في
العام 1282، قام قائد المماليك (الظاهر
بيبرس) باجتياح
الساحل اللبناني، هذا الاجتياح كان
هدفه الوصول الى طرابلس
واقتحامها فكيف
تمكّن من اجتياح هذه المنطقة كلها؟
إن
أزمة العام 1282 هامة جداً في تاريخ
لبنان لأنه يمكننا أن
نفهم من خلالها أن ظاهرة الانحراف
والخيانة والخروج عن الصف الواحد الموحد
ليست بظاهرة جديدة،
فهي ظاهرة قديمة في كل
المجتمعات، يجب أن نفهمها على حقيقتها وببعدها
التاريخي وبالتالي نأخذ
المثل والاستنتاج
منها حتى نعرف في المستقبل وفي المراحل الدقيقة التي
تمر بها المنطقة
كيف
يجب على المجتمع وبشكل موحد أن يأخذ القرارات
حتى لا يسمح لهكذا
ظواهر أن تكبر وأن
تؤدي بنتائجها إلى مآسي كبرى للشعوب.
1.1- حقائق تاريخية
1.1.1-
خيانة المقدم سالم
:
دسّ
حكام المماليك بعض العملاء في صفوف سكان جبل
لبنان، فزرعوا بذور
الانشقاق بين
الاهالي، و قد أثر ذلك على وحدة وتعايش
الاهالي. و من النكسات التي
ادت اليها، دخول الحاكم بزواش من بعلبك الى طرابلس و لكن
سرعان ما رئب
الصدع و ازيل الانشقاق
و طهرت الصفوف من الشوائب، و تمّ
ذلك على يد البطريرك
الماروني انذاك.
و لكن
الازمة لم تنطفىء فاستغلها الحكام و أرسلوا
مزيد من المندسين
الذين توافدوا الى
وادي قنوبين ومحيطها وبعضهم بلباس رهبان فزرعوا بذور
الفتنة من جديد،
متسترين بالكرم و
العطاء و السخاء. و لكن اهالي جبة بشري ثاروا عليهم
وعينوا مقدما، تتبعهم
و طهر المنطقة مجددا
منهم. و بعد ان توفي المقدم، خلفه
ابنه سالم، فاستدعى أعدادا من
الأغراب و الهراطقة و العملاء
وفك الارتباط مع سائر
المقدمين الموارنة الذين كانوا يحاربون
المماليك.
المقدم
سالم الذي كان حاكماً لمنطقة جبة بشرى
وإهدن، هدفه هو أن
يتحول إلى أمير على
كل جبل لبنان المسيحي فوق كل المقدمين الآخرين.
ولكن بما أنه لم
يتمكن من خوض هذه
المعركة سياسياً ولا عسكرياً، إستنجد بقوة
خارجية.
فالمماليك الموجودين في البقاع
والمحيطين بجبل لبنان كان هدفهم
القضاء على الصليبيين
في طرابلس وفي الوقت نفسه
الإنتهاء من الكيان المستقل الحر الموجود في جبل
لبنان. فاتفق السلطان
المملوكي مع المقدم
سالم على أن يفتح هذا الأخير له ممرات الجبال
الوعرة في الشمال أمام جيوش
المماليك كي تمر هذه
الجيوش في منطقة الشمال وأن تنزل نحو
الشواطئ وتحاصر الصليبيين.
وفي
المقابل وعد المماليك المقدم سالم إذا سمح لهم
بمرور الجيوش
المملوكية وبعد ان ينتصرواعلى
الصليبيين أن ينصبّوه حاكماً مطلقاً على
لبنان، أي في جبل
لبنان آنذاك.
وزّع
المقدم سالم مجموعاته العسكرية على بعض
الممرات التي كانت
عصية على الغزاة والتي
لم تستطع ولم تتمكن من اختراقها. وفي هذه
العملية الخيانية،
تمكنت القوات المملوكية ولأول
مرة منذ على الأقل ستة أو سبعة قرون من
اجتياز هذه الممرات
ومن دخول جبة بشري وإهدن والتوجه
نحو طرابلس.
لكن جيوش المماليك لم تتوجه فوراً نحو
طرابلس، فلقد استوطنت
في منطقة
الشمال ودخلت القرى والبلدات من حصرون
وبزعون وبشرى وإهدن والحدث وكل هذه
المناطق التي كانت
محصنة وحرّة، حيث دمّروها
وأحرقوها وارتكبوا فيها مجازر كبرى.
أذاً
استخدم المماليك المقدم سالم لدخول
مناطق الشمال
فاحتلوها وهجّروا أهاليها في العام
1283 وانسحبت قوات المردة الجراجمة من
مناطق الشمال وتمركزت
في مناطق جبيل
والبترون
بانتظار العودة.
إن
المردة الجراجمة
بفقدانهم جبة بشري وإهدن، فقدوا
مرتكزاً أساسياً من مرتكزات المقاومة ولكن
بعد صمود ونضال
طويلين تمكنوا من استعادة مناطق
الشمال في العام 1287 وانقضوا بدفعات
متتالية على جيوش المماليك
المتواجدة في هذه المناطق
وحول طرابلس وتمكنوا من
استرجاع كل المناطق التي كانت محتلة.
ولكن الاحتلال
المملوكي دمّر وقتها النظام
الإقتصادي والإجتماعي
وقضى على كل معالم الحضارة في منطقة
الشمال. من هنا، حتى ولو
كانت العودة بعد خمس او ست
سنوات،فالخزان البشري من
اللبنانيين في الشمال كان
قد استضعف ودمّر تدميراً شبه تام.
1.1.2- المماليك وحصار عاصي
الحدث:
استفاد
السلطان المملوكي قلاوون، من الهدنة
مع الصليبيين سنة
1283 وتوغل جيشه الى
معاقل الموارنة في اعالي لبنان الشمالي، فاحتل القرى
والبلدات التي تحيط
بطرابلس والتي كانت
تساعد المدينة دائما ضد المماليك حتى وصل
الى بشري واهدن وحدث الجبة
وخربها، فنزحت جماعات
كبيرة من الاهالي الى الوديان العميقة
والجبال العاصية والى جزيرة قبرص.
لم
يتحرك الصليبيون لنجدة هؤلاء الموارنة الاقحاح
الذين كانوا يدافعون
عنهم ويتكبدون الخسائر في كل
مرة كان المماليك يتقدمون باتجاه طرابلس
لاحتلالها، الامر
الذي ادى الى التنكيل بقرى
اهدن
وبشري والحدث بعنف بالغ.
يقول
البطريرك الدويهي: «… في شهر ايار سنة
1283،سارت عساكر
المماليك الى فتح جبة
بشري وصعدت الى وادي حيرونا شرقي طرابلس،
وحاصرواقرية اهدن حصارا شديدا وملكوها
بعد اربعين يوما في
شهر حزيران، وسلبوا ما
وجدوا،وضربوا القلعة
التي في وسطها، والحصن
الذي كان على رأس الجبل، ثم انتقلوا الى ميفوق
ففتحوها في شهر تموز
وقبضوا على اكابرها
واحرقوهم في البيوت ودكّوها للأرض واكثروا
من النهب والسلب.
وبعد
ان اعملوا السيف بأهل حصرون وكفرسارون
وذبحوهم في الكنيسة
رجعوا في 22 اب الى
حدث الجبة فهرب اهلها الى مغارة
عاصي الحدث.
إستمر
حصار مغارة عاصي الحدث 7 سنوات تمكن من
خلالها أهالي الحدث
من الصمود في وجه
المماليك الذين احتلوا البلدة ونكلوا باهلها واحرقوا
منازلها ولم تسلم
كنيسة مار دانيال من
الخراب التي أصابها. تمكن أهالي الحدث من
الصمود داخل المغارة وذلك
بعد أن جرّوا اليها
قناة ماء من عين كوسا، حيث كانت تصل الى المغارة
بطريقة سرّية. وكان
الأهالي يؤمّنون
المؤن من حبوب وطحين وزيوت ومواشي وذلك عبر التنقل
بدهاليز تصل المغارة
بالبلدة.
إستعان
المماليك بالخيل لمساعدتهم في إيجاد
الطريقة للدخول الى
المغارة. فعطّشوا الخيل ثلاثة
أيام، واطلقوها فوق المغارة لأكتشاف
مصادر المياه اليها،
ولم تمض ثلاثة أيام على
تعطيش الخيل حتى إكتشفت مجرى للماء فجلبوا
الحيوانات، وذبحوها على
قنوات الماء، وإمتزج
الماء بالدم، وتلوّثت كليّاً المياه. فأستسلم
الأهالي بعد سبع سنوات من
الحصار. منهم مَن مات
داخل المغارة جوعاً وعطشاً،
ومنهم مَن هرب الى خارج المغارة
فقتله المماليك، ومنهم
لا يتعد
عدد أصابع اليد، تمكنوا
من الهرب إلى جبيل.
|