زمن اليلاد
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2008 - 2009
 احد تقديس البيعة  الاحد الاول من  تشرين الثاني 2009
 عيد
الميلاد -
25 كانون الاول 2007
  1. ليتورجيا الكنيسة المارونية السرينية بازمنتها
     
  2. احد تقديس البيعة - الكنيسة مسكن الله واداة الخلاص
  3. احد تجديد البيعة - يسوع المسيح يجعل كل شيء جديداً
  4. احد بشارة زكريا - مسيرة ايمان وتحقيق
  5. احد بشارة العذراء مريم - مخطط الله الخلاصي: وعد وتحقيق
  6. احد زيارة مريم لاليصابات -  بداية الزمن المسيحاني: بركة الله الخلاصية
  7. احد مولد يوحنا المعمدان - تحقيق الوعد بتجلي رحمة الله
  8. احد البيان ليوسف - اعلان سرّ تدبير الله الخلاصي المكتوم منذ الدهور
  9. احد نسب يسوع - وحدة العائلة البشرية بالمسيح
  10. ميلاد الرب يسوع والاحد الاول بعد عيد الميلاد
  11. عيد رأس السنة 2009 ويوم السلام العالمي - احد وجود الرب في الهيكل

 


ليتورجيا الكنيسة المارونية السريانية بازمنتها

السنة الطقسية المارونية تبدا في الاحد الاول من تشرين الثاني سنويا و
تتوزع فصولها اللاهوتية الى سبعة ازمنة :

 
  • زمن الميلاد او المجيء
  • زمن الدنح او الغطاس
  • زمن التذكارات
  • زمن الصوم
  • زمن القيامة والصعود
  • زمن العنصرة
  • زمن الصليب

                                                          اعداد المطران بشارة الراعي 

 


 

بشارة الملاك لزكريّا بشارة الملاك لمريم زيارة مريم لاليصابات
     
مولد يوحنا المعمدان البيان ليوسف نسب يسوع
 
 

 

احد تقديس البيعة

عبرانيين 9/1-12

متى 16/13-20

الكنيسة مسكن الله واداة الخلاص

 

مع احد تقديس البيعة تبدأ السنة الطقسية الشبيهة بالسنة الشمسية. كما في الثانية تدور الارض حول الشمس لاتخاذ النور والحرارة والحياة على مدى 12 شهراً، تبدأ في كانون الثاني، واربعة فصول: الشتاء والربيع والصيف والخريف، كذلك في الاولى تدور الكنيسة، جماعة المؤمنين حول سرّ المسيح لتستنير بنوره وتحيا بحرارة حبّه وتنال الحياة الالهية، على مدى 12 شهراً، تبدأ في تشرين الثاني، واربعة فصول هي: مبلاد يسوع المسيح وحياته العامة (سرّ التجسّد)، آلامه وموته وقيامته (سرّ الفداء)، حلول الروح القدس ورسالة الكنيسة (سرّ التدبير والتقديس)، مجيء المسيح بالمجد ونهاية الازمنة (سرّ الحياة الابدية).

    انظر الصورة

اولاً، سنة يوبيل القديس بولس وشرح نصيّ الرسالة والانجيل

 

1.     رسائل بولس وصفته كرسول

نحن في سنة يوبيل الالفي سنة على ولادة القديس بولس، التي اعلنها البابا بندكتوس السادس عشر، وقد بدأت في 29 حزيران 2008 وتنتهي في 29 حزيران 2009. نخصص هذا القسم من التنشئة المسيحية لتعليم القديس بولس في رسائله الاربع عشر. وهو اللاهوتي الاول وبامتياز الذي شرح سرّ المسيح والكنيسة. نشرح في كل احد نص الرسالة ونربطه بنص الانجيل.

لا بدّ اولاً من مقدمة حول رسائل القديس بولس الرسول. لقد كتب بين سنة 50 و63 اربع عشر رسالة موجّهة تباعاً الى اهل تسالونيكي (رسالتان) وكورنتس (رسالتان) وغلاطية وروما وفيليبي وافسس وكولسي وفيليمون وتموتاوس (رسالتان) وطيطس فالى العبرانيين.

يسمّي بولس نفسه رسولاً، وهو لم يكن من الرسل الاثني عشر الذين اختارهم يسوع ودعاهم واقامهم معه وارسلهم ليعلنوا انجيله في العالم كله، وجعلهم اعمدة الكنيسة المبنية على صخرة الايمان به. والتقليد المسيحي اعتبره رسولاً.

ثلاث مزايا، في نظره، تميز صفته كرسول:

اولاً، لانه رأى الرب، وكان له معه لقاء حاسم يختص بحياته الشخصية(1كور9/1). فنعمة الرب دعته وأفرزته ليعلن الانجيل للوثنيين (غلا1/15-16). ويقول انه رسول بالدعوة ( روم1/1) اي مرسل لا من الناس، ولا بوسيط بشري، بل من يسوع المسيح والله الآب ( غلا1/1).

ثانياً، لانه مرسل كممثل للذي يرسله. فهو سفيره وحامل رسالة منه. عليه ان يعمل كمسؤول وممثل لمهمة. ولهذا يقول عن نفسه انه "رسول يسوع المسيح"  (1كور1/1؛2كور1/1) اي مندوبه وخادمه ( روم1/1)، واضعاً نفسه كلياً في خدمته، لتحقيق الرسالة باسمه، من دون اي مصلحة شخصية.

ثالثاً، لانه مارس اعلان الانجيل وانشأ كنائس. ليست صفة الرسول عنده لقباً للافتخار، بل هي التزام واقعي وفعلي واحياناً مأساوي. فالافعال والمواقف تبيّن هويته كرسول. لقد عاش التماهي بينه وبين الانجيل، وادرك انه واحد مع النداء الذي يعلنه. ولذا تمم خدمته بامانة وفرح ( خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلة الاربعاء، 10 ايلول 2008: رسولية القديس بولس).

 

2. شرح نص الرسالة الى العبرانيين: 9/1-12.

 

فَالعَهدُ الأَوَّل، كَانَتْ لَهُ أَيْضًا شعَائِرُ عِبَادَة، وبَيْتُ قُدْسٍ أَرْضِيّ. فَبُنِيَ الـمَسْكِنُ الأَوَّل، وهُوَ الَّذي يُدْعَى "القُدْس"، وكانَ فيهِ الْمَنَارَة، والْمَائِدَة، وخُبْزُ التَّقْدِمَة، ووَرَاءَ الـحِجَابِ الثَّانِي بُنِيَ الـمَسْكِنُ الَّذي يُدْعَى "قُدْسَ الأَقْدَاس"، ويَحْتَوِي مِجْمَرَةً ذَهَبِيَّةً لِلبَخُور، وتَابُوتَ العَهْد، مُغَشًّى كُلُّهُ بِالذَّهَب، وفيهِ جَرَّةٌ مِن ذَهَبٍ تَحْتَوِي الـمَنّ، وعَصَا هَارُونَ الَّتي أَفْرَخَتْ، ولَوحَا العَهْد، وفَوقَ التَّابُوتِ كَرُوبَا الـمَـجْدِ يُظَلِّلانِ الغِشَاء: أَشْيَاءُ لا مَجَالَ الآنَ لِلكَلامِ عَنْهَا بالتَّفْصِيل. وإِذْ بُنِيَتْ تِلْكَ الأَشْياءُ على هـذَا التَّرتِيب، كانَ الكَهَنَةُ يَدْخُلُونَ إِلى الْمَسْكِنِ الأَوَّلِ في كُلِّ وَقْت، لِيُتِمُّوا العِبَادَة، أَمَّا الْمَسْكِنُ الثَّانِي فكانَ عَظِيمُ الأَحْبَارِ يَدخُلُ إِلَيهِ وَحْدَهُ مَرَّةً واحِدَةً في السَّنَة، ولا يَدْخُلُ إِلَيهِ إِلاَّ ومَعَهُ دَمٌ يُقَرِّبُهُ عَنْ نَفْسِهِ وعَنْ جَهَالاتِ الشَّعْب. وبِهـذَا يُوضِحُ الرُّوحُ القُدُسُ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلى قُدْسِ الأَقْدَاسِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ كُشِف، مَا دَامَ الْمَسْكِنُ الأَوَّلُ قَائِمًا. وهـذَا رَمزٌ إِلى الوَقتِ الـحَاضِر، وفيهِ تُقَرَّبُ تَقَادِمُ وذَبائِح، لا يُمْكِنُهَا أَنْ تَجْعَلَ مَنْ يُقَرِّبُهَا كامِلاً مِن جِهَةِ الضَّمِير. إِنَّهَا شَعَائِرُ جَسَدِيَّةٌ تَقْتَصِرُ على أَطْعِمَةٍ وأَشْرِبَة، وأَنْواعٍ شَتَّى مِنَ الاغْتِسَال، مَفْرُوضَةٍ إِلى أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ الإِصْلاح. أَمَّا الـمَسِيحُ فَقَدْ ظَهَرَ عَظِيمَ أَحْبَارِ الـخَيْرَاتِ الآتِيَة، واجْتَازَ الـمَسْكِنَ الأَعْظَمَ والأَكْمَل، غَيرَ الـمَصْنُوعِ بِالأَيْدِي، أَيْ لَيْسَ مِن هـذِهِ الـخَليقَة، فَدَخَلَ إِلى قُدْسِ الأَقْدَاسِ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ الـتُّيُوسِ والعُجُول، بَلْ بِدَمِهِ هُوَ، فَحَقَّقَ لنَا فِدَاءً أَبَدِيًّا.

 

يندرج هذا المقطع من رسالة القديس بولس الى العبرانيين في اطار الحديث عن كهنوت المسيح الذي حقق فداء الجنس البشري وخلاص الانسان واشراكه في الحياة الالهية. فالرسالة بفصولها الثلاثة عشر تتناول سرّ كهنوت المسيح في خمس نقاط:

1)     التعريف باسم المسيح وتحديد مكانه من الله والناس (الفصلان 1 و2).

2)     اظهار ميزتي الكهنوت الجوهريتين في كهنوت المسيح وهما: مكانته عند الله، وتضامنه مع الناس (الفصول من 3 الى 5).

3)     الاعراب عن العقيدة الكاملة والتامة، وهي ان المسيح عظيم كهنة من نوع جديد، وان ذبيحته الشخصية تختلف كلياً عن الشعائر القديمة. لقد  فتحت باب القدس الحقيقي اي السماء التي ترمز الى حالة المشاركة في الحياة الالهية، ونالت لجميع البشر غفران الخطايا الحقيقي (الفصول من 5 الى 10).

4)     دعوة المسيحيين الى سلوك الطريق الذي شقّته ذبيحة المسيح بالايمان والصبر (الفصلان 11 و12).

5)     التزام المسيحيين السير في طريق القداسة والسلام (12/14 الى 13).

 

اما نص رسالة اليوم فيتحدث عن مكان العبادة القديمة الذي هو "مسكن الله الاول" (9/1-5)، وخدمة الكهنوت القديم وشعائره وذبائحه (9/6-9). ويقول ان هذه كلها ذات شأن ارضي (9/1)، وانها شعائر جسدية مقتصرة على أطعمة واشربة، مفروضة الى ان يأتي وقت الاصلاح (9/10). ثم ينتقل بولس الى الكلام عن كهنوت المسيح وذبيحة جسده ودمه الفعاّلة والنهائية (9/11-12). انه عظيم الاحبار، ذبيحته واحدة ومستمرة، تمثل الخيرات الابدية وتحقق لنا جميعاً فداءً ابدياً.

 

 

3.     الكنيسة مسكن الله الثاني والنهائي (متى16/13-20).

في قيصرية فيليبس اعلن يسوع سرّ الكنيسة التي اصبحت مسكن الله بامتياز، المبني على " الايمان بالمسيح ابن الله الوحيد"، كما اعلنه سمعان بطرس. في جواب سمعان وفي ما قاله يسوع نجد العناصر المكوّنة للكنيسة المقدسة، وهي ثلاثة:

أ- الايمان بسرّ المسيح ابن الله، وبالتالي الايمان بالثالوث الاقدس الحاضر في الكنيسة، جماعة المؤمنين، والفاعل فيها وفي التاريخ البشري. على صخرة هذا الايمان تُبنى الكنيسة، فلا تتزعزع.

ب- نعمة الاسرار التي تشفي من الخطيئة والضعف، وتقدس المؤمن باشراكه في الحياة الالهية، ما يجعله منيعاً بوجه قوى الشر: " ابواب الجحيم لن تقوى عليها".

ج- سلطة الحل والربط المعروفة بسلطان رعاية المؤمنين الذي يأمر وينهي، تعزيزاً للايمان بالمسيح لدى المؤمنين وتثبيته فيهم وحمايته من كل انحراف، بفضل ما تعلن من حقائق ايمان وتعليم، وما تسنّ من شرائع وقوانين ( مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق8).

هذه الثلاثة مترابطة ومتكاملة، فاي اجتزاء منها يوقع خللاً في الشركة الكنسية ببعديها العمودي لناحية الاتحاد بالله؛ والافقي لناحية الوحدة بين الجماعة.

احد تقديس البيعة اعلان بان الكنيسة مقدسة بفضل اتحادها بالمسيح الذي يقدّسها؛ ودعوة موجّهة الى جميع اعضائها للسعي الى اكتساب القداسة الكاملة. القديسون الذين تعلنهم الكنيسة، انما تقدمهم لجميع الناس نموذجاً لامكانية ممارسة الفضائل بوجه بطولي، والسير في الامانة لنعمة الله. وبذلك تعترف بقدرة روح القداسة الذي فيها، وتعضد رجاء المؤمنين بالتشفع لهم. ولان الكنيسة تضم خطأة بين ابنائها وبناتها، وقد شملهم خلاص المسيح، فهي تعكف بشكل دائم على التوبة والتجدد، وتعرض دائماً لهؤلاء طريق القداسة ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،824، 827، 828).

 

***

 

ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

نواصل هذه السلسلة التاريخية من حياة الكنيسة المارونية ولبنان، اذ نعود الى الدور الذي لعبه البطاركة الموارنة الستة والسبعون في حفظ وحدة الايمان والكنيسة وفي تطور نشأة الكيان اللبناني.

لقد وصلنا الى حقبة الامارة الشهابية (1697-1742)، من عهد العثمانيين الاتراك (1516-1918). في هذه الحقبة ظلّ لبنان والبطريركية المارونية ضمن دائرة الحكم الذاتي المحلي، تجنباً للخضوع المباشر لحكم السلطة العثمانية. ما قضى بتوحيد جميع الاراضي اللبنانية في شخص الامير اللبناني الذي له ان يحكم البلاد ويجبي الضرائب، ويقضي بين الناس، ويقف عند مشورة الاعيان في الامور التي تعود للخير العام. اما سلطة البطريرك الماروني فكانت تمتد احياناً الى الامور الزمنية. وكان بين الموارنة من يتمتع بلقب " امير". هؤلاء يتحدرون من عائلات معروفة، ويديرون شؤون الامّة المارونية من خلال "مجلس امراء الامّة"، ولكن بالخضوع للحكم العام في المنطقة، اي حكم الشهابيين[1].

وكان البطاركة يدعون الى مجامع تنظم شؤون الموارنة الروحية والاجتماعية وعلاقتهم بالحكم السياسي، وتدافع عن حريتهم العقائدية واستقلالية كينونتهم. 


 

البطريرك يعقوب عواد (1705-1733)

 

هو ابن الخوري يوحنا عواد الحصروني، تلميذ المدرسة المارونية في روميه، وامين سرّ البطريرك اسطفان الدويهي، مشهور بفصاحته ومهارته في تعاطي الاعمال البطريركية، ونباهته في الامور السياسية. انتخب في دير سيدة قنوبين في 5 تشرين الثاني 1705، خلفاً للبطريرك جبرايل البلوزاني، وكان عمره 40 سنة. فدامت رئاسته 28 سنة.

صبر على الذل والظلم عندما حطّه مجمع المطارنة المنعقد في دير ريفون بكسروان سنة 1710، وانتخب مكانه المطران يوسف مبارك الريفوني. لكن البابا اكليمنضوس الحادي عشر ارجع البطريرك يعقوب منصوراً الى كرسيه في قنوبين سنة 1714. فاطاع الموارنة امر البابا في الحال وبكل احترام[2].

في عهد بطريركيته وتحديداً في خلال سنة 1715 بدأت المطالبة بعقد مجمع لبناني من اجل الاصلاح الشامل مع الاب العام عبدالله قراعلي، الذي تابع المسعى بعد ترقيه الى الدرجة الاسقفية، بالتعاون مع العلامة المونسنيور يوسف سمعان السمعاني، حافظ المكتبة الفاتيكانية.

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تبدأ مع هذه السنة الطقسية السنة الثالثة من الخطة التطبيقية للمجمع البطريركي الماروني. فتتناول النص 12: الليتورجيا المارونية، ونستهله بالمقدمة وفيها تحديد الليتورجيا بطبيعتها ومضمونها وغايتها (الفقرات 1-3).

         1. الليتورجيا هي الكنز الحي  للكنيسة المارونية في مسيرتها نحو ملكوت الآب. من هذا الكنز تغرف الكنيسة روحانيتها كمن ينبوع، لان في الليتورجيا يتجلّى اللاهوت والكتاب المقدس وتعابير الايمان وعناصر الصلاة.

         2. الليتورجيا هي عمل الثالوث الاقدس الذي منه تنبع واليه تعود. فهي تمجد وتشكر الآب الخالق على محبته وعنايته، والابن على تحقيق الخلاص واعطاء الحياة للعالم، والروح القدس على حلوله وتحقيق ثمار الفداء والخلاص في العالم.

         3. الليتورجيا هي عيش فصح المسيح بموته وقيامته، والاعلان المتواصل بالتأوين لذبيحة الفداء ووليمة جسد الرب ودمه، فينال المؤمن غفران الخطايا، ويغتذي من الحياة الالهية، ويصبح شريكاً في السرّ الفصحي.

         4. الليتورجيا تكوّن هويّة الكنيسة وثوابتها وخلاصة الحياة المسيحية، ما يجعلها المربّية الاولى لهذه الحياة. ولهذا السبب، هي ذروة حياة الكنيسة وينبوعها.

         5. الليتورجيا هي الغاية التي اليها تصبو كل الاعمال الكنسية واسرار الخلاص والجهود الرسولية. ذلك ان فيها يتجلّى الايمان في الصلاة وفقاً للقاعدة: " شريعة الصلاة هي شريعة الايمان". فانت تصلي كما تؤمن. ولهذا، الليتورجيا هي مدرسة ايمان، الى جانب كونها مدرسة صلاة.

 

*** 

         صلاة

         ايها الرب يسوع، في احد تقديس البيعة نعلن ايماننا بك مع بطرس الرسول وبالكنيسة التي بنيتها على صخرة الايمان، لتصمد بوجه كل قوى الشر. نحن نؤمن ان الكنيسة مقدسة بذبيحة جسدك ودمك، وانها مسكن الله الثالوث القدوس. ساعد ابناءها وبناتها لسلوك طريق القداسة على خطى الابرار والقديسين. جدّد ايمانها بحضورك في الليتورجيا المقدسة مخلصاً وفادياً، وهادياً لهم في دروب الحق والخير. لك ولابيك المبارك وروحك الحي القدوس كل مجد واكرام الآن والى الابد، آمين.


1. الاب فرنسوا عقل، اضواء على العلاقات السياسية والقانونية بين البطريركية المارونية والدولة اللبنانية،صفحة 51.

[2] . انظر التفاصيل والمرسلات في " بطاركة الموارنة واساقفتهم القرن 18 للاباتي بطرس فهد،صفحة 47-100؛ ثم رجوعه الى البطريركية، ص     101-127.
 


 

احد تجديد البيعة

عبرانيين 9/11-15

يوحنا 10/22-42

يسوع المسيح يجعل كل شيء جديداً

 

         مع بداية السنة الطقسية، وبعد اعلان قداسة الكنيسة ودعوة ابنائها وبناتها للسعي الى القداسة، ان المؤمنين مدعوون ليتجددوا بالمسيح " الذي جاء ليصنع كل شيء جديداً" رؤيا21/5). انهم يتجددون بنعمة الروح القدس. اما التجدد في حياة الاشخاص والجماعة فينبع من المشاركة في الاحتفالات الليتورجية، عملاً بالوصية الالهية " احفظ يوم الرب".  فالليتورجيا خدمة المسيح المثلثة: النبوية باعلان كلمة الحياة التي هي ذاته؛ الكهنوتية بتأدية العبادة لله بالصلاة وتقديم ذبيحة التكفير والغفران والمصالحة؛ الملوكية بعيش شريعة المحبة المسكوبة في قلوبنا بالروح القدس. والليتورجيا، من جهة المؤمنين، مشاركة في خدمة المسيح المثلثة: نقبل كلمته ونعمته ومحبته، ونخدمها في العائلة والرعية والمجتمع.

***

اولاً، يوبيل القديس بولس وشرح نصي الرسالة والانجيل

 

         1. ارتداد بولس (اعمال الرسل 9/1-19؛ 22/3-16؛ 26/9-20)1

 

         في اطار احد تجديد البيعة، حيث " الرب يجعل كل شيء جديداً"، نجد ثمرة هذا التجدد في ارتداد شاول-بولس الذي حوّله الرب يسوع القائم من الموت، المترائي له على طريق دمشق، من مضطهد الكنيسة الى رسولها، وسلّمه مهمة اعلان الانجيل للوثنيين وللعالم اليوناني-الروماني. انه لنا جميعاً النموذج: لقد بدّله المسيح بحدث اللقاء على طريق دمشق. فاستنار بحقيقة المسيح واعتمد، فكانت ولادته الجديدة، واصبح انساناً جديداً. لقد حوّل فكره وحياته.

         ظهر له يسوع بنور ساطع في وضح النهار فأضحى اعمى. بدت من خلال عماه الحسي حقيقة عماه الداخلي بشأن الحقيقة والنور اللذين هما المسيح. وعندما عاد اليه الصبربوضع يد حننيا، قام واعتمد فاستنار بحقيقة المسيح وعادت قواه وانطلق للتو يعلن انجيل المسيح الذي مات تكفيراً عن خطايانا، وقام لتبريرنا.

         هذا الارتداد هو في الحقيقة عند بولس موت وقيامة: مات عن حياته القديمة، وولد في حياة اخرى جديدة مع المسيح القائم من الموت. ان حدث اللقاء الشخصي بالمسيح هو الاساس والمفتاح لفهم كل ما حدث لشاول. فلانه شاهد المسيح القائم، اصبح رسولاً شاهداً للقيامة. وقد ادرح بولس ترائي المسيح له على طريق دمشق في سلسلة ظهوراته للرسل (1كور15/4-11). اساس رسوليته هو ترائي يسوع له، الذي جعله هو ايضاً شاهداً لقيامته، وتسلّمه مباشرة من يسوع الوحي والرسالة.

         ونحن لن نكون مسيحيين حقيقيين، ما لم نلتقِ المسيح. ولن نلتقيه في نور ساطع كما التقاه شاول-بولس، بل في قراءة الكتب المقدسة، في الصلاة، في الحياة الليتورجية. نستطيع عندئذٍ ان نلمس قلب يسوع، ونشعر بانه يلمس قلبنا. فقط في هذه العلاقة الشخصية مع المسيح القائم من الموت وفي لقائه نصبح حقاً مسيحيين، لان المسيح يفتح لنا كنوز الحقيقة.

 

1.     شرح نص الرسالة: عبرانيين9/11-15

 

أَمَّا الـمَسِيحُ فَقَدْ ظَهَرَ عَظِيمَ أَحْبَارِ الـخَيْرَاتِ الآتِيَة، واجْتَازَ الـمَسْكِنَ الأَعْظَمَ والأَكْمَل، غَيرَ الـمَصْنُوعِ بِالأَيْدِي، أَيْ لَيْسَ مِن هـذِهِ الـخَليقَة، فَدَخَلَ إِلى قُدْسِ الأَقْدَاسِ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ الـتُّيُوسِ والعُجُول، بَلْ بِدَمِهِ هُوَ، فَحَقَّقَ لنَا فِدَاءً أَبَدِيًّا. فإِذا كانَ رَشُّ دَمِ الـتُّيُوسِ والثِّيْرَانِ ورَمَادِ العِجْلَةِ على الـمُنَجَّسِين، يُقَدِّسُ أَجْسَادَهُم فَيُطَهِّرُهُم، فَكَم بِالأَحْرَى دَمُ الْمَسِيح، الَّذي قَرَّبَ نَفْسَهُ للهِ بِالرُّوحِ الأَزَلِيِّ قُرْبَانًا لا عَيْبَ فِيه، يُطَهِّرُ ضَمِيرَنَا منَ الأَعْمَالِ الـمَيْتَة، لِنَعْبُدَ اللهَ الـحَيّ! ولِذـلِكَ فَهُوَ الوَسِيطُ لِعَهْدٍ جَدِيد، وقَدْ صَارَ مَوتُهُ فِدَاءً  لِتَعَدِّيَاتِ العَهْدِ الأَوَّل، حَتَّى يَنَالَ بِهِ الـمَدْعُوُّونَ وَعْدَ الْمِيْرَاثِ الأَبَدِيّ.

 

         يتحدث بولس الرسول عن ذبيحة المسيح الخلاصية. وكونه " اتى ليجدد كل شيء"، فقد تجاوز " المسكن" القديم المعروف " بالمقدس" والمصنوع من ايدي البشر، حيث كان يسكن الله مع شعبه (خروج 25/8)، وحيث كانت تُقدّم، في قدس الاقداس، ذبائح حيوانية لله، كعلامة تكفير عن الخطايا. يقول بولس: " كان دم التيوس والثيران ورش رماد العجلة يطهرّان خارجياً، حسب شريعة موسى (عدد،19/1-10). لكن " دم المسيح، الذي قرّب نفسه الى الله بالروح الازلي قرباناً لا عيب فيه، انما يطهّر ضميرنا من الاعمال الميتة، لنعبد الله الحي" ( عبرانيين 9/14).

         تعلّم الكنيسة ان ذبيحة يسوع وحيدة، وتكمّل كل ذبائح العهد القديم وتتجاوزها. انها اولاً هبة الله الآب الذي جاد بابنه ليصالحنا مع ذاته. وهي في الوقت عينه تقدمة ابن الله، الذي صار انساناً، وبحرية وحب قدّم حياته لابيه بالروح القدس، لكي يعوّض عن معاصينا (كتاب التعليم المسيحي،614).

         بفضل حبّه لنا حتى النهاية (يو13/1)، اتخذت ذبيحته على الصليب كل قيمة الفداء والتعويض والتكفير والتقديس بالنسبة لجميع الناس، لان المسيح هو رأس البشرية كلها. واضحى الصليب بالنسبة للكنيسة رجاءها الوحيد (المرجع نفسه، 616،617).

         ويؤكد بولس الرسول ان يسوع هو الوسيط الوحيد الذي يكفّر عن الخطايا ويمنح الحياة الجديدة وميراث الملكوت الابدي (عبرانيين9/15).

         ذبيحة المسيح مستمرة الآن وهنا في ذبيحة القداس، المعروفة بالذبيحة القربانية. فالمسيح نفسه، الكاهن الابدي الاعظم للعهد الجديد، الذي يعمل بواسطة خدمة الكهنة، هو يقدم هذه الذبيحة. والمسيح نفسه ايضاً، الحاضر بالحقيقة وبالفعل تحت اشكال الخبز والخمر، هو التقدمة والذبيحة القربانية (كتاب التعليم المسيحي،1410).

         في احد تجديد البيعة، جميع المسيحيين مدعوون ليجددوا ايمانهم والتزامهم ومشاركتهم بذبيحة القداس يوم الاحد، الذي هو يوم الله والانسان. فانها تُقدم عنهم ومن اجلهم تعويضاً وتكفيراً وتقديساً. بهذه المشاركة ينالون الحياة الجديدة والخيرات السماوية، التي تطبع حياتهم واعمالهم وشؤونهم الزمنية، فيتقدسون ويقدسون.

 

2.     يسوع آية خلاص للقبول الحرّ بالايمان (يوحنا10/22-42).

 

هذا الجدال القائم بين اليهود ويسوع، في رواق هيكل سليمان باورشليم، يوم عيد التجديد، انتهى " بان آمن به كثيرون" ( يو10/42)، فيما اليهود الذين كان يجادلونه فقد "حاولوا مرة ثانية ان يقبضوا عليه، فأفلت من يدهم" (يو10/39).

هكذا تمت نبؤة سمعان الشيخ بشأن الطفل يسوع: " ها انه جُعل لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم في اسرائيل، وآية معرّضة للرفض" (لوقا2/34).

يسوع المسيح آية خلاص لا تُقبل إلاّ قبولاً حراً بالايمان. والخلاص هو ان يبلغ جميع الناس الى الحقيقة والايمان. واكّد ان الذين اُلقيت اليهم كلمة الله وقبلوها، يُدعون آلهة اي ابناء الله، بموجب المزمور 82/6. اما الاله بامتياز فهو ابن الله يسوع المسيح الذي " قدسه الآب وارسله الى العالم" (يو10/36). فمن يرفضه يرفض البنوة لله والمشاركة في الحياة الالهية. وقد قال يسوع في مكان آخر: " لا أحد يأتي الى الآب إلا بي" (يو14/6).

الكنيسة هي على صورة مؤسسها وسيدها يسوع المسيح، مؤلفة من عنصرين بشري والهي مترابطين ارتباطاً عضوياً. العنصر البشري فيها هو الجانب المنظور  اي وضع الانسان الحسي والاجتماعي،والطائفة المنظمة اجتماعياً ودينياً وقانونياً. اما العنصر الالهي فهو الجانب غير المنظور اي الاتحاد مع الله وفيه  بالنعمة، ومع جميع الناس برباط المعمودية؛ انه الكنيسة الغنية بنعم السماء (رجاء جديد للبنان،19).

الكنيسة ايضاً، مثل سيدها، موضوع رفض وقبول، وستظل كذلك. ان الذين يرفضونها حتى الاضطهاد هم الذين ينظرون اليها من واقعها البشري فقط، وينفون واقعها الالهي، عندما تعلن كلمة الحياة وحقيقة الله والانسان والتاريخ، وعندما يرون حياتها وشهادة اعمالها. تماماً كما فعل اليهود عندما اخذوا حجارة ليرجموا يسوع وقالوا له: " نرجمك لتجديف. لانك، وانت انسان، تجعل نفسك الهاً" (يو10/32).

في أحد تجديد البيعة، نجدد ايماننا بالمسيح وبالكنيسة، ونصلي: " طوبى لك ايتها البيعة، لان صوت الابن فيك يدوّي. هو يكون لكِ حارساً، فلا يتزعزع اساسك. تبارك الذي ذُبح لاجلك، فوهبك جسده مأكلاً ودمه مشرباً روحياً وغفراناً وحياة لكِ ولأولادك"  (الليتورجيا المارونية).

 

***

 

ثانياً،  البطريركية المارونية ولبنان

 

ما زلنا في حقبة امارة الشهابيين (1697-1842) في العهد العثماني (1516-1918)، نتعرف الى شخصية البطريرك يوسف ضرغام الخازن (1733-1742).

هو في الاساس الشيخ ضرغام الخازن ابن فياض ابن ابي نوفل نادر الخازن. كان رجل بطش وقوة. كان متزوجاً وله ولد. بعد وفاة زوجته دخل سلك الكهنوت في ريفون، ودعي " يوسف" واصبح اسقفاً على غوسطا، وعُرف بغيرته ونشاطه. انتُخب بطريركاً برفع الايدي والصوت الواحد، من دون اقتراع سرّي، بسبب بعض الرشوة، وخوفاً من السقوط في التأديبات الكنسية، وذلك في 28 شباط 1733. منحه البابا اكليمنضوس الثاني عشر درع التثبيت[1] ببراءة مؤرخة في 18 كانون الاول 1733.

 أهم ما جرى في عهده

1. تسليم مدرستي عينطوره وزغرتا الى الآباء اليسوعيين. فمدرسة عينطوره أسسها الاب اليسوعي بطرس مبارك الريفوني، ووكل تدبيرها الى المرسلين اليسوعيين. هؤلاء استضافهم الشيخ ابو نوفل الخازن سنة 1652 وامر ببناء ببيت ومعبد لهم في هذه القرية. تسلّم رئيس الرهبانية اليسوعية صكّها الشرعي في 27 شباط 1743. ولكن بعد ان حُلّت جمعية الآباء اليسوعيين سنة 1773، تحولّت اديارهم الى الآباء اللعازريين. وفي سنة 1792 تسلّموا المدرسة بدعوى.

اما مدرسة زغرتا فأنشأها المطران جريس يمين الاهدني، وأوكل تدبيرها الى الآباء اليسوعيين في 10 كانون الاول 1735. وهذه ايضاً تحوّلت بدعوى الى الآباء اللعازريين بتاريخ 28 نيسان 1843.

 

2. انعقاد المجمع اللبناني في دير سيدة اللويزه-زوق مصبح في 30 ايلول سنة 1736، وكان حاضراً فيه 109 اشخاص ما عدا السيد البطريرك والقاصد الرسولي العلامة يوسف السمعاني. تألف الحضور من 12 مطراناً مارونياً و4 اساقفة ارمن وسريان ورئيسان عامان و8 مدبرين و10 رهبان من الفرنسيسكان واليسوعيين والكبوشيين والكرمليين و24 راهباً وكاهناً موارنة و30 شخصاً من آل الخازن و12 من آل حبيش و7 من وجهاء الشعب الماروني. وقد كانت كل نصوصه مهيأة على يد العلامة المونسنيور يوسف السمعاني[2].

انه اكبر المجامع المارونية واهمها، وهو حتى ايامنا دستور الطائفة المارونية، وقد مثّل دوراً خطيراً في تاريخ الشرق المسيحي من ناحية الاصلاح والتنظيم الكنسي. ثبّته البابا بندكتوس الرابع عشر بنصه اللاتيني الذي طبع سنة 1820 في رومية. اما النسخة العربية فطبعت لاول مرة سنة 1788.

وانطلقت ورشة تطبيق هذا المجمع في كل مضامينه في اقسامه الاربعة: الايمان الكاثوليكي، الاسرار وكيفية الاحتفال بها، البطريرك والاساقفة والاكليروس، الكنائس والاديار والرهبان والراهبات والاخويات والفروض الالهية والمدارس، فضلاً عن بعض الترتيبات المجمعية[3].

 

3. تجديد حماية فرنسا للموارنة من الملك لويس الخامس عشر في 12 نيسان 1737، من بعد ان كان قد جددها والده لويس الرابع عشر في 28 نيسان 1649، على اساس الحماية الاولى التي ووضعها القديس الملك لويس التاسع سنة 1249.

 

***


 

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تتناول الخطة الراعوية من النص الثاني عشر: " الليتورجيا المارونية"، ما يختص بهوية الليتورجيا المارونية (الفقرات4-6)، والمراحل التاريخية التي مرّت بها (الفقرات7-13).

         1. الليتورجيا المارونية انطاكية سريانية، ولها نقاط مشتركة مع السريان والكلدان والاقباط. ويتصل اصلها بليتورجيا الرها، وتحمل آثاراً رهاوية مثل نافور  "شرر"، ورتب تقديس الميرون وتقديس الماء، وبعض الاناشيد الطقسية المنسوبة الى مار افرام السرياني ومار يعقوب السروجي وغيرهم من الآباء السريان. ينتسب الطقس الماروني الى العائلة الانطاكية الغربية، وبهذه الصفة يجسّد تقليد اورشليم امّ الكنائس، وينفتح على الطقس السرياني الشرقي اي الكلداني-الاشوري، وتأثّر هامشياً بالطقس اللاتيني. لكنه حافظ على شخصية ليتورجية فريدة، ونصوصه تحمل لاهوتاً انطاكياً وسريانياً عريقاً، كما ان هيكليات صلواته ورتبه هي ذات طابع انطاكي اورشليمي واضح.

         2.اما الحقبات التاريخية التي مرت بها الليتورجيا المارونية وتطورت عبرها، فهي ست:

         الاولى، من نشأة المارونية الى اواخر القرن السابع مع تكوين البطريركية.

         تتميز هذه المرحلة باستقلالية الطقس الماروني، وبتراث انطاكية والرها، الروحي واللاهوتي،وبوحدة الليتورجيا التي لم تتأثر بالانقسامات في الكنيسة الانطاكية مع المجامع المسكونية الستة الاولى: بين سريان غربيين وشرقيين، وبين سريان غربيين وملكيين، وبين خلقيدونيين وغير خلقيدونيين.

 

         الثانية، من القرن الثامن الى الثاني عشر

         تميزت فيها الليتورجيا المارونية بالطابع الانطاكي السرياني المشترك بين الليتورجيات السريانية والملكية. وفيها ظهرت مجموعة " بيت غازو"، للمخطوطات الليتورجية المارونية التي تلقي الضوء على ابعاد من الهوية الليتورجية المارونية.

 

         الثالثة، من القرن الثاني عشر الى آخر السادس عشر

         بسبب التقارب بين الموارنة وكرسي روما، ظهرت علامات تأثير رومانية على مستوى الملابس الحبرية والفنون الكنسية والاواني، وعلى مستوى بعض طرق الاحتفال بالرتب والاسرار، كتقديس الميرون ومنح سرّ التثبيت. اما النصوص والهيكليات فحافظت بشكل عام على طبيعتها.

 

         الرابعة، من مدرسة رومية المارونية (1584) حتى البطريرك اسطفان الدويهي (1670-1704

         تميزت بطباعة الكتب الطقسية وتشذيبها، بتصدير من المراجع الرومانية. فدخلت عادات غربية في العبادات التقوية والشعبية، وبعض الصيغ الخاصة بتوزيع الاسرار.

 

         الخامسة، من المجمع اللبناني (1736) حتى المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1965)

         تميزت بالاصلاحات الليتورجية وطباعة الكتب. وكان للسماعنة دور مميز في نسخ المخطوطات وجمعها بلغات ثلاث: السريانية والعربية واللاتينية. كما كان لابرشية حلب ومدرستها دور في التجديد الطقسي.

 

         السادسة، من المجمع الفاتيكاني الثاني الى اليوم

         تميزت بمشاريع الاصلاح الشامل عبر اللجنة البطريركية للشؤون الطقسية استناداً الى القواعد التي رسمها الدستور المجمعي " في الليتورجيا المقدسة".

 

***
 

         صلاة

         ايها الرب يسوع، لقد جئت لتجعل كل شيء جديداً. جددنا بروحك القدوس، بالكلمة والنعمة والمحبة. اجتذبنا اليك لنلتقيك على دروب الحياة، فيما نحن نصغي اليك في الكتب المقدسة، ونرفع العقل والقلب اليك بالصلاة، وندخل في شركة الاتحاد بك في الليتورجيا. ردّنا اليك مثل شاول – بولس، لنجد مكاننا ودورنا في تاريخ الخلاص. بارك رعاة كنيستنا ليسيروا بالمجمع البطريركي الى كامل تطبيقه من اجل عنصرة جديدة في الكنيسة والمجتمع. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس الآن والى الابد، آمين.

 


[1]  . انظر الرسائل المتبادلة بين البطريرك وقداسة البابا في " بطاركة الموارنة واساقفتهم القرن 18" للاباتي بطرس فهد،صفحة 156-160.

[2] . انظر اعمال التحضير في المرجع المذكور، صفحة 166-179.

[3] . انظر التفاصيل في المرجع المذكور، صفحة 180-211.

 


 

بشارة زكريا

روميه 4/13-25

لوقا1/5-25

مسيرة ايمان وتحقيق

 

         مع بشارة الملاك لزكريا يبدأ زمن الميلاد او المجيء. فيوحنا المعمدان يسبق ميلاد المسيح كما الفجر طلوع الشمس. انه آخر نبي من العهد القديم واول رسول من العهد الجديد. كان هبة- مكافأة من الله لزكريا الكاهن وزوجته اليصابات العجوزين والعاقرين، انما " البارين امام الله والسالكين في جميع وصايا الرب واحكامه بلا لوم" (لو1/6). وهو، على ما يقول بولس الرسول، عطية وعد الله للمؤمنين على مثال ابراهيم الذي صار اباًُ لامم كثيرة، لان ايمانه لم يضعف بوعد الله ( روم4/18-20). بشارة زكريا مقدمة لانجيل الرجاء المرتكز على الايمان بأن وعد الله يتم لا محالة وفي اوانه.

 

اولاً، سنة يوبيل القديس بولس وشرح نصيّ الرسالة والانجيل

 

1.     بولس يكلم عالم اليوم[1]

 

انه معلم الايمان والحقيقة لكل جيل. يقول في رسالته الى اهل غلاطية: " وان كنت الآن حياً في الجسد، فاني حيّ بايمان ابن الله، الذي احبني وبذل نفسه عني" (غلا2/20). الايمان عنده هو اليقين والاختيار انه محبوب من المسيح بشكل شخصي تماماً. ذلك ان المسيح لم يواجه الموت لشيء مجهول، بل بفعل حب لكل انسان. ايمان بولس هو انه صُعق بحب يسوع المسيح، وهو حب اصابه في عمق اعماق نفسه، وبدّله جذرياً. ليس ايمان بولس نظرية او رأياً بشأن الله والعالم، بل هو ايمان طبعه حبُ الله في قلبه. وبالتالي ايمانه هو حبه ليسوع المسيح ورغبته الشديدة في نقل هذا الحب الى الآخرين.

أما الحقيقة التي قبلها شاول من المسيح القائم في لقائه على طريق دمشق، فقد صارت انجيل الله المؤتمن عليه، والتزم اعلانه مهما كلفة من اضطهاد وآلام. كتب الى اهل تسالونيكي: " بعد ان تألمنا وشُتمنا في فيليبي، تجرّأنا بالهنا ان نكلمكم بانجيل الله، في جهاد كثير. وكما اختبرنا الله فأمّننا على الانجيل، هكذا نتكلم، لا ارضاء للناس بل لله الذي يختبر قلوبنا. ولم نأتِكم ولا مرة بكلمة تملّق، ولا بدافع طمع، والله شاهد"  (1تسا2/2 و5).

 

2. شرح نص الرسالة (روميه 4/13-25).

 

فَالْوَعْدُ لإِبْرَاهيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ بِأَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلعَالَم، لَمْ يَكُنْ بِواسِطَةِ الشَّرِيعَة، بَلْ بالبِرِّ الَّذي نَالَهُ بالإِيْمَان. فلَوْ كَانَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ هُمُ الوَارِثِين، لأُبْطِلَ الإِيْمَان، وأُلْغِيَ الوَعْد؛ لأَنَّ الشَّرِيعَةَ تُسَبِّبُ غَضَبَ الله؛ وحَيْثُ لا شَرِيعَة، فَلا تَعَدِّيَ لِلشَّرِيعَة. لِذـلِكَ فَأَهْلُ الإِيْمَانِ هُمُ الوَارِثُون، لِكَي تَكُونَ الوِرَاثَةُ هِبَةً مِنَ الله. وهـكَذَا تَحَقَّقَ الوَعْدُ لِكُلِّ نَسْلِ  إِبْرَاهيم، لا لِلنَّسْلِ الَّذي هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ فَحَسْب، بَلْ أَيْضًا لِلنَّسْلِ الَّذي هُوَ مِنْ  أَهْلِ الإِيْمَان، إِيْمَانِ إِبْرَاهِيم، الَّذي هُوَ أَبٌ لَنَا أَجْمَعِين؛ كَمَا هُوَ مَكْتُوب: "إِنِّي جَعَلْتُكَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَة". فَإِبْرَاهِيمُ الَّذي آمَنَ باللهِ هُوَ أَبٌ لَنَا أَمَامَ الله، الَّذي يُحْيي الأَمْوَات، ويَدْعُو غَيْرَ الـمَوْجُودِ إِلى الوُجُود. وقَدْ آمَنَ إِبْرَاهيمُ رَاجِيًا عَلى غَيرِ رَجَاء، بِأَنَّهُ سَيَصيرُ أَبًا لأُمَمٍ كَثيرَة، كَمَا قِيلَ لَهُ: "هـكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ". ولَمْ يَضْعُفْ بِإِيْمَانِهِ، بِرَغْمِ أَنَّهُ رأَى، وهُوَ ابنُ نَحْوِ مِئَةِ سَنَة، أَنَّ جَسَدَهُ مَائِت، وأَنَّ حَشَا سَارَةَ قَدْ مَات. وبِنَاءً عَلى وَعْدِ الله، مَا شَكَّ وَلا تَرَدَّد، بَلْ تَقَوَّى بالإِيْمَان، ومَجَّدَ الله. وأَيْقَنَ مِلْءَ اليَقِينِ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُنْجِزَ مَا وَعَدَ بِهِ. فَلِذـلِكَ حُسِبَ لَهُ إِيْمَانُهُ بِرًّا. ولَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ "حُسِبَ لَهُ بِرًّا"، بَلْ كُتِبَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا بِرًّا، لأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِالَّذي أَقَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ يَسُوعَ رَبَّنَا، الَّذي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ زَلاَّتِنَا، وأُقيمَ مِنْ أَجْلِ تَبْريرِنَا.

 

يؤكد بولس الرسول ان الانسان يتبرر بالايمان لا بالشريعة. والايمان هو قبول كلام الله ووعده والثبات في الرجاء بأن وعد الله سيتحقق. يستند الرسول لتأكيد هذه الحقيقة، على ايمان ابراهيم الذي " وعده الله ولنسله بأن يكون وارثاً للعالم... فأيقن ملء اليقين ان الله قادر ان ينجز ما وعد به. فحُسب له ايمانه براً" ( روم4/13،21،22).

هذا الايمان يتصف " بالرجاء على غير رجاء" ( روم4/18). عندما راى ابراهيم انه ابن نحو مئة سنة، وان جسده مائت، وان حشا ساره قد مات هو ايضاً، بينما الله وعده بانه سيصير اباً لامم كثيرة، لم يضعف ايمانه. وبناء على وعد الله، ما شك ولا تردد، بل تقوى بالايمان ومجدَّ الله (روم4/19-20).

بفضل هذا الايمان القوي اصبح ابراهيم " اباً لجميع الذين يؤمنون، واباً لامم كثيرة" (روم4/11 و18).

حقق الله وعده باعطائه نسلاً وذرية، بولادة اسحق الذي ولد يعقوب. ومن ذريته سيولد المسيح الذي به وبفيض الروح القدس تتكوّن وحدة ابناء الله المشتتين، ويتمّ فداء شعب الله بموت ابن الله الحي  الذي " اُسلم لاجل زلاتنا، واُقيم من اجل تبريرنا" (روم4/25).

لقد حقق ابراهيم تحديد الايمان، على ما يقول القديس بولس في الرسالة الى العبرانيين: " الايمان هو اليقين بالامور المرجوّة، والبرهان للامور غير المرئية" (عبر11/1). مثل هذا الايمان " حُسب لابراهيم براً" (روم4/22).

الايمان هو جواب الانسان على ما يوحي الله، فيُخضع عقله وارادته لله. ويٌقبل بكل كيانه الوحي الالهي بطاعة الايمان (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،142-143).

2.     مسيرة ايمان وتحقيق وعد من ابراهيم الى زكريا (لوقا1/1-25).

 

بالبشارة لزكريا يكتمل وعد الله لابراهيم وقد جعله اباً لشعبه بالايمان: " ها انا اجعل عهدي معك، فتصير اباً لعدد كبير من الشعوب. وسأنّيك جداً جداً واجعلك امماً. وملوك منك يخرجون"  (تكوين17/4-5). ووعده بأن يولد له ولزوجته ساره، وهما مسنان، ولد يدعى اسحق، يقيم معه عهداً ابدياً ( تك17/19). تحقق وعد الله لابراهيم ببداية تكوين شعب الله، وريث الخلاص، في العهد القديم. هذا الشعب معدٌَّ ليكون كنيسة المسيح في العهد الجديد.

 نقرأ في الكتب المقدسة ان شعب الله القديم الذي اختاره الله وسماه " اسرائيل"، هو الصورة والرمز لكنيسة العهد الجديد: " اذا سمعتم صوتي وحفظتم عهدي، فانكم تكونون لي خاصة بين جميع الشعوب. تكونون لي مملكة من الكهنة وامة مقدسة" (خروج19/5-6). لم يكن شعب الله القديم سوى الصورة التي هيأت شعب العهد الجديد، هذا العهد الذي أبرمه المسيح بدمه وجعله كاملاً بتأليف شعب من كل الامم، هو الكنيسة. معها تحقق الوعد بكامله، فهي حاضنة عهد الله الخلاصي، وهي تحقيق هذا العهد، وتسمى بداية ملكوت الله على الارض الذي يكتمل في السماء (انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،781). انها شعب الله الجديد، المميز عن جميع الشعوب والتجمعات الدينية والاتنية والثقافية والسياسية بعناصره الخاصة:

1) هو شعب اقتناه الله من الذين لم يكونوا شعباً، وجعله، على ما يقول بطرس الرسول: "جيلاً مختاراً، كهنوتاً ملوكياً، امّة مقدسة" ( 1بطرس2/9)؛ 2) نصبح اعضاء في هذا الشعب لا بالولادة الجسدية بل بالولادة من علُ، بالماء والروح، اي بالايمان بيسوع المسيح والمعمودية (يو3/3-5)؛ 3) لهذا الشعب رأس هو يسوع المسيح، الذي انحدرت منه مسحة الروح على الجسد كله، فكان " الشعب المسيحاني" ؛ وله حالة خاصة بمثابة الشرط للانتماء اليه، هي كرامة حرية ابناء الله، الآتية من الروح القدس الحال في قلوبهم، كما في هيكل؛ وله شريعته هي الوصية الجديدة ان يحبوا بعضهم بعضاً، كما احبهم المسيح (يو13/34)؛ ولهذا الشعب رسالة هي ان يكون ملح الارض ونور العالم (متى5/13-16)، وبذلك هو زرع الوحدة والرجاء والخلاص في العالم (الدستور العقائدي " في الكنيسة"،5).

 البشارة لزكريا بمولد يوحنا تختتم مسيرة العهد القديم نحو المسيح المنتظر. في هذا العهد زكريا واليصابات زوجان بارّان، سائران في عهد الرب بالمحافظة على رسومه ووصاياه، بدون لوم ( راجع لوقا 1/6). بالحقيقة، قبل ان يبرم الله عهده مع ابراهيم، طلب اليه ان يسلك امامه بدون لوم: " سرّ امامي وكن كاملاً " ( تك17/1). كانت مهمة يوحنا ابنهما ان يردّ الشعب الى عهده مع الله: " يردّ الكثيرين من بني اسرائيل الى الرب الههم، والذين لا يطيعون الى معرفة الابرار، ويعدّ للرب شعباً كاملاً (لو1/16-17). في الواقع، بعد ستة اشهر من البشارة لزكريا، كانت البشارة لمريم العذراء بالحبل الالهي، فكتب بولس الرسول: " في ملء الازمنة تجسّد ابن الله من امرأة"  (غلا4/4). فكانت بداية العهد الجديد بالمسيح.

كل هذا يعني وحدة العهدين القديم والجديد: فكل ما تحتويه كتب العهد القديم، كان مرتباً لتحضير مجيء المسيح فادي المسكونة، واعلانه نبوياً، وتصويره باشكال شتى. وعند اكتمال الازمنة تجسّد كلمة الله وحلّ بيننا مملؤاً نعمة وحقاً (يو1/14)، وتمّم خلاص الجنس البشري، ووطد ملكوت الله وحققه في الكنيسة التي سلّمها مهمة اعلانه وبنيانه على الارض وحمل خلاصه الى جميع الناس. ان الله الذي ألهم كتب العهدين (عددها 73 كتاباً: 46 في القديم+ 27 في الجديد) هو المؤلف لكليهما، وقد رتب بحكمته ان يكون الجديد مختبئاً في القديم، وان يتوضح القديم في الجديد  (القديس اغسطينوس). ان كتب العهد القديم تنير وتشرح كتب العهد الجديد، وكتب العهد الجديد تستعيد كتب العهد القديم في الكرازة الانجيلية وتكشف رموزها (الدستور المجمعي " في الوحي الالهي"، 16). القديم بالنسبة الى الجديد هو كالاساس للبيت.

 

3.      العائلة اول مربية للايمان

 

في كانون الثاني 2009 يعقد في المكسيك اللقاء العالمي السادس للعائلات مع قداسة البابا بعنوان: " العائلة، مربية على القيم الانسانية والمسيحية". نبدأ مع هذا الاحد الاعداد لهذا اللقاء العالمي، بعرض المواضيع العشرة التي هيأها لهذه الغاية المجلس الحبري للعائلة، وبما ان زمن الميلاد يعلن انجيل العائلة تأتي هذه المواضيع في محلها.

الموضوع الاول، العائلة المربية الاولى للايمان

عائلة زكريا واليصابات التي انجبت يوحنا، وعائلة ابراهيم وساره التي انجبت اسحق، خير نموذج وتحقيق لهذا الموضوع.

العائلة المسيحية كنيسة بيتية. وبهذه الصفة تشارك في رسالة الكنيسة وهي ان يعرف جميع الناس تصميم الله الخلاصي الذي اٌُعلن وتحقق في المسيح، ويقبلونه (1طيم 1/15-16). هذا هو الايمان الذي تتقبله العائلة وتنقله من جيل الى جيل وتربي اولادها عليه. هكذا فعل الازواج القديسون والاهل المسيحيون في مختلف الازمنة. نذكر بنوع خاص من بينهم والدي القديسة تريز الطفل يسوع، لويس وزيلي مارتان ( Louis et zélie Martin) اللذين اُعلنا طوباويين في 19 تشرين الاول الماضي في بازيليك Lisieux حيث جثمان ابنتهما القديسة تريز الصغيرة. انهما اول والدين طوباويين، في التاريخ، وابنتهما قديسة وشفيعة المرسلين والمرسلات، وملفانة الكنيسة. عنهما كتبت تريز قبل وفاتها بشهرين في 26 تموز 1897: " لقد اعطاني الله الكُلي الجودة اباً واماً هما اهل للسماء اكثر منهما للارض. طلبا من الله ان يعطيهما العديد من الاولاد ويأخذهم له". في الواقع انجب والدا القديسة تريز تسع بنات. اربع منهن توفين في سنّ الطفولة، والخمس الباقيات اصبحن راهبات، وصغيرتهن القديسة تريز (1873-1897). دامت حياتهما الزوجية 19 سنة (1858-1877). عاشت زيلي 46 سنة (1831-1877) ولويس 71 سنة (1831-1894). تجدر الاشارة الى ان خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني اعلن زوجين ايطاليين طوباويين في 21 تشرين الاول 2001 هما Luigi et Maria Beltrame Quattrocchi.

ان محور الايمان الذي تنقله العائلة وتربي عليه هو اعلان سرّ المسيح الذي مات وقام لخلاصنا من خطايانا واعطائنا الحياة الجديدة. وتتصل به كل الحقائق التي يتضمنها قانون الايمان والاسرار والوصايا العشر. اما القيم الانسانية والروحية فهي جزء من تربية الايمان الشاملة.

 

***

 

ثانياً، البطريركية المارونية ولبنان

 

         البطريرك سمعان عواد (1743-1756)

         هو من بلدة حصرون وابن اخي البطريرك يعقوب عواد، وتلميذ المدرسة المارونية في رومية. بعد وفاة سلفه المطران يوسف ضرغام الخازن في دير مار سركيس ريفون ودُفن في كنيسة مار الياس بغوسطا، انتخبه اساقفة الطائفة والحكام والمشايخ والاعيان وبعض الشعب في مدرسة عين ورقة. فرفض قبول الانتخاب زهداً وتعففاً وتورعاً. فانتخبوا مكانه المطران الياس محاسب الغسطاوي. اعترض المطران طوبيا الخازن الذي كان غائباً وادعى انه لم يتبلّغ الدعوة الى الانتخاب. ثم رقّى مع اسقف من طائفة السريان الكاثوليك راهبين من دير سيدة اللويزه الى الدرجة الاسقفية. وانتخبوه بطريركاً جديداً.

         رُفع الامر الى البابا بندكتوس الرابع عشر ( 1740-1758) فأبطل انتخاب البطريركين الياس محاسب وطوبيا الخازن، واقام سمعان عواد بطريركاً ببراءة رسولية مؤرخة في 16 اذار 1743 [2].

         في سنة 1745 غادر البطريرك كرسيه في دير قنوبين بسبب الاضطهادات التي كان يحدثها الاتراك والمتاولة حكام تلك المنطقة، وتوجه الى الجنوب وسكن في دير مشموشه قرب جزين الذي بناه. ما سهّل عليه الاتصال بامير لبنان والتعاون معه لخير البلاد.

         من اهم انجازاته

         1. توجيه رسالة الى ملك فرنسا في 3 تشرين الثاني 1749 موقّعة منه ومن المطارنة، يطلب اليه مساعدة رهبانية مار انطونيوس الكبير المعروفة باللبنانية، بشخص رئيسها العام ارسانيوس عبد الاحد الحلبي، " لان لها احد عشر ديراً تحت يد الاسلام والامم ترتّب عليها مال ميري زائد يفوق القوة. وبعض من هذه الاديار نهبها مرات عدة عسكر الاسلام"[3].

 

         2. توجيه رسائل مع الاساقفة الى قداسة البابا ومجع نشر الايمان في سنة 1752، احتجاجاً على الآباء اليسوعيين الذين يشوهون حقيقة رهبنة قلب يسوع للراهبة هندية طالبين تثبيت قوانينها[4].

 

         3. عقد ثلاثة مجامع مارونية لتطبيق المجمع اللبناني (1736):

         الاول، في دير بقعاتة كنعان بكسروان في 12 ايلول 1744.

         الثاني، في دير مشموشه في 10 نيسان 1747.

         الثالث، في دير قنوبين في 28 تشرين الثاني 1755.

         لقد أجمع المؤرخون على ان البطريرك سمعان عواد أوجد الاستقرار والامن في الطائفة، وراح يتفانى في حراثة كرم الرب، دونما تعب في سبيل نفع شعبه، واقتياده الى المراعي الخلاصية، وحمايته من الضلال والاثم، مكدّاً بالوعظ والانذار والتعليم.

         كانت وفاته في دير سيدة مشموشه في 12 شباط 1756؟

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         بعد ان استعرضت الخطة الراعوية ما جاء في النص المجمعي الثاني عشر: الليتورجيا، بشأن محطاتها التاريخية الست (الفقرات 4-13)، تعرض اليوم الاستنتاجات من هذه المحطات (الفقرة 14):

         1. تنتمي الليتورجيا المارونية الى الكنيسة الانطاكية والى الثقافة السريانية في قسميها الغربي والشرفي، وتستقي من ليتورجيات انطاكية واورشليم والرها.

         2. يوجد في الليتورجيا المارونية عناصر مشتركة مع الطقوس السريانية والملكية والكلدانية، من شأنها ان تشكل اساساً للاصلاح الليتورجي، وان تُسهم مسكونياً في توطيد روابط المحبة والوحدة بين هذه الكنائس.

         3. تأثرت الليتورجيا المارونية بما اُخذ عن الطقس الروماني في مجال الفنون الكنسية والثياب البيعية وبعض اشكال الممارسة الليتورجية والصيغ الطقسية. لكن هيكليات الرتب والنصوص الاساسية حافظت على الطابع الماروني السرياني.

         4. نعمت الليتورجيا المارونية بمساهمة خريّجي مدرسة روما (1584) في تنقية الطقوس المارونية من كل ما هو دخيل. وقد اعتنوا بالطبعات الطقسية. كما عمل البطريرك اسطفان الدويهي على تجديد الطقوس واعادتها الى اصالتها المارونية واضعاً قواعد ثابتة لانطلاقة الاصلاح الليتورجي الحديث.

         5. بفضل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي دعا الى العودة الى الجذور وابراز الهوية اللاهوتية والليتورجية الخاصة بكل كنيسة، وبفضل عمل اللجنة البطريركية للشؤون الطقسية، كانت مسيرة الاصلاح الليتورجي الشامل، والعمل على انعاش الحياة الطقسية واظهار ثوابتها اللاهوتية وروحانيتها في لبنان وبلدان الانتشار.

 

***

         صلاة

         ايها الرب يسوع، لقد كشفت لنا في شخص ابراهيم وزكريا ان فيك تحققت وعود الله الخلاصية، وانك انت الكلمة التي تقود مسيرة شعب الله في العهدين القديم والجديد. أحيي فينا ايمان ابراهيم وزكريا، به نقبل كل ما توحي الينا بالمسيح وبالروح القدس وبتعليم الكنيسة، فننال نعمة الخلاص، ونعمل على اعلانها وحملها الى سوانا. اجعل ايماننا فعل حب كايمان بولس رسولك. قدّس عائلاتنا المسيحية لتكون المربية للايمان والقيم الانسانية والروحية بوصفها كنيسة منزلية. اعطنا ان ندخل في عمق الاتحاد بالثالوث القدوس في الليتورجيا المقدسة، ومن معينها نأخذ النور والقوة لبناء وحدتنا الداخلية ووحدة الجنس البشري. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . عظة البابا بندكتوس السادس عشر في بازيليك القديس بولس خارج الاسوار في روما بتاريخ 28 حزيران 2008، لافتتاح السنة البولسية.

[2] . انظر الرسائل المختصرة بهذه الموضوع في كتاب " بطاركة الموارنة واساقفتهم في القرن 18"، للاباتي بطرس فهد،صفحة 214-233.

[3] . انظر الرسالة في المرجع نفسه،صفحة 237-238.

[4] . انظر هذه الرسائل في المرجع نفسه،صفحة 239-245، و248-253.

 


 

بشارة مريم العذراء

غلاطية 3/15-22

لوقا 1/26-38

 

مخطط الله الخلاصي: وعد وتحقيق

 

         بالبشارة لمريم تحقق مخطط الله الخلاصي الذي يشمل جميع البشر. لقد وعدهم الله بالخلاص منذ سقطة آدم وحواء، عندما قال للحية رمز الشيطان ابي الكذب: " اضع عداوة بينك وبين المرأة، بين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وانتِ تتربصين عقبه" (تكوين3/15). هذا النسل هو المسيح، ابن الله المتجسّد، الذي بموته يكفّر عن الخطيئة وبقيامته يبرّر الانسان التائب. هذا الوعد الخلاصي " كان لابراهيم ولنسله" الذي هو المسيح (تك12/7؛ غلاطية 3/16). وهو المسيح الكلي " الرأس والجسد" حسب تعبير القديس اغسطينوس، " اي الكنيسة التي هي اداة الخلاص الشامل للذين يؤمون.

         من الوعد لآدم وحواء الى الوعد لابراهيم فالى تحقيقه بالمسيح، يتبين ان الكتب المقدسة تشكّل كتاباً واحداً هو المسيح، لانها كلها تتكلم عن المسيح وتجد اكتمالها فيه (Ugo di San Vittore). وقال القديس امبروسيوس: " في الكتب المقدسة نقرأ المسيح" ( خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلة الاربعاء العامة، 24 ايلول 2008).

 

***

 

اولاً يوبيل القديس بولس وشرح نصي الرسالة والانجيل[1]

 

         في حدث لقاء المسيح القائم من الموت بشاول – بولس على طريق دمشق، وقد ادّى الى ارتداده وجعله رسول يسوع المسيح لاعلان الانجيل، ظهر سرّ الكنيسة التي علّم بولس سرّها في رسائله.

         سأله يسوع: شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" فاجابه بسؤال: " من انت؟" اجاب: "انا يسوع الذي تضطهده" (اعمال9/4). باضطهاده الكنيسة، شاول يضطهد يسوع نفسه. "انت تضطهدني"، بهذه الكلمة يتماهى يسوع مع الكنيسة كشخص واحد، ويبدّل حياة شاول، وينكشف سرّ الكنيسة جسد المسيح.

         بقيامته، لم يغادر الرب يسوع ارضنا ليكون في السماء، تاركاً جماعة من المؤمنين تساند قضيته. ليست الكنيسة جمعية تريد تعزيز قضية ما. لا يوجد في الكنيسة قضية، بل شخص هو يسوع المسيح "من لحم وعظام"، كما اكّد للرسل بعد قيامته (لو24/39). انه حاضر شخصياً في الكنيسة، هو رأسها وهي جسده. هذا هو " المسيح الكلي" الذي كتب عنه بولس الرسول الى اهل كورنتس: " ألا تعلمون ان اجسادكم هي اعضاء المسيح؟ وان من يتحّد بالرب يصير واياه روحاً واحداً؟" (1كور6/15-16).

         هنا ينكشف سرّ القربان: فيه الكنيسة تعطي جسد المسيح،وهو يصنع منها جسده، على ما يقول بولس الرسول: " أليس الخبز الذي نكسره شركة في جسد المسيح. وبما ان الخبز واحد، فنحن الكثيرون جسد واحد، لاننا جميعاً نشترك في الخبز الواحد" (1كور10/16-17).

         من خلال كلام بولس وحدث ارتداده وما انكشف من سرّ الكنيسة، يقول لنا المسيح، ونحن في انشقاقاتنا وخلافاتنا المتمادية: "كيف استطعتم ان تمزقوا جسدي؟". يا رب، اجمعنا واخرجنا من انقساماتنا. اعدنا الى حقيقتنا الاولى بخبزك الواحد، لكي نؤلف نحن الكثيرين جسدك الواحد".

 

         2. شرح الرسالة الى اهل غلاطية 3/15-22

 

أَيُّهَا الإِخْوَة، كَبَشَرٍ أَقُول: إِنَّ الوَصِيَّة، وإِنْ كَانَتْ مِنْ إِنْسَان، إِذَا أُقِرَّتْ، لا أَحَدَ يُبْطِلُهَا أَو يَزِيدُ عَلَيْهَا. فالوُعُودُ قِيْلَتْ لإِبْراهِيمَ وَلِنَسْلِهِ. ومَا قِيْلَتْ: "ولأَنْسَالِهِ"، كأَنَّهُ لِكَثِيرِين، بَلْ  "وَلِنَسْلِكَ"، كَأَنَّهُ لِوَاحِد، وهُوَ الـمَسِيح! فأَقُولُ هـذَا: إِنَّ وَصِيَّةً سَبَقَ اللهُ فأَقَرَّهَا، لا تُلْغِيهَا شَرِيعَةٌ جَاءَتْ بَعْدَ أَرْبَعِ مِئَةٍ وثَلاثِينَ سَنَة، فَتُبْطِلُ الوَعْد. وإِذَا كَانَ الـمِيرَاثُ مِنَ الشَّرِيعَة، فَهُوَ لَمْ يَعُدْ مِنَ الوَعْد؛ والـحَالُ أَنَّ اللهَ بِوَعْدٍ أَنْعَمَ بِالـمِيرَاثِ على إِبرَاهِيم. إِذًا فَلِمَاذَا الشَّرِيعَة؟ إِنَّهَا أُضِيفَتْ بَسَبَبِ الْمَعَاصِي، حَتَّى مَجيءِ النَّسْلِ الَّذي جُعِلَ الوَعْدُ لَهُ. وقَدْ أَعْلَنَهَا مَلائِكَةٌ على يَدِ وَسِيطٍ، هُوَ مُوسى. غيرَ أَنَّ الوَاحِدَ لا وَسيطَ لَهُ، واللهُ واحِد! إِذًا فَهَلْ تَكُونُ الشَّرِيعَةُ ضِدَّ وُعُودِ الله؟ حاشَا! فَلَو أُعْطِيَتْ شَرِيعَةٌ قَادِرَةٌ أَنْ تُحْيي، لَكَانَ التَّبْرِيرُ حَقًّا بِالشَّرِيعَة. ولـكِنَّ الكِتَابَ حَبَسَ الكُلَّ تَحْتَ الـخَطِيئَة، لِكَيْمَا بالإِيْمَانِ بيَسُوعَ الـمَسِيحِ يُعْطَى الوَعْدُ للَّذِينَ يُؤْمِنُون.

 

         يؤكد بولس الرسول ان الخلاص يأتي من الايمان بالمسيح، لا من الشريعة. الاطار الذي يكتب فيه بولس هو ان نشاطه الرسولي بين الوثنيين تعرّض لمقاومة دائمة من لدن مسيحيين الذين يعودون الى اصل يهودي. هؤلاء كانوا يقولون: اذا لم تختتنوا على شريعة موسى، لا تستطيعون ان تنالوا الخلاص" ( اعمال15/1). وبهذا ارادوا ان يفرضوا على المؤمنين من اصل وثني نير الشريعة الموسوية.

فكتب بولس ان الوعد الذي قطعه الله لابراهيم ونسله، وهو المسيح، لا تبطله شريعة موسى التي جاءت بعد 430 سنة ( غلا16-17). واضاف: الشريعة أضيفت بسبب المعاصي حتى مجيء النسل الذي جُعل الوعد له. بكلام آخر، اعطيت الشريعة من اجل تحصين الوعد. فلو " كانت الشريعة قادرة ان تخلّص، لكان التبرير حقاً منها" (غلا3/19-21). لكن الشريعة  اعطيت كمربٍّ لتقود الشعب الى المسيح (غلا3/24). الشريعة مقدسة وروحية وصالحة لكنها غير كاملة، ولا تعطي من ذانها القوة ونعمة الروح القدس. بل هي المرحلة الاولى في الطريق الى ملكوت الله، تهيء الشعب المختار وكل مسيحي للايمان والتوبة ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1963).

الشريعة حرف، والايمان المترجم بالاعمال روح. يقول بولس في موضع آخر: "الحرف يقتل، اما الروح فيحيي" (2كور3/6)، وايضاً الختان الحقيقي هو ختان القلب العائد الى الروح، لا الى حرف الشريعة، ويعني حياة الامانة لله بتنقية القلب. يقول الرب يسوع: " من باطن الناس، من قلوبهم ، تنبعث المقاصد السيّئة والفحش والسرقة والقتل والطمع والخبث والمكر والحسد والشتّم والكبرياء" ( مر7/21-22).

 

         3. بالبشارة لمريم يتحقق مخطط الله الخلاصي (لوقا1/26-38)

عندما سقط  في الخطيئة آدم وحواء، وعد الله الغني بالرحمة بالخلاص، هو الذي خلق الانسان بفيض من حبه ليشركه في مجده الالهي، ورسم مخططه الخلاصي في اعقاب الخطيئة الاصلية، تلك الخطيئة التي ألقت بثقلها على التاريخ البشري. فقال للحية، رمز الشيطان، على مسمع الانسان الاول: " اضع عداوة بينك وبين المرأة، بين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وانت تترصدين عقبه" (تك3/15). تحقق الوعد بالبشارة لمريم، فاتى" نسل المرأة"، ابن الله المتجسد يسوع المسيح، ليقتلع شرّ الخطيئة من جذوره، " ساحقاً رأس الحية". انه صراع عنيف يتواصل ويرافق تاريخ البشر, بين النعمة والخطيئة، بين الخير والشر، يتكشف لنا في اول صفحة من تاريخ الخلاص  بقتل قايين اخاه هابيل (تك 4)، وفي آخر صفحة منه بالصراع القائم بين قوى الشر، المتمثلة بالتنين، والكنيسة، في سفر رؤيا يوحنا (فصل 12) الذي ينشر الصفحات الاخيرة من تاريخ الكنيسة والعالم (ام الفادي،11).

         ليست البشارة حدثاً ينتهي في الماضي، بل هي في آن بشرى مستمرة للبشرية بان الكلمة النهائية ليست لقوى الشر، مهما عظمت، بل لله الذي خلق الكون، وافتداه بدم الابن الوحيد، وتواصل لوساطة مريم، ام الفادي، التي " تشفع باخوة ابنها الذين لم تنتهِ بعد مسيرتهم، او الذين يتخبطون في مخاطر هذا العالم ومحنه حتى يبلغوا الى الوطن السعيد" بفضل هذه الوساطة، تدعو الكنيسة سيدتنا مريم العذراء:  "المحامية والمعينة والمغيثة والشفيعة" (الدستور العقائدي " في الكنيسة"،62).

         ان وسيط الخلاص الأوحد هو يسوع المسيح،، على ما تعلّم الكنيسة مع بولس الرسول، ان ليس لنا الاّ وسيط واحد، " لان الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الانسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فداء عن الجميع" (1 تيمو2/5-6). اما وساطة مريم فهي وساطة في المسيح، اعني اشتراكاً في وساطة المسيح، بحيث ان مريم الام هي السند الذي يربط المؤمنين بشكل اوثق بابنها الوسيط والمخلص، وتتم اتحادهم به. هذا الدور ينطلق من امومتها الالهية التي اشركتها اشراكاً وسيع المدى بعمل الفداء، واضحت لنا اماً على صعيد النعمة، ما جعلها حاضرة حضوراً فريداًَ في سرّ الخلاص، سرّ المسيح والكنيسة. ان فاعليتها في مجال خلاص البشر تنبع من استحقاقات المسيح ابنها الذي هو المصدر الاوحد للاستشفاع، ومن استعداد الله الآب لكل عطاء مجاني. ولهذا نقول ان " وساطتها تابعة"، فهي  "الوسيطة لدى الوسيط"، ووساطتها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بامومتها، وهذا ما يتميز عن وساطة الخلائق الاخرى التابعة لوساطة المسيح ( ام الفادي، 38 في الكنيسة، 60-62).

         ان يدعوها الملاك جبرائيل في تحيته " الممتلئة نعمة" يعني ان امتلاءها من النعمة ومن الحياة الفائقة الطبيعة جعلها اول من يختبر ثمار وساطة المسيح الوحيدة بين الله والناس، واعدّها بشكل خاص للمشاركة مع المسيح في وساطته، هو الوسيط الاوحد لخلاص البشر. هذه المشاركة هي وساطتها التابعة لوساطة المسيح ( ام الفادي،39).

         اما ان تسمي مريم نفسها " انا امة الرب"، فقد عبّرت عن استعدادها الكامل لخدمة المسيح ابنها بحيث تقود اليه، بوساطتها، جميع البشر، في التواضع والصبر. بسبب هذه الخدمة، النابعة من كونها ممتلئة نعمة، رفعت، بانتقالها الى السماء بنفسها وجسدها، الى مجد الملوكية، فاضحت "ملكة الكون" دون ان يتوقف دورها الخلاصي كام وسيطة " حتى يتم بشكل نهائي عقد المختارين" ( في الكنيسة،62). هذه التي كانت امينة لاتحادها بابنها حتى الصليب، تواصل اتحادها به في السماء، وتتوسط لديه " حتى يتجدد كل شيء في المسيح" ( افسس1/10)، سرّ الانتقال الى السماء حقق نهائياً في مريم، امة الرب، ثمار وساطة المسيح، فادي العالم والقائم من الموت والوسيط الوحيد، وجعلها مرتبطة بالمسيح برباط وثيق لا ينفصم، وصاحبة دور وسيطة الرحمة لكي يحيا الجميع، تحقيقاً لكلمة بولس الرسول: " فكما ان في آدم يموت الجميع، كذلك ايضاً في المسيح سيحيا الجميع" ( 1 كور 15/22). وهكذا جعل المسيح " امة الرب"، وهي امه، اما للكنيسة: " هذه امك" (يو19/27) ( ام الفادي،40). انها الام بالنعمة للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها متممين مشيئته (متى11/38 ومر 3/35)، وهي توجههم: " افعلوا ما يقوله لكم" (يو2/5).

         هذا هو مخطط الله الخلاصي الذي تحقق بالبشارة لمريم، " المباركة في النساء". انها البركة التي غمر بها الله الآب في المسيح البشر اجمعين، ومريم بشكل خاص واستثنائي. ان مخطط الله لخلاص الانسان في المسيح مخطط عام يشمل البشر اجمعين. كما انهم منذ البدء داخلون جميعاً في عمل الخلق، فهم منذ الازل ايضاً موضوع مخطط الخلاص الذي سيعلن بالمسيح: " تبارك الله ابو ربنا يسوع المسيح الذي غمرنا بكل بركة روحية في المسيح. فقد اختارنا فيه عن محبة، من قبل انشاء العالم، لنكون قديسين وبغير عيب امامه وحدد بمرضاته ان نكون له ابناء بيسوع المسيح، الذي لنا فيه الفداء بدمه، ومغفرة الزلات، على حسب غنى نعمته" (افسس 1/4-7).

 

1.     العائلة مربيّة على حقيقة الانسان والزواج

استعداداً للقاء العالمي السادس للعائلات مع قداسة البابا في المكسيك (16-17) كانون الثاني 2009): بعنوان "العائلة مربية على القيم الانسانية والمسيحية"، نطرح الموضوع الثاني من المواضيع التحضيرية العشرة التي اعدّها المجلس الحبري للعائلة، وهو : العائلة مربية على حقيقة الانسان والزواج.

في البشارة لمريم انكشفت حقيقة الانسان والزواج في شخصها وشخص يوسف، وفي شخص ابنها يسوع، ابن الله المتجسّد، كما انكشفت في البشارة حقيقة الانسان والزواج في شخص كل من زكريا واليصابات وابنهما الموعود يوحنا. ما يعني ان الانسان وحقيقة الزواج تأتي من الله. فلا يمكن مقاربة حقيقة الانسان وحقيقة الزواج إلا بمعرفة الله وتصميمه الخلاصي. المشكلة اليوم هي ان هذه الحقيقة ضائعة لسببين: الاول جهل الله بانكار وجوده او بوضعه جانباً في حياة الانسان التاريخية ما يُسمى " الالحاد المادي" او الالحاد المعاصر"، وما يُسمى ايضاً اللادارية"؛ الثاني تيّار النسبية الذي يعتبر ان لا وجود لحقيقة موضوعية تختص بالانسان وبالتالي بالزواج والعائلة. وينفي وجود قواعد خلقية وقيم ثابتة.

للعائلة اليوم مهمة، لا يسعها التخلّي عنها وهي ان تنقل الى الاولاد حقيقة الانسان كما يرويها سفر التكوين: يوجد اله شخصي صالح، خلق الرجل والمرأة متساويين في الكرامة ومتمايزين ومتكاملين بالرجولة والانوثة. باركهما في الزواج واعطاهما رسالة انجاب البنين باتحادهما غير قابل الانفضام، وقد جعلهما جسداً واحداً (تكوين 1/27 و28؛ 2/18 و24).

 

***

 

 ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

1.     البطريرط طوبيا الخازن (1756-1766)

 كان انتخابه في 28 شباط 1756 في دير مار يوسف عينطوره الذي كان يومها في عهدة الآباء اليسوعيين. ثبتّه في الانتخاب البابا بندكتوس الرابع عشر في 30 نيسان 1757 ومنحه  درع التثبيت[2].

البطريرك طوبيا الخازن كان من المطارنة الذين كانوا في المجمع اللبناني (1736). هذا المجمع نظّم العلاقة بين الكنيسة المارونية والسلطة المدنية ولاسما  "جماعة الحكم المدني الماروني، في اطار الامارة الشهابية (1697-1842) في العهد العثماني (1516-1918). اهم ما جاء في هذه العلاقة: احترام الاكليريكيين وضمان حقوقهم، المحافظة على حرية الكنيسة في المعتقد والممارسة والعبادة، منع المسلمين من دخول الكنائس ومن اعتقال متهمّين في داخلها، ومن محاصرة المراكز الكنسية على اختلاف انواعها، المعاملة العادلة للموقوفين، التهديد بالحرم الكبير لمن يسنّ شرائع تقمع الحرية الكنسية.

مارس البطريرك طوبيا الخازن مسؤولياته من ضمن قواعد هذه العلاقة. وساس الكنيسة المارونية بكل غيرة ونشاط باذلاً الجهود والتضحيات، ولقى العضد من نفوذ عائلته آل الخازن لما لها من ايادٍ بيضاء على الطائفة المارونية وسائر الطوائف المسيحية.

في عهده بدأ انقسام رهبانية مار انطونيوس المعروفة باللبنانية سنة 1760 الى رهبانيتين: البلدية التي اصبحت اليوم " اللبنانية المارونية"، والحلبية التي اصبحت "المريمية المارونية". وقد عمل جاهداً على عدم قسمتها من دون جدوى بسبب اختلاف العقلية والتطوّر العلمي بين اللبنانيين والحلبيين[3]، الى ان ثبّت الكرسي الرسولي هذه القسمة سنة 1770.

توفي البطريرك طوبيا الخازن في عجلتون في 19 ايار 1766، ودفن في كنيسة السيدة الخاصة بالعائلة الخازنية.

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي الثاني عشر: اليتورجيا، وتحديداً أبعاج الليتورجيا المارونية التي هي الضامنة لهوية الموارنة في لبنان وعالم الانتشار، والتي هي مدرسة ايمان تنير طريق المؤمنين بانوار الملكوت (الفقرات 17-24).

1.     البعد الثالوثي في تدبير الخلاص

تدور الليتورجيا حول محور تدبير الخلاص الذي دبّره الله الثالوث: الآب الخالق والمحب للجنس البشري، الابن الذي تجسّد وافتدى البشرية بموته على الصليب واحياها بقيامته، الروح القدس الذي يؤتي ثمار الفداء في حياة المؤمنين ويقود الكنيسة الى تحقيق عمل الله الخلاصي.

 

2. البعد الكريستولوجي

البُعد المسيحاني يشمل الحدثين الاساسيين: التجسّد والدنح والرسالة التبشيرية من جهة، والموت على الصليب تكفيراً عن الخطايا والقيامة من الموت لتبرير المفتدين من جهة ثانية. هذا البعد يطبع حياة المسيحيين في عيش معموديتهم التي تدرجهم في جسد المسيح، وتشركهم في سرّ موته وقيامته.

 

 البُعد الاسكاتولوجي

انه البُعد النهيوي الذي يكشف روحانية سبت النور في الليتورجيا المارونية، وانتظار فجر القيامة، وترقب مجيء الرب يسوع في الحياة اليومية وفي نهاية الازمنة: "تعال، ايها الرب يسوع" " ماراناتا".

 

4.البُعد الكريمي

الليتورجيا المارونية مريمية بامتياز. فاللاهوت المريمي واضح في كل نصوصها الليتورجية: مريم ام الاله، ومريم الام والبتول، ومريم الشفيعة القديرة، ومريم ام المخلص وشريكة الفداء.

 

2.     البُعد الكتابي

تتأصل الليتورجيا المارونية في الكتاب المقدس وتجعل منه ينبوعاها ومصدر روحانيتها. تصلي كلمة الله، وتتأصل فيها وتعلنها نثراً وشعراً، وتوزعها زاداً للمؤمنين.

 

6. البُعد الرهباني

تزخر الليتورجيا المارونية بالطابع الرهباني: صلاة الساعات، التوبة، الزهد، السير على خطى المسيح، حمل الصليب، الصوم، الانحناء، والسجود.

 

7. البُعد الانساني

تعكس الليتورجيا الاختبارات المتعددة التي مرّت بها الكنيسة المارونية، من آلام واضطهاد وحروب وتهجير، الى افراح الشركة والتضامن والوحدة والمغفرة والمصالحة، الى امجاد الانتصار بقيادة الرب وتحرير الشعب وتمجيد القديسين. هذا، الى جانب الطابع الشعبي المميز بالبساطة والعمق في آن.

 

***

         صلاة

         ايها الرب يسوع، بالبشارة لمريم تحقق الوعد الالهي بخلاصنا. اعطنا، بشفاعة امنا العذراء مريم، ان ننفتح لهذا الخلاص، وان نتشدد بالرجاء وسط المحن، مؤمنين بأن مواعيد الخلاص تتحقق عندما يرى الله ذلك مناسباً. فليساعدنا مثال القديس بولس وتشفعه في هذه السنة اليوبيلية على ألاّ نتقيّد بحرف الشريعة الذي يقتل بل بروحها وبالايمان الذي يحيي. ولتنكشف لنا، في ضوء البشارة لمريم، حقيقة الانسان وكرامة الزواج وقدسية العائلة. ألهم رعاة الكنيسة، اساقفة وكهنة، حسن الاداء الليتورجي واصلاحه وتعزيزه، لكي يغتني المؤمنون من أبعاد ليتورجيتنا وثمارها، ويلجوا الى عمق الاتحاد بالآب والابن والروح القدس، اله واحد له المجد والتسبيح والشكر، الآن والى الابد، آمين.


[1] . عظة البابا بندكتوس السادس عشر في افتتاح السنة البولسية، بازليك القديس بولس خارج الاسوار، في 28 حزيران 2008.

[2] . انظر المراسلات بين البطريرك وقداسة البابا في كتاب الاباتي بطرس فهد: " البطاركة الموارنة واساقفتهم في القرن 18،صفحة 256-265.

[3] . انظر المراسلات بين البطريرك ومجدمع نشر الايمان وقداسة البابا، المرجع نفسه، صفحة 266-271.
 


 

زيارة مريم لاليصابات

افسس1/1-14

لوقا 1/39-45

بداية الزمن المسيحاني: بركة الله الخلاصية

 

ان تفاعل الجنينين يسوع ويوحنا في بطن مريم واليصابات، وحلول الروح القدس في بيت زكريا، يشكلان بدء الزمن المسيحاني، زمن الخلاص. منذ ذاك اللقاء البشري بدأت تعمل القوة الفادية النابعة من حضور ابن الله بين البشر. اليصابات عاينت زيارة مريم، والجنين يوحنا السابق عاين مجيء المخلص، فتحرّك له في بطن امه.

***

اولاًً سنة يوبيل القديس بولس وشرح نصيّ الرسالة والانجيل

 

1.     بولس الرسول وتقليد الكنيسة الحي[1].

 لم يكن الانجيل مكتوباً عندما راح بولس يعلن انجيل يسوع المسيح. اي انجيل هو" هو سرّ المسيح الذي تلقاه بعد ارتداده من االرسل في اورشليم وتحديداً من بطرس ويعقوب ويوحنا الذين سماهم " أعمدة الكنيسة" (غلاطية 2/9). فقد اعلن في الكرازة ما سلّم من الرسل الذين عاشوا مع الرب. هذا هو تقليد الكنيسة الحي.

في الرسالة الاولى الى اهل كورنتس يتحدث عن الافخارستيا كعنصر محوري كوّن التقليد المسيحي والذي منه ولدت الكنيسة واعتذت كل يوم.

 

الافخارستيا ( 1كور13/23-26).

" انا تسلّمت من الرب ما سلّمته اليكم، هو ان الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها، اخذ خبزاً، وشكر وكسر وقال: هذا هو جسدي الذي يُكسر من اجلكم. اصنعوا هذا لذكري. كذلك بعد العشاء اخذ الكأس ايضاً وقال: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. فكلما شربتم منها، اصنعوا هذا لذكري. فكلما اكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تبشرون بموتي حتى مجيئي".

 

         هذه الكلمات كانت دوماً غذاء الكنيسة، وكشفت قيمة موت المسيح وقيامته. انها تنير لعنة الصليب وتحولّها الى بركة: " فالمسيح افتدانا من اللعنة، اذ صار لعنة من اجلنا، لانه مكتوب: ملعون كل من علّق على خشبة. وذلك لكي تصير بركة ابراهيم الى الامم في المسيح، فننال بالايمان الروح الموعود به" ( غلاطية 3/13-14).

         وبالنسبة الى بولس كان لهذه الكلمات تأثير عميق في علاقته الشخصية مع المسيح، فحوّل " من اجلكم" الى " من اجلي". وهذا ما ينبغي ان يعيشه ويختبره كل مؤمن ومؤمنة: " ان كنت انا الآن حياً في الجسد، فاني حيّ بايمان ابن الله، الذي أحبني وبذل نفسه من اجلي" ( غلاطية2/20).

         ثم يحوّل " من اجلكم" الى " من اجل الكنيسة": " المسيح أحب كنيسته، فبذل نفسه من اجلها، لكي يقدسها مطهراً اياها بغسل الماء والكلمة" ( افسس5/20).واخيراً يصبح من " اجل الجميع": " الجميع قد خطئوا. لكنهم يُبررون مجاناً بنعمة الله، بالفداء الذي تمّ في المسيح يسوع. وقد جعله الله كفارة عن الجميع بدمه، وبذلك أظهر الله برّه، اذ تغاضى عن الخطايا السافلة، ليبرر من هم على ايمان يسوع" ( روم3/23-26).

 

2.     شرح الرسالة الى اهل افسس 1/1-14

 

مِنْ بُولُس، رَسُولِ الـمَسِيحِ يَسُوعَ بِمَشِيئَةِ الله، إِلى القِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُم في أَفَسُسَ والأُمَنَاءِ  في الـمَسِيح يَسُوع: أَلنِّعْمَةُ لَكُم والسَّلامُ مِنَ اللهِ أَبِينَا والرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح! تَبَارَكَ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيح، الَّذي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ في السَّمَاوَاتِ في الـمَسِيح؛  فإِنَّهُ اخْتَارَنَا فيهِ قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَم، لِنَكُونَ في حَضْرَتِهِ قِدِّيسِين، لا عَيْبَ فينَا؛ وقَدْ سَبَقَ بِمَحَبَّتِهِ فَحَدَّدَنَا أَنْ نَكُونَ لَهُ أَبْنَاءَ بِالتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الـمَسِيح، بِحَسَبِ رِضَى مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا في الـحَبِيب؛ وفيهِ لَنَا الفِدَاءُ بِدَمِهِ، أَي مَغْفِرَةُ الزَّلاَّت، بِحَسَبِ غِنَى نِعْمَتِهِ، الَّتي أَفَاضَهَا عَلَيْنَا في كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْم؛ وقَدْ عَرَّفَنَا سِرَّ مَشِيئَتِهِ، بِحَسَبِ رِضَاهُ الَّذي سَبَقَ فَجَعَلَهُ في الـمَسِيح، لِيُحَقِّقَ تَدْبِيرَ مِلْءِ الأَزْمِنَة، فَيَجْمَعَ في الـمَسِيحِ تَحْتَ رَأْسٍ وَاحِدٍ كُلَّ شَيء، مَا في السَّماوَاتِ ومَا عَلى الأَرْض؛ وفيهِ أَيْضًا اخْتَارَنَا مِيرَاثًا لَهُ، وقَدْ سَبَقَ فَحَدَّدَنَا بِحَسَبِ قَصْدِهِ، هُوَ الَّذي يَعْمَلُ كُلَّ شَيءٍ بِقَضَاءِ مَشِيئَتِهِ، لِنَكُونَ مَدْحًا لِمَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ سَبَقْنَا  فجَعَلْنَا في الـمَسِيحِ رجَاءَنَا؛ وفيهِ أَنْتُم أَيْضًا، بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُم كَلِمَةَ الـحَقِّ، أَي إِنْجِيلَ خَلاصِكُم، وآمَنْتُم، خُتِمْتُمْ بِالرُّوحِ القُدُسِ الـمَوعُودِ بِهِ، وهُوَ عُربُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ شَعْبِهِ الَّذي اقْتَنَاه، ولِمَدْحِ مَجْدِهِ.

 

يؤكد بولس الرسول ان بركة الله بلغت الينا بالمسيح، وانها تشملنا كل يوم: " تبارك الله ابو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السموات بالمسيح"  (افسس1/3).

ما هي البركة؟

انها عمل الله الذي يعطي الحياة النابعة من الآب. وهي في آن كلمة توحي (eu-logia)، وكلمة تعطي خيراً ( bene-dictio): " الله باركنا بكل بركة روحية"؛ وهي من جهة تسليم الانسان عبادة وتسليم لله الخالق في فعل شكر " تبارك الله". كل ما صنع الله منذ الخلق حتى نهية الازمنة هو بركة الهية عظيمة. في ليتورجيا الكنيسة تنكشف البركة الالهية تماماً وتُعلن للمؤمنين: فالآب يُعبد لانه ينبوع كل بركات الخلق والخلاص وغايتها. ويُعبد الابن، كلمة الله المتجسّد الذي مات وقام من اجلنا، لان به يفيض الآب علينا بركاته. ويُعبد الروح القدس لان بواسطته وبشخصه يسكب عطية الحياة الالهية فينا (كتاب التلعيم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1078-1082).

يحدد بولس الرسول في رسالة اليوم مضمون البركة الالهية الحاوية خمسة خيور:

الاختيار (4-5): اختيار الآب لنا منذ الابد لنكون مقدسين في المحبة وابناء له بالمسيح، ونكون نشيد التسبيح بمجد نعمته.

  الافتداء ( 6-7) اعطانا الآب الفداء بدم ابنه الحبيب، صافحاً عن خطايانا بمقدار نعمته الوافرة.

  الاطلاع على سرّ ارادته ( 8-9): اطلعنا الرب على تدبير الخلاص الذي أعدّه وحققه بالمسيح، ويواصل تحقيقه في الكنيسة وبواسطتها، ليسير بالازمنة الى كمالها وجمعها تحت رأس واحد هو المسيح.

الميراث الموعود (11-12): جعلنا الله ورثة السماء، ارض الميعاد، التي نضع فيها رجاءنا، ونحن ناشطين على ارضنا.

موهبة الاروح القدس (13-14): ختمنا الروح القدس على هديه نسمع كلمة الحق اي بشارة الخلاص، وبه ننال عربون الميراث الابدي.

والكل للتسبيح بمجد الله الذي تتحقق مشيئته ويتحقق في التاريخ تدبيره الخلاصي لجميع الناس (افسس1/12،6 و14).

 

3.     بركة الله المتجلية في زيارة مريم لاليصابات (لو1/39-45).

 

كشفت الزيارة حضوراً الهياً وحملت رسالة نبوية.

الحضور الالهي

مريم تزور اليصابات بكل بساطة لكي تؤدي لها خدمة، هي العجوز الحامل في شهرها السادس، مترجمة بالفعل وعلى الفور جوابها للملاك: " انا امة الرب " . وهذا  ما ستفعله في عرس قانا الجليل حيث انصرفت للخدمة، فاكتشفت فراغ الخمر، استحقت من ابنها يسوع اجراء آية تحويل الماء الى خمر فاخرة بكمية كبيرة، وبهذا ادّت الخدمة العظمى. مريم الخادمة هي صاحبة الحضور وسط الجماعة وفي الكنيسة.

         امتلأت اليصابات من الروح القدس بسبب حضور مريم. يقول القديس امبروسيوس : " الولد (يوحنا) تحرك وتهلل والام امتلأت من الروح القدس. لم تسبق الام طفلها الى الامتلاء من الروح القدس ، ولكن عندما امتلأ الابن من الروح القدس ، أسبغه على امه" (انظر انجيل الحياة،45).

         الروح اذن هو عطية الابن لامه. يقول كتاب " الاولاد ربيع العائلة والمجتمع " : ليس صحيحاً ان الطفل لا يقدم شيئاً للعائلة والمجتمع. ان الذين لا يدركون ان الحياة هبة من الله، ويرون فيها فقط معطيات احصائية، يعتبرون ان الطفل يطّل ليحتل مكاناً، في حين ان العالم يبدو أضيق يوماً بعد يوم. ولانهم يرون في ولادة طفل تعباً للاهل مرتقباً ، وعبئاً اقتصادياً، ومتطلبات عملية، فهم يرفضون ولادة اخرى(انظر المحور الاول : هبة الحياة).

         حيث المسيح، هناك الروح القدس: المسيح " يجود بالروح " على الكنيسة ليقدسها ويقودها الى الحقيقة ويشددها في المحن والمصاعب، ويجدد شبابها، ويوحي اليها بالمواقف النبوية. وحيث مريم، هناك الوساطة لدى المسيح ابنها. في بيت اليصابات جعلته حاضراً اذ حملته جنيناً في حشاها، وفي الكنيسة تشفع بنا لديه ليفيض نعمه علينا.

         ليست حياتنا مجرد وجود بل هي مدعوة لتكون حضوراً. فكن صاحب حضور. الحاضر يعطي بدون حساب، يبني، يشهد، يساهم في انماء الانسان والمجتمع. اطفالنا في بيوتنا اصحاب حضور: يعطون سعادة وفرحاً لوالديهم ولكل افراد اسرتهم. الكبار مدعوون ليكونوا هم ايضاً اصحاب حضور. هناك فرق كبير بين الوجود والحضور: قد يكون الوجود عبئاً على الآخرين، ووسيلة للاستفادة على حسابهم. اما الحضور فهو خدمة لهم واحترام وانماء. هذا من حيث المفهوم المنطقي. ولكن مطامع الناس تحوّل الحضور الى عبء في كل ابعاده، يستفيد منه البعض او يستقوون على حساب غيرهم، فتقع الفتنة الداخلية والانقسام، ويتحول الخير الذي بدأ اساساً مع الوجود والحضور، الى شرٍ، والصداقة الى عداوة.

         اللبنانيون اصحاب حضور في هذا الشرق العربي بثقافتهم: ثقافة الحرية والديموقراطية والحوار بين الثقافات والاديان والعيش معاً ، ثقافة الانفتاح على الشرق والغرب، ثقافة السلام مع الجميع. المسيحيون ايضاً اصحاب حضور في هذا الشرق. لقد توسع مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في هذا الموضوع في الرسالة الراعوية المشتركة التي عنوانها الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة. واعتبروه حضور ايمان وصلاة، حضوراً متجسداً في الثقافة والحضارة، حضور خدمة الانسان في شتى المجالات، حضوراً مسكونياً ، حضور حوار، حضوراً من اجل الانسان ، وحضوراً ذا بُعد عالمي".

 

         الرسالة النبوية

         كانت الزيارة للتأمل في السّر العجيب فاذا بها تتحول الى رسالة نبوية.

سافرت مريم من الناصرة الى بيت كارم، فاستغرق سفرها حوالي عشرة ايام لبعد المسافة، من اجل ان تخدم اليصابات اولاً، وتتأمل معها  في سرّ الله العجيب المتجلي بواسطتهما.في السفر الطويل راحت تتأمل في السّر الذي اوحاه لها الملاك، وفاضت في نفسها مشاعر العرفان لعظمة جودة الله. وحين دخلت بيت اليصابات قبل يوحنا، وهو في حشاها، الروح القدس، وشهد بلسان امه التي تنبأت بالاسرار الكبيرة المتممة من الله في مريم (لو 1/42-43): انها المباركة بين جميع النساء والممتلئة من نعمة الله ، والحامل بالمبارك الذي هو القدوس، ووالدة الاله الذي هو المسيح المنتظر، وصاحبة الايمان المطلق بالله

عبر عناصر هذه النبوءة يظهر سرّ الكنيسة ،كما نقرأ في رسالة البابا يوحنا بولس الثاني " ام الفادي ": فالبركة التي غمر الله بها الكنيسة في المسيح تلفّ البشرية كلها وتحمل الملء والشمولية . وباتت الكنيسة خميرة البركة للبشرية المفتداة. مريم هي النموذج والتحفة لهذه البركة الالهية التي جعلتها ابنة الآب وام الابن وعروسة الروح. ونحن الذين ننال البركة الروحية من السماء، بواسطة خدمة الكنيسة، خدمة الكلمة والنعمة، تصبح فينا هذه البركة واقعاً يصيّرنا " ابناء الله بالتبني في المسيح"، و" جماعة المفتدين بدم الحبيب". ان امومتها للمسيح التاريخي، اصبحت امومة للمسيح الكلي الكنيسة.

 

4.     العائلة مربية على كرامة كل شخص بشري واحترامه

 

يظهر من حدث الزيارة ان الجنينين هما شخصان معروفان في هويتهما ومنتظران، يسوع ويوحنا. ما يعني ان كل جنين هو شخص بشري بكل معنى الكلمة، وله كرامته واحترامه.

استعداداً للقاء العالمي السادس للعائلات مع قداسة البابا في مكسيكو (16-18 كانون القثاني 2009)، نعرض اليوم الموضوع " العائلة مربية على كرامة كل شخص بشري واحترامه". وهو الموضوع الثالث من سلسلة المواضيع العشرة التي اعدّها المجلس الحبري للعائلة، لهذه الغاية.

تقول الوثيقة " ان الاولاد المنتظرة ولادتهم هم اشحاص منذ لحظة الحبل بهم. ولا يمكن ان تتلف حياتهم بالاجهاض او بالاختبارات الطبية العلمية. اتلاف حياة ولد في مرحلة الجنين، بريء كلياً انما هو فعل عنف جسيم، وله مسؤولية خطيرة امام الله.

ترى الكنيسة في كل انسان الصورة الحيّة لله نفسه. وفيما المسيح يكشف لنا وجه الله في حقيقته، فانه يكشف الانسان للانسان، وما له من كرامة لا مثيل لها وغير قابلة للانتهاك. ذلك انه خلق على صورة الله ومثاله، ومعدّ ليكون ابناً لله بالتبني، بالابن الوحيد. ولهذا ليس الكائن البشري شيئاً ما، بل هو شخص بين اشخاص أخرين. وهو شخص مدعو ليدخل في علاقة شخصية مع الله، ويعيش معه.

 

***

 

ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

البطريرك يوسف اسطفان (1766-1793)

هو ابن الخوري جرجس اسطفان  من غوسطا، وله اربعة اخوة سلكوا كلهم طريق الكهنوت ومن بينهم شقيقه المطران بولس. وكان له عم مطران. درس في مدرسة روميه. وكان انتخابه بطريركاً في 9 حزيران 1766، فثبّته البابا اكليمنضوس الثالث عشر ( 1756-1769) في نيسان 1767)[2]. دامت  ولايته 27 سنة.

سكن في دير سيدة قنوبين، لكنه اضطر الى مغادرته قاصداً كسروان، بسبب مظالم الحكام. فجعل دير مار يوسف الحصن مقراً له، واقام فيه كل ايام حياته.

صبّ البطريرك جهده على ايفاء الديون المترتبة على الكرسي البطريركي وتنظيم الشؤون الكنسية وعقد مجمع طائفي.

 

1. بشأن الديون كتب الى مجمع نشر الايمان طالباً وساطة قداسة البابا لدى ملك فرنسا لتسديد الديون المترتبة على الكرسي البطريركي في قنوبين الذي دُمّر وخربت ارزاقه، وترتبت عليه اكلاف ميرة وظلم ومصاريف[3].

2.بالنسبة الى تنظيم شؤون الكنيسة، كتب البطريرك الى مجمع نشر الايمان طالباً تثبيت المطالب المختصة بتنفيذ احكام المجمع اللبناني، وهي تتعلق بالابرشيات ومطارنتها والرهبان والراهبات. فاثبتها البابا ببراءة في 2 آب 1767.

3. اما المجمع الطائف  فعقده البطريرك في دير مار يوسف الحصن بغوسطا من 16 الى 21 ايلول 1768 بحضور قاصد رسولي لتنفيذ المطالب المذكورة التي اثبتها الحبر الروماني. وأصدر قانوناً يتعلّق بالولاة المدنيين، يضع حداً لتدخلهم في الشؤون الكنسية، دفاعاً عن استقلالية الكنيسة وحريتها في ادارة شؤونها, اثبت الكرسي الرسولي هذا المجمع في 11 كانون الاول 1769، في احكامه المتوافقة مع رسوم المجمع اللبناني واهمل تلك المتباينة معها.

واجهت البطريرك يوسف اسطفان احداث حالت دون امكانية ما كان يصبو اليه بغيرته النهضوية. نذكر منها:

1) قسمة الرهبانية الى بلدية وحلبية، وتثبيتها من البابا اكليمنضوس الرابع عشر (1769-1774) ببراءة مؤرخة في 19 تموز 1770، من بعد ان فشلت كل المحاولات للحؤول دون اجراء هذه القسمة.

2) المظالم والتعديات التي كانت تتعاظم في لبنان وقبرص وحلب على يد المنشقين عن الكنيسة الكاثوليكية والحكام المسلمين. كتب البطريرك عنها الى ملك فرنسا لويس الخامس عشر، طالباً الحماية في 13 حزيران 1767، والى الكرسي الرسولي في 2 كانون الثاني 1771[4].

3) قضية الراهبة هندية وجمعيتها، وقد شغلت الطائفة المارونية والكرسي الرسولي.

4) تحامل بعض المطارنة والرهبان على البطريرك وعقد مجمع وترتيب شكاوى ضد البطريرك رفعوها الى الكرسي الرسولي في 29 تشرين الاول 1769 والامير يوسف شهاب[5]. وهي احداث دامت من سنة 1769 حتى 1762، وشلّت عمل البطريرك بالكلية.

5) الطلب من قبل الكرسي ان يسافر البطريرك الى رومية لبحث موضوع الشكاوى. وفيما كان مسافراً عن طريق حيفا وتوقف في دير الكرمل بسبب مرضه الشديد، عقد النائب البطريركي ميخايل الخازن والقاصد الرسولي مجمعاً طائفياً في دير سيدة ميفوق في 21 تموز 1780 دام خمسة ايام. لكن المطارنة الثلاثة الذين لم يحضروا كتبوا رسائل احتجاج الى الكرسي الرسولي، وكذلك فعل البطريرك وكانت اجوبة[6].

بعد عودة البطريرك، وقد غاب عن البطريركية اربع سنوات (1780-1784)، عقد مجمع شقيق قرب وطا الجوز في 6 تموز 1787، حضره المطارنة والرؤساء العامين والاكليروس ومشايخ آل الخازن وحبيش والدحداح والحواقل وبيطار والخوري وصالح والشلفون وجرجس باز وغيرهم. لم يثبّته الكرسي الرسولي لان بعض احكامه مجحفة بحرية الاساقفة وحقوقهم. فأمر بعقد مجمع آخر، عقده البطريرك في بكركي في 13 كانون الاول 1790، وهو من اهم المجامع المارونية بعد المجمع اللبناني الشهير. كانت الغاية منه تطبيق اعمال هذا المجمع، وتقرر فيه تعيين دير بكركي كرسياً بطريركياً. ثبّت الكرسي الرسولي اعماله. أما قرار جعل دير بكركي كرسياً بطريركياً فقد ثبّته الكرسي الرسولي في 10 حزيران 1793.

ثم كتب البطريرك الى ملك فرنسا لويس السادس عشر طالباً منه ان يمنح الشيخ غندور سعد الخوري قنصلة بيروت، جزاء الخدم والمساعي الحسنة التي بذلها في سبيل الطائفة وانجاح مجمع شقيق (وطا الجوز)، وان يجدد الحماية للطائفة المارونية. فلبّى الملك طلب البطريرك المزدوج بفرمان عال في 4 آب 1887.

وفي سنة 1789 حوّل البطريرك دير عائلته مار انطونيوس عين ورقه، الذي كان للعبادات، الى مدرسة اكليريكية للطائفة المارونية، بعد التشاور مع اخيه المطران بولس اسطفان وافراد عائلته، وذلك بطلب ملّح من قنصل فرنسا في بيروت الشيخ غندور سعد الخوري، نظراً لحالة الكهنة الثقافية الضعيفة[7].

توفي البطريرك يوسف اسطفان في دير مار يوسف الحصن مقرّه البطريركي في غوسطا، وله من العمر 64 سنة، ودُفن في كنيسة الدير.

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتقبل النص المجمعي الماروني

 

تتقبل الخطة الراعوية الفصل الرابع من النص المجمعي 12: الليتورجيا، وهو بعنوان: تجديد الليتورجيا المارونية. انه يتناول ضرورة التجديد ومبادئه (الفقرات 25-27).

 

1. التجديد الليتورجي ضروري، لان الليتورجيا هي صلاة الكنيسة الحيّة وعليها ان تخاطب انسان اليوم، معانيها ورموزها، ويشارك فيها بطريقة واعية وفعّالة ومثمرة. يقوم التجدد على العودة الى التقاليد الثابتة مع القراءة للواقع الراعوي والتطور ضمن الخط الليتورجي السليم، وفي كل ذلك تجب المحافظة على العمق اللاهوتي والاصالة الروحانية.

 

 

1.     اما مبادىء التجديد فهي:

أ‌-        الانطلاق من الاصالة الليتورجية الانطاكية السريانية المارونية وحفظ هويتها من كل دخيل يتعارض معها.

ب- استحداث صيغ طقسية بالعودة الى جذورها وثوابتها الكتابية واللاهوتية وتطويرها ضمن الخط التقليدي لتلبية  حاجات اليوم، وتطلعات الجماعات المؤمنة المتنوعة.

ج- جعل الرتب الطقسية رعوية وشعبية من اجل مشاركة واعية ومثمرة في كل ازمنة الدورة الطقسية المرتكزة على سرّ المسيح.

د- استخدام لغة طقسية سهلة الصيغة وواضحة المعنى وغنية بالروحانية الكتابية واللاهوتية، تساعد الجماعة على الدخول في دينامية الصلاة.

 

***

صلاة

ايها الرب يسوع، انت القائم من الموت، حيّ معنا في الكنيسة وبواسطتها، وحاضر فعلياً ودينامياً في سرّ القربان، في استمرارية ذبيحة الفداء عن خطايانا، ووليمة الحياة الالهية فينا، باركنا بكل بركة روحية من السماء، اطلعنا بروحك القدوس على سرّ مشيئة الآب السماوي، وقد اختارنا لنشيد باسمه بين الشعوب ونشهد لمحبته. يا مريم، كوني في زيارة دائمة لنا في العائلة والمجتمع والكنيسة، واحملي لنا ثمار الخلاص بابنك يسوع، ولتمتلىء بيوتنا من انوار الروح القدس والفرح الروحي. اجتذبنا يا رب الى لقائك والاتحاد بك في الليتورجيا المقدسة، فتمتزج اصواتنا مع اجواق ليتورجيا السماء في نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة الاربعاء 24 ايلول 2008.

[2] . انظر براءة التثبت في " بطاركة الموارنة واساقفتهم في القرن 18 ً للاباتي بطرس فهد، صفحة 276-278.

[3]  انظر الرسائل بهذه الشأن في المرجع نفسه، صفحة 279-280.

[4] . انظر الرسائل في المرجع المذكور، صفحة 285-289.

[5] . انظر بشأنها وبالرسائل المتبادلة بين المعترضين والكرسي الرسولي وافعال الامير ومراسلات البطريرك في المرجع نفسه، صفحة 290.

[6] . انظر الرسائل وجواب الكرسي في المرجع نفسه، صفحة 319-354.

[7] . انظر فرمان الملك في المرجع نفسه، صفحة 457.

 


 

  مولد يوحنا المعمدان

غلاطية 4/21-5/1

لوقا 1/57-66

تحقيق الوعد بتجلي رحمة الله

 

         مولد يوحنا المعمدان يحقق الوعد. فمولده، تجلٍ لرحمة الله التي تغمر البشرية جمعاء، وقد ظهرت في هبة الولد لزوجين عاقرين افتقدهما الله برحمته، وفي عودة النطق الى زكريا كعلامة بأن وعود رحمة الله تتحقق في اوانها. ومولد يوحنا السابق هو اعلان للرحمة الالهية التي ستحمل اسماً في التاريخ هو " يسوع المسيح". ان الشعب المسيحي مدعو ليحمل لعالمه حضارة الرحمة.

 

***

اولاً يوبيل بولس الرسول وشرح نصيّ الرسالة والانجيل

 

1.     بولس الرسول وتقليد الكنيسة الحي: سرّ القيامة[1]

عرف بولس الرسول من تقليد الكنيسة الحي سرّ القيامة، قبل ان تُدوّن الاناجيل. فكما تسلّمه من الرسل، سلّمه كتابةً للكنيسة الناشئة. فكتب في الرسالة الى اهل كورنتس: "اني قد سلّمت اليكم اولاً ما انا تسلّمته، وهو ان المسيح مات من اجل خطايانا، وانه قُبر، وانه أقيم في اليوم الثالث، كما جاء في الكتب، وانه ظهر لكيفا-بطرس ثم للاثني عشر" (1كور15/3-5).

ويشرح في موضوع آخر ان "المسيح مات من اجل خطايانا"، فيقول: "ان الذي ما عرف الخطيئة، جعله الله خطيئة من اجلنا، لنصير نحن بّر الله" ( 2كور5/21). علّق مرتان لوثير، عندما كان بعد راهباً اغسطينيا،ً على هذا النص: " هذه هي عظمة سرّ النعمة الالهية تجاه الخطأة: فبتبادل عجيب، خطايانا ليست بعد خطايانا بل خطايا المسيح، وبرّ المسيح ليس بعد برّه بل برّنا" (تعليق على المزامير من 1513 الى 1515).

ان قيامة المسيح فاعلة حتى الساعة في وجود المؤمنين، بمعنى ان يسوع قام وما زال يحيا في سرّ القربان وفي الكنيسة. وقال: " هكذا نحن – انا والرسل وتلاميذ الرب الذين ظهر لهم- نبشّر، وهكذا انتم آمنتم" (1كور15/11). انه المسيح الذي "ولد بحسب الجسد من نسل داود وجُعل بحسب روح القداسة ابن الله بقوة اي بالقيامة من بين الاموات. به نلنا النعمة والرسالة لكي نهدي الى طاعة الايمان جميع الامم لمجد اسمه وانتم ايضاً من بينهم" ( روم1/5-6).

 

2. شرح الرسالة الى اهل غلاطية 4/21-5/1): احرار بالمسيح

        

قُولُوا لي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا في حُكْمِ الشَّرِيعَة، أَمَا تَسْمَعُونَ الشَّرِيعَة؟ فإِنَّهُ مَكْتُوب: كَانَ لإِبْراهيمَ  ابْنَان، واحِدٌ مِنَ الـجَارِيَة، ووَاحِدٌ مِنَ الـحُرَّة. أَمَّا الَّذي مِنَ الـجَارِيَةِ فقَدْ وُلِدَ بِحَسَبِ الـجَسَد، وَأَمَّا الَّذي مِنَ الـحُرّةِ فَبِقُوَّةِ الوَعْد. وفي ذـلِكَ رَمْزٌ: فَسَارَةُ وهَاجَرُ تُمَثِّلانِ عَهْدَين، عَهْدًا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ يَلِدُ لِلعُبُوديَّة، وهُوَ هَاجَر؛ لأَنَّ هَاجَرَ هيَ جَبَلُ سِينَاءَ الَّذي في بِلادِ العَرَب، وتُوافِقُ  أُورَشَليمَ الـحَالِيَّة، لأَنَّهَا في العُبُودِيَّةِ هيَ وأَوْلادُهَا. أَمَّا أُورَشَليمُ العُلْيَا فَهِيَ حُرَّة، وهِيَ أُمُّنَا؛ لأَنَّهُ مَكْتُوب: "إِفْرَحِي، أَيَّتُهَا العَاقِرُ الَّتي لَمْ تَلِدْ؛ إِنْدَفِعِي بِالتَّرْنِيمِ وَ اصْرُخِي، أَيَّتُهَا الَّتي لَمْ تَتَمَخَّضْ؛ لأَنَّ أَولادَ الـمَهْجُورَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَولادِ الـمُتَزَوِّجَة". أَمَّا أَنْتُم، أَيُّهَا الإِخْوَة، فإِنَّكُم أَوْلادُ الوَعْدِ مِثْلُ إِسْحـق. ولـكِن، كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الـمَولُودُ بِحَسَبِ الـجَسَدِ يَضْطَهِدُ الـمَوْلُودَ بِحَسَبِ الرُّوح، فَكَذ,لِكَ  الآنَ أَيْضًا. ولـكِن مَاذَا يَقُولُ الكِتَاب؟ " أُطْرُدِ الـجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّ  ابْنَ الـجَارِيَةِ لا يَرِثُ معَ  ابْنِ الـحُرَّة". إِذًا، أَيُّهَا الإِخْوَة، لَسْنَا أَوْلادَ جَارِيَة، بَلْ أَوْلادُ الـحُرَّة. إِنَّ الـمَسِيحَ قَدْ حَرَّرَنَا لِنَبْقَى أَحرارًا. فَاثْبُتُوا إِذًا ولا تَعُودُوا تَخضَعُونَ لِنِيرِ العُبُودِيَّة.

 

         يؤكد بولس الرسول ان المسيحيين كجماعة ليسوا ابناء الأمة بل ابناء الحرّة، اي ابناء ابراهيم بالايمان وبالتالي ابناء التدبير الالهي، وقد اكتملت حريتهم بالمسيح: "ان المسيح قد حرّرنا لنبقى احراراً. فاثبتوا اذاً ولا تعودوا تخضعون لنير العبودية" ( غلاطية 5/1).

         بهذا التأكيد يعود بولس الى الجذور، الى ابراهيم الذي كان له ابنان:اسماعيل من هاجر الأمة-الجارية " بحسب الجسد" اي من دون اي تدبير الهي، واسحق من زوجته ساره "بحسب الوعد"، وفقاً لتصميم الهي. من نسل اسحق كان الشعب الذي باركه الله من بين كل شعوب الارض.

         هاجر الأمة رمز لعهد الشريعة من جبل سينا في بلاد العرب، اورشليم الارض، وساره الحرة رمز للعهد الجديد، عهد الايمان النابع من اورشليم العليا الحرّة وهي امنا (غلاطية4/24-26).

         شريعة موسى محصورة في الزمن، مؤقتة ولا تعطي الخلاص. اما الايمان الذي من ابراهيم فيجمع شعباً كونياً، من كل شعوب الارض واممها. الوعد يقود هذا الشعب ويوحّده، ثم يتحقق في الحرية التي من المسيح. شعب الله الحق هو المتواجد من الوعد، والانتماء اليه يتمّ بالايمان. اما حالته فهي حالة حرية ابناء الله الذين حررّهم المسيح بكلمة الانجيل وذبيحة الفداء من الخطايا والقيامة لحياة جديدة بالروح القدس.

 

         3. مولد يوحنا المعمدان تحقيق لوعد الله الخلاصي (لوقا1/57-66).

         " اما اليصابات ، فلما حان وقت ولادتها وضعت ابناً " ( لو 1/57).

         كان وعد الله لزكريا يوم بشره الملاك: "ستلد لك امرأتك اليصابات ابناً، فسمّه يوحنا انه يعدّ للرب شعباً كاملاً  (لو1/13-17). عن يوحنا تنبأ ملاخي ( حوالي سنة 470 قبل المسيح ): " هاءنذا مرسل رسولي فيعدّ الطريق امامي" (ملا3/1). هذه النبوءة طبقها السيد المسيح على يوحنا (متى11/10). لكن هذا الوعد يندرج بعيداً في وعد الله لابراهيم الذي بدأ يبدأ معه تصميم الخلاص ويتواصل.

         شوّه الانسان صورة الله فيه بالخطيئة والموت، لكنه ظلً "على صورة الله"، على صورة الابن، غير انه حُرم من مجد الله ومثاله (روم3/23) . فكان الوعد لابراهيم ان من نسله يولد المسيح، ابن الله، الذي سيحمل " الصورة "ويرمم" شبهها " يالآب، ويعيد للانسان مجده أي الروح الذي يعطي الحياة،" قال الرب لابراهيم: انا اجعلك امّة كبيرة، واباركك واعظّم اسمك، وتكون بركة. ويتبارك بك جميع عشائر الارض" (تكوين 12/1-3). ثم كرّر له الوعد عندما اطاع امره بتقديم ابنه الوحيد اسحق محرقة للرب: "بنفسي حلفت، بما انك فعلت هذا الامر ولم تمسك عني ابنك وحيدك، لاباركَنّك واكثّرن نسلك كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطىء البحر، ويتبارك بنسلك جميع امم الارض، لانك سمعت قولي" ( تكوين22/16-18).

شرح بولس الرسول ان نسل ابراهيم هو المسيح (غلا3/16). البركة هي فيض الروح القدس المتفجر من موت المسيح وقيامته الذي " يجمع كل ابناء الله المشتتين الى واحد " (يو13/51-52)، هذا الواحد هو الكنيسة، جسد المسيح السرّي (انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 705-706).

 

         نشيد زكريا، الممتلىء من الروح القدس، الذي تلاه عند مولد يوحنا لما انحلت عقدة لسانه وعاد اليه النطق، هو ادراك لسّر الوعد لابراهيم الذي يتحقق (لو1/67-79). هذا النشيد هو خلاصة كل العهد القديم . فيه ثلاثة اقسام:

         أ- بركة الشكر للرب الذي يفتقد شعبه ويرسل له مخلصاً وفادياً من بيت داود كما نطق الانبياء ،وهو المسيح (68-71).

         ب- اتمام الوعد لابراهيم بالنجاة من الاعداء، والعبادة لله بدون خوف، بالتقوى والبّر والعيش في ظل عنايته طول الايام (72-75).

         ج- رسالة يوحنا ابنه التي تتجلى من خلالها رحمة الله ومضمونها (76-79).

 

         لكن قمة الوعد تتحقق في يسوع المسيح الذي فاضت منه " النعمة والحقيقة" (يو1/71). اما نحن فنتجاوب بالحب والامانة مع النعمة والحقيقة. هذا ما يشكّل العهد الجديد الابدي بالمسيح: ان الله ابٌ لنا ونحن شعبه، ولذا علمنا الرب يسوع ان نصلي: ابانا الذي في السموات .

         يرتكز الوعد على حقيقتين قاعدتين : الامانة لله وايمان الانسان. بولس الرسول يشرح ذلك بلفظة آمين أي "نعم" او "حقاً ": "جميع مواعد الله لنا في المسيح نعم، أي حقيقة تحقيقها ، اذن الله امين في وعده. لذلك به ايضاً نقول نحن لله: آمين اكراماً لمجده، أي حقاً نؤمن بما تقول ( 2كور 1/20). وهكذا اصبحت لفظة آمين الارامية، المستعملة في الليتورجيا، تعني في آن امانة الله المتجلية في يسوع المسيح الذي يسميه يوحنا الرسول في الرؤيا "الآمين أي الشاهد الامين الصادق، بدء خليقة الله" (رؤيا 3/14)، وايمان الانسان بوعد الله وكلامه ، وثبات الانسان في الرجاء والحب.

         افعال الايمان والرجاء والمحبة تؤكد كل هذه الحقائق وعليها ترتكّز حياتنا اليوميه ونشاطنا وحالتنا .

        

4. العائلة تنقل الفضائل والقيم الانسانية

         استعداداً للقاء العلمي السادس للعائلات مع قداسة البابا في مكسيكو (16-18 كانون الثاني 2009)، نقدّم للعائلات الموضوع الرابع من المواضيع العشرة التي هيأها المجلس الحبري للعائلة لهذه الغاية، وهو " العائلة تنقل الفضائل والقيم الانسانية".

         يندرج هذا الموضوع في اطار ما حدث في بيت زكريا عند مولد يوحنا، وهو نشوء شبكة من العلاقات العمودية مع الله في نشيد زكريا، والافقية مع الجيران والاقارب الذين فرحوا مع اليصابات، وحديث الناس في كل جبل اليهودية (لوقا1/57-68).

         العائلة القائمة على الزوج وهو شركة الحياة والحب، تقول الوثيقة، هي المكان الاول للعلاقات بين الاشخاص، واساس حياة هؤلاء، والنموذج لكل منظمة اجتماعية. ان مهد الحياة والحب هذا هو المكان المناسب حيث يولد الانسان ويكبر، يقبل اولى مفاهيم الحقيقة والخير، ويتعلم ما يعني ان الانسان يحب ويُحب، وبالتالي ماذا يعني ان يكون الشخص انساناً. في العائلة يتعلم الشخص بُعده الاجتماعي، فما هو "انا" و"انت" يصبح بالاختبار اليومي "نحن".

         العائلة هي الارض الأصلح لتعليم القيم الثقافية والاخلاقية والاجتماعية والروحية والدينية، ونقلها. هذه القيم هي جوهرية من اجل تفتّح اعضاء المجتمع، ومن اجل عيشهم الكريم.

         العائلة هي المدرسة الاولى للفضائل الاجتماعية التي تحتاج اليها الامم. فهي تساعد الاشخاص على تنمية القيم الاساسية التي لا غنى عنها من اجل تكوين مواطنين احرار، مخلصين، ومسؤولين. هذه القيم هي: الحقيقة، العدالة، التضامن، مساعدة الضعفاء، محبة الآخرين، التسامح، الحوار المخلص.

 

***

ثانيا، البطاركة الموارنة ولبنان

 

         في اواخر القرن الثامن عشر، نذكر بطريركين دامت ولايتهما معاً ثلاث سنوات، هما مخايل فاضل وفيليبس الجميل ( من 1793 الى 1796).

 

         البطريرك مخايل فاضل (1793-1795)

         انتُخب في 10 ايلول 1793، وكان مطراناً نائباً بطريركياً ثم مطراناً على بيروت منذ سنة 1763، كتب الى البابا بيوس السادس في اول تشرين الاول 1793 طالباً التثبيت ودرع الشركة. لكن المعتمد البطريركي وصل الى رومية بعد وفاة البطريرك التي حصلت فجأة في 17 ايار 1795 في دير مار يوحنا المعمدان حراش حيث دُفن جثمانه. لكن البابا احصاه في مصاف البطاركة في الخطاب الذي القاه في 27 حزيران 1796 في مجمع الكرادلة. " بما ان الزمان لم يسمح لنا بان نمنحه درع التثبيت وهو حي، فاننا نمنحه اياه وهو ميت. ونريد ان يُحصى في سلسلة بطاركة الموارنة، ولو حرمته المنية قبول زينة درع الرئاسة"[2].

         سُمّي البطريرك مخايل فاضل " كوكب الشرق" لوفرة علومه ومعارفه وعمق غيرته. دامت حبريته سنة وثلاثة اشهر خدم خلالها طائفته بغيرة واخلاص.

عندما كان مطراناً على بيروت ناله اعتداء من والي صيدا احمد باشا الجزّار الذي تولاها سنة 1776. هذا استولى فيما بعد على مدينة بيروت التي كانت تحت حكم الامير يوسف شهاب. كان يومها المطران مخايل فاضل يقيم في دير مار يوحنا حراش. فأمر الجزار والي بيروت بان يُخضع الكنيسة لولايته، خلافاً للقوانين والاعراف الكنسية التي تؤكد استقلالية الكنيسة وحريتها في تدبير شؤونها، وفقاً لاحكام المجمع اللبناني ومجمع البطريرك يوسف اسطفان في دير مار يوسف الحصن سنة 1768. طلب الوالي من المطران مخايل فاضل ان يقيم داخل نطاق ابرشيته وتحت ولايته، فرفض الطلب. اما الجزار فاصدر مرسوماً يمنعه من العودة الى ابرشيته، ويأمر البطريرك يوسف اسطفان باقامة مطران جديد مكانه، طالباً منه بحزم " الخضوع لأوامره الشريفة"، ومهدداً بتحويل كنيسة مار جرجس بيروت الى مسجد، ان لم ينفذ البطريرك اوامره، عرض البطريرك القضية على المطارنة والكهنة ومشايخ آل الخازن، فقرّ الرأي على تلبية امر الوالي. وفي 11 تشرين الاول 1779 رسم القس يوسف نجيم اسقفاً على ابرشية بيروت. بعد الرسامة، اصدر احمد الجزار مرسوماً يأمر به كهنة ابرشية بيروت وابناءها بالخضوع للاسقف الجديد. غير ان المطران مخايل فاضل اعترض ورفع تظلّماً الى الكرسي الرسولي الذي أبطل التدبير واعاد المطران الاصيل الى ابرشيته[3].

 

****

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبق المجمع االبطريركي الماروني

 

         تنقل الخطة الراعوية من النص المجمعي 12: الليتورجيا" ما يختص بالتنشئة الليتورجية للطلاب الاكليريكيين والرهبان والكهنة والمؤمنين.

         1. يدعو المجمع المدارس الاكليريكية والمؤسسات الرهبانية ليوفّروا فيها لهؤلاء التنشئة الليتورجية مع العلوم اللاهوتية والراعوية، لان الثقافة الليتورجية تحفظ وحدتهم وامانتهم لهويتهم المارونية. ومع هذه التنشئة يطلب المجمع ان يتم الاشتراك الفعلي في الاحتفالات بالاسرار المقدسة، وبسائر الرتب الطقسية المشبعة بالروحانية المسيحية الشرقية الاصيلة.

 

         2. ويطلب المجمع من الاساقفة ان يؤمّنوا تنشئة ليتورجية وراعوية ولاهوتية وروحية مستمرة للكهنة، لكي يتمكنوا من اشراك المؤمنين في رعاياهم، مشاركة فعالة وواعية في الاحتفالات الطقسية، لانها ينبوع الروح المسيحية الحقّة والعقيدة اللاهوتية الاكيدة.

 

         3. ويقضي الواجب تأمين تنشئة ليتورجية للمؤمنين وتوعيتهم على مفاهيمها الضرورية، لكي يوفقوا بين الاحتفال بالتدبير الالهي وعيش واقعات حياتهم الحلوة والمرة، ولكي يتمكّنوا من رفع قلوبهم الى الله، وهم يحتفلون حسّياً بسرّه الخلاصي (الفقرات 33-37),

 

         4. فلا بدّ من توزيع الادوار اللازمة بين المحتفل والشماس والمنشّط، لجعل الاحتفال الليتورجي احتفالاً جماعياً للجماعة الرعائية بكل فئاتها (الفقرة 38).

         ويؤكد المجمع على اهمية دور الجوقة من حيث اتقان الالحان الكنسية التي هي انعكاس لتسبيح الملائكة في ليتورجيا الحمل في السماء، ومن حيث مساعدة الشعب على تأدية هذه الالحان والمشاركة فيها. فلا يحق للجوقة ان تخرج عن الاصول الموسيقية الليتورجية التراتبية، ولا ان تتعدى على حق المؤمنين بالمشاركة. الليتورجيا هي للشعب، ولا يحق للجوقة ان تأخذ مكانه. يطلب من الجوقة والمرتلين الافراديين ان يمارسوا دورهم بتقوى خالصة وترتيب وخشوع يليق ببيت الله وسرّه الخلاصي، وهكذا يساعدون الشعب على المشاركة الواعية والتقوية والفعّالة في التراتيل والصلوات والزياحات (الفقرتان 39-40).

 

***

         صلاة

 

         ايها الرب يسوع، ان مولد يوحنا استباق لميلاد الرحمة الالهية بميلادك. جدّد فينا الايمان برحمة الله اللامتناهية، واجعلنا شهوداً لها في عالم جائع الى قلوب ترحم. حرّرنا ايها المسيح من الحقد والبغض والثأر، وعلّمنا الرحمة لكي ننشر ثقافتها. فرحمتك تحرر من كل خطيئة وشرّ وانانية. بارك عائلاتنا لتحمل مسؤوليتها الاساسية في نقل القيم الانسانية والاجتماعية الى الاجيال الجديدة، وتربيتهم عليها. وليبقَ رعاة الكنيسة المثال والقدوة في تحمّل المحن والاضطهادات، مشعّين برحمة الله الكفيلة وحدها باجتذاب القلوب وتحريك الضمائر واعادتها الى الله. ولتكن لنا ولشعبنا الاحتفالات الليتورجية الينبوع الذي نغرف منه ثمار الرحمة الالهية، ونوزّعها في حياة العائلة والكنيسة والمجتمع. للثالوث القدوس الغني بالرحمة، الاب والابن والروح القدس كل اكرام ومجد وشكر، الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلة الاربعاء العامة، في 24 أيلول 2008.

[2] . انظر الاباتي بطرس فهد: بطاركة الموارنة واساقفتهم القرن 18، صفحة 415.

[3] . راجع الاب فرنسوا عقل: اضواء على العلاقات السياسية والقانونية بين البطريركية المارونية والدولة اللبنانية، صفحة 56.

 


 

 البيان ليوسف

افسس 3/1-13

متى 1/18-25

اعلان سرّ تدبير الله الخلاصي المكتوم منذ الدهور

 

         في البيان ليوسف يختم الله اعلان " تدبير السّر المكتوم منذ الدهور في الله الذي خلق كل شيء، كما يقول بولس الرسول في الرسالة الى اهل افسس (3/9)، التي تتلى علينا في هذا الاحد، مع ما يعلن ملاك الرب في الحلم ليوسف بشأن حبل مريم وتأكيد ابوته واعلان مسؤوليته عن ابن الله المتجسّد وامّه زوجته البتول.

 

***

 

اولاً، يوبيل بولس الرسول وشرح نصيّ الرسالة والانجيل

 

         1. بولس الرسول وتدبير سرّ الخلاص في العهدين القديم والجديد[1].

         " تدبير سرّ الخلاص المكتوم منذ الدهور في الله" معروف في الكتب المقدسة بلفظة " عهد". قطعه الله مع شعبه في القديم مع نوح وابراهيم ويعقوب (اسرائيل) وموسى وداود، ثم ختمه في ملء الازمنة بدم المسيح، ابن الله المتجسّد، فكان العهد القديم والعهد الجديد، العهد اليهودي والعهد المسيحاني، عهد الشريعة والحرف وعهد الايمان والنعمة، عهد الرمز وعهد الخلاص.

         تكلّم بولس الرسول في رسائله عن هذين العهدين. لكنا نتوقف هنا عند " عهد المسيح بدمه".  في رسالته الى اهل كورنتس نقل بولس التقليد المسيحي الذي تسلّمه من الرسل، وهو كلمات يسوع في عشائه السّري حيث قال: " هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. فكلما شربتم منها، اصنعوا هذا لذكري" ( 1كور 11/25).

         " العهد والدم" يعنيان ان الله ختم عهده الخلاصي مع شعبه، اي الجنس البشري باسره، بدم ابنه الوحيد المراق على الصليب لمغفرة الخطايا والحياة الابدية ( كلمات التقديس في الليتورجيا المارونية). تكتمل كلمات بولس الرسول بكلمات الانجيليين متى ومرقس ولوقا: انه العهد الجديد بدمي المراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا (لو22/20؛ متى 26/28؛ مرقس 14/24).

         هذه كل عناصر العهد الجديد.

         ان صورة الدم مأخوذة من العهد الذي قطعه الله مع موسى، كما يورده سفر الخروج (24/1-8). عندما روى موسى للشعب اقوال الرب واحكامه، اجاب الشعب بصوت واحد: " كل ما تكلّم به الرب نعمل به". فكتب موسى جميع كلام الرب، وبنى مذبحاً واصعد محرقات وذبح ذبائح سلامية من العجول للرب، واخذ نصف الدم وجعله في طسوت ورشّ النصف الآخر على المذبح. واخذ كتاب العهد فتلاه على مسامع الشعب وقال: " كل ما تكلّم به الرب نفعله ونسمعه". ثم اخذ الدم ورشّه على الشعب وقال: " هوذا دم العهد الذي قطعه الله معكم على جميع هذه الاقوال".

         " دم المسيح المراق في ذبيحة القداس"  يختم بطابع ابدي عهد المسيحيين مع الله وفعل الروح القدس. وهكذا يرتقي بنا العهد الجديد من المستوى المادي الى قيم الروح، والمسيح من جهته، في هذا العهد، يأخذ على عاتقه مصير البشر ويعيش ويموت من اجلهم، وفقا لنشيد اشعيا عن خادم الله: " حمل آلامنا واحتمل اوجاعنا. طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من اجل سلامنا، وبجرحه شفينا" ( اشعيا 53/4-5).

 

2. سرّ تدبير الخلاص المعلن لبولس الرسول (افسس3/1-13).ً

 

لِذـلِكَ أَنَا بُولُس، أَسِيرَ الـمَسيحِ يَسُوعَ مِنْ أَجْلِكُم، أَيُّهَا الأُمَم... إِنْ كُنْتُم قَدْ سَمِعْتُم بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي مِنْ أَجْلِكُم، وهوَ أَنِّي بِوَحْيٍ أُطْلِعْتُ على السِرّ، كَمَا كَتَبْتُ إِلَيكُم بإِيْجَازٍ مِنْ قَبْل. حِينَئِذٍ يُمْكِنُكُم، إِذَا قَرَأْتُمْ ذـلِكَ، أَنْ تُدْرِكُوا فَهْمِي لِسِرِّ الـمَسِيح، هـذَا السِّرِّ الَّذي لَمْ يُعْرَفْ عِنْدَ بَنِي البَشَرِ في الأَجْيَالِ الغَابِرَة، كَمَا أُعْلِنَ الآنَ بِالرُّوحِ لِرُسُلِهِ القِدِّيسِينَ والأَنْبِيَاء، وهُوَ أَنَّ الأُمَمَ هُم، في الـمَسِيحِ يَسُوع، شُرَكَاءُ  لَنَا في الـمِيرَاثِ والـجَسَدِ والوَعْد، بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيل، ألَّذي صِرْتُ خَادِمًا لَهُ، بِحَسَبِ هِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي بِفِعْلِ قُدْرَتِهِ؛ لي أَنَا، أَصْغَرِ القِدِّيسِينَ جَمِيعًا، وُهِبَتْ هـذِهِ النِّعْمَة، وهِيَ أَنْ أُبَشِّرَ الأُمَمَ بِغِنَى الـمَسِيحِ الَّذي لا يُسْتَقْصى، وأَنْ أُوضِحَ  لِلجَمِيعِ مَا هُوَ تَدْبِيرُ السِّرِّ الـمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ في اللهِ الَّذي خَلَقَ كُلَّ شَيء، لِكَي تُعْرَفَ الآنَ مِن خِلالِ الكَنِيسَة، لَدَى الرِّئَاسَاتِ والسَّلاطِينِ في السَّمَاوات، حِكْمَةُ اللهِ الـمُتَنَوِّعَة، بِحَسَبِ قَصْدِهِ الأَزَلِيِّ الَّذي حَقَّقَهُ في الـمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا، الَّذي لَنَا فيهِ، أَيْ بِالإِيْمَانِ بِهِ، الوُصُولُ بِجُرْأَةٍ وثِقَةٍ إِلى الله. لِذ,لِكَ أَسْأَلُكُم أَنْ لا تَضْعُفَ عَزِيْمَتُكُم بِسَبَبِ الضِّيقَاتِ الَّتي أُعَانِيهَا مِنْ أَجْلِكُم: إِنَّهَا مَجْدٌ لَكُم!

         يؤكد بولس الرسول انه " بوحي اُطلع على سرّ المسيح وهو ان الوثنيين (الامم) هم، في المسيح يسوع، شركاء لنا في الميراث والجسد والوعد، بواسطة الانجيل. هذا هو تدبير السّر المكتوم منذ الدهور في الله الذي خلق كل شيء" (اف3/3 و6 و9 ).

         واذ يكتب لاهل افسس من السجن، يشجعهم على التمسك بالرجاء وسط المحن، فان تدبير الله الخلاصي الشامل جميع الناس فاعل في التاريخ: " اسألكم ان لا تضعف عزيمتكم بسبب الضيقات التي اعانيها من اجلكم: انها مجد لكم" (ف3/13).

         ويؤكد بولس ان سرّ تدبير الخلاص الذي كان معلناً بالرموز في العهد القديم، اُعلن بجوهره " بالروح للرسل القديسين والانبياء"، وهو " صار خادماً له بحسب هبة نعمة الله وقدرته" (افسس 3/5 و7). ان " سرّ تدبير الله الخلاصي" لا يُعرف بالعقل والعلم، بل بالوحي الالهي. فهو حكمة الله المتنوعة التي تُعرف الآن من خلال الكنيسة وحدها، وقد اتُمنت عليه (انظر افسس3/10).

 

1.     سرّ تدبير الخلاص بالمسيح المعلن ليوسف ( متى1/18-25).

 

هو الله واصل الكشف ليوسف عن سرّ تدبير الخلاص المكتوم منذ الدهور. فتلتقي البشارة لمريم في رواية لوقا(1/26-38) مع البشارة ليوسف في انجيل متى(1/18-25) في حقيقة واحدة هي ان مريم البتول، خطيبة يوسف، حبلى بأبن، بقوة الروح القدس، وان يوسف البتول، زوج مريم، مدعو ليكون اباً مربياً لهذا الابن، الذي سيكون اسمه  يسوع  ومعناه " الله يخلص".الجديد في البشارة ليوسف هو ان الموفد الالهي يكل اليه واجبات اب ارضي تجاه ابن مريم. فكان موقف يوسف هو اياه موقف مريم : طاعة الايمان، اذ " فعل كما امره ملاك الرب ، فأتى بامراته الى بيته "، فيما مريم اجابت " نعم " للملاك: " انا امة الرب ، فليكن لي حسب قولك ".

لقد قبل يوسف، كحقيقة صادرة من عند الله، ما كانت قد قبلته مريم عند البشارة. هذه هي طاعة الايمان، ان يقبل المؤمن بعقله الحقيقة الموحاة من الله، ويخضع بارادته لمقتضيات هذه الحقيقة، ويسلّم امره كله بحرية تامة لله. في الواقع تراجع يوسف عن القرار الذي سبق واتخذه: " ان يطلق مريم سراً" كمخرج من وضعه العسير وقلقه حيال سرّ حبلها وما يريد الله من هذا التدبير، اذ شعر انه خارج اطاره. ولكن حين اوحى له الله بملاكه: " ان المولود من مريم هو من الروح القدس ، وسيدعى يسوع لانه يخلص شعبه من خطاياهم"، كشف له عن مكانه ودوره في هذا التدبير: " لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك". حينئذ ،اخذ امرأته الى بيته، واخذها مع سرّ امومتها ومع الابن الموشك ان يأتي الى العالم بفعل الروح القدس. فأبدى بذلك اهبة ارادية شبيهة باهبة مريم حيال ما طلبه الله منها بواسطة موفده (البابا يوحنا بولس الثاني: حارس الفادي،3).

تراجع يوسف عن قراره السابق بفعل ارادة حرة تماماً ، فتبنى " قرار " الله أي تدبير الخلاص، وصار نموذجاً لكل انسان يبحث عن تصميم الله عليه. وهكذا تتضح قيمة طاعة الله بانها ممارسة للحرية كاملة . فالطاعة تحرّر، والحرية الحقيقية فعل طاعة لله. عن طريق هذه الطاعة يعرف كل واحد منا دعوته الخاصة ويلبيّها في تاريخ الخلاص.

أدرك يوسف من كلمات البشارة الليلية: " لا تخف ان تأخذ مريم امراتك"، ان زواجه الاصلي من مريم انما تمّ بارادة الله. وكان لا بدّ من ان يستمر، كما كان على مريم، في امومتها الالهية، ان تواصل حياتها " كعذراء مزفوفة لرجل". ارادة الله دعت يوسف ومريم الى عهد الزواج ، وهي اياها تدعوهما لابوة وامومة بتولية ومسؤولة، وتدعوهما ثانية الى الحب الزوجي النبيل ، المتجدد بالروح القدس، والمتعمّق في كل ما فيه بشرياً من معالم النبل والجمال والتجرّد الكلي من الذات واتحاد الاشخاص والشركة الحقة مع الله بسرّه الثالوثي ( حارس الفادي،19).

كل زواج بشري انما يتمّ بارادة الله، لخدمة الحب والحياة ، في اسرة معينة. ولهذا لا بد له وقد تمّ وفق ارادة الله، من ان يستمر، فلا يحق لاي سلطة بشرية ان تحلّه: " ما جمعه الله لا يفرّقه الانسان"(متى19/6).

" لقد اعرب يوسف ، بتضحية ذاته الكاملة ، عن سخاء حبّه لأم الله، مقدماً لها كل ذاته الزوجية. ومع انه قرر الانسحاب لئلا يعرقل الخطة الالهية التي باتت تتحقق فيها، فقد أبقاها في بيته واحترم تكرّسها المطلق لله" (حارس الفادي،20) هذا ما عبّر عنه متى الانجيلي بالقول: "واخذ امرأته، ولم يعرفها، فولدت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع" (متى1/25).

" وبما ان الزواج شركة حياة وخيور بين الزوجين، فعندما وهب الله العذراء يوسف زوجاً لها، فقد اهداها ليس فقط رفيقاً لحياتها وشاهداً لبتوليتها وحارساً لشرفها، بل اهداها ايضاً، بقوة الميثاق الزوجي، شريكاً في كرامتها السامية" (البابا لاوون الثالث عشر، في حارس الفادي،20). هذه حال كل زواج بشري اراده الله. الزواج دعوة من الله، مثل الكهنوت والحياة المكرسة. ولهذا هو بحاجة ماسة الى تحضير روحي وانساني واعٍ، يجعل الخطيبين مدركين سمو الدعوة الى الحياة الزوجية وخطورتها.

 

4. العائلة منفتحة على الله والناس

 

الزواج عهد حب وحياة، عمودي مع الله وافقي بين الزوجين والاولاد في العائلة وانحداري مع جميع الناس.

استعداداً للقاء العالمي السادس مع قداسة البابا في مكسيكو (16-18 كانون الثاني 2009) بعنوان: العائلة منشّئة على القيم الانسانية والمسيحية"، نتناول اليوم الموضوع الخامس من المواضيع العشرة التي هيأها المجلس الحبري للعائلة لهذه الغاية، وهو بعنوان: "العائلة منفتحة على الله والناس".

يندرج العهد الزوجي في اطار تدبير الله الخلاصي الذي قطعه الله بعهد مع شعبه. الناس كلهم مرتبطون بالله بحكم الطبيعة، كما البيت مرتبط بالمهندس المعماري الذي بناه. بنتيجة هذا العهد بين الله وشعبه، يشعر الانسان في اعماقه بحنين الى الله، عبّر عنه اغسطينوس بالهتاف: " لقد خلقتنا لك يا رب، وسيظل قلبنا قلقاً فينا الى ان يرتاح فيك".

العائلة المسيحية مدعوة لتضع الله في افق حياتها وحياة اولادها منذ اللحظة الاولى للوجود الواعي: من المعمودية والميرون الى القربان والتربية والعمل والزواج.

واجبها ان تربّي الاولاد على محبة الله، بالصلاة قبل الطعام وبعده، قبل النوم وعند النهوض، قبل العمل وبعده، في الصحة والألم، وبحفظ يوم الرب معاً بالمشاركة في الليتورجيا الالهية كل يوم احد.

وان  تربيتهم على محبة القريب باكتشافه وبخاصة بمساعدة المحتاجين، والقيام بخدمات بسيطة ودائمة مثل: مقاسمة الالعاب مع رفاقهم، مساعدة الاصغرين، اعطاء الحسنة للفقير في الشارع، زيارة المرضى من الاهل، مرافقة الاجداد وتقدمة خدمات صغيرة لهم، حسن استقبال زوار البيت، مغفرة الاساءة.

ولتكن القاعدة في كل ذلك كلمة يوحنا الرسول: اذا كنا لا نحب قريبنا الذي نراه، كيف يمكننا ان نحب الله الذي لا نراه؟" (يو4/20).

 

***

 

ثالثاُ، البطاركة الموارنة ولبنان

 

         البطريرك فيليبس الجميل (1795-1796).

         معه ومع سلفه البطريرك مخايل فاضل (1793-1795) تنتهي سلسلة البطاركة الموارنة في القرن الثامن عشر. ولايتان فصيرتان جداً دامتا ثلاث سنوات.

         البطريرك فيليبوس الجميل من مواليد بكفيا وكان مطراناً على ابرشية قبرس. انتُخب بطريركاً في دير سيدة بكركي في 13 حزيران 1795. وبعد ثلاثة ايام كتب الى الحبر الاعظم يطلب تثبيته ودرع التثبيت، فمنحه اياه في 27 حزيران 1796، لكن الدرع والبراءة الحبرية بالتثبيت لم يصلا اليه إلا بعد وفاته التي عاجلته في 12 نيسان 1796 في دير بكركي حيث دُفن جثمانه [2]. فكانت مدة رئاسته عشرة اشهر فقط.

         كان البطريرك غيوراً وتقياً، يعتني بابناء كنيسته ويسهر على خلاص نفوسهم، كما يظهر من منشور رعائي اذاعه على ابناء ابرشيته عندما كان مطراناً على قبرص[3].

         وقد سبق وعرض على الكرسي الرسولي اثناء بطريركيته نقاطاً كان قد عرضها سلفه البطريرك مخايل فاضل. فاتى جواب رئيس مجمع تبشير الشعوب مؤرخاً في 9 آب 1796، وكان آنذاك قد انتخب البطريرك يوسف التيان في 28 نيسان 1796 الذي ثبّته البابا بيوس السادس في 24 تموز 1797. تتعلق النقاط بشؤون بطريركية واسقفية ورهبانية وتهذيبية وحقوقية[4].

 

***

 

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تتناول الخطة من النص المجمعي 12 " الليتورجيا"، فصله الرابع وعنوانه: "قواعد عامة بشأن المشاركة في الرتب الليتورجية". وهي تتناول الاحتفال بالاسرار السبعة والصلاة الطقسية الخورسية.

         بما ان غاية الليتورجيا تمجيد الله وتقديس البشر، من الضروري رسم قواعد تمكّن الجماعة المؤمنة من المشاركة في فعل العبادة بطريقة واعية ومثمرة عبر الكلمة واللحن والحركة والجماعة المؤمنة المصلية.

 

1.     اسرار التنشئة المسيحية (الفقرات 42-46).

 في الليتورجيا المارونية رابط وثيق بين الاسرار الثلاثة: المعمودية والميرون والقربان، من حيث وحدتها اللاهوتية وترابطها الاحتفالي. فتُعتبر احتفالاً واحداً لا يتجزأ للدخول في حياة المسيح وفي الجماعة التي تحيا فيه. يتقبّل المؤمن الولادة الجديدة بالمعمودية، ويقبل موهبة الروح القدس بالميرون فيصبح هيكلاً للرب، ويتغذى من جسد الرب ودمه بالقربان منخرطاً في شعب الله. ما يقتضي، من جهة، تهيئة المؤمنين لقبول نعمة الاسرار، ومن جهة ثانية، منحها باسمى تناسق وانسجام.

 

2. القداس (الفقرات 47-51).

 يشكل الاحتفال بالقداس محور العبادة المسيحية، لانه الاحتفال بسرّ التدبير الخلاصي الذي حققه المسيح بموته وقيامته. انه استمرارية تعليم الكلمة وذبيحة الفداء ووليمة الحياة الالهية، الآن وهنا. هذه تشكّل اقسامه الثلاثة. يرسم النص المجمعي قواعد لهذا الاحتفال.

 

3. الكهنوت والدرجات المقدسة (الفقرة 52).

 اسس الرب يسوع الكهنوت امتداداً لرسالته الكهنوتية ومواصلة لها بالتعليم والتقديس والرعاية، بفعل الرسامة المقدسة. الكهنوت ثلاث درجات: الاساقفة والكهنة والشمامسة الانجيليون. يعاونهم خدمة آخرون يُرسمون مرتلين وقارئين وشدايقة، لتعزيز الخدمة الطقسية والرسالة الكهنوتية التي تدور حول خدمة مثلثة للكلمة والنعمة والمحبة في بعديها الانساني والاجتماعي.

 

***

صلاة 

ايها الرب يسوع، لقد انكشف بك سرّ تدبير الله الخلاصي المكتوم منذ الدهور، من خلال يوحنا السابق ومريم ويوسف، وادخلتنا في شركة هذا التدبير. نسألك نعمة تساعدنا على الولوج في هذا السّر، وادراك دورنا فيه على مثال زكريا ومريم ويوسف بطاعة الايمان. بارك عائلاتنا لتكون منفتحة على تدبير الخلاص، بعيشها ككنيسة بيتية تتواصل من خلالها وفي افرادها مقاصد الله الخلاصية. قدّس الوالدين بنعمتك لكي يربوا اولادهم على محبتك ومحبة كل انسان. ألهم رعاة الكنيسة لكي يحسنوا اداء خدمة الاسرار والاحتفالات الليتورجية لكي يتمكن المؤمنون من الولوج في سرّ تدبير الخلاص ونوال ثماره الروحية. فنرفع المجد والشكر والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . انظر البابا بندكتوس السادس عشر: بولس رسول الامم (الفاتيكان 2008)، النسخة الايطالية،صفحة 73-77.

[2] . انظر الرسائل في: " بطاركة المورنة واساقفتهم القرن 18 ً، للاباتي بطرس فهد، صفحة 420-425.

[3] , راجع النص في المرجع المذكور، صفحة 427-435.

[4] . انظر هذه النقاط في المرجع نفسه 430-435.

 


 

نسب الرب يسوع

روميه 1/1-12

متى 1/1-17

وحدة العائلة البشرية بالمسيح

 

         مع انتساب يسوع الى العائلة البشرية بدءاً من ابراهيم حتى يوسف ومريم انحدارياً، كما فعل متى في انجيله، او من يوسف الى آدم صعوداً كما فعل لوقا، تنتهي مسيرة الاجيال المنتظرة مجيء المسيح الفادي والمخلص، والموعود به منذ سقطة ابوينا الاولين آدم وحواء. انتمى ابن الله بتجسده الى العائلة البشرية لكي يخلص الجنس البشري برمّته، وهكذا اتّحد نوعاً ما مع كل انسان، ليقطع الطريق معه عبر الحياة التاريخية ويصل به الى الخلاص الابدي، وهو القائل: " انا الطريق والحق والحياة".

 

***

 

اولاً، يوبيل القديس بولس وشرح نصيّ الرسالة والانجيل

 

         1, بولس الرسول وعهد الله الخلاصي[1]

         انتسب يسوع، ابن الله المتجسد، الى العائلة البشرية تحقيقاً لعهد الخلاص به الذي دبّره الله الآب في سرّ محبته وحكمته. يتكلم بولس الرسول والتقليد المسيحي انطلاقاً من كلمات المسيح في العشاء الاخير: " هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا".

         يتكلم بولس عن عهدين: القديم بالوعد لابراهيم من خلال سلالة دموية إتنية محددة ومحصورة، والجديد بالمسيح من خلال سلالة روحية شاملة لجميع الشعوب بالولادة الجديدة من الماء والروح. العهد القديم يرتكز على حفظ الشريعة وهو مقيّد بمسلك الانسان. ولذلك، هو قابل للفسخ والانكسار، وقد حصلا. اما العهد الجديد فيرتكز على المعمودية والايمان. وهو مختوم بدم المسيح في عشائه الاخير وذبيحة الصليب، فحلّت النعمة محلّ الوعد، واعطيت هبة الصداقة التي يقدمها الله بالمسيح دونما انقطاع لكل انسان. فكان الخلاص عطية مجاّنية من جودة الله لكل مؤمن. فلا يتبرر الانسان بالاعمال، يقول بولس، بل بالايمان بيسوع المسيح. ليس العهد اتفاقاً بين الله والانسان، بل تدبير خلاص مجاني ومحب من الله للانسان.

         في ضوء هذا التدبير الخلاصي، نقرأ في سلسلة نسب يسوع الوحدة الداخلية لتاريخ الله مع البشر في كل الكتاب المقدس، من قديمه الى جديده. الاول يهيء الثاني، والثاني يكمّل الاول. العهد القديم هو عهد الشريعة التي تكشف الحقيقة، ووجه الله، وبالتالي امكانية العيش باستقامة. والعهد الجديد هو عهد النعمة التي هي معرفة ارادة الله، وبالتالي تعني معرفة الذات وفهم العالم ومسيرة الحياة في هذه الدنيا. كما تعني ايضاً اننا نتحرر من قلق تساؤلاتنا التي لا تنتهي، وان النور اتى، وبدونه لا نستطيع ان نرى ونتحرّك.

         الشريعة والنعمة هما كلمة الله التي ينشدها المزمور 119:

         "طوبى للكاملين في سلوكهم، السائرين في شريعة الرب.

         طوبى للذين يحفظون شهادته، وبكل قلوبهم يلتمسونه.

         واعمال الظلم لا يعملون، بل في طريقه يسيرون.

         انت اوصيت باوامرك، كي تُحفظ حفظاً كاملاً.

         ليت طرقي تثبت، لحفظ فرائضك" (مز119/1-5).

 

         2. شرح الرسالة الى اهل رومية:1/1-12.

 

مِنْ  بُولُسَ عَبْدِ الـمَسِيحِ يَسُوع، الَّذي دُعِيَ  لِيَكُونَ رَسُولاً، وفُرِزَ لإِنْجِيلِ الله، هـذَا الإِنْجِيلِ الَّذي وَعَدَ بِهِ اللهُ مِنْ قَبْلُ، بَأَنْبِيَائِهِ في الكُتُبِ الـمُقَدَّسَة، في شَأْنِ ابْنِهِ الَّذي وُلِدَ بِحَسَبِ الـجَسَدِ مِنْ نَسْلِ داوُد، وَجُعِلَ بِحَسَبِ رُوحِ القَدَاسَةِ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ أَيْ بِالقِيَامَةِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ يَسُوعُ الـمَسِيحُ رَبُّنَا؛ بِهِ نِلْنَا النِّعْمَةَ والرِّسَالَةَ لِكَي نَهْدِيَ إِلى طَاعَةِ الإِيْمَانِ جَميعَ الأُمَم، لِمَجْدِ اسْمِهِ؛ ومِنْ بَيْنِهِم أَنْتُم أَيْضًا مَدْعُوُّونَ لِتَكُونُوا لِيَسُوعَ الـمَسِيح؛ إِلى جَمِيعِ الَّذينَ في رُومَا، إِلى أَحِبَّاءِ الله، الـمَدْعُوِّيِنَ لِيَكُونُوا قِدِّيسِين: أَلنِّعْمَةُ لَكُم والسَّلامُ مِنَ اللهِ أَبينَا والرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح! قَبْلَ كُلِّ شَيء، أَشْكُرُ إِلـهِي بِيَسُوعَ الـمَسيحِ مِنْ أَجْلِكُم جَمِيعًا، لأَنَّ إِيْمَانَكُم يُنَادَى بِهِ في العَالَمِ كُلِّهِ. يَشْهَدُ علَيَّ الله، الَّذي أَعْبُدُهُ بِرُوحِي، بِحَسَبِ إِنْجِيلِ ابْنِهِ، أَنِّي أَذْكُرُكُم بِغَيْرِ انْقِطَاع، ضَارِعًا في صَلَوَاتِي على الدَّوَامِ أَنْ يتَيَسَّرَ لي يَوْمًا، بِمَشِيئَةِ الله، أَنْ آتيَ إلَيْكُم. فإِنِّي أَتَشَوَّقُ أَنْ أَرَاكُم، لأُشْرِكَكُم في مَوْهِبَةٍ رُوحِيَّةٍ وَأُشَدِّدَكُم، أَيْ لأَتَعَزَّى مَعَكُم وَبَيْنَكُم بإِيْمَانِي وإِيْمَانِكُمُ الـمُشْتَرَك.

 

يتحدث بولس الرسول عن اكتمال مسيرة الاجيال وعهد الله الخلاصي بالمسيح ابن الله، الذي " وعد به الله وبانجيله، من قبل، بانبيائه في الكتب المقدسة، والذي ولد بحسب الجسد من نسل داود، وجُعل بحسب روح القداسة ابن الله بالقيامة من بين الاموات، وبه نلنا النعمة.

هذا هو يسوع المسيح الذي دُعي بولس ليكون رسوله، وقد فرزه لاعلان انجيله، لكي يهدي الى طاعة الايمان جميع الامم، فيتمجد الله ( انظر روم1/1 و5).

يؤكد بولس ان الدعوة الى طاعة الامم موجهة لجميع الناس، ليكونوا قديسين بالنعمة والسلام من الله ابينا والرب يسوع المسيح (روم1/6-7).

هذه الرسالة موجّهة الينا لنؤمن بالمسيح، ايماناً يحررنا ويحمّلنا رسالة اعلان انجيل المسيح لتحرير الانسان من ظلمات العالم وعبودياته. فنرفع الشكر مع بولس لالهنا بالمسيح، عندما ينادى بايماننا في العالم كله (روم1/8).

 

3. نسب يسوع: كمال تاريخ الخلاص (متى 1/1-17).

 

يبدأ القديس متى انجيله بنسب يسوع. الذي يعني في الاصل " تكوين" يسوع البشري. فكما في سفر التكوين نقرأ سلالة آدم الانسان الاول (تك5/1)، كذلك شاء متى ان يبدأ انجيله بنسب يسوع الذي يفتتح كتاب تكوين جديد، لانه آدم الجديد. وكما كان آدم رأس شعب الله القديم، كذلك يسوع هو رأس الشعب الجديد المسيحاني.

يبدأ متى نسب يسوع بالاعلان انه " ابن داود ابن ابراهيم" لكي يبرز ميزة شعب الله الجديدة المزدوجة: بالنسبة الى داود هو شعب مسيحاني، فالمسيح يتحدر من سلالة داود الملك. قال الملاك لمريم: " ويعطيه الرب الاله عرش داود ابيه" (لو1/32)، وفي البيان ليوسف ناداه الملاك: " يا يوسف ابن داود" (متى1/20). وبالنسبة الى ابراهيم، الشعب الجديد المسيحاني هو شعب الوعد الذي قطعه الله مع ابراهيم، قبل الفي سنة من ميلاد الرب يسوع، بان الخلاص المعلن لذرية آدم ( تك3/15)، يشمل جميع شعوب الارض. لذلك سمي ابراهيم " بابي المؤمنين". تحقق الوعد بشخص حواء الجديدة مريم وآدم الجديد يسوع. ولهذا السبب ينهي القديس متى نسب يسوع، خلافاً لكل شجرة سلالية بذكر مريم: " ويعقوب ولد يوسف زوج مريم التي ولد منها المسيح" (متى1/16)، ويكمل به عدد 14 من السلسلة الثالثة: " من الجلاء الى بابل الى المسيح اربعة عشر جيلاً".

اما نسب يسوع في انجيل القديس لوقا فيأتي لا في بدايته بل بعد ان اصبح يسوع بعمر 30 سنة وبدأ رسالته (لو3/23). فبيّن اولاً ان يسوع اله وهو ابن الآب، ثم انه انسان وابن آدم، متصل بالبشرية كلها: هو واحد منها وفاديها وديانها على ما يقول بولس الرسول في خطبة الاريوباغس: " صنع الله جميع الامم البشرية من اصل واحد، ليسكنوا على وجه الارض كلها... وحدد يوماً يدين فيه العالم دينونة عدل عن يد رجل اقامه من بين الاموات" (اعمال17/26 و31). وهكذا نقرأ عند لوقا الانجيلي: " وكان الناس يحسبون يسوع ابن يوسف...ابن آدم، ابن الله".

         بنى متى الانجيلي نسب يسوع على سلسلة من الاجيال منسقة في ثلاث دفعات من اربعة عشر جيلاً: من ابراهيم الى داود، من داود الى الجلاء الى بابل، ومن الجلاء الى بابل الى المسيح، ليربط بين ثلاثة اسماء اساسية: ابراهيم وداود والمسيح. فيبيّن من جهة كمال تاريخ الخلاص: بالوعد – العهد مع ابراهيم، بالملوكية الشاملة مع داود، بالفداء وبدء البشرية الجديدة مع المسيح؛ عدد 14 (7+7) رمز لهذا " الكمال". فاسم داود في اللفظة العبرية يتألف من ثلاثة اعداد تعطى لثلاثة حروف تجمع 14 ( 4+6+4): فحرف " دال" يعد 4 وحرف "واو" 6.

هناك ميزة في انجيل القديس متى، انه يتفرد ليس فقط بذكر اسم مريم في سلالة تتألف عادة من الاصول الرجال، بل يذكر ايضاً اسماء اربع نساء اخريات مع ازواجهن: تامار زوجة يهوذا وام زارح (1/3)، وراحاب زوجة سلمون وام بوعز (1/5)،  وراعوت زوجة بوعز وام عوبيد (1/5)، وبيتشباع زوجة داود الملك ام سليمان وارملة اوريّا (1/6). من بينهن خاطئات للدلالة ان المسيح اتى ليخلص الخطأة، فلفظة يسوع تعني "الله يخلص شعبه من خطاياهم"، كما قال الملاك ليوسف في الحلم (متى1/21)، واجنبيات ووثنيات للدلالة الى شمولية تصميم الخلاص بالمسيح الفادي. وكلهن تزوجن بطريقة غير عادية، وأدخلن في التصميم الالهي لتهيئة او استباق امومة مريم ليسوع التي هي فوق كل قاعدة: امومتها البتولية، والوهية ابن الله.

في نسب يسوع، مريم هي آخر حلقة في سلسلة الاسماء: " ويعقوب ولد يوسف زوج مريم التي ولد منها يسوع الذي يقال له المسيح" (متى1/16). انها اكتمال جميع الاجيال السائرة نحو المسيح منذ الوعد الالهي الاول بالخلاص (تك3/15)، وبداية ورأس الاجيال الجديدة المفتداة بموت المسيح وقيامته، والمتجددة بروحه القدوس منذ العنصرة، بهذا المعنى تسمى مريم " مرآة العدل" و " ايقونة الكنيسة".

 

4. العائلة منشّئة على الضمير الاخلاقي

 

 استعداداً للقاء العالمي السادس للعائلات مع قداسة البابا في مكسيكو (16-18 كانون الثاني 2009)، بعنوان: العائلة منشّئة على القيم الانسانية والمسيحية"،نعرض اليوم الموضوع السادس من سلسلة المواضيع العشرة التي وضعها لهذه الغاية المجلس الحبري للعائلة،  وهو بعنوان: " العائلة منشّئة على الضمير الاخلاقي".

يريد الله ان يعرف جميع الناس ويقبلوا تدبيره الخلاصي الذي اُعلن وتحقق بيسوع المسيح (1طيم1/15-16). وهو تدبير كسشف كرامة الشخص البشري ودعوته. فبات من واجب كل انسان ان يكتشف القيم المكتوبة في طبيعته، وينمّيها باستمرار، ويحققها في حياته، بترقّيه الدائم. اما ما يختص باحكامه على القيم الاخلاقية، في ما هو خير او شر، وفي ما يجب عليه ان يفعل او ان يتجنّب، فيقتضي منه ألاّ يتصرف برأيه الحرّ، بل ان يعود الى ضميره حيث يكتشف وجود شريعة داخلية، مكتوبة من الله في قلبه، عليه ان يطيعها، والله سيدينه عليها شخصياً.

الضمير بحاجة الى ان يستنير بالمبادىء الاساسية التي يفهمها العقل، والتي تُستخرج من الشريعة الالهية الابدية، الوضعية والشاملة، التي بها ينظم الله العالم ويوجّه دروب الجماعة البشرية وفقاً لتصميم حكمته وحبّه.

اسس المسيح الكنيسة وجعلها عمود الحقيقة واساسها، وعضدها بالروح القدس لكي تحفظ من دون خطأ الحقائق الاخلاقية، وتفسّر باصالة ليس فقط الشريعة الوضعية الموحاة، بل ايضاً المبادىء الاخلاقية التي تنبثق من الطبيعة البشرية نفسها، والتي تساعد على تنمية الانسان وكماله.

دور العائلة الكبير ان تنشّىء الاولاد على الحقيقة واستقامة الضمير الادبي حول مسائل الحياة الكبرى مثل: العبادة لله الخالق والمخلص واحترامه، محبة الاهل، احترام الحياة، احترام الجسد البشري، حفظ شرف القريب، الاخوّة بين جميع الناس، ترتيب خيرات الارض للجميع، عدم التمييز العنصري لاسباب دينية او اجتماعية او اقتصادية. وفوق كل شيء، على الاهل ان يربّوا اولادهم على وجود الحقيقة، وضرورة البحث عنها، واتباعها، لكي يحققوا ذواتهم كانسان.

 

***


 

ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

البطريرك يوسف التيّان (1796-1909)

هو من مواليد بيروت في 5 اذار 1760، ومن تلامذة المدرسة المارونية في رومية (1584). عالم في اللاهوت والتاريخ الكنسي، مشهور بالفضيلة والتقوى والوعظ، مع ميل نحو العيشة النسكية. رقي الى درجة الكهنوت بعمر 23 سنة، والى الدرجة الاسقفية بعمر 26 سنة. انتُخب بطريكاً في دير سيدة بكركي في 28 نيسان 1796، وهو بعمر 36 سنة، واستقال بعد 13 سنة وله من العمر 49 سنة. ثبتّه في البطريركية ومنحه درع التثبيت البابا بيوس السادس في 24 حزيران 1797. وكان يحكم لبنان الامير بشير الثاني الكبير، ودام حكمه 52 سنة من عام 1788 الى 1840.

تميّز البطريرك يوسف التيّان بالغيرة على الايمان الكاثوليكي والوحدة فيه، فتصدّّى لتآليف المطران جرمانوس آدم الملكي، وحرّم مؤلفه بمنشور اذاعه على ابنائه الموارنة[2]. واعتنى عناية خاصة بمدرسة عين ورقة وجمع لها مساعدات، ووضع قوانين لها[3].

اصطدم بسياسة الامير بشير الكبير وبطريقة حكمه ما ادّى الى خلاف مستحكم معه لاسباب عدة: فداحة الضرائب برفع قرش الميري الى ستة قروش وظلم الشعب، فكانت الثورة العامة المعروفة " بعامية لحفد" التي جرّت على البلاد الخراب والدمار والتشريد؛ رفضه مصالحة ابناء عمه اولاد الامير يوسف الشهابي، فكانت الفتن والحروب؛ التدخّل في الشؤون الروحية الذي احدث تشويشاً داخلياً. كما واجه بعض المصاعب الكنسية الداخلية والخلافات على مستوى المطارنة.

كل هذه الامور حدت بالبطريرك الى تقديم استقالته من البطريركية. فكتب في 3 تشرين الاول 1707 الى الكرسي الرسولي: " لما كنت تحققت اني صرت غير قادر على ان افيد طائفتي في مقامي البطريركي، بل اجلب لها ضرراً فغي الروحيات والزمنيات، عزمت على الاستعفاء من البطريركية واعتزال الناس، مختاراً العيشة الانفرادية للاشتغال بخلاص نفسي. ارجو من الاب الاقدس قبول استعفائي عن رضى من البطريركية ومن كل ولاية متعلقة بها، روحية كانت ام زمنية. ان مضادّة حكامنا لي العنيفة جداً، والشكوك الفظيعة الحاصلة في الطائفة من قبل عيشتي هذه النغصة، هي الداعي الاول لاستعفائي".

قبل الحبر الروماني استقالته في 19 تشرين الثاني 1808، وطلب اليه ان يواصل ادارة شؤون البطريركية حتى انتخاب خلف له[4]

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريكي الماروني

 

         تستكمل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي 12 " الليتورجيا"، وتحديداً القسم الباقي من الفصل الرابع: قواعد عامة بشأن المشاركة في مختلف الرتب الليتورجية (الفقرات 53-57).

 

1.     التوبة ومسحة المرضى

الاعتراف بالخطايا الى الله على يد الكاهن وخدمة الكنيسة يجدد الانسان بنعمة المصالحة مع الله والذات والكنيسة، اذ ينال حياة الهية بالروح القدس. لا يتمّ ذلك إلاّ بالاعتراف الفردي والحلّ. ويحبّذ المجمع ان يكون الاعتراف الفردي والحلّ في اطار رتبة توبة جماعية، محورها كلمة الله وصلاة الجماعة.

 

2.     سرّ مسحة المرضى ( يعقوب 5/14)

يتم بالصلاة ومسحة زيت المرضى والاقرار بالخطايا بهدف الشفاء من مرض النفس ومرض الجسد. تُمنح المسحة في حال المرض الخطير، دون ان يكون المريض حتماً في مرحلة النزاع، بحضور جماعة مصلية، لاسيما ذوي المريض، فيتجدد هؤلاء بالرجاء والعزاء الاتيين من المسيح، طبيب النفوس والاجساد.

 

3.     سرّ الزواج

انه السرّ العظيم، لان اتحاد الرجل بالمرأة باليد الالهية هو على صورة اتحاد المسيح بالكنيسة. يحمل نعمة خلاّقة تجعل الاثنين واحداً، ونعمة مبرّرة تقدس الزوجين وحبّهما، ونعمة مرافقة تعضدهما في حياتهما الزوجية والعائلية.

يدعو المجمع الى اعداد الخاطبين اعداداً ملائماً لهذا السّر، والى استعادة رتبة الخطبة الكنسية المعروفة " برتبة الخواتم"، لما لها من اهمية تحضيرية للزواج.

 

4.     الصلاة الطقسية الخورسية

 انها صلوات الساعات التي تدخل المؤمنين والجماعة في حالة "الصلاة الدائمة" واللقاء المستمر بالمسيح، وفي حالة اصغاء لكلام الله والعمل بموجبه. انها تنعش روح اليقظة والعودة الى الله، وتعكس النشيد الذي ترفعه كنيسة الارض الى الآب بيسوع المسيح الوسيط والكاهن الاوحد.

يحبّذ المجمع تلاوة الصلاة الخورسية في الكنائس الرعائية والاديار وبخاصة في الكاتدرائية، يقوم بها الكهنة والشمامسة والرهبان والمؤمنون.

 

5.     الرتب والزياحات

 بالاضافة الى الاحتفالات الاسرارية، يطلب المجمع من المسؤولين الروحيين تعزيز الرتب والزياحات والتساعيات وسائر الطقوس التقوية، لانها تحيي روح الصلاة عند المؤمنين ولقاءهم بالرب الذي يخاطب قلوبهم.

 

***

صلاة

ايها الرب يسوع، بانتمائك الى العائلة البشرية، اتّحدت نوعاً ما بكل انسان، لتشركه في حياتك الالهية. لقد اخذت طبيعتنا البشرية لتشركنا في سعادة طبيعتك الالهية، وتمنحنا المشاهدة السعيدة. لقد صرت انساناً لتؤلّه الانسان. كتبت اسمك في سجل البشر، لكي تكتب اسماءنا في سفر الحياة الخالدة. اعطنا، ربِّ، ان ندرك عظمة اتحادنا بك، ونحن منشغلون في بناء مدينة الارض، لنعكس فيها قيم الملكوت، ونجعلها لائقة بخالقها وفاديها. ألهم رعاة الكنيسة ليحسنوا اتمام الاحتفالات بالاسرار والرتب الطقسية، لكي يشارك فيها المؤمنون مشاركة واعية وفعالة، فيجنوا منها الثمار الروحية الخلاصية اليانعة. امزج، يا رب، نشيد صلوات كنيسة الارض باناشيد كنيسة السماء، رافعين المجد والحمد والتسبيح للاب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . البابا بندكتوس السادس عشر: بولس رسول الامم (بالايطالية)،صفحة 82-85.

[2] . انظر التفاصيل في " بطاركة الموارنة واساقفتهم القرن 18 للاباتي بطرس فهد صفحة 50-59.

[3] . راجع بشأنها وقانونها المنشور في المرجع نفسه، صفحة 86--97.

[4] . انظر كل تفاصيل الاستقالة وقبولها في المرجع نفسه، صفحة 60-74

 


 

عيد ميلاد الرب يسوع

(عبرانيين1/ 1-12. لوقا2/1-20)

الاحد الاول بعد عيد الميلاد

( متى2/1-12)

 

        ميلاد الرب يسوع المسيح هو سرّ " كلمة الله، الذي هو الله، والذي صار انساناً وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجد ابن وحيد آتٍ من الآب، ملآن نعمة وحقاً" (يوحنا1/1و14). معه وفيه بدأ سرّ الكنيسة وهي جماعة المؤمنين به الذين يدعوهم الله  "فيولدون منه" (يو1/13) بالمعمودية، ويكوّنون "كنيسة الله في المسيح" بالافخارستنيا.

        تتمحور هذه التنشئة حول سرّ كلمة الله. وتستعين بمداخلات آباء سينودس الاساقفة الذي انعقد في روما (5-26 تشرين الاول 2008) بموضوع: " كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها".

 

اولاً، عام القديس بولس وشرح الرسالة والانجيل

 

1.    القديس بولس اللاهوتي الاول في الكنيسة: كنيسة الله [1]

القديس بولس اول لاهوتي كشف سرّ الكنيسة. اللفظة اليونانية الاصلية Ekklesia تعني الاجتماع الداعي اليه الله. وهي اياها باللاتينية Ecclesia، ومنها اشتقت اسماء اللغات التي هي من اصل لاتيني: بالفرنسية Eglise، بالايطالية Chiesa، بالاسبانية  Iglesia. المعنى نفسه نجده في لفظة " كنيسة" بالعربية، وهي من الاصل السرياني" كنوشتو"، من فعل " كانش" اي جَمَع، " دعا الجماعة لتلتئم". في العهد القديم، كانت اللفظة تعني " جماعة شعب الله التي كان يدعوها". وكان نموذجها الشعب المجتمع في سفح جبل سيناء. اما في العهد الجديد فهي جماعة المؤمنين بالمسيح الجديدة، التي يجمعها الله امامه من كل الشعوب.

بولس الرسول هو اول مؤلف لكتابة مسيحية استعمل فيها لفظة Ekklesia- كنيسة، وهي الرسالة الى اهل تسالونيكي، كتبها سنة 50 من كورنتس، موجّهة الى  "كنيسة التسالونيكيين التي في الله الرب يسوع المسيح" (1تسا1/1). وكذلك فعل في رسائل اخرى: الى كنيسة اللودِقيين (كولسي4/16)، الى كنيسة الله التي في كورنتس (1كور1/2؛2كور1/1)، الى الكنيسة التي في غلاطية (غلا1/2). انها كنائس محلية. لكن بولس قال في موضع آخر انه اضطهد " كنيسة الله" التي لا تعني جماعة محلية محددة، بل كنيسة الله عامة.

ليست " كنيسة الله" فقط مجموع الكنائس المحلية المختلفة، بل " كنيسة الله" التي تسبق كل الكنائس المحلية، وتتحقق فيها.

ولانها " كنيسة الله" وهو يدعوها لتجتمع، فهي واحدة بكل تعابيرها المحلية. ان وحدانية الله هي التي تخلق وحدة الكنيسة في كل الامكنة التي تتواجد فيها. في رسالته الى اهل افسس توسّع بولس الرسول في مفهوم وحدة الكنيسة، فسمّى الكنيسة " عروسة المسيح" (افسس4/4-7، اا-16؛5/23-30).

وادرك بولس الرسول ان الكنيسة مرتبطة بالكلمة الحية وباعلان المسيح الحيّ، القائم من الموت، الذي فيه وبه ينفتّح الله على كل الشعوب، ويجمعها في شعب الله الوحيد. نجد في اكثر من موضع من كتاب اعمال الرسل التزامهم " باعلان كلمة الله بجرأة (اعمال4/29 و31)، "بالمناداة بكلمة الرب" (اعمال 8/25). لكن هذه الكلمة هي صليب المسيح وقيامته اللذين يشكّلان السّر الفصحي. هذا السّر أحدث عند شاول تغييراً حاسماً في حياته على طريق دمشق، واصبح محور كرازته، الصليب والقيامة: قررت ان لا اعرف بينكم شيئاً إلاّ يسوع المسيح، واياه مصلوباً" ( 1كور2/2) و " ان كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا فارغ، وفارغ ايمانكم" (1كور15/14).

ان تحقيق سرّ الفصح فينا، وانتماءنا الى كنيسة الله يتمّان في سرّي المعمودية والقربان، ويدخلاننا في حضارة المحبة المسيحية. وهكذا نكون كنيسة محلية من جهة، ومؤمنين يدعوهم الله ويجمعهم في جماعة واحدة هي كنيسته، من جهة اخرى.

 

2.    نص الرسالة وشرحها: عبرانيين1/ 1-12.

 

إِنَّ اللهَ كَلَّمَ الآبَاءَ  قَدِيْمًا في الأَنْبِيَاء، مَرَّاتٍ كَثِيرَة، وبأَنْواعٍ شَتَّى، وفي آخِرِ هـذِهِ الأَيَّام، كَلَّمَنَا في الابْن، الَّذي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيء. وبِهِ أَنْشَأَ العَالَمِين. وهُوَ شُعَاعُ مَجْدِهِ وصُورَةُ جَوهَرِهِ، وضَابِطُ الكُلِّ بَكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ. فَبَعْدَمَا أَتَمَّ تَطْهِيرَ الـخَطايَا، جَلَسَ عَنْ يَمِينِ الـجَلالَةِ في الأَعَالِي، فصَارَ أَعْظَمَ مِنَ الـمَلائِكَة، بِمِقْدَارِ ما الاسْمُ الَّذي وَرِثَهُ أَفْضَلُ مِنْ أَسْمَائِهِم. فَلِمَنْ مِنَ الـمَلائِكَةِ قَالَ اللهُ يَومًا: "أَنْتَ ابْنِي، أَنَا اليَومَ وَلَدْتُكَ"؟ وقَالَ أَيْضًا: "أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا، وهُوَ يَكُونُ ليَ ابْنًا"؟ أَمَّا عِنْدَمَا يُدْخِلُ ابْنَهُ البِكْرَ إِلى العَالَمِ فَيَقُول: "فَلْتَسْجُدْ لَهُ جَمِيعُ مَلائِكَةِ الله!". وعَنِ الـمَلائِكَةِ يَقُول: "أَلصَّانِعُ مَلائِكَتَهُ أَرْوَاحًا، وخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَار". أَمَّا عَنِ الابْنِ فَيَقُول: "عَرْشُكَ يَا أَلله، لِدَهْرِ الدَّهْر، وصَولَجَانُ الاسْتِقَامَةِ صَولَجَانُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ البِرَّ وأَبْغَضْتَ  الإِثْم. لِذـلِكَ مَسَحَكَ إِلـهُكَ، يا أَلله، بِدُهْنِ البَهْجَةِ أَفْضَلَ مِنْ شُرَكَائِكَ". ويَقُولُ أَيْضًا: "أَنتَ، يَا رَبّ، في البَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْض، والسَّمَاوَاتُ صُنْعُ يَدَيْك. هِيَ تَزُولُ وأَنْتَ تَبْقَى، وكُلُّهَا كَالثَّوبِ تَبْلَى، وتَطْوِيهَا كَالرِّدَاء، وكالثَّوبِ تَتَبَدَّل، وأَنْتَ أَنْتَ وسُنُوكَ لَنْ تَفْنَى".

 

        يؤكد بولس الرسول ان المسيح، ابن الله المتجسّد، هو كلمة الآب الوحيدة والكاملة والنهائية. به قال كل شيء، ولن تكون كلمة اخرى غير هذه. ذلك ان الله كشف واوحى كل ذاته بالابن الذي صار انساناً، لانه " شعاع مجد الله وصورة جوهره" (عبرانيين1/3). بينما في الكلمات السابقة المتنوّعة التي " كلّم به الله الآباء قديماً في الانبياء، مرات كثيرة، وبانواع شتَّى"، فقد كشف واوحى ذاته بشكل جزئي. هذه الكلمات المتنوعة كانت احلاماً ورؤىً واختبارات وظهورات في الطبيعة وفي قلب الانسان، وعلى يد انبياء، فضلاً عن موسى وابراهيم.

        يقول القديس يوحنا الصليبي في شرحه لمطلع هذه الرسالة: " ما قاله الله جزئياً للانبياء، قاله كله وبكامله في ابنه، كاشفاً لنا كل ما هو هذا الابن. من يريد اليوم ان يسأله او يرغب في رؤية او وحي، فهو ليس فقط يرتكب حماقة، بل اساءة الى الله" ( انظر كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،65).

        وينكشف لنا وجه آخر من سرّ الكلمة، هو المسيح الفادي الذي " اتمّ تطهير الخطايا"، وهو الملك الثابت ملكه الى الابد، كما اعلن الملاك جبرائيل لمريم (لو1/33). وبعدما اتمّ تطهير الخطايا، جلس عن يمين الجلالة في الاعالي" ( عبرانيين1/3).

 

3. تجسّد كلمة الله (لوقا2/1-20)

 

        وُلد كلمة الله بحسب الجسد البشري ليرمم صورة الله في الانسان، المخلوق اصلاً على صورته (تكوين1/26)، وقد شوّهها الانسان بخطيئته. فكان كلمة الله المتجسد فادي الانسان ومخلّص العالم. وسيقول آباء الكنيسة: " تأنس الله ليؤلّه الانسان".

        لوحة الميلاد تكشف مضامين سرّ الكلمة المتجسّد، من خلال الاقوال والاحداث:

        هذا الكلمة المتجسّد هو " المخلص، المسيح الرب"؛ وهو " مجد الله" الظاهر في صورة الانسان المرممة ببشرية المسيح؛ وهو السلام على الارض" و " الرجاء للبشر".

        هذه الكلمة قالها الملاك للرعاة، وهؤلاء تنادوا للذهاب الى بيت لحم ليروا الكلمة، وعندما وصلوا أخبروا بالكلمة، ومريم حفظت في قلبها كل ما قيل عن الكلمة. اما الرعاة فعادوا فرحين بالكلمة، ممجّدين الله بها، ومسبحين على ما سمعوا ورأوا بشأنها.

        يقول القديس مكسيموس المعترف (+662):

        " وُلد كلمة الله مرة واحدة بحسب الجسد. ولكنه بحبه للبشر يودّ ان يولد باستمرار بالروح في الذين يحبونه. يصبح طفلاً صغيراً ويتكّون فيهم مع الفضائل، ويظهر بمقدار ما يتضّح له ان من يقبله جدير به. غير انه يظلّ مستتراً عن الجميع، بسبب عظمة سرّه".

         ولكن، كيف يولد عند الذين يحبونه؟ انه مثل حب الزرع، اذا وقع في الارض الطيبة، أثمر "الواحد مئة". الارض الطيبة هي القلب البشري المحب، مثل مريم العذراء التي قبلت كلمة الله، اولاً "بالايمان والرجاء والمحبة"، ثم فبلته جنيناً في حشاها. وكان يكبر فيها وهي فيه " بحفظها الكلمة في قلبها والتأمل فيها" (لو2/19). انها القدوة في كيف نسمع كلام الله: نحفظه في العقل والذاكرة، ثم نتأمله في القلب، فيظهر في الموقف والمسلك. مريم اعطت كلمة الله جسداً بشرياً، اما نحن فنعطيها امتداداً في حياتنا، ونموذجنا بولس الرسول الذي قال: " انا حيّ! لا انا! بل المسيح حيٌّ فيَّ" ( غلا2م20). 

 

4. كلمة الله نجم هادٍ (متى2/1-12)

 

في انجيل الاحد الذي يلي عيد الميلاد، يروي القديس متى مجيء المجوس من المشرق الى اورشليم ليسجدوا للملك الذي رأوا نجمه. انه نجم الكلمة المحتواة في الشريعة والانبياء، قرأها المجوس، علماء الفلك الوثنيون، في حركة النجوم الفلكية. هذا النجم قادهم الى الكلمة الذي صار انساناً، لكنهم رأوا في قراءتهم انه ملك واله وفادٍ، فقدموا له الذهب والبخور والمرّ ( متى2/11). كلمة الله نجم يقودنا الى النور الاعظم، الكلمة المتجسّد، يسوع المسيح.

رعاة بيت لحم قبلوا الكلمة من فم الملاك، فوجدوها " طفلاً مضجعاً في المذود وحوله مريم ويوسف" (لو2/16). والمجوس قبلوها من العلم المستنير بنور الحكمة الالهية، ووجدوها " في البيت صبياً مع مريم امه" ( متى2/11).

من خلال كل كلمات الكتاب المقدس، الله لا يقول سوى كلمة واحدة، كلمته الوحيدة الذي " كان عند الله وهو الله" (يو1/1) وصار انساناً. وهي كلمة قال فيها كل ذاته. انه  "صورة الله غير المنظور" ( كول1/15) و " بهاء مجده وصورة جوهره"  (عبرانيين1/3).

 

*** 

ثانيا، اللقاء العالمي السادس للعائلات

 

 العائلة المختبر الاول للكنيسة

نواصل الاستعداد للقاء العائلات العالمي السادس مع قداسة البابا في مدينة مكسيكو ( 14-18 كانون الثاني 2009) ، بموضوع: العائلة منشئة على القيم الانسانية والمسيحية. أعدّ المجلس الحبري للعائلة لهذه الغاية عشرة مواضيع، نعرض منها اليوم الموضوع السابع: العائلة المختبر الاول للكنيسة.

العائلة هي اول من يستقبل الشخص البشري، فتنقل اليه الايمان وتوفّر له اسرار التنشئة المسيحية: المعمودية والميرون والقربان. هذا هو عمل الوالدين تجاه اولادهم: يُدخلونهم في سرّ المسيح والكنيسة، يعلمونهم الصلاة ويتلونها معهم عند الاستيقاظ من النوم، وقبل والطعام والنوم، وفي مختلف الحالات والظروف، يوجهونهم نحو حب العذراء مريم والقديسين، ونحو محبة الفقراء ومساعدة المسنّ والمريض والمعاق.

اما الاختبار الخاص للكنيسة فهو عندما يشترك الوالدون والاولاد في قداس الاحد، الى جانب عائلات اخرى، ويصغون معاً الى كلام الله، ويصلون من اجل حاجات الجميع، ويغتذون من جسد الرب ودمه، ويشددون روابط الاخوّة والتضامن.

في بيت لحم كان اول اختبار للكنيسة حول يسوع الطفل المولود ويوسف ومريم مع الرعاة اولاً، ثم مع المجوس. فكان اختبار ايمان بالمسيح وبما يوحي الله، واختبار صلاة واناشيد فرح، واختبار شركة وتبادل هدايا بين السماء والارض، بين الله والانسان: فالله يهب ذاته والانسان يقدم من هدايا الارض: حملاً وحليباً ولبناً من الرعاة، وبخوراً ومراً وذهباً من المجوس. انها الكنيسة البيتية ذاتها تتواصل ونحن نختبرها اليوم، وتصل بنا الى الكنيسة الرعائية. من دون الاولى، لا مجال للانخراط في الثانية.

***

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تتناول الخطة التطبيقية للنص المجمعي الثاني عشر: الليتورجيا، الفصل الخامس والاخير وعنوانه: الفنّ الكنسي والاعياد. نعرض بعض العناصر التي تمارس من خلالها الليتورجيا التي هي سرّ لقاء الله الثالوث بالانسان والجماعة لنيل ثمار الخلاص والفداء بالمسيح، وهي من فيض محبة الآب وعمل الروح القدس (الفقرات58-60).

1. الكنيسة الحجرية هي المكان الذي تجتمع فيه جماعة المؤمنين بالمسيح، مكوّنة جسده السرّي المعروف بالكنيسة. هذا المكان، المبنى الحجري، يأخذ اسمه " كنيسة" من هذه الجماعة المجتمعة فيه. هذا المكان يتقدس بتجسّد الرب وموته وقيامته، ويعبّر عن الكون المخلوق الذي تحوّل كله الى " بيت الله المقدس"، حيث " نعبده بالروح والحق" (يو4/23). يأتي الفنّ المعماري الكنسي ليترجم في المبنى هذه المفاهيم الروحية.

2, المذبح هو مكان عبادة لله بامتياز، لان عليه تقام ذبيحة المسيح الخلاصية للتكفير والتعويض والفداء عن خطايا البشر، وتُمدّ مائدة جسده ودمه للحياة الجديدة، وتُعطى كل خيور السماء. انه التعبير عن قبر الرب ومجد قيامته ومصدر نعمه. وهو ايقونة المذبح السماوي حيث يحتفل الملائكة بليتورجيا التقديس السرمدية. وهو اخيراً مكان تجلّي الله وحضوره. الهندسة تضعه في مكان مرموق مميّز في الكنيسة، ويريده التقليد صوب الشرق.

3. اللباس الليتورجي اداة لتأدية الاحتفالات المتنوعة وفقاً للسنة الطقسية. ويكون متنوّع اللون في كل مناسبة وفقاً لتوجيهات لجنة الشؤون الليتورجية.

4. الايقونات تؤوّن ازمنة التدبير الخلاصي على اختلافها. انها خير وسيلة لاستذكار عظائم الله والتأمل واستلهام الصلاة والاناشيد. وهي تعبير عن ايمان المؤمنين بالحقائق السماوية. فلا بدّ من حفظ تراث الايقونات العريق، وعرض هذه الايقونات في مكان خاص في الكنيسة، وفقاً للازمنة الليتورجية ومواضيع الآحاد والاعياد.

 

***

        صلاة

        ايها الرب يسوع، يا كلمة الله المتجسّد، لقد غمرت البشرية بالنعمة والحق، وكشفت لنا سرّ الله، فأنت شعاع مجده وصورة جوهره. وطبعت بالوهيتك طبيعتنا البشرية. إرفعنا اليك واجعلنا شبيهين بك في انسانيتنا التي رقيتها الى مستوى الالوهة. انت هو الاله الذي تأنّس ليؤله الانسان. أعطنا فرح الرعاة بك ورؤيتهم لك. ومثلهم املأ حياتنا ووجودنا معنى وسبباً للعيش. وقدّرنا مثل المجوس ان نقرأ حضورك في علامات الازمنة، ونقدّم لك قرابين حياتنا. يا عائلة الناصرة، ايتها الكنيسة الاولى، أفيضي على كل عائلة اختبار اللقاء بين الله والجماعة الزوجية والعائلية، لتكون حقاً كنيسة بيتية تنقل الايمان وتعلّم الصلاة وفرح العطاء المتفاني. ولتكن العائلة اول كنيسة روحية تعبد الله بالروح والحق، وتجعل هذه العبادة احتفالاً ليتورجياً مع الجماعة المجتمعة حول مذبح المسيح في كنائسنا الرعائية. لك ايها الثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، كل اكرام وتسبيح وشكر، الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 15 تشرين الاول 2008.

 


 

رأس السنة اول كانون الثاني 2009

الاحد 4 كانون الثاني 2009

عيد رأس السنة- يوم السلام العالمي

(افسس:/11-22)

(يوحنا 14/27-31)

 احد وجود الرب في الهيكل

(لوقا2/41-52)

 

        اليوم الاول من السنة يتّصف بعيدين، عيد اسم يسوع الذي اُعطي له في رتبة الختانة الطقوسية، ويوم السلام العالمي. فيرتبط السلام باسم يسوع، لانه هو " سلامنا" (افسس2/12) و " امير السلام" (اشعيا 9/5). رسالة بولس الرسول الى اهل افسس، التي نقرأها في هذا اليوم تتوسع بمفهوم السلام الآتي من المسيح. والذي يستودعه الكنيسة، على ما يقول الرب في انجيل يوحنا. وفي الاحد المقبل نحتفل بعيد العائلة المقدسة، التي هي اول كنيسة منزلية، ونموذج لكل عائلة مسيحية. بمناسبة يوم السلام العالمي وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالة بعنوان: " مكافحة الفقر، بناء السلام".

 

اولاً، يوبيل القديس بولس وشرح الرسالة والانجيل

 

1.    القديس بولس معلم سرّ الكنيسة: جسد المسيح [1]

وحده القديس بولس اوجد مفهوم " كنيسة الله" انها " جسد المسيح". ولهذا المفهوم بعدان،الاول اجتماعي (سوسيولوجي) حيث الجسد مؤلف من عناصر لا يمكن ان يوجد من دونها. ويضعه بولس في رسالتيه الى الرومانيين والى اهل كورنتش. يتكلم عن الجسد المؤلف من اعضاء متنوعين، ولكل واحد وظيفته واهميته، وكلهم ضروريون ليتمكن الجسد من ان يعيش ويحقق وظائفه؟ هكذا في الكنيسة، يقول الرسول، يوجد دعوات عديدة: انبياء ورسل ومعلمون واشخاص عاديون. كلهم مدعوون ليعيشوا كل يوم في المحبة، وليبنوا الوحدة الحية لهذا الجهاز الروحي.

البعد الثاني لاهوتي هو جسد المسيح نفسه. يعتبر بولس الرسول ان الكنيسة ليست فقط جهازاً، بل هي جسد المسيح في سرّ القربان، حيث نقبل كلنا جسده، ونصبح حقيقة جسده. هكذا يتحقق سرُّ اتحادنا بالمسيح فنصير جسداً واحداً، وروحاً واحداً في المسيح.

ليست الكنيسة لبولس ولا لنا. انها جسد المسيح: " كنيسة الله، حقل الله، بنيان الله، هيكل الله" (1كور3/9-16). اليها نحن ننتمي بالمعمودية والقربان والمحبة. منها نحيا، واياها نبني ونحمي.

بين الهيكل والكنيسة رباط متكامل. الهيكل هو المبنى، المكان الحسّي المقدس الذي تجري فيه الاعمال الليتورجية الحاضر فيها الله الثالوث لخلاص المؤمنين المشاركين. اما الكنيسة، ولئن قهمنا فيها المكان الحسّي الحجري ايضاً، فانها تعني خاصة جماعة الايمان الحي التي يسكن فيها الله، ولا يسكن في ابنية من حجر. جماعة المؤمنين هي " هيكل الله في العالم"، و" عائلة الله" التي تسكن فيها محبته. وبهذه السكنى تصبح الجماعة المؤمنة " بيت الله" (1طيم3/15).

مسؤوليتنا نحن المؤمنين بالمسيح، وقد أصبحنا باسرار النشأة " عائلة وبيت الله"، ان نكون المكان والعلاقة لحضوره.

 

        2. رسالة القديس بولس الى اهل افسس (2/11-22)

 

 تَذَكَّروُا، أَنْتُمُ الوَثَنِيِّينَ في الـجَسَدِ سَابِقًا، أَلـمَدعُوِّينَ أَهْلَ عَدَمِ الـخِتَانَةِ عِنْدَ الـمَدعُوِّينَ أَهْلَ الـخِتَانَة، بفِعْلِ اليَدِ في الـجَسَد، تَذَكَّرُوا أَنَّكُم كُنْتُمْ في ذ,لِكَ الوَقْتِ بِدُونِ مَسِيح، مُبْعَدِينَ عَنْ رَعِيَّةِ إِسْرَائِيل، وغُرَبَاءَ عنِ عُهُودِ الوَعْد، لا رَجَاءَ لَكُم في العَالَمِ ولا إِلـه؛ أَمَّا الآنَ فَفِي الـمَسِيحِ يَسُوعَ أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُم مِنْ قَبْلُ بَعِيدِين، صِرْتُم بِدَمِ الـمَسِيحِ قَرِيبِين. فَإِنَّهُ هُوَ سَلامُنَا، هُوَ جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وفي جَسَدِهِ نَقَضَ الـجِدَارَ الفَاصِلَ بَيْنَهُمَا، أَي العَدَاوَة، وأَبْطَلَ شَريعَةَ الوَصَايَا بِمَا فِيهَا مِنْ فَرائِض، لِيَخْلُقَ الاثْنَينِ في شَخْصِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، بإِحْلالِهِ السَّلامَ بَيْنَهُمَا، ويُصَالِحَهُمَا مَعَ الله، كِلَيْهِمَا في جَسَدٍ وَاحِد، بِالصَّليب، قَاتِلاً فيهِ العَدَاوَةَ بَيْنَهُمَا. فلَمَّا جَاءَ بَشَّرَكُم بِالسَّلامِ أَنْتُمُ البَعِيدِين، وبَشَّرَ بالسَّلامِ القَرِيبين، لأَنَّنَا بِهِ نِلْنَا نَحْنُ الاثْنَينِ في رُوحٍ وَاحِدٍ الوُصُولَ إِلى الآب. إِذًا فَلَسْتُم بَعْدُ غُرَبَاءَ ولا نُزَلاء، بَلْ أَنْتُم أَهْلُ مَدِينَةِ القِدِّيسِينَ وأَهْلُ بَيْتِ الله، بُنِيتُمْ على أَسَاسِ الرُّسُلِ والأَنْبِيَاء، والـمَسِيحُ يَسُوعُ نَفْسُهُ  هُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَة. فيهِ يَتَمَاسَكُ البِنَاءُ كُلُّه، فَيَرْتَفِعُ هَيْكَلاً مُقَدَّسًا في الرَّبّ، وفيهِ أَنْتُم أَيْضًا تُبْنَونَ معًا مَسْكِنًا للهِ في الرُّوح.

        هذه الرسالة هي بمثابة " شرعة مسكونية مسيحية". بميلاد المسيح، ابن الله الذي صار انساناً كاملاً الى جانب كونه الهاً كاملاً، انهدم كل جدار طقوسي  يفصل بين الشعوب. فقد " بشّر بالسلام الذين كانوا بعيدين والذين كانوا قريبين" (افسس2/17). هذا الكلام البولسي تنبأ عنه اشعيا قبل المسيح بسبعماية سنة: " مهّدوا، مهّدوا الطريق. إرفعوا العثار عن طريق شعبي... اسكن في العلاء وفي القدس، وأسكن مع المنسحق والمتواضع الروح، لآحيي الارواح وأحيي القلوب... السلام السلام للبعيد وللقريب، قال الرب، وأشفيه" ( اشعيا57/14-15،19). سلام الله هو شفاء الارواح والقلوب.

        هدم المسيح جدار العداوة بين الشعوب والاديان بدمه على الصليب، فادياً للجميع ومبّرراً. ويقولها بولس: " اما الآن ففي المسيح يسوع، انتم الذين كنتم بالامس اباًعد، فقدم جُعلتم أقارب بدم المسيح" (افسس7/13). وصار صليبه لهم جميعاً طريق خلاص يقودهم الى الله، " لان لنا به جميعاً سبيلاً الى الآب في روح واحد... وصرنا كلنا به ابناء وطن القديسين، ومن اهل بيت الله" ( افسس7/18-19).

        ويشرح بولس الرسول جوهر تقارب البعيدين والقريبين بدم المسيح، وهو ان بالمسيح " وُلد انسان جديد" في كل من يؤمن به وينال الخلاص، وان ما يجمع بين جميع الناس، من اي ثقافة او لون او دين كانوا، انما هو " الانسان الجديد" المتحقق في كل شخص.

        ويضيف القديس بولس ان هذا " الانسان الجديد" هو "واحد" (افسس7/15)، للدلالة على انه جسد المسيح الذي هو الكنيسة. بالمعمودية يصبح المؤمن انساناً جديداً، وتتكوّن جماعة المعمدين المعروفة بالكنيسة، تماماً كما تتكوّن السنبلة، ذات الحبات العديدة، من حبّة الحنطة الواحدة المائتة في الارض (انظر يوحنا 12/24).

        هذه الكنيسة، جماعة المؤمنين، تأخذ في رسالة بولس الى أهل افسس صورة البناء الحجري. فهي مبنية على " حجر الزاوية الذي هو المسيح نفسه"، وعلى " اساس الرسل والانبياء، وترتفع لتكون هيكلاً مقدّساً في الرب، ويكون فيها الاعضاء المؤمنون مسكناً لله في الروح القدس (افسس2/20-22).

        المسيح الذي هو سلامنا، يتواصل سلاماً للمجتمع البشري من خلال كل انسان مؤمن به فيصبح فاعل سلام؛ ومن خلال الكنيسة، المؤمنة على رسالة السلام المسيحاني الذي هو اتحاد بالله، عمودياً، ووحدة بين جميع الناس افقياً. فالكنيسة-السرّ والشركة والرسالة- هي اداة هذا الاتحاد وهذه الوحدة.

 

        3. عائلة الناصرة نواة الكنيسة (لوقا2/41-52)

 

        الكنيسة والعائلة المسيحية حقيقتان متلازمتان ومتداخلتان.

        في عائلة الناصرة ينجلي وجه الكنيسة الشركة من خلال شركة الاشخاص القائمة بين يوسف ومريم والصبي يسوع. وهي العلامة والصورة لشركة الآب والابن بالروح القدس. هذه الشركة الروحية والبشرية تجعل من العائلة جماعة ايمان ورجاء ومحبة، تغتذي وتتقوى بالصلاة اليومية وبقراءة كلام الله وتُسمى " كنيسة بيتية" (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2204-2205).

        صعود عائلة الناصرة الى هيكل اورشليم في عيد الفصح يجعلها " جماعة مصلية". ومكوث الصبي يسوع بين العلماء حول كلام الله ومشاركة ابويه مبهوتين، يجعل من العائلة " جماعة سماع كلام الله".

        اما جواب يسوع لامه: " ألآ تعلمان انه ينبغي ان اكون في ما هو لابي" (لو2/49)، فيعني ان العائلة المسيحية مؤتمنة على رسالة اعلان انجيل المسيح. فهي اول من يتلقّى الانجيل " كلمة حب وحياة" يوم الزواج، واول من يعلنه في الحياة الزوجية والعائلية، من خلال مشاعر الحب والحنان والعاطفة والتعاون والاحترام المتبادل، وانجاب الاولاد وتربيتهم، على قاعدة النمو المثلث: " بالقامة والحكمة والنعمة" ( لو2/52).

        هذا ما يجعل العائلة " جماعة مميّزة" لكونها على المستوى الروحي " كنيسة مصغّرة"، وعلى المستوى الاجتماعي " اول مجتمع طبيعي" و" النواة الاصلية للمجتمع"، وعلى المستوى التربوي " المدرسة الطبيعية" للتربية على القيم الانسانية والروحية (كتاب التعليم المسيحي،2206-2007؛ 1882).

***

ثانياً، اللقاء العالمي السادس للعائلات

 

عائلة الناصرة نموذج العائلة المسيحية

 

        نواصل الاستعداد الروحي للقاء العائلات العالمي السادس في مدينة مكسيكو (14-18 كانون الثاني 2009 بموضوع: العائلة منشّئة على القيم الانسانية والروحية"، وقد فصّله المجلس الحبري للعائلة في عشرة مواضيع، نختار منها اليوم موضوع: عائلة الناصرة نموذج العائلة المسيحية.

        على مثال عائلة الناصرة تدعى كل عائلة مسيحية لان تعيش حياة عادية تنفتح على حضور الله فيها. ففي العائلة ينتظرنا الله لنعرفه ونحبه ونحقق تدبيره علينا.

        انها حياة عمل. يوسف تعاطى مهنة النجارة ليكسب خبزه اليومي بعرق الجبين. ومريم انصرفت لاعمال المنزل، اكلاً وشرباً واهتماماً بتقديم الخدمات البيتية. ويسوع يساعد امه في طفولته وفتوته، ويساعد اباه يوسف في شبابه، قبل الانصراف الى الرسالة الخلاصية بعمر ثلاثين سنة. كل عائلة مدعوة، مثل عائلة الناصرة، لتعيش " انجيل العمل"، الذي هو مشاركة في عمل الله الخالق، وتقديس العمل، وتقديس الذات في العمل، ومساعدة الآخرين.

        انها حياة صلاة. عائلة الناصرة عاشت حياة صلاة يومية في البيت حسب التقاليد الدينية، ثلاث مرات في النهار، صباحاً وظهراً ومساءً؛ واللقاء الاسبوعي مع الجماعة في الهيكل ايام السبت، والحج الى اورشليم في عيدي الفصح والعنصرة. هكذا العائلة المسيحية مدعوة لتحافظ على تقاليدها " كجماعة مصلية" في البيت يومياً، وفي الكنيسة ايام الآحاد والاعياد، ومع الجماعة في المواسم الكبرى.

        كان الله محور حياة عائلة الناصرة. مريم اعلنت نفسها خادمة له ولسّر المسيح ابنها منذ البشارة وحتى الصليب. يوسف اطاع تدبير الله عليه وعلى مريم كما اعلمه به الملاك في الحلم. يسوع انصرف في كل ما هو لأبيه السماوي، اي خلاص الجنس البشري بقبول الموت على الصليب حباً بكل انسان. هكذا كل عائلة مسيحية انما هي مدعوة لتجعل الله محور حياتها، وتكتشف تدبيره على كل واحد من افرادها.

***

ثالثاً، يوم السلام العالمي: رسالة البابا بندكتوس السادس عشر

 

  وجهّ قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالة بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي، عنوانها: " محاربة الفقر، بناء السلام"، وقد اصدرها بتاريخ 8 كانون الاول 2008.

يستهل قداسة البابا رسالته بكشف العلاقة بين محاربة الفقر وبناء السلام، ذلك ان اوضاع الفقر في العالم تُلقي بتبعاتها السلبية على السلام الداخلي وبين الشعوب. فغالباً ما يكون الفقر من بين العوامل التي تزيد من حدّة النزاعات حتى المسلّحة منها.

يؤكد قداسة البابا مع خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني ان " التفاوت بين الاغنياء والفقراء مشكلة تفرض نفسها على ضمير البشرية، لان الاوضاع التي يعيشها عدد كبير من البشر تمسّ كرامتهم الطبيعية، وتعرّض للخطر ترقي الجماعة الدولية، ترقياً اصيلاً ومتناغماً (فقرة1).

محاربة الفقر تقتضي الانتباه الواعي لظاهرة العولمة الشائكة من خلال ثلاثة:

أ- استخدام نتائج ابحاث الخبراء في الاقتصاد وعلم الاجتماع حول اوجه الفقر المتنوّعة، في برامج فاعلة، سياسياً واقتصادياً، للخروج من حالة الفقر.

ب- اعطاء العولمة معنى روحياً واخلاقياً، بحيث تعتبر الفقراء جزءاً من تدبير الله الواحد الذي يدعو جميع الناس الى انشاء عائلة واحدة، يرتب فيها الجميع-افراداً وشعوباً وامماً- تصرفاتهم وفقاً لمبادىء الاخوّة والمسؤولية، كأساس.

ج- تكوين رؤية شاملة ومفصّلة للفقر بوجهيه الماّدي واللامادّي. "فالفقر المادّي" يتناول كل مظاهره الحسيّة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي. و"الفقر اللامادّي" يتناول حالات التهميش، والفقر في العلاقات بين الاشخاص، والفقر الاخلاقي والروحي. هذا الفقر اللاماّدي ليس حتماً نتيجة الفقر المادي، وهو يتواجد بالاكثر في المجتمعات الغنية والمتقدمة. الفقراء اللاماّديون هم اشخاص تائهون في داخلهم، ويعيشون حالات متنوعة من اللاستقرار المعنوي بالرغم من البحبوحة الاقتصادية. هذه الحالة تسمى " تخلفاً أدبياً" (البابا بولس السادس: في ترقّي الشعوب،19).

ويضيف البابا بندكتوس: ثمة الفقر الثقافي الذي لا يسمح بالاستخدام الملائم للثروات الطبيعية، ما يخلق " المجتمعات الفقيرة". ويؤكد قداسته: " كل شكل من اشكال الفقر انما يجد جذوره في عدم احترام الشخص البشري في كرامته المتسامية. فعندما لا يُعتبر الانسان في شمولية دعوته، وعندما لا تُحترم مقتضيات " الاكولوجيا الانسانية" (البابا يوحنا بولس الثاني، السنة المئة،38)، عندئذٍ تنفجرّ آليات الفقر الجارفة بما لها من تبعات في مختلف المجالات، كما ستبيّن هذه الرسالة (الفقرة،2).

صلاة

ايها الرب يسوع، اننا نناجيك باسمك، ملتمسين الخلاص والسلام. فانت الله الذي تخلص بدم صليبك كل انسان من خطاياه، وانت امير السلام الذي تزرع في الارواح والقلوب سلامك الشافي. بنعمة روحك القدوس الذي ترسله الينا، اشفِ نفوسنا من ضعفها وانحرافها؛ اشفِ ارواحنا من حزنها وهمومها ويأسها؛ اشفِ قلوبنا من الحقد والبغض والانانية. ازرع سلامك في وطننا وفي كل الامم والشعوب، واجعلنا فاعلي سلام لنكون ابناء الله حقاً.

في عيد عائلة الناصرة، بارك يا رب عائلاتنا لتكون مدرسة للقيم الانسانية والروحية، وكنيسة مصغرة بيتية تنقل الايمان وتحيا بالصلاة وتنتعش بروح القداسة.

  وفي يوم السلام العالمي، ألهمنا وقوّنا، كلَّ واحد من موقعه، وألهم قادة الدول، لنحارب الفقر المادي والروحي، الاخلاقي والثقافي، فنبني مجتمعاً قائماً على السلام والاستقرار. لك المجد والشكر والتسبيح ايها الآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 15 تشرين الاول 2008.

 


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code