مارونيات   ماذا في اسباب هجرة الموارنة واتجاهاتها؟
 
الهجرة من العام 1860 وحتى العام 1920
   
 
   مقدمة

قبل أن نغوص في الأسباب والنتائج التي دفعت اللبنانيين الى الانتقال من ربوع بلادهم الخضراء الى بقاع الأرض الخصبة بالأحلام، نتوقف أمام مشاهد المغتربين الوافدين الى لبنان إثر كل محنة، وفي كل عيد ومناسبة وعطلة... وهم يقبلون أرض مطار بيروت الدولي، معلنين بالفم الملآن، وبالعربية المتكسرة أحيانا: نيال اللي إلو مرقد عنزة في لبنان

مشاعر المغتربين الى لبنانهم تستمر قوية، على الرغم من أن أحلامهم بنيت في بلاد الانتشار، لكن قلبهم هنا وعينهم على هنا ونبضهم يظل يخفق قويا كلما مرّ اسم مسقط رؤوسهم في بالهم... انه شعور غريب عجيب يصعب تفسيره

 
  1- أسباب الهجرة من العام 1860 وحتى العام 1920

لكل سبب علة، ولكل هجرة دوافع، فالانسان، مطلق انسان، لا يقوم بعمل، خصوصا إذا كان من نوع توضيب أمتعته والبحث عن وطن بديل، إذا لم يكن قد بلغ ذروة اليأس من جدوى بقائه في موطئ عمره... والهجرة، كما نعرف، ليست وليدة البارحة، بل بات بينها وبين الشعوب علاقة ودّ. ولعلها أحد أهم أسس تطور الحضارات وانتشارها في العالم

إذا كان هذا ما يجري في مختلف أنحاء العالم فما هي، بالتحديد، حال لبنان؟
 
للتنويه فقط، بما ان الهجرة اللبنانية او الاغتراب اللبناني او الانتشار اللبناني بغالبيته من المسيحيين الموارنة، لذا فالحضن الماروني اللبناني هو نبع التحليل، دون السهو ان خصوصية موارنة الشرق الاوسط،  سوريا وفلسطين و ...، تتكافل مع خصوصية موارنة لبنان .

 1- الهجرة اللبنانيّة عامة

عمر الهجرة اللبنانية من عمر تاريخ لبنان. انها قصة شعب طالما شعر بالتهديد. شعبٌ كافح وجاهد في سبيل حريته واستقلاله وعيشه الكريم، فاقتحم البحر وعبر اليابسة متلمسا مستقبله. وأولى مشاهد الهجرة اللبنانية تلوح أيام الفينيقيين الذين استخدموا البحر وسيلة نقل وانتقال، فقطعوا مسافات وأنشأوا في كل بلد حطوا فيه مستعمرة. اخترعوا الأبجدية، أساس لغاتنا، وحملوها الى كل العالم. وبلغوا شمال أفريقيا، وبنوا فيها مدينة قرطاجة، تونس حاليا، التي نافست روما في ميادين مختلفة. وتمركزوا أيضا في اليونان وفي مختلف أنحاء الأمبراطورية الرومان ية. وتوسعوا في أسبانيا وانتشروا على شواطئ انكلترا. وسميت القارة الأوروبية، كما هو معلوم، تيمنا بفتاة فينيقية: أوروب
 

اجتاز الفنيقيّيون الأطلسي، وداروا حول افريقيا واكتشفوا اميركا قبل كريستوف كولومبوس، بدليل وجود كتابات كثيرة:

  • في البرازيل، حفرت على صخرة Pouso Alto في منطقة Paraíba
     وصخرة Pedra da Gávea  في منطقة Rio de Janeiro

  • وافي الولايات المتحدة الأميركيّة على صخرة Dighton Rock  في ولاية Massachussetts

 

السبب الأول والأهم للهجرة اللبنانية كان كسب الرزق والتجارة، وتدريجيا، مع مرور العقود، تحولت الهجرة الى اغتراب طويل طويل... واشتدت في العصور الوسطى، خصوصا في منطقة جبل لبنان، التي ارتاد بعض أهاليها عواصم التجارة العالمية مثل بيزا وجنوا ونيس والبندقية. وتحولت الهجرة في عهد المماليك الى هرب من الاضطهاد الديني، والوجهات الجديدة كانت القدس ورودس ومالطا وقبرص 

لعبت الحروب دورها في الموضوع، بعدما أصبح لبنان مسرحاً لأحداث عبثية وفتن وثورات كانت غالبا خارجية الامتداد، ولاقى أهل هذا البلد الجميل ضغوطات وعذابات وواجهوا الضيق المعنوي والمادي، ولا سيّما منهم مسيحيو الجبل، ما اضطّرهم إلى اتخاذ خيار الهجرة هربا من واقع أليم 

يبقى أن الإغتراب الحقيقي الواسع بدأ عملياً عام 1860 واستمرّ حتى العام 1920 تاريخ إنشاء دولة لبنان الكبير. فتضاءل بعد هذا الإعلان نسبيا، وعاد ونشط في منتصف سبعينات القرن الماضي، وتحديدا مع بداية الحرب اللبنانية وما زال مستمرا حتى اليوم

 
 2- أسباب الهجرة الخاصة

في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين شهدت حركة الجهرة اللبنانية إلى القارة الأميركية الكثير من التطور. ففي البداية كانت الهجرة تتم عشوائياً، بمعنى أن المهاجر ما كان ليهتم كثيراً بالمكان الذي سيستقر به، ذلك أن جل همه كان محصوراً بالتخلص من حالة الفقر والظلم التي عاشها في موطنه الأصلي. لذلك كان يرتضي الحلول في أي مكان، في مقر إقامته الجديد، شرط أن يوفر له هذا المكان ظروف العمل المعقولة، ويدر عليه ربحاً ما يرسل جزءاً منه إلى ذويه، ويحتفظ بالباقي لتكوين رأسمال ربما يكون زوادة له إذا ما صمم على العودة، ذات يوم، نهائياً إلى مسقط رأسه  

تنطبق أسباب ودوافع الهجرة اللبنانيّة العامة الى كافة البلدان على الهجرة البعبداتيّة بشكل عام، وإنما هناك أسباب وعوامل خاصّة ببعض البلدان التي قصدها اللبنانيّين شجّعت الهجرة أو إختيار إحدى هذه البلدان
 

بدأت الهجرة اللبنانيّة الاولى بإتجاه القارة الأميركيّة، وقد إعتمد المهاجرون اللبنانيّون المهنة نفسها ألا وهي التجارة، عكس مهنتهم الأساسيّة في لبنان والتي كانت ترتكز أساساً على الزراعة، فأصبحوا تجاراً جوَّالين عُرفوا في البرازيل بالـ Mascate

وفي الولايات المتحدة الأميركيّة بالـ Peddler

أو ما أطلق عليهم اسم "تجَّار الكشّة" (والكشّة هي كلمة برتغالية وتعني الصندوق). لقد اعتمدوا الكشة لأنها عمل لا يتطلب الخبرة والعلم ولا رأسمالاً ولا مهارات لغوية متقدمة، ولأنها ذات مردود سريع، واستقلالية في التحرك، مشرعة على شتى أنواع التغيير، وهي حرة لا دوام عمل لها، عدتها صندوق خشبي تصل زنته أحياناً إلى 50 كلغ، يحمله البائع على ظهره ويسير به مسافات طويلة تبدأ عند الفجر ولا تنتهي إلا عند غروب الشمس. وكانوا يضعون في الصندوق بعض الحاجات من خيوط وإبر ودبابيس وجوارب وصابون وعلب السجائر وأمشاط ومرايا وعطور وألبسة داخلية وأنسجة وثياب جاهزة ... ويبيعونها في شوارع المدن وفي الأرياف. وقد عُرفوا أيضاً باسم "أتراك التسليفات" لأنهم كانوا يبيعون بضائعهم بالدَين إلى مدة معينة، كما أطلق عليهم في بعض المناطق اسم "أصحاب الطَرقة" لأن المتر الخشبي الذي استعملوه للقماش كان كمطرقة مؤلفة من قطعتين من الخشب موصولتين بسوار جلدي، وكانت هاتان القطعتان تُحدثان لدى ضرب إحداهما بالأخرى صوتاً (تراك تراك) معلناً عن وصول البائع الجوَّال

 

كان تجار الكشّة يبدأون عملهم في الصباح الباكر فيجتازون الشوارع والطرق باحثين عن البيوت ومتحملين الحر والبرد والمطر، مزوِّدين أنفسهم خبزاً وجبناً وموزاً ليأكلوا الوجبة الوحيدة التي كان في إمكانهم تناولها خلال النهار. إجتازوا المناطق من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب، ومرّوا في الضواحي والمدن الداخلية والمزارع وقلب الغابات والسهول النائية ، و قطعوا سيراً على الأقدام أو على ظهور الخيل طرقاً يتصاعد منها الغبار أو موحلة  

واجهتهم مخاطر كثيرة منها وعورة المناطق وقطَّاع الطرق، والحيوانات المفترسة، فعرفوا الجوع والإعياء والمبيت في العراء أو في الحظائر أو على العشب الرطب، وتمضية ليالٍ طوال من الجوع وجفاف الحلق. وتشققت أرجلهم من السير الطويل في أراضٍ وعرة. واعتدى عليهم اللصوص، فخسروا رفاق درب، وتحملوا شتّى أنواع العقبات من تعديات وإهانات وإغلاق الأبواب في وجوههم وغيرها... ولحقت بهم الإهانات، واضطروا إلى الفرار من فوهات بنادق المزارعين التي وجهت إلى صدورهم، والهرب من وجه كلاب مسعورة تطاردهم. لكن المنتشرين عرفوا كيف يصبرون ويتجاوزون صعابهم بدهاء وحذق، معتمدين على ما كسبه بعضهم من معرفة بعادات البلاد وتقاليدها  

تجارة الكشّة مهّدت الطريق الى حياة أفضل، إنتقلوا بعدها الى فتح محلاّت تجاريّة في أماكن عدة، وأخذت شهرتهم تكبر شيئاً فشيئاً. وقد برعوا في مجالات عدة مثل الصناعة والزراعة والسياسة والطب والمحاماة والعلوم والهندسة والصيرفة والأدب وغيرها، ووصلوا الى مراكز مهمّة وعاليّة جدّاً، جعلتهم شعباً مميّزاً

1- الأسباب الجغرافية

يقع لبنان في نقطة إلتقت عندها عبر التاريخ مختلف الشعوب، وانفرد بموقع جغرافي مهمّ كجسر يربط الشرق بالغرب. وبسبب موقع لبنان حيث الجبل والبحر والسهول الضّيقة والشواطىء الصخرية ... وتركيبة طوبوغرافيّته، فَرَضت عليه ان ينفتح على العالم، فساهمت في خلق الشخصية اللبنانية الفريدة في الحب للحرية، والرغبة في المغامرة. فتولّدت رغبة الهجرة والإتجار، وهانت عليه أمور ترك البلاد والإغتراب

 
2- الأسباب الإقتصاديّة

2.1- الزراعة
 ان أول سبب يدعو الى الهجرة هو الفقر الذي يهرب منه الإنسان في سبيل البقاء على قيد الحياة. كانت الزراعة في لبنان تُعتبر المورد الأساسي الذي كانت تعتمد عليه أكثرية السّكان. وقد ظلّت الزراعة عاجزة عن تأمين الإنتاج المطلوب، لأسباب عدة أهمها:
 
  • ضيق الأراضي الزراعية ضمن مناطق جبلية صخرية
  • جهل الفلاح للطرق الزراعية المتطورة، فضلاً عن تواتر فترات الجفاف
  • تطوّر زراعة التوت على حساب الزراعات الأخرى
  • الإقطاع المتسلّط، ولا سيّما في الولايات الخاضعة للسلطنة العثمانيّة، والذي تمثّل باستغلال الفلاحين وبساطتهم، وأثقل كواهلهم بالأعباء المرهقة المتعددة
  • المصادرات وأعمال السخرة التي مورست بحق الفلاحين
  • كانت عمليات الإقراض نادرة، وتتمّ خفية، وبشروط باهظة. ما أجبر الفلاح اللبناني على بيع غلّته لدائنه بأبخس الأسعار
  • الأمراض التي كانت تصيب المحاصيل الزراعيّة وتسبّب للفلاحين أضراراً جسيمة
  • الصعوبات في تصريف الإنتاج
فُرضت على الفلاحين ضرائب كثيرة كانت تُستَوفى مضاعفةً عمّا هي عليه، فاُكره الجميع على دفعها، وقامت ثورات في مختلف المناطق اللبنانية رافضة المشروع الضريبي. كانت هذه الضرائب تُرهق الفلاح وتُثقـله بحيث كان يدفعها كل شخص يتراوح عمره بين 18 و 60 سنة. ولم يقتصر التذمّر على الضرائب الفاحشة فقط، بل شمل أيضاً الطريقة الكيفية والفظّة في تحصيلها ما أضّر بمصالح الفلاّحين وزاد من إرهاقهم، مما شجّعهم على مغادرة البلاد 
 وإن أبرز المزروعات التي إعتنى بها اللبنانيّون كانت الزيتون والكرمة والتوت:
 
  • فقد شكّل الزيتون الذي زُرع في معظم المناطق الساحليّة والجبليّة مورداً مهمّاً وأساسيّاً في الحياة اللبنانية. إلا أن عوامل عديدة لا سيّما منها الهبوط في الأسعار من جرّاء غزو الزيت الأوروبي المستخرج من السمسم وغيره، أضعفت من محصوله وإنتاجه 
  • امّا الكرمة، التي كانت ثاني أهمّ إنتاج اللبنانيين بعد تربية دودة القزّ، فقد أصيبت ايضاً زراعتها بالإنحطاط والتقهقر، ولم يتوفر لها معامل مُتطوّرة لإستخراج النبيذ والعرق (العرق هو مشروب لبناني يُستخرج من العنب). وغالباً ما أصيبت الكروم بأمراض لم يستطع المزارع مواجهتها بسبب تقنيّته البدائيّة 
  • وأما زراعة التوت، التي كانت أهم وأكبر إنتاج زراعي في لبنان كونها الأساسيّة التي تفيد في تغذية دودة القزّ التي تُنتج الحرير، فقد إختارها اللبناني لتَعَذّر زراعة الحبوب في الجبل، وكان إنتاج الحرير يُعد من أهم المداخيل، وإنما عوامل عدّة واجهها هذا القطاع، مما أدّى الى زواله
 
2.2- الصناعة
 اقتصرت الصناعات التي كانت سائدة في المجتمع اللبناني على أعمال عائليّة صغيرة وبسيطة وعلى أشغال يدويّة وحِرَفيّة بدائيّة مثل غـزل الحرير والحياكة الصّوفيـّة والقطنيـّة والدّباغة وصناعة الصّابون والسكافة والخياطة وتقطير الكحول وإستخراج الزيت 
أما صناعة الحرير فكان لها أهميـّة كبرى في الإقتصاد الوطني، اذ صرف الفلاّح اللبناني إهتمامه الى تربية دودة القزّ، بإعتبار موسم الحرير من أكبر الدّعائم الإقتصاديـّة، حيث شكّل نسبة 60% من واردات الجبل، وأصبح الإنتاج يُصدر معظمه الى فرنسا. وبالرغم من ذلك، أخذت تربية دودة القزّ ومعها صناعة الحرير بالتقهقر والإنحطاط، ويعود السبب في ذلك الى عدة عوامل أهمها:
 
  • الأمراض التي أصابت أغراس التوت ودودة القـزّ
  • جهل المزارع والصناعي للطرق الحديثة في تربية وصناعة حلّ الحرير والنسيج
  • مزاحمة المنسوجات الإفرنجيـّة الدقيقة الصنع والرخيصة الثمن والجميلة المنظر للمنسوجات الوطنيـّة اللبنانيـّة
  • شقّ قناة السويس في مصر، في العام 1869 الذي فتح الباب أمام الشرق الأقصى، فزاحم الحرير الصناعي الياباني والصيني الحرير اللبناني في أسواق أوروبا
 ولهذه الأسباب، خسر فريق من التجّار أمواله وأوقف بعض الصناعيّين معاملهم، ما قلّل من عدد المعامل والأنوال في القرى التي كانت مشهورة بصناعة الحرير مثل بعبدات، التي كان يوجد فيها 12 معملاً للحرير (كرخانة) قبل الحرب العالميّة الأولى. وبذلك عمـّت موجة من البطالة، وعزم فريق من اللبنانيين على الهجرة 

 2.3- التجارة
لقد تحّول قسم من اللبنانيين الى العمل في قطاع التّجارة التي ترتبط بموقع البلاد الجغرافي والطبيعي، وانما بدا انّه لا يمكن الإعتماد عليه بحيث لا منفذ بحري للجبل ولا مواد كافية للتجارة، وميدان العمل ضيـّق، ما دفع بالكثير الى مغادرة وطنهم وهجره من أجل تأمين القوت اليومي والإسترزاق 

فضلاً عن ذلك، كانت المواصلات رديئة وسيّئة وقليلة، والإنتقال يتمّ على ظهور الحمير أو البغال أو الجِمال... وان الكثيرون قد تجنّبوا إستعمال العربة خوفاً من اللصوص وقطّاع الطرق ورجال السلطة

 
3- الأسباب السياسيّة

كان لإتجاهات السياسة العثمانية على لبنان أثر بيّن في هجرة أبنائه، وكان تعدّد الأديان والمذاهب يتحكّم في ضعف جبل لبنان. إستفاد العثمانيّون من ذلك، واتبعوا سياسة فرّق تسد، وزرعوا بذور الفوضى والتفرقة بين الطبقات الإجتماعيّة والمذاهب الدينيّة، وأصبح الجبل مسرحاً للمذابح والفتن

  وفي العام 1860 حصلَت مجازر بين المسيحيّين الموارنة خاصةً والدروز (الموارنة يتبعون المذهب الماروني الذي هو فرع مسيحي كاثوليكي شرقي يخضع لسلطة الفاتيكان، ويُنسب الى القدّيس مارون، وأما الدروز فهم فرقة دينيّة تُنسب الى الإسلام) شمَلت لبنان كلّه تقريباً، فكانت النتيجة قتل آلاف المسيحيّين، ونهب وتخريب وتدمير مئات المنازل والمدارس والأديرة والكنائس والقرى

  وعلى أثر هذه المجازر، تدخّلت بعض الدول الأوروبيّة وعقدَت مع السلطنة العثمانيّة تسويةَ في حزيران 1861، صدر بموجبها نظام عُرف بالبروتوكول، قضى بسلخ مناطق الشمال والجنوب والبقاع وبيروت الغنيّة بسهولها الزراعيّة، عن منطقة جبل لبنان الجبليّة الصخريّة، وإخضاعها للحكم المباشر للسلطنة العثمانيّة، كما تم الإتفاق على تعيين متصرّف مسيحي غير لبناني على جبل لبنان - نشير هنا الى أن السلطة العثمانيّة كانت تحكم المنطقة العربيّة والبلقان حتى العام 1918، واما تركيا الحاليّة فأصبحت جمهوريّة سنة 1923 بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الأولى

وبذلك، أصبحت الطائفيّة أساس كلّ شيء في نظام الحكم، ما أَجبَر السكّان على المجاعة أو الهجرة. وقد فُرضت ضرائب جديدة على الجبل، وفُرض التجنيد الإجباري في المناطق الخاضعة للسلطنة العثمانيّة، أي بإستثناء منطقة جبل لبنان، كما فُرضت تذاكر عثمانية عليهم في محاولة لتتريك اللبنانيّين، مما ساهم في هجرة الكثير من اللبنانيّين. 
من هنا أتت تسمية المهاجرينTurcos بالـتركوس
وهذه التسمية لا تزال وللأسف حتى اليوم،
 تُطلق على الذين هم من أصل لبناني أو سوري في بلاد الإغتراب

  ولعلّ أحسن تصوير لتلك الحالة، ما جاء على لسان أحد الذين هاجروا الى البرازيل عام 1891 في رسالة وجّهها الى ذويه: 
 إننا نرى الآن أنفسنا احراراً في بلاد الحرية، نجاهر في أقوالنا وأعمالنا، ولا نخشى لومة لائم. نسافر من بلد الى آخر، ونحمل معنا المال كأننا في حضن أمّنا، ولا يداخلنا فكرة ان نلتقي قطّاع الطرق بوادي القرن (بين سوريا ولبنان) ولا خيّالة الأكراد في المعلـّقة (قرب زحلة، عاصمة محافظة البقاع) ولا من يعتدي علينا من قبضايات بيروت ورُعرانها، او من يَنهب مالنا وأغراضنا على ميناها ... إن تذكار هذه الأمور يؤلمني جداً 

إن ظلم الحكومة التركية كان من أهم أسباب الهجرة، وان طلب الحرية والسلام كان سبب كفر الكثيرين ببلادهم وهجرتهم الى الخارج. وقد سُئل الكثير من المغتربين عن دوافع هجرتهم، فأجابوا ان السبب السياسي كان من أهم العوامل، وقد رأى أحد الكتّاب عبارة مكتوبة على رقعة في بيت احد المهاجرين جاء فيها:ها نحن والاولاد سُعدنا بالحرية

 
4- الأسباب الدينية

يُعتبر العامل الديني من الدوافع الكبرى التي تُحمل الناس على الهجرة. فقد ظلّ اللبنانيون طوال عدّة أجيال، بعيدين عن كل ما يسيء الى العلاقات الودية بين مختلف مذاهبهم وطوائفهم، وذلك حتى مجيء الحكم المصري عام 1831، الذي كان من نتائجه ان تحركت النعرة الطائفية خاصةً بين المسيحيّين والدروز، ولم يكن الذنب ذنبهم، بل سبّب ذلك الدسائس الدولية والمطامع الإستعمارية

 
5- الأسباب الإجتماعيّة

كان المجتمع اللبناني ينقسم الى طبقتين، طبقة الفلاحين وطبقة الإقطاعيين والأسياد. فقد نما الأسياد بالبحبوحة والرخاء بينما عاش الفلاّحون بالذلّ والفقر والبؤس، إذ كانت معظم بيوتهم مبنية من اللبن وكان البيت مؤلفاً من غرفة واحدة واسعة، تتقاسمها افراد العائلة مع مواشيهم، وارض غرفهم من تراب مدلوك ولا مقاعد ولا كراسي. وجاءت الإنشقاقات الدينية والفتن الأهلية التي جلبت الخراب والدمار 

بالإضافة الى ذلك، تزايدَ عدد السكان، وقد قابله نقص في الموارد، وكان ذلك من أهم الأسباب لا بل السبب الحقيقي الذي أدى الى الضيق الاقتصادي وبالتالي الى الهجرة. فكثرت الأيدي العاطلة عن العمل، وعاش قسم كبير في حالات العوز والحاجة، ولم يجد اللبنانيون حلاّ لمشكلتهم الغذائية سوى الهجرة. ولقد ساهمت التقنيات الطبية الآتية من اوروبا، من تلقيح وغيره، الى ارتفاع في المستوى الصحي والى تخفيض في الوفيات، ما أدى الى التزايد الغير المتوازن لعدد السكان في المناطق الجبلية 

وقد اعتبر الصحافي السياسي البعبداتي نعوم كسروان لبكي ان الإنشقاق الإجتماعي كان من أهم العوامل التي دفعت بمئتي ألف من أبناء لبنان الى مغادرته. ولذا إعتُبر هذا الإنشقاق أب الهجرة 

هذا وقد تطوّر التعليم بفضل الإرساليّات الأجنبيّة والمؤسسات الرهبانيّة، وعمّت المطابع وفُتحت المدارس والجامعات، لاسيما منها مدرسة الأميركيّين في بيروت عام 1834، ثم أتبعوها بالجامعة الأميركيّة عام 1866، ولحقهم اليسوعيّون بجامعة مار يوسف عام 1875، جامعتين تُعتبران اليوم من أهم الجامعات في لبنان والشرق. وقد دل إحصاء عام 1914 على أنّ نسبة المتعلّمين في لبنان بلغت 50% وهي أعلى نسبة في أي بلد في العالم خارج أوروبا وأميركا الشماليّة. هذه النسبة العالية كانت سبباً آخر للتأثير في الهجرة. يضاف إلى ذلك كلّه إقفال السلطنة العثمانيّة أبواب الحرّيّات، ولا سيّما حرّيّة الرأي والقول والقلم

1- الأسباب الخاصة للهجرة  


1.1- مساعـي المـبشـريـّن والمُرسلين

نشطت حركة المؤسّسات التبشيريّة والإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية في لبنان، في القرن التاسع عشر في مجالات عدة أهمها التعليم والإستشفاء، فتطوّرت الحركة الفكريّة والثقافيّة والإجتماعيّة والإقتصادية والعمرانية. وظهرت طبقة مثقَّفة وعاطلة عن العمل رغبت في تحسين أحوالها الماديّة والإجتماعيّة، وكان السبيل الوحيد لتحقيق ذلك مغادرة الوطن والهجرة 

1.2- حركـة السيّاح

عرفت الحركة السياحيّة نحو لبنان والشرق نشاطاً ملحوظاً لغنى الشرق بمناطقه الأثرية ووجود الأراضي المقدسة المسيحية فيه. وقد لفت السيّاح الأنظار بمظهرهم الغني ومصاريفهم الضخمة، فتركوا لدى الكثير من اللبنانيّين فكرة طيّبة عنهم وعن بلدانهم وخيراتهم، الأمر الذي ساهم جداً في ترغيب اللبنانيّين بالرحيل والهجرة 

1.3- مساعي الدائنين ودور الوسـطـاء وإغرءات السماسرة

كان اللبناني يحاول أن يجرّب حظّه في بلد آخر علّه يتخلّص من الحالة التي يعيشها. ولكي يتدبّر ثمن بطاقة السفر (الناولون) ومصاريف الرحلة، استلف مبالغ مقابل رهن ما يملك من مسكنٍ أو قطعة أرض صغيرة ويتعهّد خطّياً وشفهيّاً بتسديد المال والفائدة، بعد تحقيقه أرباحاً في المهجر 

إضافة الى ذلك، كان المسافر يحتاج الى كثير من المعاملات والمراجعات وإعداد الإجازات وغيرها.... فكان لا بد من وسيط لذلك وخاصة ليستحصل على التذكرة العثمانية التي تجيز له السفر. والنتيجة، هجرة الشبّان الذين لم يخطر ببالهم يوما تخطّي الحدود اللبنانية. ولم يقتصر الدور على الوسطاء بل على النصّاح والسماسرة الذين راحوا يقصدون القرى ويرغّبون الشباب في المهاجرة، بعدما يكثرون الأحاديث الخلاّبة عن بلاد الإغتراب 

1.4- رسـائـل المهاجريـن الى ذويـهم

غادر المهاجر أهله وقريته وبات الجميع يترقـّب ورود رسائل منه تنقل إليهم أخباره. فغدا وصول الرسالة حدثاً تاريخياً في القرية. تُقرأ الرسالة عدة مرات على مسمع حفل كبير من الناس، ثم يستتبع تلاوتها اجتماعات وتفسيرات تحرك عند بعض السامعين روح الفضولية والغيرة من غِنى العالم الجديد ومجالات العمل فيه، ويندهشون من أجور المهاجرين في بلاد الإغتراب مقارنةً مع أجورهم في لبنان. وكانت معظم الرسائل تحمل دعوات مباشرة ونداءات الى الأهل والأخوة تحثهم الى ترك الوطن والإلتحاق بهم 

1.5- أموال المغتربين وعودة المهاجرين

شكّلت الحوالات الماليّة التي كان يرسلها المغتربون إلى ذويهم مساعدة ثمينة جدّاً لهم، وكانت برهاناً ملموساً وجليّاً عن غنى بلدان المهجر ووسيلة للسفر في الوقت نفسه. هذا وقد أثار مستوى الحياة الجديد الذي عاش فيه المهاجرون العائدون وذووهم المقيمون، فضول سائر مواطنيهم، مما دفع بالكثيرين منهم إلى تجربة حظهم في المهجر 

1.6- خيـبـات الامـل والمخـاوف الشخـصيـة

دوافع عديدة أدت الى الهجرة ويعود بعضها الى أمور شخصية أو عائلية، كخلاف نشب بين عائلتين، او بين افراد الأسرة الواحدة، او بين الزوج والزوجة، أو فسخ خطبة، او خلاف مع الجيران، أو احتراق المحصول الزراعي، أو خسارة حيوانات النقل أو الفلاحة، أو أموراً سياسية واجتماعية دفعت البعض للهرب من وجه العدالة والقانون، فضلاً عن حالات الرعب والخوف من جراء بعض الأحداث الأمنية والإعتداءات وغيرها

 
2- الهجرة منذ سنة 1920 و حتى اليوم

 عندما حلّت الحرب العالميّة الأولى عام 1914، تأثّر لبنان فيها بشكل مباشر، فحاصرت السلطات التركيّة لبنان وأقفلت حدوده البحريّة والبريّة، فتوقّفت حركة الملاحة والسفر. بالإضافة الى ذلك أتت موجات الجَرَد التي أكلت الأخضر واليابس، فأدّى ذلك الى مجاعة كبيرة ورهيبة والى أمراض عديدة وخوف...كل هذه العوامل، قضَت على ثُلث سكان لبنان تقريباً 

وعند إنتهاء الحرب العالميّة هذه، إستأنف الشباب اللبناني السفر بحثاً عن مجالات العمل والثروة، وبدأوا بتحويل الأموال لإعالة أهلهم الذين رزحوا طوال فترة الحرب تحت نير العثمانيين واضطهادهم. وقد بدأت تمتدّ مرحلة الهجرة الحديثة، منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وصولاً إلى إعلان الجمهوريّة اللبنانيّة عام 1926 ومن ثم إستقلال لبنان في العام 1943 وانتهاء الإنتداب الفرنسي على لبنان 

وفي العام 1975 بدأت حرب الآخرين على أرض لبنان والتي أدّت إلى مقتل نحو 100000 لبناني، وجرح أكثر من ربع مليون، وتهجير أكثر من 800000 

ولأسباب سياسية وأمنيّة وإجتماعيّة واقتصاديّة عديدة، لا تزال حركة الهجرة ناشطة وتتزايد تدريجيّاً حتى اليوم

 
 
  2- ماذا في اسباب الهجرة واتجاهاتها؟
1- الهجرة البعبداتيّة

بدأت الهجرة البعبداتيّة منذ العام 1860 تقريباً،  وتُعتبر أسباب الهجرة البعبداتيّة جزءاً من الأسباب العامة للهجرة اللبنانيّة، وتعود الدوافع المباشرة للهجرة البعبداتيّة الى أسباب إقتصاديّة بالدرجة الأولى، ثم الى أسباب دينيّة وإجتماعيّة وسياسيّة،  وحول توزيع مياه نبع العرعار الذي كان يُعتبر النبع الأساسي للحياة الإقتصاديّة الزراعيّة، ما أدى الى خلاف مدنّي بين أهالي بعبدات من جهة وبعض النافذين المحليّين المدعومين من السلطات الدينيّة، تحوّل على أثره ثُلثا سكّان بعبدات، عام 1892، من الطقس الماروني الكاثوليكي (المارونيّة طقس شرقي كاثوليكي) الى البروتستانتيّة لمدّة لا تتجاوز السنة، ثم عادوا لينخرطوا ي الطقس اللاتيني الغربي، في 6 كانون الثاني 1893. هذا وكانت رسائل الأقارب المهاجرين والدعوات للإلتحاق بهم، لها تأثير مباشر على أبناء بعبدات 

إتّجه البعبداتيّون الأوائل نحو بلدان القارة الأميركيّة وهي الأرجنتين والبرازيل والولايات المتحدة الأميركيّة والمكسيك وكولومبيا وفنزويلا. وتوجد اليوم أكبر نسبة للمتحدرين البعبداتيّين في الأرجنتين

وأما في كندا وبويرتو ريكو ومؤخراً في بلدان أخرى، فهم متواجدون إجمالاً في أهم العواصم والمدن الكبرى

 
2- الهجرة الى البرازيل

الأسباب

تعود أسباب الهجرة الخاصة إلى البرازيل التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، إلى رغبة اللبنانيّين في الإثراء والرفاه ورفع مستوى المعيشة وجمع المال، والهروب من الفقر والجوع والإضطهاد، إضافة الى ذلك التشجيع الذي أبداه أمبراطور البرازيل بيدرو الثاني أثناء زيارته لبنان عام 1876. فقد لاحظ خلالها الحيوية والنشاط اللذين يتمتع بهما اللبنانيّون، فأبدى رغبته في رؤية عدد كبير منهم في البرازيل، ووعدهم بالحماية، ضامناً لهم العودة، متمتعين بالازدهار والسعادة. ولتشجيعهم على الهجرة وإظهار صورة جميلة عن تصرفه، أودع في البنك العثمّاني مبلغاًُ من المال مخصصاً لمساعدة الأولاد الفقراء على دخول المدارس. وأبدى عدد كثير من اللبنانيّين إعجابهم بهذه الخطوة التي ولّدت فيهم مشاعر الود تجاه البرازيل

هذه الخطوة التي أقدم عليها بيدرو الثاني تنطوي على خلفية إقتصادية مهمة بدأت مع إنفتاح البرازيل على العالم في القرن التاسع عشر. ففي تلك الحقبة إحتاج البرازيليّون في المرحلة الأولى إلى مزارعين صغار ليقيموا في الجنوب النامي، وقد ضمّت البرازيل أعداداً كبيرة من المهاجرين السويسريين والألمان والإيطاليين والبولونيين وغيرهم... وفي الفترة التي كانت فيها البرازيل خاضعة تحت سلطة ملك البرتغال دون جوان الرابع، وقّع هذا الأخير على مرسوم سمح بموجبه للحكومة بتقديم الأراضي إلى الأجانب، الأمر الذي شكل بداية لهجرة واسعة إلى البرازيل 

وفي العام 1850 بدأ الترويج للهجرة على قاعدة أن البرازيل "جنة ذهبية"، في وقت كانت أوروبا وآسيا تعانيان الفقر والحروب والمجازر، وكانت قوانين الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية ومتطلّباتها كثيرة وصعبة... بينما في البرازيل كانت المتطلّبات أقل تشدّداً. وشملت سياسة الإنفتاح البرازيليّة توقيع معاهدات تجارية مع بعض الدول، من بينها معاهدة الصداقة والتجارة والملاحة مع السلطنة العثمّانية (1858). ولم تكتف تلك المعاهدة بإقامة علاقات تجارية بين البلدين، بل سهلت أيضاً دخول حاملي جوازات السفر العثمّانية (التركي) إلى البرازيل 

أما فيما يتعلّق بأماكن تواجد المتحدّرين من بعبدات في البرازيل، فهم في أكثريّتهم متواجدون في الولايات التالية:
São Paulo, Minas Gerais, Goiás, Mato Grosso, Mato
Grosso do Sul, Rio de Janeiro, Amazonas, Maranhão... 

الوصول

كانت وفود المهاجرين اللبنانيين تصل إلى البرازيل تباعاً، بعد رحلة بحرية شاقة تستغرقت غالباً نحو سبعين يوماً، وهم في حالة من الفقر المدقع، كما كانوا يجهلون لغة البرازيل وعاداتها وقوانينها، ولم يكن لديهم من يزوَّدهم بالنصح والإرشاد. كانوا ينزلون في مرافئ ريو دي جانيرو أو سانتوس (في ساو باولو) أو السلفادور (في باهيا) أو بيليم (في بارا) التي كانت المدخل إلى مناطق الأمازون، أو في مرفأ سان لويس (في مارانياو)، ومنها إنطلقوا الى كافة أرجاء البرازيل. وامتلكت البرازيل أماكن لاستقبال المهاجرين المرضى، ومن أشهرها تلك الواقعة في جزيرة الكوبرا في منطقة ريو دي جانيرو. وفي مرفأ سانتوس كان المهاجرون يُنقلون مباشرة بالقطار إلى محطة سكك الحديد التابعة لدار الضيافة في ساو باولو، حيث كانوا يمضون بضعة أيام يرتاحون خلالها ويحصلون فيها على العناية الطبية. وإبتداءً من العام 1887 إفتتحت السلطنة العثمانيّة قنصليّة لها في ريو دي جانيرو، ولكن المهاجرين لم يتّصلوا بها إلاّ عند الضرورة. وكان يُطلق على المهاجرين اللبنانيّين والسوريّين إسم تركوس - Turcos

أي أتراك لأنهم كانوا يسافرون بجوازات سفر عثمانية ويُعَدَّون من أتباع السلطنة العثمانية 

تعاطى اللبنانيّون التجارة بشكل كبير حتى أصبح مثلا، شارع 25 آذار أكبر تجمُّع للبنانيين في ساو باولو وأكبر مركز وموقع تجاري في أميركا الجنوبيّة والوسطى. كما تعاطوا الصناعة والزراعة وتربية الحيوانات ودخلوا في القطاع المصرفي والخدمات العامة والمهن الحرَّة والقضايا الإجتماعيّة، وأسسوا النوادي والجمعيّات والمراكز الصحيّة... وبرعوا في حقل الصحافة، ونذكر هنا البعبداتي نعوم كسروان لبكي الذي أسس عام 1896 جريدة "الرقيب" في ريو دي جانيرو وفي العام 1899 جريدة "المُناظر" في ساو باولو، واندمجوا مع المجتمع البرازيلي وشكَّلوا جالية نشيطة منتجة. وقد أدى هذا التطوّر الى جعل الجالية اللبنانيّة في البرازيل أكبر جالية في العالم

1- الهجرة الى الأرجنتين

الأسباب

تبنّت الأرجنتين فتح أبواب الهجرة إليها في القرن التاسع عشر، ورَغِبت في استثمار أرأضيها الزراعية، وتحولت إلى بلد استقبل أغلبية المهاجرين الأوروبيين بعد الولايات المتحدة. أما اللبنانيون فقد هاجروا إليها على أنها بلاد الوعود والثروة، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كجزء من موجة الهجرة اللبنانية- السورية خلال الحكم العثماني 

قدِم بعض المهاجرين بدعوة من أقربائهم الذين سبقوهم. وما لبثوا أن نظموا أنفسهم ودعموا القادمين الجدد مادياً أو تشاركوا معهم تجارياً. ومن الأسباب التي سهّلت الهجرة إلى الأرجنتين والتي قامت بها بعض المبادرات الفرديّة هي ترجمة القانون الصادر العام 1876 إلى العربية وقوانين أخرى متعلّقة بالنشاط الزراعي وبمنشورات تُعرّف بعادات الأرجنتين. كما تم ترجمة جميع القوانين المتعلّقة بالهجرة، وإصدار كتبًا مبسّطة بالإسبانبة والعربية تتضمّن قواعد اللغة الإسبانبة وتوجيه المغتربين. وفي العام 1910 أُنشِئت قنصليّة للسلطنة العثمانيّة في الأرجنتين، مما فتح أعين المهاجرين أكثر فأكثر على الهجرة إليها 

أما فيما يتعلّق بأماكن تواجد المتحدّرين من بعبدات في الأرجنتين، فهم في أكثريّتهم متواجدون في الولايات التالية

Buenos Aires, Jujuy, Salta, Santiago del Estero, Catamarca, La Rioja, San Juan, Cordoba, Santa Fé, Entre Rios, Mendoza, Tucuman, San Luis, Santa Cruz, Tierra del Fuego, Corrientes, Rio Negro, Chubut, Chaco... 

الوصول

ركب اللبنانيون البحار سائرين مع كلّ ريح،  فقصدت أفواج منهم الأرجنتين. وكان المغترب اللبناني يبحث أوّلاً عن ابن قريته، ثمّ عن أبناء القرى القريبة منها عند وصوله إلى المهجر. وظلّ المغتربون الأوّلون محافظين على هذه الطريقة في حياتهم الاجتماعية والتجارية، ونظّموها على أساس الأقرب فالأقرب. أبناء القرية أوّلاً، فأبناء القرى المجاورة ثانيًا، ثم أبناء بقية القرى ثالثًا.
 

مثلا، بلدة Guemes  في ولايةSalta  هي أكبر مثال على ذلك، حيث تواجد فيها بعبداتيّون كُثر حتى عُرفت ببعبدات الصغيرة - la chica Baabdat

كان اللبنانيّون يدخلون الأرجنتين أحيانًا بصورة غير شرعية عبر الأوروغواي، غير أنه لم يسمح لهم بدخولها رسمياً إلا عام 1896، بعد أن صدر قانون خاص بذلك. وهكذا بدأ الأوروبيون الذهاب إلى الأرجنتين وتبعهم اللبنانيون، مع أنّه لم يكن مرغوبًا بهم في بادئ الأمر، بدليل إنهم قوبلوا بالإضطهاد، وأطلق عليهم لقب تيركوس -Turcos

أي أتراك، وعانوا التمييز العنصري شعبياً ورسمياً، والدليل على ذلك، أن الحكومة الأرجنتينية عندما قرّرت الإتيان بمهاجرين أوروبيين لتحضير البلاد، منعت اللبنانيين من الإقامة في الفنادق المعدَّة لإستقبال الأوروبيين. ولم يُسمح لهم بإستخدام التسهيلات المعطاة لهؤلاء إلا عام 1939 عندما خفّت الهجرة إلى الأرجنتين

 
2- الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركيّة

الأسباب

جذبت الولايات المتحدة أنظار اللبنانيّين والمهاجرين من جميع أنحاء العالم، ولا سيّما بعد أن انتُخب أبراهام لنكولن المعادي للعبوديّة العام 1860، وتشجيعه الهجرة إليها لقاء أرضٍ مجّانيّة تُعطى للمهاجرين، بهدف توفير اليد العاملة التي تفتقر اليها البلاد. كما شاعت أخبار غنى الولايات المتحدة بالموارد الوفيرة والمعادن والمناطق الغنيّة، واكتشاف الفضّة والذهب، كما ذاع تقدّمها في مجال الإكتشافات والإختراعات وتطبيقها العِلم والبراعة في ميادين العمل والإنتاج. وتنامت، الى جانب الرخاء الإقتصادي والبحبوحة في العيش، أخبار الحريّة على اختلاف مظاهرها وتطبيق مبادىء الإخاء والمساواة والعدالة. كل ذلك أيقظ المَيل عند اللبنانيّين وغيرهم الى المغامرة والتفكير بالذهاب الى الولايات المتحدة الأميركيّة 

من ناحية أخرى، نما التأثير الأميركي الخيري والثقافي في جبل لبنان خلال القرن التاسع عشر، بفضل الإرسالية البروتستانتية الأميركية التي أنشأت كنائس ومدارس للصبيان والبنات تردد إليها بعض اللبنانيّين. كما تأسست الجامعة الأميركية في بيروت ونشرت كتباً مدرسية بالعربية والإنكليزية. ونتيجة لذلك، ظهرت طبقة مثقفة وعاطلة عن العمل، هاجر قسم منها الى مصر وكذلك الى العالم الجديد، لتسهم في مسيرة رُكب الحضارة والرقي، وتحسين أحوالها المادية والإجتماعية 

ورافق تلك الرغبة الى الهجرة تفاعل اللبنانيّين مع عدد من المرسلين والحجاج والسياح الأميركيين الذين كانوا يزورون الأماكن المقدسة والمواقع التاريخية والأثرية في الشرق ، فكوّنوا عنهم فكرة طيبة لمظهرهم الغني وسخائهم ومصاريفهم. وقد سافر عدد من اللبنانيين برفقة السياح حاملين معهم السبحات والأيقونات والصلبان لبيعها للأوروبيين والأميركيين المسيحيين. وبعد شهور رجعوا إلى بلادهم بأرباح، مما دفع محبي الكسب إلى حمل مثل هذه البضائع والسفر بها إلى أوروبا وأميركا في المرحلة الأولى، ثم اقتصر السفر إلى اميركا. وفي تلك الأثناء، كانت أميركا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر تسير نحو التمدّن والإزدهار الصناعي بشكل سريع، وإنشاء شبكة الطرقات والمواصلات والهاتف والتلغراف والكهرباء وصناعة السيارات، مما ولد الحاجة إلى أيدٍ عاملة من الخارج. ثم تضافرت عوامل عديدة لاسيما منذ منتصف القرن التاسع عشر، منها حث السلطان العثماني أتباعه على عرض حِرفهم وفنونهم التقليدية في معارض عدة، وقد اختار العديد من المشاركين البقاء في الولايات المتحدة. وسرعان ما أخذت الأخبار  تنتشر في القرى والمدن اللبنانية عن نجاح هؤلاء الرواد في جمع الثروات. إذ كان العائدون يخبرون أقرباءهم وأصدقاءهم عن سهولة الحصول على الثروة في أميركا، ومجالات العمل والحياة المرهفة والقدرة على تحقيق الأحلام في تلك البلاد، وأطلقوا دعوات مباشرة ونداءات إلى الأهل للالتحاق بهم. يُضاف الى ذلك ما أرسله المهاجرون من أموال إلى أهلهم، مما دفع كثيرين في تلك القرى والمدن إلى ترك كل ما لديهم والسفر إلى أميركا 

أما فيما يتعلّق بأماكن تواجد المتحدّرين من بعبدات في الولايات المتحدة الأميركيّة، فهم في أكثريّتهم متواجدون في الولايات التالية :

New York, New Jersey, Massachusetts, Michigan, Virginia, North Carolina, Texas, Arizona, Ohio, Florida, Minnesota... 

الوصول

سافر معظم المهاجرين اللبنانيّين الأوائل على متن بواخر فرنسية إنطلقت من بيروت نحو الإسكندريّة في مصر ومن ثم الى نابولي في إيطاليا فمرسيليا في فرنسا. ومن هناك كان المهاجرون يبحرون على متن سُفنٍ أخرى باتجاه مرافئ أخرى إلى أن تصل إلى نيويورك. سعيد الحظ فعلاً، هو من كان له صديق أو نسيب مهاجر سبقه إلى هناك. حينها يمكنه أن يتكل على مساعدته له في تدبير مكان للنوم وفي إيجاد عمل معقول. وكان عدد كبير منهم قد إنتقل من ولاية نيويورك، الى ولايات ماساتشوستس، بنسلفانيا، ميتشيغن، إنديانا، كونيتيكت، ميسوري، لويزيانا، نيوجرسي، تكساس، فرجينيا، أوهايو، كاليفورنيا... أما المهاجرون الذين وصلوا إلى ولايات ألاباما وتكساس وغيرها، قد عانوا في بداية الأمر من مضايقات عدّة من بعض الأميركيّين. كما قاسوا صعوبة في إيجاد عمل ملائم لهم، وخصوصاً خلال الأزمات التي كانت تهب على الإقتصاد الأميركي عموماً، وفي ديترويت على قطاع صناعة السيارات خصوصاً. ومن أجل تلبية الحاجة إلى العمال راح فريق من أصحاب الشركات يقوم بجولات واسعة في أوروبا وفي بلدان الشرق الأوسط من أجل حث العمال على السفر، وبالفعل فإن تلبية هذا النداء أعطت ثمارها بسرعة، نظراً إلى الحالة الإقتصادية المتردية في العديد من الدول التي قدمت الأيدي العاملة

 
3- الهجرة الى المكسيك

الأسباب

لا تختلف أسباب الهجرة الى المكسيك عن أسباب الهجرة العامّة، والتي تعود الى الفقر والبؤس والاضطهاد الديني والخوف والقهر والضغوط الاقتصادية والضرائب الباهظة والألم والحروب، فهاجر اللبنانيون إلى بقاع كثيرة من العالم. واتجهت الهجرة الى المكسيك لإمكانية عيش المهاجرين، وفق معتقداتهم الدينية في محيط يتآلف مع إيمانهم الكاثوليكي بعد الحرب العالمية الأولى، واعتماد الولايات المتحدة العام 1921، قوانين هجرة صارمة، فضلاً عن الضيق الإقتصادي الذي أصاب هذه الأخيرة إثر الأزمة الاقتصادية العام 1929، ما جعل الهجرة تتضاءل إلى الولايات المتحدة لتنشط نحو البرازيل والأرجنتين والمكسيك بسبب سياسة هذه الأخيرة المتساهلة تجاه الهجرة 

الوصول
 

كانت الطرق المؤدّية إلى المكسيك تبدأ من بيروت وتمرّ بفرنسا فالولايات المتحدة أو أحيانًا كوبا. ويشاع إلى أنّ أول دفعة وكثير من دفعات المهاجرين وصلت إلى مرفأ

Vera Cruz ومنها إلى Tampico

فما إن وصل المهاجرون إلى المكسيك حتى واجهوا صعوبات في تسجيل أسمائهم، ممّا كاد يعطّل عملية دخولهم إلى البلاد، فعمد موظفو مرفأ فيراكروز، بتحوير الأسماء اللبنانية بما يتناسب مع اللغة الإسبانية، وعمد مهاجرون آخرون، بسبب جهلهم اللّغة الإسبانية، ومن دون أن يدروا ما هي النتائج الناجمة عن ذلك، إلى اعتماد أسماء بلداتهم وقراهم بدل شهرتهم أو عائلاتهم، وتحوّلت الأسماء الأصلية إلى الإسبانية، ومع مرور الزمن تعذّر على السفارات اللبنانية وغيرها من الهيئات إجراء إحصاءات دقيقة لمعرفة عدد المغتربين لا سيّما وأنّهم انتشروا ليس فقط في المكسيك بل في كلّ المغتربات 

وانتشر المغتربون في مرحلة سفرهم المبكرة بطريقة عشوائية في ضواح شعبية، وانحصر امتدادهم في محيطهم الجديد بأن دخلت بعض طبقاتهم وسكنت المدن والأرياف حيث وجدوا أوائل الزبائن الذين تعاملوا معهم، ومع مرور الزمن إختلطوا تدريجيّاً بجميع طبقات المجتمع إلى أن تطوّر قسم كبير منهم وسكن في المُدُن المهمّة. غير أنّ بعضاً من السكّان المحلّيين اتخذوا من الوافدين الجدد مواقف مختلفة، إذ كانوا يرغبون في أوّل الأمر التخلّص منهم ومعاداتهم، فكلمة أجنبي في المكسيك، كغيرها من البلدان، مرادفة لكلمة غريب، وكيف لا يكون ذلك، وقد عُرِّف بهم بأنهم أتراك. ولا شكّ أن الجهل كان العامل الأساسي وراء هذا الموقف، مدعومًا بالخوف المسيطر على الطبقات الفقيرة من أنْ يسرق الأجانب اللبنانيون رزقهم 

وكان التبادل العملي بين البائع اللبناني والشاري المكسيكي يتمّ في بادئ الأمر بإشارات اليدين أو بهزّ الرأس قبولاً أو رفضًا، لجهل اللبناني لغة البلاد الأصلية أي الإسبانية، وشيئًا فشيئًا تعلّم اللبناني لغة أهل المكسيك من دون الدخول إلى مدرسة، ولاقى تعاطفًا منهم. ويمكن القول إنّ البضائع التي وصلت إلى أماكن بعيدة كانت أساسًا خارج الطريق الذي سلكه الباعة الجوّالون. ويعود ذلك إلى همّة اللبنانيين وإقدامهم والانتشار في مجاهل وأدغال مجهولة. والواقع أنّ اللبنانيين قد استفادوا من سياسة حكم الرئيس بوفيرو دياز الاقتصادية، الذي شجّع الاستثمار الأجنبي مما فتح الباب أمام مشاركة المهاجرين في نمو الاقتصاد، فازداد عدد الباعة الجوّالين وهي مهنة شهدت إقبالاً كثيفًا من المهاجرين عامّة واللبنانيين خاصة 

ونشط اللبنانيون بقوّة في الحياة الاقتصادية المكسيكية، وفي مختلف قطاعاتها وفي جميع مناطق البلاد حتّى قيل إنّه لا يوجد أي قطاع اقتصادي إلاّ ويعمل فيه لبنانيون، في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة والإدارات العامة والسياسة وغيرها. وقد انتشر اللبنانيّون في جميع أنحاء المكسيك ولاسيّما في مكسيكو العاصمة وميريدا وغودالاخارا وتمبيكو وكوسوميل وتولوكا وأكابولكو وغيرها

1- الهجرة الى فنزويلا

الأسباب

وصَلَ أول المهاجرين اللبنانيّين الى فنزويلا في العام 1880 في جزيرة مرغريتا في شرق البلاد، وما لبثت أن توقفت الهجرة حتى العام 1895 ، لتنشط من جديد مع قيام مكاتب رسميّة إعلامية فنـزويلية في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا تنظم عملية الهجرة وتعطي معلومات حول فنـزويلا ومزايا مناخها والزراعة فيها، وما تحتويه من الثروات الطبيعية كالذهب والإلماس. فكان أن تجدّدت دفعات المهاجرين اللبنانيّين وبجوازات سفر عثمانية  

لم تكن الهجرة إلى فنـزويلا كثيفة في بداية الأمر، لأنها بلاد زراعيّة، ولا يرغب المهاجرون في العمل الزراعي، بل كانت غايتهم تجارية بحتة. لكنّ مع اكتشاف منابع النفط واستغلاله في فنـزويلا العام 1919، وازدياد مدخول خزينة الدولة، انعكس ذلك إيجابًا على مستوى المعيشة، غدا العمّال في بحبوحة، وازداد تهافت المهاجرين من أقطار كثيرة ومنها لبنان إلى فنـزويلا، غير أن ظاهرة الاغتراب اللبناني برزت بوضوح وقوّة ما بين الأربعينات والستينات من القرن العشرين، وذلك لإعتبارات اقتصادية، إذ فتحت فنـزويلا أبواب الهجرة في صورة واسعة وإتّبعت نظام الاقتصاد الحرّ، فكان أن ازداد عدد المهاجرين اللبنانيّين، خاصة من الذين يتقنون اللغة الفرنسية  

الوصول

واجهت المهاجرين الأوائل مشكلة تسجيل أسمائهم، إذ كان موظفو الهجرة والجوازات يسجّلون أسماء المغتربين على النحو الذي تتقبّله أسماعهم لأنهم كانوا يجهلون معناها، فيترجمون ويبدّلون متجاوزين أهمية الإنتساب العائلي عند اللبنانيين. ومن المشكلات التي واجهتهم، إعتبارهم أتراكًا، إذ كان الأتراك في نظر أهل فنـزويلا متخلفين. لم يسلم المغتربون الأوائل من الظلم والوشايات التي ساقها المهاجرون الإيطاليون في حقهم، واتهامهم بأنهم أَكَلَة لحوم البشر  

جال المغتربون في مرحلة هجرتهم الأولى بالكشّة، كباقي بلدان القارة الأميركيّة، غير أنّ توقّف الحركة الاقتصاديّة في البلاد بسبب ركود الزراعة، جعلتهم يتضايقون ويتجمعون، حتى ظهور النفط سنة 1917، حيث عادوا بقوة إلى تجارة الكشّة يحملون البضائع الجاهزة، فانتشروا في الأسواق، مما أثر سلباً على عمل أصحاب المخازن والمحال في البلاد. ما حمل أيضاً تجّار البلاد للضغط على الحكومة، وسنّ قوانين تحرّم إستعمال الكشّة تحت طائلة السجن. فما كان على أصحاب الكشّة إلاّ اللجوء إلى ممارسة تجارتهم باكراً أو ليلاً للتخفّي، أو الاكتفاء بنماذج خفيفة من بضاعتهم يحملونها، متوارين عن أنظار مأموري الحكومة وسمعهم. ففتحوا المحلاّت التجارية وجمّعوا، بعد صعوبات جمّة، ثروات مالية كبيرة حتى قيل فيهم يربحون ذهباً ويأكلون ذهباً

 
2- الهجرة الى كولومبيا

الأسباب
 

بدأت الهجرة اللبنانية إلى كولومبيا في أواخر القرن التاسع عشر. وشكّل ساحل كولومبيا على الأطلسي أو البحر الكاريبي نقطة دخول معظم المهاجرين اللبنانيّين إلى كولومبيا. كان Puerto Colombia

المرفأ الرئيسي الذي استقبل المهاجرين، وهو يقع قرب مدينة Barranquilla

المهمة  

يصعب الإجابة عن أسباب الهجرة إلى كولومبيا تحديدًا كوجهة أخيرة للمهاجرين. لقد اختار العديد من المهاجرين أميركا الشماليّة كوجهة أساسيّة، ووصلوا إلى أميركا الجنوبيّة إمّا مصادفة وإمّا جراء ضغط بعض وكلاء الشحن البحري المجرَّدين من المبادئ الخُلُقية. وقد جرّب آخرون حظّهم في أميركا الشماليّة، لكنّهم ما لبثوا أن انتقلوا إلى الجنوب بعدما وجدوا أنّ الظروف فيها غير مناسبة. وقد سار بعضهم على خطى أصدقائهم وأقربائهم وشجّعت قصص ثراء المهاجرين العائدين وحرّيتهم بعضهم الآخر. ولكن يمكن القول إن المهاجر اللبناني كان ينظر إلى كولومبيا وغيرها من دول أميركا الجنوبيّة على أنّها تمثّل أرض الفرص  

إستقبلت كولومبيا أعدادًا قليلة نسبياً من المهاجرين اللبنانيّين، وحصلت في القرن الماضي موجات هجرة كبيرة فيما وراء الأطلسي، إلاّ أنّها لم تصل إلى كولومبيا التي شكّلت مميّزاتها الاستوائيّة، وضعف مواصلاتها الداخليّة، وغياب سياسة هجرة فعالة، روادع حالت دون تدفّق موجات الهجرة إليها. هذا إلى جانب أنّ البلاد كانت تحت تأثير الحرب الأهلية ( 1899 - 1903) وتعاني خللاً إقتصاديّاً. وبالتالي كانت كولومبيا بعيدة عن أن تكون وجهة جاذبة مثل الأرجنتين والبرازيل وغيرها  

الوصول
 

سافر المهاجرون اللبنانيّون إلى كولومبيا على متن سفن أوروبيّة. وقد وصلت أغلبيتهم مباشرة إلى

Barranquilla أو Puerto Colombia

أمّا بعضهم الآخر فقد قدم من مناطق في أميركا الجنوبية

توجّه قسم من المهاجرين الى المناطق الداخليّة وأقام بالعاصمة أو ببلدات على امتداد نهر ماغدالينا. وبالنسبة إلى المهاجرين اللبنانيّين بقيت بارّانكيلا وكارتاخينا وسانتا مارتا وبلدات صغيرة أخرى على الساحل الكاريبي الوجهات الكولومبيّة الأكثر شعبيّة. ولكنّ مجموعاتٍ لبنانيّةً كبيرة استقرّت بالعاصمة

Bogota وبمدن مثل Cali وMedellin وفي منطقة Santander وغيرها

ثمّة تجانس يربط المهاجرين اللبنانيّين بمضيفيهم الكولومبيّين الموصوفين برقّة القلب والتحمّس وقوّة التصوّر، فتزداد وتيرة الزواج المختلط، غير أنّ ذلك لم يمنع من وقوع حوادث مؤسفة بينهم وبين الكولومبيّين، وقد سبّب نجاحهم السريع في المجال التجاري كرهاً معيّناً عكسته الصحافة المحلية. وغالباً ما أثار التجّار الصغار هذا العداء والحسد. في حين دافع بعض الأعضاء البارزين في المجموعة التجارية الكولومبية عن منافسيهم، واصفين إياهم بالشعب المحترم والمسالم الذي استحق التهنئة لحسن تصرفه المهني. ومع ذلك فقد لازمتهم تسمية تيركوس - Turcos

المهينة، وبقيت سبب الكره وسوء التفاهم. وما زالت الكلمة مستعملة حتى اليوم على الرغم من الجهود التي بُذلت لإثبات عدم ملائمتها

 
 
  3- مآسي المهاجرين
 حيثيات الهجرة ميّزت اللبناني  بالصبر والقدرة الملفتة على تحمل المفاجآت وتجاوز العراقيل وإثبات حاله أينما حلّ بعبارة: أنا هنا
1- دوافع الهجرة

عُمر الهجرة كبير، يتوغل في التاريخ ويتمدد الى بدايات عام 1860،  حين أغوى "العالم المجهول" الكثيرين من أبناء الجبل، بسبب ما عانوه هنا من فقر وقهر وجوع وعذابات كبيرة ومعاناة شديدة، في ظل حكم تركي ظالم، أباح الفقر ووطّد القهر أكثر وأكثر 

وأتت الحرب العالميّة الأولى بما جلبته من جوع واضطهاد، لتُضيف الكثير الى دوافع هذه الهجرة، بحيث كان الناس يتضورون جوعا، والصغار يموتون أمام أهاليهم، لدرجة أن التاريخ سجّل بعض المآسي الكبيرة والغير مألوفة إطلاقاً، كأن يقتات الأهل من جثث صغرهم وكأن يبحث البعض عن الشعير في براز البغال والحمير. وأتى الجراد ليُضيف على الطين بلّة، فقضى على الأخضر واليابس في زمن أسود 

فالهجرة فكرة طرأت واشتدت ورسخت في فكر الكثيرين، هربا من واقع قاهر، فتجسّد طموح اللبنانيّين في الثراء، مما دفَع بالكثير منهم الى الهجرة من أجل جمع بعض الأموال والعودة الى لبنان لبناء "حارة قرميد" كما كانوا يقولون. لكن "العين بصيرة ويدّ اللبنانيين قصيرة" عن تأمين ما قد يحتاجه الترحال من مصاريف، فراحوا يستدينون ويرهنون بيوتهم لتأمين "الناولون" وما يلزم من مصاريف... وتحيّن الكثيرون أول فرصة، واعتلوا أول باخرة تسافر بهم الى أي مكان في قارات العالم الخمس

 
2- عذابات الهجرة

لاحق الفقر والجوع والقهر المهاجرين اللبنانيين الأوائل من لبنان الى كل مكان حَلّوا فيه. لكنهم، كما عاداتهم في كل العصور والمحن، لم يستسلموا. فبحثوا عن أمل ولو طفيف وراء الأبواب المغلقة، ووجدوه في بلدانهم الجديدة في حرية كانت مفقودة، وفي سلام كان ضائعا في لبنانهم 

عذاب السفر كان عظيما، فراح المهاجرون يرشون يمينا ويسارا من مال جنَوه من رهن وبيع ومقايضة، بهدف تسهيل أمر مرورهم عبر زوارق خشبية الى سفن شراعية، تقلهم الى حدود تختبئ خلفها كل الأحلام... عانوا الأمرّين، وكثيرا ما كانت تتأخر الوعود وتبطئ الأحلام مع تأخر وصول البواخر المنتظرة، فكانوا يضطرون الى دفع المزيد من المصاريف في خانات الانتظار 

استبدلوا تدريجيا الزي الوطني بآخر إفرنجي، وبدّلوا ما صمد معهم من عملة تركية بعملات أجنبية، واعتلوا متن بواخر للشحن أو لنقل الماشية، وغادروا في رحلات بحرية حافلة بالأخطار. فاللبناني، ابن الجبل، لم يكن يتآلف كثيرا مع البحر، ولا يعرف العوم، وتُربكه موجاته... كان يركب الباخرة متسلّحا بنصائح وإرشادات من هنا ومن هناك، مثل تجنب اصطحاب الحقائب الكبيرة، والحرص من دوار البحر، بالامتناع عن تناول السوائل واستبدالها بقليل من الكونياك لتخفيف الألم. وكان عليهم الإنتباه كثيرا من السارقين والمحتالين والفاسقين وأصحاب السوء 

مآزق ونصائح، خطوات الى الأمام وأخرى الى الوراء، أحلام ووقائع... وتناقضات أخرى كثيرة عاشها اللبناني الطامح الى "مرقد عنزة" في بلاد الدنيا. كانت رحلات الهروب الى دنيا الأحلام ملأى بالمشاهد المؤلمة. فغالباً ما كان اللبناني ينام على سطح السفينة، وفي الممرات الضيقة، وبين البضاعة المشحونة، وجنبا الى جنب مع أبقار وأغنام تهاجر الى مسالخها الجديدة 

تحمّلوا بصبر، وحلموا بصدق، وواجهوا بشجاعة. واستمرت ظروف إنتقالهم السيئة أسابيع، في رحلات بحرية تنطلق من ميناء بيروت نحو يافا في فلسطين، ومنها الى بور سعيد في مصر، ثم الى الاسكندرية، حيث تستريح البواخر مدة أيام، قبل أن تنطلق من جديد في رحلة تدوم أسبوع نحو مدينة مرسيليا في فرنسا أو نابولي في ايطاليا، وهناك، في هاتين المدينتين الأوروبيتين، تنتظر قوافل المهاجرين من جديد رحلات تقلهم الى القارة الأميركية... وكان اللبنانيون عرضة خلال مسار هروبهم الطويل الى عمليات إحتيال، وضاع بعضهم في اختيار الاتجاه الصحيح، بسبب إهمال السماسرة لهم بعد استغلالهم 

كانوا يسافرون الى الأرجنتين مثلا فيجدون أنفسهم في البرازيل! لا أحد في انتظارهم، لا أحد يبالي بهم، لا أحد يرشدهم أو يوجههم! بكوا، عانوا، لكنهم تابعوا وطبعا نجحوا 

على الرغم من كل حالات الإستغلال والتحديات، استمرّ حلم الهجرة راسخا في عقول المهاجرين اللبنانيين الأوائل. كثيرا ما أصابهم الهلع وهم في طريقهم الشاق من رفضهم وإعادتهم من جديد الى لبنان، بسبب مشكلة طبيّة أو سياسيّة أو حتى مشكلة في الإسم وفي طريقة لفظه إذ كانت تُحجز تحت هذه الحجج، عائلات بأسرها لفترة أيام وأسابيع... وطالما وصف المهاجرون تلك المراحل الصعبة في حياتهم في شكل دقيق، يعبّر جدا عن المحن النفسية والعاطفية والبدنية التي واجهتهم 

من استطاع الصمود تابَعَ، ومن كان حظه جيدا وصل. هكذا عبَرَ الكثيرون الى القارة الأميركيّة، فكانت مرافىء نيويورك في الولايات المتحدة الأميركيّة ومرفئَي ريو دي جنيرو وسانتوس في البرازيل المداخل الى القارة الجديدة. 

أول مشكلة واجهت الكثيرين منهم كانت اللغة. فقلة نادرة كانت تعرف الكتابة والقراءة واللغة الأجنبية، والمال كان ضئيلا بين أيديهم. لا أقارب لهم ولا معارف في البلاد الجديدة... وصلوا! لكن ماذا عن المصير الجديد؟ كيف يتفاعلون مع المجتمعات الجديدة؟ أين ينامون؟ من أين يأكلون؟ ماذا يعملون...؟ كانت حقا مرحلة صعبة ومؤلمة جدّاً 

مشكلة اللغة كانت كبيرة. سُئلوا عن أسمائهم، فعَجز موظّفوا دوائر الهجرة في البلدان الجديدة عن لفظها بشكل صحيح. فبدّلوها أو أضافوا إليها أو حذفوا منها بشحطة قلم، فتغيرت أسماء عائلات لبنانية أو حُوّرت، وأعطوا بدلا منها ألقاب لا تشبههم، وهويات تبعدهم عن أصلهم

1- في بلاد الانتشار

تتسألون: ماذا فعل هؤلاء، أبناء البلد، ليتجاوزوا محنهم الجديدة؟
  • هل شحذوا؟
  • هل ناموا في العراء؟
  • هل جاعوا؟
  • هل عملوا في الزراعة؟ في الصناعة؟ في التجارة؟
  • كيف تنقّلوا من بلدة الى أخرى؟
  • من أين جاؤوا بالمال؟

إختار اللبنانيون التجارة "بالكشّة" واشتهروا بها وتنقلوا بين البلدات مشيا أو على حمير وبغال. تعلموا كلمات بسيطة أجنبية، دقوا الأبواب، عرضوا ما يحملون، صُدت بعض الأبواب في وجوههم. لم يَيأسوا! تألموا لكنهم تابعوا! عانوا البرد والمطر والحر، ثابروا ووصلوا الى حيث تأخذهم مصالحهم التجارية 

كان لتجارة "الكشة" الفضل الأكبر في إنتشار التجارة بشكل عام وإزدهارها. كانوا يبيعون ويشترون وينقلون البضاعة الى بلدات وقرى شبه معزولة. بات لهم زبائنهم، يبيعون بالتقسيط، يقايضون... وتجارة "الكشة" هذه لا يزال صداها حاضرا حتى أيامنا هذه، وتؤخذ عبرة وأمثولة عن نضال شعب أراد الحياة، وحين يريد الشعب الحياة لا بدّ أن يستجيب القدر 

بدأت الأبواب تُفتح، والجهود تُعطي ثمارها، إذ نشأت علاقات طيّبة وصادقة بين المهاجرين الأوائل وشعوب الدول الجديدة، فكبُرت تجارة "الكشة" وتحولت تدريجيّاً الى محل تجاري 

بدأ المهاجرون يتجمعون في الشوارع ذاتها، ابن العم وابن الخالة وابن الضيعة... تزوج غالبيتهم من الأقارب.

 ونأخذ مثلا على هذا الواقع الجديد من أهالي بعبدات أنفسهم المهاجرين الى الأرجنتين وتحديدا الى بلدة في Guemes  ولاية  Saltaفي شمال الأرجنتين، التي تجمّع فيها بعبداتيون كُثر، حتى أصبحت تُعرف بين المهاجرين البعبداتيين بتسمية "la pequeña Baabdat" أي ببعبدات الصغيرة.

أطلق على المهاجرين اللبنانيين الأوائل لقب تيركوس -  أي الأتراك، Turcos

 وهذا كان طبعا مُجحفا في حقهم، وهم الذين هربوا من إنتهاكات الأتراك وظلمهم الى العالم. لكن السلطات في دُولهم الجديدة إستندت في ذلك الى البطاقات التي كانوا يحملونها من السلطات العثمانية التركية... فأدرجوا ضمن خانة: "أتراك"! ولا تزال، وللأسف، هذه التسمية تُطلق حتى يومنا هذا، على بعض أفراد الجالية اللبنانيّة. وبالإضافة الى هذه الخانة، غالباً ما كان يُدرج إنتماء المهاجرين والمتحدّرين منهم، تحت خانة الإنتماء السوري أو السوري - اللبناني، لدرجة أنّه حتى المأكولات اللبنانيّة على أنواعها، لا تزال حتى الآن تُسمّى بالمأكولات السوريّة أو بالمأكولات العربيّة 

كم كانت صعبة ظروف هجرات أيام زمان! فالمواصلات لم تكن سهلة كما هي اليوم، إذ أن مَن كان يوضب أمتعته ويغادر، كمن يرحل الى الأبد! رحل هؤلاء، تاركين عائلات وأولاد وأقارب ووطن... لكن ما يمكننا أن نقوله عنهم اليوم أنهم أعطوا وتنازلوا وتعبوا وصبروا وانتصروا. عُرفوا بالأمان والإخلاص. وشاعت عنهم المقولة: عندما يبدأ اللبناني بتجارة الكشة يُعرف بالتركي، وحين يفتح محلا تجاريا يُعرف بالسوري، وعندما يصبح غنيا يقولون عنه لبناني 

انهم أهلنا، وفخرنا، ونضالنا، وصيتُنا في كل العالم... هؤلاء، من شَكّلوا أوائل المهاجرين، بنوا لنا أساسات متينة. فمنهم مَن تبوأ أهم المواقع في بلاد الدنيا. هم الذين تعبوا ويئسوا وسهروا وخسروا وربحوا وتألموا وعانوا ومرضوا وفرحوا وبكوا... وكل هذه المراحل ثبّتتهم أكثر وأكثر في نجاحاتهم حيث ما حلّوا. فشرّعوا الأبواب واسعة أمام من لحقوهم، وشكلوا بذلك بُنيان الأمان الاقتصادي للبنان وخاصة أثناء المحن 

يا أحبّاء لبنان، ويا شعب مارون، ويا أقاربنا المتحدّرين من لبنان:
بفخر نكتب عن هؤلاء المهاجرين الأوائل
وبانتباه نقرأ بطولاتهم
وبوعي نمشي في ركابهم، في إرساء دعائم لبنان أينما حللنا

 
       Chucri Simon Zouein, Computer engineer
     
echkzouein@gmail.com
www.puresoftwarecode.com
© pure software code - Since 2003