مارونيات   الموارنة من كنيسة الى شعب
 
في زمن يسوع الله، خرج واحد من بين الاثني عشر رسول،  وباع يسوع 
   
 
  Next  >>>   <<<  Previous  
 
 
 
 
 1-
الكنيسة المارونيّة بطريركية خلقيدونيّة ذات طابع نسكيّ ورهباني
شكّلت أنطاكيا النطاق الجغرافي الأول للموارنة. نشأت كنيستهم في كنف الكنيسة الأنطاكية، ونهلت من ثرائها اللاهوتي والفكري المسكوني، تماماً كما فعلت الكنائس السريانيّة وبعض الكنائس الشرقيّة. كوّنت، منذ انطلاقتها، كنيسة بطريركية أنطاكية سريانية تميّزت، منذ بداياتها، كما الكنيسة الأنطاكية الأم، "بعيش الوحدة في الإيمان والشركة، ضمن أطر التعدّدية التي وسمت شعوب هذه المنطقة من خلال تنوّع الحضارات والثقافات واللّغات"(13) . 
في الوقائع، تتميّز الكنيسة المارونيّة بجذورها الرهبانية. كان بين غايات انتظام الرهبان السريان الأنطاكيين الآخذين بنهج مارون، الدفاع عن قانون الإيمان كما حدّده مجمع خلقيدونيا،  ومفاده "أنّ المسيح هو شخصٌ واحد في طبيعتين كاملتين، إلهيّة وإنسانيّة، ومتّحدتين بشخص سيّدنا يسوع المسيح، وأنّ تمايز الطبيعتين يظلّ قائماً في وحدة الأقنوم". شهد هؤلاء الرهبان ومن تبعهم من الشعب بأمانة للمجمع الخلقيدوني؛ فقاسوا، في هذا السبيل، عذاب الاضطهاد والانفصال اللذين قامت بهما مجموعة كنائس شقيقة تعرف اليوم بالكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة(14) .
وقد تبلسمت الجراح بفعل اكتشاف غنى التراث السرياني المشترك، وإدراك أنّ الخلاف لا يمسّ الجوهر في مقاربة فهم سرّ الفداء بل أسلوب التعبير عنه، والتوق إلى إعادة بناء الوحدة في الإيمان، والاستفادة من ثمار الحركة المسكونيّة.
 
 2- جذور انطاكية سريانية 
يؤلّف الموارنة شعباً تعود جذوره إلى منظومة شعوب الشرق الأوسط القديم، وهو يتحدَّر من أصل آرامي قد اغتنى بما انضمّ إليه من مجموعات اثنيّة مختلفة بفعل الاجتماع والانتقال والاختلاط. وقد استوطن الآراميون في بلاد ما بين النهرين وسوريا، وصنعوا لهم فيها حضارة عريقة، وتمكّنوا من الحفاظ على هويّتهم الثقافيّة، لاسيّما اللّغة الأراميّة، التي انتشرت في المدن والأرياف وبقيت حيّة مستخدمة في العصور المسيحيّة الأولى(1) . اعتنق أجداد الموارنة النصرانيّة منذ فجر البشارة. أخذها بعضهم مباشرة عن يسوع عندما جال في أرض كنعان وجليل الأمم والساحل الفينيقي، مبشّراً برسالة الخلاص الكونيّة(2) . وتلقّاها بعضهم من الرسل الذين امتلأوا من حدث القيامة بعد أن فاض عليهم الروح القدس يوم العنصرة، وتنقّلوا بين المدن الفينيقيّة، وأسّسوا فيها الكنائس، وانطلقوا منها إلى أنطاكيا، العاصمة السياسيّة والإداريّة والثقافيّة للإقليم الشرقي للأمبراطوريّة الرومانيّة، والتي أضحت قاعدة البشارة الجديدة في الشرق، وتشرّفت فيها الجماعة المسيحيّة الأولى بحمل اسم المسيح(3) .
وتعهّدت انطاكيا نشر البشارة فأوفدت كهنة قديسين ورهباناً زاهدين حملوا البشارة إلى معظم أصقاع الشرق وبقاعه، لاسيما في سورية وجبل لبنان، فتنصّر قسم من أجداد الموارنة على يدهم خلال القرون الخمسة الأولى(4)
 

 3- مار مارون 

سمّيت هذه الجماعات بالموارنة، أو أطلق عليها اسم "جماعة بيت مارون"، نسبة إلى القديس الناسك مارون القورشي الذي عاش في شمال سوريا بين 350م و410م. 

اختطّ مارون لنفسه مسلكاً جديداً في الزهد عُرف "بالنسك في العراء". وحباه الله نعمة شفاء أمراض الجسد والنفس، وذاعت شهرته بين الناس "فتقاطروا إليه من كلّ صقع ومكان". راسله القديس يوحنا فم الذهب طالباً صلاته. وأبرز سيرته الزكيّة تيودوريتوس أسقف القورشية في تاريخه أصفياء الله(5) . وهكذا، كان القديس مارون قد استقطب، أثناء حياته وبعد وفاته، في أقلّ من عقدين، عدداً كبيراً من نسّاك منطقة قورش. شكّلوا نواة للحياة الرهبانية التي كان لها شأن كبير في الكنيسة الانطاكية.
 
4- دير مار مارون 
ولماّ تسلّم الأسقف تيودوريتوس أبرشيّة قورش سنة 423، صرّح بأنّ مارون "تفانى في غرس هذا البستان لله، فنوّر ناحية قورش". وتفسِّر شهرة قداسة مار مارون وأسلوب عيشه النسكي، والتزام تلامذته بالنهج التوحدي الزهدي وإسهامهم في بلورة العقائد المسيحية سبب قيام دير على اسمه في منطقة أفاميا سنة 452، أي مباشرة بعد المجمع الخلقيدوني، بحسب ما يؤكّد المؤرّخ العربي أبو الفداء، إذ يقول ما حرفيّته: "في السنة الثالثة من ملكه، بنى الأمبراطور مرقيانس دير مار مارون في حمص"(6) . وكان المؤرّخ بروكوب قد أفاد إنّ الامبراطور يوستينيانوس الكبير (528-565) في غمرة ورشة منشآته قد "رمّم أسوار دير مار مارون الذي في ضواحي أفامية"(7) .
تقدّم دير ما مارون على سائر الأديرة في سوريا الثانية، وتبّوأ المركز الأوّل بينها زهاء خمسة قرون، وغدا مهد الكنيسة المارونيّة. واشتهر رهبانه بالدفاع المستميت حتى الاستشهاد عن عقيدة المجمع الخلقيدوني في القرنين الخامس والسادس كما تؤكّد المصادر التاريخيّة واللاهوتيّة. ولماّ اشتدَّ الجدل العقائدي أدّى إلى مأساة ذهب ضحيّتها 350 راهباً من رهبان دير مار مارون بالقرب من شيزر سنة 517 في عهد البطريرك ساويروس اللاخلقيدوني. تعيّد الكنيسة المارونيّة هذه الذكرى في كلّ سنة في الحادي والثلاثين من تموز. وبالرغم من المضايقات والانقسامات، فقد أعطى رهبان مارون طابعاً كنسيّاً مسكونيّاً للصراع العقائدي بحسب ما تُظهر الرسائل التي توجّهوا بها الى الكرسي الرسولي وخصوصاً الى البابا هرمزدا(8)(Hormisdas)  . وقد نجحوا والشعب الذي تحلّق حولهم  في تثبيت العقيدة الخلقيدونيّة في أفاميا وكامل منطقة سوريا الثانية. وتبرز الوثائق الكنسيّة والتاريخيّة حضورهم وتفاعلهم مع مختلف الجماعات المسيحية التي تنتمي الى انطاكيا: الملكيين واليعاقبة والنساطرة وذلك من القرن السابع حتى القرن الحادي عشر. وساندهم الأمبراطور هرقل (610-641) إثر انتصاره على الفرس سنة 628(9) ، واعترف بهم الحكّام العرب لاسيما معاوية(10) . وتذكر الوثائق "جماعة دير أو بيت مارون"، مما يعني أن الدير قد انخرط في هيكليّة كنسيّة أنطاكيّة، وترأسه أساقفة في القرن السابع، وتحلّق حوله شعبٌ، أي رعيّة ومؤمنون، شكّلوا التربة الصالحة لقيام البطريركيّة المارونيّة. 
ولا تقلّل صعوبة الاستدلال الى موقع الدير الجغرافي شيئاً من أهميّته التاريخيّة(11)  حتّى تدميره وتخريبه في القرن العاشر بحسب شهادة المسعودي "وكان له [لمار مارون] دير عظيم يعرف به شرقيّ حماة وشيزر ذو بنيان عظيم. حوله أكثر من ثلاثمائة صومعة فيها الرهبان. وكان فيه من آلات الذهب والفضّة والجوهر شيىءٌ عظيم. فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وحيف السلطان. وهو يقرب من نهر الأرنط نهر حمص وانطاكية." (12)
  
  5- قيام البطريركيّة المارونيّة
قامت البطريركيّة المارونيّة الأنطاكيّة في خضم التحوّلات التي عرفها القرن السابع، وتمثّلت في الفتح العربي، والصراعات الدوليّة بين العرب والبيزنطيين والفرس، والقتال بين السلالات العربية المتناحرة، والحركات الانقلابية والمعارضة، وأساليب الحكم التي ميّزت بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الذمّة، وفرّقت بين جماعة وأخرى منهم، وفرضت ضرائب مجحفة واعتباطية، والنتائج السلبيّة لهذه الممارسات على السكان، وانقطاع التواصل بين البطريركيات، والتمسّك بالإيمان المستقيم، وكلّها أسباب حدت بالموارنة الى إعلان بطريركيتهم الإنطاكيّة(15) . واستناداً إلى التقليد القديم الذي نقله إلينا البطريرك إسطفان الدويهي (1670-1704)، فقد تبوّأ الكرسي البطريركي الأنطاكي القديس يوحنا مارون سنة 685، وافتتح سلسلة البطاركة الرهبان، التي استمرّت متّصلة من دون انقطاع حتى القرن السابع عشر؛ وفي ذلك دلالة على أن الحالة الرهبانيّة هي ملازمة للخدمة الأسقفيّة أو البطريركيّة في الكنيسة المارونيّة. وتحتفل الكنيسة بعيد بطريركها الأوّل في الثاني من شهر آذار. ولئن انتقل مقرّ البطريركية إلى لبنان نهائياً على أثر الدمار الذي ألحق بالدير الرئيسي في سورية، سنة 937، بسبب الاضطهادات وجور السلطان، فإن البطريرك الماروني لا يزال يحمل لقب "بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق" كدرّة ايمان في مسار التاريخ، ما جعل من لبنان، باحتضانه كرسيّ الموارنة الأنطاكي ، وريث أنطاكيا على صعيد الرسالة والاشعاع.
 
  6- تجذّر الكنيسة المارونيّة في البيئة المشرقيّة والمحيط العربي
تميّزت الكنيسة المارونيّة منذ قيامها بالانفتاح على الآخر، كونه خليقة على صورة الله، شريكاً في الإنسانيّة ومدعوّاً إلى الخلاص.  لذلك تفاعلت الكنيسة المارونية مع الكنيسة السريانية والكنيسة الملكية وهنّ يستقين من انجيل واحد ويحتفلن بليتورجية متشابهة متقاربة، ويتكلمن لغة واحدة السريانية.
وتعاون الموارنة لقرون طويلة مع السلالات العربية المتعاقبة، وأخلصوا للحكّام، وخضعوا للأحكام ، وتفانوا في خدمة الشعب والعوام، وعزّزوا الشأن العام.
مكّن هذا الانفتاح الموارنة من استيعاب الحضارة الهلينيّة والقيام بحوار بنّاء بين الحضارات فساهموا مع إخوانهم السريان في إنجاز حركة الترجمة ونقل الأدب والفلسفة والعلوم من اليونانيّة عبر السريانيّة إلى العربيّة. وبرز في هذا السياق اسمان من علماء الموارنة هما: قيس(16)  وتيوفيل(17)  المارونيّان. استفاد العرب والغرب من هذه الحركة الثقافيّة التي لا تزال نتائجها تتفاعل في التاريخ حتى يومنا هذا. وأتت كمقدمة للنهضة العربية التي تجلّت في القرن التاسع عشر، ولعب فيها الموارنة أيضاً دوراً طليعياً رائداً.
ولما تفكّكت أوصال الدولة العبّاسية، ونشأت الدويلات وتحكّمت، واحتدمت النزاعات في شمالي سوريا، واشتدت المضايقات، ترك الموارنة مواطنهم في سوريا وقصدوا جبل لبنان حيث انضموا الى أشقاء لهم كانوا قد استوطنوا فيه وتنصّروا منذ القرون المسيحية الأولى. ويشهد توما الكفرطابي، احد علماء اللاهوت، على نهايات هذا النزوح، إذ نزح هو بدوره الى لبنان في بداية القرن الحادي عشر(18) .
وفي الأزمنة المعاصرة، أطلق الموارنة نهضة عربية ثانية،  بتجديدهم اللّغة والآداب والفكر عبر المطابع والمدارس والدوريات (المجلاّت والصحف) والمؤلّفات، انطلاقاً من ثلاثة مراكز هي: لبنان ومصر والأميركيتان. فكانوا روّاد الأفكار الجديدة والتحرّرية بدءاً بتعليم المرأة وإعطائها حقوقها، والمناداة بالحريّة والتغني بالقوميّة والمواطنيّة وبناء الدولة، وصياغة الدساتير، وتأليف الأحزاب، واحترام حقوق الإنسان وإزكاء التعدّدية الثقافيّة. وتعاطفوا مع قضايا العرب المحقّة، وساهموا في تأسيس الجامعة العربيّة، وساندوا القضيّة الفلسطينيّة، حتى إنّهم استضافوا اللاجئين في بيوتهم وأديرتهم.
وهكذا صنعوا مع جميع أجناس العرب الذين ضاقت بهم بلادهم، وأخيراً مع اللاجئين السوريين بالرغم من المحاذير والمخاطر.
 
  7- علاقة الموارنة بلبنان
ارتبط تاريخ الموارنة بلبنان منذ ما يزيد على الألفي سنة. قدم إليه رهبان مار مارون قبل إنشاء البطريركية، وحملوا البشارة الى سكانه. وتوثّقت العلاقة بين الموارنة ولبنان عندما انتقل إليه البطريرك الماروني وتبعته غالبية الشعب بين القرن السابع والعاشر للظروف التي أوردناها.
لقد ارتسمت معالم جغرافيا مدنية وكنسية جديدة للموارنة، إنبسطت بين الجبة وبلاد البترون وجبيل، واستمرت الى القرن السادس عشر(19) . فكانت الأرض الجديدة أمنع مما عهدوه سابقاً وأحصن، ولكنّها أتت أضيق وأعسر وأمحل. وتطلّبت سعياً وجهداً متواصلاً، وعملاً دؤوباً لتوفير سبل العيش.
تكيّف الموارنة مع هذه البيئة، وعدّلوا ما أمكن من عناصرها، فجعلوها مؤاتية، ونظّموا طرق الحياة فيها.
عمّروا القرى تلك التي انتصبت فوق الهضاب والمرتفعات، وتلك التي تعلّقت على السفوح والمنحدرات.
وبنوا الكنائس فيها، فجاوب بعضها على خواصّ الهندسة التقليدية المعتمدة، فضمّت الحنية والسوق والرواق كما في سمار جبيل وتولا وعبد لله وبحديدات وإدّة (البترون وجبيل) ورشكيدا ومعاد وحدتون. وتزيّنت بالنقوش والتصاوير خصوصاً في بحديدات ومعاد. وغلب على معظمها الشكل المستطيل البسيط بحجارتها المغفّلة "الغشيمة" غير المنحوتة، وأبوابها الضيّقة، ونوافذها وفتحاتها الصغيرة، وقببها العارضة المتواضعة التي لم تحمل أجراساً قبل بداية القرن الثاني عشر.
اعتصم الموارنة في جبل لبنان، واستقرّ فيه بطاركتهم منذ نهاية القرن السابع. وأقام البطاركة الموارنة في أديرة في لبنان كانت غاية في البساطة والتجرّد. اجتمع حولهم فيها الأساقفة والرهبان. وأجبرتهم الظروف السياسية والاجتماعية أن يتنّقلوا بين مركز وآخر وأن لا يعرفوا الثبات في مركز محدّد قبل منتصف القرن الخامس عشر.
وهذه هي أهم المراكز التي أقاموا فيها:
دير مار مارون كفرحي، ويقع في أواسط بلاد البترون. ترمّم في نهاية القرن الثامن عشر، وتحوَّل الى مدرسة في بداية القرن التاسع عشر، وهو الآن مركز أبرشية البترون.
دير سيدة يانوح في جبة المنيطرة، فقد أقام فيه البطاركة بين سنة 949 و 1121.
دير سيدة إيليج ويقع في أعالي منطقة جبيل على تخوم ناحية البترون. أقام فيه البطاركة بين سنة 1121 و1440. ويشكّل هذا الدير معلماً أثرياً وهندسياً مميزاً، إذ قد بُني بحجارة من الدبش غير المصقولة يحمل أحدها في الجهة 
الشمالية نقشاً باللغة السريانية(20) ، كما تحمل بلاطة وضعت في شكلٍ مقلوب فوق القنطرة الغربية كتابة سريانية أخرى تؤرّخ لبناء الدير(21) .
ملّك الأمير يوسف هذا الدير الى الرهبانية اللبنانية المارونية، وأتبعه الى دير ميفوق بموجب صك مؤرّخ في سنة 1768. وبالرغم من إقامة البطاركة في دير سيدة إيليج، فقد تنقّلوا بين عدّة أديرة في بلاد جبيل والبترون قبل أن يستقرّوا في دير سيدة قنوبين سنة 1440 (22) .
يقع دير سيدة قنوبين في الوادي المقدّس (قاديشا) حيث ازدهرت الحياة الرهبانية وكثرت الأديرة والمحابس والصوامع. وتوفّرت له وقفيات عديدة بمجملها وضيعة قدَّمها المؤمنون كتعبير عن إيمانهم وعن محبتهم للكرسي البطريركي. وهي تشكّل نموذجاً في أنماط عمل البرّ والإحسان والتدوين إذ قد تسجّلت على هوامش إنجيل ربولا(23) .
وقد ثـبّت المجمع اللبناني دير قنوبين كمقرّ للبطريركية:"بناء عليه نحكم ونرسم بأن يستمر هذا (دير قنوبين) مقراً بطريركياً ثابتاً وبأن لا يُترك ولا يُبدل ولا يُنقل الى مكان آخر إلاّ بداعٍ شرعيّ مثبّت من مجمع كامل"(24) . واظبت فيه السلطة الكنسيّة على ممارسة الحياة المجمعية والرهبانية فانعكست شراكة روحية وبنية تنظيمية طبعت الإكليروس والشعب والرعية، فصحّ مدلول لفظة "قنوبين". وحُقَّ لهؤلاء بموجب رباط الشراكة أن يشاركوا في انتخاب البطريرك كما ورد في محضر انتخاب ارميا الدملصاوي الذي دوّنه هو بنفسه. وبقيت هذه الطريقة متّبعة حسب شهادة الموفد اليانو الى زمن انعقاد المجمع اللبناني الذي حصر عملية الانتخاب بمجمع الأساقفة قطعاً.
حفل تاريخ دير سيدة قنوبين بالأحداث الخطيرة. تشكّلت فيه منذ أن أصبح مقراً بطريركياً سلسلة مترابطة ومعروفة للبطاركة. انعقدت فيه أولى المجامع المارونية، لاسيما سنة 1580 و 1596. حجّ إليه الموفدون البابويون والمرسلون، كما قصده المعتمدون السياسيون والسيّاح والزوار الأجانب. جرى منه التواصل مع السلطات العثمانية، والحكّام المحليين من أمراء ومشايخ وإقطاعيين، وجميع لفيف المناصب والمراتب، وطبقات الشعب.
انطلقت منه النهضة فحملت الحداثة الى أرجاء الشرق الأوسط برمتّه. وأمّه كلُّ معوز أو سائل فحصل على مطلبه مادياً ومعنوياً. ظلّ قنوبين القلب النابض للكنيسة المارونية زهاء أربعمائة سنة الى أن سلّم المشعل الى دير سيدة بكركي في مطلع القرن التاسع عشر.
وكانت أوضاع كنسيّة وعوامل سياسية واجتماعية ساعدت الى انتقال الكرسي البطريركي الى بكركي حيث أحاطت به الأديرة والكنائس والمؤسسات التربوية والاجتماعية تماماً كما في قنوبين وفي دير مار مارون. فكلا المقرّين في لبنان نشآ في مناخٍ روحيّ وأنعشاه، ولكنهما افتقرا الى الغنى الماديّ الذي تنعّم به الدير الأم حسب وصف المسعودي، والمكتشفات الأثرية الحديثة.
إنّ استقرار كرسي بطاركة الموارنة في جبل لبنان حوّله نحو "جبل مقدَّس". انتشر في ربوعه أريج الحريّة. وتضوّع في أرجائه عطر القداسة. قامت الأبرشيات خصوصاً بعد المجمع اللبناني، وتوزّعت الرعايا على القرى. وتأسّست بعض المدارس وفي طليعتها عين ورقة، أم المدارس في الشرق. ونشأت الرهبانيات الكبرى، وانبثقت عنها تدريجياً مؤسسات تربوية واجتماعية، وستجد جميعها لها مكانًا في هذا الدليل.
وتطلّعت الكنائس الشرقيّة صوب جبل لبنان واتّخذت منه مقراً. ومنها من افترق عن الكنيسة الأم واتّحد مع الكرسي الرسولي في روما. وقصدته البعثات الإرسالية الكاثوليكية بمختلف تنظيماتها، وكذلك الارساليات البروتستانتية بكل أطيافها. ولا غلو في التاكيد على أنّ الموارنة ساهموا مساهمة فعّالة في خلق هذا التنوّع الثقافي الفريد في منطقة الشرق الأوسط.    
أمّا على الصعيد المدني فأمّن لبنان للموارنة الملاذ الآمن في حمى جباله؛ فجعلوا منه واحة حريّة ومساحة تمدّن وثقافة.
طوّعوا أرضه الصخريّة. ورصفوا السفوح جلولاً عانقت التلال والجبال وغدت جنائن غنّاء. وصقلوا طبيعته وهذّبوها. فأصبحت مشهداً خلاباً. وأنعشوا الحياة الريفيّة وسيّروها على وقع الفصول والمواسم. وبحقٍ أكملوا عمل الخالق حتى أصبحت الطبيعة تدين لهم بكل ما أوتيت بعد الخلق.
ساهم الموارنة في تحويل جبل لبنان الى ملجأ للأقليات. فنزل فيه الشيعة، خصوصاً الأثني عشرية، والفرق التي تفرّعت عنها، والدروز في وادي التيم والجهات الجنوبية. تفاعل الموارنة مع هذه الأقليات، واجتازوا لبنان من شماله حتى جنوبه بجهدهم وعملهم المثمر بين سكّانه، لاسيّما الموحّدين الدروز. وحقّقوا تجربة حضاريّة فذّة تمثّلت بالعيش المشترك بين مختلف الجماعات الدينيّة التي أمّت لبنان(25) . وهذا هو المنطلق(26) .
في الوقائع، تعامل الموارنة مع جميع السلالات التي حكمت لبنان، وأخلصوا لها كلّ الإخلاص. فكانوا الفلاّح النجيب، والحرفي الحاذق، والتاجر الماهر، والجندي الشجاع، والدبلوماسي اللبق، والمستشار الفطن الأمين. وتكرَّرت تجربتهم مع العسَّافيين السنيين (1306-1591)، ومع المعنيين الدروز (1516-1697)، ومع الشهابيين السنيين (1697-1841). وثابروا على جهادهم حتى تحوّلت الإمارة إلى دولة اعترفت فيها فرنسا وعصبة الأمم سنة 1920، وأصبحت الدولة جمهوريّة سنة 1926، واستقلّت سنة 1943. جعلوا من الدولة وطناً يتّسع لجميع الطوائف، وأنشأوا له مؤسّسات تضمن حقوق جميع مكوّناته أفراداً وجماعات
 
 
  8- علاقة الموارنة بروما
تعتزّ الكنيسة المارونية بوفائها للكثلكة منذ انطلاقتها ودفاعها عن الإيمان بصيغته الخلقيدونية. من هنا، تتخطّى علاقتها بالكنيسة الرومانية، في إطار الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، صفة العلاقة البشريّة العاديّة. إنها شركة في الإيمان والمحبّة والرجاء التزمت بها الكنيسة المارونية منذ بداياتها. ولئن أعاقت الأوضاع السياسيّة هذه العلاقة،  ولاسيّما بين القرن السابع والقرن الثاني عشر، فهي قد استعادت زخمها منذ ذلك الوقت وحتى الآن. وهكذا وجّهت الدعوات إلى الكنيسة المارونيّة للمشاركة في المجامع، فشارك البطاركة شخصيّاً كلّما استطاعوا بدءاً بالبطريرك أرميا العمشيتي الذي حضر المجمع اللاتراني الرابع سنة 1215. وعندما تعذّرت مشاركتهم الشخصية، أرسلوا إليها من يمثّلهم.
توحّد العلاقة بين الكنيستين الأمانة للعقائد الكاثوليكيّة التي حدّدتها المجامع الكنسيّة، وثبَّتها التقليد الكنسي. وهما تلتقيان على مفهوم الكنيسة كجسد المسيح السرّي؛ ويؤكّد ذلك الاعتراف بأولويّة السدّة البطرسيّة، وبمسؤولية خليفة بطرس، رأس الرسل، الساهر على الوحدة المنظورة في كنيسة المسيح. تمسَّكت الكنيسة المارونيّة بهذه المبادىء، ودافعت عن ديمومة أرثوذوكسيتها، وعن اتحادها غير المنفصم بالكنيسة الكاثوليكيّة.
تعدّدت قنوات التواصل بين الكنيستين، وعيّنت روما قصّادا ووسطاء انتموا إلى مختلف الرهبانيات الغربيّة: الفرنسيسكان بحكم رعايتهم للأماكن المقدّسة(28) ؛ اليسوعيون وقد وجَّهوا رسالتهم نحو الشرق(29) ؛ الكبوشيون وقد نسجوا علاقات خاصّة مع العثمانيين؛ الكرمليون بسبب استقرارهم في الأراضي المقدَّسة. تنوّعت مهمّات قصادة هؤلاء الوسطاء طبقاً للقضايا والحاجات المطروحة عبر العصور. وحرصاً على توثيق العلاقات بين الكنيستين، اعتنت دوائر فاتيكانيّة خاصّة بقضايا الموارنة، ومنها الكاردينال الوكيل عن الكنيسة المارونيّة، ومجمع نشر الإيمان، والمجمع الشرقي، والقصادة الرسوليّة في لبنان وسوريا، ثمّ السفارة البابويّة منذ عهد الإستقلال.
ويشكّل تأسيس المدرسة المارونيّة في روما سنة 1584 أفضل مثال على الشركة في المحبّة. لقد تجاوبت هذه المدرسة مع اهتمامات روما المباشرة في نشر الإصلاح التريدنتيني في الشرق، وأدخلت الموارنة في عصر النهضة منذ انطلاقتها. وأدّت دوراً ثقافيّاً مميّزاً بين الشرق والغرب، حاكى ما قام به السريان عموماً والموارنة خصوصاً إبّان حركة النقل الأولى، وهيّأ للنهضة العربيّة الثانية التي انطلقت في منتصف القرن التاسع عشر.
قدّر الباباوات ثبات الموارنة على الايمان المستقيم وتعلّقهم بالكرسي الرسولي عبر العصور بالرغم من الاضطهادات والمضايقات حسبما يتبيّن من تواتر القصادات ووفرة البراءات. وتكثّفت الرعاية منذ منتصف القرن العشرين. فحطّ البابا بولس السادس رحاله في لبنان وهو في طريقه الى الهند.
واهتمّ البابا القديس بولس الثاني بالموارنة وبلبنان اهتماماً بارزاً طيلة عهده. فكرّس لكنيسة لبنان سينودساً خاصاً، وزار وطن الأرز بالرغم من حراجة الظروف بين العاشر والحادي عشر من أيّار 1997. وخصَّ أهله، إكليروساً ومؤمنين، بإرشاد رسولي رجاء جديد للبنان ضمّنه كل ما يكنّه له من محبة، فجاء أجمل وأعمق وأصدق ما يمكن أن يكتب عنه، ويحدِّد هويته ودعوته ومصيره.
وتعقبّه البابا بندكتوس السادس عشر، فعقد سينودوساً من اجل الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، وأصدر إرشاداً رسولياً حول الكنيسة في الشرق الأوسط شركة وشهادة حمله خلال زيارته الى لبنان بين الرابع عشر والسادس عشر من أيلول سنة 2012. وسلّمه أيضاً للإكليروس والمؤمنين في يوم عيد الصليب الواقع فيه 14 أيلول. وهو يشرح وجود الكنيسة الكاثوليكية ورسالتها في هذا الشرق، ويستشرف أيضاً صعوباتها الحالية على درب الجلجلة والقيامة.
ويرافق البابا الحالي فرنسيس هذه الكنيسة الممتحنة بوجودها ورسالتها بصلاته ورعايته
 
  9- الموارنة والانتشار
يشكّل الانفتاح سجيّة لدى الموارنة، فلا غروَ من أن يكون عنصراً من عناصر تكوين هويّتهم؛ يدفع إليه التمسّك بالحريّة، وحب الاكتشاف والمغامرة، والطموح إلى الحصول على عيش كريم ومراقٍ في شتّى المجالات والقطاعات. انطلقت بوادره  في سياق مسيرتهم في ربوع سوريا الثانية، وفي أرجاء لبنان من شماله إلى جنوبه. ولعلّ الانتشار في آفاق العالم الواسع من أهمّ ثمار هذا الانفتاح. ولقد عرف هذا الانتشار موجات متلاحقة وسلك اتجاهات مختلفة. انطلقت الموجة الأولى بعد حوادث 1860 التي أبادت آلاف الموارنة في الجبل وهجّرت وشتَّتت الآخرين، ونهبت ودمَّرت قراهم. وعزَّزها ضيق الموارد في المتصرفيّة، فاتجهت نحو مصر ثمّ نحو الأميركتين. وتكثّفت الهجرة بعد الحرب العالميّة الأولى ومأساة الحصار والمرض والجوع والإبادة التي نتجت عنها وحملت الكثيرين إبّان عهد الانتداب الفرنسي على أن يؤموا أميركا وأستراليا، ومنهم من قصد بلدان أفريقيا. ولحقت موجة ثالثة بعد الحرب العالميّة الثانية في الاتجاهات نفسها. وتبعتها موجة رابعة إبّان الحروب التي عصفت بلبنان بين 1975 و1990، وقادت روّادها إلى كندا وأستراليا وبلدان أوروبا. وتلت موجة خامسة اختلط فيها اللبنانيون مللاً واتجاهات.
أثمرت جهود الموارنة في بلدان الانتشار وتسلّموا أعلى المراتب في شتّى الميادين في الحياة العامة كما في القطاع الخاص والمهن الحرّة، وانخرطوا في النسيج الاجتماعي حتى الانصهار في بلدان الاستقبال التي خدموها بكل أمانة وإخلاص، وعملوا على ازدهارها. وفاق عددهم أشواطاً عدد المقيمين، وانتشروا في القارّات كلّها فلم يخلُ بلدٌ منهم، وتضاعفت لديهم نواحي التعدديّة الثقافيّة حتى بلغت درجة مسكونيّة صريحة.
سعت الكنيسة إلى أن ترافقهم في جميع مراحل الانتشار، لكي تخفّف عنهم أعباء الهجرة ومتاعب السفر، وتسهّل عليهم سبل الاستقرار في البلدان الجديدة، وتؤمّن لهم وسائل التواصل مع أهل وأقارب افترقوا عنهم، وتنظّم صفوفهم بحسب عوائدهم وتقاليدهم وتراثهم وطقوسهم الدينيّة. واقتضى سدُّ هذه الحاجات التفاوضَ مع السلطات الكنسيّة الرومانيّة والمحليّة، والتواصل مع الحكومات والهيئات الدبلوماسيّة المختصّة. وهكذا تسنّى لها أن تعيّن لهم كهنة يتمّون شعائرهم الدينيّة، وأساقفة زوّاراً يتفقّدون أحوالهم، وموفدين يحثّونهم على الاحتفاظ بجنسيّتهم، أو السعي إلى اكتسابها. وبعد مضي ما يقارب المئة عام على بداية الانتشار، تأسّست الأبرشيّات تباعاً. 
وشجَّعت الكنيسة المارونيّة السلطات اللبنانيّة على عقد مؤتمرات تجمع المغتربين لتوثيق العلاقات بإخوانهم المقيمين، والاستفادة من خبراتهم وطاقاتهم. وأحس المنتشرون بضرورة تنظيم صفوفهم، وتوثيق عرى الاتحاد فيما بينهم، فأسَّسوا النوادي والجمعيّات والمنتديات. وأنشأوا  الاتحاد الماروني العام، وتمخّض عنه مؤتمران عالميان، عُقد الأوّل في المكسيك والثاني في نيويورك. وتجدر الإشارة إلى أنّ المنتشرين بادلوا وطنهم بالمودّة نفسها والإخلاص نفسه ووقفوا إلى جانبه وساندوه كلّ مرّة بدا المصير وكأنّه على المحكّ، ولاسيّما عند قيام الكيان سنة 1920، وعند صدور الدستور، وعند إعلان الاستقلال، ولما استعرت فيه الحروب بين 1970 و1990، والآن إزاء التهديد للوجود المسيحيّ في الشرق.
تظهر هذه اللمحة التاريخيّة بعض خصائص الموارنة، وهم يتميّزون بتمسّكهم بالإيمان بالله، وبمحبّتهم للكنيسة الجامعة الكاثوليكيّة، وبانفتاحهم على جميع الثقافات، وبتعاونهم مع مختلف الشعوب، وبطاقاتهم الكبرى على العمل والانتاج المثمر. أهّلتهم هذه الخصال أن يستقرّوا في أقطار الدنيا كافّة. وأن يتفاعلوا إلى أقصى الدرجات مع ثقافات بيئتهم ومحيطهم كما يشير هذا الدليل، وعيونهم تشخص شطر المدينة الثابتة.
 
  10- الحياة الرهبنية في الكنيسة المارونية
في كنيستنا المارونيّة مؤسّسات رهبانيّة عديدة، نسائيّة ورجاليّة، تضمّ حاليًا أكثر من ألف وخمسماية راهب وراهبة، تمتدّ جذورها في عمق الحياة الكنسيّة وتراثها، وهي تواصل أنماطًا تأمّليّة - رسوليّة عرفتها الكنيسة الأنطاكيّة منذ فجرها، وقد رافقت ولادة الكنيسة المارونيّة التي ترعرعت في مناخها، وبدونها ما كان لها أن تكون هي نفسها. يقول قداسة البابا: "منذ قديم الزمان كانت الحياة الرهبانيّة روح الكنائس الشرقيّة. فالرهبان المسيحيّون الأوّلون ولدوا في الشرق، والحياة الرهبانيّة كانت جزءًا من نور الشرق الذي نقله إلى الغرب كبار آباء الكنيسة غير المنقسمة"[30]. فقبل قراءة الحياة الرهبانيّة في واقعها الراهن، بنظامها وتطلّعاتها، نستعرض باقتضاب أهمّ ما توفّر من معلومات حول مصدر هذه الحياة وانطلاقتها ولاهوتها ومكانتها ودورها في الكنيسة المارونيّة، فنتكلّم على جذور هذه الحياة، ثمّ نوجز أبرز محطّاتها التاريخيّة، ونخصّص فصلاً،لروحانيّة الحياة الرهبانيّة، وقوانينها، وعلاقتها بالسلطات الكنسيّة. وبعد أن نعرض حقول رسالتها، نحاول الوقوف على مدى نهلها حاليًا من المعالم الروحانيّة الأولى وحرارتها وينابيعها، وهو أمر مفترض في أساس كلّ تجدّد، والشرط ضروري لتحديد الهويّة.
 
  11- روحانية العمل المؤسساتي في الكنيسة المارونية 

المجتمع الذي تدافع عنه الكنيسة المارونيّة وتريد بناءه، هو مجتمع تكون مؤسّساته والعلاقات فيه منظّمة وفاعلة في خدمة الإنسان؛ مجتمع يتألّف من أشخاص أحرار ومتساوين ومسؤولين. كلّ ذلك لكي تبقى وفيّة للمبادىء التي عاشتها ثوابت في تعاطيها مع القضايا التي واجهتها عبر تاريخها؛ خاصّة أنّ هذه الثوابت تتلاءم مع المبادئ الأساسيّة في تعليم الكنيسة الاجتماعيّ، وأهمّها:
 

  1. التضامن
    وهذا التضامن، كما يقول يوحنّا بولس الثاني: "ليس شعورًا بتعاطف مبهم، أو بتحنّن سطحيّ إزاء الشرور التي يعاني منها أشخاص عديدون، قريبون أو بعيدون. بل إنّه العزم الثابت والدائم على العمل من أجل الخير العام، أيّ من أجل خير الكلّ وكلّ فرد، لأنّنا جميعنا مسؤولون حقًّا عن الجميع"[1].
    والكنيسة المارونيّة عاشت مبدأ التضامن هذا عبر تاريخها، عندما كان المسيحيّون يمارسون نظام "العونة" في ما بينهم، وفي تأمين حاجات معيشتهم. كما أنّها لا تزال تشدّد عليه في مختلف الوثائق التي تصدرها[2]، وتمارسه من خلال مؤسّساتها الكنسيّة العديدة، والتي تطلب إليها مضاعفة جهودها باستمرار.

  2. العدالة
    العدالة لا تعني أنّ كلّ البشر متساوون في كلّ شيء، أو يجب أن يكونوا على هذا النحو؛ فاللّه خلق الناس متنوّعين، والطبيعة قائمة على هذا التنوّع إذ "يستحيل، في المجتمع المدنيّ، أن يرتفع كلّ الناس إلى مستوى واحد"[3].
    العدالة تعني، بالحريّ، أنّ جميع البشر، بالرغم من كلّ تمايزاتهم، هم متساوون في بنوّتهم للّه وفي كرامتهم الإنسانيّة، وفي تمتّعهم بالحقوق البشريّة الأساسيّة. وهذه "العدالة الطبيعيّة" هي من صنع اللّه، ولا يحقّ لأيّ كان، فردًا أو جماعة أو دولة، أن يتخطّاها أو يعمل بنقيضها.بالعكس، واجب الفرد والدولة ووظيفتهما أن يعملا على احترام هذه العدالة وتحقيقها، فتصبح "عدالة اجتماعيّة" لجميع النّاس، هدفها تخفيف الفوارق بين الأفراد والقطاعات والمجتمعات والشعوب، وتوفير تكافؤ الفرص للجميع على جميع المستويات.
    والكنيسة المارونيّة تتبنّى هذين المفهومين للعدالة الطبيعيّة والعدالة الاجتماعيّة؛ ولا تنفكّ تدعو الأفراد والمؤسّسات، الكنسيّة منها والمدنيّة، والدولة، للعمل على تحقيق هذه العدالة للجميع، خاصّة الفقراء والمحتاجين والمعوزين الذين لهم الأفضليّة في رسالة الكنيسة.
     

  3.  الترقّي
    العدالة لا تكتمل إلاّ بترافقها مع ترقّي الإنسان. والترقّي، مفهوم مسيحيّ، يرتكز على النموّ الاقتصاديّ والإنماء الاجتماعيّ ليتخطّاهما إلى ما هو أرفع وأسمى للإنسان، إذ يقوده نحو كمال الله.
    والكنيسة المارونيّة، عبر تاريخها، كانت رائدة في مجال إنماء مجتمعها وترقّيه. فهي التي عمدت إلى نشر التعليم، خاصّة منذ إنشاء المدرسة المارونيّة في روما عام 1584؛ وهي التي أقرّت، إبّان المجمع اللبنانيّ الذي انعقد العام 1736، التعليم الإلزاميّ والمجانيّ لجميع الأولاد الموارنة، حتى الفتيات منهم، وأجبرت كلّ رعية وكلّ دير على أن ينشئ مدرسته الخاصّة.
    وهي التي، من خلال نظام الشراكة، عمّمت الأعمال الزراعيّة، ونمّت الأراضي الوعرة في الجبل اللبنانيّ. وقد كان الرّهبان، خاصّة، يعملون قبل الشعب ومعه في الزراعة، وتربية المواشي، وصناعة الحرير… كما مارسوا الحِرَف على أنواعها، وعلّموها عامّة الناس، من طباعة، وحياكة، ونجارة، وصناعة فخّار، وبناء، وحدادة، الخ…
    والدير في مفهوم الموارنة ليس مكان صلاة وحسب، بل مركز عبادة وعمل ومدارس للتعليم، ومنطلق رسالة حضاريّة. لقد كانت الأديرة نواة لتجمّعات اقتصاديّة واجتماعيّة هامّة، يعيش فيها "الشركاء" في مزارع صغيرة تحوّلت، مع الوقت، إلى قرى كبيرة ومزدهرة. ولم يغِب كاهن الرعية عن هذه الرسالة فكانت معه مدرسة تحت السنديانة.

 
 
المراجع:
 
  1. - هنري لامنس، تسريح الابصار فيما يحتوي لبنان من الآثار، بيروت، دار الرائد اللبناني، 1982، الطبعة الثانية، "إنّ لبنان ما طرأ عليه من تقلّبات الاحوال وتعاقب الأمم في سكناه لم يزل مقاماً لشعب أصلي كان سامياً يغلب عليه العنصر الكنعاني والآرامي"، 93-95. ويعتبر لامنس استناداً الى مُمْسِن أنّ لبنان "بقي أرامياً جنساً ولغةً الى نحو القرن السابع عشر من تاريخ الميلاد"، ص 94. يحتلّ "الكلدانيون وهم السريانيون" المرتبة الثانية بين الأمم لدى المسعودي استناداً الى أرسطو. "وكانت بلاد الكلدانيين العراق وديار ربيعة والشام وبلاد العرب اليوم وبرّها ومدرها اليمن وتهامة والحجاز... وهذه جزيرة العرب كانت كلّها مملكة واحدة يملكها ملك واحد ولسانها واحد سرياني وهو اللسان الأوّل لسان آدم ونوح وابراهيم عليهم السلام"، راجع كتاب التنبيه والإشراف، بيروت، دار التراث، 1968، ص 68-69، 70.
  2. 2- متّى 15، 21-28 شفاء ابنة الكنعانية 21 " ثمّ خرج يسوع من هناك وذهب الى نواحي صور وصيدا". ومرقس 7، 24-30، 31 "وانصرف من اراضي صور ومرّ بصيدا قاصداً الى بحر الجليل، ومجتازاً أراضي المدن العَشْر".
  3. 3- أعمال الرسل 11، 26 "وفي انطاكيا سُمِّيَ التلاميذ أوّل مرّة مسيحيين".
  4. 4-راجع عن نشاط الرهبان الرسولي.

    Canivet, Théodoret et le monachisme syrien avant le concile de Chalcédoine, Paris, Aubier 1961. Vööbus A., History of Asceticism in the Syrian Orient, t. II, Early Monasticism in Mesopotamia and Syria, CSCO CXCVII, subs., t. XVII, Louvain 1960.

  5. 5-تيودوريتوس أسقف قورش، تاريخ أصفياء الله، ترجمه عن أصله اليوناني الأرشمندريت أدريانوس شكّور، الرهبانية الباسيليّة الحلبيّة، 1987.
    Théodoret de Cyr, Histoire des moines de Syrie, Histoire philothée, Paris, Cerf, 1977. (SC 1978, 234)
  6. -أبو الفداء، المختصر في تاريخ البشر، منشورات دار الكتاب اللبناني، ص 81.
  7. 7-Procopius, De aedificiis, 1888, VIII, p. 328 8-Mansi, t. VIII, col. 452-429. Réponse t. VIII, col 1023-1030
       Harald Suermann, Histoire des origines de l’Eglise maronite, PUSEK, 2010, p. 109- 121.
  8. بولس نعمان، المارونية لاهوت وحياة، الكسليك : جامعة الروح القدس، 1992 الملاحق 159-172.
  9. 9-مار ميخائيل السرياني الكبير، الناشر غريغوريوس يوحنا ابراهيم، حلب، دار ماردين، 1996، ص 302:
    " فغضب هرقل وكتب الى كافة أنحاء المملكة يقول: كل من لا يقبل مجمع خلقيدونية يُقطع أنفه وآذانه وينهب بيته. واستمرّ هذا الاضطهاد مدة غير يسيرة، فقبل العديد من الرهبان المجمع. وظهر غش رهبان جماعة مارون والمنبجيين والحمصيين والمناطق الجنوبيّة. وهكذا قبل معظمهم المجمع واغتصبوا الكنائس والأديرة، ولم يسمح هرقل لأحد من الارثوذكس بزيارته، ولم يقبل شكواهم بصدد اغتصاب كنائسهم. وان الله إله النقمة الذي وحده له سلطان على كل شيء، وهو الذى يغير الملك كما يشاء ويعطيه لمن يشاء، يقيم عليه الضعفاء، اذ رأى خيانة الروم الذين كانوا ينهبون كنائسنا وأديرتنا كلما اشتدّ ساعدهم في الحكم، ويقاضوننا بلا رحمة، جاء من الجنوب بأبناء اسماعيل، لكي يكون لنا الخلاص من أيدي الروم بواسطتهم. أما الكنائس التي كنا قد فقدناها باغتصاب الخلقيدونيين اياها، 
  10. 10-جدل بين اليعاقبة والموارنة امام معاوية، راجع  المشرق 2 (1899)، ص 267.
    "وفي سنة 970 وهي 17 من ملك قسطنت (1 في شهر حزيران ... أتى أسقفا اليعاقبة تاودروس (2 وسبُوخت (3 الى دمشق وضعا جدالاً امام معاوية مع أصحاب مار مارون في أمر الايمان. ولما غُلبا أمر معاوية أن يدفعا لهُ عشرين ألف دينار ووصَّاهما ان يبقيا في الهدوّ. وجرت العادة مذ ذاك لاساقفة اليعاقبة ان يدفعوا كل سنة مثل هذا المبلغ لمعاوية لئلاَّ يكفَّ عنهم يدَهُ فيتعقَّبهم ابناء الكنيسة 4"، 
    Andrew Palmer, Une chronique syriaque contemporaine de la conquête arabe, in La Syrie de Byzance à l’Islam VIIe- VIIIe siècles, publiés par Pierre CANIVET et Jean-Paul COQUAIS, p. 31- 46
  11. 11-Harald Suermann, “Die Lage des Klosters Mar Maron”, dans: PdO 13, 1986, 197-223.
  12. 12-المسعودي، كتاب التنبيه والاشراف، نشر دي كوجيه (de M. J. de Coeje)، ليدن، 1849، ص 153-154. 
  13. 13-المجمع البطريركي الماروني، الملف الأوّل، هويّة الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها، النص الثاني هويّة الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها، العدد 8.
  14. 14-Harald Suermann, « L’échange de Lettres entre les Maronites et les Sévériens », dans PdO 20 : 1995, 271-278.
  15. 15-تاريخ مار ميخائيل السرياني، الجزء الثاني، مار غريوريوس يوحنّا ابرهيم، 1996، ص 403:
  16. 1
  17. 1
  18. 1
  19. 19 - Guillaume de Tyr (P. 246-247)
    "ثمّ أنّ أمة من السريان في صقع فونيقي في نواحي جبال لبنان عند مدينة جبيل تغيّرت من حال الى حال. وذلك انها بعد أن لبثت نحو خمسمائة سنة متبعة ضلالة رجل مبدع اسمه مارون الذي نسبت اليه تسمت جماعتها موارنة وانفصلوا عن كنيسة المؤمنين وكانوا يقضون أسرارهم على حدة رجعوا بالهام إلهي عن غيهم ونزعوا عنهم توانيهم واقبلوا الى ايمريك البطريرك الانطاكي الذي هو ثالث بطريرك لاتيني يسوس الان تلك الكنيسة ورفضوا ضلالتهم التي كانوا متشبثين بها وقد اضرت بهم كثيراً ثم عادوا الى وصال الكنيسة الكاثليكية وتمسكوا بالايمان القويم. واستعدوا أن يتبعوا تعاليم الكنيسة الرومانية ويحترموها غاية الاحترام ويجتهدوا في حفظها. وكانت جماعة هذه الطائفة غير زهيدة. بل قيل أن الذين كانوا يسكنون نواحي جبال لبنان وبقاعه كما قلنا في اسقفيات جبيل والبترون وطرابلس كان عددهم ينيف على الاربعين ألفا. وكانوا رجالاً أقوياء وأشداء في حمل السلاح. وكانوا ينفعونا جداً في مصالحنا العظيمة الكثيرة التي كانت لنا مع أعدائنا. ولذلك قد شمل قومنا فرح جزيل برجوعهم الى استقامة الايمان. وأما ضلالة مارون وتباعه الذي كان لهم أولاً والان فهو قولهم بأن في ربنا يسوع المسيح مشيئة واحدة وفعلاً واحداً منذ الأزل كما يقرأ في المجمع السادس الذي عقد ضدهم كما هو معلوم وفيه حكم عليهم بالاشجاب. وهذا الضلال الذي رفضته كنيسة الارثذكسيين قد زادوا عليه ضلالات أخرى كثيرة مضرّة جداً بعدما افترقوا من جماعة المؤمنين. ولكنهم ندموا على هذه الضلالات كلها كما قلنا. ورجعوا الى الكنيسة الكاثليكية مع بطريركهم وبعض أساقفتهم. وهؤلاء كما كانوا قد تقدموهم سابقاً في الكفر كذلك تقدموهم الان في معرفة الحق."11
     
  20.  20- "بسم الله الحي الدائم. في سنة 1746 تجدد هذا الهيكل على يد الأخوين الكاهنين امون (كلمة غير مقرؤة) وقد كان صنعه أربعة بطاركة بطرس وارميا ويعقوب ويوحنا، سنة 1121.
  21. 21- بسم الله الحي الى الأبد. في سنة 1588 يونانية تمّ هذا البناء، بناء دير والدة الله مريم صلاتها معنا أمين. على أيدي الخطأة داود ود...تس (الاسم غير مقروء) وبطرس ويوحنا.
  22.   22- المجمع اللبناني، ترجمة المطران يوسف نجم، جونيه، مطبعة الأرز، 1900، ص 430-432 حيث يعدِّد المجمع المراكز البطريركية.
  23.    23- راجع هوامش انجيل ربّولا.
  24. 24- المجمع اللبناني، ص 432.
  25. - كمال الصليبي، " البطريركيّة المارونيّة في تاريخ الشرق العربي"، ص 45.
    "تاريخ الموارنة هو تاريخ كنيسة وشعب في آنٍ واحد. وما تاريخ الكنيسة المارونيّة إلاّ تاريخ المؤسّسة المستمرّة دون انقطاع من القرن السابع الميلادي، حتى اليوم التي قادت الشعب الماروني عبر العصور منذ أن نشأ هذا الشعب بشخصيّته المميّزة في وادي العاصي، وبعد انتقاله إلى المناطق الشماليّة من جبل لبنان "من الدريب لبلاد الشوف" (على حدّ قول جبرائيل ابن القلاعي)، وكذلك عقب النزوح الماروني في الفترة العثمانيّة من المناطق الشمالية هذه إلى سائر المناطق اللبنانيّة، وحتى قيام الدولة اللبنانيّة الحاليّة واستقلالها في العصر الحاضر. في جميع هذه العصور لم تقتصر مهمّة الكنيسة المارونيّة، بقيادة بطاركتها المنتخبين، على تدبير الأمور الكهنوتيّة والروحيّة للطائفة، كما كان شأن غيرها من الكنائس الشرقيّة، بل كانت لها في الوقت ذاته زعامة شعبيّة تفرض عليها الاهتمام بشتّى الأمور الزمنيّة. وقد كان البطريرك الماروني على مرّ الأزمنة رئيساً للبيعة و"أميراً للمؤمنين".
  26.  26- راجع عن بدايات لبنان كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان 634- 1516 م، بيروت، نوفل، طبعة ثانية 1992.
  27.  27 -  لم يكن هذا الإنجاز ليتحقّق، على حدّ قول المؤرّخ كمال الصليبي، لو لم "يتمكّن الموارنة عبر العصور، من المحافظة بدافع فطرتهم القوميّة، على هويّتهم التاريخيّة عن طريق الثبات في الموقف، والكفاح المستمر ضدّ الجور، والتعلّم من الأخطاء، والحكمة في انتقاء الأصدقاء، والاستعداد للتفاهم مع الغرباء والأضداد، والانفتاح على الحضارات، والحوار مع الآخرين قبل أخذ القرارات، والوفاء لكل من مدَّ لهم يوماً ما يدَ المساعدة وأظهر نحوهم عطفاً وتفهّماً وحسن مبادرة. إن هذا كلّه، مكّن الموارنة من المحافظة على حقوق الإنسان في العيش بحريّة وكرامة على مرّ الأجيال، ومن المساهمة في خلق وطن يضمن هذا الحق لجميع أبنائه".
    راجع كمال الصليبي، المقال المذكور، ص 47.
  28.  28- الأب حليم نجيم، الدكتور بيار مكرزل، الفرنسيسكان والموارنة (1233- 1516)، بيروت 2009.
  29.  29- Sami Kuri, Monumenta Proximi-Orientis I (1523-1583), Rome 1989; III (1583-1623), Rome 1994.
  30. يوحنّا بولس الثاني، نور الشرق، 3 ايار 1995، رقم 9.
  31. 1
  32. 1

 

©   pure software code 2018