زمن القيامة
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2008 - 2009

     عيد الفصح - الاحد 20 نيسان 2008
      ملاحظة - النقاط بالاحمر غير موجودة

    1. خميس الاسرار

    2. الجمعة العظيمة وسبت النور - سرّ الصليب والنزول الى الجحيم

    3. قيامة الرب يسوع - قيامة المسيح اساس الايمان المسيحي 

    4. الاحد الثاني من زمن القيامة، 2009-04-19

    5. الاحد الثالث من زمن القيامةا - القيامة مصدر الدعوة والرسالة

    6. الاحد الرابع من زمن القيامة - القيامة حدث من اجلنا لخلق جديد
    7. الاحد الخامس من زمن  القيامة - قيامة المسيح قفزة نوعية في العالم والكنيسة 
    8. الاحد السادس من زمن القيامة 
    9. الاحد السابع من زمن القيامة - الرسالة والوصية

 

خميس الاسرار

1 كورنتس 11/23-32

لوقا22/1-23

يوحنا 13/1-15

 

        يُسمى " خميس الاسرار"، لان فيه اسس الرب يسوع سرّ القربان وسرّ الكهنوت للعهد الجديد، وهما نبع اسرار الخلاص الخمسة الاخرى: المعمودية والميرون والتوبة ومسحة المرضى والزواج؛ ولأن في هذا الخميس، ترك الرب للكنيسة وللعالم الوصية الجديدة، وصية المحبة الاخوية والخدمة، بمبادرة مؤثرة اذ غسل ارجل الرسل مثلما يفعل العبيد، ولأن فيه أسلم نفسه للألم والموت محققاً سرّ الفداء. تسهر الجماعة المؤمنة ساجدة للرب الحاضر في سرّ القربان، لتحيي تذكار آلام النزاع في بستان الزيتون، كما اوصى يسوع: " امكثوا هنا، واسهروا معي"  (متى26/38).

        القراءات التي تتلوها الكنيسة في هذا اليوم ثلاثة: من رسالة القديس بولس الرسول الى اهل كورنتس، وفيها التقليد الرسولي بشأن سرّ القربان وشروط المشاركة فيه (1 كورنتس 11/23-32)؛ ومن انجيل القديس لوقا الذي يروي كيفية تأسيس سرّي القربان والكهنوت  (لوقا 22/1-15)؛ ومن انجيل القديس يوحنا وفيه مبادرة يسوع بغسل ارجل الرسل، كهنة العهد الجديد، اثناء العشاء الاخير الفصحي والقرباني.

 

1.    نقل التقليد الرسولي بشأن تأسيس سرّ القربان

رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل كورنتس: 11/23-32

 

فَأَنَا تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُهُ إِلَيْكُم، وهُوَ أَنَّ الرَّبَّ يَسُوع، في اللَّيلَةِ الَّتي أُسْلِمَ فيهَا، أَخَذَ خُبْزًا، وشَكَرَ وَكَسَرَ وقَال: "هـذَا هُوَ جَسَدِي الَّذي يُكْسَرُ مِنْ أَجْلِكُم. إِصْنَعُوا هـذَا لِذِكْري". كَذلِكَ بَعْدَ العَشَاء، أَخَذَ الكَأْسَ أَيْضًا وَقَال: "هـذِهِ الكَأْسُ هِيَ العَهْدُ الـجَديدُ بِدَمِي. فَكُلَّما شَرِبْتُم مِنهَا، إِصْنَعُوا هـذَا  لِذِكْري". فكُلَّمَا أَكَلْتُم هـذَا الـخُبْز، وشَرِبْتُم هـذِهِ الكَأْس، تُبَشِّرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ حَتَّى مَجِيئِهِ. إِذًا فَمَنْ يَأْكُلُ خُبْزَ الرَّبِّ ويَشْرَبُ كَأْسَهُ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُذْنِبًا إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِهِ. فَلْيَمْتَحِنْ كُلُّ إِنْسَانٍ نَفْسَهُ، ثُمَّ فَلْيَأْكُلْ مِنْ هـذَا الـخُبْزِ ويَشْرَبْ مِنْ هـذِهِ الكَأْس. فَمَنْ يَأْكُلُ ويَشْرَب، وهُوَ لا يُمَيِّزُ جَسَدَ الرَّبّ، يَأْكُلُ ويَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ. ولِهـذَا السَّبَبِ كَثُرَ بَيْنَكُمُ الـمَرْضَى والضُّعَفَاء، ورَقَدَ الكَثِيرُون. فَلَو كُنَّا نُحَاسِبُ أَنْفُسَنَا لَمَا كُنَّا نُدَان. ولـكِنَّ الرَّبَّ يَدِينُنَا لِيُؤَدِّبَنَا، حَتَّى لا نُدَانَ مَعَ العَالَم.

 

ليس بولس الرسول من الاثني عشر، ولم يعرف المسيح شخصياً، لان ارتداده حصل بعد قيامة الرب. ولذلك قال: " انا سلّمتكم ما قبلته من ربنا"، بشأن سرّ القربان. انه التقليد الذي تناقله الرسل ويرويه بولس في رسالته (الآيات 23-26).

لقد اسسه الرب يسوع ليلة آلامه وصلبه في عشائه الفصحي الاخير، الذي أقامه مع تلاميذه حسب العادة اليهودية. فحوّل هذا العشاء الاخير الى تذكار تقدمة ذاته الطوعية للآب من اجل خلاص البشر، بقبول الموت على الصليب لفداء الجنس البشري، وبهبة جسده ودمه غذاء الحياة الجديدة للمؤمنين به: " خذوا كلوا، هذا هو جسدي الذي يبذل من اجلكم! خذوا اشربوا، هذا هو دمي للعهد الجديد، الذي يراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا" (لو22/19؛ متى26/28؛ 1كور11/24-25).

هذا هو القداس الالهي، الذبيحة والمائدة: انه تذكار وتأوين. فما جرى في ذاك العشاء الاخير الذي عقبه موت الرب على الصليب، وقيامته من بين الاموات، ونتذكره بخشوع، هو اياه يجري " الان وهنا"، حيث يقام القداس، كتأوين للذبيحة والقيامة ولهبة الذات طعاماً روحياً للمؤمنين في المناولة، بقوة الروح القدس.

القربان، في القداس، هو "سرّ الحب، وعلامة الوحدة، ورباط المحبة". هو العشاء الفصحي الجديد حيث " نتناول المسيح، فتمتلىء النفس من النعمة، ونُعطى عربون المجد الآتي" ( القرار المجمعي في الليتورجيا، 47؛ كتاب التعليم المسيحي، 1323).

2.    كيفية تأسيس سرُي القربان والكهنوت

انجيل القديس لوقا: 22/7-23

 

وحَلَّ يَوْمُ الفَطِير، الَّذي يَجِبُ أَنْ يُذبَحَ حَمَلُ الفِصْحِ فِيه، فَأَرْسَلَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: "إِذْهَبَا فَأَعِدَّا لَنَا عَشَاءَ الفِصْحِ لِنَأْكُلَهُ". فقَالا لَهُ: "أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّهُ؟". فقَالَ لَهُمَا: "مَا إِنْ تَدْخُلا الـمَدِينَةَ حَتَّى يَلْقَاكُمَا رَجُلٌ يَحْمِلُ جَرَّةَ مَاء، فاتْبَعَاهُ إِلى البَيْتِ الَّذي يَدْخُلُهُ. وَقُولا لِرَبِّ البَيْت: أَلْمُعَلِّمُ يَقُولُ لَكَ: أَيْنَ القَاعَةُ الَّتي آكُلُ فِيهَا عَشَاءَ الفِصْحِ مَعَ تَلامِيذِي؟ وَهُوَ يُريكُمَا عِلِّيَةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَة، فَأَعِدَّاهُ هُنَاك". فذَهَبَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، وأَعَدَّا عَشَاءَ الفِصْح. ولَمَّا حَانَتِ السَّاعَة، اتَّكَأَ يَسُوعُ وَمَعَهُ الرُّسُل، فقَالَ لَهُم: "شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هـذَا الفِصْحَ مَعَكُم قَبْلَ آلامي! فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم: لَنْ آكُلَهُ بَعْدَ اليَومِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ في مَلَكُوتِ الله". ثُمَّ أَخَذَ كَأْسًا، وَشَكَرَ، وَقَال: "خُذُوا هـذِهِ الكَأْسَ واقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُم. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم: لَنْ أَشْرَبَ عَصِيرَ الكَرْمَة، مُنْذُ الآن، إِلى أَنْ يَأْتِيَ مَلَكُوتُ الله". ثُمَّ أَخَذَ خُبْزًا، وَشَكَرَ، وَكَسَرَ، وَنَاوَلَهُم قَائلاً: "هـذَا هُوَ جَسَدِي الَّذي يُبْذَلُ مِنْ أَجْلِكُم. إِصْنَعُوا هـذَا لِذِكْرِي". وكَذـلِكَ أَخَذَ الكَأْسَ بَعْدَ العَشَاءِ وَقَال: "هـذِهِ الكَأْسُ هِيَ العَهْدُ الـجَدِيدُ بِدَمِي، الَّذي يُهْرَقُ مِنْ أَجْلِكُم. ولـكِنْ، هَا هِيَ يَدُ الَّذي يُسْلِمُنِي مَعِي عَلى الـمَائِدَة. فابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّر؛ إِنَّمَا الوَيْلُ لِذـلِكَ الإِنْسَانِ الَّذي يُسْلِمُهُ!".

 

في القسم الاول من نص الانجيل (لو22/7-14)، يروي لوقا تفاصيل اعداد العشاء الفصحي مع تلاميذه الاثني عشر في عليّة اورشليم.

وفي القسم الثاني (لو22/15-20) اسّس سرّي القربان والكهنوت.

        ماذا تعني مقدّمة التأسيس: " شهوة اشتهيت ان آكل هذا الفصح معكم قبل آلامي. واني اقول لكم: لا آكله بعد، حتى يتم في ملكوت الله".

        لفظة " فصح" تعني " العبور"، وهي عبور المسيح بالموت والقيامة الى الآب، على ما قال يوحنا الانجيلي: " قبل عيد الفصح، وكان يسوع يعلم ان الساعة اتت ليعبر من هذا العالم الى ابيه" ( يو13/1). فاستبق هذا العبور بتأسيس سرّ القربان، قبل آلامه، واستبق عبور الكنيسة، جماعة المؤمنين، النهائي الى مجد ملكوت السماء، حيث " وليمة عرس الحمل" التي رآها يوحنا (رؤيا 19/9)، ليكون رفيق دربنا عبر العالم الى بيت الآب.

بالقداس الالهي، الذي هو سرّ القربان، اعرب الرب يسوع عن كمال حبّه للكنيسة التي تمثل البشرية جمعاء، حسب قول يوحنا: " أحب خاصته الذين في العالم، واحبّهم الى الغاية" (يو13/1). وفي القداس ترك لهم عربون حبه، وضمانة حضوره معهم وبينهم، وأشركهم في سرّ فصحه بالموت عن الخطيئة وعن المسلك القديم والقيامة لحالة النعمة والحياة الجديدة  (انظر كتاب التعليم المسيحي، 1337-1340).

        وقد عبّر الرب يسوع عن كل هذا في كلام آخر نقله يوحنا الرسول: " انا الخبز الحي النازل من السماء، فمن يأكل منه يحيا الى الابد، والخبز الذي انا اعطيه، هو جسدي لاجل حياة العالم... فمن يأكل جسدي ويشرب دمي، له الحياة الابدية، وانا اقيمه في اليوم الاخير"  (يو6/51 و54).

        وبقوله: " اصنعوا هذا لذكري" ( لو22/19)، اسس الرب يسوع سرّ الكهنوت، جاعلاً الرسل كهنة العهد الجديد. فاعطاهم واجباً كهنوتياً هو الاحتفال، في الخبز والخمر، بسرّ جسده ودمه حتى مجيئه. فبدلاً من حَمَل الفصح وسائر ذبائح العهد القديم، اعطى هبة ذاته، هبة جسده ودمه. كل كائن يشعر اليوم ان المسيح وضع يديه عليه، وأشركه شخصياً في سرّه. ولهذا يجتمع الكهنة حول اسقفهم في عيد كهنوتهم ليجددوا مواعيد الكهنوت، والامانة للمسيح الكاهن الازلي، وللكنيسة، وللرسالة الكهنوتية.

        مُسحت يدا الكاهن بالميرون، علامة الروح القدس وقوته، لتصبحا يدي المسيح في العالم، اللذين تنقلان عمله الالهي، وتوضعان في خدمة محبته وفي تصرفه لكل خدمة. نصلي من اجل الكهنة لكي يضعوا ايديهم دائماً في تصرف مسيح الرب، ليأخذهم بيدهم ويقودهم الى تلبية حاجات الكنيسة.

        وضع الرب يديه على رأس الكاهن عبر يدي الاسقف، يوم رسامته، قائلاً له ما قال للرسل: " اتبعني". ان يد الرب ترافقه في كل مراحل حياته وتنشله وتقويه. عندما يختبر الكاهن ضعف ايمانه ومحدوديته وخوفه من عظمة واجبه وضعف امكانياته وفقر شخصه، يأخذه المسيح بيده ويقول له: " لا تخف! أنا معك"، مثلما قال لبطرس في آية الصيد العجيب (لو5/4-11). وعندما يخاف الكاهن من هول الرياح وامواج بحر العالم، ويشرف على الغرق في هموم الدنيا وتجارب الحياة، وصعوبات الرسالة، " يمدّ ربنا يده ويمسكه ويقول له: تشجع يا قليل الايمان، لماذا تشكك؟" ( متى14/31)، كما فعل مع بطرس.

        بوضع اليد على رأسه، قال الرب للكاهن: " انت صديقي، لاني اطلعك على كل شيء"، كما قال للرسل: " لست ادعوكم بعد عبيداً، لان العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لقد دعوتكم احبائي، لاني اطلعتكم على كل ما سمعته من ابي" ( يو15/15). أوكل اليه الرب كل شيء سلّمه شخصه ليتكلم باسمه، وليعمل بشخص المسيح الرأس. ان العلامات والحركات في الرسامة الكهنوتية تشرح هذه الامانة: الانجيل الذي يطوف به الكاهن وسط الجماعة، وكأس القربان الذي يحمله على رأسه، وسلطان الحل والربط المعطى له بمسحة الميرون. ان القيام الامين والسخي والملتزم بالواجبات الكهنوتية، يجعل الكاهن صديقاً للمسيح، ويحفظه في صداقته. وهو بدوره يجعل المسيح حاضراً في العالم ليشفيه من ضعفه وعاهاته ( انظر عظة البابا بندكتوس السادس عشر، في صباح خميس الاسرار، 13 نيسان2006).

       

3.    غسل ارجل التلاميذ

انجيل القديس يوحنا:13/1-15

 

اثناء العشاء الاخير، الذي كان يسوع مزمعاً فيه على تأسيس سرّي القربان والكهنوت، قام بمبادرة نبوية: فغسل ارجل التلاميذ، كعلامة لتنقية نفوسهم وقلوبهم بنعمة محبته، ولجعلهم اهلاً للجلوس الى مائدة جسده ودمه، ولقبول خدمة الكهنوت. وحسم هذا الامر بقوله لكل كاهن  بشخص بطرس: "اذا لم اغسلك، فليس لك نصيب معي" ( يو13/8). وحدها نعمة المسيح، المتفجّرة من موته وقيامته ينابيع خلاص، والمعطاة لنا في الاسرار السبعة، تنقّي الانسان في الداخل، وتهبه الحياة الجديدة.

بهذه المبادرة النبوية اعطانا القدوة، بحيث ان المشاركة في سرّي القربان والكهنوت دعوة للخدمة الوضيعة من دون حساب، المرموز اليها بغسل الارجل. مثل هذه الخدمة ترفعنا في عيني الرب. هذا ما اكدّه يسوع بقوله: " فان كنت، وانا ربكم ومعلمكم، قد غسلت لكم ارجلكم، فكم عليكم انتم ، ان يغسل بعضكم ارجل بعض. لقد اعطيتكم بهذا مثالاً، فكما صنعت لكم، تصنعون انتم ايضاً" (يو13/14-15).

المسيح الكاهن ينقينا بحبه الذي بلغ به الى الموت فدى عنا. وهو حبّ يتواصل وينقّينا في سرّي المعمودية والتوبة، ولا حدود له. لكن الانسان، برفعه هذا الحب والمشاركة في هذين السرّين، يضع حداً لحبّ الله، كما فعل يهوذا الاسخريوطي. وقد تنبأ عنه يسوع: " انتم انقياء، ولكن لا كلكم" (يو13/10).

ما الذي يجعل الانسان غير نقي وغير طاهر، هو رفضه للحب، وعندما لا يريد ان يحب، وان يكون محبوباً. هو الكبرياء الذي يعتقد ان المنافع الشخصية هي عنده اثمن من المسيح. ألم يفضّل يهوذا الثلاثين من الدراهم على يسوع، فأسلّمه للحاقدين الرافضين مثله محبة الله؟

لقد أصبح كذاباً، وهذا شأن المتكبرين، فاستعمل القبلة للخيانة فيما هي علامة للحب، وانفصل عن الحقيقة، وفقد معناها. تحجّر قلبه وارتكب الخيانة، واصبح غير قادر على التوبة، ففقد معنى وجوده، ولجأ الى الانتحار معلقاً على شجرة.

ان المسيح يحذرنا بهذا الكلام من الاكتفاء بالذات الذي يضع حداً لمحبة الله اللامحدودة. ويدعونا للتشبّه بتواضعه، ولفتح القلب والنفس لجودة التنقية بنعمته، وللدخول في شركة وليمة المحبة (انظر عظة البابا بندكتوس السادس عشر، في قداس الغسل، 13 نيسان 2006).
 

صلاة 

نسجد لك ايها المسيح في هذا اليوم المملوء اسراراً. انه يوم محبتك التي تبلغ ذروتها. لقد تركت لنا الارث والوصية: ارث سرّي القربان والكهنوت، ووصية المحبة والتواضع والخدمة. للاب الذي احبّنا بالابن فافتدانا، وبالروح القدس فاحيانا، كل تسبيح وشكر، الآن والى الابد، آمين.

 


 

الجمعة العظيمة وسبت النور

سرّ الصليب والنزول الى الجحيم

 

        الجمعة العظيمة

        يوحنا 19/31-37

        سرّ الصليب مصالحة الله مع العالم

        بتأسيس سرّي القربان والكهنوت بلغت محبة الله بالمسيح قمة الحب، وبسرّ الصليب بلغت رحمة الله ذروتها، فصالحت الله مع العالم بالمسيح.

        نتأمل في سرّ الصليب، في آلام الرب يسوع وموته مصلوباً، بفعل حقد البشر، رافضي محبة الله وخلاصه، وقد أدّى بهم هذا الحقد وهذا الرفض، الناتجان من خطاياهم المتراكمة، الى الحكم على يسوع بالموت مصلوباً. لكن يسوع بادل حقد العالم وخطيئته ورفضه بالرحمة والمصالحة. ولهذا تقوم الكنيسة اليوم برتبة السجدة للصليب، مرددة: " قدوس الله، قدوس القدير، قدوس الذي لا يموت! ايها المسيح، الذي صلبت من اجلنا، ارحمنا!" وتحتفل بالقداس السابق تقديسه بقسميه: ابتهال الكنيسة الى المسيح المصلوب من اجل ابنائها وبناتها، ومناولة جسد الرب الذي سجد له المؤمنون والمؤمنات ساهرين طيلة الليل في الكنائس، امانة لحبه ورحمته، وندامةً عن الخطايا وتعويضاً عنها.

 

1.    الرحمة والمصالحة

 

تجلت رحمة الله ومصالحته للعالم بعلامات واقوال من أعلى الصليب، نجدها مختصرة في انجيل القديس يوحنا: 19/31-37

        وإِذْ كَانَ يَوْمُ التَّهْيِئَة، سَأَلَ اليَهُودُ بِيلاطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُ الـمَصْلُوبِينَ وتُنْزَلَ أَجْسَادُهُم، لِئَلاَّ تَبْقَى عَلى الصَّليبِ يَوْمَ السَّبْت، لأَنَّ يَوْمَ ذـلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيمًا. فَأَتَى الـجُنُودُ وكَسَرُوا سَاقَي الأَوَّلِ والآخَرِ الـمَصْلُوبَينِ مَعَ يَسُوع. أَمَّا يَسُوع، فَلَمَّا جَاؤُوا إِلَيْهِ ورَأَوا أَنَّهُ قَدْ مَات، لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْه. لـكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الـجُنُودِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَة. فَخَرَجَ في الـحَالِ دَمٌ ومَاء. والَّذي رَأَى شَهِدَ، وشَهَادَتُهُ حَقّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الـحَقَّ لِكَي تُؤْمِنُوا أَنْتُم أَيْضًا. وحَدَثَ هـذَا لِتَتِمَّ آيَةُ الكِتَاب: "لَنْ يُكْسَرَ لَهُ عَظْم". وجَاءَ في آيَةٍ أُخْرَى: "سَيَنْظُرُونَ إِلى الَّذي طَعَنُوه".

        كان من الضرورة انزال المصلوبين ودفنهم قبل طلوع ذاك " السبت العظيم"، لانه كان عيد الفصح اليهودي، ويمنع فيه العمل، ويتم الاحتفال بأكل الحَمَل الفصحي.

        فيما كان يُصلب يسوع، كان كهنة العهد القديم يذبحون حملان الفصح في الهيكل، من دون ان يُكسر لهم عظم بحسب الرتبة اليهودية ( خروج12/46،عدد9/12). هكذا يسوع حَمَلُ الفصح الجديد، الذي ذُبح صلباً من اجل خطايا جميع الناس، لم يُكسر له عظم. من المسيح، حمل فصحنا، جرت ينابيع الخلاص المتمثلة بالماء والدم اللذين سالا من جنبه المطعون بحربة الخطيئة والرفض والحقد. فالماء رمز المعمودية التي تغسل خطيئة الانسان، وتتجدد في سرّ التوبة ومسحة المرضى، والدم رمز قربان جسد الرب ودمه الذي يحيي العالم، ومنه تأخذ اسرار الخلاص قوتها وفاعليتها. فكانت نبوءة زكريا: "سينظرون الى الذي طعنوا" (زكريا12/10)، طلباً للغفران والمصالحة.

        اما الاقوال التي قالها يسوع من أعلى الصليب فقد تجلّت فيها بالعمل الرحمة والمصالحة.

        كان الغفران الرحوم لكل الذين قرروا صلبه ونفّذوه. انه غفران محب بدون حدود لخطايا جسيمة وفظيعة، بررها بالجهل وسترها بالحب: " يا ابتِ، اغفر لهم، لانهم لا يدرون ما يفعلون" ( لو23/34). وكانت المصالحة مع لص اليمين الذي اعرب عن توبته: " اذكرني، يا رب، عندما تأتي في ملكوتك". فكان الجواب: " اليوم، تكون معي في الفردوس" ( لو23/42-43).  وكانت ضمانة الغفران والمصالحة ان اعطى البشرية امه، لتكون اماً تسهر على كل انسان، وتقوده الى ابنها فادي الانسان: " يا امرأة هذا ابنك! ويا يوحنا هذه امك!" ( يو19/26-27).


 

2.    سرّ الصليب 

صليب المسيح تعبير عن حبه الاصيل الذي يعطي ذاته، وعن حياته المكرسة للآخرين. وهو حضارة المسيحيين. فبدلاً من أن يكفّر الانسان عن خطيئته، بحركة تصاعدية من الانسان الى الله، يرمم بها علاقته معه باعمال تكفيرية واستغفارية، كما هي الحال في جميع الاديان، يأتي الله الى الانسان، بمبادرة من عظمة حبه، يشفيه ويبرره برحمته، ويحيي ما كان ميتاً. فعدالة الله رحمة فاعلة تقوّم اعوجاج الانسان وتعيده مستقيماً. هذه هي الثورة التي أدخلتها المسيحية في تاريخ الاديان[1].

        ليس الناس هم الذين صالحوا الله، ما داموا هم ارتكبوا الخطأ، بل الله نفسه صالح العالم بالمسيح (2كور 5/9). ان الله لا ينتظر ان يأتيه المذنبون من تلقاء انفسهم ليصالحوه، بل هو يذهب اليهم بنفسه ليصالحهم. هكذا يظهر الصليب كحركة انحدارية من أعلى الى أسفل، تعبّر عن حب لا يطوله الادراك. ان حركة التجسد الانحدارية تتواصل في حركة الصليب[2].

        هنا يتضح لنا جوهر العبادة المسيحية، والوجود المسيحي وفضيلة التعبد، وهو ان نستقبل بعرفان كلي عمل الله الخلاصي. ولذا قمة العبادة المسيحية هي سرّ القربان – الافخارستيا اي فعل الشكر، الذي يجعلنا نقول " نعم" لارادة الله، من دون شرط.

        ان مسيرة " درب الصليب" التي نقوم بها في ختام هذا اليوم المقدس دعوة الى التأمل في قدرة الخطيئة على الهدم، وقوة محبة المسيح على الشفاء، والى جعل درب الصليب دربنا للمصالحة مع الله والناس.

 

        صلاة 

        نسجد لصليبك ايها المسيح. لقد تممت به مصالحة الله مع العالم برحمة الهية ومحبة لامتناهية، تنحدر علينا بالصليب من أعلى الى أسفل. اعطنا ان نفتح قلوبنا لهذه المحبة والرحمة، وارفعنا اليك، بحركة تصاعدية تكفيرية استغفارية، عبر عبادة سرّ القربان، وارسلنا لخدمة المصالحة على المستوى الافقي مع جميع الناس. للآب والابن والروح القدس كل مجد واكرام، الآن والى الابد، آمين.

 


 

سبت النور[3]

متى 27/62-66

نزول الرب الى الجحيم

 

هو يوم التأمل بسرّ مكوث يسوع في القبر، قبل قيامته. وقد اخذ الجنود كل الاحتياطات لئلا يسرقه تلاميذه، كما روى متى الانجيلي:

وفي الغَد - أَيْ بَعْدَ التَّهْيِئَةِ لِلسَّبْت - اجْتَمَعَ الأَحْبَارُ والفَرِّيسِيُّونَ لَدَى بِيلاطُس، وقَالُوا لَهُ: "يَا سَيِّد، لَقَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذـلِكَ الـمُضَلِّلَ قَال، وهُوَ حَيّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَقُوم. َمُرْ أَنْ يُضْبَطَ القَبْرُ إِلى اليَوْمِ الثَّالِث، لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلامِيذُهُ ويَسْرِقُوه، ويَقُولُوا لِلشَّعْب: إِنَّهُ قَامَ مِنْ بَينِ الأَمْوَات، فَتَكُونَ الضَّلالَةُ الأَخِيرَةُ أَكْثَرَ شَرًّا مِنَ الأُولى!". فقَالَ لَهُم بِيلاطُس: "عِنْدَكُم حُرَّاس، إِذْهَبُوا واضْبُطُوا القَبْرَ كَمَا تَعْرِفُون". َذَهَبُوا وضَبَطُوا القَبْر، فَخَتَمُوا الـحَجَرَ وأَقَامُوا الـحُرَّاس.

 

يقول التقليد ان يسوع " نزل الى الجحيم"، كما  ورد في رسائل القديس بطرس والقديس بولس: " المسيح مات، وبشّر الانفس التي كانت في حوزة سجن الجحيم" (1بطرس 3/19). ويتساءل بولس الرسول: " من ذا الذي نزل الى قعر الجحيم وأصعد المسيح من بين الاموات؟"  (روم10/7).

"النزول الى الجحيم" يعني ان الله يكلمنا بصمته وليس فقط بكلامه. ليس الله الكلمة المفهومة التي تاتي الينا فحسب، انما هو ايضاً المبدأ السري الصامت الذي يخفى علينا. فلا بد من اختبار صمت الله الذي يكلمنا لكي نرى ابعد مما نحن نتصور وابعد من الصورة التي نكوّنهاعن حياتنا وعن الله.

لقد اختبر تلميذا عماوس صمت الله هذا، عندما غادرا اورشليم، اذ مات فيهما الرجاء  والصورة التي كوّناها عن " يسوع الذي من الناصرة، وكان الكل يرجون انه يكون هو المزمع ان يخلّص اسرائيل" (لو24/10-21). كان لا بد من ان تموت الصورة التي كوّنها التلميذان عن المسيح لكي يريا الحقيقة الاكبر، حقيقة الخلاص الابدي به النابع من سر محبته العظمى، ولهذا عرفاه عند كسر الخبز، اي عندما احتفل بقداسه الاول بعد قيامته، فاشتعل في قلبيهما الرجاء، وانكشفت الحقيقة، وتبدلت الصورة الخاطئة التي سبق وكوّناها عن يسوع، تماماً كما كان على المسيح ان يموت ليحيا بعظمة اكبر، مثلما قال للتلميذين:"أما كان على المسيح ان يحتمل تلك الامور ليدخل مجده؟"(لو 24-26) من الضرورة ان نختبر صمت الله، ان نمرّ في ساعة الصمت. ان سر المسيح يمتد الى أبعد من الصليب، الى أبعد من تلك الهنيهة  حين يضحي حبُّ الله ملموساً حتى في الموت، ثم يصمت ويختفي في الظلمة.

اختبر يسوع صمت ابيه، عندما اطلق صرخة النزاع: " الهي، الهي، لماذا تركتني" (مر15/34)، وهي بداية صلاة كان يطلقها شعب الله قديماًُ في المزمور 22/21، في حالة الضيق  والرجاء، عندما كان يبدو له ان الله تخلّّى عنه. هذه الصلاة المتفجّرة من الضائقة العميقة لغياب الله تنتهي يتسبحة العظمة الالهية. بهذه الصرخة أقام يسوع قرب ابيه وسط تخلّيه عنه وغيابه. هذا ما تعني عبارة " نزل الى الجحيم".

ومن ناحية اخرى " النزول الى الجحيم" يعني " الدخول في عمق الموت. فلفظة " جحيم" بالعبرية " شِيُول" تعني حالة الموت. فما هو الموت حقاً؟ وماذا يحدث للانسان عندما يموت؟ صرخة يسوع الاخيرة تكشف لنا ان فظاعة الآلام ليست في ألم جسدي معيّن، بل في اساس عزلته وفي التخلّي الكلي عنه. مشكلة الموت هي الهوّة الكائنة في عزلة الانسان التي تكمن في اعماق ذاته، هو الذي لا يمكنه ان يكون وحيداً، لانه بحاجة الى الآخرين. خوف الانسان الحقيقي الداخلي لا يمكن التغلب عليه بالعقل والادراك، انما فقط بحضور شخص محب.

لنفكر مثلاً بخوف ولد عليه ان يجتاز الغابة وحده في الليل. فهو لا يتغلب على خوفه الا اذا أمسكته يد مُحبة او رافقه صوت يطمئن اليه. اما الاقناع العقلي فلا ينتزع منه الخوف من العزلة والوحدة. ولنفكّر ايضاً بخوف شخص يسهر على ميت، فانه يستشعر خوفاً لا من شيء، بل من كونه وحيداً مع الموت. يشعر بعدم الاطمئنان بحدّ ذاته. ان خوفه يتلاشى، لا من اقناع نفسه بالعقل، بل اذا كان احدٌ بمعيته، واذا شعر بقرب الانت.

الخوف الداخلي الحقيقي هو خوف من الوحدة، خوف شخص لا يقوى على العيش إلاّ مع الآخرين. ولا يستطيع التغلب عليه بالعقل والادراك، بل فقط بحضور شخص محب. هذا الخوف الكلي يُسمى " جحيماً"، اي الوحدة التي لا تستطيع كلمة الحب ان تنفذ اليها، والتي تشكّل الكيان المهدد. الموت باب لا نستطيع ان نعبره إلاّ وحيدين، وليل لا يصل الى فراغه صوت. خوف العالم كله هو في الاساس الخوف من هذه الوحدة. هذا يفسّر لماذا العهد القديم لا يستعمل سوى كلمة واحدة للجحيم والموت. في ضوء هذا التحليل الموت هو هذه الوحدة، والجحيم هو الوحدة حيث لم تعد المحبة تستطيع الدخول.

" نزول المسيح الى الحجيم"، في ضوء ما توضح، هو انه اجتاز باب وحدتنا القصوى، ودخل من خلال آلامه في هوّة التخلي عنا، حيث لا كلمة سواه يمكن ان تطولنا. وهكذا فان الجحيم غلب على امره، بل الموت، الذي كان قبلاً الجحيم، لم يعد كذلك، كما لم يعد الاثنان، الموت والجحيم مترادفين متساويين، لان في وسط الموت حياة، ولان المحبة تسكن وسط الموت. الانغلاق على الذات الذي لا تدخله المحبة هو الجحيم بالذات. وبينما الموت لم يعد طريق الوحدة المتجمّد، فابواب الجحيم قد فُتحت. هكذا نفهم النص الذي اورده متى في انجيله (27/52): " ان القبور تفتحت بموت يسوع واجساد الموتى قامت". ان باب الموت قد فُتح مذ سكنته الحياة، اي المحبة[4].

لذا نسميه " سبت النور" حيث الحي مات. الاله الابن يموت، لا كشخص الهي، بل بانفصال نفسه عن جسده، لكنه لم ينفصل الى شخصين، بل ظل جسده ونفسه المنفصلان الواحد عن الآخر متحدين في شخص الكلمة الواحد، كما اتحدا فيه عندما اتخذ طبيعتنا في حشا مريم، على ما يقول القديس يوحنا الدمشقي. وبسبب هذا الاتحاد، لم يصبح يسوع الميت جثة ككل الاموات، بل حفطته القدرة الالهية من الفساد، حسب قول القديس توما الاكويني. وكما استراح الله من عمل الخلق في اليوم السابع، هكذا استراح المسيح من عمل الخلاص ومن وضع الكون كله في سلام.

 

***

صلاة 

        نسجد لك ايها المسيح، كلمة الله الصامتة في موتك، والناطقة في صمتنا. انت الحياة في وحدتنا، والمحبة في عزلتنا. نشكرك ربي لانك رفيق الدرب الذي يبدد ظلمة الخوف فينا، وتفتح عيوننا دائماً الى فجر جديد ينبعث منه نور وجهك. لك وللآب وللروح القدس كل سجود وشكر، الآن والى الابد، آمين.


[1]  جوزف راتسنغر (البابا بندكتوس السادس عشر): مدخل الى الايمان المسيحي، ترجمه الدكتور نبيل خوري، ص 206.

[2] . المرجع نفسه، ص 207.

[3] .مقتبس من كتاب جوزف راتسغر (البابا بندكتوس السادس عشر): مدخل الى الايمان المسيحي، ترجمة الدكتور نبيل الخوري،ص 214-220.

[4] . مدخل الى الايمان المسيحي، ص 218-220.

 


 

قيامة الرب يسوع

1كورنتس 15/12-26

مرقس 16/1-8

قيامة المسيح اساس الايمان المسيحي

 

        قيامة الرب يسوع من بين الاموات حدث تاريخي يرويه الانجيل، وحقيقة اساسية تبنى عليها حياة الانسان وحياة الايمان: " لو لم يقم المسيح، لكانت كرازتنا باطلة وايماننا باطلاً" ( 1 كور15/14). فالقيامة تثبّت كل ما صنع المسيح وعلّم حول ما يختص بالله الواحد الثالوث، وبالانسان، والتاريخ؛ والقيامة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتجسد ابن الله، الذي اتخذ الطبيعة البشرية ليفتدي الانسان بموته ويعيد اليه بهاءه الاول، بهاء صورة الله بقيامته: فبموته يحررنا من الخطيئة، وبقيامته يفتح لنا السبيل الى حياة جديدة تنتصر على الموت الروحي، والى المشاركة في الحياة الالهية، فالى حالة التبني التي تجعلنا اخوة ليسوع المسيح وابناء الله بالابن الوحيد. ان قيامة المسيح هي مبدأ قيامة اجسادنا، عند مجيئه الثاني بالمجد: " المسيح  قام من بين الاموات، وصار بكر الراقدين... كما انه بآدم يموت جميع الناس، كذلك بالمسيح جميعهم يحيون" (1كور15/20و22).

 

 

أولاً، القيامة في تعليم القديس بولس الرسول، وحدثها التاريخي في الانجيل

 

الرسالة الاولى الى اهل كورنتس:15/12-26

إِنْ كَانَ الـمَسِيحُ يُبَشَّرُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْضٌ مِنْكُم أَنْ لا قِيَامَةَ لِلأَمْوَات؟ فَإِنْ كَانَ لا قِيَامَةَ لِلأَمْوَات، فَالـمَسِيحُ أَيْضًا لَمْ يَقُمْ! وَإِنْ كَانَ  الـمَسِيحُ لَمْ يَقُمْ، فبَاطِلٌ تَبْشِيرُنا وبَاطِلٌ إِيْمَانُكم، ونَكُونُ نَحْنُ شُهُودَ زُورٍ على الله، لأَنَّنَا شَهِدْنَا على اللهِ أَنَّهُ أَقَامَ الـمَسِيح، وهُوَ مَا أَقَامَهُ، إِنْ صَحَّ أَنَّ الأَمْوَاتَ لا يَقُومُون. فَإِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُون، فَالـمَسِيحُ أَيْضًا لَمْ يَقُمْ! وَإِنْ كَانَ الـمَسِيحُ لَمْ يَقُمْ، فَبَاطِلٌ إِيْمَانُكم، وتَكُونُونَ بَعْدُ في خَطَايَاكُم. إِذًا فَالَّذينَ رَقَدُوا في الـمَسِيحِ قَدْ هَلَكُوا. إِنْ كُنَّا نَرْجُو الـمَسِيحَ في هـذِهِ الـحَيَاةِ وحَسْبُ، فَنَحْنُ أَشْقَى النَّاسِ أَجْمَعِين! وَالـحَالُ أَنَّ الـمَسِيحَ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ بَاكُورَةُ الرَّاقِدِين. فَبِمَا أَنَّ الـمَوْتَ كَانَ بِوَاسِطَةِ إِنْسَان، فَبِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ أَيْضًا تَكُونُ قِيَامَةُ الأَمْوَات. فَكَمَا أَنَّهُ في آدَمَ يَمُوتُ الـجمِيع، كَذ,لِكَ في الـمَسِيحِ سيَحْيَا الـجَمِيع، كُلُّ وَاحِدٍ في رُتْبَتِه: الـمَسِيحُ أَوَّلاً، لأَنَّهُ البَاكُورَة، ثُمَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيح، عِنْدَ مَجِيئِهِ. وَبَعْدَ ذـلِكَ  تَكُونُ النِّهَايَة، حِيْنَ يُسَلِّمُ الـمَسِيحُ الـمُلْكَ إِلى اللهِ الآب، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْطَلَ كُلَّ رِئَاسَةٍ وكُلَّ سُلْطَانٍ وَقُوَّة، لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلمَسِيحِ أَنْ يَمْلِك، إِلى أَنْ يَجْعَلَ اللهُ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ تَحْتَ قَدَمَيه. وآخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الـمَوْت.

 

1. القيامة أساس الايمان المسيحي ومحوره

 

يذكّر القديس بولس الرسول أنّ قيامة يسوع هي محور الإيمان المسيحي وأساسه، وإنّها المقياس الأول لحقيقة الاعلان المسيحي: "إن كان المسيح لم يقم، فباطل تبشيرنا وباطل إيمانكم، ونكون نحن شهود زور على اللّه، لأنّنا شهدنا على اللّه أنّه أقام المسيح، وهو ما أقامه" (1 كور 15/15-16).

هذا هو إعلان إيمان الكنيسة الأولى ومحور الكرازة الرسولية. فالقيامة هي أصل الكنيسة الحقيقي المخَلَّصة بالمسيح والداعية إلى هذا الخلاص. فمَن يعلن قيامة المسيح ينال الخلاص، كما يؤكّد بولس في مكان آخر: "إذا اعترفت بلسانك أنّ يسوع هو الرب، وتؤمن بقلبك أنّ اللّه أقامه من بين الأموات، تنال الخلاص (روم 10/9).


 

كيف تكون قيامة المسيح أساس الايمان وضمانة الخلاص؟

 

إعلان القيامة كما نجده في كتب العهد الجديد يتضمن ثلاثة متلازمة: 

إنها تؤكد ألوهية المسيح الذي يدخل مجد ابن اللّه ببشريته القائمة والمُمَجَّدة. وتكشف سرّ الثالوث: الآب الذي قبل ذبيحة يسوع لفداء العالم، ومجّده بقيامته وجلوسه عن يمينه؛ والابن الذي بتجسّده الخلاصي استحقّ الارتفاع بالمجد؛ والروح القدس الذي هو روح الحياة والقيامة (1 بطرس 3/18؛ روم 1/4). وتمثل تحقيق عهد الصداقة بين اللّه والانسان، بمعنى أنّ الحياة الإلهية التي نقلتها طبيعة المسيح البشرية، نُقِلَت بواسطته إلى البشرية جمعاء. لقد نال المسيح بقيامته السلطان الروحي ليُبّدِّل الناس ويجعلهم على صورته وأبناء للآب.[1] هذا هو مضمون الايمان المسيحي النابع من القيامة، كما يؤكّد بولس الرسول: "نحن نؤمن أنّ يسوع مات وقام" (1تسا 4/14).

ليس إيمان تلاميذ يسوع هو الذي أوجد القيامة، بل اللقاء بالمسيح القائم هو الذي أولد إيمانهم الثابت بحقيقة واقعه الجديد الحي لدى اللّه. فكانوا يردّدون: "الرب قام حقًّا وظهر لسمعان" (لو 24/34). وصدى تردادهم يتواصل عندنا بالتحية الفصحية: "المسيح قام! حقًّا قامّ!" ليست القيامة نتيجة لإيمان التلاميذ، بل هي بالأحرى سبب إيمانهم. فقد كانوا مكتئبين محبطين (لو 24/18)، وغير مصدّقين وغليظي القلب (مر 16/14)، ومشككين مرتابين (متى 28/17)، ومرتعدين خائفين (لو 24/37).

 

2. القيامة عمل اللّه الثالوث

 

عندما يؤكد بولس الرسول أن "اللّه أقامه من بين الأموات، فإنه يعني أن القيامة هي عمل الثالوث. فالآب لم يتخل عن ابنه، بل أقامه من الموت مُظهِرًا بذلك أنّه أبوه. وتوجد نصوص بولسية أخرى شبيهة (روم 4/24 ؛ 10/9 ؛ 1كور 6/14 ؛ 15/15 ؛ 2كور 4/14 ؛ فل 1/1). لكننا نتوقّف عند نص يبيّن أن عمل القيامة هو عمل الآب والروح القدس:

"في شأن ابنه الذي وُلد من نسل داود على حسب الجسد، والذي جُعِلَ ابن اللّه بقوة، بالقيامة من بين الأموات، على حسب روح القداسة، وهو يسوع ربنا الذي به نلنا النعمة والرسالة" (روم 1/3-5).

ان هذا النص يبيّن حالتي يسوع المسيح: حالة التجسد التاريخية: "ابن اللّه الذي وُلِد من نسل داود بحسب الجسد"، وحالة التمجيد الابدية: "وجُعِل ابن اللّه بالقيامة على حسب روح القداسة". هما حالتا وجود المسيح: الأولى بشرية على الأرض، والثانية روحانية بعد القيامة التي هي "مصدر النعمة والرسالة".

        نوعا وجود المسيح الأرضي والسماوي، رددهما بولس الرسول في الرسالة إلى تلميذه طيموتاوس: "لقد ظهر في الجسد، وتبرر بالروح" (1طيم 3/18). وكذلك قال بطرس الرسول: "مات في الجسد، وجُعِل حيًّا بالروح" (1بطرس 3/18).

        هذا التأكيد هو إعلاني لا تكويني، فالمسيح هو ابن اللّه بالطبيعة وكامل بالقداسة، كما نقرأ في نص رسالة بولس إلى طيموتاوس:

"عظيم حقًّا هو سرّ التقوى - يسوع المسيح - الذي أُظهِرَ في الجسد، وبُرِّرَ في الروح، وأُبينَ للملائكةونودِيَ به في الأمم، وأومِنَ به في العالم، وصعد بالمجد" (1طيم 3/16).

        الآب أرسَلَ ابنه الأزلي الذي ظهر في الجسد، والروح القدس أظهر في القيامة كرامته وقداسته ومجده. هذا المجد أُعلِنَ في السماء بين الملائكة وعلى الأرض بين البشر. خلاصة القول أن الآب يقيم ابنه من الموت، والروح يتمّ القيامة ويعلنها بقدرته الالهية.

 


 

3. حدث القيامة (إنجيل القديس مرقس: 16/1-8)

 

ولَمَّا انْقَضَى السَّبْت، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّة، ومَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوب، وسَالُومَة، طُيُوبًا لِيَأْتِينَ وَيُطَيِّبْنَ جَسَدَ يَسُوع. وفي يَوْمِ الأَحَدِ بَاكِرًا جِدًّا، أَتَيْنَ إِلى القَبْرِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْس. وكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: "مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الـحَجَرَ عَنْ بَابِ القَبْر؟". وتَفَرَّسْنَ فشَاهَدْنَ الـحَجَرَ قَدْ دُحْرِج، وكَانَ كَبِيرًا جِدًّا. ودَخَلْنَ القَبْر، فَرَأَيْنَ شَابًّا جَالِسًا عَنِ اليَمِين، مُتَوَشِّحًا حُلَّةً بَيْضَاء، فَانْذَهَلْنَ. فَقَالَ لَهُنَّ: "لا تَنْذَهِلْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الـمَصْلُوب. إِنَّهُ قَام، وَهُوَ لَيْسَ هُنَا. وهَا هُوَ الـمَكَانُ الَّذي وَضَعُوهُ فِيه. أَلا اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلامِيذِهِ وَلِبُطْرُس: إِنَّهُ يَسْبِقُكُم إِلى الـجَلِيل. وهُنَاكَ تَرَوْنَهُ، كَمَا قَالَ لَكُم". فَخَرَجْنَ مِنَ القَبْرِ وَهَرَبْنَ مِنْ شِدَّةِ الرِّعْدَةِ والذُّهُول. وَمِنْ خَوْفِهِنَّ لَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئًا...

 

        "جاءت مريم المجدلية ومريم ام يعقوب وسالومة"

 

        يسوع ميت وموضوع في القبر. يصف القديس يوحنا الانجيلي كيف جاء يوسف الرامي ونيقوديمس وأنزلا يسوع يوم الجمعة عن الصليب، وحنّطاه ولفاه بكتان، حسب عادة اليهود، ودفناه في قبر جديد، على عجل بسبب تهيئة ذلك السبت وقبل يوم العيد والاستراحة مع الغروب ( يو 19/38-42). لذلك جاءت مريم المجدلية ومريم ام يعقوب وسالومة الى القبر، باكراً صباح الأحد. فتفاجأن بقيامة يسوع. في الاناجيل الاربعة إجماع على ان اول شاهد للقيامة هي مريم المجدلية. القديس مرقس يقول: " وقام يسوع باكراً يوم الاحد وظهر اولاً لمريم المجدلية، تلك التي كان أخرج منها سبعة شياطين" ( مر16/9). وهي اول من بشر التلاميذ، حتى دُعيت  رسولة الرسل" (البابا يوحنا بولس الثاني: كرامة المرأة،16). " السبعة شياطين " تعني ارواحاً خبيثة شديدة الوطأة على المسكون". ( انظر لو8/2)، المجدلية تبعت يسوع بعاطفة عرفان الجميل، في كل الجليل حتى اقدام الصليب. وقد شاء السيد المسيح ان يكافىء حبها الكبير برؤيته وتقبيل قدميه وقبول بشرى قيامته وابلاغها الى التلاميذ. مرقس ولوقا يقولان ان المجدلية والمريمات كن يحملن حنوطاً لتطيب جسد يسوع، بسبب عجلة دفنه، كما ذكرنا.

 

"هوذا المكان الذي وُضع فيه"

 

 القبر الفارغ برهان حسّي لما قاله الملاك لهما: " أتطلبان يسوع الذي صُلب، لقد قام وليس هو هنا". في القبر الفارغ علامات القيامة كما رأها بطرس ويوحنا: " دخلا القبر ورأيا اللفائف ملقاة، والكفن الذي كان على رأسه مشدوداً، غير ملقى مع اللفائف، بل مطوياً على حدة في مكان آخر... رأيا وآمنا" (يو20/5-8). اللفائف والكفن علامة لخروج جسد الرب يسوع منهما، وكأنه تبخّر، فكانت مطبقة وفارغة وموجودة في الحالة التي قبر بها يسوع، وهذا هو سبب الايمان بأنه قام، فلم يسرقه التلاميذ كما زعم الحراس، فيما كانوا نياماً ( متى28/12-15). بالرشوة أسلم يهوذا يسوع الى اعدائه، وبالرشوة انكر الحراس حقيقة قيامته. وعلق القديس اغسطينوس: " يا للحيلة المسكينة! انت تحمل الينا شهوداً كانوا نائمين"؛ ولم يُنقل الى مكان آخر كما ظنت المجدلية ( يو20/13و15).

في تورينو ( ايطاليا) يحفظ " الكفن المقدس" ( Sacra Sindone-Saint suaire) وهو قطعة من كتان طولها 3.40م، وعرضها 1.10م، منذ عام 1578، مطبوع عليه وجه يشبه وجه السيد المسيح وتكوينات جسده وعليه كل الآلام التي يصفها الانجيليون: الجلد، اكليل الشوك، حمل الصليب على الكتفين، الصلب، الجنب المطعون بالحربة. لم تقل لكنيسة كلمتها حول اصالة الكفن المقدس، لكن البابا بولس السادس الذي زاره سنة 1973 تمنى ان  يقود التأمل في هذا الوجه المطبوع على القماش الى رؤية عميقة وفاعلة لسرّ آلام المسيح وقيامته.

القبر الفارغ هو احدى الحقائق الاربع التي تؤكد حدث القيامة. وهي بالاضافة اليه: حقيقة موت المسيح (متى27/45-56؛ مر15/33-41؛ لو23/44-49؛ يو19/28: وفيها موته مصلوباً، وافادة قائد المئة المسؤول عن الصلب لبيلاطس ( مر15/45) والتاكد من موته بالطعن بالحربة؛ حقيقة دفنه  (يوردها الانجيليون الاربعة)؛ ظهورات الرب (متى28؛ مرقس 16؛ لوقا 24؛ يوحنا 20).

        4. تبادل عجيب بين اللّه والانسان

 

        يكتب بولس في رسالته التي نتلوها صباح أحد القيامة: "فيما أن الموت كان بواسطة إنسان، فبواسطة إنسان أيضًا تكون قيامة الأموات. وكما أنه في آدم يموت الجميع، كذلك في المسيح سيحيا الجميع" (1كور 15/21-22). هذا يعني أن تبادلاً عجيبًا قام بين اللّه والانسان بيسوع المسيح. فهو أخذ طبيعتنا البشرية وبادلنا حياته الالهية. أخذ موتنا وبادلنا القيامة. أخذ ما لنا لنتمكن من أن نأخذ ما هو.

في رسالة القديس بولس إلى أهل فيلبي التي تُتلى في قداس نصف الليل (فيل 2/1-11)، لنا دعوةً "لنتخلّق بأخلاق المسيح"، الذي لبسناه بالمعمودية: "أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح" (غلاطية 3/27).

 

***

        صلاة

         لك المجد ايها المسيح القائم من الموت. بقيامتك ترسي اساسات ايماننا، وتقيم قلوبنا الى حياة جديدة، وتعطينا رجاء قيامة الاجساد والنفوس، لتشرك المخلِّصين بك في الحياة الالهية ومجد السماء. قوّنا بنعمتك وتعاليم الانجيل والكنيسة، لنكون شهوداً لك في مجتمعاتنا. ولتكن حياتنا وشهادة اعمالنا نشيد تمجيد دائم وتسبيح غير منقطع بعظائم الله الثالوث في سرّ موتك وقيامتك. للآب والابن والروح القدس كل المجد والشكران، الآن والى الابد، آمين.


[1] Angelo Amato, Gesú  il Signore, p.538

 


 

الاحد الثاني من زمن القيامة، 2009-04-19

 

 

الاحد الثالث من زمن القيامة

2 طيموطاوس 2/8-13

لوقا 24/13-35

القيامة مصدر الدعوة والرسالة

 

        الاعتراف بقيامة الرب يسوع من بين الاموات لا يقف عند حدود الايمان والمعرفة بل ينتقل الى الحياة والعمل. هذا يُسمى الحياة في المسيح. فلا يكفي ان نؤمن بشخص، بل نحتاج الى ان نبلغ اليه؛ ونلمسه بشكل ما. من هذا البلوغ الى شخص المسيح تولد الدعوة والرسالة. هذا ما يتكلم عنه بولس الرسول في رسالته الى طيموتاوس. وما اختبره تلميذا عماوس في انجيل هذا الاحد.

 

اولاً، ايمان بولس الرسول بقيامة المسيح ودعوته ورسالته

رسالة القديس بولس الى تلميذه طيموتاوس: 2 طيم 2/8-13

 

تَذَكَّرْ يَسُوعَ الـمَسِيحَ الَّذي قَامَ مِنْ بَينِ الأَمْوَات، وهُوَ مِنْ نَسْلِ دَاوُد، بِحَسَبِ إِنْجِيلِي، الَّذي فِيهِ أَحْتَمِلُ الـمَشَقَّاتِ حَتَّىالقُيُودَ كَمُجْرِم، لـكِنَّ كَلِمَةَ اللهِ لا تُقَيَّد. لِذـلِكَ أَصْبِرُ على كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ الـمُخْتَارِين، لِيَحْصَلُوا هُم أَيْضًا على الـخَلاصِ في الـمَسِيحِ يَسُوعَ مَعَ الـمَجْدِ الأَبَدِيّ. صَادِقَةٌ هِيَ الكَلِمَة: إِنْ مُتْنَا مَعَهُ نَحْيَ مَعَهُ، وإِنْ صَبَرْنَا نَمْلِكْ مَعَهُ، وإِنْ أَنْكَرْنَاهُ يُنْكِرْنَا، وإِنْ كُنَّا غَيرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لأَنَّهُ لا يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ!

 

        بولس يدعو طيموتاوس ليتذكر يسوع المسيح الذي قام من بين الاموات، لكي يشدده في الحياة مع المسيح كدعوة، وفي مواصلة خدمة الانجيل لخلاص سامعيه.

        عرف بولس يسوع المسيح بالايمان والاختبار، من دون ان يلتقيه في حياته التاريخية. لقد التقاه على طريق دمشق بعد قيامته، اذ سمع صوته. لكنه عبر من المعرفة الايمانية الى الجوهر، الى اختبار وجود المسيح الواقعي فيه، في  الكنيسة، وفي العالم. ليس يسوع عنده صيغة ايمان، بل شخص واقعي، شخص يوجد، يعطي الحياة، وهو اصل الوجود. لم يكتفِ بولس بمعرفة يسوع وغناه، بل سعى الى امتلاكه والاغتناء من نعمته.

        لقاء شاول المضطهد بيسوع الناصري على طريق دمشق لم يكن مجرد سماع صوت، بل كان جرح محبة اخترق حياته وحوّله الى بولس رسول الانجيل الذي " لم يقبله من بشر، بل بوحي من يسوع المسيح" ( غلا1/11). حدث ارتداده على طريق دمشق ( اعمال 9/3-5؛22/1-12؛26/1-24) طبع نفس الرسول بختم المسيح. كانت معموديته المسيحانية. ومنذ ذلك الحين لم يعد خاصة نفسه؛ لقد اصبح كله لسيده، غارقاً فيه، وسُمى نفسه " عبد يسوع المسيح". ارتداده اتصف ببعدين: اخلاء الذات وافراغها بالكامل من هويتها القديمة- مشاعر ايديولوجيات، تعبّد، " الانسان العتيق- وبالمقابل، ولادة جديدة بالمسيح، والعيش وفقاً " للانسان الجديد"  (كولوسي3/9-10)؛ افسس4/22-23). هذا ما جعله يقول: " الحياة عندي هي المسيح" (فيل1/21).

        " تذكّر يسوع المسيح الذي قام من بين الاموات" يعني تذكر معموديتك، ولادتك الجديدة: " انتم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح" ( غلا3/27)، للصمود امام المحن. فيعطي بولس اختباره: بالمسيح القائم  احتملت المشقات حتى القيود كمجرم، لكن كلمة الله غير مقيّدة. وصبرت على كل شيء من اجل المختارين ليخلصوا. ويكشف لطيموتاوس ان مصدر هذه القوة وهذا الصبر هو الاتحاد العضوي بالمسيح: " صادقة الكلمة: ان متنا معه نحيا معه، وان صبرنا نملك معه". ويدعوه الى عدم اليأس من ضعفه: " ان كنا غير امناء له فهو يبقى اميناً، لانه لا يقدر ان ينكر نفسه".

        ان الدعوة والرسالة المسيحية هما تأصل في المسيح وانطلاق منه. يعبّر بولس عن هذا التأصل بكلمات مثل: نعيش مع المسيح، نتألم معه ونموت معه، ندفن معه ونقوم معه" (روم6/4 و6 و8 و17)، " نتشّبه بالمسيح في موته ونتمجد معه في قيامته، نجلس معه ونملك معه" (فيل3/10،1كور4/8؛ روم8/17).

 

        2. اختبار القيامة في سرّ القربان مع تلميذي عماوس: لوقا 24/13-35

 

        لم يعرف تلميذا عماوس حقيقة آلام المسيح وموته وقيامته بكل ابعادها الخلاصية، إلا لما عرفاه عند كسر الخبز، الذي هو قداسه الاول.

        فالقداس هو تذكار موت المسيح وقيامته، وتؤينه اي تحقيقه فعلاً الآن وهنا، اسرارياً لا دموياً. والقداس هو وليمة روحية نتناول فيها الخبز الحي، جسده الحي والمحي بالروح القدس، الذي يعطي الحياة للبشر. هذا ما أنعش قلبي تلميذي عماوس، وشددهما، واعاد اليهما الرجاء والقوة، فعادا للتوّ الى اورشليم، حيث جماعة الرسل، لنقل خبر القيامة واختبارها واكتشاف حقيقة وجود الرب في سرّ القربان.

        سرّ القربان، الافخارستيا، القداس هو سرّ " حضور" المسيح القائم من الموت (لو24/35). انه حضور يعطي فيه يسوع ذاته ويخلص، يدعو ويرسل للشهادة واعلان خبر القيامة والحياة الجديدة. اننا امام اختبار ذي ثلاثة ابعاد: الاول هو الرجاء الثابت بالمستقبل النابع من عدالة الله والذي يدعو الى تحويل شامل في الانسان والتاريخ؛ الثاني هو الوجدان التاريخي الداعي الى فهم التاريخ كوعد بحقل منفتح امام الرسالة؛ الثالث هو ممارسة حياة جديدة تقوم على خدمة، ذات اتجاهين: الكرازة بالمسيح القائم من الموت، وتحقيق مضمون القيامة الذي هو وعد لعالم بخلق جديد هو عالم العدالة والسلام والتضامن البشري[1].

        ولان المسيح حاضر في سرّ القداس، تُمنح الدرجات المقدسة الكهنوتية قبل المناولة، لان من المسيح الحاضر ينال المرتسم دعوته ورسالته. وفي كل يوم، عندما يقيم قداسه، يقبل من جديد الدعوة والرسالة، ويجدد امانته لهما. وهكذا ايضاً كل مسيحي وكل متزوج وكل مكرّس يقبل دعوته ورسالته من مشاركته في سرّ القداس، ويجدد التزامه بهما.

 

***

ثانياً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

        نعرض اليوم من قسمها الاول المتعلّق بالمبادىء، الفصل الاول وهو بعنوان: السياسة فنّ شريف لخدمة الانسان والخير العام. فنتطرّق الى اساسها اللاهوتي الذي يجعلها فناً شريفاً.

1. ينطلق النص من الاساس اللاهوتي للعمل السياسي الذي هو الشرع الطبيعي والكتب المقدسة، فنقرأ:

تحتاج كل جماعة بشرية الى سلطة تنظم شؤونها وتؤمن خيرها العام وتمارس العمل السياسي.  تجد السلطة اساسها في صميم الطبيعة البشرية، وتخضع في الممارسة لنظام اخلاقي طبعه الله الخالق في قلب الانسان، اذ كونّه على صورته ومثاله. هذا النظام هو بمثابة النور للعقل البشري، في ضوئه يعرف الانسان ما يجب ان يفعل من خير، وما يجب ان يتجنّب من شر[2].

 وضع الله للعالم نظاماً ليعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الارض، وينعموا بالخير والعدل. فكانت السلطة السياسية التي تطورت عبر مراحل انشائها وتكوينها وصلاحياتها. انها مدعوة دائماً لاستلهام مشيئة الله وتصميمه الخلاصي، فيكون على صاحب السلطة ان "يقضي بالبّر للشعب، وبالانصاف للضعفاء" (مز72/2). وانذر الله  الملوك بلسان الانبياء، بسبب تقصيرهم وظلمهم للشعب: "ويل للذين يشترعون فرائض للاثم والظلم، ليسلبوا حق ضعفاء شعبي" (اشعيا10/1-2).

كشف المسيح الرب في نهجه وتعليمه ان السلطة خدمة وبذل للذات في سبيل الجميع، وانها تفقد جوهرها اذا اصبحت تسلطاً (انظر مر10/45)، وشجب ضمناً محاولة تأليه السلطة الزمنية او اعطائها صفة المطلق وجعلها اصولية او ديكتاتورية، عندما قال: " اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" (مر10/13-15)، ويعني بذلك ان ممارستها تخضع لشريعة الله الاخلاقية. واكّد بولس الرسول ان " لا سلطان إلاّ من الله. وانه في خدمته ليحثّ على فعل الخير. ودعا للصلاة من اجل الحكام، كاشفاً ان المطلوب من السلطة السياسية توفير " حياة مطمئنة وهادئة لنقضيها بكل تقوى وكرامة" (1 طيم 2/1-2). وأضاف بطرس الرسول على هذا التعليم واجب " اعتراض الضمير". فعندما تتجاوز السلطة السياسية حدودها لتتناول شؤوناً مخالفة للايمان، تكون " الطاعة لله اولى من الطاعة للبشر" (اعمال 5/29). واوضح كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ان  "السلطة لا تأخذ شرعيتها الادبية من ذاتها. وليس لها ان تتصرف تصرفاً ظالماً، بل عليها ان تسعى في سبيل الخير العام. ولا تُمارس ممارسة شرعية إلا اذا سعت وراء خير الجماعة، واستعملت لتحقيقه الوسائل الجائزة ادبياً. واذا حدث ان سنّ المسؤولون قوانين ظالمة اواتخذوا تدابير تنافي النظام الاخلاقي، فلا تُلزم ضميرياً بسبب الاستبداد (فقرة 1903).

 

2.    من بعد هذا الاساس اللاهوتي، يشرح النص كيف ان " السياسة فنٌ شريف".

انها فنٌ شريف  يلتزم شريف يلتزم النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والاداري والثقافي، المتعدد الشكل، من اجل تعزيز الخير العام، الذي هو " مجمل اوضاع الحياة الاجتماعية التي تمكّن الاشخاص والجماعات من تحقيق ذواتهم تحقيقاً افضل"[3]. انها "فن شريف" لارتباطها بالشخص البشري وكرامته وحقوقه الاساسية المرتكزة على الشريعة الطبيعية المكتوبة في قلب الانسان والحاضرة في مختلف الثقافات والحضارات. فالشخص البشري هو في قمة تصميم الله الخالق بشأن العالم والتاريخ[4]. وهي "فن شريف" لأن اصحاب السلطة السياسية "خدام الله للشعب وللخير" (روم13/4)، فتفرض عليهم ان يمارسوا سلطتهم ضمن حدود النظام الاخلاقي الذي رتّبه الله، وان يعملوا بروح المسؤولية  على توجيه قدرات المواطنين وطاقات الدولة نحو الخير العام الذي منه خير الجميع، وعلى تعزيز عناصره ومن اهمها:

أ- احترام الشخص البشري بحدّ ذاته في دعوته وحقوقه الاساسية، وفي حرياته الطبيعية، وحمايتها والدفاع عنها.

ب- انماء الشخص البشري بكل ابعاده الروحية والانسانية والثقافية والاقتصادية، وتوفير ما يحتاج اليه لحياة كريمة، اي: الغذاء والكسوة والصحة والعمل والتربية والثقافة، والاستعلام المناسب، والحق في تأسيس عائلة، وسواها.

ج- توفير السلام والعدالة والاستقرار الامني  بواسطة مؤسسات الدولة النظامية والامنية[5].

 

***

 

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تتقبّل الخطة مقدمة النص المجمعي الخامس عشر: الكنيسة المارونية وعالم اليوم.

1. بما ان الكنيسة هي سرّ المسيح المتجسد، فانها ذات واقع مزدوج الهي وانساني، يجعلها حاضرة في نطاق الزمان والمكان، بابعادهما التاريخية والجغرافية والاجتماعية والثقافية التي يتمّ فيها التعبير عن حضور الكنيسة. انها بهذا تشكّل علامة لمحبة الآب الخلاصية للبشر بنعمة المسيح الفادي وقوة الروح القدس المحيي. فليتذكّر المسيحيون قول الرب لهم من خلال رسله وقد ملأهم من روحه القدوس: " تكونون لي شهوداً الى اقاصي الارض". وليجيبوا معهم بمسؤولية والتزام: " ونحن شهود على ذلك".

 

2. شهادة الحياة المسيحية هي شهادة للمسيح بالاقتداء به وبمتابعة رسالته، وهو الشاهد الاول والمثالي. بفضل هذه الشهادة يندمج المسيحون في صميم حياة شعوبهم، ويصبحون " آيات انجيلية" تعبّر عن امانتهم لوطنهم وشعبهم وثقافتهم الوطنية من جهة افقية، وتنفتح بهم عمودياً الى الايمان بالله والعيش بحرية المسيح التي تحرر، على ما يقول الرب في انجيل يوحنا: " انتم في العالم لكنكم لستم من هذا العالم" ( يو17/16-19).

في ضوء كل ذلك، " لا يكون حضور الجماعة المسيحية في العالم من اجل ذاتها، بل من اجل ان تبقى شاهدة وصاحبة رسالة، هي رسالة مؤسسها ومعلمها بالذات".

 

***

صلاة 

نمجدك ايها الرب يسوع ونشكرك، لانك بقيامتك وبسرّ القربان دعوتنا وارسلتنا لنكون شهوداَ لك في مجتماعاتنا. انصرنا على اليأس والقنوط بوجه ما يزعزع ايماننا وانتظاراتنا، فانت رفيق دربنا الهادي. أطلقنا شهوداً ذوي ايمان وشجاعة في عالمنا، وسط تحوّلاته وتحدياته. وفيما نندمج في عمق هذا العالم، حررنا من الانغماس في عبودياته. فنرفع كل حين نشيد الشكر والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن والى ابد الآبدين آمين.


[1] .Angelo Amato: Gesù il Signore, p. 553.

[2]  . انظر كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1898 و1955.

 [3]  العلمانيون المؤمنون بالمسيح،42؛ الكنيسة في عالم اليوم،26 و74.

[4]  خطاب البابا  بندكتوس السادس عشر امام الجمعية العامة لمنظمة الامم المتحدة- نيويورك في 18 نيسان 2008.

[5]  الكنيسة في عالم اليوم،74

 


 

الاحد الرابع من زمن القيامة

عبرانيين 13/18-25

يوحنا 21/1-14

القيامة حدث من اجلنا لخلق جديد

 

        قيامة الرب يسوع من الموت حدث له معناه اللاهوتي بالنسبة الى الحدث بالذات وبالنسبة الينا. يقول القديس بولس في رسالة هذا الاحد ان " الآب أصعد ربنا يسوع من الموت"، فجعله " راعي الخراف العظيم بدم عهد ابدي". وينتقل الرسول الى الدعوة لمسلك جديد، ما يعني ان قيامة المسيح من الموت احدثت تجدداً في العالم وخلقاً جديداً. اما ظهور يسوع القائم للتلاميذ على بحيرة طبريه وآية الصيد العجيب فدليل ملموس لمعاني حدث القيامة. في هذا الاحد الاول من شهر ايار، عيد سيدة لبنان، نصلي لكي تفيض امنا مريم العذراء على هذا الوطن وعلى شعبنا ثمار القيامة بتجديد العقول والقلوب.

 

اولاً، المعتى اللاهوتي لحدث القيامة في رسالة القديس بولس الرسول والانجيل

 

  رسالة القديس بولس الرسول الى العبرانيين:13/18-25.

 

1.     القيامة حدث من اجلنا.

 

صَلُّوا مِن أَجْلِنَا، فَإِنَّنَا واثِقُونَ أَنَّ ضَمِيرَنَا صَالِح، ونَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَسْلُكَ مَسْلَكًا حَسَنًا في كُلِّ شَيء. وأَطلُبُ إِلَيكُم بإِلْحَاحٍ أَنْ تَفْعَلُوا ذـلِكَ، حَتَّى يَرُدَّنِي اللهُ إِلَيْكُم سَرِيعًا! وإِلـهُ السَّلام، الَّذي أَصْعَدَ مِنْ بَينِ الأَمْوَاتِ رَبَّنَا يَسُوع، رَاعِيَ الـخِرَافِ العَظِيمَ بِدَمِ عَهْدٍ أَبَدِيّ، هُوَ يَجْعَلُكُم كَامِلِينَ في كُلِّ صَلاح، لِتَعْمَلُوا بِمَشيئَتِهِ، وهُوَ يَعْمَلُ فينَا مَا هُوَ مَرْضِيٌّ في عَيْنَيه، بِيَسُوعَ الـمَسِيح، لهُ الـمَجْدُ إِلى أَبَدِ الآبِدِين. آمين. وأُنَاشِدُكُم، أَيُّهَا الإِخْوَة، أَنْ تحْتَمِلُوا كَلامَ التَّشْجِيع، فَإِنِّي كَتَبْتُ إِلَيْكُم بإِيْجاز! إِعْلَمُوا أَنَّ أَخَانَا طِيمُوتَاوُسَ قد أُخْلِيَ سَبِيلُهُ. فَإِنْ أَسْرَعَ في مَجِيئِهِ، سَأَذْهَبُ مَعَهُ وأَرَاكُم. سَلِّمُوا عَلى جَمِيعِ مُدَبِّرِيكُم وجَمِيعِ القِدِّيسِين. يُسَلِّمُ عَلَيكُم الإِخْوَةُ الَّذِينَ في إِيطالِيا. أَلنِّعْمَةُ مَعَكُم أَجْمَعِين!

 

ينطلق القديس بولس من حدث قيامة الرب يسوع ليدعو الى المسلك الجديد. لحدث القيامة قيمة ومعنى " بحدّ ذاته"، وهو ان الآب أصعد يسوع من بين الاموات ليختم بالحق عمله الخلاصي: التجسد، والكرازة بانجيل ملكوت الله، والفداء بموته على الصليب حاملاً خطايا الجنس البشري كله. لقد انجز الله بالقيامة تجدداً في العالم بل خلقاً جديداً، بدءاً بيسوع الذي صيّره " راعي الخراف العظيم بدم عهد أبدي". هكذا يتولى المسيح القائم خدمة الراعي الى الابدي، فيعتني من سمائه بكل انسان، عناية الراعي بالخراف، ويتمم هذا الاعتناء بواسطة الكنيسة المؤتمنة على انجيله، تعلنه هداية للنفوس، وعلى اسراره، تغذي بنعمتها الايمان والرجاء والمحبة في المؤمنين، وعلى شريعة الروح القدس، تملاء بها القلوب حباً وتضامناً وسلاماً.

من هذا المنطلق، ينتقل بولس الرسول من قيامة المسيح كحدث " بحدّ ذاته" الى حدث " من اجلنا" . فالتجدد الحاصل مع حدث القيامة يطال كل ما هو موجود، الانسان والخلق، ويقيم عهداً جديداً، ويبدأ خلقاً جديداً. وهكذا تتمّ، مع هذا الحدث " من اجلنا"، حركة انحدارية " نحو الاسفل" ينعطف بها الله نحو البشر ليجددهم ويبررهم، ويتمم فيهم ثمار الفداء بالروح القدس[1]. التجسّد والصليب والقيامة تواصلٌ لحركة الله الانحدارية نحو الانسان، ليرفعه اليه، بحركة تصاعدية.

لان قيامة المسيح حدث " من اجلنا" للتجدد، يدعو بولس في رسالته الى "ان نسلك مسلكاً حسناً  في كل شيءً، "ويطلب ان نفعل ذلك بالحاح". ويؤكد ان من يجري فينا هذا التجدد هو المسيح "راعي الخراف العظيم" الذي " يجعلنا كاملين في كل صلاح، لنعمل بمشيئة الله". ويعود بولس مرة ثانية ليقول ان " الله نفسه يعمل فينا ما هو مرضي في عينيه بيسوع المسيح".

هذه هي مفاعيل القيامة: لقد ولدت الكنيسة من موت المسيح وقيامته، ولادة السنبلة من حبة الحنطة (يو12/24). فاصبحت جماعة المؤمنين جسده السرّي، المسيح رأسه، ونعمة روحه القدوس حياته. وقد شبّهها الرب " بالكرمة والاغصان" ( يوحنا 15/5).

ان الكنيسة مؤتمنة، من خلال خدمة الكهنوت، على وسائل التجدد بالمسيح وهي: الانجيل وحقائق الايمان، الاسرار الخلاصية السبعة، والسلطة الهادية بشريعة المحبة لخلاص النفوس  (مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق8).

 

2.    حضور الرب الدائم في الكنيسة- انجيل القديس يوحنا:21/1-14.

 

بما ان قيامة يسوع من الموت هي حدث " من اجلنا" ، هذا يعني انه يأتي الينا كل يوم، ليكون رفيق دربنا. انه حاضر ابداً في الكنيسة، كرأس لجسده، ليهديها ويوجهها ويجري الآيات فيها، بواسطة رعاتها البشر الذين اقامهم عليها. انجيل اليوم خير دليل على ذلك، لانه حدث يتكرر كل يوم. بالقيامة، " هذا الحدث من اجلنا"، يأتي المسيح الينا والى الكنيسة كل يوم، ينحني علينا، ينعطف الى حاجاتنا. انه " في حركة انحدارية" نحو كل انسان.

هو معنا في كل صباح. يشهد نشاطنا وعملنا، مثلما كان عند الصباح واقفاً على شاطىء البحر، فيما التلاميذ في غمرة صيد السمك (يو21/4). يسألنا عن ثمار تعبنا وواجبنا، كما سألهم (21/5). وعند الفشل وعدم النجاح يوجهنا مثلما وجههم (21/6). ولا شك في ان العمل ينجح، اذا حقاً رجعنا الى المسيح والى توجيه كنيسته، كما حصل الصيد العجيب (21/6 و11). انه يوعونا مثلهم لتقاسم خيرات الارض التي هي من الله (21/10و12).

هكذا انتقل التلاميذ من المعرفة الايمانية ليسوع الى اختبار حضوره.

آية الصيد العجيب علامة لكل واحد منا، وللكنيسة بنوع خاص التي ائتمنها على صيد البشر للخلاص، من خلال شخص بطرس (لو5/10)، برمي شباك الانجيل. هي الكنيسة، زرع ملكوت الله وبدايته على الارض، تتسع لجميع الشعوب والامم، المرموز اليها بعدد 153 سمكة كبيرة، كما قرأها القديس ايرونيموس. واشار يوحنا الى ان " الشبكة، بهذا الثقل كله، لم تتمزق"، للدلالة على اتساع ملكوت الله لجميع الناس على اختلاف عرقهم ولونهم، ثقافتهم ودينهم. بعد هذا الاختبار لحضور الرب في الكنيسة، سلّم يسوع بطرس سلطان رعاية الكنيسة بمحبته، ومن خلاله جميع رعاتها (يو21/15).

هذه كلها من الجديد في العالم الذي احدثته قيامة الرب يسوع من الموت.

 

***

ثانياً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

في اطار مبادىء العمل السياسي التي تنقلها " الشرعة"، نتوقف عند العمل السياسي كفن شريف لخدمة الانسان وحماية المواطنين.

        1. يتناول العمل السياسي خدمة الانسان، بموجب تصميم الله الذي اراد ان يؤلف من الرجال والنساء عائلة بشرية واحدة، يتعاملون فيها بروح الاخوّة فيما بينهم، وبروح البنوّة للخالق الواحد. ما يجعل كل الاشخاص بحاجة الواحد الى الآخر، وهم في حالة ترابط. من شأن السلطة السياسية تعزيز هذا الترابط والتكامل بين المواطنين، وتسهيل سعيهم الى انشاء جمعيات ومنظمات عامة وخاصة،[2] ووضع نظامٍ اجتماعي يضمن خير كل شخص ويتأسس على الحقيقة، ويُحمى بالعدالة، وينتعش بالمحبة، وينمو بالحرية السائرة نحو مزيد من الاتزان البشري.[3]

        فالحقيقة ترفض الكذب والاحتيال والمراوغة. والعدالة تقتضي تأمين الحقوق واداء الواجبات بين الدولة والمواطنين وبين هؤلاء انفسهم. والمحبة تحرّك بحرارتها المسؤولين لكي يتحسسوا حاجات الناس كأنها حاجاتهم ويعملوا على توفيرها لهم. والحرية تحفظ كرامة المواطنين في ما يمارسون من اعمال خاصة وعامة.

        2. ويتناول العمل السياسي ايضاً حماية المواطنين من انتهاكات حقوقهم الانسانية ومن نتائج الازمات التي تتسبب بها الطبيعة او الانسان، وحماية الحياة البشرية، بالاعتناء بقضية المسنّ والمهمل، والعامل المظلوم، واللاجىء المتروك، وبصونها من جرائم الاعتداء عليها بالقتل أو الابادة أو الاجهاض أو الموت الرحيم أو الانتحار، وحماية سلامة الشخص البشري من التعدي عليه بالبتر أو التعذيب الجسدي والنفسي، ومن التعدي على كرامته سواء بظروف عيش غير انسانية واعتقال تعسفي ونفي ورقّ، ام بظروف العمل المشينة حيث الناس يعاملون كمجرد ادوات للربح لا كاشخاص احرار ومسؤولين[4].

    ان مبدأ " مسؤولية الحماية" كان معتبراً منذ العهود القديمة، المعروفة " بشرع الشعوب" (ius gentium) اساساً لكل عمل يقوم به الحكّام تجاه من يتولون شؤونهم، ومظهراً من حق الشعوب الطبيعي. وتعتبره الكنيسة مرتبطاً بفكرة الشخص المخلوق على صورة الخالق[5] .

 

*** 

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

تتناول هذه الخطة من النص المجمعي الخامس عشر " الكنيسة المارونية وعالم اليوم"، فصله الاول: العالم الذي تنتمي اليه الكنيسة المارونية والتحولات التي طرأت عليه. فنستخلص التحولات الطارئة وموقف الكنيسة (الفقرتان 10 و11).

أ‌-     التحوّلات تطاول مختلف الاصعدة.

1) على الصعيد اللبناني، تحوّلت العلاقة بالارض، بسبب تحوّل المقومات الاقتصادية من زراعية حرفية الى اقتصاد مبني على الخدمات والمواصلات والبورصة والتكنولوجيا الحديثة.

        2) على صعيد لبنان والشرق، تغيّرت معالم البيئة الاجتماعية والنظام السياسي، ما خلّف شعوراً بالهجرة النفسية والغربة في الوطن لدى الاجيال الطالعة ( رجاء جديد للبنان،96). اضف اليها الهجرة الى الخارج، حيث اصبح عدد ابناء الكنيسة المارونية في الانتشار يفوق عدد المقيمين في لبنان والنطاق البطريركي.

        3) على صعيد العالم العربي، طرأت عليه تحوّلات جيوسياسية وجيو ديموقراطية اثّرت سلباً في مصير المسيحيين عامة والموارنة خاصة، بسبب الخيارات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبسبب الصراعات والنزاعات والحروب. ما ولّد افتقاراً وتخلّفاً وفقدان الثقة ومزيداً من القلق والهجرة.

        4) على الصعيد العالمي، كان عصر العولمة الذي حوّل العالم بفضل وسائل الاتصال الدائمة التطور الى " قرية كبيرة" مفتوحة الآفاق والحدود، وتؤثر جزئياتها في مجمل الجسم البشري تأثيراً متبادلاً، واصبح عالم اليوم وحدة متواصلة. الكل يتطلع الى انشاء نظام عالمي جديد، مبني على صيانة حقوق الانسان والشعوب والديموقراطية والحريات العامة. ولكن ظهر من ناحية اخرى وعي الشعوب لفرادتهم واصالتهم، فكان التجاذب بين انفتاح العولمة وانغلاق الفرادة الاتنية، ما يهدد الانظمة السياسية الديموقراطية التي تحمي التعددية والمشاركة. هذا فضلاً عن ظاهرة الارهاب العالمية.

        ب- اما موقف الكنيسة فانها، اذ ترى نفسها معنية بمسيرة التاريخ، لا تأخذ موقف الحياد، بل تعمل على تعزيز السلام والتضامن الاجتماعي ووحدة الاسرة البشرية. واعزّ ما تنادي به وتعمل من اجله هو ان تتعايش معاً الثقافات والاثنيات والديانات على اختلافها، بالاستناد الى مبدأ التمايز والتكامل. كما انها تولي اهتماماً خاصاً موضوع البيئة الذي يفرض نفسه بقوة على ضمير الانسانية جمعاء، بسبب التعديات المتواصلة على الطبيعة وقضية التلوث والاشعاعات الكيميائية التي طالت الفضاء، واثّرت في التقلبات المناخية وارتفاع مستوى البحور.

***

صلاة 

نعترف بك، ايها الرب يسوع، ونؤمن انك حاضر معنا، لنكون نحن حاضرين مع بعضنا لبعض، ولتكون الكنيسة حاضرة كالخميرة في العجين، وسط مجتمعات العالم وثقافاته. اننا نلجأ اليك في كل صباح لتوجّه خطانا، بكلمة الانجيل ونعمة الاسرار وهداية الكنيسة، نحو كل حق وخير وجمال، ونعمل في سبيلها تحت انوار روحك القدوس، ونلتزم بتقاسم ثمار تعبنا وجنى ايدينا، وهي من خيرات السماء، مع اخوتنا في مختلف حاجاتهم المادية والروحية، المعنوية والثقافية. ونرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . Angelo Amato: Gesú Il Signore, p.547.

[2]  الكنيسة في عالم اليوم،25.

[3]  السلام على الارض،35.

[4]  انظر الكنيسة في عالم اليوم،74.

[5]  خطاب البابا بندكتوس السادس عشر امام الجمعية العامة للامم المتحدة في 18 نيسان 2008.

 


 

الاحد الخامس من زمن  القيامة

افسس 2/1-10

يوحنا21/15-19

قيامة المسيح قفزة نوعية في العالم والكنيسة

 

        قيامة الرب يسوع من الموت تشكّل " قفزة نوعية في تاريخ التطور والحياة عامة، باتجاه حياة مستقبلية جديدة وعالم جديد، يُدخله المسيح في عالمنا بشكل متواصل، ويحوّله ويجتذبه اليه" [1]. هذا الحدث- القفزة يطال كل واحد منا، بواسطة المعمودية ويجعل منه خلقاً جديداً، ذا مسلك جديد. هذا ما يتكلم عنه بولس الرسول في رسالته الى اهل افسس. ويطال هذا الحدث السلطة في الكنيسة فيجعلها اداة تحمل محبة المسيح للنفوس التي اقتناها بدمه، كما يتبين من انجيل هذا الاحد.

 

اولاً، قيامة المسيح قفزة نوعية في رسالة القديس بولس وانجيل هذا الاحد

 

        1. رسالة القديس بولس الى اهل افسس:2/1-10- بالنعمة مخلصون

 

وأَنْتُم، فقَدْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِزَلاَّتِكُم وخَطَايَاكُم، الَّتي سَلَكْتُم فيهَا مِنْ قَبْلُ بِحَسَبِ إِلـهِ هـذَا العَالَم، بِحَسَبِ رَئِيسِ سُلْطَانِ الـجَوّ، أَي الرُّوحِ الَّذي يَعْمَلُ الآنَ في أَبْنَاءِ العُصْيَان؛ ومِنْهُم نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعُنَا قَدْ سَلَكْنَا مِنْ قَبْلُ في شَهَواتِ إِنْسَانِنَا الـجَسَدِيّ، عَامِلِينَ بِرَغَبَاتِهِ وأَفكَارِهِ، وكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَولادَ الغَضَبِ كَالبَاقِين؛ لـكِنَّ الله، وهُوَ الغنِيُّ بِرَحْمَتِهِ، فَلِكَثْرَةِ مَحَبَّتِهِ الَّتي أَحَبَّنَا بِهَا، وقَدْ كُنَّا نَحْنُ أَيْضًا أَمْوَاتًا بِزَلاَّتِنَا، أَحْيَانَا معَ الـمَسِيح، وبِالنِّعْمَةِ أَنْتُم مُخَلَّصُون؛ ومَعَهُ أَقَامَنَا وَأَجْلَسَنَا في السَّمَاوَاتِ في الـمَسِيحِ يَسُوع، لِيُظْهِرَ في الأَجْيَالِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الفَائِقَة، بِلُطْفِهِ لَنَا في الـمَسِيحِ يَسُوع. فَبِالنِّعمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ بِواسِطَةِ الإِيْمَان: وهـذَا لَيْسَ مِنْكُم، إِنَّهُ عَطِيَّةُ الله. ولا هُوَ مِنَ الأَعْمَال، لِئَلاَّ يَفْتَخِرَ أَحَد؛ لأَنَّنَا نَحْنُ صُنْعُهُ، قَدْ خُلِقْنَا في الـمَسِيحِ يَسُوعَ لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَة، الَّتي سَبَقَ اللهُ فأَعَدَّهَا لِكَي نَسْلُكَ فيهَا.

        يتحدث بولس الرسول عن القفزة النوعية التي احدثتها في الانسان قيامة الرب يسوع من الموت، وهي تتحقق بواسطة المعمودية. انها القيامة بنعمة المسيح من موت الزلات والخطايا الى حالة البرارة، والكل من فيض رحمة الله ومحبته المجّانية:

        " الله الغني بالرحمة وكثير المحبة، أحيانا مع المسيح بالنعمة نحن الذين كنا امواتاً بزلاتنا.

        فأقامنا معه وأجلسنا في السماوات في المسيح يسوع" (افسس2/4-6).

        المعمودية، المتفجرة من موت المسيح وقيامته والمرموز اليها بالماء الذي سال من جنبه المطعون بالحربة، هي اكثر من غسل للنفس وتجميل لها؛ انها موت وقيامة، ولادة جديدة، تحويل الى حياة جديدة. وقد اختبر بولس الرسول كل هذا في ما قال عن نفسه: " انا أحيا. لا انا، بل المسيح يحيا فيًّ" ( غلا2/20). هذا " الانا الذي يحيا"، وهو هويتي الشخصية قد تحوّل. هذا " الانا" يوجد ايضاً، ولا يوجدا ابداً. " الانا" الخاص بي انتُزع مني، واتّحد عضوياً بآخر اكبر منه، هو المسيح، في جسده السرّي المعروف بالكنيسة. وهكذا " الانا" الخاص بي  يوجد من جديد، ولكن متحوّلاً، متجدداً، منفتحاً على الاتحاد في الآخر، الذي يستمد منه مساحة وجود جديدة [2] .

        عملية هذا التحوّل اختصرها بولس في رسالة هذا الاحد: " نحن بنعمة المسيح خُلّصنا بالايمان. وهذه لم تكن منكم، بل كانت هبة من الله، ولم تكم من الاعمال لئلا يفتخر أحد" (افسس2/8-9).

        اما نتيجة التحوّل فيختصرها هكذا: " نحن خليقته بيسوع المسيح للاعمال الصالحة" ( 2/10). وهي خليقة يصفها كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكمية بانها مزيّنة بثلاث:

-       الفضائل الالهية: الايمان والرجاء والمحبة التي تؤهل المعمّد ليؤمن بالمسيح، ويضع رجاءه فيه، ويحبه.

-       مواهب الروح القدس التي تمكّنه من العيش والعمل بهدي الروح.

-       الفضائل الخلقية التي تساعده على النمو في الصلاح ( فقرة1266).

 

2. انجيل القديس يوحنا: 21/15-19- المحبة الراعوية

 

القفزة النوعية التي احدثتها قيامة الرب يسوع تطال السلطة في الكنيسة والعائلة والمجتمع، كما ظهر ذلك في اطار ظهور الرب يسوع للتلاميذ على بحيرة طبرية. فللسلطة اساس وروح، هما محبة المسيح: أتحبني؟- أرع خرافي!" (يو21/15).

اساس السلطة محبة الله. من كان في قلبه هذا الحب ، كان جديراً بتحمل المسؤولية عمّن هم ابناء الله . كل انسان ، من أي عرق وثقافة ولون ودين كان، هو ابن لله . فالله خلقه ويحفظه في الوجود ، وافتداه بدم المسيح ، ويدعوه للمشاركة في حياته الالهية . السلطة ، أكانت ساسية ام روحية ، هي في خدمة الله لدى الناس ، لتحقيق امنياته فيهم . السلطة وكالة من الله : " من تراه الوكيل الامين الحكيم الذي اقامه سيده على بني بيته ليعطيهم الطعام في حينه " (لو12/42). السلطة الروحية موكلة على الخيرات السماوية ، والسلطة السياسية على المادية .

        عندما نفخ السيد المسيح الروح القدس في التلاميذ ، ملاءهم من روح المحبة.فكشف ان جوهر سلطته هو الخدمة، المعروفة بالمحبة الراعوية نسبةً الى الراعي الصالح : " ما اتى ابن الانسان ليُخدم بل ليَخدم ، ويبذل نفسه فدى عن كثيرين  (متى20/28). هذا ما فعله وهو يجول في القرى والمدن ، معلناً كلام الحياة على الناس السالكين في الظلمة ، وفاعلاً الخير لكل انسان (متى9/35). ولكي يواصل محبته الراعوية من خلال الذين أوكل اليهم رعاية الناس ، في الاسرة او الكنيسة ، في الدولة او الادارة ، اسّس الافخارستيا ، حيث يستمر ذبيحة فداء وبذل ذات بعطاء حب ، يقدمهما هو نفسه ويشرك فيهما الانسان وبخاصة كل مسؤول في السلطة. في اطار هذه الحضارة الانجيلية ، على من يمارس السلطة ان يتوخّى الخدمة قبل السلطة ، كما يقول القديس اغسطينوس، مفسراً كلام الرب يسوع: "من اراد ان يكون الاول والاكبر ، فليكن خادم الجميع " (متى20/26). ويسوع قرن القول بالعمل عندما غسل أرجل التلاميذ ليلة آلامه ، ووضع ذاته قدوة كرأس وراعِ: "انتم تدعوني معلماً ورباً ، وحسناً تقولون، لاني كذلك . فإن كنت انا ، ربكم ومعلمكم ، قد غسلت لكم ارجلكم ، فأني اعطيكم بهذا مثالاً . فكما صنعت لكم ، تصنعون انتم ايضاً (يو13/13-15).

        محبة الله هي روح السلطة، من يمارسها بحب يغفر ويصالح، ويثبّت الاخوة في الايمان، ويواكبهم في همومهم اليومية ويعضدهم من اجل نجاح عملهم. الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان " يدعو المسؤولين السياسيين ممارسة السلطة العامة في اربعة اتجاهات:

        - اعتبار ان "العمل في الحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو اولاً خدمة مسؤولة عن الاخوة ، كل الاخوة ، ويقتضي من المسؤولين ان يّخضعوا مصالحهم الخاصة او الفئوية لصالح الوطن ، فتأتي اعمالهم لمصلحة الخير العام . وهذا يفترض تجاوز السلوك الاناني باستمرار للعيش في تجرد قد يذهب الى حدّ انكار الذات ، بغية قيادة الشعب بكامله الى السعادة بحسن ادارة الشأن العام" (فقرة 94).

-  الالتزام بالغفران والمصالحة ، وتربية الضمائر على السلام والوفاق ، واتخاذ مبادرات سلام نبوية (97- 98).

        - ارساء العدالة في المجتمع وحماية الحريات العامة وحقوق الانسان (112).

        -  الاعتناء عناية خاصة بالشبيبة ، وتأمين العمل للجميع واخراجهم من حالة اللامبالاة والهجرة النفسية (96).

***

ثانياً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

يعد عرض الفصل الاول من قسم المبادىء، وكان بعنوان: " السياسة فنٌ شريف لخدمة الانسان والخير العام"، ننتقل الى الفصل الثالث وعنوانه: " مشاركة المسيحي في الحياة السياسية"، بحيث نقرأ المميزات المسيحية في العمل السياسي كفنٍ شريف.

1.     من حيث المبدأ العام، تؤكد " الشرغة" ان  المشاركة في الحياة السياسية حق لكل انسان:

هذا الحق مرتبط بكرامة الشخص البشري. فالانسان أبعد من ان يكون مجرد اداة في الحياة الاجتماعية او عنصراً هامداً فيها وغير مسؤول، بل يجب ان يكون مفعّلها واساسها وغايتها. لا يحق لاصحاب السلطة السياسية اختزال المواطنين في آرائهم وتطلعاتهم وطموحاتهم ومشاركتهم المسؤولة. بل عليهم ان يتيحوا لهم العمل بحافز من قرارهم الذاتي الحرّ، وامكانية ممارسة حقوقهم واداء واجباتهم وخدمة الآخرين في المجتمع من خلال المشاركة الخيّرة  والفعاّلة والكفوءة في نشاطات الحياة العامة التي تشمل قطاعات الاقتصاد والاجتماع والتشريع والادارة والثقافة، بروح الاقدام والحسّ بالمسؤولية، لا تحت وطأة الاكراه او الاغراء. ان مجتمعاً بشرياً قائماً على منطق القوة والفرض والتسلّط ليس انسانياً بشيء، لان الناس يكونون فيه مقلّصي الحرية.[3]

2. بالنسبة الى المسيحيين، تكشف " الشرعة" ان المشاركة في العمل السياسي واجب على المسيحيين:

 انها واجبة على المسيحيين بحكم معموديتهم التي بها يشاركون في وظيفة المسيح المثلثة: الكهنوتية والنبوية والملوكية. في الوظيفة الكهنوتية يجعلون من عملهم تسبيحاً للخالق باكمال عمل الخلق؛ في الوظيفة  النبوية يجسّدون جدّة الانجيل وفعاليته في حياتهم اليومية والعائلية والاجتماعية، ويسهمون في التحولات التي تبلغ الى حياة مشتركة أفضل؛ في الوظيفة الملوكية يتغلبون على الخطيئة ، ويسلكون في المحبة والعدالة، في الاخوّة والتضامن، ويعملون على انماء الانسان والمجتمع.[4] وهي واجبة من اجل بثّ روح الانجيل في النظام الزمني: في التشريع والادارة والقضاء والاقتصاد والاجتماع والثقافة. لا يجوز لهم، مهما كانت الصعوبات والاتهامات الموجهة الى اعضاء الحكومة والمجلس النيابي والطبقة المسيطرة، التشكك والغياب عن مسرح الدولة ، والتخلي عن هذه المشاركة.[5] فالكنيسة تحوط بالتقدير كل الذين يكرّسون حياتهم لخدمة الخير العام ويحملون اعباءه.[6] وتقتضي منهم المشاركة بان يعملوا بروح المسؤولية المشتركة، على توحيد الآراء المتنوعة، وانماء حب الوطن في النفس من دون تعصب أوتزمّت، والانكباب على فنّ السياسة بروح التجرّد من المصالح الذاتية والمكاسب المادية، ومقاومة الظلم والاستبداد والحكم التعسفي والتشدد المفرط من قبل افراد او احزاب، وبذل كل جهد في سبيل الخير العام بصدق واستقامة ومحبة وشجاعة .

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوي لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تتناول الخطة الراعوية من النص الخامس عشر: الكنيسة المارونية وعالم اليوم، الفصل الثاني وهو بعنوان: " التحدّيات المطروحة". فنستعرض اليوم التحديات المطروحة في العالم ومخاطرها المهدِّدة على وجه العموم (الفقرتان 12 و13).

1.     تتوزع التحديات على أربعة قطاعات:

أ- التحولات الجيوسياسية وتكنولوجية علم الحياة: تثير تساؤلات عميقة بشأن مصير الانسان، المخلوق على صورة الله، والذي تحوّله الى سلعة او اداة استثمار او " موارد " بشرية.

ب- التطور التكنولوجي المعلوماتي: يتسبب، بمقابل وجوهه الايجابية، بانهيار القيم العائلية والخلقية والمسيحية. فكيف الافادة منه واستثمار نتاجه العلمي من دون افراغ الشخص البشري من القيم الحضارية والدينية؟

ج- التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والاعلامية: تخلّف تحديات للايمان بسبب ما نشهد من تطرف عقائدي على المستوى الديني والقومي والامني.

د- العولمة: تضرب الميزات الثقافية الخاصة بالشعوب، وتتسبب بتفشّي الروح المركنتيلية والاستهلاكية، المادية والوصولية، على حساب الكرامة والمبادىء العامة. ولا يخقى كم لوسائل الاعلام من دور في هذا الشأن (الفقرة 12).

 

2.      اما المخاطر التي تتهدد المجتمعات فهي على سبيل المثال:

-   الاباحية والتفلّت المتزايد من الضوابط الدينية والخلقية، والعنف والادمان على المخدرات والكحول والقمار، ما يتسبب بتفكك الاسرة وانهيار القيم العائلية.

-       قولبة الثقافات المتنوعة والغنية في ما يُسمى " الثقافة العالمية".

-       التعصّب الديني الذي يكبّل عجلة التقدم والحداثة.

-       الانظمة الديكتاتورية والتوتاليتارية التي تطعن بالديموقراطية وحقوق الانسان (الفقرة 13).

 

3. ان الكنيسة المارونية مدعوة للعمل في سبيل تقوية مناعة الافراد بتزويدهم ثقافة الثبات في القيم الاساسية، بحيث تقوم بعملية تربوية وتثقيفية على ما تملك من تقاليد وتعاليم غنية، وتأصل تاريخي، وانفتاح حضاري (الفقرة 13).

 

***

        صلاة

        نحمدك ايها الرب يسوع، لانك بقيامتك من بين الاموات رفعتنا بقفزة نوعية الى ان يكون المؤمن بك خليقتك الجديدة الملتزمة كل صلاح وعمل في التاريخ وفقاً لارادة الله. ضع محبتك في قلب كل مسؤول ليعمل من اجل خير الانسان والمجتمع. ألهمنا بروحك القدوس الى حسن قراءة التحديات والمخاطر التي تعترض سبيلنا، وساعدنا على ايجاد السبل لمواجهتها وحماية كرامة الشخص البشري والقيم الروحية والاجتماعية. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد آمين.


[1] ؟ البابا بندكتوس السادس عشر، عظة ليلة الفصح،15 نيسان 2006.

[2] . المرجع نفسه.

[3] السلام على الارض، 34.

[4] رجاء جديد للبنان، 113.

[5]  العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 42.

[6]  الكنيسة في عالم اليوم، 75.

 


 

خميس الصعود

الاحد السابع من زمن القيامة

انجيل القديس مرقس 16/15-20

افسس 1/15-23

يوحنا13/31-35

الرسالة والوصية

 

        قيامة الرب يسوع من الموت وصعوده الى السماء حدث واحد كما نقرأ في انجيل خميس الصعود وفي رسالة القديس بولس الى اهل افسس في الاحد الذي يليه. على اساس هذا الحدث، يبدأ زمن الكنيسة ورسالتها: انها مرسلة الى العالم لتنادي بانجيل ملكوت الله في الخليقة كلها، ولتعيش وصية مؤسسها الجديدة: " ان تحبوا بعضكم بعضاَ، كما انا احببتكم"، وهي في انجيل الاحد.

        تحتفل الكنيسة، يوم الاحد، باليوم العالمي الثالث والاربعين لوسائل الاعلام. فوجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لهذه المناسبة رسالة عنوانها: " تقنيات جديدة، علاقات جديدة في سبيل تعزيز ثقافة الاحترام والحوار والصداقة".

 

اولاً، القيامة والصعود في رسالة القديس بولس والانجيل

 

1.    اقامه الله من بين الاموات واجلسه الى يمينه في السماء

رسالة القديس بولس الرسول الى اهل افسس: 1/15-23.

 

فَلِذـلِكَ أَنَا أَيْضًا، وقَدْ سَمِعْتُ بإِيْمَانِكُم بِالرَّبِّ يَسُوع، ومَحَبَّتِكُم لِجَمِيعِ الإِخْوَةِ  القِدِّيسِين، لا أَزَالُ أَشْكُرُ اللهَ مِنْ أَجْلِكُم، وأَذْكُرُكُم في صَلَواتِي، لِيُعْطِيَكُمْ إِلـهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيح، أَبُو الـمَجْد، رُوحَ الـحِكْمَةِ والوَحْيِ في مَعْرِفَتِكُم لَهُ، فَيُنِيرَ عُيُونَ قُلُوبِكُم، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، ومَا هُوَ غِنَى مَجْدِ  مِيراثِهِ في القِدِّيسِين، ومَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الفَائِقَةِ مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الـمُؤْمِنِين، بِحَسَبِ عَمَلِ عِزَّةِ قُوَّتِهِ، الَّذي عَمِلَهُ في الـمَسِيح، إِذْ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وأَجْلَسَهُ إِلى يَمِينِهِ في السَّمَاوَات، فَوقَ كُلِّ رِئَاسَةٍ وسُلْطَانٍ وقُوَّةٍ وسِيَادَة، وكُلِّ اسْمٍ مُسَمَّى، لا في هـذَا الدَّهْرِ وحَسْبُ، بَلْ في الآتي أَيْضًا؛ وأَخْضَعَ كُلَّ شَيءٍ تَحْتَ قَدَمَيْه، وجَعَلَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيء، رَأْسًا لِلكَنِيسَة، وهِيَ جَسَدُهُ ومِلْؤُهُ، هُوَ الَّذي يَمْلأُ الكُلَّ في الكُلّ.

 

تشكّل هذه الرسالة صيغة ايمانية مزدوجة بقيامة الرب يسوع من بين الاموات وصعوده الى السماء. يتبين منها ان المسيح قام وصعد الى السماء في يوم الاحد نفسه. فيكون معنى " الصعود والجلوس عن يمين الله في السماء" لا انتقالاً في الجو من مكان الى آخر، بل الدخول، بعد التاريخ، في ملء الشركة الالهية الثالوثية.

ويصف بولس في رسالته مضمون هذه الشركة التي تشكل مضمون ايماننا بالمسيح:

المسيح هو الملك المطلق في السماء والارض: " انه فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة، وكل اسم مسمّى في هذا الدهر وفي الآتي. كل شيء يخضع تحت قدميه".

 

     وهو " رأس الكنيسة التي هي جسده وملؤه، هو الذي يملأ الكل في الكل".

          بالصعود تتمجد طبيعة المسيح البشرية. في انجيل القديس مرقس (16/15-20) كان صعود الرب يسوع حالاً بعد ظهوره للاحد عشر في العلية، مساء احد قيامته وتعني دخوله النهائي مع بشريته في قدرة الله الملوكية. وكذلك جاء في رواية انجيل لوقا: فبعد ان ظهر للاحد عشر في ذلك اليوم، ذهب بهم الى بيت عنيا، وباركهم وانفصل عنهم الى السماء ( لو24/50-51). اما في انجيل يوحنا، جرى الصعود الى السماء صباح احد القيامة. فعندما ظهر الرب لمريم المجدلية، قال لها: " لا تمسكيني، لاني لم أصعد بعد الى ابي. بل اذهبي الى اخوتي وقولي لهم: اني صاعد الى ابي وابيكم، الهي والهكم" ( يو20/17). اما في كتاب اعمال الرسل، فقد حدث الصعود بعد اربعين يوماً من القيامة ( اعمال1/2-3).

         نفهم من كل ذلك ان الصعود مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقيامة، وانه الحدث الذي يشير الى تمجيد يسوع المسيح السماوي. ان الاختلاف الزمني بين الاناجيل واعمال الرسل يكشف العلاقة بين بعدي المسيح الممجد " الابدي" و" الزمني". فهو اذ قام وصعد الى السماء في احد الفصح نفسه، ظل على مدى اربعين يوماً، يظهر لتلاميذ ويعطيهم توصياته الاخيرة ( اعمال 1/2). هذا يعني ان تمجيد المسيح حدث وحيد دائم في الابدية وان ظهوره للتلاميذ في الزمن متنوّع: الظهورات، الصعود، العنصرة.

         بصعود الرب يسوع الى مجد الالوهة في السماء لا يصبح غائباً بل يبقى حاضراً في الكنيسة حتى مجيئه الثاني والاخير بالمجد، على ما وعد في انجيل متى: كما ارسلني ابي، انا ارسلكم ايضاً. امضوا وتلمذوا كل الامم، وعلّموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به. وها انا معكم جميع الايام، الى انتهاء العالم" ( متى28/18-20). وبحضوره في الكنيسة، وفيما رعاتها يبشرون بالانجيل في كل مكان، هو " يعضدهم ويثبّت كلماتهم بالايات التي كانوا يصنعونها"، كما يروي مرقس في انجيله  (مر16/20).

         بذكّرنا انجيل الاحد (يو13/31-35) ان الوصية الاساسية التي تعلّمها الكنيسة هي المحبة: "اعطيكم وصية جديدة: ان تحبوا بعضكم بعضاً، كما انا احببتكم. بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي، اذا أحب بعضكم بعضاً" (يو13/34-35). المحبة هي روح الكنيسة التي يطلقها للخدمة الروحية والثقافية والاجتماعية والانمائية، في نشاط افرادها ومؤسساتها. المحبة قلبها النابط، بدونها لا حياة.

 

2.    اليوم العالمي لوسائل الاعلام

         هذا الاحد مخصص للاحتفال باليوم العالمي لوسائل الاعلام، تصلي فيه الكنيسة من اجل الاعلاميين لكي يمارسوا رسالتهم في الوسائل الاعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية، وعبر تقنياتها المذهلة والمتطورة، حاعلين منها وسيلة للتواصل بين الناس والشعوب، ولتكوّن رأياً عاماً يوحّدهم في ما هو حق وخير للجميع، لاسيّما وان هذه الوسائل جعلت من الكرة الارضية " قرية اعلامية". والكنيسة في هذا اليوم تثّقف الاعلاميين ومستعملي الوسائل الاعلامية حول مناقبية الانتاج والاستعمال واهميتهما ودورهما.

         وفي المناسبة وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالة دعا فيها الى تعزيز الاحترام والحوار والصداقة من خلال استعمال هذه الوسائل.

         الاحترام لقيمة الشخص البشري وكرامته.

         الحوار بين الاشخاص من مختلف البلدان بالتعارف الى قيمهم وتقاليدهم.

         الصداقة التي هي اغنى ما في الثقافات وما ينعم به الكائن البشري.

         ان الخطر في الانتاج والاستعمال، انما يهدد هذه الثلاثة. فلا بدّ من تعزيزها والمحافظة عليها، لكي تعيش الاسرة الصغيرة والكبيرة بالسعادة، وتعطي لحياتها معنى.

***

ثانياً شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

من بعد ان استعرضنا خمساً من الميزات التي ينبغي ان تتصف بها ممارسة المسيحيين للسلطة السياسية، نستكملها اليوم بعرض الميزتين الباقيتين: المصالحة والغفران، وتعزيز الديموقراطية[1].

1.     المصالحة والغفران

هما نقطة الانطلاق نحو  ممستقبل جديد أفضل. فمع المصالحة تنتهي حرب المصالح الشخصية التي هي أخطر من الحرب المسلحة. وبالمصالحة تخمد الخلافات، وتزول العداوات وتتبدّل الذهنيات. انها الحلّ لكل معضلات الاشخاص والجماعات.[2] ذلك ان المصالحة تبدأ مع الذات بترميم العلاقة مع الله الذي صالحنا بالمسيح، ويدعونا الى التوبة عن الخطايا الشخصية، والى تغيير المسلك والموقف والنظرة، بقوة الروح القدس. ثم تنتقل من المستوى الشخصي الروحي لتصبح مصالحة اجتماعية بترميم العلاقة مع الآخر من خلال حلّ الخلافات والنزاعات وسوء التفاهم، ومع الفقراء وسائر المعوزين بمبادرات محبة، ومع الجميع بتعزيز العدالة الاجتماعية ورفع الظلم والفساد، وتأمين الحقوق الاساسية. وترتفع الى مستوى اهل السياسة والاحزاب لتصبح مصالحة سياسية باعادة بناء الوحدة الوطنية ودولة الحق الصالحة والعادلة[3]. وتكتمل اخيراً بالمصالحة الوطنية القائمة على التزام عقد اجتماعي ميثاقي يحصّن العيش معاً، ومشاركة الجميع العادلة والمنصفة في ادارة شؤون البلاد. المصالحة، بكل وجوهها، هي رسالة المسيحيين الذين يقولون مع بولس الرسول: " لان الله صالح العالم مع نفسه بالمسيح، وعهد الينا ان نعلن هذه المصالحة،فنحن سفراء المسيح لهذه المصالحة" ( 2كور5/19-20).

 

2. تعزيز الديموقراطية

تقوم الديموقراطية على الاسس الاخلاقية الطبيعية. اذا فُقدت هذه، وقعت الفوضى الادبية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. يحتاج العالم والاوطان الى ديموقراطية سليمة توجّه العمل السياسي والافكار والقناعات، وإلاّ استُغلت كلها لمصلحة اصحاب السلطة. ان ديموقراطية من دون قيم، سرعان ما تتحوّل وبسهولة الى توتاليتارية معلنة او مقنّعة كما يتبين من التاريخ.[4]

        تنتفي الحياة الديموقراطية، عندما تُغيّب الشريعة الخلقية المتأصلة في طبيعة الشخص البشري، وعندما يُعتمد النفوذ السياسي والتأثير المالي في الانتخابات والمطالب، على حساب مقاييس العدالة والاخلاق. عندئذ يخيّم جوّ من الريبة واللامبالاة، وينخفض الحسّ الوطني عند الشعب المتألم من خيبته، وتتناقص نسبة المشاركة في الحياة العامة، لرؤية المصالح الخاصة والفئوية تطغى على الصالح العام، بسبب انعدام الاحترام لكرامة الانسان وحقوقه. فالشخص البشري هو مبدأ المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهدفها وغايتها.[5]

ثمة مبادىء تقوم عليها الممارسة الديموقراطية هي: الحقيقة التي تنبع منها العلاقة بين الحكام والمواطنين؛ الشفافية في الادارة العامة وعدم التحيّز؛ احترام حقوق الاخصام السياسيين؛ حماية حقوق المتّهمين بوجه محاكمات تعسّفية؛ الانفاق العادل للاموال العامة؛ رفض الوسائل المبهمة وغير الجائزة للاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها والتوسّع فيها، مهما كان الثمن وعلى حساب الخير العام.[6]

العمل السياسي هو "الطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحي في خدمة الآخرين"، على ما قال البابا بولس السادس. فهو يقتضي الوحدة في حياة رجل السياسة المسيحي بحيث يجمع بين الايمان والحياة، بين الثقافة والوحي، ويتمّم واجباته الدنيوية منقاداً لروح الانجيل".[7] يزخر التاريخ بوجوه سياسية مسيحية تقدّست من خلال العمل السياسي. وقد رفعت الكنيسة عدداً منهم على المذابح ومن بينهم معاصرون شهدوا لحقيقة المسيح وطبعوا الشؤون الزمنية بقيم الانجيل[8].

ولقد اعلن البابا يوحنا بولس الثاني بارادة رسولية القديس الشهيد Thomas More ، رجل الدولة البريطاني (1478-1534)، مثالاً أعلى للمسؤولين عن الحكومات واهل السياسة، بسبب حياته وممارسته السياسة المثالية، وبخاصة حماية حقوق الضمير الادبي، والانسجام الكامل بين الطبيعي والفائق الطبيعة، بين الايمان والاعمال.[9]

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

        تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي الخامس عشر: الكنيسة المارونية وعالم اليوم. فتستعرض مواجهة التحديات (الفقرات 18-25)، التي عرضت في الفصل الثاني. تتم المواجهة كالتالي:

        1. تحدّد الكنيسة المارونية رسالتها في عالم اليوم، وتستنبط دورها في لبنان والنطاق البطريركي ومناطق الانتشار، على قاعدة الحضور من اجل السلام والترقي. تضع لهذه الغاية طاقاتها في شتىّ الميادين التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والانمائية، بحيث تكون كنيسة معلّمة وشاهدة وخادمة.

        2. تعمل على احياء القيم الانسانية والمسيحية والنكهة المارونية التي تتميّز بالنسك والصلاة والتقشف والجهاد الروحي، لمقاومة تيّار المادّية الجارف. وتستعيد تراثها الغني بالمبادىء لكي يتخطى ابناؤها المحن، مثل ما فعل الاجداد.

        3. تطوّر عوامل المناعة، وتعزز التضامن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والمبادىء الروحية من اجل مواجهة تيّارات الالحاد والانحطاط الاخلاقي.

        4. تاخذ من العولمة ايجابياتها، لتعزيز الوحدة والتواصل بين ابنائها الموزّعين بين البلدان والقارات، مستخدمة وسائل التواصل المتقدمة لايصال صوتها وتلبية دعوتها الرسولية. وتعمل في ذلك وفقاً لمبدأ التنوّع في الوحدة، وتساهم في حوار الحضارات والتأقلم مع المجتمعات التي يتواجد فيها ابناؤها، من دون ذوبان.

        5. تخدم الانسان الذي هو طريق الكنيسة، انطلاقاً من المسيح الذي هو طريقنا الى كل انسان. تتضامن معه، تشاركه معاناته وآماله، تدافع عن حقوقه ولا تصمت عندما تُنتهك، وتقاوم الظلم وتجهر بالحق والعدل. في خدمتها للانسان، لا تنفصل رسالتها الروحية عن رسالتها الاجتماعية وكلتهما تهدفان الى بناء الانسان في كيانه وكرامته وهويته ومعنى وجوده.

        6. تحافظ على دورها في الحوار المسكوني انطلاقاً من تراثها الانطاكي المشترك مع الكنائس الارثوذكسية، وانطلاقاً من تراثها الكاثوليكي الذي يخوّلها بان تكون جسراً بين الشرق المسيحي والغرب. كما تحافظ على دورها في حوار الحياة والثقافة مع الاسلام، انطلاقاً من تجربتها التاريخية. 

***

        صلاة 

        نسجد لك ايها الرب يسوع، وانت ممجّد ببشريتك مع الألوهية في السماء، وقد رفعت ترشيحنا الى المجد السماوي. اعطنا ان نسلك حسب تعليمك ووصيتك الجديدة، وان نكون امناء للشهادة لك ولانجيلك، انجيل الخلاص في كل مكان. اعضد الكنيسة بانوار الروح القدس كي تكون حاضرة لرفع التحديات التي تعترض رسالتها.

        بارك الاعلاميين ومستخدمي وسائل الاعلام، لكي يجعلوا من الوسائل الاعلامية سيبلاً الى تعزيز الاحترام والحوار والصداقة. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الأبد، آمين.


[1] . انظر القسم الاول، الفصل الثالث: مشاركة المسيحي في الحياة السياسية.

[2]  رجاء جديد للبنان، 89 و98.

[3] - النص المجمعي 19: الكنيسة المارونية والسياسة،46.

[4]  البابا يوحنا بولس الثاني: تألق الحقيقة،101.

[5]  مجمع عقيدة الايمان: مذكرة تعليمية حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك،2و7؛ البابا يوحنا بولس الثاني: السنة المئة،47؛ الكنيسة في عالم اليوم،ى 25 و26.

[6]  تألق الحقيقة،101؛ العلمانيون المؤمنون بالمسيح،42.

[7]   مجمع عقيدة الايمان:  مذكرة تعليمية حول مسائل تختص بالتزام الكاثوليك ومسلكهم في الحياة السياسية (24 تشرين الثاني 2002)، فقرة 9.

[8]  نذكر منهم الطوباوي الملك شارل النمساوي امبراطور النمسا (1880-1922) الذي طوّبه البابا يوحنا بولس الثاني في 3  تشرين الاول 2004؛ 

      والطوباوي بيار جورجيو فراسّاتي (1901-1925)، وهو رجل سياسي مناضل، وابن احد اعضاء مجلس شيوخ ايطاليا ومؤسس جريدة  "لاستامبّا" 

     الايطالية، طوّبه البابا يوحنا بولس الثاني في 20 ايار 1990. وينظر مجمع القديسين في دعوى تطويب رجلّي دولة: الاول رئيس وزراء ايطاليا

Alcide de Gasperi       (1881-1954)، والثاني فرنسي هو Robert Schuman( 1886-1963)، رئيس وزراء ووزير مالية ورئيس البرلمان

     الاوروبي في ستراسبورغ. لقد جمعا بين الالتزام المسيحي والعمل السياسي المتفاني، وسلكا طريق القداسة من خلال النشاط العام بروح مسيحي ملتزم، 

     ووضعا اسس الوحدة الاوروبية ( انظر الرسالة الراعوية لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الصادرة في 15 آب 2006: العائلة مسؤولية الكنيسة والدولة).

[9] جريدة الاوسرفاتوري رومانو الاسبوعية الفرنسية عدد 45 تاريخ 7 تشرين الثاني 2000.

 


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code