زمن الصليب
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2005 - 2006
 عيد ارتفاع الصليب المقدس - 14 ايلول 2006
 
  1. تقديم
  2. عيد الصليب والاحد الاول بعد عيد الصليب - الصليب حكمة الله وقدرته
  3. الاحد الثاني بعد عيد الصليب - انتظار تجليات الله
  4. الاحد الثالث بعد عيد الصليب - حقيقة المسيح محور كل تعليم وعمل
  5. الاحد الرابع بعد عيد الصليب - المسؤولية خدمة الله بين الناس
  6. الاحد الخامس بعد عيد الصليب - الحياة انتظار لمجيء الرب وتجلياته
  7. الاحد السادس بعد عيد الصليب - مقدرات الحياة موجهة لانماء الانسان والمجتمع
  8. الاحد السابع بعد عيد الصليب - سندان على الرحمة والعدالة

تقديم

 

         الشهادة لانجيل نعمة الله                          (اعمال 20/24)

  

في زمن الصليب، " الكنيسة تسير بين محن العالم وتعزيات الله" (القديس اغسطينوس). ونحن في هذه البيئة المشرقية التني تكتنف
ها المحن والشدائد، لا بدّ من ان نصمد فيها لكي "نشهد لاتجيل نعمة الله" ( اعمال 20/24).



         ان اناجيل زمن الصليب تفتح نافذة على النهايات، لكي نستلهمها في بناء مدينة الارض، حيث يبدأ إحلال ملكوت الله على ان يكتمل في العالم الآتي. وبما ان هذا البناء مكلف، لما يقتضي من جهود وتضحيات، فانّا مع ذلك ندرك ان  "المسيح المصلوب هو قدرة الله وحكمة الله" (1كور 1/24)، وان صليبه يفضي الى القيامة لحباة جديدة.

 تتناول التنشئة المسيحية في كل احد ثلاثة ابعاد: شرح الانجيل؛ وابراز وجوه قديسين تعيّد الكنيسة تذكارهم في الاسبوع السابق للاحد، وقد عاشوا روح الانجيل؛ ورسم خطة راعوية مستمدة من تعليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته، فتستلهم، في زمن الصليب، النص الثالث والعشرين وعنوانه: " الكنيسة المارونية والارض". الغاية من هذا الاختيار هي ان سعينا وانتظارنا " لسماء جديدة وارض جديدة" (رؤيا 21/1)، يقتضيان منا ان نحافظ على ارض الاجداد والوطن لنعكس عليها قيم العالم الآتي.

 

نأمل ولبنان ينهض من ركام حرب مدمِّرة فُرضت عليه، ان ينبعث انسان لبناني جديد، يردد في اعماق قلبه كلمة بولس الرسول: " يشهد لي الروح القدس في كل مدينة ويقول اني على موعد مع الشدائد والقيود. ولكني لا احسب نفسي شيئاً، حتى اتمّم سعيي والرسالة التي قبلتها من ربنا يسوع، وهي  ان "اشهد لانجيل نعمة الله" ( اعمال 20/23-24).

+ بشاره الراعي     مطران جبيل


 

 عيد الصليب والاحد لاول بعد الصليب

انجيل القديس يوحنا 12/20-32

انجيل القديس مرقس 10/35-45

الصليب حكمة الله وقدرته

 

        نحن في زمن الصليب الذي يبدأ بالاحد الاول بعد عيد الصليب ( 14 ايلول). انها المرحلة الثالثة والنهائية من تاريخ الخلاص المعروف بتاريخ ملكوت الله، والمرحلة الاخيرة من السنة الطقسية. زمن الصليب يكشف لنا مرحلة ما بعد الموت ونهاية العالم والحياة الابدية. وهي مرحلة معروفة في اللاهوت  "بالواقعات الجديدة" : وهي موت الانسان، والدينونة الخاصة بكل شخص، ومصير كل واحد الذي يتنوع بين الخلاص وبالسعادة الابدية في السماء، وحالة المطهر التكفيرية، والهلاك الابدي في جهنم، فمصير العالم الاخير وفيه مجيء السيد المسيح دياناً، وقيامة الموتى، والدينونة العظمى، ونهاية العالم، واخيراً اكتمال ملكوت الله الابدي.

 

اولاً، زمن الصليب وابعاده

 

1.    عيد ارتفاع الصليب وزمنه الطقسي

 

تاريخياً، يرقى العيد الى سنة 330 بعد انتصار الملك قسطنطين الكبير على مكسنسيوس في روما، وقد استعان بالمسيحيين، وصلّت له امه هيلانه، وظهرت له علامة الصليب في الجو، اثناء المعركة، مع الكتابة: " بهذه العلامة تنتصر". في سنة 326 زارت هيلانه الملكة الاراضي المقدسة واكتشفت خشبة الصليب فأخذت قسماً منها لابنها قسطنطين وشيدّت ثلاث كنائس: الاولى فوق قبر المسيح، والثانية في مكان صعود المخلص، والثالثة فوق مغارة بيت لحم. بعد انتصاره اصدر مرسوم ميلانو سنة 313 الذي أنهى به اضطهدات المسيحيين، واعلن الحرية الدينية في الامبراطورية مانحاً المسيحيين وغيرهم الحرية لاعتناق الديانة التي يريدون. فلم تعد الوثنية دين الامبراطورية الرومانية. سنة 380 مُنعت رسمياً العبادات الوثنية مع الملك المسيحي تيودوسيوس. اما قسطنطين فآمن بالمسيح بعد ذلك الانتصار، واعتمد قبل وفاته في كابلة المعمودية، قرب بازيليك مار يوحنا اللاتران في روما، وهي مرممة اليوم ومعروفة بكابلة معمودية قسطنطين.

ثم تجدد العيد مع الامبراطور هرقل وبطريرك اورشليم زكريا، بعد انتصار الامبراطور على الفرس واستعادة ذخيرة عود الصليب سنة 628 التي كان فد استولى عليها كسرى ملك الفرس واحتفظ بها مدة 14 سنة. كان كسرى قد دخل اورشليم منتصراً وأسر الوف المسيحيين وعلى رأسهم البطريرك زكريا مع ذخيرة الصليب.

روحياً، عيد الصليب دعوة الى الرجاء: انه علامة الانتصار على قوى الشر، ومبعث النور في ظلمات الحياة، وقوة خلاص وفداء لمن يحملون صليبهم في هذا العالم: السيد المسيح نفسه انبأنا بذلك عندما قال: " اذا ما رُفعت عن الارض اجتذبت الي كل أحد" ( يو12/32). انه اعلان حب الله للعالم والخلاص بيسوع المسيح وحده.

طقسياً، يشكل زمن الصليب، في اطار السنة الطقسية، مرحلة اكتمال ملكوت الله.

ان ملكوت الله او سر شركة الله الثالوث مع الانسان والتاريخ عاموديا، وسر الشركة بين الناس    افقيا، يمر عبر ثلاث مراحل: الاولى، تحضيرية لمجيء السيد المسيح، في العهد القديم؛  الثانية، تنفيذية مع عمانوئيل  “الهنا معنا"، ابن الله الذي صار انساناً، واعلن للناس انجيل الحياة، وافتداهم بذبيحته على الصليب، وبعث فيهم الحياة الالهية بقيامته وحلول الروح القدس، واسس الكنيسة، كزرع الملكوت وبدايته، وسلمها الانجيل والاسرار وسائل دخول  ملكوت الله. فراحت الكنيسة توزع الكلمة للايمان والرجاء، والنعمة للخلاص، والروح القدس للمحبة؛ الثالثة، نهائية لاكتمال الملكوت في سر الشركة للحياة الابدية، بعد الموت. عن هذه المرحلة النهائية تتحدث اناجيل زمن الصليب.

وهكذا تقسم السنة الطقسية الى ثلاثة ازمنة كبيرة: زمن المجيء وهي مرحلة تحضير ملكوت الله، وزمن الميلاد والفصح والعنصرة او زمن المسيح والكنيسة وهي مرحلة تحقيق ملكوت الله، وزمن الصليب  وهي مرحلة اكتمال ملكوت الله.

زمن الصليب يضعنا امام بعدين: البُعد الاول تاريخي وهو ارتفاع يسوع على خشبة الصليب فداءً عن الجنس البشري باسره، فهو المخلص الوحيد والشامل لجميع الشعوب؛ البُعد الثاني نهيوي اسكاتولوجي وهو ارتفاعه بالمجد الى السماء حيث اجتذب جميع الابرار الذين سبقوه، ويجتذب جميع الناس الذين من بعده . وفي كلا الحالين يسوع هو كاهن الفداء  والتشفع ( انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،662). ولهذا اعتبرت المرحلة الاخيرة من السنة الطقسية، المعروفة بزمن الصليب، مرحلة النهايات: نهاية الازمنة، وقيامة الموتى، ومجيء الرب الثاني في نهاية الازمنة)باروزيّا)، وقيامة الموتى والدينونة الاخيرة والثواب والعقاب الابديين  (اسكاتولوجيا).

تتلو الكنيسة في عيد ارتفاع الصليب من انجيل يوحنا النص12/20-32، وفي الاحد الاول بعد الصليب من انجيل مرقس النص10/35-45.

 

2.    مضمون نص انجيل يوحنا (12/20-32)

 

هذا الخطاب الذي قاله يسوع لبعض اليونانيين بحضور الرسولين فيليبس واندراوس، كان يوم دخول يسوع الملوكي الى اورشليم، الذي نحييه في عيد الشعانين، قبل خمسة ايام من آلامه وموته وقيامته.

لأولئك اليونانيين الذين جاؤوا للمشاركة في عيد الفصح في اورشليم، كشف الرب عن سرّه الفصحي، آلامه وموته وقيامته، وثمار هذا السّر، آخذاً صورة " حبة الحنطة التي تقع في الارض وتموت فتعطي ثمراً كثيراً " (يو12/24)، فسما فصحه سرّ مجده: " حانت الساعة ليتمجد ابن الانسان" (الآية 23)، ودخول ومشاركة في مجد الله: " سُمع صوت من السماء يقول: " قد مجَّدت وسأمجّد (الآية 28)؛ وجعله نهجاً فصحياً لكل مؤمن به:  “من يخدمني فليتبعني، وحيث اكون انا يكون هناك خادمي، من يخدمني يكرمه الآب" ( الآية 26)؛ وأقامه اعلاناً ووسيلة للانتصار على الشيطان سيد العالم وعلى الشر: " الآن يطرد سلطان هذا العالم خارجاً" ( الآية 31)؛ واخيراً وجّهه نداء رجاء يدعو به اليه كل انسان: " وانا اذا رفعت عن الارض، جذبت اليّ الجميع"  (الآية32).

بهذا الخطاب وما فيه من معانٍ للفصح الجديد، شرح يسوع معنى " ملوكيته" التي اعلنتها الجماهير ساعة دخوله اورشليم، باغصان النخل والزيتون وبهتاف: " هوشعنا ! يا رب خلص! مبارك الآتي باسم الرب ملك اسرائيل!" ( يو12/12-13). ملوكيته هي سيادته على الشر، بكل انواعه، وتدمير قواه، واحلال المحبة والعدالة والسلام، وازالة كل ظلم؛ وتقوم ملوكيته على التواضع واخلاء الذات والطاعة للآب حتى  صليب الفداء. يتحقق مجد ّ ملوكيته في موته وقيامته.ولذا، عرشه خشبة الصليب، وتاجه اكليل الشوك، وصولجانه المسامير؛ ثم تكتمل ملوكيته بجلوسه على يمين الآب، دياناً للاحياء والاموات، وحملاً مذبوحاً قائماً من الموت، كاهناً الى الابد يشفع بنا لدىالآب.

لم يفهم تلاميذ يسوع معنى " ملوكيته"، على ما اشار يوحنا الرسول: " هذه لم يفهمها تلاميذه في ذلك الوقت، ولكن، لما مجدّ يسوع، تذكر التلاميذ ان هذه صنعوها له" (يو12/16). والفريسيون اساؤوا فهم  "ملوكيته"، فشرعوا يحاولون قتله احتجاجاً على استقطابه جمهور الشعب: " انظروا انكم لن تُغنوا شيئاً. هوذا العالم كله قد ذهب وراءه" (يو12/19). وكانت علة قتله التي شكوه بها امام بيلاطس الوالي الروماني الادعاء بانه " ملك اليهود"، ولهذا هو عدو للقيصر، السلطة السياسية الرومانية: " اذا اخليت سبيله لا تكون صديقاً لقيصر، فمن يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر ". وعندما سأل بيلاطس احبار اليهود: " هل اصلب ملككم؟ اجابوا: " ارفعه ! اصلبه! لا ملك لنا الاّ القيصر" (يو19/12 و15). ومعلوم انهم كانوا على عداء مستميت مع الرومان الوثنين المحتلين ارضهم، ارض يهوه. هذه غوغائية الشعوب المسيّسة في كل زمان!

ان الذين اجتذبهم المسيح اليه بالايمان وبمعمودية الشوق او بمعمودية الماء والروح، انما اشركهم في ملوكيته اعني " في الصراع الروحي الذي يمارسونه لتدمير سلطان الخطيئة فيهم ( روم6/12)، وفي تكريس الذات لخدمة المسيح في المحبة والعدالة" (العلمانيون المؤمنون بالمسيح،14). هذا "الاجتذاب " هو دعوة واختيار من الله يشرّف  الناس ويجعلهم شعبه السائر في هذا العالم يبني ملكوت المحبة والعدل، القداسة والسلام، على ما قال بطرس الرسول: “الكرامة لكم ايها المؤمنون، فانكم ذرية مختارة، وجماعة ملوكية كهنوتية، وامّة مقدسة، وشعب اقتناه الله للاشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات الى نوره العجيب"  (1بطرس2/9).

عيد ارتفاع الصليب هو عيد ملوكية المسيح على العالم. " فالعالم ينطوي والصليب ثابت"! انه نشيد الكنيسة في الارض والسماء للحمل المذبوح القائم من الموت الذي اجتذب بدمه ويجتذب جميع الناس ليكونوا شعباً ملوكياً، كما رآهم يوحنا الرسول وسمعهم ينشدون نشيداً جديداً " لك المجد والعزة ابد الدهور، لذلك ذُيحت وافتديت لله بذلك اناساً من كل قبيلة ولسان وشعب وامّة، وجعلت منهم مملكة لالهنا، سيملكون على الارض" ( رؤيا1/6؛5/9-10).

 

 

3. تعليم النص من انجيل مرقس ( 10/35-45)

 

تختار الكنيسة هذا النص في بداية زمن الصليب للدلالة ان حياة الانسان مطبوعة بالألم والمحن اعداداً للقيامة مع الرب في مجد ملكوته. هي الامثولة التي اعطاها يسوع ليعقوب ويوحنا عندما طلبا الجلوس عن يمينه ويساره في ملكوته.

طريق مجد الملكوت تمر عبر الصليب الذي يسميه يسوع المشاركة في " شرب كأس آلامه"، وفي  "صبغته" المعروفة بمعموديته وهي موته والقيامة. ذلّك ان الخلاص يقتضي موتاً عن عتيق الخطيئة وقيامة جديدة لحياة النعمة، وان عالم الظلمة والشر بموته يكلّف ثمناً باهظاً لتحريره. فدفع يسوع هذا الثمن عن جميع البشر بموته على الصليب. وبفضل انتصاره على الظلمة والشر بقيامته، أعطى آلام البشر قيمة خلاصية بحيث تثمر الآلام حياة جديدة، وقد اصبحت آلام مخاض لا آلام نزاع ( انظر يوحنا 16/21)، وتصبح نوراً وتحريراً وفداء وخلاصاً للكثيرين.

هذا هو انتصار صليب المسيح. لقد ظن اهل زمان يسوع انه المسيح الملك الزمني الذي يعيد الملك لاسرائيل ويطرد الوثنين المحتلين. في هذا الاطار يدخل طلب ابني زبدى يعقوب ويوحنا بالجلوس من عن يمينه في ملكه. اما المسيح ملك المجد فهو اولاً "رجل الاوجاع"، كما وصفه اشعيا ( 53/2-3، 10-11).

ارادوه مسيحاً جميلاً  اما هو " فلا بهاء له"، ارادوه ممجداً لا محتقراً، ارادوه منتصراً لا مسلَّماً الى الموت. اعتبروه ابن الانسان الذي يتقدم ويأخذ الملك، كما رآه دانيال (7/13). انه كذلك ولكن عبر صليب الجلجلة. بطرس نفسه رفض قضية آلامه: " حاشا يا رب، ان يكون لك هذا!" ( متى16/22).

من بعد ان اكّد يسوع لابني زبدى طريق الصليب المؤدي الى المجد، كشف لهما وللعشرة نهج هذا الملك الجديد. فبدلاً من ان يكون قائداً الهياً يخط طريقه ملغياً الاعداء السياسيين، ومرمماً مملكة الله السياسية، وبدلاً من ان يكون فاتحاً متسلطاً، فهو " خادم": " جاء ابن الانسان ليخدم ويبذل نفسه فدىً عن الكثيرين" ( مر10/45). وبهذا يكشف يسوع عن هويته انه المسيح المتألم الذي، بسرّه الفصحي وبطاعته لمشيئة الآب، قد افتدى البشرية جمعاء. هذا هو جوهر البشرى المسيحية.

امام صلبان الحياة لا بد من موقف نختاره وهو الاسلم اعني موقف الايمان لا موقف اللامبالاة ولا موقف التمرد.

فموقف التمرد يُمليه الشك في قدرة المصلوب والتساؤل: لماذا لا يغلب الله الالم والظلم بدلاً من قبوله؟ لماذا يستبد الشر والظلم بالملايين من الناس الابرياء الذين يعاملون مثل الحشرات؟ لا يكفي القول ان يسوع كان بريئاً وتألم من اجل الجميع، فهذا ايضاً سبب للشك ( الكاتب الروسي دوستويفسكي). هل اله يسوع المسيح عاجز امام الشر، كما كان اله الامم عاجزاً امام القدر؟

وموقف اللامبالاة ينتج عن سماع سطحي وسريع لكلام الله، ويوقع صاحبه في موقف استثقال الكلام وغشاوة الحياة اليومية.

اما موقف الايمان فيعتبر ان المسيح المتالم هو في الحقيقة قدرة الله وحكمة الله ( 1كور1/23)، اذ في النهاية يحمل الله شرّ العالم وينتصر عليه. المسيح خادم الله المتألم قام من الموت وهو ضمانة لنا، وهو الكاهن الاعظم الذي يشفع بنا لدى الآب: " بما ان لنا رئيس كهنة عظيماً، هو يسوع المسيح، ابن الله الذي صعد الى السماء، فلنتمسّك بالاعتراف به" ( عبرانيين 4/14).

ان يسوع خادم الله الذي يبذل نفسه فدىً عن الجميع يحقق ذاته في سرّ الافخارستيا، حيث يكسر لنا خبز جسده: " خذوا كلوا هذا هو جسدي يُبذل من اجلكم، ويشركنا في كأس دمه: " خذوا اشربوا، هذا هو دمي يسفك من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا" ( متى26/26-28).

 

***

 

ثانياً، وجوه عاشت حكمة الصليب وقدرته

 

تعيّد الكنيسة في هذا الاسبوع قديسين عرفوا حكمة الله وقدرته المتجيلتين في صليب المسيح.

 

القديس شينا الشهيد ( 15 ايلول) هو في الاساس لص وله فرقة تمتهن السرقات. دخل واياهم ديراً لاحدى الراهبات في انطاكية وتخفّى لابساً ثوب الرهبان، مخبئاً سيفه تحت الثوب. احسنت الراهبات استقبالهم وكالعادة غسلن ارجلهم كضيوف رهبان، وحملن ماء غسيل رجلي شينا الى راهبة مريضة فشفيت. تأثر جداً ومسّت النعمة قلبه، وتاب عن سيرته الاثيمة وكشف امره للراهبات. ثم ترهب هو ورفاقه وقادوا الكثيرين من الوثنيين الى الايمان. ولقب : بشينا" وهي لفظة سريانية تعني الامان.

 

القديس ساسين (15 ايلول) هو اسقف شهيد، امر الوالي الروماني بقطع رأسه سنة 328 بسبب كرازته بسرّ المسيح واعادة الوثنيين الى الايمان به،وبسبب اذاعة تعليم مجمع نيقيا ( سنة 325) ومحاربة بدعة اريوس التي كان تنكر هذا التعليم. عرف بغيرته على الكرازة والتعليم، وبشدة الصبر والثبات في احتمال  الاضطهاد والتعذيب.

 

القديس قبريانوس اسقف قرطاجة ( 16 ايلول) هو من مواليد 210، في الاساس فيلسوف وثني ورب عائلة. اهتدى الى المسيح على يد كاهن. ترك ثروته لزوجته واولاده ووزع بعضاً منها على الفقراء، ودخل سلك الكهنوت منكباً على مطالعة الكتب المقدسة وكتابات الآباء القديسين. بعد رسامته الكهنوتية انصرف الى الوعظ والكتابة والتعليم. وفي سنة 248 انتخب اسقفاً لقرطاجة. وبعد عشر سنوات من النشاط الراعوي الروحي والاجتماعي، محسناً على البائسين ومحامياً جريئاً عن ابناء رعيته، وصامداً بوجه الاضطهاد، امر الملك الروماني الوثني بقطع رأسه سنة 258. عندما زجّه الملك في السجن قال لابناء ابرشيته: " ان اموت شهيداً بينكم فهذه ضمانة لحفظ ايمانكم". لقد ترك للكنيسة العديد من المؤلفات، حتى لقب بمعلم الكنيسة وملفانها العظيم. من قوله المأثور: " لا يكون لله اباً  لمن لا تكون له الكنيسة اماً".

 

القديسة صوفيا وبناتها الثلاث الشهيدات (17 ايلول). صوفيا امرأة ايطالية وثنية وام لثلاث بنات. لما ترملت اهتدت الى الدين المسيحي وقبلت العماد مع بناتها وسمّتهن ايمان ورجاء ومحبة. اضرمتهن نار الغيرة على نشر الايمان بالمسيح بين الوثنيين في روما فاعتنق الكثيرون منهم الدين المسيحي. بعد تعذيب واضطهاد امر الامبراطور الروماني بقطع رؤسهن تباعاً بدءاً من البنات، واحدة تلو الاخرى، وصولاً الى الام سنة 138.

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

        في زمن الصليب، الذي يفتحنا على النهايات، فيما نحن ملتزمون بحراسة الارض وحراثتها لنعيش منها، كاسبين الخبز بعرق الجبين، ترتكز الخطة الراعوية على ما يعلّم ويوصي المجمع البطريركي الماروني في النص الثالث والعشرين وعنوانه: " الكنيسة المارونية والارض".

 

        1. يُبرز هذا النص علاقتنا بالارض انطلاقاً من الكتاب المقدس. فهي ذات بعدين: الاول، بُعد القداسة. ان الله الخالق يدعو شعبه الى ان يقدّسوه ويتقدسوا في الارض التي اورثهم اياها ( تك 12/1-6؛ تثنية 6/21). نحن امام اختيار من الله لكل واحد منا ليتقدس من خلال عمله في الارض وليقدس عمله، وبالتالي يعكس قداسة الله المتجلية في جمال الطبيعة، وامام ميراث مشترك وضعه الله بين ايدينا البشرية للاستثمار والتقاسم والانماء.

        البُعد الثاني هو الدعوة لاشراك الآخرين بالبركة. لقد بارك الله الارض من خلال ابراهيم ابي المؤمنين، وعندما سلمها له ولنسله قال: " اني اباركك فتكون بركة لكل الشعوب". الانسان الذي يتقدس بعمله في الارض وينمو ويحقق ذاته هو واسرته، مدعو ليشرك الآخرين في هذه البركة. فخيرات الارض معدة من الله لجميع الناس. وهؤلاء مترابطون ومتضامنون في بناء حياتهم والتاريخ ومدينة الارض. فلا احد يعيش لنفسه، ولا يحق لأحد ان ينعم بخيرات الارض لوحده ( فقرة 4).

 

2. يوصي المجمع البطريركي الماروني بادراك هذين البعدين في ضوء ثابتة وجدانية وانسانية هي ان "الارض في تقليدها ليست ملكاً نتصرف به على هوانا، بل هي ارث من الآباء والاجداد. هذا الارث اشبه بوديعة ثمينة وذخيرة مقدسة" ( فقرة 7).

        في ضوء هذا الادراك، يوصي المجمع بتضافر قوى الدولة والكنيسة والمؤسسات من اجل وضع استراتيجية تنموية شاملة للحفاظ على الارض والمياه. ويدعو الدولة للحدّ من تملك الاجانب، وحماية الانتاج الزراعي المحلي من المضاربة الخارجية وتصدير الفائض منه الى الاسواق الخارجية. ويشجع المزارعين على انشاء تعاونيات زراعية تعزز العودة الى الريف. ويحث على انشاء مصانع صغيرة ومحترفات مهنية لتوفير مجالات عمل تحول دون افراغ الريف من اهله (التوصية 2).

 

        3. يطلب من الهيكليات الراعوية والعائلات والجماعات الديرية وسائر التجمعات المدنية والكنسية التفكير معاً في هذا التعليم، واتخاذ مبادرات عملية لعيش هذه التوصيات، فيما لبنان يواجه قيامة مرجوة من بين الركام والخراب.

 

        صلاة

 

        انك، يا مريم، لشبيهة بالفردوس الذي غُرست فيه شجرة الحياة. فمنك ظهر مبدع الحياة، ومعطيها. لكن الفردوس قد أعطى الانسان ثمرة الخطيئة، التي افسدت الطبع البشري من اصله. اما انتِ فقد اعطيتِ الثمرة المباركة التي خلّصت الطبع البشري برمّته اعادت اليه حياة النعمة. وبهذا تصوّرتِ بيننا ايقونة لقدسية الارض التي اوجدها الخالق القدوس.

        اسألي ابنك عنا ومعنا ان يبارك مواسمنا وغلاّتنا وجهد ايدينا، لمجد الآب الخالق واعلاء نعمة الابن الفادي وتسبيح الروح القدوس المحيي. فلك الشكر والتكريم، وللثالوث المجيد كل اكرام وتسبيح الى الابد الابدين، آمين.

 ( صلاة صباح الاربعاء في الشحيمة المارونية). 

 


 

 

الاحد الثاني بعد الصليب

انجيل القديس متى 24/1-14

انتظار تجليات الله

 

         زمن الصليب زمن النهايات او زمن مجيء الرب المسيح الثاني بالمجد من السماء في نهاية الازمنة. هذه النهاية العامة معلنة ومهيأة بالنهايات النسبية: نهاية كل واحد منا، ونهاية كل واحدة من المخلوقات الحية والجامدة. انه البعد الابدي او النهيوي للانسان، المعروف في اللفظة المشتقة من اليونانية باسكاتولوجي. هذا البعد هو نقطة الوصول وغاية الوجود والمصير النهائي الذي ينير دربنا التاريخية ويعطي معنى لوجودنا وقيمة. ولهذا قيل: " اعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً، ولآخرتك كأنك تموت غداً"! وقيل ايضاً: " تذكر عواقبك ايها الانسان، فلا تخطأ ابداً".

 

 

اولاً، نداء الانجيل، التزام وانتظار

 

1. اطار النص الانجيلي

 

بعد ان انذر يسوع اورشليم بالخراب وقال لاهلها وهو في هيكل سليمان: " هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً، ولن ترونني من الآن الى ان تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب!" ( متى23/37-39)، لفت التلاميذ انتباهه الى ابنية الهيكل العظيمة التي اعاد ترميمها هيرودس الكبير سنة 20 قبل المسيح، وهو الهيكل الذي  بناه سليمان الملك الحكيم سنة 960 ق.م.، ودمّره البابليون سنة 586 ق.م. وجُدد بناؤه سنة 515 ق.م. انه قلب اورشليم مدينة داود وقلب مملكته ومحط امال الشعب اليهودي. اما يسوع فاطلق انذاراً أوضح: " ألا تنظرون هذا كله؟ الحق اقول لكم: لن يترك هنا حجر على حجر إلاّ وينقض!" (متى24/2). تمت هذه النبؤة سنة 70 بعد المسيح على يد الرومان الذين دمروا الهيكل ولم يبق منه الا ما هو معروف اليوم بحائط المبكى. فتشتت الشعب اليهودي، وسقطت رسالته النبوية والكهنوتية والملوكية،لانهم بقتل المسيح صلباً وضعوا حداً لرسالتهم الخلاصية وحكموا على هيكلهم بالدمار اذ لا مبرر لوجوده بعد قتل ربه. وفي الواقع، عندما " صرخ يسوع بصوت عظيم من على الصليب واسلم الروح، انشق حجاب مقدس الهيكل الى اثنين من أعلى الى أسفل، والارض تزلزلت، والصخور تصدعت" ( متى27/50-51).

فهم التلاميذ من انذار يسوع بخراب الهيكل والمدينة ان نهاية العالم قد دنت. ولهذا سألوه في خلوة: "قل لنا متى يكون هذا، وما هي علامة مجيئك، ونهاية العالم" ( متى24/3).

لم يجب الرب على السؤال مباشرة. بل كشف عن الازمنة الصعبة التي ستعيشها الكنيسة الناشئة والعالم، من جراء  "سرّ الاثم" (2 تسا2/7) الفاعل في التاريخ. لكن يسوع انتصر عليه انتصاراً نهائياً، فبات سائداً في التاريخ " سرّ التقوى" (1تيم3/16)، الذي هو سرّ المسيح.

كلمهم عن " سرّ الاثم" باعماله الثلاثة: التضليل عن الحق ( متى24/54)؛ الحروب والمجاعات والزلازل (متى24/6-7)؛ الاضطهادات والوشايات والخيانات والبغض وجفاف الحب في القلوب ( متى9-12). وكلمهم عن " مجيئه" باعلان انجيله الخلاصي في المسكونة كلها، مؤكداً ان من يقبله يصمد ويخلص وينتصر على الشر ( متى24/13)،  وهذه علامة مجيئه الاخير ( متى24/14).

 

2. انتظار مجيء الرب

 

زمن الصليب يستنير بلاهوت الانتظار الذي تترقب فيه الكنيسة تحقيق ملكوت الله في حياتنا التاريخية وتصلي:  "ليأت ملكوتك" ( متى 6/10)، "، وتتوق اليه بابتهال:  "تعال، ايها الرب يسوع! مارانا تا!"       ( رؤيا22/20). وتنتظر اكتماله في نهاية الازمنة، كما تعلن في قانون الايمان: " وايضاً يأتي بمجد عظيم ليدين الاحياء والاموات الذي لا فناء لملكه".

سأله التلاميذ عن مجيئه الثاني بالمجد في نهية الازمنة، وهو مجيء معروف باللفظة اليونانية parusia التي تعني فعل المجيء او الحضور. مجيء الرب الاول بالتجسد يسمى ايضاً " باروزيا"، وكذلك مجيء الملك او زيارته الرسمية. ويسمى مجيء الرب ايضاً في العهد الجديد، " يوم الرب" و " ظهوره"، و " زيارته". وفي كل حال اصبحت اللفظة تعني اليوم مجيء يسوع الحسي في نهاية العالم ( باروزيا). اما ما يرافق مجيء الرب الثاني من احداث فيسمى النهايات وباللفظة اليونانية " اسكاتولوجيا" من eskatos – النهاية. والاحداث النهائية هي: قيامة اجساد الموتى، والدينونة الاخيرة، ونهاية العالم. يطبق بولس الرسول لفظة باروزيا- مجيء الرب على الدينونة الخاصة التي يجريها الله عند موت كل واحد منا (اتسا2/19). ويقول يعقوب الرسول: "الدياّن على الابواب" ( يعقوب5/9).

لكن مجيء الرب لا يقتصر على النهايات الفردية  والجماعية  والكونية، بل يشمل ايضاً وخاصة، حسب لاهوت الانتظار، تدخل الله في التاريخ، وفي حياة كل شخص، تدخلاً يدوم. نحن نلتمس هذا التدخل الالهي في التاريخ والمجتمع لاحلال ملك الله، ملك القداسة والحق، العدالة والمحبة، كل مرة نصلي "ليأت ملكوتك!"، او نرفع الابتهال: " تعال، ايها الرب يسوع!" كأننا نقول أظهر مجدك وقدرتك في الكنيسة والعالم! تعال، ضمنا اليك في مجدك. اننا ندرك مع بولس الرسول ان مدينتنا  في السماء، ومنها ننتظر الرب يسوع المسيح مخلصنا" ( فيليبي3/20).

" قل لنا ما هي علامة مجيئك!" سؤال يعبّر عن واقع الانتظار لدى كل انسان. العالم المخلوق من اجل المسيح ينتظر مستقبله، الذي هو المسيح. لكن هذا الانتظار يختص بكل كائن بشري لجهة تحقيق مستقبله: الخلاص، وملء الحياة، وتمام الحب. ان تحقيق المستقبل مرتبط بالمسيح الذي هو الالف والياء، الف الوجود وياء التاريخ. المسيح هو الالف لان به يريد الله الكون ويخلقه  ويعيد خلقه وفي ذروته خلق الانسان. وهو الياء لانه غاية الوجود واكتمال سرّ الخلاص ولان به يتحقق  مصير كل انسان.

يكشف لنا تاريخ الانتظار ان يسوع المسيح هو محور تاريخ الوجود والخلاص بابعاد ثلاثة متكاملة: البعد الاول وجودي، وهو ان كل كائن بشري محبوب من الله ومخلوق ومخلّص " في المسيح"، على ما نقرأ في انجيل يوحنا: " به كل شيء كوّن، وبدونه لم "يكوّن شيء مما كوّن" (يو1/3)؛ البعد الثاني خلاصي، وهو ان بالمسيح يتحقق ملء الحياة الذي هو الخلاص، فنشارك فيه بواسطة المسيح الذي هو وسيطنا الوحيد، اذ " لا خلاص باحد سواه، لانه لم يعط تحت السماء بين الناس اسم آخر به ننال الخلاص" ( اعمال 4/12)؛  البعد الثالث نهيوي، وهو أن المسيح هو المستقبل المباشر للمسكونة كلها وبه يرتبط مصير كل واحد منا.

يعيش الانسان حراً من اجل مستقبله. المستقبل لا يعطى للانسان بل يتحقق في نشاطه الحر، تحقيقاً تدريجياً في التاريخ، عبر خياراته الحرة، ولكن ليس بمعزل عن المسيح. ذلك ان الحرية من اجل المستقبل تتماهى مع الحرية من اجل المسيح. ليس مستقبل الانسان  موضوع استيلاء بل هو هبة ونعمة تنزل من السماء في تاريخ الجنس البشري. ان تدخل الله في التاريخ لا تحققه الحرية البشرية، بل نلتمسه وننتظره. لا يستطيع الانسان ارغام الله على الانحناء نحوه، ولكنه يستطيع دائماً الابتهال اليه.

زمن الصليب هو زمن الانسان في انتظار المسيح. انتظار تدخل المسيح  في حياة الانسان الخاصة من اجل تحقيق ذاته ومستقبله، وفي التاريخ من اجل تغييره، انما يتصف باثنين: انفتاح على المستقبل يتعدى امكانيات الحرية وانتظاراتها، واختبار عدم الكفاية في تحقيق المستقبل. ان رغبات الحرية لا تعرف حدوداً، لكن امكانيات الحرية محدودة وضعيفة وغالباً ما هي معرّضة للخطيئة.

في زمن الانتظار يعلمنا المجمع الفاتيكاني الثاني ان " يسوع، كلمة الله المتجسد، يكشف بالتمام الانسان للانسان" (الكنيسة في عالم اليوم،22). ويشرح البابا بولس السادس هذا القول: " يسوع هو ذروة الطموحات البشرية، وغاية آمالنا. هو الكلمة التي تحدد كل شيء، وتفسّر كل شيء، وتصنف كل شيء، وتفتدي كل شيء. هو الذي يعطي الافعال البشرية قيمتها، ويشكل فرح  كل القلوب ورغباتها. انه الانسان الحقيقي، ونموذج الكمال والجمال والقداسة، الذي اقامه الله ليجسّد المثال الحق والمفهوم الحق للانسان".

 

3.    تدخل الله في حياة الانسان والتاريخ والمجتمع

 

عمانوئيل، الله معنا، لم يدخل في حياة الانسان والتاريخ والمجتمع فقط عندما تجسد منذ الفي سنة. بل دخل في شركة دائماً معنا: محبة الآب تعتني بنا، ونعمة الابن تفتدينا وتخلصنا، وحلول الروح القدس يقدسنا ويعضدنا، يجددنا ويهدينا. ما جرى منذ الفي سنة يتواصل معنا ومن بعدنا حتى نهاية الازمنة. هذا ما نعّبر عنه باشارة الصليب: نبدأ بأسم الآب والابن والروح القدس، لالتماس الاهلية والنور والقوة، وننهي بالمجد للآب وللابن والروح القدس، مسبحين وشاكرين الله الواحد والثالوث القدوس. كما نرسم اشارة الصليب لنيل البركة عندما يمنحنا اياها الكاهن؛ وللقيام بفعل عبادة وتكريم القديسين، عندما نمر امام المذبح او القربان او ايقونة او تمثال قديس او امام الكنيسة؛ لتبريك شيء او شخص؛ ولمواجهة خطر ما او عمل صعب؛ وللتغلب على قوى خفية.

اجل في الديانة المسيحية، لم يعد الانسان وحده يطلب الله، بل هو الله يأتي اليه بذاته ويكلم الانسان عن نفسه، ويهديه سبيل البلوغ اليه... والدين في المسيحية هو جواب الايمان من الانسان الى الله الذي يعلن ذاته؛ فيتكلم الانسان مع الله كخالقه وابيه، وبواسطة الابن الوحيد يسوع المسيح... والله يسعى في طلب الانسان لانه يحبه حباً ابدياً في الابن الكلمة، ويريد ان يرفعه في المسيح الى منزلة الابن المتبنى... ويريد ان يحمله على الارتداد عن دروب الشر... وان يفتديه... وان يشركه في حياته الالهية، فاذا بالانسان مدعو ليسكن في قلب الله ( البابا يوحنا بولس الثاني: اطلالة الالف الثالث، عدد6-8).

وثمة وسائل لتدخل الله في حياتنا هي: كلامه في الكتاب المقدس، والاسرار الخلاصية، والليتورجيا، والصلاة، وخدمة الكهنوت، والاندراج في حياة الكنيسة ورسالتها، واحداث الحياة.

مسبحة الوردية وسيلة فعالة لاستحقاق التدخل الالهي، لانها مختصر الانجيل واسرار الحياة المسيحية: التجسد والفداء والتقديس. انها صلاة الدخول في شركة عميقة مع الله بشفاعة مريم العذراء الكلية القداسة، ام الاله وام الكنيسة. لهذا السبب طلبت الطوباوية مريم العذراء بتلاوة المسبحة في ظهورات لورد وفاطيما ومديغوريه من اجل ارتداد الخطأة ونهاية الحروب. والبابوات صلوا ودعوا المؤمنين لتلاوة المسبحة وعلّقوا عليها غفرانات، وتوجهوا الى السيدة العذراء بصلوات خاصة في مناسبات متنوعة.

 

ثانياً، وجوه عاشت لاهوت الانتظار

 

تعيّد الكنيسة في هذا الاسبوع لقديسين التقوا المسيح، في اطار لاهوت الانتظار وترقّب تجليات سرّ المسيح.

القديس الشهيد تاودورس ( 21 ايلول). جندي وثني في الجيش الروماني، ارتد الى المسيحية وتعمّد، فامتاز بالتقوى والفضائل والعناية بالفقراء. وفيما كان يخدم في مدينة صور، وشي به الى الوالي بانه مسيحي، فامره الوالي بتقديم الذبائح للاوثان، اما هو فرفض قائلاً: " انني حينما اقتبلت سرّ العماد، تجندت لملك السماوات يسوع المسيح. فلا اريد بعد الآن ان اخدم ملكاً ارضياً". انزل به الوالي الواناً من التعذيب فصمد بصبر وثبات الى ان مات مصلوباً على خشبة.

القديس الاسقف الشهيد فوقا (22 ايلول). عاش في ايام الرسل، وسيم اسقفاً في بنطوس، واشتهر شرقاً وغرباً بغيرته الراعوية على ابرشيته وتبشيره بالمسيح  بدون ملل. اخضعه الوالي لأمّر العذابات فاحتملها بالصبر والصلاة والغفران، الى ان مات شهيداً في اتون النار سنة 115. لما نقلت ذخائره من البنطوس الى القسطنطينية استقبلها البطريرك القديس يوحنا فم الذهب والقى خطاباً شهيراً بمدائح القديس فوقا.

القديسة تقلا اولى الشهيدات( 24 ايلول). تبدلّت انتظاراتها الدينوية بتجليات سرّ المسيح الذي بدّل حياتها وفتحها الى انتظارات اخرى. ولدت سنة 20 في آسيا الصغرى، في حضن عائلة وثنية غنية. كانت مخطوبة لشاب عندما سمعت كرازة بولس الرسول عن سرّ المسيح في ايقونية مدينتها. وقع كلام بولس في قلبها واثمر ايماناً عميقاً بالمسيح، فتعمّقت بالتعاليم الانجيلية ونالت المعمودية سنة 45. تركت خطيبها ونذرت بتوليتها لله وعكفت على التأمل والصلاة. عندما سالتها والدتها عن هذا التغيير الجذري في حياتها، اجابت " هذا ثمن اصطباغي بماء العماد المقدس وايماني بالمسيح". شكوها الى الوالي فأمر بتعذيبها: رميت في النار، طرحت للوحوش، كُبلّت في السجن، ربطت بالثيران غير المروّضة. لقد انزلت فيها شرور  "سرّ الاثم". اما هي فظلت صامدة بايمانها وصلاتها، ونادت بانجيل الملكوت في مختلف المناطق ولاسيما في القلمون ومعلولا وصيدنايا، وماتت بعمر 90 سنة، وهي شهيدة حيّة.

 

***

 

ثالثاُ، الخطة الراعوية

 

انتظار تجليات الله في حياتنا والتاريخ، التي ستكتمل في مجيء المسيح الثاني والاخير بالمجد، يقتضي منا وضع خطة راعوية تستلهم أبعاد تجسّد ابن الله على الارض، وقد جعلها مسرحاً دائماً لتجليات الله. فمحبة الآب تظللها ونعمة الابن تفتديها وحلول الروح القدس يقدسها ويحييها.

هذه الخطة الراعوية مأخوذة من تعليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته في النص 23 بعنوان: " الكنيسة المارونية والارض".

1. يعلم هذا النص،  من الناحية اللاهوتية، " ان ابن الله الازلي، الذي اتمّ بتجسده تاريخ الخلاص على وجه الارض، يبيّن لما لعلاقتنا بالارض من معان عميقة ( فقرة 5). بالنسبة لكل انسان ارض لتحقيق ذاته، حيث " يجسّد" قيمه وثقافته وعمل يديه. وبهذا يبني مدماكاً  في بناء مدينة الارض، التي تعكس قيم الملكوت. وبما ان الارض اصبحت، بفضل التجسّد الالهي عليها، ذات قيمة خلاصية، فبات على الانسان والمؤسسات استثمار قدرات الارض لجعلها اداة خلاص روحي وثقافي واقتصادي واجتماعي لكل انسان وشعب، من كل ما يعوقه على مختلف الاصعدة.

في ضوء هذا التعليم، يطلب من الهيكليات الراعوية والاجتماعية والمدنية التفكير معاً واتخاذ مبادرات عملية، تعيد للارض قيمتها الخلاصية. فتُدرس العوائق الروحية والثقافية والاقتصادية والسياسية، الي تحول دون انماء الشخص البشري والمجتمع، او تحدّ منه. ثم توضع خطة راعوية لمعالجة هذه العوائق.

 

2. ومن ناحية الكنيسة، يعلّم المجمع ان " الارض مساحة للعيش الحرّ والكريم، وتأدية الشهادة الصادقة للمسيح والتفاعل الانساني السليم مع سواهم من الناس" ( فقرة 5). تقتضي الخطة الراعوية ان نستعرض معاً تاريخ الكنيسة على ارضنا وفي هذه الشرق، وما حققته في مجتمعاتنا من نشاطات ومبادرات روحية وثقافية واجتماعية. وهذا يستوجب منا الادراك بأن " وجود الكنيسة في هذا الشرق ليس مصادفة بل بفعل عطية الهية ثمينة جداً" ( فقرة 5). تتخذ الخطة الراعوية مبادرات للمحافظة على وجودنا الكنسي في مجتمعاتنا المشرقية من اجل الرسالة المكولة الينا من المسيح. فلا يجوز اخلاء ارضنا لمن يعبث بها وبقيمها ويشوه بهاء قدسيتها او لمن يستغلها ضدّ الانسان وترقيه، او ضدّ الجماعات واستقرارها وعيشها بكرامة وباحترام حقوقها الاساسية ( فقرة 6).

 

صلاة

 نسبّحك يا الله مع كل مخلوقاتك في السماء وعلى الارض. نسبّح اسمك لانه وحده أمر فخلقت واقامها الى الدهر والابد. نسبحك ايها المسيح الهنا، يا ملك الذين يدعونك، يا باسط النهار بين مشرق الشمس ومغربها، ومضيء الليل بالقمر، نسبحك عن كل ما خلقت بحكمتك. اليك يا رب نكل الارض وجهودنا ونشاطاتنا فيها، لتجعلها مساحة لتجلياتك عليها، فيستعيد العالم بهاء خالقه وفاديه، والمجتمع البشري جمال انسانيته الخارجة من بين يديك، حاملة صورتك. لك المجد والشكر الى الابد، آمين. 

 


الاحد الثالث بعد الصليب

انجيل القديس متى 24/23-31

حقيقة المسيح محور كل تعليم وعمل

 

         يواصل السيد المسيح جوابه على سؤال التلاميذ : " قل لنا ما علامة مجيئك ونهاية العالم ". يتضمن الجواب ثلاث نقاط : ظهور مسحاء دجالين وانبياء كذبة ، مجيئه الثاني المفاجىء والأكيد ، ونهاية الازمنة. فما معنى الالفاظ ، واي حقائق ايمان تملي ، وما هو الواجب المسلكي في ضوء كل ذلك.

 

اولاً، تفسير النص الانجيلي

 

1.    المسحاء الدجالون والانبياء الكذبة

 

لفظة مسيح تعني من اختاره الله ومسحه وارسله ليقود شعبه محققاً تصميمه الخلاصي، نبياً كان أم كاهناً أم ملكا.وهي من اصل عبري وآرامي " ماشيحَ "، وتُرجمت باليونانية بلفظة " كريستوس " التي تعني الممسوح بالزيت المقدس، علامة لحلول الروح القدس عليه. في العهد القديم اُطلق الاسم على الكهنة والملوك وعلى شخصيات اخرى. ثم اصبحت التسمية في العهد الجديد الاسم العلم ليسوع، ابن الله المتجسد لخلاص الجنس البشري وفدائه .

لفظة نبي تعني من ينقل، بتفويض وارسال الهيين، الى الذين اُرسل اليهم، الاوامر والايحاءات التي سُلّمت اليه من الله بفعل خارق العادة. ذلك على اساس من الاختيار الالهي الحرّ والمفاجيء، ودعوة من شأنها ان تغيّر مجرى حياة المدعو. اللفظة من اصل عبري " نابي" أي المدعو لرسالة. وهي من فعل  "نابو" = دعا.

        المسحاء الدجالون هم الذين يساوون نفسهم بالله ، ويقاومون تصميمه الالهي وعمل المسيح ورسالة الكنيسة ، ويعلنون الباطل لابعاد الناس عن الحق، واجتذابهم الى الكفر. هؤلاء ظهروا في العهد القديم بشخص ملوك ومدن، فنبّه عنهم كل من حزقيال : " قل لملك صور، " لان قلبك قد تشامخ فقلت : اني اله وعلى عرش الله جلست ، وانت بشر لا اله ...لذلك هاءنذا اجلب عليك الغرباء  والامم الأظلم.  وينزلونك في الهوة فتموت موت القتلى في قلب البحار " (حز28/1-8)؛ واشعيا : " قل لملك بابل، قد قلتَ في قلبك اني اصعد الى السماء ، ارفع عرشي فوق كواكب الله، واكون شبيهاً بالعلي . بل تهبط الى مثوى الاموات، الى اقاصي الجب " (اش14/13-15).

        وفي العهد الجديد نبّه عنهم بولس الرسول وسماهم سرّ الالحاد الآخذ في العمل منذ الآن ، وهو الشيطان وقوى الشر والباطل (2 تسالونيكي 2/7). ويقول : "لذلك ينحرف الكثيرون ويرغبون في الباطل بدلاً من ان يؤمنوا بالحق " (2تس/11-12). ونبّه عنهم يوحنا الرسول في كتاب الرؤيا ، بصورة الوحشين : الاول هو قوة سياسية تجدّف على الله وتجعل من نفسها معبوداً وتضطهد المؤمنين الحقيقيين (رؤيا13/1-10)؛ والثاني هيئة دينية تقلّد الحمل، الذي هو المسيح، وتنجز عجائب كاذبة وتضلل الناس لتحملهم على عبادة الوحش الاول (رؤيا13/11-18). ويسمي يوحنا الرسول المسيح الدجال " كل من ينكر ان يسوع هو المسيح وينكر الآب والابن (1يو2/22)، وكل من لا يعترف بيسوع المسيح الذي تجسّد " (1يو4/3).

        هؤلاء المسحاء الدجالون سينتصر عليهم جميعاً المسيح الحمل في نهاية الازمنة ويبيدهم (رؤيا17/14).

        " الانبياء الكذبة " يشبهون في عملهم المسحاء الدجالين . نذكر في العهد القديم " كهنة بعال" ال 450 الذين انتصر عليهم ايليا النبي ، وهو صورة المسيح ، وقد امر بقتلهم(3 ملوك 18/17-40).

        الانبياء الكذبة هم اليوم كل الذين يعلّمون ما يتنافى وحقائق الايمان والشريعة الالهية والشريعة الخلقية التي تعلمها الكنيسة وتفسرها في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. ثمة قرارات تتخذها دول وهي منافية لهذا التعليم كتشريع الاجهاض والموت الرحيم وزواج اللواطيين والمساكنة الحرة وتعقيم النساء ، وترويج الوسائل الاصطناعية لمنع الحمل ، واعتماد وسائل غير طبيعية للحدّ من النسل وتحديد عدد الولادات وارغام الدول على قبول هذه الوسائل مشروطة بالتبادل الاقتصادي . هذه كلها تُشرّع تحت عنوان جذاب ومضلّل هو "تنظيم الاسرة " Family Plannig ترعاه منظمة الامم المتحدة، مع الاسف الشديد.

        وثمة برامج في وسائل الاعلام تقدم تعليماً منافياً للشريعة الالهية والشريعة الخلقية وتعليم الكنيسة، يجدر التنبّه لها.

        حقيقة الايمان هي ان معلمنا واحد هو المسيح الرب: " اما انتم فلا تَدَعوا احداً يدعوكم معلماً ، لان لكم معلماً واحداً هو المسيح " (متى23/8-10). وقد جعل الكنيسة "عامود الحق واساسه " (1طيم3/15)، وسلّمها سلطة التعليم، مع الحل والربط، بشخص بطرس والرسل وخلفائهم ، وهم قداسة البابا والاساقفة، واوصى: " من سمع منكم سمع مني، ومن رفضكم رفضني " (لو10/16).

        " ها انا قد سبقت وقلت لكم " (متى24/26). بهذا التنبيه ، يؤكد السيد المسيح انه الطريق والهدف، فلا مجال للتضليل والضياع . يشرح القديس توما الاكويني (+1273) ان يسوع هو الطريق بكونه انساناً ، وهو الهدف بكونه الهاً لانه الحق والحياة . فالطريق يقود الى الحق والحياة. بهذا المعنى قال: " انا هو الطريق والحق والحياة " (يو14/6). من يسلك الطريق وراء المسيح يصل الى الله . ومن يمشي خارج الطريق يبتعد عن الله، عن الحقيقة والحياة . المسيح لا يغش كونه الحقيقة ويعلّم الحقيقة ، كما قال: " ولدت واتيت لأشهد للحقيقة"(يو18/37).

        اما الواجب المسلكي الذي يمليه الانتماء الى الكنيسة فهو الالتزام بقانون الايمان، وقبول اسرار الخلاص السبعة والمشاركة فيها، والخضوع للسلطة في الكنيسة التي اقامها الرب يسوع (قانون 8 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية).

 

        2. مجيء المسيح في واقع الحياة

 

        " كما البرق يخرج من المشرق ويلمع حتى المغرب ، كذلك يكون مجيء ابن الانسان (متى24/27).

          مجيء المسيح مفاجىء كالبرق ، فلا تعرف متى يخرج ويلمع ، وهذا يقتضي استعداداً . لكنه أكيد كالبرق الذي يخرج ويلمع فعلاً ، وهذا يقتضي يقظة . فلا مجال لأحد ان ينبىء عن مكان حصوله او زمانه:" اذا قالوا : ها هو في البرية او في المخادع ، فلا تصدقوا " ( 24/26). فهو نفسه عندما يأتي يجتذب الناس اليه: " حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور" (24/28). بل يرسل ملائكته بالبوق الكبير فيجمع الخلائق من جهات الرياح الاربع(24/31).

        مجيء المسيح الثاني يسمى باليونانية " باروزيا"، ومنها تشتق التسميات باللغات الغربية. اللفظة في اصلها تعني الحضور ، المجيء، الزيارة الرسمية لملك او امبراطور، العودة، الظهور. التجسّد نفسه او مجيء المسيح الاول يسميه بطرس الرسول باروزيا. انها مجيء المسيح الحسي، في نهاية الازمنة، بعد قيامة الاجساد، (1تسا4/15). في ضوء كل هذه المعاني، "باروزيا" هي البداية والنهاية ، الافتتاح والختام، الايمان والرجاء السعيد. لذلك " انتظار المجيء " لا يعني فقط انتظار نهاية العالم ، بل انتظار تدخل الرب في التاريخ والمجتمع من اجل احلال ملكوته. هذا هو معنى الطلب في صلاة الابانا " لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض "، واستدعاء المسيحيين الاولين: " تعال ايها الرب يسوع- ماراناتا" (1كور 16/22؛رؤيا 22/20)، وهم يبتهلون اليه: تعال ، أظهر مجدك وقدرتك لصالح الكنيسة، تعال، اجمعنا اليك في مجدك (فيليبي 3/20-21).

        " تظهر في السماء آية ابن الانسان " (متى24/30). انه ابن الله الذي صار انساناً وافتدانا بموته وقيامته. الصليب يعني كل هذا . انه رمز لحضور الرب ولقيامتنا في اليوم الاخير . فلسنا الى تراب . يقول القديس كيرلّس الاورشليمي (+387): " اني اعترف بالصليب لاني اؤمن بالقيامة , لانه لو لم يقم المصلوب ، لما كنت اعترفت بالصليب،  بل كنت اخفيته مع سيدي". وهكذا اصبح صليب المسيح صليبنا ، وبالتالي جسر عبور فوق الموت : " صليبك جسراً يكون لهم ". يقول القديس افرام  (+373): " ركب صليبه فوق الجحيم بالعة الجميع ، واجاز الانسانية الى دار الحياة . بما ان الانسانية قد هبطت بخشبة الى الجحيم ، فعلى خشبة رفعت الى دار الحياة ". بالصليب اذاً نعبر الى حياة جديدة في هذا العالم ، بقيامة القلوب حسب تعبير البابا القديس لاوون الكبير؛ وفي العالم الآتي بالموت ، ثم في نهاية الازمنة بقيامة الاجساد . قال القديس افرام: " مات المسيح عن العالم حتى لا يحيا احد بعد الآن للعالم" .

 

3. نهاية الازمنة

 

يصف السيد المسيح نهاية الازمنة هكذا : " تظلم الشمس ، والقمر لا يعطي ضوءه ، وتتساقط النجوم من السماء ، وتتزعزع قوات السموات . وترى ابن الانسان آتياً في تمام العزة والجلال . ويرسل ملائكته ومعهم البوق الكبير فيجمعون الذين اختارهم من جهات الرياح الاربع" (متى24/29-31).

نهاية الازمنة تعني باللفظة اليونانية اسكاتولوجيا، وهي من " اسكاتوس" أي الاخير، ما تؤول اليه النهاية: نهاية كل شخص، نهاية البشرية، نهاية العالم الحسي. وتتضمن اللفظة في اللاهوت المسيحي ثلاثة معاً : الدينونة الاخيرة ، وقيامة الاجساد ، ونهاية العالم . وهي في المفهوم البيبلي الزمن المسيحي الذي بدأ بالتجسد وبتمجيد المسيح ، والذي سيتواصل الى الابد في مجد الكنيسة المنتصرة . وهي ايضاً في كتابات الانبياء ظهور العدالة الالهية ضد اعداء الله . هذا ما عناه الرب يسوع بقوله: " وتظهر آية ابن الانسان ، وهو الديان ، فتنتحب جميع قبائل الارض " (متى24/30). نهاية الازمنة دخول في حياة جديدة ابدية، وفي حالة اللاموت، على ما يقول يوحنا فم الذهب: " بموت المسيح وقوة صليبه، اصبحنا لا مائتين".

نور المسيح المشع يملي علينا ان نعيش حياتنا التاريخية، عاملين من اجل حالة اللاموت. بالرغم من ان الموت لغز وحقيقة مرّة، فقد حوّله المسيح بموته ولادة في حالة اللاموت. وعلّمنا كيف انه هو بالرغم من خوفه واضطرابه امام الموت ( مر14/33-34)، استطاع ان يقبله بفعل خضوع كامل وحرّ لارادة الآب. فحولت طاعته لعنة الموت، الذي هو جزء الخطيئة، الى بركة قيامة. هكذا نصلي في الجناز الماروني:

- لما قيل لي، تعالوا نذهب            الى بيت الرب، فرحت كلي.

  ها ارجلنا، من دار البؤس            قد حطت بنا، في باب القدس.

- لبيّت امر الرب، لما ناداني  قال " اتبعني"، اعطاني، زاداً للدرب.

   ماء الغفران، بالمعمودية             خبز القربان، خمر الحرية.

- باطمنان الايمان، صلوا عليّ ما متّ صرت حياً، لي الابدية.

- ما انا اتيت، انت الآتي              تُعدّ لي بيتاً، من شتاتي.

 

بالموت نترك الجسد لنذهب ونسكن في جوار الرب ( 2 كور5/8). الموت رحيل يفصل النفس عن الجسد، لتعود فتتحد به يوم قيامة الموتى. الموت أمر طبيعي، لكنه في عين الايمان جزاء الخطيئة ( روم 6/23). اما بالنسبة الى الذين يموتون في نعمة المسيح، فالموت مشاركة في موت الرب، من اجل المشاركة في قيامته.

بما ان الموت خاتمة حياتنا التاريخية، فينبغي ان نستعد له، في رحلتنا على وجه الارض حيث يقدم لنا الله كلامه الهادي، ونعمته الشافية، ورحمته الغافرة، لكي نحقق حياتنا التاريخية وفقاً لتصميم الله.

 

ثانياً، وجوه عاشت في حقيقة المسيح

 

 

         تعيّد الكنيسة تذكار قديسين عاشوا في نور حقيقة المسيح، من بينهم:

 

القديس روحانا (19 ايلول). عاش في ضوء حقيقة المسيح بفضل تربيته البيتية على يد والدين تقيين في كورنتس حيث وُلد سنة 448، وعلى يد خاله مطران كورنتس، فتعمق في سرّ الله متحداً بالتأمل والصلاة والاعمال الروحية. سيم شماساً ودخل احد الاديار في الاراضي المقدس ومكث هناك وارتسم كاهناً، فجمع بين خدمة الزوار والمرضى والمسافرين وبين التقشف الرهباني والكرازة بسرّ المسيح. وراح بعدها يتنقل من قفر الى قفر في حياة نسكية، فذاع صيت قداسته وقصده الناس لنيل بركته والتماس شفاء روحي وجسدي. لقب " بروحانا" اي الروحاني، اما اسمه الاصلي كورياكس الذي يعني " عبد الله".

 

القديسة تريز الطفل يسوع ( اول تشرين الاول). اكتشفت ان حقيقة يسوع هي الحب، فقالت: " في قلب الكنيسة امي، سأكون الحب". ولدت سنة 1873 وماتت في 30 ايلول 1897 بعمر 24 سنة. وقالت عند ساعة موتها: " نعم اني احبك يا الهي انا لا اموت بل ادخل الحياة". اعلنها البابا بيوس الحادي عشر سنة 1927 شفيعة الرسالات والمرسلين في العالم اجمع، بسبب رغبتها المتقدة بان تكون مرسلة الى اقاصي الارض لتنشر الانجيل، لتريق دماءها من اجل المسيح، هي التي حملت باستمرار هموم  الكنيسة الرسولية. ورددت: " ارغب في ان اكون مرسلة لا لبعض السنوات بل منذ خلق العالم حتى انتهاء الدهور. اني افكّر بكل الخير الذي ارغب في صنعه بعد مماتي اي: تعميد الاولاد الصغار، مساعدة الكهنة والمرسلين وكل الكنيسة". واعتبرت ان قوة الرسالة هي قدرة الروح القدس الذي هو المحبة المسكونة في قلوبنا، لا قوة المال أو العلم أو الجاه. ارادت ان يعيش الناس في فرح المحبة، فرح يسوع المسيح، فكان النشيد: "يسوع فرحي".

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

ان الزمن المحدد لكل انسان على وجه الارض دعوة، في زمن الصليب، للعمل من اجل حالة اللاموت الابدي.

1. تهدف الخطة الراعوية في هذا الاسبوع الى تعميق تعليم المجمع البطريركي الماروني في النص 23 بعنوان: " الكنيسة المارونية والارض". يعلّم النص ان " ما تعطينا الارض هو اكثر بكثير من الثمار والمواسم المادية. بل هي ذاكرة حيّة، وفي الوقت عينه مدرسة تعلّمنا الصبر والرجاء والقناعة والوداعة والصدق والاخلاص والكرم والعطاء والثبات والجرأة، وتسهم بطريقة مباشرة في أنسنة الانسان. ولذا لا يمكن ان تكون علاقتنا بالارض نفعية وحسب، بل هي ايضاً وفي الاساس وجدانية وانسانية" (فقرة 8 و9). فلا بدّ من استخدام الارض من اجل " لا موت" الانسان والمجتمع والوطن روحياً وخلقياً وثقافياً وتراثياً.

تعمل الهيكليات الراعوية والاجتماعية على ايجاد ما يتسبب " بالموت الوجداني والانساني"، وعلى تحديد مبادرات عملية لازالتها ولتعزيز حالة " اللاموت".

 

2. يوصي هذا النص المجمعي " بتشديد روابط التواصل الوجداني بين المنتشرين الذين اضطروا الى هجرة بلداننا وارضهم وتاريخهم وحضارتهم، لئلا يصبحوا شعباً من دون ثوابت وجذور". ويحثّ المنتشرين " على توطيد علاقتهم الروحية بارض الاجداد، وعلى ارتباطهم بالمقيمين فيها ليحافظوا عليها"(فقرة9).

تقتضي الخطة الراعوية من الهيكليات الراعوية والاجتماعية اتخاذ مبادرات عملية لتطبيق التوصية الاولى في النص المجمعي وهي " التنشئة على قيمة الارض والتوعية عليها"، وللعمل بموجب آليتها اي: تعريف الاجيال الجديدة الى اهمية ارض الوطن وغناها من خلال برامج وندوات تنشئة وتوعية؛ واقامة توأمة بين المنتشرين وقراهم الاصلية؛ وتشجيع المنتشرين على القدوم الى اوطان المنشأ ضمن برامج مدروسة، كمثل المخيمات الصيفية والسياحة الدينية.

 

صلاة

ايها المسيح الفلاح الصالح الذي أتى ليقتلع الزؤان الذي زرعه ابليس في حقل بني آدم، علّمنا ان نحرث الارض ونحميها من كل ما يشوّه ثمارها، وهي بدورها تعلمنا الاصالة والصدق، السخاء والعطاء. وانتِ يا امنا مريم العذراء سيدة الزروع وسيدة الحصاد والبيدر، احرسي ارضنا وتراثنا وباركي غلات ايدينا، لتظل ارضنا تعكس وجه خالقها وفاديها في طبيعتها وعلى وجوه ابنائها، لنسبح ونشكر باري الخلق بحكمته وجودته، له المجد الى الابد آمين.

 


 

الاحد الرابع بعد الصليب

انجيل القديس متى 24/45-51

المسؤولية خدمة الله بين الناس

 

زمن الصليب، الذي يدوم حتى نهاية العالم، يؤكد لنا ان " الصليب ثابت والعالم ينطوي" وهو زمن يتحقق فيه تصميم الله لخلاص البشرية والعالم. ومن اجل هذا التحقيق يختار الله اشخاصاً وشعوباً يكل اليهم هذه المهمة. هؤلاء يسميهم " عبيده". انجيل اليوم يشرح بالمثل هوية " العبد" ومهمته ومسؤوليته، وثوابه وعقابه. اللفظة اصبحت ملتبسة في ذهنية اليوم، بسبب جهل معناها البيبلي واللاهوتي.

 

اولاً، شرح النص الانجيلي

 

1.    المفهوم البيبلي للقب " عبد"

 

"من تراه العبد الذي اقامه سيده على بني بيته ليعطيهم الطعام في حينه" ( متى 24/45).

تشتق لفظة "عبد" من الاصل العبراني والارامي " عِبِدْ" وتعني الشخص الذي يعتبر ان الله هو سيده الوحيد، ولذلك يعبده ( culteur- culte)، فيؤدي له الاكرام ويسعى الى مرضاته ويطيعه ويسأله حاجاته، ويدخل معه في ميثاق. لفظة "عبد الله" " عبد الرب"، " عبد يهوه" تنافي كلياً المفهوم الاجتماعي والسياسي الذي هو العبودية (esclavage) القائمة حتى اليوم بصورة او باخرى. لكن الله سعى دائماً الى تحرير شعبه: " صرخنا الى الرب اله آبائنا، فسمع صوتنا ورأى ذلنا وعناءنا وظلمنا، فأخرجنا من مصر بيد قوية وذراع مبسوطة" ( تثنية26/6-8). وأوجبت شريعة الله تحرير العبد في السنة السابعة من شرائه ( خروج21/2)، وتحرير كل العبيد في سنة اليوبيل، كل خمسين سنة ( احبار25/10). وتنافي اللفظة ايضاً المفهوم الديني اي عبودية الخطيئة. فالشعب الذي حرره الله اجتماعياً وسياسياً من العبودية، كان يعود اليها من جديد كل مرة  يخون فيها العهد مع الله بالعصيان وعبادة الاوثان، فكان الرب يسلمهم الى ايدي اعدائهم ومستعبديهم  (قضاة 3/7-8؛ نحميا 9/35-36). الخطيئة والعبودية تسيران جنباً الى جنب. وحده السيد المسيح جاء ليحرر الخطأة: "كل من يرتكب الخطيئة يكون عبداً للخطيئة... اذا حرركم  الابن كنتم احراراً حقاً ( يو8/35-36). ولقد حرّر المعمدين باسمه وصاروا ابناء في الابن (غلا4/1-7). ومع انهم احرار من الجميع، يجعلون انفسهم خداماً ( serviteurs) للجميع على مثال ربهم ومخلصهم الذي قال: " انا بينكم كالخادم" ( لو22/27)، رغم انه " الرب والمعلم" ( يو13/12-15)، فبذل ذاته فدى عن كل الخطأة" (مر10-43-45).

وتعني ايضاً لفظة "عبد" الشخص الذي يختاره الله ليساهم في تحقيق تصميمه الخلاصي. فيصبح اللقب لقب شرف، واسم المهمة التي يضطلع بها: أطلق هذا اللقب على موسى وسيط العهد، وعلى داود رمز الملك المسيحاني، وعلى الآباء: ابراهيم واسحق ويعقوب، وعلى يشوع بن نون الذي يقود الشعب الى ارض الميعاد، وعلى الانبياء الذين يثبتون عهد الله، وعلى الكهنة الذين يحتفلون بالعبادة الالهية باسم الشعب، وعلى الرسل.

وتعني لفظة "عبد" الجماعة او الشعب الذي يختاره الله لهذه المهمة الخلاصية: اما انت يا اسرائيل عبدي ويا يعقوب الذي اخترته نسل ابراهيم خليلي، انت عبدي اخترتك ولم انبذك. فلا تخف فأني معك، ولا تتلفت فأنا الهك ( اشعيا 41/8-10). ويختاره ليكون شاهداً له: " انتم شهودي وعبدي الذي اخترته، لكي تعلموا وتؤمنوا بي وتفهموا اني انا هو، لم يُكوّن اله قبلي ولا يكون بعدي. انا انا الرب ولا مخلص غيري" ( اشعيا 43/10-11).

يسوع المسيح هو " عبد الله" بامتياز. اختاره الآب ومسحه الروح لرسالة فداء الجنس البشري. فاصبحت لفظة عبد تعني  معه الفادي ومخلص البشر. يكشف اشعيا النبي في اربعة اناشيد رسالة المسيح الخلاصية بكل ميزاتها التي نجدها في كتب العهد القديم، فجمعها اشعيا في خلاصة. ولهذا سماه القديس ايرونيموس " اشعيا الانجيلي".

 في النشيد الاول( اشعيا 42/1-7)، يقدم الله عبده المختار ويكشف عن طبيعته ورسالته. وفي النشيد الثاني،(49/1-8)، يعلن العبد نفسه وفقاً لاختيار الله له. وفي النشيد الثالث (50/4-10) توصف معاناة العبد من الذين اراد ارتدادهم، فاهانوه واذلوه، لكن الرب ينصره. وفي النشيد الرابع ( 52/13-15 ؛53/1-12) يظهر عبد الله، الفادي والمخلص، انه ذبيحة التكفير البريئة عن خطايا الشعب.

 

 

 

 

2. العبد لقب كل مؤمن وكل مسؤول

 

اتخذت مريم العذراء لقب " انا آمة الرب" وهو القدير الذي نظر الى تواضع امته" ( لو 1/38و48). واتخذه بولس الرسول:" بولس عبد المسيح يسوع رسول بالدعوة" ( روم1/1)، ويعقوب الرسول: " يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح" ( يعقوب1/1)، وبطرس الرسول: " سمعان بطرس عبد ورسول يسوع المسيح" ( 2بطرس1/1)، ويهوذا الرسول: " يهوذا عبد يسوع المسيح" ( يهوذا 1/1).

انه لقب كل مؤمن يشهد لله وليسوع المسيح. لقد نلناه نحن في المعمودية التي جعلتنا " أحباء المسيح ( يو15/5)، وابناء ابيه ( يو20/17). يذكِّرنا هذا اللقب بكثير من الحقائق وهي: الرسالة الموكولة الينا من المسيح: " كما ارسلني ابي ارسلكم انا ايضاً "( متى28/18)، وطريق الآلام الذي سنمر به على مثال المسيح معلمنا: " تذكّروا الكلمة التي قلتها لكم، ليس عبد اعظم من سيده. فأن كانوا اضطهدوني فسوف يضطهدونكم ايضاً" ( يو15/20)، والانتصار على المحنة: "سيكون لكم في العالم ضيق، لكن تقووا انا غلبت العالم" ( يو16/33)، والدخول في مجد الملكوت: " من هم هؤلاء المتوشحون بالحلل البيضاء، ومن اين اتوا؟ فقال لي: " هؤلاء هم الآتون من الضيق الكبير، وقد غسلوا حللهم وبيضّوها بدم الحمل ( رؤيا7/13-15).

وهو لقب لكل مسؤول سواء في الاسرة مثل الاب والام، ام في المجتمع كالرئيس ورب العمل وكل صاحب مسؤولية، أم في الكنيسة: الاسقف، الكاهن، أم في الدولة: كل صاحب مسؤولية سياسية او اقتصادية او ادارية او اعلامية.

 

3. السلطة من الله

 

" اقامه سيده على بني بيته" ( متى24/45)

 انه خادم الله لدى الناس، الذين هم شعب الله. ليس خادمهم وكأنهم هم الذين كلفوه، بل خادم الله من اجلهم. عليه ان يرضي الله لا الناس، ويرضيه عندما  "يقدم لهم الطعام في حينه"، اي عندما يوفّر لهم حاجاتهم الروحية والمادية، الثقافية والاجتماعية، الانمائية والاقتصادية، التربوية والوطنية. وكخادم الله لا الناس، عليه ان يبحث عن ارادة الله الذي وكلّه على بني بيته، لا عن ارادة " اسياده" البشر، بالصلاة والتفكير والاستشارة وقراءة ارادة الله من خلال نداءات شعبه وحاجاته. ولانه موكّل لا يستطيع ان يساوم على ما أوكل اليه من " طعام" ومن اناس، هم " بنو بيت الله"، يجسّد لهم عناية الله بهم، فانه باسمه وبشخصه " يخدمهم". اما هم فعليهم ان يحترموه ويكرموه ويعتبروه لما يمثل بينهم، وان يقبلوا منه ما يقدم لهم، لانه من الله، وبالتالي لا يستطعون ان يرفضوا " هذا الطعام" الذي منه حياتهم، ولا ان يسيئوا استعمال خيرات الله. يدعو السيد المسيح خادمه الى الفطنة، وبني بيته الى تقدير عطاياه، عندما يقول بكلام قاسٍ: لا تعطوا الكلاب ما هو مقدس، ولا تلقوا لؤلؤكم الى الخنازير، لئلا تدوسه بارجلها، ثم ترتد اليكم فتمزقكم"  (متى7/6).

 

4.    الامانة والحكمة في ممارسة مهمتنا

 

" من تراه العبد الامين الحكيم" ( متى 24/45).

صفة العبد، الخادم او الوكيل او المسؤول، الامانة، وهي من صفات الله كما نقرأ في كتب العهد القديم. بولس الرسول يردد ان الله امين في وعده. يوحنا الرسول يسمي " يسوع المسيح الشاهد الامين" (رؤيا1/5)، ويوصي الخادم والوكيل والمسؤول بالامانة وعدم الخوف: " لا تخف ما سيصيبك من آلام. فستكونون في الضيق. فكن اميناً حتى الموت، وانا اعطيك اكليل الحياة" ( رؤيا2/10). الامانة تملي عليه ان يصمد بوجه رتابة الزمن، ومحنة الصليب، وصمت الله، وان ينصرف الى مهمته، فينال الثواب من سيده ( متى24/46-47).

والصفة الثانية الحكمة وهي اولى مواهب الروح القدس ( اشعيا11/2) للذين يدعوهم الله للخدمة. الحكيم يحسن السماع وقبول المشورة، ويكثر من المعرفة، ويخاف الشر، ويتقي الله، ويحكم على الامور من منظار الله. لكن مبدأ الحكمة العيش والتصرف في مرضاة الله وصداقته: " اساس الحكمة مخافة الله"   ( امثال9/10).

المهمة هي تحقيق مقاصد الله الخلاصية في الانسان والتاريخ، في الاسرة والمجتمع والكنيسة. وهي خدمة الحياة على صعيد الخلق والفداء والتقديس، وخدمة شؤونها في الحقل الثقافي والاجتماعي والسياسي.

التعديات على الحياة خيانة للمهمة الموكولة من الله ولا تبررها حريّة الانسان الفردية. يبقى سؤال الله لقايين موجهاً الى كل واحد: " اين اخوك؟ ماذا فعلت باخيك؟"، ولا احد منا يحق له ان يجيب الرب كقايين: " لا اعلم ألعلّي انا حارس لاخي؟" ( تكوين4/9-10). فكل انسان مسؤول عن اخيه الانسان، ولاسيما كل صاحب سلطة.

نعيش في زمن اعلان حضارة حقوق الانسان، لكننا نشهد اليوم مزيداً من التعديات على الحياة البشرية، روحياً واخلاقياً، حسياً واجتماعياً، اقتصادياً وانمائياً، سياسياً ووطنياً. فاين الانسجام بين الاعلان وهذه التعديات" ( انجيل الحياة، 18).

 في الاساس وَكَلَ الله الانسان الى الانسان. وزيْن كل انسان بالحرية لكي يبلغ الى الكمال ببذل الذات والانفتاح على الغير. ولكن عندما تغرق هوية الانسان في الانانية، تفرغ من معناها الاصيل، وتنحرف عن دعوتها وكرامتها. والحرية عندما لا تعود تقرّ وتحترم علاقتها الجوهرية بالحقيقة، تنكر ذاتها وتدمّرها وتقضي الى الغاء الغير. وهكذا ينتهي الانسان بأن يتخذ، بمثابة مقياس وحيد وحاسم لخياراته، لا للحقيقة التي توقفه على نواحي الخير والشر، بل مجرد رأيه الذاتي المتقلب، وما تمليه عليه مصالحه الرخيصة ونزواته العابرة ( انجيل الحياة،19).

 

5.    الدينونة الخاصة

 

"طوبى لذلك الوكيل الذي يجيء سيده فيجده فاعلاً هكذا" : انه يقيمه على كل ما له. وإلاّ يفصله ويجعل حظه مع المنافقين" ( متى24/46-47 و51).

الله الموكّل يناقشنا حساب وكالة الحياة والمسؤولية، في نهاية العمر. هذه المناقشة تسمى " دينونة خاصة". ولان الله خلقنا وافتدانا وبررنا، فهو يديننا في الآخرة. انه صاحب الثواب والعقاب.

من شأن كل موكّل ان يطالب وكيله بحساب وكالته. وهذا يجري عادة، على  صعيد الدول، في الانتخابات النزيهة والحرة التي هي وسيلة ثواب وعقاب، الى جانب كونها انتداباً للتمثيل؛ المحاسبة تمارس في النظام الديموقراطي، وليست معروفة في الانظمة الاستبدادية والديكتاتورية والتيوقراطية، حيث الحاكم يعيد انتخاب نفسه بالاكثرية الاجماعية، ويمنع عن المواطنين حرية التعبير والاعتراض.

الموت يضع حداً لحياة الانسان التي هي بمثابة وقت مفتوح لقبول او رفض النعمة الالهية الظاهرة في المسيح. يؤكد الانجيل ان كل واحد منا يخضع، في نهاية حياته وعند موته لدينونة خاصة عن حياته واعماله، فتنال النفس مصيرها الابدي، خلاصاً او هلاكاً، كما جاء في مثل لعازر والغني(لو16/19-21)،  وكما توحي كلمة يسوع على الصليب للّص اليمين ( لو23/43)، وكما يؤكد بولس الرسول: " لا بدّ لنا جميعاً من الوقوف امام منبر المسيح، ليجازي كل انسان بحسب ما فعل، اخيراً كان ام شراً" ( كور5/10).

الدينونة الخاصة تسفر عن احدى الحالات الثلاث:

أ- اما الدخول مباشرة الى سعادة السماء كالذين تعلن الكنيسة قداستهم لانهم عاشوا ببطولة الفضائل الالهية والمسيحية والانسانية، كما يؤكد تعليم مجمع ليون ( سنة 1274) والبابوات. هي حالة الذين يموتون في النعمة وفي صداقة الله، وهم مطهّرون تماماً بنعمة المسيح. انهم شبيهون بالله ويرونه كما هو (1يو3/2)، " وجهاً لوجه" ( 1كور13/12).

ب- اما الدخول الى المطهر لمدة من الزمن، يعرفها الله وحده، للتكفير عن الخطايا التي اقترفوها في حياتهم الزمنية، كما تعلّم المجامع المسكونية: ليون ( سنة 1274)، فلورنسا ( سنة 1439)، وترانت  (سنة 1563). هي آلام تطهّر المختارين الذين ماتوا في حالة النعمة، ولكنهم غير انقياء تماماً ليشاهدوا لله. فلا بد من تقديم الصلوات والقداسات واعمال الرحمة من اجل موتانا والانفس المطهرية.

ج- اما دخول الهلاك الابدي المعروف بجهنم، كما يعلم الرب في الانجيل: " يفصله ويجعل حظه مع المرائين. هناك يكون البكاء وصريف الاسنان ( متى24/51)، وكما تعلم الكنيسة بلسان البابوات والمجامع المسكونية، منها مجمع فلورنسا، فهو حالة الآلام المشبّهة بالنار ( متى13/41-42؛ 25/41) ينالها الذين يموتون في حالة الخطيئة المميتة، ويرفضون حتى آخر رمق من حياتهم ان يؤمنوا ويتوبوا.

تضع الكنيسة على شفاه المنازعين هذه الصلاة:

لا يا ربي تكشف عيبي، في الدينونة   بل اعماق محبّاتك المكنونة

كيف اخشى يوم الدين ان آتيك          ربي قلبي لا يرتاح الاّ فيك

 

***

ثانيا، وجوه عاشت الامانة ليسوع المسيح

 

تقيم الكنيسة في هذا الاسبوع تذكار قديسين تلألؤا بالامانة ليسوع المسيح، لكلمة الانجيل ومحبة الفقراء ونعمة التقديس. نذكر من بينهم الشهيدين قبريانوس ويوستينا وفرنسيس الاسيزي والشهيدين سركيس وباخوس.

 

الشهيدان قبريانوس ويوستينا (2 تشرين الثاني)

يوستينا فتاة مسيحية من انطاكية، رفضت الزواج من شاب وثني، وكانت تجيب على الحاحه بزواجها: " انا مخطوبة ليسوع المسيح". فلجأ الى قبريانوس، وهو شاب وثني يتعاطى السحر، ليستعمل اساليبه السحرية عليها واغوائها بالزواج من الشاب الوثني، فباء سحره بالفشل. بل استمالته يوستينا الى الايمان المسيحي، فتاب وارتدّ واعتمد واحرق  امام الاسقف كل كتبه السحرية وادواته. واقتدى بها ايضاً الشاب طالب زواجها وآمن بالمسيح. هذا ما ذكره قبريانوس في كتاب اعترافاته، حيث يخبر ايضاً عن العديد من الوثنيين الانطاكيين الذين اعتنقوا الدين المسيحي، وقد استمالتهم يوستينا بصلاتها وشهادة حياتها.

بعد تعذيب متنوع انزله الامبراطور ديوكلتيانوس بقبريانوس ويوستينا من دون جدوى، امر بقطع رأسيهما سنة 304. نقلت ذخائرهما الى روما ودفنت في بازيليك مار يوحنا اللاتران.

 

القديس فرنسيس الاسيزي ( 4 تشرين الثاني)

ولد في اسيزي بايطاليا سنة 1181 ومات سنة 1226 عن 45 سنة من العمر متفانياً في التقشف والعمل الرسولي وشهادة الحياة. والده تاجر حرير غني. عاش فتوته وشبابه في البذخ والطيش والهوى. بعد أسر دام سنة وهو بعمر 21 سنة اصابه مرض عضال، اعاده الى نفسه، فاجرى تحولاً عميقاً في حياته. وفيما كان يزور ذات يوم كنيسة القديس دميانوس في اسيزي، وهو راكع امام المصلوب يصلي، سمعه يقول له: " رمم كنيستي فانها تتهدم". ففهم الكنيسة الحجرية، وراح يجمع المال واخذ بترميمها. لكن الرب كان يعني " كنيسته البشرية".

وهذا ما جرى. بدأ يعتني بالفقراء من ثروة والده واقمشة متجره، ما اغضب الوالد فشكاه الى مطران المدينة. اما فرنسيس، عندما حضر امام الاسقف ووالده والشعب، خلع كل ثيابه وسلمها لوالده وصرخ امام الجمع كله: " اردّ لك، يا ابي، كل شيء منك. والآن انا اكبر انسان حرّ من حطام هذه الدنيا. انا حرّ انا حرّ". وغادر ليلبي دعوة الله الى التكرّس له في الحياة الرهبانية، معتنقاً الفقر الانجيلي الكامل مادياً ومعنوياً.

تأثر به عدد من شبان اسيزي وتبعوه، ومن بينهم كلارا، الفتاة الثرية التي نهجت نهجه ومعه اسست راهبات الكلاريس. عاش مع الشباب حياة مسيحية فقيرة وكرزوا بالانجيل في المدينة بشهادة حياتهم. تطورت هذه الجماعة حتى اصبحت رهبانية اسسها ونظم قوانينها، فثبّتها البابا اونوريوس، بعد ان راى في الحلم الكنيسة بشبه مدينة متداعية ومهددة بالسقوط، وفرنسيس يسندها بكتفه. وهكذا تبلور معنى صوت الرب: " يا فرنسيس رمم كنيستي، فانها تتهدم".

تآخى مع الطبيعة والحيوانات والوحوش وعاشهم في برية Alverna في ايطاليا حيث كان يختلي ويعيش وحيث نال آثار الصلب في يديه ورجليه. وهناك وضع نشيد الطبيعة ووحوشها التي تسبّح الرب، ونشيد " يا رب استعملني لسلامك!".

انطلق الى الرسالة بين المسلمين في بلدان افريقيا الشمالية ومصر. ومات منهوك القوى وفاقد البصر سنة 1226. وبعد سنة اعلن قداسته البابا غريغوريوس التاسع، وجعله البابوات شفيع ايطاليا، وشفيع التجار، وشفيع البيئة والمؤسسات المعنية بالحيوانات. ترك من بعده العائلة الفرنسيسكانية الكبيرة المؤلفة من ثلاث رهبانيات: الفرنسيسكان والكبوشيين والديريين، ونشأت على اسمه رهبانية مار فرنسيس للعلمانيين.

 

الشهيدان سركيس وباخوس (7 تشرين الثاني)

هما جنديان مسيحيان من اشراف المملكة الرومانية، حازا رتبة عالية من الملك مكسيميانوس بعد الانتصار في الحرب على الفرس سنة 297. عندما دعاهما الملك لتقديم البخور الى الآلهة رفضا، وصرّحا انهما مسيحيان. فغضب عليهما ونزع عنهما شارات الشرف وألبسهما ثياباً نسائية للهزء والسخرية، وسلمهما الى القائد انطيوخوس الذي كان يأتمر بامرهما، من عهد قريب. فانزل بهما أشدّ العذابات وهما صابران متمسكان بالايمان بالمسيح. وقتل اولاً باخوس بالجلد الوحشي الذي ظهر في الحلم لسركيس يشجعه على الثبات، فنال بدوره اكليل الشهادة بقطع الرأس سنة 307.

 

 

 

***

 

 

 

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

السلطة وكالة لتأمين الخير العام، الذي منه خير كل انسان، وخير كل الانسان. الخطة الراعوية ترتكز على كيفية توفير الخير العام الذي تؤمّنه ارض الوطن لابنائها وبناتها، في ضوء التعليم المعطى من المجمع البطريركي الماروني في النص الثالث والعشرين بعنوان: " الكنيسة المارونية والارض".

1. يعلّم النص المجمعي ان " الارض مكوّنة للهوية التاريخية والاجتماعية والسياسية. فالمجتمع الماروني يتأثر بالبيئة والجغرافيا التي عاش فيها، وزرع وسعى ارضها من عرق جبينه، فأمّنت له الضروري من اجل العيش الكريم واحتمى بها من صروف الدهر والاضطهادات، ولذلك انطبع بها وطبعها بايمانه وديناميته الثقافية وانفتاحه على مختلف الحضارات ( فقرة 10). وهكذا اضحت الارض الوطن والكيان وفيها القيم والخبرة والبُعد الحضاري والوجودي. ولبنان الارض اصبح وطن التلاقي وقبول الآخر والانفتاح عليه وتبادل الخبرات الحياتية والحضارية معه، بالرغم من تناقض ادّى احياناً الى نزاع دموي وصراع من اجل البقاء" ( فقرة 11).

2. الخطة الراعوية تقتضي وعياً للهوية ابنة بيئتها، والتزاماً بالمحافظة على الارض كإرث وطني وجماعي، من اجل حفظ كيان الوطن والمجموعات التي تكوّنه. " الوكالة" مسؤولية السلطة والمواطنين، وتستوجب تسليم الارض بامانة كاملة للاجيال الآتية، فيما صدى قول نابوت اليزراعيلي يرّن في اعماق الضمائر: " معاذ الله ان ابيعك ميراث آبائي"  (ملوك 21/3). تفكر مجموعات الهيكليات الراعوية والعائلية والاجتماعية في السبل لتوعية الاجيال الجديدة على قيمة ارض الوطن، وفي المبادرات التي من شأنها ان تحافظ على الهوية التاريخية والاجتماعية والثقافية، وعلى الكيان والديمومة.

 

صلاة

 ايها الرب يسوع، انت حبة الحنطة التي قبلتها احشاء مريم كأرض طيبة، فصرت قوتاً للجماعة المؤمنة وخبز حياة. اعطنا ان نعيش على ارض الوطن حضارة حبة الحنطة، فنمتزج بها عطاء وبذلاً، ونجعل من ارضنا مصدر حياة وسلام وتلاقٍ، يضع حداً للفاقة والحرمان، للنزاع والتباعد. واننا بالصلاة والعمل نمجد الآب الذي خلق الارض، والابن الذي افتدها، والروح القدس الذي يحييها ويجدد وجهها، الآن والى الابد، آمين.

 



الاحد الخامس بعد الصليب

انجيل القديس متى 25/1-13

الحياة انتظار لمجيء الرب وتجلياته

 

         زمن الصليب مخصص للتأمل في النهايات: الموت والدينونة والخلاص والهلاك. ويتميز بكونه زمن الانتظار والسهر والامانة. انجيل العذارى يحمل بعدين: الموت، وهو نهاية حياة كل انسان على الارض مع مصيره الابدي خلاصاً او هلاكاً، وهو عودة الانسان الى الله باريه؛ ومجيء الرب في حياتنا اليومية لقدسّها وليكون حاضراً من خلالنا في هذا المجتمع بكلمته ونعمته ومحبته.

 

 

 

اولاً، المسيح في مجيء دائم، في الحياة وفي الموت

 

1.    الموت ومجيء الرب

 

 " اسهروا اذاً، لانكم لا تعلمون اليوم ولا تلك الساعة" (متى25/13). ان الرب يأتي كل يوم الينا، ويأتي في اليوم الاخير، ساعة موتنا. عندما يشبّه ملكوت الله بمجيء العروس، انما يشبهّه بسرّ مجيء الرب ولقائه بالانسان، وسرّ ولوج الانسان في عالم الله، في هذه الدنيا وفي الآخرة. العذارى العشر يمثلن النفوس، الاشخاص، بل كل انسان ينتظر قدوم الرب يومياً. يُسمى هذا القدوم في الانجيل مجيء العروس، لان الرب الآتي، يسوع المسيح، انما يأتي من اجل "اتحاد حب وحياة"، كاتحاد العروسين، وهو اتحاد عميق مع هذا الانسان، وفيه خلاصه؛ واللقاء –الاتحاد، الذي ثمرته  الخلاص، يسمى حفلة العرس، يدخل اليها المستعدون.

الصورة مأخوذة من العادة اليهودية. كانت العذارى تنتظرن مجيء العريس المفاجىء ليصطحب عروسته الى بيته، بعد فترة لا تتعدى السنة من عقد زواجه عليها. هكذا جرى ليوسف ومريم عند بيان الملاك ليوسف ( متى 1/18-25).

مجيء الرب، عريس البشرية، يقتضي من الانسان، كل انسان، سهراً وانتظاراً.

المصابيح المضاءة بالزيت علامة السهر والانتظار: سهر العقل بزيت المعرفة والايمان، فالحياة تُضاء بنور معرفة الله لادراك حقيقته، وبضوئها ندرك حقيقة الانسان والتاريخ؛ وسهر الارادة بزيت الرجاء لكي يصمد الانسان ويثبت في العيش بموجب معرفة الله والحقيقة، وفي ما يآخذ من قرارات في حياته وخيارات؛ وسهر القلب بزيت المحبة، لان المحبة كمال الايمان والرجاء، كمال الحقيقة والخير. بدون المحبة تكون حياة الانسان لغزاً فارغاً، عبّر عنه بولس الرسول في نشيد المحبة: " لو كنت انطق بالسنة الملائكة والبشر... ولو كنت اعرف الاسرار كلها، والعلم كله، ولو كان فيّ الايمان كله حتى انقل الجبال...ولو كنت اطعم الفقراء كل مالي، واسلّم جسدي ليحرق، ولم تكن فيّ المحبة، فلست شيئاً. ثلاثة هي الثابنة: الايمان والرجاء والمحبة، واعظمهن المحبة" ( 1كور13/1-3).

بطء العريس في القدوم، يعني جهل ساعة مجيء الرب في حياتنا اليومية، وجهل مدة الزمن الذي نعيشه ويوم انتهائه. لكنه يعني خاصة الدعوة لممارسة حريتنا في اطار الحقيقة والخير، بخيارات حرّة تقودنا الى معرفة الحقيقة، والى الالتزام بما تملي علينا من خير وعدل ورحمة وسلام. فالرب آتٍ حقاً مهما تباطأ مجيئه.

الصيحة المعلنة لمجيئه عند منتصف الليل، هي صوت الانجيل المدوّي في ظلمة ليل الجهل والضياع والشر وعدم الاكتراث: " ابشركم بفرح عظيم، يكون للعالم كله، لقد ولد لكم اليوم المخلص". هذه كانت صيحة ملاك الرب ليلة ميلاد فادي الانسان ( لو2/10). ثم كانت صيحة يوحنا المعمدان: " صوت صارخ في البريّة: اعدوا طريق الرب، واجعلوا سبله قويمة" ( مرقس1/3). ومن بعده صيحة يسوع المسيح: " توبوا، لقد اقترب ملكوت السموات" ( متى4-17). وهي صيحة الكنيسة التي انطلقت بارسال من الفادي الالهي: " انطلقوا الى العالم كله، ونادوا بانجيلي في الخليقة كلها" ( مر16/15).

النداء- الصيحة يوجب " اضاءة المصابيح بزيوتها": زيت الحقيقة لاضاءة العقول، وزيت الخير والصلاح لصمود الارادات، وزيت المحبة لتحريك القلوب. فالانجيل كلمة تهدي خطانا كمصباح، ونعمة تشفينا كدواء، ومحبة تضرم القلوب كالنار.

دخول المستعدات رمز للخلاص الذي يبدأ في هذه الدنيا ويكتمل بعد الموت.

اغلاق الباب بوجه المتأخرين رمز للهلاك الفاعل في حياتهم التاريخية، اذ يعيشون في شرهم واهمالهم وعدم اكتراثهم، والمتعاظم في هلاكهم الابدي.

 

2.    نظرة فلسفية ولاهوتية الى الموت

 

يعتبر الفيلسوف الالماني Heidegger Martin ان " الموت مستقبل الوجود وفعل حرية بامتياز" (انظر كتابه: الوجود والزمن، سنة 1953). يقول ان الوجود هو من اجل الموت، اذ كل انسان يولد محكوم عليه بالموت، بالعدم، يولد حاملاً معه نهايته. لكن الموت هو " المستقبل بامتياز"، فالانسان هو تماماً ما يجب ان يصبح، ويكون كذلك عندما يعيش امكانيته الاخيرة التي هي الموت. هكذا واجهه اغناطيوس الانطاكي، بطريرك القسطنطينية ( +  107): " دعوني اذهب الى الموت، لا تصدوني، اريد ان اُطحن تحت انياب الوحوش، لاصبح خبز المسيح". وقالت عنه تريز الطفل يسوع (+ 1879): " انا لا اموت، بل ادخل الحياة. وساقضي ابديتي ممطرة ورود النعم على الارض". ورآه خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني قبيل دخوله في غيبوبة الموت التي دامت ثلاث ساعات، مساء السبت 2 نيسان 2005: " دعوني اعود الى بيت الآب".

 وينادي Heidegger بالحرية من اجل الموت، معتبراً ان الموت نداء يدعو حرية الانسان لان تعيش الموت"، بحيث يعطي الانسان الحرّ كل لحظة من حياته قيمتها بوجه العدم، وهكذا يحقق ملء الوجود، ويصبح ما ينبغي ان يكون. ويبلغ هذا الفيلسوف الى الاستنتاج: ان الوجود هو من اجل الموت، فالموت مستقبل الوجود وتجليه الكامل؛ والوجود يفترض الحرية التي تمكّن الانسان من ان يقبل نهايته، وان يعيش الموت كامكانية للوجود، لا كمجرد حدث مستقبلي طارىء وبغيض.

" الحرية البشرية هي ان يحمل الانسان مسؤولية وجوده بوعي، ويسعى الى اكتماله من خلال محدوديته ونهائيته. وهكذا يحقق الانسان ذاته تماماً في  "الحرية من اجل الموت"، ويصير الموت هذا المستقبل بامتياز.

ينير اللاهوت ما بلغت اليه الفلسفة، وهو ان يكون الموت  " عرس" اللقاء بالله في سرّ المسيح، بالنسبة الى الانسان الذي استعد له بحرية مكّنته من اعطاء كل لحظة من حياته قيمتها بوجه العدم والفساد، وعاش في اطار الحقيقة والخير، النعمة والمحبة. مثل هذا الموت، يقول الفيلسوف Heidegger، هو  "نشيد الوجود"، نتلوه نحن في المزمور:  "فرحت بالقائلين لي: الى بيت الرب ننطلق"( مز122/1).

ومن جهة ثانية نجد نظرة فلسفية اخرى الى الموت معاكسة، مع الفيلسوف الفرنسي Albert Camus في كتابه " الانسان المتمرد" ( 1952). الانسان يتمرد على النظام الطبيعي الذي يخضعه للموت، ويتمرد خاصة على واقع الموت المحكوم به على الاطفال والابرياء. ويبّين هذا الفيلسوف التناقض القائم بين الحياة والموت: الحياة تتوق الى ملء الوجود والموت يقود الى العدم. هذا واقع الذين لا ينظرون الى الموت في ضوء كلمة الله المتجسد الذي افتدى الموت واعطاه قيمة البلوغ الى كمال الوجود، هؤلاء متمثلون بالعذارى الجاهلات في الانجيل، اللواتي حجبن عن مصابيح العقل والارادة والقلب زيت الحقيقة والنعمة والمحبة، ففاجأهم الموت، وخسروا اللقاء بالرب، فمنعوا من عرس الخلاص.

 

3.    ترقب مجيء المسيح بالسهر

 

" اسهروا لانكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة" (متى25/13).

المسيح الرب القائم من الموت هو حي ويأتي لملاقاتنا على دروب الحياة لخلاصنا، واللقاء به عرس الحقيقة والمحبة. وسيأتي في نهاية حياة كل واحد منا ليشرك الذين قبلوه في حياتهم التاريخية في سعادة النعيم السماوي، على ما يقول بولس الرسول: " لم تره عين، ولا سمعت به اذن، ولا خطر على قلب بشر ما اعده الله للذين يحبونه" ( 1كور2/9). زمننا هو ترقب مجيء المسيح في حياتنا اليومية وفي نهايتها، وانتظاره ساهرين.

السهر هو ادراك مسؤولية الحياة، والالتزام بموجبات الايمان الذي يولّد الاعمال والمسلك الخلقي الصالح، وبممارسة الاسرار التي تشفي بنعمتها وتجدد المؤمن وتدخله في شركة حياة مع الله. من هذه الشركة تنبثق علاقاته السليمة مع الناس. هذا التفاعل الايماني والاسراري هو ثمرة مجيء المسيح في حياتنا اليومية. ويقتضي السهر حالة يقظة بتحصين الذات بالحكمة والفطنة تجاه تجارب الحياة، وبالخروج من حالة التغفّّّل والسطحية. كما يقتضي موقف الرجاء الذي به ننتظر تجلّي الله في حياتنا وتحقيق مواعيده الخلاصية فينا. اما رسالته فهي الصلاة واعمال المحبة، والصبر على المحنة، والثبات في الحق والخير والجمال.

لقد فقد الناس في معظمهم حالة السّهر ومقتضياته، بنتيجة تيارات عقائدية وممارسات اثّرت في عمق حياتهم، بالرغم من مظاهر الايمان والصلاة.

ثمة تياّر الوضعية ( positivisme) الذي يعتبر ان المعرفة مرتبطة بالاختبار فقط، وبالتالي لا يُعرف مضمون الوحي الالهي الاّ بالاختبار: "يا معلم، نريد ان نرى منك آية" ( متى12/38-39)،  اي آية تعطينا انت، فنراها ونؤمن بك؟" (يو6/30). ذهنية اليوم تسعى هي ايضاً وراء  العلامات الخارقة لتؤمن، بينما الكنيسة تقدم لهم، ما ترك لها السيد المسيح من اسرار هي " علامات تفعل ما تعني"، وتنقل اليهم بتأوين من الروح القدس كلام الرب الواضح والصريح، عبر خدمتها النبوية. صلاتها صلاة القديس انسليموس: " اعطني يا رب ان اؤمن لكي أفهم".

 

وتيّار المادّية ( Metérialisme) الذي يقرّ بوجود المادة فقط اي المال والممتلكات وخيرات الارض، وبقدرتها المادية، فتعتبر ان الله غير ذي فائدة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي ان الحياة الروحية مجرد وهم، وان الديانة عاجزة امام بؤس الناس الواقعي، وغير قادرة على تبديل العالم. الماديّة هي تفريغ المعطيات الروحية الثابتة من كل معناها، وتجعل عبادة المال طاغية على عبادة الله: " لا يستطيع احد ان يعبد ربين الله والمال، لانه اما يبغض الواحد ويحب الآخر، واما يلزم الواحد ويزدري الآخر" ( متى6/24).

ومشكلة التسّلط او الولع بالسلطة  حتى عبادتها وبالتالي عبادة الذات، وافراغها من الالتزام في خدمة الخير العام وبذل الذات في سبيله، وقطعها عن اي رباط بالله في مبادئها وممارستها. وهذا نقض لتعليم بولس الرسول: " لا سلطة الاّ من عند الله، والسلطات القائمة هو الذي اقامها. فمن عارض السلطة قاوم النظام الذي اراده الله" ( روم13/1-2). لكن الذين يمارسون التسلط في السلطة هؤلاء يقاومون اولاً النظام الذي اراده الله، ما يولّد روح الثورة عند المواطنين.

لا يستطيع احد ان يعيش في حالة السهر، ما لم يجتهد في " قراءة علامات الازمنة" التي دعا اليها الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرون. لقد عرف هو ان يقرأ علامات زمانه، فدعا الى عقد المجمع السكوني الفاتيكاني الثاني، فكان  "عنصرة جديدة" في حياة الكنيسة التي تهيأت بها لبدء الالفية الثالثة، وقد سماّه خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني "ربيع الكنيسة".

يكتنف ايامنا العديد من  علامات الازمنة. فلا بدّ من قراءتها بسماع كلام الله والتأمل فيه، وبالصلاة واستلهام الروح القدس الذي " يعلمنا كل شيء، ويقودنا الى الحقيقة كلها" (يو16/13). في طليعة هذه العلامات: ايثار قاعدة الاخلاق على التقنية، وايثار الشخص البشري على الاشياء، وتغليب الروح على المادة، والصيرورة على التملك، فالمهم ان " نكون اكثر: لا ان " نمتلك اكثر" ( الكنيسة في عالم اليوم،35).

ومن علامات الازمنة اليوم مسألة تحرير الانسان والشعوب، فيما نشهد عملية استعباد واخضاع وتبعيات وتطبيع لايديولوجيات وانظمة سياسية ومصالح غرائزية، ولاستثمارات اقتصادية واعلامية واعلانية، وللانتاج والمنتجات ( فادي الانسان،16).

 

**

ثانياً، وجوه ترقّّبت مجيء الرب

 

من بين القديسين الذين تعيّد الكنيسة تذكارهم في هذا الاسبوع القديس يعقوب الرسول ابن حلفى، الملقب باخي الرب،، والقديس إدنا الشهيد، والقديس اشعيا الراهب الحلبي.

القديس يعقوب الرسول ( 9 تشرين الاول)

هو يعقوب ابن حلفى ومريم، ابنة عم او ابنة خالة العذراء ام يسوع، من قانا الجليل. وبسبب نسبه الى يسوع من جهة امه، لٌقّب " باخي الرب"، كما كانت العادة عند اليهود بتسمية الاقرباء الادنين " اخوة". ولُقّب ايضاً " بالصغير" تمييزاً له عن الرسول يعقوب الكبير ابن زبدى وشقيق يوحنا.

هو اول اسقف على كنيسة اورشليم، امّ الكنائس. شاهد تجلي الرب يسوع في بهاء الوهته على جبل طابور، مع بطرس الرسول ويوحنا. هؤلاء الثلاثة يسمّيهم بولس اعمدة الكنيسة  (غلاطية 2/9). وخصّه الرب يسوع بالترائي له مثل بطرس وسائر الرسل ( 1 كور15/7). هذه دلالة على انه كان على موعد دائم مع المسيح الرب الذي شدده في عذاب الاضطهاد، من ضرب واهانة وأسر في اورشليم، الى ان قتله اليهود رجماً وضرباً على رأسه في يوم عيد الفصح في 10 نيسان سنة 62.

له الفضل بوضع الليتورجية الاولى للقداس، وينسب اليه احد نوافير الكنيسة المارونية. وله رسالة هي الاولى بين الرسائل الرسولية تميزت بالتشديد على ان الايمان من دون الاعمال ميت، وبالكلام عن سرّ مسحة المرضى ( يعقوب 5/14 و15).

 

القديس إدنا الشهيد ( 12 تشرين الاول). هو جندي روماني مسيحي، عاش في اواخر الجيل الثالث، اباّن الاضطهادات في الامبراطورية الرومانية الوثنية. شهد للمسيح بجرأة في خدمة الجندية. اضطهده الوالي لرفضه تقديم الذبائح للالهة  الاوثان، وبعد عذابات متنوعة امر ببتر اذنيه وبقطع رأسه فاستشهد سنة 304. لقبّ "بمار إدنا"، بسبب بتر اذنيه، ولجوء المؤمنين اليه في امراض الاذن. لفظة " ادنا" سريانية وتعني الاذن. كان اسمه الحقيقي تراخوص وفي الجندية فيكتور بمعنى المنتصر.

 

القديس اشعيا الراهب الحلبي ( 15 تشرين الاول). مسيحي من حلب ابن والي المدينة في الامبراطورية الرومانية، على عهد قسطنطين الملك. تنشأ على الفضائل المسيحية ونذر بتوليته لله عن غير علم والديه. ولما تزوج اتفق مع خطيبته على عيش البتولية، فدخلت هي دير الراهبات وهو سار في السلك الرهباني في دير القديس اوجين. ثم انشأ محبسة في نواحي حلب وتبعه كثيرون من المكرسين، فسنّ لهم قوانين. جعلت الرهبانية الانطونية المارونية ديرها الام في برمانا على اسمه. مات في اواخر القرن الرابع، بعد ان فاح صيت قداسته في كل ارجاء حلب.

 

**

ثالثاً، الخطة الراعوية

         في زمن السهر بانتظار تجليات الرب في حياتنا التاريخية، تمهيداً لمجيئه الاخير لمناقشة الحساب على وديعة الحياة وخيرات الارض، تستنير الخطة الراعوية من تعليم المجمع البطريركي الماروني في النص الثلث واالعشرين:  "الكنيسة المارونية والارض"، وتضع سبلاً ومبادرات للمحافظة على ما للارض من ثوابت بيئية تضمن خير الجميع من الناحية الوجدانية والطبيعية والصحية والسياحية والتراثية (الفقرات 16 –20).

        1. يعلّم هذا النص المجمعي ان من أكرم الارض اكرمته واشبعته من خيراتها. فهي من اعمال الله الحسنة، تحافظ على من احبها وتغذيه وتحميه (فقرة 16). ويعلّم ايضاً ان البيئة هي الاطار الذي يعيش فيه الانسان عيشاً سليماً، فلا يحق له ان يهملها ويهدر ثرواتها ويتعاطى معها بطريقة استغلالية نفعية وبروح محض استهلاكي، او ان يقطع اشجارها ويشوهها باستعمال المواد المصنعة التي لا تتحلل في الطبيعة، ويرمي النفايات بطريقة عشوائية ( فقرة 17). ويعلّم ثالثاً، ان احترام الطبيعة ضمانة للحفاظ على الصحة، وحماية لها من اخطار التلوث التي تتهدد الانسان حاضراً ومستقبلاً نتيجة الحضارة الممكننة والمصنّعة ( فقرة 18).

        2. تعمل الخطة الراعوية على تطبيق توصيات المجمع بهذا الشأن وهي:

أ‌-     صون البيئة باطلاق حملة تثقيف بيئي في المدارس والمعاهد والرعايا (التوصية 4).

ب- اتخاذ مبادرات تحريج المناطق باقامة محميات وزرع غابات واحراج واطلاق تسميات عليها ( التوصية 5).

 ج- المحافظة على ثروة المياه بعدم هدرها وتلويثها وباستثمارها علمياً وتوزيعها توزيعاً عادلاً  (التوصية 6).

      د- المحافظة على البحر واستثمار الثروة السمكية وحماية الشواطىء لصالح السياحة ورياضة السياحة (التوصية7).

      ه- تثقيف المواطنين على السياحة البيئية باكتشاف معالم البلدات والقرى الدينية والاثرية والجغرافية واستثمارها

         سياحياً (فقرة 19).

     و- تعزيز التراث العمراني باعادة الاعتبار  الى العمارة التراثية وتطوير المعطيات القديمة في الفن والهندسة

         لتتجاوب مع حاجات العصر ( فقرة 20).

 

صلاة

 

سبحوا الرب من السماوات، سبحوه في الاعالي. سبّحي الرب من الارض ايتها التنانين وجميع الغمار؛ النار والبَرَد، الثلج والضباب، الريح العاصفة الممضية كلمته؛ الجبال وجميع التلال، الشجر المثمر وجميع الارز؛ الوحوش وجميع البهائم، الدبابات والطيور ذات الاجنحة. ليسبّح هؤلاء اسم الرب، فان اسمه وحده عال. ليكن التسبيح في افواه جميع اصفيائه، شعبه المقرّب اليه، هللويا. المجد للآب والابن والروح القدس، من الآن والى ابد الابدين ( مزمور 148).


الاحد السادس بعد الصليب

انجيل القديس متى 25/14-30

مقدرات الحياة موجهة لانماء الانسان والمجتمع

 

زمن الصليب هو زمن انماء الانسان والمجتمع روحياً ومادياً، اجتماعياً واقتصادياً، ثقافياً وسياسياً. يوزّع الله لهذه الغاية " وزنات" لكل انسان، من اجل ان يحقق نموه الشخصي، ويساعد غيره على تحقيق نموه الذاتي، ومن اجل ان يعمل الجميع على انماء المجتمع. انجيل الوزنات تذكير بهذا الالتزام وبواجب اداء الحساب عما يضع الله من وزنات، مواهب وعطايا، بين يدي كل واحد منا. " لاهوت الانتظار" في زمن الصليب يجعل الموت ساعة اللقاء مع الله لتأدية الحساب الاخير، وعلى اساسه يكون الخلاص او الهلاك. لذا يدعى الموت " المستقبل بامتياز".

 

اولاً، شرح انجيل الوزنات

1.    معاني لوحة الوزنات

 

الرجل الذي يوزع الوزنات هو الله. السفر هو احتجاب الله من دون ان يكون غائباً لانه سيعود ويطالب بالحساب.  المهّم ان لا يغيّب الانسان نفسه عن الله وحضوره، ان لا يخرج من دائرة عنايته، ذلك ان " اصلنا منه، ففيه نحن نحيا ونتحرك ونكون" ( اعمال الرسل17/28). العبيد يمثلون كل انسان وكل جماعة بشرية منظمة، يكل اليه واليها الله مقدراته من اجل مهمة هي انماء الانسان والمجتمع. الوزنات المتفاوتة في العدد هي مال الله وعطاياه ومواهبه التي يوزعها على كل واحد او جماعة وفق امكاناته والطاقات. ما يعني ان لا أحد يملك بالمطلق ما سلّم اليه، بل هو موكّل على خيرات الله. المتاجرة بالوزنات هي تثمير عطايا الله من اجل غاياتها. الحفر في الارض ودفن فضة السيد هو الاحتفاظ للذات بعطايا الله، في انانية استهلاكية، وحجبها عن التقاسم مع الغير. عودة السيد بعد زمان طويل تعني مجيئه الاخير في نهاية رحلة كل واحد منا على وجه الارض. المطالبة بالحساب هي الدينونة الفردية الخاصة. الثواب هو الخلاص الابدي للعبد الصالح الامين الذي حقق غاية الله من اعطائه الوزنات، والعقاب هو الهلاك الابدي للعبد الكسلان الخائن.

"الوزنات" بالمعنى الحرفي هي قياس الكمية والثقل والقيمة. تعتبر الوزنة وحدة لهذا القياس. أما المسافات فكانت تقاس بمسيرة يوم ( لو2/44) او يومين او ثلاثة لعدم توفر ساعة في يد الناس، او بصلاة المسبحة كما في بلدة بشري مثلاً في ايام جبران خليل جبران. ونجد " المثقال"  للوزن و "المن"  للكيل (لو19/12).

في المعنى البيبلي الوزنات تعني ثلاثة متميزة ومتكاملة:

 النعمة ( grâce   او caris باليوناية) هي عطية مجانية وحظوة يجود بها الله كما على مريم: "لا تخافي يا مريم، لقد وجدت نعمة عند الله" (لو1/30). النعمة تجعلنا ابناء الله، وتساعدنا على النمو في هذه البنوّة.

 والخدمة ( diaconia- ministère) هي دعوة مجانية من الله  مع عطية تؤهل المسيحي للخدمة التراتبية بتولي السلطة. تعطى بوضع اليد وحلول نعمة الروح القدس، مثل: الخدمة الشماسية والكهنوتية والاسقفية. قال عنها بولس الرسول: " هو المسيح، أعطى بعضاً ان يكونوا رسلاً، وبعضاً انبياء، وبعضاً مبشرين، وبعضاً رعاة، وبعضاً معلمين، لكمال القديسين ( اي المؤمنين)، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح، لنصير انساناً واحداً كاملاً بمقدار قامة المسيح" ( افسس4/11-13، انظر ايضاً 1 كورنتس 12/28).

والموهبة ( charisma) هي عطية الله المجانية التي تولي مقدرة وامكانية خاصة من اجل الجماعة، على ما يقول بولس الرسول: " انواع المواهب موجودة وانواع الخدمات موجودة، لكن الروح واحد، وانواع القوات موجودة غير ان الله واحد. هو الذي يعمل الكل في الكل. فكل واحد يعطى وحي الروح بحسب ما ينفعه: واحد يعطي بالروح كلام الحكمة وآخر كلام المعرفة، آخر الايمان وآخر مواهب الشفاء بالروح عينه، آخر القوات وآخر النبوءة، آخر تمييز الارواح وآخر انواع الالسنة وآخر ترجمة الالسنة. هذه جميعها انما يفعلها الروح الواحد، ويقسّمها كما يشاء" ( 1كور12/4-11).

انطلاقاً من هذا المفهوم البيبلي اصبحت الوزنات او عطايا الله تعني بالمعنى الواسع:

أ- المواهب التي تعطى للافراد من اجل اغناء الجماعة وتقديسها. يوزعها الروح كما يشاء: " لقد اغنيتم بكل المواهب" ( 1كور1/5). منها المواهب العادية العامة مثل: الايمان، الصلاة، العمل الرسولي، الخدمة في الجماعة. ومنها الخارقة العادة مثل: صنع المعجزات، فقر فرنسيس الاسيزي، الثقة بالعناية       ( الاب يعقوب حداد الكبوشي)، التأثير الروحي على الناس ( شارل دي فوكو)، البساطة الحكيمة والطيبة    (البابا يوحنا الثالث والعشرون)، التأثير على الشبيبة  (دون بوسكو)، التواصل مع الشعوب ولاسيما الشباب (البابا يوحنا بولس الثاني).

ب- ثمار فضيلة الحب مثل: التحنن على المتألم والفقير؛ التمييز بين افضل الوسائل، وبين الجوهر والشكل، وبين ما هو من الله وما هو من الشيطان، بين صوت الله وصوت الذات والناس؛ الرؤية بوضوح لكل ما يختص بالخيرات الاساسية لصالح الجماعة؛ خلق جوّ من الانشراح والفرح، وحسن الاستقبال، التسامح السريع،السماع، الاستعداد لكل خدمة في شؤون الحياة الصغيرة.

ج- العطايا او المواهب الطبيعية والاستثنائية: الشعر، الكتابة، الفن على انواعه، التنظيم، الادارة، الخطابة.

د- مواهب الروح القدس لحاجات زمن معيّن: الروح القدس يهبّ على مسرح الكنيسة والعالم ويستخدم اشخاصاً مطواعين من اجل نمو الكنيسة في امانتها وترقي المجتمع. نفكر بمواهب مؤسسي الرهبانيات، بالبابا يوحنا الثالث والعشرين والبابا بولس السادس ودعوة الاول لعقد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، والثاني لمتابعة وانجاز الاصلاح الشامل في الكنيسة، وبالبابا يوحنا بولس الثاني وحواره مع شعوب الارض واسفاره الرسولية. هذه الانواع من المواهب تنطوي على دعوة ورسالة.

 

2. الموهبة والمحبة

 

لكي تثمّر كل هذه المواهب والخِدم والعطايا في سبيل الجماعة، فانها تحتاج الى محبة، الى روح المحبة التي توجه المواهب الى محبة الله والناس. لكن " روح المحبة" هو الروح القدس المسكوب في قلوبنا ( روم5/5. هو معطي المواهب وهو باعث القداسة فينا التي هي " الكينونة" في الروح القدس. " الكينونة" في الروح هي اعظم من " العمل" بواسطة مواهب الروح.  هذا ما يعنيه بولس الرسول في قوله القاطع: " لو تكلمت بلغات الناس والملائكة، ولم يكن فيّ المحبة، فما انا سوى نحاس يطن او صنج يرنّ. ولو وهبني الله النبوءة، وكنت عارفاً كل سرّ وكل علم، ولو كان لي الايمان الكامل لانقل به الجبال، ولم تكن فيّ المحبة، فما انا بشيء" ( 1كور13/1-2).

المواهب هي من عطايا الروح القدس اما المحبة فهي الروح القدس اياه الساكن في قلب من يحب. اذا لم تقترن المحبة بالموهبة، كان الحسد والكبرياء والخصومة والانانية والتباهي بالذات: " فالمحبة تصبر وترفق. المحبة لا تعرف الحسد ولا التفاخر ولا الكبرياء. المحبة لا تسيء التصرف، ولا تطلب منفعتها ولا تحتدّ ولا تظن السوء. المحبة لا تفرح بالظلم. بل تفرح بالحق، وتصفح عن كل شيء، وتصدّق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء" ( 2كور13/4-7).

الانسان الغني بمواهب الروح القدس ليس حتماً انساناً روحانياً. يكون كذلك عندما تكون عنده المحبة اي عندما يسكن الروح القدس قلبه. يقول القديس اغسطينوس: " المحبة هي الكل اما المواهب فأجزاء. المحبة تتماهى مع معطي المواهب، الروح القدس. المعطي مفضّل حتماً على مواهبه. ان الروح القدس هو المحبة التي يتكلم عنها يوحنا بقوله" " الله محبة" ( 1يو4/8). فعندما تُسكب المحبة في قلب الانسان، لا يُسكب شيء بل يُسكب الروح القدس نفسه ( روم5/5؛ في الثالوث القدوس،15/17،31/ الآباء اللاتين 42،1082).

 

3. السلطة والمواهب

 

على السلطة، كنسية كانت ام مدنية، ان تحكم في اصالة المواهب وحسن استعمالها، وان تميّز المواهب وتثبتها، وتوجهها وتنميها، وتفسح في المجال امام اصحابها لاستخدامها في خير الجماعة. فالمواهب- الوزنات هي من الله لخير الانسان والمجتمع، وسيؤدي صاحبها الحساب عنها، وكذلك السلطة.

نحن نعرف تماماً ان المجتمع البشري لا ينمو فقط بالقانون بل بالمواهب. الجماعة البشرية تشوّه في غناها وخيرها عندما تُطمس فيها المواهب او تطفأ او تهدّم. كما ان اضراراً جسيمة تصيب المجتمع البشري من الذين يظنون ان وزناتهم ومواهبهم الروحية والمادية والعلمية والخلقية هي لهم وحدهم فيدفنوها في انانيتهم الاستهلاكية او يسيئون استعمالها وتوجيهها. لكن المجتمع بريح كثيراً اذا وضعوها في تصرف الله ووفق نداءاته.

القديسة تريزيا دافيلا (+1581)، ملفانة الكنيسة، كانت تردد: " تريزا وحدها تساوي لا شيء، تريزا والمال اقل من لا شيء، تريزا والمال والله كل شيء". انها صاحبة الاصلاح في الرهبانية الكرملية، وصاحبة اكبر اختبار في التصوّف والانخطاف الروحي، والغنية بالمواهب والقوى المتقدة. ليس بالامر السهل ان تحكم السلطة على اصالة المواهب. السفير البابوي مثلاً حكم في البداية على تريزا دافيلا انها  " امرأة مضطربة، دوارة غير مطيعة، غير ممتثلة للسلطة". ثم سجنها في دير توليدو. لكن بعد مزيد من التحقيق اعترفت السلطة بمواهبها التي فاضت بالخير على الكنيسة. وهي عينها قالت: " من الروح القدس الواحد تأتي المواهب وسلطة الرعاة. والروح عينه يحقق الانسجام والتناغم بين السلطة والمواهب، ويعزز وحدة الكنيسة". المواهب والسلطة ضرورية للكنيسة انما بشكل مختلف: المواهبة تعمل بمثابة " دعسة البنزين" في السيارة، من اجل النمو والتجدد؛ اما السلطة فبمثابة " دعسة فرامات"، لصالح الاستقرار والفطنة. يستصعب المواهبيون الخضوع للسلطة الكنسية، لادعائهم بالمواهب. ليست المواهب مقتصرة على احد. بل يمكن ان تعطى للجميع: كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين، رجال ونساء. لكن ثمة فرقاً كبيراً بين ادّعاء الحصول عليها ونيلها في الواقع.

المشكلة بين اصحاب المواهب والسلطة مستمرة، ماضياً وحاضراً. كثيرون هم " المواهبيون" الذين يدّعون ان السيدة العذراء تظهر لهم وتترك لهم رسائل ونداءات للكنيسة وللعالم. اغسطينوس الاسقف قال مرة عن مواهبيي زمانه المدّعين " الطهارة" على طريقة الفريسيين، والمستنجدين بالانجيل ضد الكنيسة :   " اطهاراً مثل الملائكة ومتكبرون مثل الشيطان".

ان قول القديسة تريزا دافيلا: " انا ابنة الكنيسة، اعمل من اجل الكنيسة ومع الكنيسة، واقبل ان اتألم من الكنيسة"، كفيل بكشف حقيقة مواهب الروح ( رسائل الى العظماء ص 314-321).

ومن ناحية اخرى على السلطة ان تميّز بين مواهب الروح والافراط السيء في استعمالها. وعليها لا ان تمنع او تحارب المواهب بل سوء استعمالها والافراط فيها. فبولس الرسول نفسه يدعو الى " الرغبة في المواهب الروحية" ( 1كور4/1). لذا ينبغي ان تتصف السلطة بالفطنة. عندما سئل القديس برنردوس ( +1153) مرة عن اي من الكرادلة الثلاثة المرشحين للبابوية هو الافضل اجاب: " القديس فليصلِ من اجلنا نحن الخطأة المساكين" و" المثقف فليعلّمنا ويكتب لنا الكتب" و " الفطن صاحب الحسّ العملي فليحكمنا ويصبح بابا".

ليست الفطنة تحجراً في فكرة ولا تحليلاً مفرطاً كمن يقطع اوراق كتاب بشفرة. الفطنة هي ان تفهم وتعرف: " هذا يعرف كل شيء لكنه لا يفهم شيئاً، وذاك لا يعرف شيئاً لكنه يفهم كل شيء"، قالها Clemenceau عن وزيريه Poincarré  و Briand. الفطنة هي امتلاك المبادىء وتطبيقها على الواقع. تحتاج الفطنة الى الشجاعة والشجاعة الى الفطنة من اجل الاصلاح. ولا يسمح ان تمارس السلطة على حساب الحقيقة والعدالة والمحبة ( رسائل الى العظماء، ص 49-55).

 

***

 

ثانياً، وجوه تجلت فيها موهبة الروح ومحبة المسيح

 

 تعيّد الكنيسة، فضلاً عن القديسة تريزا دافيلا (15 تشرين الاول) التي اتينا على ذكرها، تذكار قديسين تجلت فيهم مواهب الروح القدس ومحبة المسيح، فتقدسوا وقدمتهم الكنيسة نموذجاً للحياة المسيحية، هذه الدعوة الشاملة الى القداسة.

 

القديس لونجينوس الشهيد قائد المئة (16 تشرين الاول)

هو جندي روماني وثني كان قائد مئة عندما حُكم على يسوع بالصلب، هو الذي طعن يسوع بالحربة للتأكد من موته، فجرى من صدره دم وماء، ولهذا لُقّب بلونجينوس. هذا، لما رأى ذلك ورأى ان الشمس انكسفت والارض تزلزلت والصخور تصدعّت، صرخ قائلاً: " حقاً ان هذا هو ابن الله" ( متى27/54؛ مر15/39). نال موهبة الايمان، فشهد ان يسوع حكم عليه بالصلب ظلماً، وآمن بقيامته فرفض الرشوة من اليهود لانكار هذه الحقيقة ( متى28/11-15). وأحب المسيح وحقيقته حباً شديداً فاحتمل العذابات والاضطهادات على يد اليهود الذين استحضروا امراً بقتله فاستشهد بقطع رأسه سنة 45.

 

القديسان قزما ودميانوس ( 17 تشرين الاول)

شقيقان ولدا في نواحي الشام في اوائل القرن الثالث من عائلة مسيحية ملتزمة. أعطيا موهبة علم الطب ومحبة الفقراء والكرازة بالانجيل. اضرمت محبة المسيح قلبيهما فمارسا مهنة الطب مجاناً مشفوعة بالصلاة، فأجرى الله على ايديهما آيات كثيرة، وكان ارتداد الكثيرين من الوثنيين الى الدين المسيحي. امر الوالي بتعذيبهما بسبب رفضهما تقديم الذبائح للاوثان، فتحملا الآلام بصبر وثبات، واستشهدا بقطع رأسيهما سنة 303. بواسطة ذخائرهما شفي الملك يوستينيانوس من مرض عضال، فأقام في القسطنطينية كنيسة كبيرة على اسمهما. ذخائرهما محفوظة في الكنيسة المشيدة على اسمهما في روما.

 

القديس لوقا الانجيلي ( 18 تشرين الاول)

وثني من انطاكية آمن بالمسيح على يد التلاميذ الاول وتتلمذ لبولس الرسول. أُعطي موهبة الطب والرسم. عاون بولس في التبشير بالمسيح ورافقه الى روما ( كولسي 4/14، فيلمون عدد23-24). ألهمه الروح بكتابة الانجيل الثالث الذي وضعه باليونانية واستقى معلومات البشارة والميلاد وطفولة يسوع من العذراء مريم، ثم كتب في روما كتاب اعمال الرسل سنة 63. ألهبت محبة المسيح قلبه فثمّر موهبة الطب والرسم والكلمة في الشهادة للمسيح والكرازة بانجيله. يحفظ التقليد صورة لوجه المسيح بريشة لوقا.

 

القديس شليطا (18 تشرين الاول)

مسيحي من انطاكية قلّده الملك قسطنطين رتبة رفيعة في الجندية. اعطي موهبة الزهد بالدنيا والغيرة على الايمان المسيحي والشجاعة في نصرة المستضعفين. اعتزل الرتبة الرفيعة وراح يعلن سرّ المسيح، مشجعاً المسيحيين المضطهدين في الجيل الرابع، وموبخاً الملك يوليانوس الوثني على  تنكيله بالمسيحيين وعلى الشرور التي يمارسها مستغلاً سلطته لمآرب شريرة، فامر الملك بضربه جلداً ثم بقطع رأسه سنة 363. اسمه الاصلي ارتيموس، وسمي " شليطا" بسبب رتبته العالية وانتصاره على الشر، وهي لفظة سريانية تعني  "المُسلَّط" و " المنتصر".

 

***

ثالثا، الخطة الراعوية

 

وزع الله مواهبه وعطاياه على الناس، فرداً فرداً، من اجل منفعة الجميع. وفي نهاية العمر والازمنة يطالب كل واحد بتأدية الحساب، ويجازيه على ما فعل. الخطة الراعوية لهذا الاسبوع ترتكز على تعليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته في النص الثالث والعشرين: " الكنيسة المارونية والارض".

 

1. يعلّم النص المجمعي ان الله اعطانا الارض وما فيها من ثروة لتشكّل كياناً لشعب وهوية، وتزيّنه بالقيم والتراث المادي والمعنوي والروحي والثقافي. وبالنسبة الينا لبنان ارض تجدد وقداسة، ومساحة رسالة للحوار بين الحضارات والاديان والعيش معاً على اساس الديموقراطية التوافقية، والحريات العامة، والمشاركة المتوازنة في الحكم والادارة من قبل طوائفه المسيحية والاسلامية، والمساواة بين الجميع في القانون والواجبات ( فقرة 33).

 

2. يوصي المجمع بعدم التخلي عن الارض او اهمالها او بيعها، او تحويلها من ارث مقدس ورزق، أنعم به الله على الانسان، الى سلعة تجارية طمعاً بالربح السريع، او الاستهتار بقيمة الارض المادية والمعنوية. ويوصي بعدم استغلالها بداعي الهجرة من الريف الى المدينة طلباً للوظيفة والعمل والعلم ووسائل الراحة والتسلية ( فقرة 22 و23).

تعمل الخطة الراعوية على التفكير معاً في ايجاد السبل والمبادرات التي تساعد اللبناني عامة والمسيحي والماروني خاصة، الطموح والمغامر، وعاشق التطوّر والترقي، ليحقق ذلك من دون الاغتراب والانقطاع عن بيئته وتاريخه وارضه، فيواصل الرسالة التي خصه بها الله في هذا الشرق.

وتعمل الخطة الراعوية الى ابراز ما لدى المسيحيين عامة والموارنة خاصة من امكانيات ومزايا ووسائل بشرية ومؤسسات تخوّلهم ان يترقّوا، وان يسيروا في طليعة موكب التطور الانساني، مع المحافظة على ارضهم وقيمهم وتراثهم وكيانهم وهويتهم ورسالتهم ( فقرة 24).

فلا بدّ والحالة هذه من وضع استراتيجية تنموية شاملة نجد معالمها في النص المجمعي المذكور (  الفقرات25-27)، وابراز واجبات كل من الدولة والكنيسة بشأنها.

 

صلاة

ايها الروح القدوس، انتَ عطية الله للكنيسة ولنا. انت محبة الله التي تُسكب في قلوبنا. انت  الهبة التي توزّع المواهب علينا من اجل المنفعة العامة. لقد جعلتَ من حياة المؤمنين بستاناً لازدهار النعم الالهية والمواهب. ساعدنا في حراثة هذا البستان الروحي بالكلمة الانجيلية، وفي ريّه بنعمة الاسرار، وفي قطاف اثماره بالمحبة. وساعدنا، ايضاً، ايها الروح الحي والمحيي، ان نحرث ارض الوطن لتحافظ على قيمها وارثها لخير المجتمع البشري أجمع. لك المجد والتسبيح مع الآب والابن الى الابد، آمين.

 

 


الاحد السابع بعد الصليب

انجيل القديس متى 25/31-46

سندان على الرحمة والعدالة

 

         مع هذا الاحد الاخير من شهر تشرين الاول ينتهي زمن الصليب ومعه تنتهي السنة الطقسية. وفيه تحتفل الكنيسة بعيد المسيح الملك. انجيل الدينونة العامة يؤكد ان زمن الصليب هو زمن الرحمة والعدالة. سندان عليهما في آخر العمر. فانهما من جوهر حياتنا ورسالتنا. لقد اعلن الرب يسوع انجيل العدالة والرحمة في مجمع الناصرة بتحقيق نبؤة اشعيا:  "روح الرب عليّ مسحني وارسلني"، وفيها وصف رسالته في خدمة العدالة والرحمة ( لو4/18-19). ثم جعلهما قاعدتين ثابتتين في شرعة الحياة المسيحية المعلنة على الجبل بالتطويبات: " طوبى للجياع والعطاش الى العدل فانهم يشبعون" و  "طوبى للرحماء فانهم يرحمون" ( متى5/6-7). في سرّ تجسده لبس صورة خادم الرحمة والعدالة، اما في  مجيئه الثاني بالمجد، في نهاية الازمنة، فيجلس على عرش ملوكيته ديان العالمين على الرحمة والعدالة.

         الرحمة هي مشاعر الحنان والمحبة تجاه اي انسان، والامانة لهذه المشاعر في كل الظروف. والعدالة هي أعطاء هذا الانسان كل ما يحتاج اليه وهو حق له بموجب قاعدتين: ان خيرات الارض مرتبّة من الله لجميع الناس، وان التضامن فضيلة وواجب تجعل كل واحد مسؤولاً تجاه الآخر في مختلف حاجاته المادية والروحية والمعنوية والاجتماعية. الرحمة تظهر في العدالة، ولا توجد رحمة من دون عدالة.

 

اولاً، شرح النص الانجيلي

 

         1. مضمون النص الانجيلي ( متى 25/31-46).

 

         انه انجيل الدينونة العظمى والاخيرة : نقول " دينونة" لان الله سيدين كل انسان على الرحمة والعدالة؛ ونقول  "عظمى" لانها تشمل جميع الناس في نهاية الازمنة؛ ونقول " اخيرة" لانها آخر دينونة بالنسبة الى الدينونة الخاصة بكل انسان يولد في هذا العالم، ولا دينونة بعدها. يصفها السيد المسيح في الآيات 31-34، وصفاً نبوياً. يُدان فيها جميع الناس على العدالة التي تعطي الجائع خبزاً والعطشان ماء، والغريب ضيافة، والعريان ثوباً، والتي تزور المريض وتفتقد السجين. انها عدالة للجائعين ايضاً الى الخلاص، الى الحياة الابدية:  " من هو عطشان فليأت اليّ ويشرب" (يو7/37للعريانين المحتاجين الى كرامة وصيت حسن وحفظ حقوقهم الاساسية.

         يدان فيها الجميع على ترميم الاخوّة بين الناس التي هي الاساس لعدالة اصيلة، والشرط لسلام دائم (البابا يوحنا بولس الثاني: الذكرى الثمانون 17؛رجاء جديد للبنان،101). وتُرمم الاخوّة بممارسة العدالة بمفهومها المادي والمعنوي. فيكون الثواب للرحماء بالخلاص الابدي: " تعالوا يا مباركي ابي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ انشاء العالم" ( متى25/34)، والعقاب لقساة الفلوب الانانيين بالهلاك الابدي: " اذهبوا عني يا ملاعين الى نار الابد" ( متى25/41).

 

         " كل ما صنعتموه الى احد اخوتي الصغار فاليّ صنعتموه" (متى25/40).

         الاخوة الصغار هم " فقراء الرب" الذين يعتني بهم عناية خاصة، كما جاء في نشيد مريم " اشبع الجياع خيراً" (لو1/35)، وفي المزمور: " من اجل اغتصاب البائسين وتنهّد المساكين، اقوم الآن ,انعم بالخلاص على من اليه يتوقون" ( مز11/6). وهم الذين تركوا كل شيء وتحرروا من مال الدنيا وتبعوا الرب لخدمة الانجيل والمحبة ( متى19/21).

         هم " اخوة" لان يسوع شابههم: شارك في حياة الفقراء من المغارة الى الصليب: عرف التشريد والجوع والعطش والعري، بل تماهى مع الفقراء، وجعل من محبتهم الفاعلة شرطاً لدخول الملكوت (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،544)؛ ولانه حاضر فيهم: في الفقراء والمرضى والاسرى، كما هو حاضر في صلاة الكنيسة وذبيحة القداس وشخص خادم الاسرار (المرجع نفسه، 1373). لذلك يدعونا لنميّز حضوره فيهم، كما قالت القديسة روز دي ليما لامها التي كانت توبّخها على جمعها فقراء ومرضى في بيتها: " عندما نخدم المرضى والفقراء، انما نخدم يسوع. ينبغي ألاّ نتعب من مساعدتهم، لاننا نخدم فيهم يسوع نفسه" (المرجع نفسه، 2449). يقول القديس اغسطينوس ان المسيح الديان سيكون صارماً تجاه الذين  لم يخدموه في اخوته الصغار، اذ يقول لهم: " لقد وضعت على الارض فقرائي الصغار لاجلكم. انا راسهم كنت جالساً على العرش في السماء عن يمين ابي، ولكن على الارض كان اعضائي يجوعون، لو اعطيتم اعضائي شيئاً لوصل اليّ انا الرأس ما كنتم اعطيتموه. عندما وضعت الفقراء الصغار على الارض، اقمتهم وكلائي ليحملوا الى كنزي اعمالكم الصالحة: لم تضعوا شيئاً في ايديهم، لذلك لن تجدوا شيئاً عندي" (المرجع تفسه 1039). كلام اغسطينوس يشرح غضب الرب يوم الدينونة: " اذهبوا عني يا ملاعين الى نار الابد" ( متى25/41). الطوباوي الاخ شارل دي فوكو ( +1961)، اتخذ اسم  "الاخ الصغير ليسوع"، وحمل انجيل الرحمة والعدالة الى الفقراء، واسس جماعة " اخوة يسوع الصغار"  و"اخوات يسوع الصغيرات".

         وهم " صغار" لانهم بحاجة الى مساعدة غيرهم. هم هذا العدد الذي لا يحصى من الرجال والنساء والاطفال والبالغين والعجزة، الرازحين تحت عبء من البؤس لا يطاق. انهم ملايين من الناس الذين فقدوا الامل لان بؤسهم يتفاقم: جوع وتسوّل وتشريد بدون ملجأ، تنقصهم العناية الطبية، وينقصهم الرجاء بمستقبل افضل (البابا يوحنا بولس الثاني: الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 13 و42-43). انهم الفقراء اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً (السنة المئة، 57).

        

         2. بشرى ومسؤولية

 

         " كنت جائعاً وعطشاناً وعرياناً ومريضاً ومحبوساً" ( متى 25/35-36).

         هذا القول فيه بشرى ومسؤولية.

         فيه البشرى الى " الاخوة الصغار" في كل مكان وزمان: ان الرب متضامن ابداً معهم، يقاسمهم حالتهم، يتماهى معهم. هذه هي رسالته المسيحانية، سبق واعلن عنها يوم سبت في هيكل الناصرة، بعد صيامه اربعين يوماً في البرية، وقبل البدء برسالته: " روح الرب عليّ، مسحني وارسلني لابشر المساكين، واجبر منكسري القلوب، وانادي للمسبيين بالافراج، وللعميان بالبصر، واشدد المنسحقين بالغفران" ( لو4/18), ومارسها بالافعال: " اذهبوا واخبروا يوحنا بما تسمعون وتنظرون: العميان يبصرون، والعرج يمشون والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون، وطوبى لمن لا يشك فيّ "      ( متى 11/4-6).

         هذه البشرى متأصلة في عهد الله مع شعبه، يوصيه "بالاخوة الصغار":

         ليشركهم في عشر غلاته: " في آخر كل ثلاث سنوات تخرج كل اعشارغلتك وتضعها في مدنك، فيأتي اللاوي والغريب والارملة الذين في مدنك، فيأكلون ويشبعون" ( تثنية 15/28-29).

         وليشركهم في فرح عيد الاسابيع: " افرح امام الرب الهك، انت وابنك وابنتك وخادمك وخادمتك واللاوي والغريب واليتيم والارملة الذين في مدنك ( تثنية 16/11).

         ولينهاه عن الاساءة اليهم: " الغريب لا تظلمه ولا تضايقه، ولا تسء الى ارملة او يتيم، فاذا أسأت اليهما وصرخا اليّ، فاني اصغي الى الصراخ، فيحتّد غضبي  واقتلكم بالسيف، فتصير نساؤكم ارامل وبنوكم يتامى" ( خروج22/20-23).

         وليؤكد له ان الطريق اليه يمرّ عبر " الاخوة الصغار": " الانسان الذي لم يظلم احداً واعطى خبزه للجائع وكسا العريان ثوباً، وكفّ يده عن الاثم، هو بارّ ويحيا حياة" ( حزقيال18/7-9).

 

         وفيه المسؤولية تجاه " الاخوة الصغار" للتضامن معهم ومساعدتهم. هي مسؤولية شاملة لا تقبل بالبقاء في اللامبلاة امام حالة هؤلاء الاخوة الغارقين في البؤس. على مثال قلب المسيح، يجب ان يتحرك كل قلب بالشفقة عليهم: " اني مشفق على هذا الجمع" 0 مرقس8/2). نداء الرب في الشأن الاجتماعي شامل     ( ترقي الشعوب 74): " يجب ألاّّ يُعدّ نظرية بل، قبل كل شيء، اساساً وحافزاً  للعمل. فبدافع منه قام بعض المسيحيين الاول يتوزيع اموالهم للمعوزين، واقام الرهبان والراهبات مصحات ومراكز للفقراء، وانبرت اخويات وجمعيات كما انبرى رجال ونساء من كل الاوساط لخدمة المعوزين والمهمّشين، معتبرين ان كلمات السيد المسيح " ما صنعتم لاحد اخوتي هؤلاء الصغار فلي قد صنعتموه" ليست مجرد امنية تقوية، بل هي التنزام محسوس" ( السنة المئة، 57). القديس منصور دي بول (+1660) مؤسس راهبات المحبة (1617) مع القديسة لويز دى مارياك، وأباء الرسالة المعروفين باللعازريين ( 1635) يحمل لقب " ابي الفقراء". كان يردد على راهباته:  "تذهبن لرؤية الفقراء عشر مرات في اليوم، وعشر مرات تجدن فيهم المسيح: انهم   اسيادنا".

 

         تقوم هذه المسؤولية على اساس مزدوج:

         الاساس الاول، ابوّة الله الشاملة واخوّة كل البشر في المسيح. فالانسان، اياً كان وبخاصة " الصغير"، هو الصورة الحية لله الآب، المفتداة بدم المسيح، والمحطّ الدائم لعمل الروح القدس. لذلك تجب محبته بالمحبة التي يكرمه بها الرب والتضحية من اجله، حتى التضحية العظمى وهي: " ان يبذل الانسان نفسه عن اخوته" ( 1يو3/16). ويجب التضامن معه حتى تخطي الذات واتخاذ صفات المجانية المطلقة والصفح والمصالحة (الاهتمام بالشأن الاجتماعي،40). نذكر من بين الوجوه، التي اعطت شهادات رائعة عن هذا التضامن، القديس بيار كلافير (+1650) الذي وضع نفسه في خدمة العبيد في قرطاجة الهندية، والقديس مكسيمليان ماري كولب (+1941) الذي ضحى بحياته فداء عن سجين كان رب عائلة حُكم عليه بالموت في معتقل اوشوفيتز.

         الاساس الثاني، المبدأ المميز للتعليم الاجتماعي المسيحي: " خيرات هذه الارض معدة في الاصل لجميع الناس" (الكنيسة في عالم اليوم،69). لذلك، الحق في الملكية الخاصة حق مقبول ولازم، لكنه لا يلغي هذا المبدأ، فعلى الملكية يقع  "رهن اجتماعي"، اي لها كصفة ذاتية وظيفة اجتماعية يؤسسها ويبررها مبدأ الشمولية في غاية استعمال الخيرات (الاهتمام بالشان الاجتماعي، 42). يجب التمييز بين الامتلاك الشرعي والاستعمال الشرعي، بمعنى انه لا تُمتلك خيرات الدنيا كأنها خاصة، بل كانها مشتركة، بنوع انها تعطى بسهولة لحاجة الآخرين، عملاً بقول بولس الرسول: " أوصي اغنياء هذا العالم الاّ يتكلوا على الغنى الذي لا اتكال عليه، بل على الله الحي الذي وهبنا كل شيء بكثرة لراحتنا، وان يصنعوا الخير، ويطلبوا الغنى بالاعمال الحسنة، فيعطوا ويشاركوا بسهولة" ( 1تيمو16/17-18؛ البابا لاون الثالث عشر: الشؤون الحديثة 19، القديس توما الاكويني),

 

***

ثانياً، وجوه خدمت الرحمة والعدالة

 

         تذكر الكنيسة في هذا الاسبوع وجوهاً اتصفت بالرحمة ومارست العدالة وناضلت في سبيلها، ومنهم القديس اغناطيوس بطريرك القسطنطينية والقديس الشهيد حارث ورفاقه والقديس الشهيد ديمتريوس.

 

         القديس اغناطيوس بطريرك القسطنطينية ( 23 تشرين الاول).

 

ولد في القسطنطينية في الجيل التاسع، دخل السلك الرهباني وسيم كاهناً ونما في محبة الله والناس وازدان بالفضائل. انتخب بطريركاً على القسطنطينية سنة 846, وناضل من اجل  احلال العدالة وندّد بالظلم والتعدي على شريعة الله. فمنع امير البلاد من التقدم الى المناولة في عيد الدنح-الغطاس واعلن حرمه بسبب تطليقه امرأته. فأوغر الامير صدرالملك عليه، وهذا الاخير هو ابن  شقيق الامير، فنقله من كرسيه واقام بطريركاً آخر على القسطنطينية هو فوتيوس الذي غضب وابى الخضوع. فعمل اغناطيوس على تهدئة الخواطر والقاء الامن والسلام. وذات يوم  التقى اغناطيوس وفوتيوس في قصر الامبراطور، فركع كل منهما على ركبتيه، طالباً المغفرة. تألق وجه اغناطيوس مدى حياته بالرحمة واحلال العدل حتى رقد بالرب سنة 877.

 

         القديس الشهيد حارث ورفاقه الشهداء الثلاثماية والاربعون ( 24 تشرين الاول)

         مسيحي متقدم في نجران اضطهده اليهود مع رفاقه الثلاثماية والاربعين، وقد خيّروهم بين الكفر بالمسيح والموت. فاجاب حارث باسمهم: " الموت ولا الكفر لمن مات لاجلنا". ثم هتفوا كلهم بصوت واحد:  "لا يفصلنا عن محبة المسيح الهنا عذاب ولا سيف ولا موت". فاستصدر اليهود امرأ  من الملك بضرب اعناقهم سنة 523.

 

         القديس الشهيد ديمتريوس ( 26 تشرين الاول)

         ولد في تسالونيكي من اسرة مسيحية شريفة، شغل وظيفة قنصل في الامبراطورية الرومانية. تميّز بالرحمة والغيرة على الفقراء والبائسين، فردّ الكثيرين من الوثنيين الى الايمان بالمسيح بمحبته الاجتماعية والكرازة بالانجيل. استشهد سنة 303 بامر الملك مكسيميانوس مضطهد المسيحيين انتقاماً منه لانصرافه الدائم الى الصلاة وخدمة الفقراء، بعد ان زجّه في السجن مع عدد من المسيحيين.

 

****

 

         ثالثاً الخطة الراعوية

 

         الرحمة والعدالة فضيلتان تبنيان المجتمع البشري على اسس حضارة المحبة التي سندان عليها في اليوم الاخير. الخطة الراعوية تستكمل مسيرتها في تقبّل تعليم المجمع البطريركي الماروني وتطبيق توصياته، في النص الثالث والعشرين بعنوان: " الكنيسة المارونية والارض".

         1. يعلّم المجمع البطريركي ان الله سلّم الانسان الارض ليحرثها ويستثمرها ويمارس سلطته على كل ما عليها، ليعيش منها بكرامة ويحقق ذاته، ويقوم بما له من رسالة في مجتمعه ومحيطه؛ واكّد تعليم الكنيسة الاجتماعي القائل ان " خيرات الارض معدّة من الله لجميع الناس"، وان " التضامن فضيلة تشعر الانسان انه مسؤول عن اخيه الانسان" وان " الملكية الخاصة مثقلة برهن اجتماعي". ودعا النص المجمعي الى المحافظة على ارض الاجداد من اجل الاهداف، واقتراح " استراتيجية تنموية شاملة للحفاظ عليها" (الكنيسة المارونية والارض، الفقرات 25-27).

         2. ان الهيكليات الراعوية والمدنية والاجتماعية مدعوة لمعرفة هذه الاستراتيجية، والمطالبة بها والالتزام بما تستوجبه منا جميعاً، من خلال مسؤولية الدولة والكنيسة. هذا ما ترمي اليه الخطة الراعوية لهذا الاسبوع:

         أ- من واجب الدولة الاهتمام بالمزارع ودعمه ليبقى في بيئته الطبيعية، ويواكب مسيرة التطور، ويؤمّن ما يكفيه لسدّ حاجات السكن والتعليم والاستشفاء. والزراعة هي احدى مكوّنات التنمية الشاملة، الامر الذي يقتضي تضافر جميع القوى: الدولة والكنيسة والمؤسسات (فقرة 25 و26). ومن واجب الدولة ايضاً السهر على عدم بيع الارض الى الغرباء، وعلى وضع حدّ للمضاربات العقارية الفوضوية، ذلك من اجل شدّ اواصر العيش المشترك، واحترام الحساسيات والمشاعر لدى الجماعات الوطنية ( فقرة 27/1).

         ب- من واجب الكنيسة اقامة تعاونيات زراعية فعّالة، انطلاقاً من املاكها الخاصة، لتشجيع المزارعين والشباب على العودة الى الريف واستغلال ارضهم بطريقة جديدة ومجدية. ومن واجبها ايضاً السعي، بالتعاون مع مؤسسات اجنبية كالسوق الاوروبية المشتركة ومنظمة التغذية العالمية، الى الاستفادة من الخبرات العالمية لاستثمار الاراضي، والترشيد الزراعي وتصنيع المواد الزراعية (فقرة 27/2 و6).

         ج- من واجب الدولة والكنيسة معاً التعاون من اجل حسن توزيع المؤسسات التربوية والاستشفائية والخدماتية في المناطق الريفية، وانشاء مصانع صغيرة ومحترفات مهنية توفّر مجالات العمل لابناء الريف (فقرة 27/4). ومن واجبهما ايضاً وضع سياسة تربوية متكاملة بدءاً من العائلة مروراً بالمؤسسات التربوية والجامعية، بهدف تعريف الاجيال الجديدة طبيعة ارضنا وغناها، وتنظيم ندوات حول الترشيد الزراعي، واحياء مهرجانات القطاف والغلّة ( فقرة 27/9).

 

***

 

صلاة

          مبارك انت يا إله الكون. اجل، مبارك انت، ايها الرب إله عائلاتنا، إله عملنا اليومي، إله افراحنا وآلامنا.

         اننا نبتهل اليك من اجل كل الذين يتألمون لجوع او عطش، ومن اجل المحرومين من العلم والتربية، ومن اجل الذين ينقصهم الحنان. اجعلنا واعين لحاجاتهم، وعلّمنا ان نتقاسم معهم خيراتك التي بين ايدينا.

         اننا نصلي من اجل العاطلين عن العمل، ومن اجل الشباب الباحثين عن عمل: ساعدنا لنهيء لهم مكاناً في مجتمعنا. نصلي من اجل المشردين والمنكوبين والمهجرين: ضعٍ ايها الرب حداً لجراحاتهم، ووسّع قلوبنا لاحتضانهم، واجمعنا في وحدة دائمة.

         مبارك انت يا محب البشر، يا خالقنا ومعيلنا، يا فادينا ومبررنا، لك المجد والشكر الى الابد، آمين.
(صلاة البابا يوحنا بولس الثاني).

 


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code