ا- في القرن السابع،
عندما بدأ الغزو العربي باجتياح هذه المنطقة وتمكن
من الانتصار على الجيوش البيزنطية في سهول سوريا
والعراق ومصر، كان هناك عامل جغرافي استراتيجي
مكّن المسيحيين من التجمع في جبل لبنان وبالتالي
من إقامة نظام مستقل لهم، سمح لهم بالصمود نحو 700
سنة. هذا العامل الجغرافي هو الرافعة التاريخية
للوجود المسيحي الحر إبان الهجمة العربية في منتصف
القرن السابع. لنطرح السؤال مثلاً، لو كان هنالك
جبال في مصر عند الأقباط لتمكن الأقباط من إنشاء
نوع من مقاومة مستمرة واقامة مجتمع قبطي حر يتمكن
من الاستمرار رغم الاجتياح العربي لمصر، ولكن لا
توجد جبال في مصر، بالتالي هذا العامل الذي كان
مهم استراتيجياً على هذا الصعيد وفي تلك المرحلة،
كان مفقوداً في مصر. أما في شمال العراق حيث كانت
المقاومة الأشورية الكلدانية، فلا يوجد ساحل بحري
يمكنهم من الاستمرار بشكل أفعل ولكانوا استطاعوا
أن يكونوا مجتمع حر في تلك المنطقة.
أما في لبنان، فهناك نوع من تجمع لعاملين
أساسيين مكَّنا المسيحيين اللبنانييين والمشرقيين
من أن يستمروا في جبال لبنان، وهذان العاملان هما
وجود الجبل ووجود الساحل بقرب الجبل من أجل
الاتصال بالخارج الحر.
ب- أما بعد العام 1305، وبعد سقوط
كسروان وبالتالي سقوط الاستقلال القومي في جبل
لبنان، ما هو هذا العامل الذي سمح للمجتمع المسيحي
وللمقاومة أن يستمرا رغم سقوط الجبل والساحل؟ ما
هي الثغرة التي مكّنت الوجود المسيحي أن يستعيد
حريته فيما بعد رغم الضغوطات المملوكية ورغم
الاحتلال العثماني التركي فيما بعد؟ وما هي
الأسباب التي مكَّنت المقاومة من أن تنظِّم صفوفها
مع الوقت وبالتالي تعود للإنبعاث بشكل جديد في
منتصف القرن التاسع عشر وبشكل واضح جداً منذ منتصف
ونهاية القرن العشرين في المرحلة التي نعيشها
حالياً؟
لكي
نفهم الأسباب، يجب أن نفهم التركيبة التي حاول
وضعها الحكم المملوكي في هذه المنطقة حتى نستطيع
أن نفهم كيف توسعت هذه الثغرة وبالتالي كيف تمكن
من خلالها مجتمعنا أن ينبعث من خلالها مجدداً.
الحكام المماليك كغيرهم من الخلفاء والحكام العرب،
كان حلمهم الأساسي بعد تفكيك المقاومة في جبل
لبنان هو تذويب كامل للجبل واجراء نوع من
الاستيطان البشري مكان الوجود البشري المسيحي. ومن
هنا، منع أي تجمع مدني اجتماعي سوسيولوجي للوجود
المسيحي في بقعة ما منعاً لتكوين نوع من المقاومة
في المستقبل.
لذا، وبعد اجتياحهم لجبل لبنان، أفرغ
المماليك مناطق واسعة جداً من كسروان والمتن من
الوجود المسيحي وفي مرحلة ثانية استقدم المماليك
مجموعات بشرية من العشائر العربية ووطنوها في
السواحل والبقاع والجنوب، وأيضاً في المناطق
الجبلية التي أفرغوا أو هجروا منها المسيحيين.
لهدف الأساسي كان خلق واقع
ديموغرافي جديد يمنع استعادة المجتمع المسيحي
لدوره الحيوي وبالتالي يمنع عودة مقاومة ما
للمجتمع السيحي في لبنان في ما بعد.
لكننا نعرف تماماً أن التنظيم
الإداري السياسي عند المماليك وعند كل الخلافات
والأنظمة العربية آنذاك، كان يعتمد على تعيين
"ولاة" في كل منطقة من مناطق الخلافة أو السلطنة.
وهذا الوالي كان ملزماً بجباية الضرائب، أي كان
هذا الوالي يؤمن مصلحة السلطة المركزية في الخلافة
من المنطقة التي هو مولى عليها، فكان عليه أن
يستوفي الضرائب من هذه المنطقة من مال أو خيرات
موجودة فيها.
طبعاً جبل لبنان كان منطقة اقتصادية
ذاتية، أي نظامها الاقتصادي الزراعي ليس مبنياً
على التجارة بشكل عام بل على خيرات وموارد يستحصل
عيلها من مناطق جبل لبنان نفسها.
من هنا، كان من الضروري أن يكون في جبل
لبنان مجموعة بشرية تقوم باستثمار موارد هذا الجبل
وبشكل صعب ودقيق وذاتي ومتخصص. فالنظام الاقتصادي
الأساسي في لبنان كان النظام الزراعي الجبلي،
والمجتمع الذي كان قائماً في هذا الجبل ما بين
القرن السابع والقرن الرابع عشر هو الذي أسس هذه
البنية الاقتصادية الزراعية. وهو الذي كان يديرها
وموجود في شكل يسمح له بإدارتها. وبسبب عدم توفر
سهول طبيعية واسعة، كل غريب أتى لم يستطع أن
يفلحها ويزرعها. فقد كان هناك نظام دقيق يستوجب
جهود، ويتطلب مجموعة بشرية معينة اعتادت على هذا
النظام الزراعي بل ووضعته.
من هنا، عندما أتى الحكم المملوكي
وعيَّن حكام على منطقة جبل لبنان، هؤلاء الحكام
بدورهم عينوا حكام من العشائر لهذه المنطقة. هؤلاء
رأوا أن الموارد التي سيجمعونها ويدفعونها كضريبة
للسلطة المركزية التي كانت في الشام أو في غيرها،
بحاجة إلى نظام بشري اجتماعي يستطيع أن يزرع الأرض
ويحصدها ليتمكن الوالي أو الولاة الحصول على شيء
ما يبرر وجودهم أصلاً كحكام لهذه المنطقة. أما تلك
العشائر التي كانوا يستقدمونها فلم تكن لديها لا
الخبرة ولا القدرة ولا المعرقة التامة بالنظام
الاقتصادي الزراعي الجبلي. فالعشائر استقدمت
أساساً لأغراض أمنية عسكرية وسياسية، ومنها منع أي
اتصال ما بين الجبل والغرب الأوروبي من خلال إنشاء
قواعد على الساحل لتمنع الاتصال بالصليبيين
"الإفرنج". في مرحلة لاحقة كان هدف الحكام من
استقدام العشائر والمجموعات العربية، إلى جانب
الأهداف السابقة، القيام بعملية السيطرة
الاستيطانية. ولكن عملياً لم يكن إلا الفلاح
المسيحي الموجود في جبل لبنان والذي كان ما يزال
منذ 700 سنة يقوم بالزراعة واستثمار الأرض، كان
هذا الفلاح الوحيد الذي يستطيع القيام بهذه
العملية لصالح الحكام وبالتالي لصالح السلطة
المركزية الموجودة في الشام أو في مركز الخلافة
الإسلامي العربي. من هنا، كان الحاكم المملوكي أو
الوالي المعين من قبل السلطة المملوكية ومن ثم
العثمانية، كان أمام مشكلة: فمن ناحية كان هدفه أن
يقضي على الوجود المنظم البشري الديموغرافي الكثيف
للمسيحيين، واستبداله بوجود ديموغرافي عربي
إسلامي. غير أنه كان من واجبات الوالي أو الحاكم
العربي أن يحصل على خيرات هذه المنطقة الزراعية
ومواردها الاقتصادية المالية، وأن يرسلها إلى
السلطة المركزية التي كانت تحاسبه على وجوده في
هذه المنطقة. من هنا كانت الثغرة على الصعيد
الاقتصادي والتي استثمرت فيما بعد على الصعيد
الروحي والاجتماعي وتحولت إلى الصعيد القومي بعد
أربعماية عام.
وضع الحكام أو الولاة المماليك
الصورة على الشكل التالي: "نحن بحاجة إلى وجود
مجموعة بشرية في جبل لبنان، تستطيع القيام بعملية
استثمار وتقوم بعملية جمع كل المحاصيل وإدارة
النظام الاقتصادي الاجتماعي في جبل لبنان. هذه
المجموعة في الوقت الحاضر (القرن الرابع عشر) هي
المجموعة المسيحية. والمسيحييون وحدهم هم الذين
يستطيعون القيام بمثل هذه العملية...."
إذاً كان لا بد من أجل استمرار
الوضع الاقتصادي في جبل لبنان، استمرار الوضع
البشري المسيحي كما هو عليه قبل العام 1305. فهذه
المجموعات البشرية التي ظلت رغم كل شيء ورغم عدم
قبول الحكم المملوكي أساساً بها، يجب أن يكون
لديها حدٌّ أدنى من النظام الاجتماعي المدني، إذاً
لا بد وأن تكون هناك سلطات محلية ومؤسسة تجمع هذه
المجموعة البشرية المسيحية. طبعاً، لم يرغب
المماليك في إعطاء هذه المجموعات إدارة ذاتية، فلا
درك ولا جيش ولا أي نوع من الإدارة المدنية تسمح
لمسيحيي الجبل من أن ينظموا أنفسهم. المطلوب عند
المماليك، إيجاد مؤسسة تجمع الحد الأدنى على
الصعيد الاجتماعي المدني، المسيحيين في الجبل
وتنظمهم، وعلى هذه المؤسسة أن لا يكون لديها أهداف
ومصالح على الأرض إنما في السماء.
الكنيسة هي الحل المطلوب، فالمماليك
والعثمانيون من بعدهم حافظوا على الكنيسة الوطنية
في جبل لبنان كونها المؤسسة الوحيدة في نظرهم،
التي ليس لها القدرة الإدارية الذاتية سياسياً
وعسكرياً. وفي الوقت نفسه، كونها لديها القدرة من
خلال تركيبتها وسلطاتها الاجتماعية أن تجمع هذا
المجتمع وأن تكون نوعاً من سلطة محلية لهذا
المجتمع. (مقارنة مع دور كنيسة روما إبان الهجمات
البربرية وسقوط الأمبراطورية الغربية).
من هنا نفهم مغزى الإبقاء على الكنيسة كمؤسسة
وإعطائها الحد الأدنى من الاستقلالية الذاتية مكان
وجود سلطة مدنية أو عسكرية أو قضائية أخرى. ومن
هنا بدأ تمييز الكنيسة الوطنية وخاصة الكنيسة
المارونية في جبل لبنان، بإعطائها هذا الحد الأدنى
من السلطة في نهاية المطاف، من قبل مختلف السلطات
العربية والعثمانية-التركية التي تعاقبت على الحكم
في هذه المنطقة.
لذلك تجمع الشعب المسيحي في جبل لبنان حول كنيسته
الوطنية خصوصاً المارونية. فكان نشوء الدور القومي
للكنيسة الوطنية في جبل لبنان، الذي تميزعن أدوار
كل الكنائس والسلطات الروحية في منطقة الشرق
الأدنى. ومن هنا نفهم تعلق المجتمع المسيحي إضافة
إلى ارتباطه الروحي الوثيق والعميق، بكنيسته
الوطنية من الناحية القومية أيضاً وقيادة الكنيسة
الوطنية في جبل لبنان، تحولت مع الزمن إلى قيادة
قومية تقود الوضع الوطني كله في جبل لبنان.
من هنا نفهم دور الكنيسة، ونفهم أنه عندما تشتد
الأزمة على المسيحيين، وعندما يشتد الحصار عليهم،
وعندما يكون هناك خيار قومي للمجتمع المسيحي، تتجه
الأنظار إلى الكنيسة الوطنية، وتتجه الأنظار
عملياً إلى بكركي.
من
هنا وفي النهاية، نفهم أن الثغرة الثانية التي
جعلت المجتمع المسيحي في لبنان، انطلاقاً من القرن
الرابع عشر، يستعيد الحد الأدنى من أسباب وجوده،
كانت سبباً اقتصادياً بالنسبة للحكم المملوكي
والمحتل من جهة، ووسيلة كنسية روحية بالنسبة للشعب
المسيحي في لبنان من جهة أخرى. وبتزاوج هذيه
العاملين، عامل الحاجة الاقتصادية بالنسبة للسلطة
المحتلة، وعامل وجود كنيسة روحية مسيحية وطنية
منظمة في جبل لبنان، بالنسبة للمجتمع المسيحي،
هذان العاملان بتزاوجهما وبالتقائهما مع بعضهما
البعض استطاع الشعب المسيحي والأقليات الحرة
الأخرى في جبل لبنان أن يصمدوا وأن يستمروا
ويرتكزوا ديموغرافيا واجتماعياً واقتصادياً
ووطنياً في جبل لبنان على مدى 400 عام، ليستطيعوا
بعد أربعة قرون، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى
منتصف القرن العشرين، من أن يستعيدوا الحد الأدنى
من الاستقلالية الذاتية، والحد الأدنى من السيادة
القومية، وأن تعود المقاومة القومية لمجتمعنا
لتنبثق من جديد في بداية القرن الحالي ومن ثم في
النصف الأخير منه. لكي تعود المقاومة وتستعيد حقنا
في الوجود الحرّ كمجتمع في هذا البلد، وحقوقنا
الأساسية، لبناء مجتمع لبنان التعددي الديمقراطي
الجديد.