، بل
حياة المسيح فينا. كما الكرمة تعطي ماويتها للاغصان فتثمر
ثمارها، كذلك حياة المسيح القائم من الموت تجري فينا فنعمل اعماله
باعمالنا. يا للمسؤولية! ويا للشرف! القديس بولس عاش هذا الواقع
وعبّر عنه بالقول: " انا احيا، ولكن لا انا الذي يحيا، بل هو يسوع
الذي يحيا فيَّ (غلا 3/20).
ناجى الطوباوي الاخ شارل دي فوكولد الرب بهذه الصلاة: " انت
تسكن في النفس الامينة يا رب. تصبح كأنك نفس هذه النفس، نعمتك
تعضدها في كل شيء، وتقودها في كل شيء، وتنير عقلها، وتوجّه
ارادتها، ليست هي التي تعمل، بل انت تعمل فيها". ويضيف: " يسوع
الحي في النفس المؤمنة انما يستعملها ليمجّد الله ويقدّس الناس. ان
الرب يطلب منا ان ندعه يواصل فينا الحياة التي بدأها على الارض.
فلندعه يعيش فينا".
لقد ردد آباء الكنيسة ان " الله صار انساناً لكي يصير الانسان
الله". ذلك ان الانسان اصبح بالمعمودية والاسرار سكنى الله الحي،
وحامل المسيح (
Christophore)
، الذي تتفجّر حياته فينا.
" المسيح سلامنا"
( افسس2/14). عندما يسكن المسيح فينا نصبح فاعلي سلام وبالتالي
ابناء لله ( متى5/9) بالابن الوحيد، وتصبح حياتنا انعكاساً لقلب
المسيح ولسلامه. هذا السلام، قال عنه الطوباوي البابا يوحنا الثالث
والعشرون في وصفه رسالته العامة " السلام على الارض" : بانه
السلام مع الله في اتمام مشيئته، والسلام مع البشر في
احترام حق كل واحد منهم، لكونه مختوماً بوجه العلي ( مز4/7)،
والسلام في العائلة حيث الازواج يعاونون الله في نقل الحياة،
وحيث ينمو البنون حول المائدة كاغراس الزيتون ( مز128/3)،
والسلام في قلب الامم، حيث يسهر المسؤولون السياسيون على تعزيز
الخير العام وحسن التنظيم لحياة المواطنين، والسلام في العلاقات
بين الشعوب بروح الصدق والتضامن والتعاون ونبذ سوء الفهم
والوعيد ( رسالة فصحية في 13 نيسان 1963).
***
ثانياً جسد المسيح الواحد وانقسام الكنائس
يبدأ في 18 كانون الثاني، عيد قيام كرسي بطرس في روما، اسبوع
الصلاة من اجل وحدة المسيحيين. يجب التمييز بين تنوع الكنائس في
وحدة شركة الايمان والعقيدة، والانشقاقات التي تكسر هذه الوحدة
–الشركة.
في الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية يوجد تنوع الطقوس او الكنائس
وهي الطقس الروماني في كنيسة روما، او الكنيسة الغربية، وطقوس
الكنائس الشرقية وهي، الطقس الانطاكي، والطقس البيزنطي او
القسطنطيني، والطقس الاسكندري، والطقس الكلداني، والطقس الارمني.
" الطقس-
Rite"
يعني التراث الليتورجي واللاهوتي والروحي والتهذيبي المتّسم بثقافة
الشعوب وظروفها التاريخية، ويُعبّر عنه بالطريقة التي تعيش بها
الايمان كل كنيسة متمتعة بحكم ذاتي ( مجموعة قوانين الكنائس
الشرقية، ق 28).
هذا التنوع يشكّل ثروة وغنى للكنيسة الجامعة ويجعلها مزيّنة
كعروس مهيأة لعريسها.
اما الكنيسة الواحدة القائمة حول خليفة بطرس على كرسي روما ونائب
السيد المسيح والمعروفة بالكنيسة الكاثوليكية فمنقسمة، وفيها
انشقاقات توالت عليها في حقبات تاريخية متنوعة.
1. الكنيسة الاشورية او كنيسة الشرق
انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية في اعقاب مجمع افسس المنعقد سنة 413
الذي اثبت ان ابن الله، يسوع المسيح، اله كامل وانسان كامل، وان
العذراء مريم هي والدة الاله. هذه الكنيسة تعترف بمجمعي نيقية
الاول (3215) الذي اثبت ان الابن له ذات الجوحر الذي هو للآب،
والقسطنطينية الاول ( 381) الذي اثبت ان الروح القدس له ذات الجوهر
الذي هو للاب والابن.
2. الكنائس الشرقية الارثوذكسية،
وهي القبطية والسريانية والارمنية، انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية
في اعقاب مجمع خلقيدونيا (451) الذي اثبت ان في الابن طبيعتين
كاملتين احدهما الهية والثانية بشرية في اقنوم واحد. تعترف هذه
الكنائس بالمجامع المسكونية الثلاثة الاولى: نيقية الاول،
والقسطنطينية الاول، وافسس.
3. كنائس الروم الارثوذكس
التي تتبع الطقس القسطنطيني او البيزنطي. انشقت عن الكنيسة
الكاثوليكية في سنة 1054 لاسباب تختص اساساً بسلطة قداسة البابا.
انها تعترف بالمجامع المسكونية السبعة الاولى، وهي، بالاضافة الى
الاربعة المذكورة: القسطنطيني الثاني (537) الذي شرح وثبّت تعاليم
المجامع السابقة، والقسطنطيني الثالث ( 681) الذي اثبت ان في الابن
مشيئتين احدهما الهية والثانية بشرية في اقنوم واحد، والنيقاوي
الثاني ( 787) الذي اثبت تكريم الصليب وايقونات الطوباوية مريم
العذراء والقديسين.
4. الكنائس البروتستنتية
التي انشقت عن الكنيسة الرومانية مع مرتين لوثير
Luther
(1483-1546). بدأ في المانيا الاصلاح الديني المعروف
بالبروتستانتية وانفصل عن الكنيسة الرومانية سنة 1517 في شأن
الغفرانات وسلطة البابا والتبتل واكرام القديسين والمطهر والقداس.
وتواصلت حركة الاصلاح البروتستانتية مع يوحنا كلفين-
Calvin
(1509-1564) في فرنسا وسويسرا.
5. الكنيسة الاتغليكانية
التي انفصلت عن كنيسة روما سنة 1535 مع الملك هنري الثامن (
1491-1547)، بسبب رفض البابا كليمنضوس السابع ابطال زواجه. تُسمى
انغليكانية بالنسبة الى مذهب الدولة في انكلترا.
الصلاة
من اجل وحدة المسيحيين تواصل صلاة الرب يسوع: " ليكونو واحداً، يا
ابتِ كما نحن واحد. انت فيَّ وانا فيهم. ليكونوا واحداً فينا ليؤمن
العالم انك انت ارسلتني، وانك احببتهم كما احببتني" ( يو 17/22-23).
يواكب الصلاة اعمال لجان مسكونية تعمل على مستوى عالمي واقليمي مثل
اللجنة المسكونية الدولية ومجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق
الاوسط. وقد تحقق الكثير من الاتفاقات المسكونية بين
الكنيسة الكاثوليكية وهذه الكنائس. وتقتضي الصلاة من اجل الوحدة
التزاماً روحياً قوامه ارتداد القلب والتجرد والتواضع، والتزاماً
بقداسة الحياة بالعيش وفقاً لروح الانجيل، والتزاماً بمواصلة
الصلاة الفردية والعمومية المشتركة لطلب نعمة الواحدة ( متى18/20).
***
ثالثا، الخطة الراعوية
تجمع الخطة الراعوية الهيكليات الرعوية، مجالس ولجاناً ومنظمات
رسولية، فضلاً عن العائلة والجماعة الديرية وسائر المؤسسات
والاندية، لتفكّر معاً وتأخذ المبادرات العملية. تتناول اليوم
العنصر الرابع من هوية كنيستنا انها "بطريركية ذات طابع نسكي
ورهباني" (الفقرات 18-22)، كما يبّينه النص المجمعي الثاني وهو
بعنوان: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها.
1. انها كنيسة بطريركية تكوّنت في كنف دير مار مارون بين
نهايات القرن السابع والنصف الاول من القرن الثامن. فبرز الموارنة
جماعة كنسية مستقلة ضمن الكرسي الانطاكي، مميزة بطابع نسكي
ورهباني أثرّ في روحانيتها وتنظسمها الكنسي. تقتضي الخطة
الراعوية ابراز هذا الطابع وهذا الاثر، وايجاد السبل لتأوينه
(فقرة 18).
2. غير ان للطابع النسكي الرهباني بُعده الراعوي. فدير مار
مارون، كما سائر الاديار وما حولها من جماعات مسيحية، كانت في
الهيكلية الانطاكية من خلال الاسقف رئيس الدير. في القرن السادس،
وقبل انشاء البطريركية، اسندت الكنيسة الانطاكية الى " رئيس دير
الطوباوي مارون" مهمة اكسرخوس لاديار سوريا الثانية، كرقيب عليها
ووسيط بينها وبين البطريركية من جهة والامبراطور من جهة ثانية
(فقرة 19). وظهر هذا البعد الراعوي للطابع الرهباني في سلسلة
البطاركة- الرهبان مع القديس يوحنا مارون، البطريرك الاول، وقد
تواصلت دونما انقطاع حتى القرن السابع عشر. وكان الرهبان، بعد
سيامتهم الاسقفية، يستمرون في الحالة الرهبانية التي اعتنقوها،
وكانت كراسيهم تُدعى حتى يومنا " ادياراً" (فقرة 20). كما يظهر في
لاسكيم الرهباني الذي يتّشح به الاسقف، راهباً كان ام ابرشياً
(فقرة 21).
انطلاقاً من هذا الطابع الرهباني، عُرفت الكنيسة المارونية بجماعة
ديرية كبيرة هي " رعية البطريرك"، تمحورت حول دير الكرسي
البطريركي، ورأت في الجالس عليه " الاب والرئيس" والحافظ
لوحدتها.
ان الخطة الراعوية تقتضي اتخاذ مبادرات لتوطيد عرى الوحدة
حول شخص البطريرك في الشؤون الروحية والراعوية والاجتماعية
والوطنية، جرياً على عادة كنيستنا من جيل الى جيل. وتقتضي ان تحافظ
الكراسي الاسقفية على الصلاة الخورسية وممارسة الاصوام وبساطة
الحياة والعناية بالارض (فقرة 22).
***
صلاة
نصلي مع الرب يسوع:
" ايها الآب القدوس، احفظ باسمك الذين وهبتهم لي. ليكونوا
واحداً كما نحن واحد. لا تخرجهم من العالم، بل احفظهم من الشرير.
ايها الآب، قدّسهم بحقك، فأن كلمتك هي الحق. كما ارسلتني الى
العالم، انا ايضاً ارسلهم الى العالم. ولاجلهم اقدّس ذاتي، ليكونوا
هم ايضاً مقدّسين بالحق، ويكونوا واحداً كما نحن واحد، انا فيك
وانت فيّ، ليكونوا هم ايضاً فينا، آمين". (يوحنا 17).
*****
الاحد 28 كانون الثاني 2007
احد الكهنة
الامانة والحكمة في ممارسة السلطة
من انجيل القديس لوقا 12/42-48
" من تُراه الوكيل الأمين الحكيم الذي يُقيمه سيّده على خدمه
ليعطيهم حصتهم من الطعام في حينها؟ طوبى لذلك العبد الذي، متى جاء
سيّده، يجده فاعلاً هكذا! حقاً أقول لكم: إنه يُقيمه على جميع
مقتنايته. أما إذا قال ذلك العبد في قلبه: سيتأخر سيدي في مجيئه،
وبدأ يضرب الغلمان والجواري، يأكل ويشرب ويسكر، يجيء سيّد ذلك
العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها، فيفصله، ويجعل نصيبه
مع الكُافرين. فذلك العبد الذي عرف مشيئة سيده، وما اعد شيئاً، ولا
عمل بمشيئة سيده، يضرب ضرباً كثيراً. أما العبد الذي ما عرف مشيئة
سيده، وعمل ما يستوجب الضرب، فيضرب ضرباً قليلاً. ومن أعطي كثيراً
يُطلب منه الكثير، ومن اؤتمن على الكثير يُطالب بأكثر".
**
تبدأ مع هذا الاحد اسابيع التذكارات الثلاثة: تذكار الكهنة،
الابرار والصديقين، والموتى المؤمنين، الذين سبقونا الى بيت الآب.
التذكار يعني ذكرهم بالصلاة تشفعاً واستشفاعاً، والاقتداء
بمثلهم. اما التذكار بامتياز فنجده في سرّ الافخارستيا:
عندما نحتفل بالقداس، نحيي تذكار موت المسيح وقيامته، بحيث تتحقق
الآن عملية فدائنا اعني استمرارية موته على الصليب فداءً عنا،
وقيامته من بين الاموات لتبريرنا، واستمرارية وليمة جسده ودمه في
العشاء الفصحي للحياة الالهية التي تجري فينا ( الرسالة العامة
للبابا يوحنا بولس الثاني " الكنيسة من الافخارستيا،11 و12)؛ في
اطار هذا التذكار نذكر كل ابناء الكنيسة وبناتها الاحياء والاموات.
انجيل اليوم ينطبق على الكهنة المقامين في الدرجة المقدسة
وعلى جميع المعمدين الذين اصبحوا منتمين الى الكهنوت العام، وعلى
كل مسؤول في الاسرة والمجتمع والوطن. انه انجيل الامانة للمسؤولية
والحكمة في السلطة: " من تراه الوكيل الامين الحكيم" (لو12/42).
يأتي كلام الرب يسوع في معرض الحديث عن السهر لبناء ملكوت الله في
مدينة الارض، وهو ملكوت المحبة والعدل والخدمة والاخاء: " لا تخف
ايها القطيع الصغير، فقد سرّ ابوكم ان يعطيكم الملكوت" (لو12/32)،
ويدعو الى الاهتمام بشأن هذا الملكوت كغاية، نسعى اليها عبر تأمين
حاجات الحياة في هذه الدنيا: " اطلبوا اولاً ملكوت الله وبره
والباقي يزاد لكم" (لو12/31).
1.
الكاهن
الكاهن في الكنيسة رجل ائتمنه الرب يسوع على اعلان الانجيل
بالكرازة والتعليم (الخدمة النبوية اوالتعليم)، وعلى توزيع النعمة
الالهية والحياة الجديدة بالاحتفال باسرار الخلاص واحياء العبادة
الالهية (الخدمة الكهنوتية او التقديس)، وعلى بناء جماعة المحبة
والمصالحة والتضامن (الخدمة الملوكية او التدبير). يؤدي الكاهن هذه
الخدمة المثلثة بشخص المسيح وباسمه، هو الذي اشركه بكهنوته ووكّله
على اسرار الله (1كور4/1). عليه ان يكون " الوكيل الامين الحكيم":
بوصفه وكيلاً يصنع ما صنع المسيح، ويمارس السلطات نفسها،
فهو خادم ليسوع المسيح، وبه ومعه ومن اجله يصبح خادم الناس".
ومطلوب من الوكيل ان يكون اميناً لشخص المسيح الذي يمثله،
فبقدر ما يكون الكاهن مرتبطاً بالمسيح يكون قادراً على خدمة
الجميع؛ وكيل حكيم ينظر من منظار المسيح الى حاجات الذين
اوكلوا الى خدمته، وهم بنو بيت الله، ليعطيهم في حينه طعام الكلمة
والنعمة والمحبة. الامانة والحكمة لا تنفصلان عن كيان الكاهن
المكرّس للخدمة ( مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك: رسالة راعوية الى
الكهنة، 10).
الكهنوت مسؤولية يؤدي عنها الكاهن حساباً امام الله: " فمن استودع
كثيراً يُطلب منه اكثر مما في يده" ( لو12/48). اما اهمال الخدمة
فيستوجب القصاص: " اما الخادم الذي يعرف مشيئة سيده، ولم يهيء له
بحسب مشيئته يضرب كثيراً" ( لو12/47). روح الخدمة الكهنوتية
المحبة الراعوية. ليس الكاهن مجرد موظف، ولا يمكن تقليص خدمته
الى نواحيها الوظيفية والطقوسية.
ان مهمته الاساسية رعاية الايمان في نفوس الناس: يثقف الايمان
ويربيه في المؤمنين بالتعليم والعمل الكرازي في رعيته؛ يزور كأب
جميع ابناء رعيته في بيوتهم ويلتقيهم في واقع حياتهم الزوجية
والعائلية والاجتماعية؛
يحيط اسرار الخلاص، ولاسيما المعمودية والقربان والزواج، بعمل
راعوي تحضيري وتثقيفي وادائي يساعد على ادراك معانيها في حياة
المؤمنين، فلا يكون السّر مجرد عادة اجتماعية، بل يكون عملاً
ايمانياً ينال منه المؤمن ثماره الروحية.
ويدرك ما للعلمانيين من دور في حياة الكنيسة ورسالتها، فيشجع
ويبارك كل المواهب والوظائف التي يوزعها الروح على المؤمنين لبناء
الكنيسة، ويوليهم الثقة الكافية ويحمّلهم المسؤوليات اللازمة في
خدمة الكنيسة بمقدار ما عندهم من خبرة ومعرفة وغيرة، من خلال
المجلس الرعائي والهيكليات القانونية والمنظمات الرسولية، تحقيقاً
للشركة في الايمان والرسالة.
يعتبران الفقراء والصغار هم في عهدته بصورة خاصة، فيحوطهم
بالعناية والمحبة ويكشف لهم عن قيمة حالتهم في سرّ آلام المسيح،
ويعمل جاهداً مع ابناء رعيته على الاهتمام بهم وتقديم العون المادي
والروحي والمعنوي لهم واخراجهم من فاقتهم، " هم الذين لبسوا وجه
المسيح وأضحوا احباء الله"؛ يعتبر نفسه خادماً لجميع الناس ولكل
انسان في رعيته، اياً كان دينه او طائفته او انتماءاته الاجتماعية
او السياسية، ذلك ان محبة الله ترسله الى كل من يلتقيه من خلال
يومه وعمله، ليكون اداة نعمة الله للجميع؛ يجتهد في بناء السلام
والاستقرار في محيطه، فخدمته تشمل الشأن العام ايضاًَ في كل ما
يؤمّن حقوق الانسان والاستقرار السياسي والعدل والسلام.
كل هذه المسؤوليات التي يحملها الكاهن تستمد حافزها وقوتها من
" المحبة الراعوية" على مثال السيد المسيح، الكاهن الاسمى
والراعي الصالح الذي "يبذل حياته في سبيل الخراف" (يو10/11؛ راجع
رسالة البطاركة الى الكهنة،30-41).
2.
المعمدون العلمانيون
المسيحيون العائشون في العالم مؤتمنون هم ايضاً على "طعام المسيح
كوكلاء يعطونه لبني بيت الله": فبفضل المعمودية اتحدوا بالمسيح
واقيموا شعباً لله، وجُعلوا شركاء في وظائف المسيح النبوية
والكهنوتية والملوكية ( هوية الوكيل)، دعوا، حسب حالة كل
واحد منهم لقبول الكلمة والنعمة والمحبة، والشهادة لها في محيطهم
بالمسلك والقول والمبادرات، وهي رسالة اسندها الله الى الكنيسة
لاتمامها في العالم ( خدمة الوكيل). من هذه الهوية والخدمة
تتحدر حقوق وواجبات تشكل مسؤولية المؤمنين المسيحيين العائشين في
العالم يمارسونها في الكنيسة-السر، والكنيسة-الشركة، والكنيسة-
الرسالة.
أ- في الكنيسة – السر،
لهم حق الاتحاد بالله، وعليهم واجب السعي الى هذا
الاتحاد وعيشه من خلال سماع كلام الله وحفظ وصاياه، والمصالحة معه
بتوبة القلب، والاغتذاء بجسد الرب ودمه، والصلاة الشخصية
والجماعية. هذا على صعيد الهوية والكيان. اما على صعيد الرسالة،
فالواجب هو المساهمة في بناء الكنيسة، جسد المسيح السري، من خلال
سعيهم الى الكمال المسيحي ليبلغوا مقدار قامة المسيح (التعليم
المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،2045).
ب- في الكنيسة – الشركة،
لهم الحق في الانتماء الكامل اليها، وعليهم واجب
المحافظة على الشركة بالمسلك الملائم للحالة المسيحية من خلال
معرفة العقيدة، والعيش الخلقي بموجب حقائق الايمان، بطرح السؤال
الدائم: بماذا اؤمن؟ وماذا يجب ان اعمل؟
ج- في الكنيسة –الرسالة،
لهم الحق وعليهم الواجب بالمشاركة في رسالة الخلاص،
والقيام بها تجاه جميع الناس من كل زمان ومكان. هو حق
اولاهم اياه الرب يسوع بحكم مسحة المعمودية، لا ينتزعه منهم احد، وواجب ملزمون به لا يمكنهم التخلي عنه ( راجع القوانين
12،13،14،406).
ان المسيحيين العائشين في العالم موكلّون هم ايضاً، بحكم
اندماجهم في الكهنوت العام، على الرسالة المنوطة بكل الشعب المسيحي
وهي ان يبثوا الروح الانجيلية في النظام الزمني اي في النشاط
الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والاداري والثقافي، كما وفي الحياة
الزوجية والعائلية وتربية الاولاد. وبهذا يؤدون خدمة حقيقية
للانسان والمجتمع الوطني (الدستور العقائدي في الكنيسة،31؛ رجاء
جديد للبنان، 112). عليهم ان يتصفوا بالامانة والحكمة،
لكونهم " في الخط الامامي من حياة الكنيسة، التي تصبح بواسطتهم
العنصر الحيوي في بنية المجتمع البشري. وبالتالي لا ينتسبون فقط
الى الكنيسة، بل هم الكنيسة (البابا بيوس الثاني عشر، راجع
العلمانيون المؤمنون بالمسيح،9).
3.
رجال السياسة: خدمة الخير العام وقضية السلام
رجال السياسة هم الوكلاء بامتياز الذين اوكل الله اليهم ان يعطوا "
الطعام لبني بيته"، على المستوى الزمني.
انهم وكلاء الله،
" لان لا سلطة إلاّ من الله: والسلطات القائمة هي الذي وضعها
لخدمة الخير" (روم13/1-3). ولكن اذا تجاوزت السلطة السياسية
حدودها، وانتهجت سياسة الظلم والكيد والاستبداد والتسلط والاستضعاف
وتغليب المصالح الخاصة على الصالح العام، فيحق للمواطن اعتراض
الضمير، لان " الطاعة لله اولى من الطاعة للناس" ( اعمال5/29).
الطعام المؤتمنون عليه
هو الخير العام الذي من اجله وُجدت السلطة السياسية، وهو
مبرر وجودها. انه يشمل مجمل الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية
والثقافية والوطنية والخلقية التي تمكّن الناس والعائلات
والمجموعات من تحقيق ذواتهم تحقيقاً أكمل (الكنيسة في عالم اليوم،
74). وتؤمّن هذه الاوضاع من خلال مهام ثلاث: تنظيم الحياة
العامة في مقتضياتها اليومية في خدمة العدالة التي تخلق اوضاع
مساواة وتكافؤ فرص بين المواطنين، وتعمل على ألا يصبح الاغنياء
اكثر غنى والفقراء اكثر فقراً؛ وفي تعزيز التضامن الذي ينتصر على
انانية الاشخاص والدول ( البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب الى
البرلمانيين ورؤساء الحكومات، 10/11/2000). وتنظيم الدولة –
داخياً، بحسن الادارة وتنقيتها من الفساد ووضع المخططات في
ميادين الاقتصاد والاجتماع والتشريع والثقافة الرامية الى تأمين
حقوق المواطنين الاساسية، وخارجياً بابرام اتفاقات مع الدول
توفر مصالح البلاد وشعبه. وتعزيز محبة الوطن بالمحافظة على
قيمه وتراثه وكرامة شعبه، وعلى سيادته واستقلاله وحرية قراره،
وبتحقيق امال ابنائه وتطلعاتهم وازالة هواجسهم ودرء ما يتهددهم من
اخطار.
يخون رجال السياسة وكالتهم والله سيدهم كل مرة يجعلون السياسة، هذا
الفن الشريف، مجرد وسيلة لتأمين المصالح الخاصة على حساب الصالح
العام، ولبلوغ غايات انتخابية وكسب الانصار والاحتفاظ بالسلطة
واختلاس اموال الدولة، وما هو أسوأ (المرجع نفسه، 4).
ان وكالتهم معطاة لهم من السيد المسيح " امير السلام"
(اشعيا9/6)، لكي يخدموا قضية السلام من خلال توجيه أفكارهم
وعنايتهم وقواهم لتعزيز الخير العام للجميع. فبدونه يكون السلام
كلمة جوفاء. ولا سلام يبلغ اليه العمل السياسي ما لم يكن مؤسساً
على الحقيقة، ومستنيراً بمبادىء العدالة، ومنطقياً
بروح المحبة، ومتمماً بحرية (البابا يوحنا الثالث
والعشرون: السلام على الارض،167).
***
ثانياً، ختام اسبوع الصلاة من اجل وحدة المسيحيين
في هذا الاسبوع يقع عيد ارتداد بولس الرسول (25 كانون
الثاني)، وفيه اختتام اسبوع الصلاة من اجل وحدة المسيحيين.
كان ارتداد شاول الى المسيحية سنة 43 عندما أبرق حوله نور من
السماء اسقطه ارضاً، وسمع صوتاً يقول له: شاول شاول، لماذا
تضطهدني؟ فقال له: من انت؟ فاجاب: انا يسوع الذي انت تضطهده، وكان
شاول متوجهاً الى دمشق ليسوق موثقين الى اورشليم اتباع يسوع
المسيح. فتحوّل شاول من مضطهد للكنيسة الى بولس رسول يسوع المسيح (
اعمال الرسل 9/1-22).
بدأ اسبوع الصلاة من اجل وحدة المسيحيين في الثلاثينات من
القرن الماضي اي منذ سبعين سنة مع الآب بول
Couturier)
الفرنسي في ليون، بنتيجة الحوار المسكوني الذي قاده الكردينال
Mercier
رئيس اساقفة
Malines-Bruxelles،
بتشجيع من البابا بيوس الحادي عشر. من اجل وحدة المسيحيين ترك
الكردينال
Mercier
هذه الوصية اروحية التي تبقى الاساس للصلاة والعمل المسكوني: "لكي
نتوحّد يجب ان نتحاب، ولكي نتحاب يجب ان نتعارف، ولكي نتعارف يجب
ان نذهب الى ملاقاة الواحد الآخر".
تجدر الاشارة ان مبادرة الصلاة من اجل وحدة المسيحيين بدأها سنة
1908، في عهد البابا بيوس العاشر ابوان من الكنيسة الانغليكانية،
هما سبنسر جونس ولوي-بول واتسون.
في سنة 1948 أُنشىء مجلس الكنائس العالمي في امستردام. وسنة
1960 اسس البابا يوحنا الثالث والعشرون امانة سرّ وحدة المسيحيين
في الكوريا الرومانية. وفي سنة 1961 شارك اول مراقبين كاثوليك
في اعمال مجمع الكنائس العالمي في اجتماع نيو دلهي. وجاءت وثيقة
المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني " القرار في الحركة المسكونية"
في 21 تشرين الثاني 1964، الذي استُهل بهذه الكلمات: " ان العمل
على اعادة الوحدة بين جميع المسيحيين هو احدى الغايات الرئيسية
للمجمع المقدس المسكوني الفاتيكاني الثاني. وفي 25 اذار 1993 اصدر
المجلس الحبري لتعزيز وحدة المسيحيين " الدليل لتطبيق
المبادىء والقواعد حول الحركة المسكونية" وهو معرف " بالدليل
المسكوني" الذي وُضع نصه الاول سنة 1970، واعيد النظر فيه
بالدليل الحالي بعد صدور مجلة الحق القانوني للكنيسة اللاتينية
(1983)، ومجموعة قوانين الكنائس الشرقية (1990)، وكتاب التعليم
المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (1992).
نشكر الله على ما تمَّ انجازه بشأن الحوار اللاهوتي المسكوني على
مستوى الشرق الاوسط، فنذكر:
1971: الاتفاق الكريستولوجي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة
السريانية الارثوذكسية الذي وقعه البابا بولس السادس والبطريرك مار
اغناطيوس يعقوب الثالث. ثم توسع فيه سنة 1984 البابا يوحنا بولس
الثاني والبطريرك مار اغناطيوس زكا الاول عيواص.
1973: الحوار اللاهوتي الرسمي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة
القبطية الارثوذكسية بعد زيارة البابا شنوده الثالث الى الفاتيكان.
1993: وثيقة اللجنة المشتركة الدولية للحوار اللاهوتي بين الكنيسة
الكاثوليكية والكنيسة الروم الارثوذكسية في ختام اجتماع دير
البلمند. وفيها مبادىء اكليزيولوجية وقواعد راعوية.
1994: الاعلان الكريستولوجي المشترك بين الكنيسة الكاثوليكية
والكنيسة الاشورية الموقّع من البابا يوحنا بولس الثاني والبطريرك
مار دنخا الرابع.
1996: الاعلان المشترك بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الارمنية
الارثوذكسية، الموقّع من البابا يوحنا بولس الثاني والكاثوليكوس
كاريكين الاول.
ولا بدّ من التنويه بالحوار الجاري في اطار مجلس كنائس الشرق
الاوسط، وقد وضعت دراسات وابحاث حول اربعة مواضيع: لغة عربية
مشتركة لسرّي الثالوث الاقدس والتجسّد؛ انبثاق الروح القدس من الآب والابن؛ قانون الايمان النيقاوي- القسطنطيني؛ والنص الموحّد
للصلاة الربية " الابانا".
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
تواصل الخطة الراعوية في هذا الاسبوع التفكير معاً حول ما جاء في
النص الثاني من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان:
هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، وبوجه التحديد
العنصر الخامس المكّون للهوية وهو ان الكنيسة المارونية في
شركة تامة مع الكرسي الرسولي الروماني.
1.
الكنيسة المارونية منذ نشأتها " جماعة خلقيدونية"، ومنذ تكوينها
كنيسة بطريركية في اواخر القرن السابع واوائل القرن الثامن، كانت
متحدة اتحاداً تاماً بكرسي روما حول شخص خليفة بطرس ونائب
السيد المسيح. وحافظت على هذا التقليد حتى يومنا، بفضل استقلاليتها
وابتعادها عن النزاعات اللاهوتية بين اللاتين واليونان حول طبيعة
الكنيسة وبنيتها التي ادّت الى الانشقاق الكبير سنة 1054، وبفضل
ايمانها بسرّ التجسّد وفق الصيغة الخلقيدونية ( فقرة 29).
تسعى الخطة الراعوية الى ايقاظ الوعي لما للكنيسة المارونية
من دور مسكوني، بحكم حالة الشركة مع الكرسي الرسولي الروماني
والتراث الانطاكي المشترك، في سبيل استعادة الوحدة في الكنيسة
الجامعة من خلال الشركة التامة بين الكنائس ( فقرة 30). وتفكر
الجماعات الرعوية في مبادرات لتنشيط العمل المسكوني على مستوى
الصلاة معاً افردياً وعمومياً، والتعارف، والشهادة للايمان
المسيحي، والتعاون في الحقل الاجتماعي والانمائي والثقافي والخلقي
( راجع القرار في الحركة المسكونية، 12؛ والدليل المسكوني، 5).
2. كان للشركة التامة
بين الكنيسة المارونية والكنيسة الرومانية آثار ايجابية
مهمة ساعدتها على تأدية رسالتها في محيطها بحيوية وفعالية. تسعى
الخطة الراعوية الى اكتشاف هذه الآثار في ضوء النص المجمعي:
أ- الانفتاح على الغرب والافادة من مقدراته العلمية والفكرية منذ
تأسيس مدرسة روما سنة 1584، لتعريف الغرب على الشرق ولتعزيز النهضة
الثقافية في الشرق.
ب- بلورة هوية لبنان الفريدة القائمة على التعددية الثقافية ( فقرة
31).
ج- الاستفادة من المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي يشكّل ربيع
الكنيسة، لاطلاق ورشة التجديد في كنيستنا على مختلف
الاصعدة. وقد ساعد عليها بالاكثر السينودس من اجل لبنان في الارشاد
الرسولي " رجاء جديد للبنان"، والمجمنع البطريركي الماروني (فقرة
33).
تقتضي الخطة الراعوية، في ضوء هذه الاحداث الكنسية الثلاثة،
رسم خطة لرسالة كنيستنا في لبنان، والعالم العربي، مع تحديد
تطلعاتها.
د- ولما كان المجمع الفاتيكاني الثاني قد تعمّق في المفهوم
اللاهوتي للكنيسة- الشركة، مستعيداً التقليد البيبلي والآبائي
المشترك بين الشرق والغرب في الالفية الاولى، تقتضي الخطة
الراعوية تعزيز الحوار والتعاون بين الكنائس الكاثوليكية ومع
الكرسي الرسولي من اجل خدمة رسولية اشمل وانجح (الفقرة 34).
***
صلاة
نصلي مع الرب يسوع:
" ايها الآب القدوس، ان الذين وهبتهم لي، قد وهبتهم المجد الذي
اعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن واحد. انا فيهم وانت فيّ، ليكونوا
كاملين لواحد، ليعلم العالم انك انت ارسلتني، وانك أحببتهم كما
احببتني. ايها الآب اريد ان يكون الذين وهبتهم لي هم ايضاً معي،
حيث أكون ليشاهدوا مجدي الذي وهبتنيه. لقد عرّفتهم اسمك وسأُعرفّهم
ايضاً، حتى ان ذاك الحب الذي احببتنيه يكون فيهم، واكون انا فيهم.
آمين ( يوحنا 17).
الاحد 4 شباط 2007
احد الابرار والصديقين
انجيل المحبة والسلام ورسالة العائلة
من انجيل القديس متى 25/31-46
قال الرب يسوع: " متى جاء ابن الانسان في مجده، وجميع الملائكة
معه، يجلس على عرش مجده. وتجمع لديه جميع الامم، فيميّز بعضهم عن
بعض، كما يميّز الراعي الخراف من الجداء. ويقيم الخراف عن يمينه
والجداء عن شماله. حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا
مباركي ابي، رثوا الملكوت
المعدّ
لكم منذ إنشاء العالم؛ لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت
غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فزرتموني، ومحبوساً
فأتيتم إلي. حينئذ يجيبه الابرار قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً
فأطعمناك، أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو
عرياناً فكسوناك؟ ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟
فيجيب الملك ويقول لهم: الحق أقول لكم: كل ما عملتموه لأحد إخوتي
هؤلاء الصغار، فلي عملتموه! ثم يقول للذين عن شماله: إذهبوا عنّي
يا ملاعين، الى النار الابدية المعدة لإبليس وجنوده؛ لأني جعت فما
أطعمتموني، وعطشت فما سقيتموني، وكنت غريباً فما آويتموني،
وعرياناً فما كسوتموني، ومريضاً ومحبوساً فما زرتموني! حينئذ يجيبه
هؤلاء أيضاً قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً أو عطشان أو غريباً
أو مريضاً أو محبوساً وما خدمناك؟ حينئذ يجيبهم قائلاً: الحق أقول
لكم: كل ما لم تعملوه لأحد هؤلاء الصغار، فلي لم تعملوه. ويذهب
هؤلاء الى العذاب الأبدي، والأبرار الى الحياة الأبدية".
**
46
في تذكار الابرار والصديقين تقرأ الكنيسة انجيل "
المحبة والسلام الذي عاشوه، والذي سندان عليه. ولهذا سُمّوا
ابراراً وصديقين لانهم ينعمون بمشاهدة وجه الله، الذي هو محبة، في
مجد السماء، ومن بينهم من رفعتهم الكنيسة على المذابح مثل القديس
شربل والقديسة رفقا والطوباوي نعمة الله. ونأمل ان يُرفع على
المذابح ايضاً المكرم الاب يعقوب حداد الكبوشي، وخادم الله
البطريرك اسطفان الدويهي، والاخ اسطفان نعمه من الرهبانية
اللبنانية المارونية، الذين تجري دعاوى تطويبهم حالياً لدى الكرسي
الرسولي في روما.
اولاً، شرح النص الانجيلي
1.
في المحتاج يتجلى وجه المسيح
يستعمل الرب يسوع صيغة المتكلم ليقول: " كنت جائعاً،
عطشاناً، غريباً، عرياناً، مريضاً، محبوساً.... فكل ما صنعتموه الى
احد اخوتي هؤلاء الصغار فاليّ صنعتموه" (متى25/35-36، 40). انه
يتماهى مع كل محتاج مادياً وروحياً ومعنوياً، في الحالات الست
المذكورة. كلها تقتضي منا مواقف محبة وخدمة: نحبهم ونخدمهم اذا كانت فينا محبة الله، ذلك ان " المحبة هي من الله. فمن
يحب هو مولود من الله، ومن لا يحب لا يعرف الله" ( 1يو4/7-8).
نحبهم ونخدمهم اذا كان فينا ايمان ملتزم بالاعمال: " اذا
كان اخ او اخت عريانين، وليس لهما قوت يوم، وقال لهما احدكم:
“اذهبا بسلام واستدفئا واشبعا"، ولم تعطوهما حاجة الجسد، فماذا
انتفعا؟ كذلك الايمان وحده، بدون اعمال، ميت" (يعقوب 2/15-17).
محبة الله تدفع الى الخدمة وتولّد السلام في قلب الانسان،
اياً كان، لاعتباره في كرامته كشخص وابن مخلوق على صورة الله.
المحبة تتجاوز افق الاخوّة في الايمان، لان " كل انسان هو اخي"،
وبخاصة من كان فقيراً، ضعيفاً، متألماً، مظلوماً، فتعرف المحبة ان
تكتشف فيه وجه المسيح ووجه الاخ وتحبه (في وظائف العائلة المسيحية،
64). هذه الصفحة الانجيلية هي انجيل الشركة (المحبة)
والتقاسم ( الخدمة). مع الغريب والمريض والسجين ندخل في شركة شخصية، قائمة على الاستضافة والزيارة والحوار، مع ما
يرافقها من مشاعر انسانية وعلاقة مودة واحترام وتفهّم واصغاء. اما الجائع والعطشان والعريان: فنتقاسم معه ما لدينا من خيرات
ومواهب وامكانيات، " لان خيرات الارض معدّة لجميع الناس".
الشركة والتقاسم، في هذا المفهوم، يسميان " المسألة الاجتماعية" الهادفة
الى انماء الانسان والمجتمع، انماءً اصيلاً يحترم الشخص
البشري ويعززه في كل حالاته الاجتماعية والاقتصادية كجائع وعطشان
وعريان ومريض، وفي حالاته الروحية والثقافية والانسانية كغريب
وسجين (البابا يوحنا بولس الثاني: في الشأن الاجتماعي،1و34). هذا
الانماء الاصيل والشامل هو الاسم الجديد للسلام ( البابا
بولس السادس: " ترقي الشعوب" ، فقرة 87).
والمسألة الاجتماعية قضية خلقية تلزم الضمير الذي هو مصدر
كل قرار. انها موجب خلقي يطاول القرارات الشخصية والقرارات
الحكومية، وهي واجب تضامن يعني " الشعور بالمسؤولية تجاه
الاكثر ضعفاً والاستعداد لمقاسمتهم ما نملك، لا مجرد شعور بالشفقة
سطحي وعابر، بل يعني قراراً حازماً وثابتاً بالعمل من اجل الخير
العام الذي هو خير الجميع وخير كل واحد، ذلك اننا كلنا مسؤولون عن
كلنا" ( الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 38). التضامن يساعدنا على
رؤية الآخر، شخصاً كان ام شعباً ام امّة، لا كاداة او سلعة
تُستعمل بل "كشبيه بنا وعون لنا" (تكوين2/18 و20)، فلا استغلال ولا
استضعاف ولا تدمير.
والتضامن فضيلة مسيحية مصدرها الحب الذي يميّز تلاميذ
المسيح (يو13/35). انها تتخطى الذات وترى في الانسان ليس فقط
كائناً بشرياً له حقوقه ومساواته الاساسية، بل صورة الله الحية،
المفتداة بدم المسيح، والمقدسة بالروح القدس، ولهذا يُحب ولو كان
عدواً (الاهتمام بالشأن الاجتماعي،40)، كما السلام هو
ثمرة العدالة (اشعيا 32/17) وثمرة الانماء (البابا بولس
السادس)، كذلك هو ثمرة التضامن (البابا يوحنا بولس الثاني،
المرجع نفسه،39).
على العدالة الاجتماعية وانماء الانسان والمجتمع والتضامن مع
الاكثر ضعفاً وحاجة، سندان، في ضوء انجيل اليوم: " كل ما لم
تصنعوه لاخوتي هؤلاء الصغار فلي لم تفعلوه، فاذهبوا عني يا ملاعين"
( متى25/40-41).
2.
العائلة ضحية اساسية
" للجوع والعطش والعري والغربة والمرض والسجن" ضحية واحدة
اساسية هي العائلة، لان باصابة اعضائها تصاب هي. ومتى اصيبت
العائلة يصاب المجتمع والوطن، وتصاب الكنيسة.
العائلة هي خلية المجتمع القائم على الشركة بين الاشخاص وتقاسم
الخيرات، وفيها يختبر الفرد الشركة والتقاسم ويتدرب عليها، وتلعب
العائلة دوراً كبير الاهمية في الحياة الاقتصادية. بما ان الانسان
فرد حي في المجتمع، نستطيع القول ان الانسان "عائلة": يولد في
عائلة، يؤسس عائلة، يستهلك في عائلة. لذلك لا يجوز انكار البعد
الاجتماعي وتعظيم الفرد، ولا التركيز على المجتمع وسحق الشخص. في
كلا الحالين تبقى الاسرة هي اياها الضحية. ينبغي ان يكون
الاقتصاد عائلياً: اعني ان تكون غايته خير العائلات وازدهارها
وسلامها. ان مجتمعاً بدون عائلة محكوم عليه بالموت. فالعائلة، بحكم
تأسيسها، تسبق كل مجتمع وكل عمل اقتصادي. وهذا البعد
الاجتماعي-الاقتصادي للعائلة شكلّ موضوع ( اللقاء العالمي
الثالث للعائلات في ريودي جنيرو سنة 1997، وكان بعنوان:"العائلة
بشرى سارة للالفية الثالثة". في التوصيات الختامية لهذا لمؤتمر
تبينت العائلة انها بشرى سارة للحياة تحميها وتعززها منذ
اللحظة الاولى للحبل بها حتى آخر نسمة منها؛ وانها بشرى سارة
للفقراء بتثمير قدرات الارض لعيشهم الكريم لا بالحد من النسل
عبر الاجهاض والتعقيم ووسائل منع الحبل؛ وانها بشرى سارة
للشبيبة بتعزيز حاضرها وضمانة مستقبلها كقوى حية وتجددية في
المجتمع والوطن والكنيسة، فهي " اكليل الزواج" وخميرة البشرية، فلا
تُهمل؛ وانها بشرى سارة للعالم تحمل اليه انجيل الحب
والحياة، وتبني جماعة الوحدة والسلام، وتطبعه بثقافة المسامحة
والتضامن؛ وانها بشرى سارة للكنيسة، لانها "الكنيسة
البيتية " الاولى التي تتلقى الانجيل وتعلنه، وفيها تبدأ شركة
الاشخاص مع الله وفيما بينهم بالصلاة والحوار، وفيها يتم تقاسم
الخيرات والمواهب.
ان الفساد المستشري في لبنان على صعيد
السياسة والادارة والرقابة والقضاء والانتخابات النيابية، وهذا
الامعان في تسخير المؤسسات والشأن العام للمصالح الفردية والفئوية
وما يخلف كل ذلك من ازمات اقتصادية واجتماعية تولدّ البطالة
والهجرة والانحرافات الخلقية، انما يضرب العائلة في صميمها. وباتوا
يتحدثون عن " ثقافة الفساد في لبنان" (مقال للدكتور سليم
الحص في النهار 4 شباط 2003). هذا امر مخزٍ وجرم كبير بحق العائلة،
لا يجوز ان يتمادى فيه المسؤولون او يتغاضوا عنه. وإلا زادوا من
عدد الجائعين والعطشى والفقراء والمرضى والغرباء في ارضهم
والمحرومين والمساجين.
العائلة وحدها حفظت لبنان
عندما تفككت الدولة وتشرّد المجتمع بالتهجير، والعائلة وحدها
كفيلة، اذا حافظت على هويتها وادّت رسالتها كبشرى سارة، بأن
تعيد بناء الاسرة الوطنية اللبنانية. هذا يقتضي تنشئة لها من
الكنيسة، وحماية من الدولة، والتزاماً من قبلها بالصلاة
لتعيش ما يجب ان تكون.
3. انجيل السلام
انجيل الدينونة يؤكد اننا سنُدان في الآخرة على السلام الذي
وطّدناه او لم نوطدّه في اخوتنا الصغار: الجائع والعطشان والغريب
والعريان والمريض والسجين. ذلك اننا، عندما نعتني بهم مادياً او
روحياً او معنوياً ونلبي حاجاتهم، انما نضع السلام في قلوبهم،
ونرمّم روابط الاخوّة معهم، ونصبح ابناء الله حقاً، على ما يقول
الرب يسوع في انجيل التطويبات، دستور الحياة البشرية: "طوبى لفاعلي
السلام، فأنهم ابناء الله يُدعون" ( متى 5/9).
السلام ثمرة العدالة.
والعدالة تقتضي ان نعطي هؤلاء " الاخوة الصغار" حقوقهم. ليست
محبتهم شأناً اختيارياً بل هي واجب، اذ عليك ان تعطيهم حقوقهم،
وإلاّ قتلتهم.
يذكّرنا البابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون، في رسالته العامة
" السلام على الارض"، بان السلام الحقيقي هو القائم على نظام
الهي، وضعه الله لخلقه وكتبه في طبيعة الانسان، وان الشخص البشري
هو في اساس هذا النظام (فقرة1).
نقرأ في هذه الرسالة " ان كل انسان هو شخص، اي ذو طبيعة مزيّنة
بالعقل والارادة الحرة، ولذا هو صاحب حقوق وواجبات تنبع
مباشرة من صميم طبيعته، ولا تقبل اي تنازل عنها" ( فقرة9). ما هو
حق لي هو واجب عليك. وما هو حق لك هو واجب عليّ. انجيل الدينونة
يكشف حقوق اخوتنا الصغار وواجباتنا تجاههم. هذه الحقوق النابعة من
صميم طبيعتهم وحالة جوعهم وعطشهم وغربتهم وعريهم ومرضهم واسرهم، هي
الحقوق الاساسية التي تسردها الرسالة البابوية " السلام على
الارض".
للانسان الحق
في الحياة وفي السلامة الجسدية، وفي اسباب المعيشة اللائقة، ومنها
المأكل والملبس والسكن والراحة والعناية الطبيّة، والخدمات
الاجتماعية الضرورية المستوجبة للفرد من الدولة. وبناء عليه، فان
للانسان الحق في التمتع بالعون في حال المرض او الاعاقة او
العجز او الترمّل او الشيخوخة او البطالة، او في حال اي افتقار آخر
الى الاسباب الضرورية في ظروف خارجة عن ارادته (فقرة 11).
اعطاء الانسان حقوقه واجب تمليه العدالة وتحرّكه المحبة، فيرسي
السلام في داخل الانسان، ويوطّد السلام الاجتماعي. على هذا سنّدان.
***
ثانياً، ابرار عاشوا انجيل المحبة والعدالة والسلام
نذكر
وجهاً مشرقاً من لبنان هو المكرّم الاب يعقوب حداد الكبوشي
( اول شباط 1875-26 حزيران 1954) مؤسس جمعية راهبات الصليب
الفرنسيسكانيات. سلك طريق القداسة على خطى شفيعه القديس فرنسيس
الاسيزي، رسولاً للمحبة على كل جبهاتها، مواجهاً الآم الناس
الحسيّة والنفسية والمعنوية، مكرّساً كل وقته وطاقاته ومواهبه
وعلمه وديناميته الراعوية للتخفيف من اوجاع الاجساد والنفوس.
اليوم، وقد اصبحت دعوى تطويبه في مرحلتها الاخيرة، مرحلة درس
الاعاجيب، نصلي لكي يتمجد الله برفعه قديساً على مذابح الكنيسة.
بعد
نشاط واسع في الرهبنة الكبوشية، انطلق الى رسالة خدمة المحبة
والرحمة على تلة الصليب في جل الديب، حيث رفع الصليب كأساس لهذه
الرسالة الاجتماعية والكنسية والراعوية العظيمة، ووضع الحجر الاساس
سنة 1921، وبنى مزار سيدة البحر. بالاتكال على العناية الالهية
باشر اولاً خدمة الكهنة العجزة في دير الصليب سنة 1926. وبموهبة
خاصة من الروح القدس اسس جمعية راهبات الصليب 1930، ليتمكن من خدمة
" الاخوة الصغار" في تنوع حاجاتهم. فأنشأ في حياته العديد من
المؤسسات، واكملت الجمعية من بعده انشاء مؤسسات اخرى على مختلف
الاصعدة.
-
الاستثفاء
من الامراض الجسدية والعقلية والعصبية ومن الاعاقات ( مستشفى دير
القمر للبنات المعوقات 1933، مستشفى السيدة انطلياس للعجزة
والامراض المزمنة 1946، مستشفى الدوره 1948، مستشفى الصليب للامراض
العقلية وللاطفال والاولاد المعاقين 1951، دار المسيح الملك للكهنة
المرضى والمسنين 1952، بيت سلطانة الحبل بلا دنس للبنات المعوقات
في اجدبرا 1977، دير سيدة الزروع للمسنين في شليفا 1989، مؤسسة
للمعاقين في حلبا 1992، بيت العناية الانسانية للعجزة في الاردن
1995.
-
التعليم والتربية
في المدارس ودور الايتام: مدرسة مار فرنسيس جل الديب 1919، التي
اصبحت في مكان آخر من جل الديب مدرسة فال بيرجاك 1979، مدرسة
راهبات الصليب برمانا 1950، مدرسة راهبات الصليب حراجل 1957،
ثانوية مار فرنسيس غزير 2003.
-
الرسالة والخدمة الراعوية:
بيت مار مخايل بشعله 1977، مركز سيدة البير للرياضات، بيت سيدة
الوردية للرسالات حلبا 1992، بيت بتدين اللقش- جزين 1995، بيت مار
الياس كفرتيه 1999.
-
التنشئة الرهبانية:
دير سيدة البير في بقنايا للمبتدئات والراهبات الناذرات 1941؛ دير
الرئاسة العامة في بقنايا، الوكالة الرهبانية في روما 1976.
-
خدمات كنسية واستشفائية واجتماعية
في مؤسسات خاصة: السفارة البابوية في لبنان 1943، السفارة البابوية
في سوريا 1974، ميتم زغرتا 1975، بيت الكهنة للعجزة في المعادي،
مصر 1988، ميتم الفرنسيسكان في القدس 1993، دير القديسة لوسيا في
الاسكندرية، مصر 1996.
تعدّ
جمعية الراهبات حالياً 244 راهبة، و2010 موظفين، وتشمل خدمتهم حسب
امكنة المؤسسات: 1530 مريضاً ومعاقاً،700 عجوز،170 حالة اجتماعية،
300 مريض، 3200 تلميذ.
سرّ الاب يعقوب حداد الكبوشي،
المعروف " بأبونا يعقوب" سرّ حبّة الخردل، وهي اصغر الحبوب، التي
تصبح شجرة كبيرة يعشعش فيها طيور السماء. بها يشبّه الرب يسوع
ملكوت السماء.
انه رجل الصليب ورسوله
وحبيبه. انه قلب ملتهب حباً بالصليب وعطوف على تعساء الارض وحنون
على الخطأة، وشامل بؤس الانسانية جمعاء فوق فوارق الدين والجنس
والانتماء. شعاره: " لنتشبّه بالينبوع: انه لا يسأل العطشان: قل لي
قبل ان اسقيك من اي بلد انت؟".
انه رجل الرجاء بالله،
لا ينتظر اية مكافأة على الارض، لان الله وحده يكفيه. وكان يردد: "
كل ما تزرعه على الارض، تحصده في الابدية".
انه رجل الايمان،
سعى، في مؤسساته ونشاطاته الروحية وتنقلاته الرسولية، الى تعزيز
الايمان في القلوب، وبخاصة بواسطة العائلة، وشهود الايمان
العلمانيين الذين يعيشون الانجيل بالتزام، ولاسيما بواسطة رهبنة
مار فرنسيس الثالثة. وكان يقول بمرارة ومسؤولية: " لبنان المزروع
بالوف القصور، يزداد جمالاً في الظاهر، اما نفوس سكانه فتفقد ايمان
اجدادها اكثر فأكثر. فيجب تخليص الايمان المهدد".
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
ان
الخطة الراعوية، عبر الهيكليات في الرعايا والمنظمات والحركات
والمجالس واللجان، وعبر العائلة والمدرسة والجماعة الديرية،
والنوادي، تواصل التفكير معاً في مضمون النص المجمعي الماروني
الثاني وعنوانه: " هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها"،
وتتوقف بوجه التحديد عند العنصر السادس المكوّن لهويتها، اعني:
انها كنيسة متجسّدة في بيئتها اللبنانية والمشرقية وفي بلاد
الانتشار.
1.
ان تكون كنيسة متجسّدة في بيئتها،
هذا يعني اثنين: نفح قيم الانجيل في الثقافة والحضارة المحليتين؛
وخدمة تدبير الله الخلاصي لكل الناس في الزمان والمكان ( فقرة 36).
الدعوة
هي ان تكون الكنيسة حاضرة وفاعلة في بيئتها من خلال ابنائها
وبناتها ومؤسساتها. اما الرسالة فتتمحور حول الانسان، اي
انسان، وتتجه الى بناء مجتمع يؤمن بكرامة الانسان، ويحفظ حقه في
الاختلاف الديني والثقافي للشهادة على الحرية، ويصون حقوقه
السياسية الاساسية. تكللت هذه المسيرة باعلان دولة لبنان الكبير
سنة 1920، الذي اصبح جمهورية مستقلة سنة 1943. لم تشأه الكنيسة
يوماً "وطناً للمسيحيين"، بل وطناً لجميع ابنائه، المسيحيين
والمسلمين، على قدم المساواة والاحترام المتبادل.
ترمي الخطة الراعوية الى ايجاد المبادرات لتحقيق هوية لبنان
الحقيقية التي اطلقها البابا يوحنا بولس الثاني: " لبنان اكثر من
بلد. انه رسالة حريّة، ونموذج في التعددية للشرق كما للغرب" ( فقرة
38).
2.
بحكم كون الكنيسة متجسّدة في بيئتها، تقتضي الخطة الراعوية ان
يجدد الموارنة ايمانهم برسالتهم الكنسية النابعة من " تدبير الله
الخلاصي". فانهم مرسلون الى العالم، مزوّدين بقوة الروح ليحملوا
بشرى الخلاص بيسوع المسيح
(
فقرة 39). وفي الواقع هكذا فعلوا عندما امّوا جبال لبنان مع تلاميذ
مار مارون، وفي طليعتهم ابراهيم القورشي وسمعان العامودي في القرن
الخامس ( حاشية 24).
تقتضي
الخطة الراعوية ان يواصل الرهبان والراهبات والعلمانيون ان
يواصلوا الشهادة الرسالية، وايجاد السبل لها في الرعايا وفي اماكن
تواجدهم ( فقرة40). هذه الشهادة تعني ان كنيستنا ليست من اجل
ذاتها، بل تسعى لتكون حاضرة في بيئتها، ومتعاونة مع شركائها في
المصير الواحد على ارساء اسس المجتمع التعددي، ومساهمةً في ترقّي
الشخص البشري والمجتمع، من خلال النشاطات التربوية والثقافية
والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية ( فقرة 41).
***
صلاة
ايها
الرب يسوع اعطنا النعمة وفضيلة العطاء بسخاء لنساعد " اخوتنا
الصغار"، من اي لون او دين او جنس او من اي انتماء كانوا. ضعنا على
طريق الفقراء والضعفاء والمهملين، واجعلنا نشعر بمسؤوليتنا عنهم،
لاخراجهم من حالة بؤسهم. فندرك في قرارة نفوسنا " ان في العطاء
فرحاً اكثر منه في الاخذ". لك المجد مع ابيك المبارك وروحك الحي
القدوس الى الابد،
آمين
الاحد 11 شباط 2007
تذكار الموتى المؤمنين
خيرات الارض معدّة من الله لجميع الناس
من انجيل القديس لوقا 16/19-31
قال الرب يسوع: " كان رجل غنيٌّ يلبس الارجوان والكتان الناعم،
ويتنعم كل يوم بأفخر الولائم. وكان رجل مسكين اسمه لعازر مطروحاً
عند بابه، تكسوه القروح. وكان يشتهي ان يشبع من الفتات المتساقط من
مائدة الغني، غير أن الكلاب كانت تأتي فتلحس قروحه. ومات المسكين
فحملته الملائكة الى حضن إبراهيم. ثم مات الغنيّ ودفن. ورفع الغني
عينيه، وهو في الجحيم يقاسي العذاب، فرأى إبراهيم من بعيد، ولعازر
في حضنه. فنادى وقال: يا ابتِ إبراهيم، إرحمني، وأرسل لعازر ليبل
طرف إصبعه بماء ويبرد لساني، لأني متوجع في هذا اللهيب. فقال
إبراهيم، يا ابني تذكر أنك نلت خيراتك في حياتك، ولعازر نال
البلايا. والآن هو يتعزى هنا، وأنت تتوجع. ومع هذا كله، فإن بيننا
وبينكم هوّة عظيمة ثابتة، حتى إن الذين يريدون أن يجتازوا من هنا
إليكم لا يستطيعون،
ولا من هناك أن يعبروا إلينا. فقال الغني: أسألك إذاّ، يا ابتِ، أن
تُرسل لعازر الى بيت أبي، فإن لي خمسة إخوة، ليشهد لهم، كي لا
يأتوا هم أيضاً الى مكان العذاب هذا. فقال إبراهيم: عندهم موسى
والانبياء، فليسمعوا لهم. فقال: لا، يا أبت إبراهيم، ولكن إذا مضى
اليهم واحد من الاموات يتوبون. فقال له إبراهيم: إن كانوا لا
يسمعون لموسى والانبياء، فإنهم، ولو قام واحد من الاموات، لن
يقتنعوا!".
***
تقاسم خيرات الدنيا هو المحبة التي سندان عليها، لانها طريقنا الى
الله عبر الاخوة الفقراء مادياً وروحياً وثقافياً وانمائياً ،
المتمثلين بلعازر. اما الغنى فعطية من الله، اذا حصل بالوسائل
الشرعية والخلقية المباحة، والغني هو وكيل الله على ملك هو لله،
مطلوب منه ان يتقاسمه مع " الاخوة الصغار" في مفهوم الانجيل (
متى25/35-40). اما الغني المستغني عن الله والاخوة، العابد صنم
نفسه، المتمثل بالغني في النص الانجيلي، فطريقه الى النار الابدي.
تذكر الكنيسة اليوم وطيلة الاسبوع الموتى المؤمنين الذين عاشوا
فضيلة الفقر الانجيلي، واؤلئك الذين تقاسموا مع الاخوة المعوزين
خيرات الدنيا المعدّة من الله لجميع الناس. وتصلي من اجل المعذبين
في المطهر استعداداً لمشاهدة وجه الله في سعادة السماء، وتطلب
شفاعة الذين ينعمون بالمجد الابدي. واجلّ صلاة هي تقديم ذبيحة
القداس من اجلهم، والقيام باعمال المحبة والرحمة، والالتزام بتوبة
القلب والامانة وافعال التقشف في سبيلهم.
***
اولاً، شرح الانجيل
1. الدينونة الخاصة وتقاسم خيرات الدنيا
على تقاسم خيرات الدنيا مع الاخوة المعوزين سنُدان.
يؤكد النص الانجيلي ان كل انسان، عندما يموت، يخضع لدينونة خاصة
حول ايمانه واعماله. كانت دينونة الغني عقاباً في جهنم النار: "
مات الغني وقبر، فكان في الجحيم يقاسي العذاب" ( لو16/22-23). اما
دينونة لعازر فكانت ثواباً في النعيم: " مات لعازر المسكين فحملته
الملائكة الى حضن ابراهيم" ( لو16/22). فيما الجسم يرقد في التراب،
على رجاء القيامة، تطير النفس الخالدة الى امام عرش الديان، "
فينال كل انسان في نفسه الخالدة ثوابه او عقابه الابدي منذ لحظة
موته بدينونة خاصة تكشف حياته امام نور المسيح" ( التعليم المسيحي
للكنيسة الكاثوليكية، 1022).
ليس هلاك الغني من غناه،
فخيرات الدنيا المشروعة هبة وبركة من الله، بل هلاكه من طمعه،
واستعباده لصنم ماله ومقتناه، واستغنائه عن الله وبالتالي عن
المحبة التي اغلقت قلبه ويده عن لعازر الفقير المطروح على باب
داره. مشكلته انه عَبَدَ المال لا الله، وينبهنا السيد المسيح: "
لا يقدر احد ان يعبد ربين: الله والمال. فإمّا يبغض الواحد ويحب
الآخر، او يلازم الواحد ويرذل الآخر" ( متى6/24). مأساته امام الله
هي في عبادة صنم نفسه ووثن خيراته، اما امام نفسه " فكان يتنعم كل
يوم بافخر الولائم" (لو16/19). المهم هو المصير الابدي لا اللحظة
العابرة، مهما طال العمر: " تذكّر انك نلت خيراتك في حياتك ولعازر
بلاياه، والآن هو يتعزى هنا، وانت تتعذب" ( لو16/25).
تقاسم خيرات الدنيا
طريقنا الى الله، وواجب نؤدي الحساب عنه. علّم آباء الكنيسة
القديسون بشكل ثابت: ان " ما يفيض عنك ليس لك، فلا تستطيع ان تجعل
نفسك مالكاً له" (غريغوريوس النيصي). وانه " لا يحق لك ان تستعمل
مالك كمتمتع به على هواك بل كموكًّل عليه" ( باسيليوس الكبير). في
ضؤ هذا التعليم، كانت دينونة الغني الصارمة على انه نسي لعازر
ونبذه في حين انه شريك له في خيراته، كان ينبغي عليه ان يردّ له ما
هو اصلاَ" حق له عليه، لان الغني وكيل الله على ملك هو لله
(المطران جورج خضر: شهوة المال، في "النهار" 31/1/2004).خيرات
الدنيا معدّة من الله لجميع الناس، من يمتلكها شرعياً هو موكًّل
عليها من العناية الالهية ليستثمرها لخيره وخير غيره من الناس
بدءاً من الأقربين (الكنيسة في عالم اليوم، 69؛ التعليم المسيحي،
2403-2404). الاخ المحتاج الذي نتقاسم معه خيراتنا يحررنا من
التعلق المفرط بها تعلقاً يحجب عنا رؤية وجه الله. " الفقير يشفيك
من الداء الذي فيك، فإن بذلت له مالك بحب كان طبيبك" (المطران
جورج خضر، في المقالة المذكورة). لو فعل الغني ذلك لما كان هلك الى
الابد. لقد ادرك هو غلطته الكبيرة، فتوسّل الى ابراهيم " ليرسل
لعازر الى اخوته الخمسة ليشهد لهم، كي لا يأتوا هم ايضاً الى مكان
العذاب هذا" (لو16/27-28).
في صلاة الابانا نصلي: " اعطنا خبزنا كفاف يومنا" هذا نداء
الى المؤمنين لكي لا يتعلقوا بشكل مفرط في وسائل العيش، ولكي لا
يستأثروا بها لخيرهم فقط، ولكي يحملوا مسؤولية الجائعين
والمحتاجين، على اختلاف حاجاتهم. تعلّم الكنيسة ان هذا الطلب، الذي
علمنا اياه الرب، وما فيه من مسؤوليات، لا ينفصل عن تعليمه في مثل
لعازر والغني ( لو16/19-31)، والدينونة العظمى ( متى25/31-46)، حيث
ينكشف الموقف الشخصي من المحتاجين والتضامن مع العائلة البشرية (
التعليم المسيحي،2831).
دينونة لعازر
كانت له ثواباً بالخلاص الابدي لانه " نال في هذه الدنيا بلاياه"،
وارتضى حالته بصبر " مطروحاً عند باب الغني، مشتهياً بقناعة ان
يملأ بطنه من الفتات المتساقط من مائدة الغني"، منفتحاً على رحمة
الله التي كان ينبغي ان تظهر في رحمة ذاك الغني. ولذلك " عندما
مات، حملته الملائكة الى حضن ابراهيم" (لو16/20-22).
انه من "صغار الانجيل" الذين يجعل الرب يسوع ذاته حاضراً
فيهم بنوع خاص؛ وهو مثل الاطفال الذين قال عنهم الرب: "من قبل
طفلاً مثل هذا باسمي، فقد قبلني" ( متى18/5)؛ وفيه يتواصل فقر
المسيح الذي يحرّر الانسان من شهوات العالم الثلاث: شهوة الجسد،
وشهوة العين، وكبرياء الغنى، ( يو2/16). فالمسيح " المولود في
مغارة، عاش فقيراً وظل عرياناً على الصليب" (القديسة كلير). وبذلك
كان " حبة الحنطة التي وقعت في الارض وماتت، فاعطت ثمراً كثيراً" (
يو12/24)، اي جماعة المؤمنين التي هي الكنيسة.
هذه قيمة آلام المتألمين الصابرين،
من فقر وجوع وعري وحرمان، من ألم واعاقة وثقل سنين، من ظلم
واستبداد واستضعاف، من انتهاك كرامة وحقوق، من اضطهاد واساءة
وتهميش. ان من يخدمهم انما يكرّم آلام المسيح الخلاصية، ويرمم
روابط الاخوّة، ويبني صرح العدالة والسلام. عندما حمل المسيح آلام
البشرية، مطيعاً حتى الموت على الصليب لخدمة الفداء ( انظر
فيليبي2/8)، انارها بنور قيامته.
2.
القديس مارون وتقاسم خيرات الدنيا
عاش القديس مارون في القسم الثاني من الجيل الرابع، ومات حوالي سنة
410، وقد اتّبع نهج فقر المسيح وتقاسمه خيرات السماء والارض مع
الناس. نصلي في القداس متذكرين هذا التقاسم: " وحدت يا رب لاهوتك
بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك. اخذت ما
لنا واعطيتنا ما لك، لتحيينا وتقدسنا، لك المجد الى الابد، ( نافور
القداس الماروني).
هكذا مارون الناسك اعتزل الدنيا ووقف ذاته على الله وخدمة
انجيل الخلاص. عاش في الهواء الطلق، على قمة جبل في القورشية، قرب
انطاكية، يبدو انها قلعة كالوته حيث ابتنى كوخاً على انقاض هيكل
قديم كان لعبادة الاوثان، فحوّله مكاناً لعبادة الاله الحقيقي،
الواحد والمثلث الاقانيم، بالصلاة والاصوام والاماتات. اعطى ذاته
كلها لله قرباناً روحياً، فملأه الله من ذاته، وكان التقاسم بين
مارون والله.
امتلأ مارون من قداسة الله، فكتب اليه البطريرك
القديس يوحنا فم الذهب ما بين سنة 401 و407 من منفاه خارج كرسيه في
القسطنطينية، رسالة مؤثرة عنوانها: "من يوحنا فم الذهب الى مارون
الكاهن والناسك"، جاء فيها: " حتى ولو كنا بعيدين عنك بالجسد،
فاننا نواصل التفكير في نشاطاتك، فنطمئن ونحصل على الكثير من
التعزية، ونحن هنا في المنفى. وجلّ ما نطلب منك ان تصلي لاجلنا" (Migne
، 52 عمود 630 الرسالة 36). انه تقاسم الصلاة والتعزية.
وافاض الله على مارون هبة الشفاء من امراض الجسد والنفس،
على ما كتب تيودوريطس مطران قورش في كتابه " التاريخ الديني" فذاع
صيته في كل مكان، واستجلب اليه الجموع من كل ناحية. فكانت الحمى
تنطفىء على ندى بركته، والامراض تشفى. وكان يستأصل البخل من واحد،
والغضب من آخر، الاهواء المفرطة من هذا والعدوانية من ذاك. يعلّم
الواحد طرق العفة، والآخر سُبل العدل، والآخر قواعد القناعة، يصلح
الانحرافات ويشدد عزائم المتكاسلين. والدواء واحد: ففيما يعالج
الاطباء كل داء بدواء، خاص، كانت صلاته العلاج للامراض كلها(
التاريخ الديني 16/3). ويضيف الاسقف: "كانت لمارون معرفة عميقة
بالنفس البشرية". يقول البطريرك اسطفان الدويهي ان هذه المعرفة
العميقة اكتسبها مارون من ثقافته في مدرسة انطاكية، حيث ربطته
صداقة عميقة بيوحنا فم الذهب، ومن تمرسه في التأمل والصلاة
والاتحاد بالله.
كان مارون " حبة حنطة" ماتت على جبل قورش فأثمرت، كما يقول
الاسقف تيودوريطس، بستاناً مزهراً في القورشية، هذا البستان هو دير
مار مارون الشهير على ضفاف العاصي، قرب افاميا المعروفة اليوم "
بقلعة المضيق"، وهو اليوم الكنيسة المارونية، التي تواصل بابنائها
وبناتها نهج القديس مارون. نذكر من بينهم القديس شربل والقديسة
رفقا والقديس نعمة الله والطوباويين الاخوة الشهداء المسابكيين،
ونذكر من دعاوى تقديسهم جارية لدى الكرسي الرسولي وهم: المكرم الاب
يعقوب حداد الكبوشي، وخادم الله البطريرك اسطفان الدويهي، وخادم
الله الاخ اسطفان نعمه الراهب اللبناني الماروني. كما تواصل
كنيستنا في مؤسساتها الكنسية تقاسم خيرات السماء والارض.
3.
تقاسم خيرات الارض اساس السلام
" عندهم موسى والانبياء فليسمعوا لهم"
( لو16/29).
" موسى وانبياء" اليوم هم الكنيسة برعاتها ومؤمنيها المخلصين الذين
يشهدون لحقيقة الانسان وكرامته ومعنى الوجود وكيفية استعمال خيرات
الدنيا. ان للكنيسة عقيدة اجتماعية ضمّنتها ما اقتبست من
الانجيل والتقليد الرسولي والوحي الالهي حول حقيقة الانسان
ومقتضيات العدل والسلام المتلائمة والحكمة الالهية، في اتجاهات
ثلاثة: المبادىء للتفكير حول الانسان وحقوقه ومصيره وخلاصه،
ومقاييس الحكم الاخلاقي على الافعال الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية، من حيث صلاحها وشرها دون التطرق لتقنياتها،
والتوجهات التطبيقية من خلال ممارسة النشاطات الزمنية كافة على
مستويات الحياة الوطنية كلها.
اذا كانت خيرات الدنيا معدّة من الله لجميع الناس، فلن يكون سلام
عادل بين الناس والشعوب، ما لم يعطى كل انسان حقه في العيش الكريم
الذي لا يقتصر على اعطائه صدقة زهيدة بل فرصة للعمل، ووسيلة لكسب
الخبز بعرق الجبين، وامكانية القيام بعمله على نحو حرّ.
تعلّم رسالة البابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون " السلام
على الارض" ان للانسان حقاً طبيعياً مزدوجاً: " ان تتوفر له
فرصة للعمل، وان يتمكن من القيام باعباء على نحو حرّ" (
فقرة 18). يتحدّر من هذا الحق المزدوج حقاّن آخران ملازمان: " الحق
في ظروف عمل لا توهن القوى البدنية، ولا تمسّ الاخلاق، ولا تضرّ
بنموه الصحيح؛ الحق للنساء بظروف عمل تتناسب مع متطلباتهن
وواجباتهن كزوجات وامّهات ( فقرة 19).
وبما
ان العمل واجب على الانسان بحكم حقه الطبيعي، فان العدالة تقتضي من
المسؤولين والقدارين ان يؤمنوا له فرص العمل، وعندما يستتب السلام
الاجتماعي. غير ان هذا السلام يكتمل ولا يكون منقوصاً، اذا توفّر
للعامل حق طبيعي آخر تتكلم عنه الرسالة البابوية وهو: " الحق في
بدل، يُحدد وفقاً لنواميس العدالة، يكفل
له
ولأسرته معيشة تليق بالكرامة الانسانية، مع الاخذ في الاعتبار
طبعاً امكانيات رب العمل ( فقرة 20).
ويتوطّد الاستقرار والطمأنينة في الحياة العائلية، ويتعزز السلام
والازدهار في الجسم المدني العام، عندما يتوفر للانسان حق طبيعي
آخر يضمن كرامة الشخص البشري ويساعده على التمرّس الحرّ بمسولياته
كافة، وهو الحق في الملكية الخاصة لخيرات الدنيا ولوسائل
الانتاج" (فقرة21). ولكن لا بدّ من التذكير بأن الحق في الملكية
الخاصة يتضمن، من ذات طبعه، موجباً اجتماعياً تجاه الاخوة
المحتاجين (فقرة22).
ان
مأساة الغني، في اللوحة الانجيلية، تعود الى عدم ايفائه الموجب
الاجتماعي تجاه لعازر الفقير والمعدم منتهكاً بذلك حقه الطبيعي.
***
ثانياً، وجه من القديسين الذين عاشوا تقاسم خيرات الارض
القديسون في غالبيتهم تميّزوا بتقاسم خيرات الارض. نذكر من بينهم
القديس
Martin de Tours
الاسقف الشاهد لتقاسم الايمان بالانجيل وخيرات الدنيا. عاش في
الجيل الرابع، لكن ذكره حي يجعله معاصراً لكل جيل.
هو في
الاساس جندي، كان عائداً ذات ليلة على جواده، والبرد قارص للغاية
ويعدو بسرعة لبلوغ الدفء في ثكنته في
Amiens.
واذا به يجد الى جانب الطريق فقيراً يرتجف من البرد، فترجّل عن
حصانه، وفكّر كيف يمكن ان يأوي هو الى دفء فراشه والمسكين يموت من
البرد. فاستلّ سيفه وقطع رداءه الصوفي الاحمر واقتسمه مع
الفقير وتابع سرعته.
وفيما
كان نائماً استيقظ بذعر وخوف، عندما ظهر له المسيح بشكل الفقير
الذي كان قد التقاه على الطريق، وقال له: انت
Martin،
الذي تتعلم اصول الدين، غطيتني بردائك". وعند الفجر قرر الشاب ان
يكرّس حياته للمسيح. لم يكن معمداً، لان والده ضابط وثني. فكان
عليه ان يواصل التزامه بالجندية لمدة عشرين سنة. وبعمر الاربعين
حقق الوعد وقرر ان يتكرّس للمسيح ناسكاً ورفض ان يكون شماساً كما
كان يريده القديس
Hilaire
مطران Poitiers
.
ولكن فيما بعد طالب به الشعب وخطفه ليكون مطرانهم في ابرشية
Tours.
فرضي
خاضعاً لارادة الله، لكنه عاش لا في الكرسي الابرشي، بل في غرفة
حقيرة بقربه وراح يحارب العبادة الوثنية ويبني الايمان المسيحي في
النفوس. وكان يردد: " يجب ان تتفجر قدرة الاله الحق بوجه الآلهة
الوثنيين".
وهكذا
بعد ان تقاسم رداءه مع الفقير، تقاسم ايمانه المسيحي وقيمه مع
ابناء ابرشيته.
***
ثالثاً الخطة الراعوية
تستكمل الخطة الراعوية وتنهي التفكير معاً في " هوية الكنيسة
المارونية ودعوتها ورسالتها"، كما حددها النص الثاني من نصوص
المجمع البطريركي الماروني، في عنصر الهوية السادس الذي بدأناه
الاحد الماضي: كنيسة متجسّدة في بيئتها اللبنانية والمشرقية وفي
بلدان الانتشار.
1.
البعد الرسالي والتنشئة عليه
ينبعان من صميم الكنيسة التي تتكون جماعتها عبر الاحتفال بسرّ
الافخارستيا، حيث يدخل ابناؤها وبناتها في شركة عضوية مع المسيح
ومع القريبين والبعيدين، فيوصي المجمع بتنشئة راعوية متكاملة تعزز
الروح الرسالية والالتزام بالشهادة للمسيح ليس فقط في البيئة
الخاصة، بل تتعداها لتشمل آفاقاً بشرية جديدة تفتقر الى كلمة
الانجيل ( فقرة 42). من الضرورة ان ترسم الخطة الراعوية، عبر
الهيكليات والجماعات، وسائل هذه التنشئة والمبادرات الرسالية. ان
ابرشية جبيل تحمد الله وتفتخر بأن كهنتها يقومون بخدمة الرسالات في
كل من نيجيريا وكوتونو وسوريا وفرنسا ( في جزيرة كورسيكا وانجيه)
وايطاليا ( في البانو) والسويد، والبرازيل ( في ساوبولو) والولايات
المتحدة الاميركيسة ( في ايستون). وهذا ما يدعو اليه النص المجمعي
الثاني ( في الفقرة 43).
2.
البُعد الرسالي ينفتح على النشاط المسكوني
الرامي الى وحدة المسيحيين. ان الكنيسة المارونية، بحكم ميزاتها
الانطاكية السريانية الكاثوليكية المشرقية، مدعوة للرسالة
المسكونية الى جانب الكنائس الاخرى. يبقى على الخطة الراعوية ان
تحدد مجالات هذه الرسالة، انطلاقاً من البيئة الخاصة الحقيقية
(فقرة 44). ان الجماعات الراعوية والهيكليات تجدد التزامها
بالحركة المسكونية التي تعهدتها الكنيسة بوثائق رسمية: قرار المجمع
الفاتيكاني الثاني، في الحركة المسكونية؛ الرسالة العامة للبابا
يوحنا بولس الثاني: " ليكونوا واحداً" (1985)؛ الرسالة الراعوية
الخامسة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك: "الحركة المسكونية" (
1999)( فقرة 45).
تعنى
الخطة الراعوية بكيفية تأمين تنشئة مسكونية بالتعاون مع كليات
ومعاهد اللاهوت والعلوم الدينية، وبوعي التراث الانطاكي المشترك
وحفظه وتفعيله وانثقافه (الفقرتان 47 و48).
***
صلاة
نشكرك يا رب على انك اظهرت نفسك بحياتك وموتك، بكلامك وآياتك،
بمجدك وقيامتك، وما زلت تظهر نفسك في سرّ الكنيسة، بابنائها
وبناتها ومؤسساتها: تتكلم بلسانهم، وتحب بقلوبهم، وتعطي بسخاء
وجودة بايديهم. في الكنيسة انت تحيا، وفيها تبعث روحك، وعبرها تنشر
كلمتك، وبخدمتها تشفي الجراح وتعزي آلالام. من خلالها تبقى نور
العالم ورجاء الشعوب. وحّدها، ربِّ، في الحقيقة والمحبة واجعلها
شاهدة لك من اجل قيام عالم افضل. لك المجد الى الابد. آمين.
|