Pure Software code
 
www.puresoftwarecode.com

SOFTWARE Institute
Teach YourSelf
100 Software Programming Training Courses
For Free Download


CHRISTIANITY Institute
HUMANITIES Institute
more the 400 Subjects, All for Free Download.
Lebanon  
CHRISTIANITY Institute
Devotion to Mary     
 
 
  Home : Devotion to Mary              
Home
Christianity Institute
  Maronite Church   Virgin Mary   Saints   Audio   Sharbelogy   Evangeliza   Читать  
    Devotion to Mary - إكرام مريم   Virgin Mary   Apparitions of Virgin    
كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم،   جزء       1   2  
كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم،   جزء: 1
   مقدمة    
1  في ضرورة تكريمِ العذراء مريم 7  العذراء مريم والأزمنة الأخيرة
2  في استخدام مريم عند التجسد 8  في رُسُل الازمنة الاخيرة
3  في إرادة الله استخدام مريم في تقديس النفوس 9  حقائق أساسية عن تكريم مريم
4  مريم ملكة القلوب 10  في عبوديتنا ليسوع المسيح ولمريم
5  ضرورة مريم للخلاص عموماً 11  في إخلاء ذاتنا من كل ما هو رديءٌ فيها
6  في أنَّ إكرام العذراء هو أكثر ضرورة ... 12  في حاجتنا إلى وسيط لدى يسوع المسيح ...
Arabic Texts - 2.77 MB zip file download   <<<  حمل - كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم
 
to enlarge
 
    مقدمة
  • مقدمة للمترجم
    المطران كوركيس كرمو
    رئيس اساقفة الموصل على الكلدان

    إنَّ مؤلف هذا الكتاب هو لويس ماري غرينيون المولود في مدينة مونفورت الفرنسية، في 31 كانون الثاني سنة 1673. أظهر لويس منذُ نعومة اظفاره، غراماً بنويّاً بالعذراء مريم، فأضاف اسم مريم إلى اسمه. درس عند الآباء اليسوعيين في مدينة رين. ثم واصل دراسته العالية في جامعة السوربون الباريسية الشهيرة، وفي كلية سان سولبيس حيث تشرّب بمبادئ معلمي هذه الكلية اللاهوتية المعروفة، وطالع كلَّ كتاب وقع بين يديه يتكلم عن مريم العذراء، وكان مولعاً بالحجّ إلى مزاراتها، رُسم كاهناً في 5 حزيران من عام 1700 في باريس.

    بعد سنتين من رسامته، أسس رهبنة نسائية أسماها [بنات الحكمة] وأخرى للكهنة المرسَلين لنشر التكريم المريمي دعاها [جمعية مريم]. عيّنه البابا كليمنس الحادي عشر عند زيارته لروما، مرسلاً رسولياً. وضع في 23400 بيتَ شِعر، العقائد الدينية المسيحية. ألّف كذلك أناشيد روحية كثيرة، وكتب قوانين رهبنيَّته: النسائية والرجالية. وضع عن تكريم مريم أربعة كتب تقوية بليغة. أسمى الأول [الحكمة الأزلية]، والثاني [سرّ الوردية]، والثالث [سرَ مريم]، والرابع هو كتابنا هذا الشهير، التي فُقدت مخطوطتُه مدة 140 سنة، حتى عُثر عليها عام 1842، وعنوانها [التكريمُ الحقيقيُ للعذراءِ مريم].

    يُظهر المؤلف في كتابه هذا، كل ما أوتي من الحب البنوي لملكته السماوية، بطريقة مبسطة، تأخذ بمجامع القلب. غايته الحقيقية هي جلب الناس إلى يسوع عن طريق مريم، أي بتكريس الذات لهذه الأم القديسة. ويدعو إلى هذا التكريس بلا تحفظ، وإلى تقديم كل ما لنا، لمريم مُعلنين ذاتنا عبيداً لها، ويُسمي هذه الممارسة [عبودية الحب المقدسة].

    تُوفي لويس غرينيون في 28 نيسان سنة 1716، وأعلنته الكنيسة طوباويّاً عام 1888، ثم في تموز 1947 رفعه البابا بيوس الثاني عشر إلى مصافِّ القديسين.

    كان الأب ادوار سلزاني اليسوعي قد لخّص هذا الكتيب بالعربية، ونشرته المطبعة الكاثوليكية في بيروت عام 1908. مع الأسف الشديد، حتى هذا الموجز قد نفذ من المكاتب منذ عشرات السنين. نظراً لقيمة الروحية الثمينة، قُمت منذ سنوات بترجمة كاملةٍ له، ولم يُسعدني الحظ بنشره حتى الآن. والآن أقدمه بكل غبطةٍ واعتزاز لإخوتي واخواتي أبناء مريم، ليُروي عطشهم ومقدماً غذاء روحياً دسماً.

     
  • مقدمة المؤلف
    القديس لويس ماري غرينيون دي مونفورت

    جاء يسوع المسيح إلى العالم، بواسطة مريم العذراء، وسيملِكُ على العالم بوساطَتِها أيضا. كانت مريمُ في حياتها محتجبةً كثيراً، لذا دعَتْها الكنيسةُ بوحيٍ من الروح [الأُمُ المرضعة]، أَي الأم المحتجبَةُ الخَفيةُ. وكان تواضُعُها كذا عميقاً، حتى إِنَّها لم تكن لها رغبة أَقوى ومتواصلة، من بقائها على الأرض محتجبةً عن ذاتها وعن كلِ خليقة، لا يَعرفُ بها أحدٌ إِلَّا الله وحده.

    وقد حَسُنَ لله أَنْ يستجيبَ طلباتِها، ليجعلَها محتجبَةً فقيرةً ومتواضعةً، في الحَبَل بها وولادتِها وحياتِها وأسرارِها، من قيامتِها وانتقالها، أمامَ كلِ خليقة بشرية. حتى إنَّ أهلَها ذاتهم لم يعرفوها، ويتساءَل الملائكةُ ما بينهم مراراً قائلين: «مَنْ هي هذه…» لأَن العليَ أَخفاها عنهم، ولم يكشفْ لهم عنها إلاّ النزرَ القليل.

    سمح الله الآب أَلا تجترحَ مريم في حياتها أية أعجوبةٍ تُبهر العيون، رغمَ منحِه لها القدرةَ على ذلك. كما رضي الله الابنُ بألَّا تتكلمَ مريم تقريباً قط، رغمَ إشراكِها في حكمته، وأنَّها العروس الأمينةُ للروح القدس، فقد شاء أن يحجمَ الرسلُ والإنجيليون عن التحدث عنها، إلَّا قليلاً على قدر ما كان ضرورياً لمعرفةِ يسوع.

    إِذَّخَرَ العليُ لذاته معرفةَ مريم وامتلاكَها، لأَنَّها عملُه الأَسمى. فهي الأُمُ العجيبة للابنِ الذي طاب له أن يَتْركَها متواضعةً ويخفيها في حياتها ليوازر تواضعَها، فسمّاها [امرأة] (يوحنا 2 : 4 ، 19 : 26) كأنها غريبة، بينما كان يُجلُّها ويحبُها أَكثر من جميع الملائكة والبشر. مريم هي [المُعين المختوم] (نشيد 4 :12)، وعروسُ الروح القدس الأمينة لا يدخل اليها آخر سواه. هي هيكلُ الثالوثِ الأقدس، ومقرُ راحتِه، والمكانُ الأَسمى قُدْسيةً الذي يحتَلُّه الله في الكون، دون استثناء استوائه على الكاروبين والسرافين، فهي المقامُ الذي لا يسمح لأَية خليقة مهما كانت نقية، دون امتياز عظيم، أَنْ تدخلَ إِليه.

    أَقولُ مع القديسين، إنَّ مريم هي الفردوسُ الأرضي لآدمَ الجديد، حيث تجسدَ من الروح القدس ليعملَ فيها عجائبَ لا تُدرَك، إنها عالمُ الله العظيم الإلهي، حيث المحاسن والكنوز التي لا توصف، فهي جودةُ العليّ، حيث أخفى ابنَه الوحيد في أحشائها، الذي هو أكثرُ سمواً وثمناً. يا لَلأُمور العجيبة الخفية التي أَتمَّها الله القدير في هذه الخليقة العجيبة، حتى التزمَتْ هي ذاتُها أن تعترفَ رغم تواضعِها العميقِ أَن تهتفَ: «صَنَعَ بي عظائمَ القوي…» (لوقا 1 : 9). إِن العلمَ لا يعرفها، لأنه غيرُ قادرٍ وغيرُ أَهلٍ لها.

    فاهَ القديسون بأمورٍ عجيبة عن [مدينة الله المقدسة] هذه. ولم يكونوا أكثرَ بلاغة وسعادة، كما أقرّوا هم ذاتُهم، إِلَّا عندما كانوا يتكلمون عنها. فيقولون بأنهم لم يروا أَسمى من استحقاقاتها التي رفعتها الى عرشِ الأُلوهية. فلا يُقاس عرضُ محبتِها الذي بَسَطَها أكثرَ من الأرض، ولا تُفهمُ عظمةُ القُدرةِ التي لها حتى على الله نفسه، ولا يُكشفُ عمقُ لجةِ تواضعِها وفضائِلِها وسائرِ نعمِها. فيا للسمو الذي لا يُفهمُ ويا لَلسعة التي لا تُحصر، ويا للعظمة التي لا تُقاس، ويا للقمة التي لا يُمكن بلوغها.

    كلَّ يومٍ، يُكرز ويُنشر، من أقصى الأرض الى اقصاها، ومن أعلى السماواتِ الى أدنى الدركات عن مريم العجيبة. تضطرُ طغماتُ الملائكة التسع وكلُ البشر من أَي جنسٍ وسنٍ وحالةٍ صالحين كانوا أم طالحين، وحتى الشياطين أنفسِهم، شاءوا أم أَبَوا، أَن يُعطوا عن حق الطوبى لمريم. وعلى حد قولِ القديس بونافنتورا، إِنَّ كلَ الملائكة في السماوات يصرخون بلا انقطاع قائلين: «قديسة، قديسة، قديسة هي العذراء مريم أُم الله». ويصلون يومياً ملايين ملايين المرات [السلام الملائكي]، منحنين أَمامها، وملتمسين شرفَ أَمرِها. والقديس ميخائيل نفسه، حسبَ قول القديس أوغسطينوس، رغمَ كونِه أَميرَ البلاط السماوي العام، هو أكثرُ غيرةً من الجميع في التقديم لها كلَّ نوعٍ من الإِكرام، وهو مستعدٌ دوماً، لإيماءةٍ منها أنْ يتشرفَ بخدمةِ أحدِ عبيدِها.

    الأرضُ بأسرِها مملوءة من مجدِ مريم، لا سيما لدى المسيحيين، حيث تتخذُها دولٌ كثيرة ومقاطعاتٌ وأبرشيات ومدُنٌ، شفيعةً ومحاميةً لها. هناك كاتدرائياتٌ عديدةٌ مكرَّسة لله على اسمها، ولا توجدُ كنيسةُ إلا وفيها مذبحٌ على شرفها، ولا يخلو صَقْعٌ أو قطر من إحدى صورها العجائبية، حيث تَشفي أنواعَ العاهات، وينالون كلَّ الخيرات. فكم من أخوياتٍ وجمعيات على شرَفِها، وكم مِن رهبنات باسمها وتحت رعايتِها، وكم من الأخوة والأخوات والرهبان والرهبنات ينشرون مديحَها ويذيعون مراحمَها، لا يوجد طفلٌ إلا ويتلعثَم بالسلام لها، ويمدحها، ولا خاطئ رغم تصلبه، ليس له ومضةُ ثقةٍ بها، لا بل حتى الشيطان في الجحيم، رغم خوفِه منها، إلا ويحترمها

    حقاً بعد هذا يجبُ القولُ مع القديسين، بأننا مهما تحدثنا عن مريم، فذلك ليس بكافٍ أبداً، لأنها لم تُمْدَحْ بعدُ كثيراً، ولا عُظَّمَ شأنُها جداً، ولا أُكرمت وأُحبت وخُدمت كفاية. لا زالت تستحق أكثر مدحاً واحتراماً وحُباً وخدمة.

    بعد هذا نقولُ مع الروح القدس، إنَّ «كلَّ مجدِ ابنةِ الملك هو من الداخل» (مز 44: 14)، فإنَّ كلَ المجدِ الخارجي الذي تُقدمه لها السماءُ والأرضُ ليس بشيء بالمقارنة مع المجد الذي تقبلُه باطنياً من الخالق ذلك المجدِ غير المعروف من خلائقه الصغيرة العاجزةِ عن اختراق أي سر من اسرار الملك.

    ثم لنصرخ مع الرسول: «لا العينُ رأَتْ ولا الأُذنُ سمعتْ، ولم يخطرْ على بالٍ بَشَر» (1كور 2: 9) جمالُ مريم وعظمتُها وسموُها. يقول يوحنا الدمشقي عنها: «إنَّها أُعجوبةُ أعاجيب الطبيعة والنعمة والمجد» وإذا ما تريدُ فهم الأم، يقول القديس أيوخير، إفهمِ الأبنَ، إنها أمُ الله المغبوطة. فليصمتْ كلُ لسان.

    بلذةٍ خاصةٍ أملى عليَّ قلبي الكتابةَ عن مريم لتَبيان أَنها غيرُ معروفةٍ حتى الآن كما يجب وهذا هو أحدُ الأسبابِ الذي من أجلها ليس معروفاً يسوع كما يجب، فإنْ أرَدْنا أن نُعرّفَ العالمَ بمملكةِ المسيح، يجبُ أيضاً التعريف بمملكة مريم، تلك التي وضعَتْه أولاً في العالم، ستجعلُه أيضاً أنْ يشرقَ فيه ثانية.
 
 
 
to enlarge
 
1   في ضرورة تكريم العذراء مريم
أَقُرُّ مع الكنيسة جمعاء بأن مريمَ هي خليقةٌ محضة، صدرَتْ عن يدي العلي وتظل أقلَّ من ذرَّة، أو بالأَحرى هي لا شيء إذا ما قارّناها مع جلاله غير المتناهي، لأنَّه هو وحده هو «ذاك الذي هو» (خروج 3: 14) وبالنتيجة، إنَّ هذا الربَ العظيمَ المستقلَّ دائماً الكافي لذاتِه، لم يحتاجْ ولن يحتاجَ مطلقاً الى مريم لإنجاز إرادتِه وإظهارِ مجدِه يَكفيه أَنْ يريدَ ليعمَلَ كلَّ شيءٍ. ومع ذلك فبافتراض الأمورِ في واقع حالِها، أَقولُ ما دامَ الله قد إرادَ بدءَ أعماله الكبرى وإنجازَها بواسطةِ مريمَ منذ خَلقِها، لنسلَّمَ بأنَّه لن يُغيَّرَ خطتَه الى الأبد، لأنه إلهٌ، لا يغيّر شعائرَه أبداً
 
 
 
to enlarge
 
2   في استخدام مريم عند التجسد
لم يعطِ الله الآب وحيده للعالم إلا بواسطة مريم. رغم تنهد الآباء اشتياق الأنبياء وقديسي العهد القديم، خلال آلاف السنين، للحصول على هذا الكنز، الذي لم تستحقه إلا مريم التي وَجَدت حُظوةً أمام الله بقوة صلواتها وسموِ فضائلها.

قال القديس أوغسطينوس: «كان العالمُ غيرَ أهلٍ لقبول ابنِ الله مباشرةً من الآب، لذلك أعطاه إلى مريم حتى يتقبلَه بواسطتها. تأنَّس ابنُ الله لأجل خلاصنا في مريم وبواسطتها الله الروح القدس، بعد أن طلب رضاها على يد أحد خدام بلاطه المقدمين، صاغ منها وبواسطتها يسوع المسيح».

إنَّ الله الآب أولى مريمَ خصوبته قدر ما كان بوسع خليقته المحضة استيعابَه، فأعطاها القدرةَ على إنجاب ابنِه وسائر أعضاء جسده السري. حلّ الله الابن في حشاها البتولي، كآدم جديد في فردوسه الأرضي ليبتهجَ فيها ويجترحَ خفيةً عجائب النعمة. إلهٌ متأنس يجد حرّيته بجعل ذاته أسيراً في حشاها. يُشرق قوته في هذه الابنة الصغيرة التي حملته، ووجد مجده ومجد أبيه بإخفاء سنائِه عن كل الخلائق الأرضية ليكشفَها لمريمَ، مجّدَ استقلالَه وجلالَه بخضوعه لها، في الحبل به، وولادته وتقدمته إلى الهيكل، وحياته الخفيّة مدة ثلاثين سنة، وحتى في موته، الذي وجب أن تحضرَه، ليكمّلَ معها ذبيحةً واحدة، وليُقرّبَ برضاها للآب الأزلي، كما قُرّبَ سابقاً اسحق برضى ابراهيم لإرادة الله. إنها أرضعته وغذّته وأعالته وربّته وقرّبته ذبيحةً لأجلنا.

يا للخضوع الإلهي العجيب، اللامفهوم. إنَّ الروح القدس لم يسمح بأن يبقى ذلك في الإنجيل محفوفاً بالصمت، رغم إخفائه عنا تقريباً جميع الأشياء العجيبة التي قام بها الحكمةُ الإلهي، في حياته الخفية، ليبيّن لنا قيمتها ومجدها اللامتناهي.

أعطى يسوع المسيح المجد لأبيه السماوي بخضوعه لأمّهِ ثلاثين سنة، أكثر ممّا كان يُعطيه له بتوبة كلِ الأرض باجتراح أعظم المعجزات. فيا للتمجيد العظيم المقدَّم لله بالخضوع لمريم إرضاءً له على مثال يسوع مثالِنا الأوحد.

لو فحصنا عن كثَب، بقيةَ حياةِ يسوع المسيح، لرأينا أنه أراد بدءَ معجزاته بواسطة مريم. قدّسَ يوحنا في أحشاء أمه أليصابات بكلمة مريم، إذ حالما تكلمت تقدّسَ يوحنا. وهذه أولُ أعجوبةٍ له وأعظمها في حقل النعمة، كما كان تحويلُه الماءَ إلى خمر في عرس قانا، على طَلَبِها المتواضع، أُولى أعاجيبه الطبيعية. بدأ وواصل معجزاته بواسطة مريم، وسيواصلُها حتى انتهاء الدهور.

لما كان الروح القدس، عقيماً في الثالوث، أي أنه لا يصدر أُقنوماً إلهياً آخر، صار مُخصباً بواسطة مريم عروسِه، فأصدر معها وفيها ومنها أسمى أعماله، أعني الإله المتأنس. ويُصدر كلَ يومٍ وحتى نهاية العالم، المختارين وأعضاءَ جسدِ هذا الرأس المعبود. وعليه كلما يجد أكثر مريم عروسَه المحبوبة وغير المنفصلة، في نفس، تزداد فعاليتُه وقدرتُه على إصدار يسوع في تلك النفس وهذه فيه. ومع ذلك لا نريد القولَ بأنَّ العذراءَ مريم تُعطي الخصوبةَ للروح، كأنْ ليس له ذلك من ذاته، لأن طالما هو إلهٌ فله الخصوبةُ والقدرةُ على الإصدار، مثل الآب والابن، ولو أنه لا يضعها بالعمل، ولا يصدر أقنوماً إلهياً آخر، ولكن أعني بأن الروحَ يضع خصوبتَه بالعمل، بواسطة مريم التي يريد استخدامَها رغم عدم حاجتِه إليها، فيصدر يسوع المسيح وأعضاءَه فيها وبواسطتها. إنهُ سرُ النعمة اللامعروف حتى من أفقَهِ المسيحيين وأكثرِهم روحية.
 
 
to enlarge
 
3    في إرادة الله استخدام مريم في تقديس النفوس
إنَّ الخطةَ التي اتخذَها الله في أقانيمه الثلاثة في التجسد وفي مجيء يسوع المسيح، الأول، يحافظ عليها دائماً في الكنيسة بنوع غير منظور، وسيُحافظ عليها حتى منتهى الدهور عند مجيءِ يسوع الثاني.

جَمَعَ الله الآب كلَّ المياه وسمّاها بحراً، وجمع كلَّ نعمه ودعاها مريم. لهذا الإله العظيم كنزٌ أو مخزنٌ غنيٌ جداً، أودع فيه كلَّ ما له من جميل ساطعٍ ونادرٍ وثمينٍ، حتى ابنَهُ ذاتَه. وما هذا المستودعُ اللامحدود إلّا مريم، التي لقّبها القديسون، كنزَ الرب، والتي من امتلائها أثرى الناس.

شاركَ الله الابنُ أُمّهُ في كل ما اكتسبه في حياته ومماته من استحقاقات لا متناهية وفضائلَ عجيبة، وأقامها وكيلةً على ما أعطاه له أبوه إرثاً. فبواسطتها يوزّعُ استحقاقاتِه على أعضائه ويشركُهم في فضائله، ويقسّمُ عليهم نعمَه، فهي قناتُه السرية وجدولُه الذي يجري فيه كلَّ مراحمه بلطفٍ وغزارة.

حبا الله الروحُ القدس، مريمَ عروسَه الأمينة بمواهبه ونعمِه لمن تريدُ وقدر ما تريد وكيفما تريد، وحينما تريد. فلا يمنح للبشرية أيّةَ هبةٍ سماوية إلّا ويجعلها تمرُّ بين يديها البتوليتين. لأنَّ هذه هي إرادةُ الله الذي أرادَ أن يكونَ لنا كلَّ شيءٍ بواسطة مريم. إذ هكذا يجعلُها العليّ، غنيةً ومتساميةً ومكرمةً تلك التي جعلت ذاتَها وكلَ حياتها فقيرة متواضعة ومختفية، إلى حد الملاشاة. هذه هي شعائرُ الكنيسة والآباء القديسين.

لو كنتُ أُخاطب نفوسَ هذا العصر القوية، لكنت أُثبّتُ بالتفصيل كُلَّ ما أقوله ببساطة، مستنداً على الكتاب المقدس والآباء القديسين، ذاكراً النصوص الأصلية ومؤكّداً بالبراهين الدامغة العديدة، التي يمكن الإطلاعُ عليها لدى الأب بواريه الذي سردَها مُطولاً في كتابه [الإكليل الثلاثي للعذراء القديسة]، ولكن إذ أتكلم خاصة مع الفقراء والبسطاء ذوي الإرادة الصالحة، الذين لهم إيمان أقوى من العلماء ويؤمنون ببساطة وباستحقاق أكثر، أقتصرُ على إعلان الحقيقة لهم دونَ التوقف لسردِ النصوص الأصلية التي لا يفقهونها، ومع ذلك فإني أسردُ نُتَفاً منها دون تصنّع.

إنَّ النعمة تُكمِّلُ الطبيعة، كما أنَّ المجد يكمّل النعمة. وإنه لأكيدٌ بأنَّ ربَّنا في السماء لا يزال كما كان على الأرض، أي ابنَ مريم. وبالنتيجة، لا يَزالُ محافظاً على خضوع وطاعةِ أكملِ البنين نحو خيرِ الأُمّهات. بيد أنه يجب الاحتراسُ من اعتبار هذا الخضوع تنازلاً أو عدمَ كمالٍ، في يسوع المسيح. لأنَّ مريم بما أنها أدنى من ابنها يسوع بنوعٍ لا متناهي، لأنَّه إله، كما تأمُرُ الأمُ الأرضية ابنَها الذي هو أدنى منها. وبما أنَّ مريمَ قد تغيَّرت تماماً في الله بالنعمة والمجد، التي تغيّر جميعُ القديسين فيه، لِذا لا تسأل ولا تريدُ ولا تعمل أمراً مخالفاً لإرادة الله الأزلي اللَّامتغير. وعليه عندما نقرأ مثلاً لدى القديسين برنردس أو برناردينوس أو بونافنتورا والخ… بأنَّ كلَّ شيءٍ في السماء وعلى الأرض، وحتى الله ذاته، هو خاضعٌ للعذراء الكليةِ القداسة، يقصدون بذلك بأنَّ السلطةَ التي أراد الله منحَها لها، هي عظيمةٌ بكذا مقدار حتى أنها تبان كأنَّ لها سلطةَ الله ذاته، وأنَّ صلواتِها هي قديرةٌ للغاية عند الله، فتظهر مثلَ أوامر لدى جلالتِه، فلا يقاوم أبداً صلاةَ أُمّه العزيزة، لأنها متواضعةٌ دائماً ومطابقة لإرادته.

إذا كان لصلاة موسى قوةٌ حتى تزيلَ غضب الربِ العلي اللامتناهية رحمتُه عن بني إسرائيل، إنّه لم يقدر أن يقاومَه، وكان يطلبُ إليهِ أن يتركَه يغضَب ويعاقِبُ الشعب العاصي، فكم يجب التفكير بأولى حجة عن فعالية صلاةِ مريم المتواضعة أُمِ الله المباركة التي تفوقُ صلواتِ وتشفعاتِ كل الملائكة والقديسين في السماء وعلى الأرض؟

تأمرُ مريم في السماء الملائكةَ والطوباويين، وكمكافأةٍ لتواضعها العميق، منحَها الله القدرةَ بملءِ العروش الفارغة التي طُرِدَ منها الملائكة الجاحدون والساقطون بسبب كبريائهم. فشاء العلي الذي يرفع المتواضعين (لوقا 1: 52) أن يجعلَ السماء والأرض والجحيم تخضع لأوامر مريم المتواضعة، التي أقامَها ملكةً على السماء والأرض، وقائدةً لجيوشه وأمينةً على كنوزهِ، وموزعةً لنعمه، وصانعةً الأعاجيب العظيمة، وفادية للجنس البشري ووسيطتَه، ومبيدةً لأعدائه والمشاركة الأمينة لعظائمه وانتصاراته.

يريد الله الآب أن يجعلَ له أبناءً بواسطةِ مريم حتى نهايةِ العالم، قائلاً لها: «أُمكثي في يعقوب» (الجامعة 24:13) أي اجعَلي مسكنَك ومقامَك في أبنائي ومختاري الممثلين في يعقوب وليس في أبناء الشيطانِ المرذولين المرموز إليهم بعيسو.

وكما أنه يوجد في الولادة الطبيعية أَبٌ وأُمٌ، هكذا أيضاً في الولادة الروحية الفائقة الطبيعة، يوجد أَبٌ وهو الله، وأُمٌ وهي مريم. فكلُ أبناءِ الله الحقيقيين والمختارين لهم الله مثل أب ومريم كأم. ومن لا يتخذ له مريم أُمّاً، فليس له الله أَباً. ليس الله أباً للمرذولين والهراطقة والمنشقين الذين يُبغضون أو يرذلون أو لا يبالون بالعذراء مريم، ولا مريم هي أُمٌ لهم ، لأن لو كانت حقاً أُمَهم لأحبّوها واحترموها، كما يفعل كلُ ابنٍ حقيقيٍ باحترام ومحبة أُمّه التي أعطته الحياة.

هذه هي العلامةُ المعصومة عن الغلط والتي لا يُمكنُ الارتيابُ فيها، للتمييز بين هرطوقي او رجل ذي تعليمٍ فاسد ومرذول، وبين المختارِ، وهي أن الأولَ يحتقرُ ولا يبالي بالعذراء الكلية القداسة، مجتهداً بأقوالِه ومِثالِه أن ينقصَ، خفيةً أو علناً، وأحياناً بحجج لامعة، الإكرامَ لمريم ومحبتَها. للأسف، إنَّ الله لم يقلْ لمريم، أن تعملَ في مثل هؤلاء مسكنَها، لأنَّهم أمثالُ عيسو.

يريد الله الابنُ أن يصوغَ ذاتَه في أعضائه، وإذا ما جازَ القولُ، أن يتجسَّدَ كلَّ يوم فيهم، بواسطة أُمّه العزيزة، فيقول لها: «رثي في اسرائيل» (سيراخ 24: 13) كما لو أراد القول: إنَّ الله الآب أعطاني جميعَ شعوبِ الأرضِ ميراثاً، وكلَ البشر الصالحين والطالحين والمختارين والمرذولين، فسأقود بعضَهم بقضيبٍ من ذهب وغيرَهم بقضيب من حديد. سأكون أباً ومحامياً للبعض، ومنتقماً عادلاً للآخرين، وحاكماً للجميع. وأما أنت يا أمي، فلن يكونَ ميراثُكِ ومُلككِ إلا المختارين. وكالأُم الصالحة سوفَ تلدينهم، تغذينهم وتربينهم، ومثل ملكتهم ستقودينهم وترعينهم وتذودين عنهم.

«إنسان وإنسان وُلد فيها» (مز 86: 5) يقول الروح القدس. فحسب أوريجانوس والقديس بونافنتورا، إنَّ الإنسان الأول الذي وُلد من مريم هو الإنسان الإله، يسوع المسيح، والثاني هو إنسان محض، ابنُ الله ومريم، بالذخيرة. فإذا ولد يسوع المسيح، رأسُ البشرية منها، فالمختارون الذين هم أعضاءُ هذا الرأس، يجب أن يولدوا منها أيضاً كنتيجة ضرورية، لأنّ لا يمكن أن تنجبَ نفسُ الأم رأساً بلا أعضاء، ولا أعضاءً دون رأس، وإلا يكون مسخاً في الطبيعة. هكذا أيضاً في حقل النعمة، يولدُ الرأس والأعضاء من أُمٍ واحدة، فإذا وُلد عضوٌ لجسدِ يسوع السري، من أُمٍ أخرى، غير مريم التي أَنجبتِ الرأس، فلن يكونَ هذا لا عُضواً ليسوع ولا منتخباً منه، بل سيكون مسخاً في حقل النعمة.

ثم بما أنَّ يسوعَ المسيح هو الآن كما في الماضي، ثمرةُ مريم، كما تُرددُ ذلك السماء والأرض ألفَ وألفَ مرةٍ كل يوم «مباركة ثمرة بطنك يسوع»، فإنه لأكيد أيضاً بأنّ كل إنسانٍ، خصوصاً من يمتلكُ يسوع، يصبح هو أيضاً ثمرةَ مريم وعملَها، كما هو كلُّ العالم بالعموم. بنوع أنه إذا ما يمكن أن يقولَ بجرأةِ أحد المؤمنين بيسوع المسيح والمهذبي القلب، «الشكر الجزيل لمريم لأنَّ كلَ ما أملكه هو ثمرتُها ومن مفعولها وبدونها، لما كنتُ أحصل عليه»، لذا يمكن لمريم أن تقولَ بدورها أكثرَ مما كان يقوله القديس بولس: «الذين ألدُهُم ثانية، إلى أن يُصاغَ المسيح فيكم»(غلاطية 4: 19) أي ألدُ كلَ يومٍ أبناءَ الله، إلى أن يُصاغَ يسوع المسيح إبني فيهم في عمرٍ كامل.

يكتبُ القديسُ أوغسطينوس بهذا الخصوص، هذه الكلمات الذهبية: «لكي يصيرَ كلُ المنتخبين مطابقين لصورة ابنِ الله، فإنهم يختفون في هذا العالم في أحشاء العذراء الكليةِ القداسة حيثُ تحرسهم وتغذيهم وتربيهم وتنميهم هذه الأُمُ الصالحةُ إلى أن تَلِدَهم للمجد، بعدَ المماتِ. في ذلك اليومِ الذي يصبحُ حقاً يومَ ميلادِهم كما تُسمي الكنيسة موتَ الصديقين». فيا لَسرِ النعمة غيرِ المعروف من المرذولين والمعروفِ قليلاً من المنتخبين.

يريد الله الروحُ القدس أن يصوغَ المختارين في مريمَ وبواسطَتها، فيقول لها: «ألقي الجذورَ في مختاري: (سيراخ 24: 13)، أي أَلقي يا عروستي الحبيبة، جذورَ جميعِ فضائلكِ في مختاري، لكي يتقدموا من فضيلة إلى أخرى، ومن نعمة إلى نعمة. إني وجدت سروراً عظيماً فيك، عندما كنت على الأرض حيث مارستِ أسمى الفضائل، كم أشتاق الآن أيضاً أن أجدَكِ على الأرضِ دون أن تتركي السماء، فصوّري ذاتَكِ في مختاري لأرى فيهم بلطف، أُصولَ إيمانك الذي لا يُغلَب، وتواضعَكِ العميق، وأمانتَك التامةَ وصلاتَك السامية ومحبتَك المتقدة ورجاءكِ الوطيد بكلمة، كلَ فضائلك. إنك عروستي الأمينة دوماً، الطاهرة والخصبة، فليُعطِ لي إيمانُك، مؤمنين، وطهارتَك عذارى، وخصوبتَك، مختارين وهياكل.

عندما تُلقي مريم جذورَها في نفسٍ ما، فإنها تصدر فيها عجائبَ النعمة التي هي وحدَها تقدر أن تصدرَها، لأنها هي وحدَها العَذراء الخصيبة التي لم يصِرْ لها شبيهٌ في الطهر والخصوبة. ولن يصيرَ لها قط.

أعطت مريم مع الروح القدس، أعظمَ ما يمكن وجوده وهو الإله الإنسان يسوع المسيح. وستقدم بالنتيجة أعظمَ الأشياء التي يمكن ان تكونَ في الآونة الأخيرة. إنَّ تربيةَ وتهذيبَ القديسين العظام الذين سيوجدون في نهاية العالم، هي محفوظة لها، لأنْ لا يوجد إلَّا هذه العذراء الخارقة العادة والعجائبية التي تقدر باتحادها الروح القدس أن تعملَ أُموراً خارقةَ العادة وعجيبة.

ولما يجدها الروحُ القدس في نفسٍ ما، فإنه يطيرُ إليها، ويملأُها تماماً، مانحاً ذاتَه بفيضٍ لها، وعلى قدر ما تفسح المجالَ لمريم، إنَّ أحدَ الأسبابِ التي لأَجلها لا يعملُ الآن الروحُ القدس، عجائبَ ساطعةً في النفوس، هو لأنه لا يجدُ فيها اتحاداً مكيناً مع مريم.
 
 
to enlarge
 
4    مريم ملكة القلوب
ماقتبلَت مريمُ سلطةً كبيرة من الله على النفوس المختارين، لأن بدون ذلك، لا تقدر أن تقيمَ فيها كما أمرها الله الآب. فكيف تقدرُ أن تربيها وتهذبَها وتغذيَها وتلدَها للحياة الأبدية كأُمٍ روحية لهم، وهم إرثُها وحصتُها، أقول كيف تصوغها في يسوع، ويسوع فيها، وكيف تلقي جذورَ فضائِلها في قلوبها، إذا لا تكون لها سلطةٌ وحقٌ عليها، نظراً إلى النعمة الخارقة العادة المُعطاة لها من القدير. لأنه بمنحه لها قدرةً على ابنه الوحيد والطبيعي، أعطاها أيضاً القدرةَ على أبنائه بالتبني لا فقط نظراً إلى الجسد، الأمر الذي ليس بكثير، ولكن خاصةً بالنظر إلى النفس.

فمريمُ هي ملكةُ السماء والأرض بالنعمة، كما هو يسوع ملكُها بالطبيعة والاكتساب. إلا أنَّ ملوكيةَ يسوع هي باطنية، حسب قوله: «ملكوتُ الله هو في باطنكم» (لوقا 17: 21)، إذن أيضاً ملوكيةُ مريم هي أولياً في داخل الإنسان، أعني في نفسه، وهي ممجدة رئيسياً في النفوس مع ابنها أكثر مما في كل الخلائقِ المنظورة الأُخرى. لذا بوُسعنا أن نسميها مع القديسين «بملكة القلوب».
 
 
to enlarge
 
5    ضرورةُ مريم للخلاص عموماً 
طالما مريم هي ضرورية لله حسب الضرورة المسماة افتراضية، أي لأنه هو أراد ذلك، فتكون مريمُ أكثرَ ضرورةً للناس ليبلغوا غايتَهم. وعليه لا يجبُ خلطَ تكريمِ العذراء مع الإكرام المقدِّمِ للقديسين، الذي هو غيرُ ضروري ويمكنُ الاستغناء عنه.

برهَنَ العلَّامةُ سوارز اليسوعي الورع، بنوع قاطع، ومع التقيّ يوسطوس ليبس ملفان جامعة لوفان وكثيرون غيرهما، مستنتجين ذلك من أقوال الآباء ومن جملتهم القديس أفرام وأوغوسطينوس وقيرلس الأورشليمي وجرمانوس بطريرك القسطينية ويوحنا الدمشقي، وانسلموس وبرنردس وبيرناردينوس، وتوما الأكويني وبونافنتورا، بأنَّ تكريمَ العذراءِ مريم هو ضروريٌ للخلاص وهو علامةُ الانتخابِ المعصومة، بينما عدمُ احترامِها ومحبتها، هو حتى حسب إيكولمبادوس وبعضِ الهراطقة الآخرين، دليلٌ قاطع على الهلاك.

إنَّ رموزَ وأقوالَ الكتابِ المقدس تثبت ذلك. وشعائرَ وأمثالَ القديسين تؤيد ذلك وهو: «إنَّ إكرامَكِ هو سلاحُ الخلاص المقدّمِ من الله» (يوحنا الدمشقي). وبوسعي هنا أن أُقدم قصصاً عديدة تثبت هذه الحقيقة. منها ما جاء في أخبار القديس فرنسيس الأسيزي، عندما رأى في انخطاف، سُلماً عالياً يتصل رأسُهُ بالسماء، وعند نهايته واقفةٌ العذراء القديسة، ففهم من ذلك بأنه كان يجب الصعود إلى السماء بواسطتها. ثم ما أتى في ترجمة القديس عبد الأحد، الذي كان يكرز عن تكريم العذراء بتلاوة الوردية، بالقرب من كركسون، بأنَّ العذراءَ القديسَةَ أرغمت الشيطان الذي كان قد استولى على نفس هرطوقي تعيس، بأن يقرَّ لخزيه، بقوةٍ ووضوح، بحقائقَ كثيرةٍ ومعزية تخص إكرامَها، بنوع انه لا تُقرأ هذه القصة والخطبة التي عملها الشيطان مرغماً، عن تكريم العذراء مريم، دون أن تسيلَ من مآقيه الدموع فرحاً، مهما كان الشخصُ قليلَ التكريم نحوها.
   
 
to enlarge
 
6   في أنَّ إكرامَ العذراء هو أكثرُ ضرورة للمدعوين إلى حالة الكمال الخصوصية  
إذاً ما هو إكرام العذراءِ مريم ضروري لكل الناس ليخلصوا، فهو أكثر من ذلك بكثير للمدعوين إلى حالة كمالٍ خصوصية. ولا أظنُ أنَّ أحداً يقدِرُ أن يحصلَ على اتحادٍ تامٍ مع الآب وأن يكونَ أميناً كلياً مع الروح القدس، بدون اتحادٍ كبير مع القديسة مريم وخضوعٍ تامٍ لمساعدتها.

مريمُ وحدَها وجدَتِ الحُظوى لدى الله (لوقا 1: 30) بدون عونٍ من أية خليقة أُخرى. أمَّا الذين جاءوا بعدها فلم يجدوا النعمةَ أمام الله إلّا بواسطتها. كانت مريمُ ممتلئةً نعمة عندما حيّاها جبرائيل رئيسُ الملائكة (لوقا 1: 28) وفاضت فيها نعمةُ الروح القدس، عندما ظلَّلها بظله الذي لا يوصف (لوقا 1: 35)، وتضاعفَ هذا الامتلاءُ يوماً بعد يوم وساعةً تلو الأُخرى، إلى أن وصلَ إلى حدٍ عظيم لا يمكن تصوُّره. فأقامها العليُّ الخازنةَ الوحيدةَ لكنوزه، والموزعةَ الوحيدةَ لنعمه، لتجعلَ نبيلاً ورقيقاً وثريّاً كلَّ من تريد في طريق السماء الصعبة، وإدخال من تريد في باب الحياةِ الضيق، ومنح العرش والصولجان وتاج الملك لمن تحب. فيسوع هو دائماً وفي كل مكان، ثمرةُ مريم وابنها، ومريمُ هي دوماً الشجرةُ الحقيقية التي تحملُ ثمرةَ الحياة والأُمُّ الطبيعيةُ التي تُنجبه.

لمريمَ وحدَها سَلَّمَ الله «مفاتيح الخزانة» (نشيد 1: 3) المحبة الإلهية، فخوَّلَها سلطةَ الدخولِ في الطرقِ الأكثر والأكثر سريةً في معارجِ الكمال، لتقودَ الآخرين فيها. ومريمُ وحدَها تقدر أن تُدخِلَ أبناءَ حواء غير الأمينة والتعيسة إلى الفردوس الأرضي، ليتنزهوا فيه مع الله بلذة، ويختفوا فيه بنوع أمين عن أدائهم، ويتلذذوا بطيبٍ، ودون خوف الممات، من شجرة الحياة ومعرفة الخير والشر، ويشربوا طويلاً من المياه السماوية لهذا المُعين العذب الذي ينبع فيه بغزارة. وبالأحرى، بما أنها هي ذاتُها هذا الفردوس الأرضي، والأرضُ البكرُ والمباركةُ التي طُردَ منها آدم وحواء الخاطئان، لا تَدَع أحداً يدخل عندها، إلَّا من يطيبُ لها أن تجعلَه من مَصافِ القديسين.

لكي أستعملَ كلمةَ الروح القدس التي حسَبَ شرحِ القديس برنردس «كل أغنياءِ الشعب» (مز 44: 13) سوفَ يستعطفون وجهَ مريمَ، من جيلٍ إلى جيل، لا سيما في الأزمنة الأخيرة. أيَ إن أعظمَ القديسين، والأنفس الأغنى نعمةً وفضيلة، ستكون الأكثرَ مثابرةً في الصلاة إلى العذراء القديسة، التي نعتبرها دوماً حاضرة، والمثالَ الكامل للاقتداء به، وهي نصيرتُها القديرة لمساعدتها.

قلتُ سيحدثُ هذا خاصةً في الأيام الأخيرة وقريباً، لأنَّ العليَ وأُمَّه القديسة، سيصوغان على صورتهما، قديسين عظاماّ، يفوقون قداسةَ أغلب القديسين الأخيرين، كما يعلو أرزُ لبنانَ على الشجيرات الصغيرة.

إنَّ هذه النفوسَ الكبيرة المملوءةَ نعمةً وغيرةً، ستُنتَخَبُ للمحاربةِ ضد أعداءِ الله، فترعد من كل صوب. وستكون عجيبةً في إكرامِها لمريم، زاهيةً بنورها، مغتذيةً من حليبها، تُقاد بروحها، وتستندُ على ذراعها، وتُحفظُ تحت رعايتِها، فستحارب بيدٍ وتبني بأُخرى (2عزرا 4: 17). ستحارب بيد وتغلب وتسحقُ أعداءَ الله، وستبني باليد الأخرى، هيكلَ سليمانَ المقبل ومدينةَ الله الروحية، التي هي مريم، والتي يسمّيها الآباء القديسون، هيكل سليمان ومدينةَ الله.

وستحملُ هذه النفوسُ بأقوالها وأمثالها، العالمَ كلّه إلى الإكرام الحقيقي لمريم، الأمر الذي سيجلبُ لها مضايقات كبيرة، ولكن في الوقت ذاتِه، مجداً عظيماً لله، مع انتصاراتٍ رائعة. هذا ما أوحاه الله للقديس منصور فيرييه، رسولِ عصرهِ العظيم، كما أشار هو نفسُه إلى ذلك في كتابٍ له.

يظهرُ أنَّ الروح القدسَ كان قد سبَقَ وأنذَرَ بهذا في المزمور 58: 15، 17 حيثُ يقول: «سيعرفون أنَّ الله يتسلّط في يعقوبَ وأقاصي الأرض. سيرجِعون في المساء، وسيجوعون مثلَ الكلاب ويُحيطون بالمدينة». ما هذه المدينة التي سيجدها الناس في آخِرُ الأزمِنة ليهتدوا إليه، أو ليُشبعوا جوعَهم، إلَّا العذراء القديسة التي يدعوها الروحُ القدس: «مدينة الله» (مز56: 3).
 
 
to enlarge
 
7    العذراء مريم والأزمنة الأخيرة   
إبتدأ خلاصُ العالم بواسطة مريم، وبواسطتها أيضاً يجبُ أن يَكمُلَ. لم تظهر مريم في مجيءِ يسوع الأوّل، إلا قليلاً جداً، وذلك كيلا يبتعدَ الناسُ الذين كانوا عندئذٍ قليلي المعرفة والإيمان بشخص ابنِها الذي هو الحقيقة، فيتعلّقوا بها بقوةٍ وجاذبية، الأمر الذي كان يحدث واقعياً لو كانت معروفةً حينذاك، وذلك بسببِ جمالِها الرائعِ الذي زانَها به العلي، حتى أن ديونيسيوس الأريوباجي المزعوم كتب بأنه عندما رآها ظنَّها الله، لسحرها الخلاب وبهائها عديمِ النظير، لو لم يعلِّمه الإيمانُ خلافَ ذلك. بينما عند مجيءِ المسيح الثاني، يجب أن تعرفَ، وسيُظهرها الروحُ القدس، لكي يعرفَ بواسطتها يسوع، ويكون أكثرَ محبوباً ومخدوماً، إذ تكون قد زالتِ الأسباب التي حملتهُ ليُخفيَ الأُمَّ المباركة أثناءَ حياتِها الأرضية، وعندَ كرازةِ الإنجيل.

يُريدُ إذاً الله أن يُعَرَّفَ ويكشفَ مريمَ عملَ يديه الأروعَ والأعظم في الأزمنة الأخيرة لهذه الأسباب:

أ: لأنها أخفَتْ ذاتَها في هذا العالم وجعَلتْ نفسَها بتواضعِها العميق، أحقرَ من التراب، وحصَلَتْ من الله ورسلِه وإنجيلييه أنْ تبقى مستترة.

ب: لأنها أعظمُ ما صدرَ من يدِ الله بالنعمة على الأرض، وبالمجدِ في السماء، لذا يريدُ الله أنْ يمجدَها، ويمدحَها الأحياءُ على الأرض.

ج: لأنها السَحَر الذي يسبقُ ويكشِفُ شمسَ العدل، يسوعَ المسيح. فيجب إذن أنْ نعرفَها لنصِلَ إليه بواسطتِها.

د: لأنَّها الواسطةُ الأكيدةُ والنهجُ المستقيمُ والمحبولُ بها بلا دنس، للذهاب إلى يسوع، حتى نجدَه بنوع أكمل. إذن على النفوس الموغلةِ في القداسة أن تجدَه بواسطتها، لأنَّ من يجدْ مريم، يجدِ الحياة (أمثال 8: 35)، أعني يسوعَ المسيح الذي هو «الطريق والحق والحياة» (يوحنا 14). لكننا لا نجد مريم بدون التفتيش عنها، ولا نفتشُ عنها إذ لا نعرفُها، إذ لا نفتش ولا نشتهي أمراً إلا بعدَ معرفته، لذا يجبُ معرفة مريم أكثر من أي زمانٍ آخر، لمجدِ الثالوث المعبود.

هـ: يجبُ أن تسطَعَ مريمُ رأفةً وقوةً ونعمةً في الآونة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى، أولاً بالرأفة، لتُرجِعَ الخطأة وتقبلَ بعطفِ المساكين التائبين العائدين إلى الكنيسة. ثانياً، بالقوة، ضد أعداءِ الله، ذوي القلوب القاسية، الذين يثورون هولاً ليقروا بالوعد والوعيد، ويُسقطوا جميع اللذين يخالفونهم.

وأخيراً يجب أن تسطعَ مريمُ بالنعمة لتشجعَ وتسندَ الجنودَ الأبطال خدامَ يسوع المسيح الأمناءَ الذين سيحاربون من أجل مصالحه.

و: ستكون مريمُ مرعبةً للشيطان وزبائنه، كجيشٍ منظمٍ للقتال، لا سيما في الأزمنة الأخيرة، لأنَّ الشيطان إذ يعلمُ أنَّ وقتَه قصيرٌ للغاية، سيُضاعِفُ جهودَه ومحارباتِهِ كلَّ يومٍ لإهلاكِ النفوس، وهكذا سيشِنُّ اضطهاداتٍ قاسيةً وينصبُ مكائدَ مخيفةً لخدامِ مريمَ الأمناء وأبنائها الحقيقيين الذين تصعبُ عليه غلبتهم أكثرَ من الآخرين.

عن هذه الاضطهاداتِ الرهيبة والأخيرة الشيطانية التي تزداد كلَّ يومٍ حتى مجيءِ الدجّال، يجبُ فهمُ خاصة هذه النبوة الأولى الشهيرة التي لعنَ الله فيها الحية في الفردوس الأرضي، إذ قال: «أجعل عداوةً بينك وبين المرأة، بين نسلِك ونسلِها، فهي تسحقُ رأسَك وأنت ترصدين عَقِبَها» (تكو 3: 15).

إنّهُ لَمن المفيدِ شرحُ هذه النبوة ههنا لمدح العذراءِ ولخلاص أبنائها ولخزي الشيطان.

لم يعملِ الله إلَّا عداوةً واحدةً لا مصالحةَ فيها تدوم وتنمو حتى النهاية، عقَدَها بين مريم أُمَّه المباركة والشيطان، بين أبناء مريم وأبناء وزبائن لوسيفورس، فصار العدوُ الألدُّ الذي وضعه الله للشيطان، هو مريم أُمه القديسة، وضعها الله منذ الفردوس الأرضي رغم أنها لم تكنْ بعد موجودةً آنذاك إلَّا في فكره تعالى. وجعل كراهيةً كبيرة ضد هذا العدو اللعين، الحيةِ القديمة، وأعطى مريمَ قوةً جبارة لغلب وصرعِ وسحقِ رأس هذا الماردِ المتكبِر، فصار يخشاها لا فقط أكثر من الملائكة، ولكن نوعاً ما حتى من الله ذاتِه، ليس لأنَّ سُخطَ الله وكراهيتَه وقدرتَه لا تفوق بنوع لا متناهي تلك التي لمريم، ولكن لأن كمالاتِها هي محدودة، والشيطان متكبر للغاية، لذا يتعذبُ جداً ويذوبُ خجلاً عندما تغلبه أَمةُ الله الصغيرة والمتواضعة، فيُسخطه كثيراً تواضعُها، ويخاف صلواتِها أكثر من صلاة جميع القديسين، أو تهديداً منها، يعتبرهُ عذاباً فادِحاً جداً.

إنَّ ما خسره لوسيفورس بكبريائه، اكتسبَته مريم بتواضعها. وما فقدَته حواء بعصيانها ربحته مريم بطاعتها. فحواء بإصغائها للحية أهلكت نفسَها وكلَّ أبنائِها، ومريم بأمانتها الكاملة لله، خلصت ذاتَها وكلَّ أولادِها مكرسةً إيَّاهم لجلاله.

ولم تقتصرِ العداوةُ التي وضعَها الله بينَ مريم والشيطان عليهما فقط بل أرادها أيضاً بين ذُريَتَيهما. فجعل نفوراً لا يُطاق بين أبناء العذراء وبين الشيطان وعبيدِه. فلا عَلاقَةٌ ممكنة تربِطُهم، ولا انسجامٌ باطني مطلقاً بينهم، إنَّ أبناء بلعال أي عبيدَ الشيطان ومحبي العالم، اضطهدوا دوماً كلَّ الذين انتموا إلى مريم، كما اضطَّهَد سابقاَ قائين وعيسو رمزا المرذولين، أخويهما هابيل ويعقوب رمزَي المنتخبين. إنَّ مريمَ المتواضعةَ ستنتصر دائماً انتصاراً عجيباً على هذا المتكبر وتسحقُ رأسه مصدرَ كبريائِه، وستكشِفُ خبثَه الأفعواني وخداعاتِه الجهنمية وإغراءاته الشيطانية، وتنجي أبناءها الأُمناء من عبوديته القاسية إلى منتهى الدهور.

تسطعُ قوةُ مريم على الشياطين كلِّهم خاصةً في الأزمة الأخيرة، عندما سينصبُ إبليس شراكَه أمام عقبها، أي أبنائها المتواضعين الذين تقيمهم لمحاربته. ولو أنَّهم يُبانون صغاراً وفقراء حسب العالم، ومحتقرين منه كالعقب، ويُداسون ويُضطهدون، كما هي حالة العقب نظراً إلى بقية أعضاءِ الجسم، لكنهم مع ذلك أغنياء بنِعَم الله التي تُوزعُها عليهم بغزارة مريم، وسيكونون عظماء ومتعالين في القداسة أمام الله، ومتفوقين على كلِ الخليقة بغيرتِهم الوقّادة، ومحفوظين بقوةِ العونِ الإلهي؛ إنَّهم رغم تواضُعِهم وبسبب اتحادِهم مع مريم سيسحقون رأسَ الشيطان ويجعلون يسوع المسيح منتصراً فيهم.
 
 
to enlarge
 
8    في رُسُل الأزمنة الأخيرة 
أَخيراً يريد الله أن تكونَ أُمُّهُ القديسة، حالياً أكثر معروفةً ومحبوبةً ومحترمة مما كانت سابقاً، الأمر الذي سيصير حتماً، إذا ما يمارس المختارون بنعمةِ ونورِ الروح القدس، التكريمَ الباطني الكامل الذي سأكشِفُه لهم: فسَيَرون بوضوح، على قدر ما يسمح لهم الإيمان، نجمةَ البحر الجميلة هذه، وسيصلون الى مرفأ السلام رغم العواصف والقراصنة، باقتدائهم بسيرتها، وسيعرفون عظائمَ هذه الملكة، فيُكرّسون ذواتِهم بجملتها لخدمتِها، مثل رعاياها المحبّين، وسيشعرون بحلاوتها وجودتها الوالدية وسيحبّونها بحنانٍ كأبناءٍ بَرَرة. وسيعرفون مراحمَها الغزيرة، ويشعرون بمعونتها فيلتجئون إليها دوماً وفي كل شيء كما الى محاميتهم العزيزة ووسيطتِهم لدى يسوع المسيح، ويدرون أنها الواسطةُ الأسهلُ والأقصر والأكمل للذهاب اليه. فيسلّمون لها جسدَهم ونفسَهم دون تحفّظٍ ليصبحوا لها بجملتهم.

فمن سيكونُ هؤلاء المحبّون أولادُ مريم؟ سيكونون ناراً متّقدة من خدّام الرب، يُضرمون نارَ المحبّة الإلهية في كل مكان. سيكونون كسهامٍ بيد القوي (مز 16: 4)، كسهامٍ مرشوقة بيد مريم القديرة تمزّق بها أعداءَها. سيكونون مطهّرين بنار المِحَن، ومتَّحدين بالله تماماً (1كور 17: 6) يحملون ذهبَ المحبّة في القلب وبخورَ الصلاة في الروح، ومُرَّ التضحيةِ في الجسد. سيقدّمون للفقراء والصغار في كل مكانٍ رائحةَ المسيح الطيبة، وللعظماءِ والأغنياءِ المتكبرين العالميين، رائحة الموت. سيكونون غيوماً مُرعدةً تسبح في الهواء لأقلِ نسيمٍ من الروح القدس، لا مبالين بشيءٍ ولا مستغربين من أمر. يمطرون كلمةَ الله والحياة الأبدية، سيرعدون ضدَ الخطيئة، ويكونون كالصاعقة ضدَ العالم، يضربون الشيطان وزبائنَه ويخترقون جميعَ الذين يُرسِلُهم العلي اليهم بسيوفهم رُسلَ الأزمنة الأخيرة الحقيقيين، فيعطيهم إلهُ القوة، الكلمةَ والنفوذَ لاجتراحِ العجائب، فينالون غنائمَ مجيدةً من أعدائهم، سينامون دونَ ذهبٍ ولا فضة، وما هو أعظم، بلا اهتمام، وسط الكهنةِ الآخرين من الكنسيين والاكليركيين (مز 67: 14)، وستكونُ لهم أجنحةُ الحمامةِ الفضيّة للذهاب بنيّةٍ خالصةٍ حيث يدعوهم الروحُ القدس، لمجدِ اللهِ وخلاصِ النفوس، ولن يتركوا وراءَهم، في الأمكنة التي كرزوا فيها، إلَّا ذهبَ المحبّةِ الذي هو كمالُ الشريعة. (رومية 13: 10).

أخيراً سيكونون من تلاميذ يسوع الحقيقيين الذين يقتفون أثرَ فقرِه وتواضعِه ومحبّتِه، واحتقارِه للعالم، معلّمين مثلَه السبيلَ الضيّق المؤدي الى الله في الحقيقية المحضة، وحسَبَ الإنحيل المقدس، وليس بموجب مبادئ العالم دون أن يهابوا أحداً من المائتين، مهما كان قديراً. سيكون سيفُ كلامِ اللهِ ذي الحدين في فمهم، حاملين شعارَ الصليبِ المضرَّجِ بالدم على أكتافهم وفي يُمناهم، والسبحةَ في يسراهم، واسما يسوع ومريم الأقدسين مرسومةٌ على قلوبهم، واحتشامُ وإماتةُ المسيح في سلوكهم.

هؤلاء هم الرجالُ العظام الذين سيأتون، مرسَلين من مريمَ بإذن اللهِ لنشر سلطانِه على المُلحِدين والوثنيين. أما متى وكيف سيكون ذلك، فالله وحده يعلمُ ذلك. وواجبُنا نحن هو ملازمُة الصمتِ والصلاة والتنهّد قائلين مع المزمور: «إنتظاراً إنتظرت» (مز 49: 2).
 
 
to enlarge
 
9    حقائق أساسية عن تكريم مريم 
بعدَ الكلام عن ضرورة التكريم للعذراء الطوباوية علينا أن نرى ماهيتَه

1- يسوع المسيح هو الغايةُ الأخيرة من تكريم مريم.

الحقيقةُ الأولى. يجب أن يكونَ يسوعُ مخلصُنا، الالهَ الحق والانسانَ الحق، هو غاية كلِ تقوانا وإكرامِنا، وإلا فهي كاذبةٌ وخدّاعة، لأن يسوعَ المسيح هو الألف والياء (رؤيا 1: 8). هو بدءُ وختامُ كل الأشياء، وما عملُنا إلا، كما يقولُ الرسول، لكي نجعلَ كلَّ واحدٍ كاملاً في يسوع المسيح، لأن فيه وحده فقط يوجد ملءُ اللاهوت، وجميعُ النعم الأخرى والفضائل والكمالات. به وحده قد تباركنا بكل بركةٍ روحيّة. هو معلمُنا الأوحد الذي يجب أن يعلّمنا، وهو السيدُ الوحيد الذي له وحده يجب أن نخضعَ بما أنّه رأسُنا، وعلينا أن نكونَ متحدين به، والمثالُ الأوحد الذي يجب أن نصوّرَ حسبه، والطبيبُ الأوحد الذي يشفي أمراضنا، والراعي الذي يجبُ أن يغذينا، والطريقُ الوحيدُ الذي يرشدُنا، وحقيقتُنا الوحيدة التي يجب أن نؤمن بها، وحياتُنا التي تُحيينا. فهو كلُ شيءٍ لنا، ويجبُ أن يكفينا. ولم يُعطَ تحت السماءِ اسم آخر قط، إلا إسم يسوع، به نقدر ان نخلص، اسم يضع الله فوقه أساساً لنا، وكل بنايةٍ غير مرتكزة على هذه الحجرة الراسخة، هي موضوعة على رمل متحرك، تسقط أكيداً، عاجلاً أم آجلاً. وكل مؤمن ليس متحداً به كاتحادِ الغصنِ بجذعِ الكرمة، ييبسُ ويسقط، ولا يصلحُ إلَّا أن يُلقى في النار. وخارجاً عنه لا يوجدُ إلا كذب وإثم وبطلان وموت. ولكن إن كنا في المسيح، والمسيح فينا، فلا نخافُ الهلاكَ. ولا أيضاً ملائكةُ السماء، ولا بشرُ الأرض ولا شياطينُ الجحيم، ولا اية خليقةٍ يمكنُها أن تضرَنا، لأنها لا تقوى على فصلنا عن محبة الله التي هي في المسيح يسوع. فبواسطتِه، ومعه وفيه نقوى على كل شيءٍ، ونقدمُ كلَ عبادةٍ ومجد للاب باتحاد الروحِ القدس ونصبحُ كاملين، ونعطي رائحة طيبة لقريبنا للحياة الأبدية (2كور 2: 15–16).

وإذا ما نحن نثبتُ أساساً قوياً لتكريم مريم، فما ذلك إلا لكي نوطّدَ بنوع اكمل العبادةَ ليسوع المسيح، ولنعطيَ واسطةً سهلة وأكيدةً لنجدَ يسوع المسيح، واما إذا ما يبعدنا إكرامُناً لمريم عن يسوع، فنلقيه بعيداً كخدعةٍ شيطانية، بينما هو بالعكس، لذا ليس هذا الإكرامُ ضرورياً لنا لأنه يجعلُنا أن نجدَ يسوع بنوع أكمل ونحبَه بحنوٍ أكثر ونخدمَه بأمانةٍ أعظم. واسمح لي يا يسوع الحلو لحظةً لأتشكَّى بحب أمامَ جلالِك الالهي فأقول بأن اغلبَ المسيحيين وحتى ما بين الأكثر فاهمين، لا يعونَ الرباطَ الضروري بينك وبين أُمك القديسة.

إنك يا ربُ دوماً مع مريم، ومريم هي دوماً معك، ولا تقدر أن تكونَ بدونك، وإلَّا لكانت تبطل أن تكون هي عليه، وقد حولّتها نعمتُك حتى إنها ليست بعد هي حية، ولكن أنت حيٌ فيها وتمتلكُها بجملتها، أسمى مما في كل الملائكة والطوباويين.

آه لو عرفَ الناسُ، المجدَ والمحبةَ التي تنالُها من هذه الخليقة العجيبة، لكانت تختلفُ شعائرهُم كلياً عنكما. إن اتحادكما هو كذا وثيقٌ، حتى إنه لأسهل فصل جميع الملائكة والقديسين عنك، أحرى من عزلِ مريم المباركة، لا بل لأسهل فصلُ النور عن الشمس، والحرارةِ عن النار، من فصلها عنك، فهي تحبك بشوقٍ اعظم، وتمجدك بنوع أكمل من سائرِ الخلائق معاً.

إنه لأمرٌ مدهشٌ ومؤسفٌ، يا يسوع الحبيب رؤيةُ جهل وظلام بعض الناس لأمك مريم، ولا أقول هذا عن الوثنيين الذين لا يعرفونك، ولا يهمُهم ان يعرفوها، ولا ايضاً عن الهراطقة والمنشقّين، الذين لا يُبالون بإكرامها، اذ قد انفصلوا عنك وعن كنيستك، ولكني أتكلم عن المسيحيين الكاثوليك وحتى عن العلماء الذين بينهم، ويريدون ان يعلّموا الحقائقَ للآخرين، ولا يعرفونَك لا أنت ولا أُمَك المباركة، إلا بنوعٍ نظري ويابس وعقيم فهؤلاء لا يتكلمون عن أُمك الطوباوية إلا نادراً، ولا أيضاً عن إكرامِها، خوفَ، كما يقولون إساءةِ استعمالِه أو إهانتِك بذلك، وإذا ما رأوا احداً أو سمعوه يكرمُها برقةٍ وقوة واقناع، ويؤكّد على تكريمها كواسطة أكيدة، وكطريقٍ أمين، وكامل، وكسّرٍ عجيب للاتحاد بك ومحبتك بنوع أكمل، يصرخون ضده، مقدمين له ألفَ سببٍ مغلوط ليُقنعوه بعدم الكلام عنها، لأنه سوءُ استعمالٍ كبير حسبهم، ويحرصون على إبعاده عن التكلم عنها، والاقتصار عليك وحدك، رغم ادعائِهم الأفلج بمحبتها.

نسمعُ هؤلاءِ أحياناً يتكلمون عن التكريم لأمك، ولكن ليس لمدحه وتوطيده بين الناس، بل لهدمه، كسوء استعمال، يزعمون. وإذ ليس لهم محبةٌ لك ولا عبادةٌ، طالما لا يكرمون أُمك، ينظرون إلى سبحة الوردية والثوب المقدس، كممارساتٍ نسائية لائقة بالسُذَّج والجهّال، ويمكنُ الخلاصُ بدونها. وإذا أتاهم أحدٌ يكرمها بتلاوة سبحتها أو بإكرامٍ آخر لها، سرعان ما يغيّرون عقله وقلبه، ويشيرون عليه بأن يتلو المزامير السبعة بدَلَ الورديةِ، وعوض إكرامها يقدّمون التعبدَ لك.

آه يا يسوع الحلو، هل إنَّ روحَك هو في هؤلاء؟ هل إنهمُ يفرحونك بهذا العمل؟ هل يروقون لك، لأنهم لا يبذلون وُسَعهم في جعل أُمِك فرحةً، خوفَ إهانتك؟ هل يُعيقُ تكريمُ أمِك، العبادةَ لك؟ هل تنسبُ أُمك لذاتها الاكرامَ المقدم لها؟ هل هي غريبة عنك ولا رابطة لها بك؟ هل بتفريحِها تُجرَحُ أنتَ وتُهان؟ وهل في تخصيص الذاتِ لها ومحبتِها ينفصلُ المرءُ عنك ويبتعدُ عن محبتك؟

لو كان الأمرُ هكذا حقاً يا معلمي الحبيب، لما ابتعدَ أغلب العلماء عن إكرام امك، قصاصاً لكبريائهم، ولما صاروا غيرَ مبالين. الا احفظني يا رب واحرسني من شعورهم هذا ومن ممارستهم، وهَبني معرفةَ الجميل والاكرامَ والتقديرَ والمحبة التي لك نحو أمِك الطوباوية، لأحبَك وأمجدَك على قدر ما أقتدي بك واتبعَك عن كثَب.

وكأني لم أقل حتى الآن شيئاً في إكرام أُمِك المباركة، الا امنحني النعمةَ لأمدحَها بنوع لائق، رغم أعدائي الكثيرين الذين هم اعداؤك أيضاً، فأقول لهم بصوت عالٍ مع القديسين: «لا يظنُ أحدٌ أن الله يرحم ذاك الذي يهينُ أمَه القديسة».

ولكي أحصل من جودتك على تكريمٍ حقيقي للأم القديسة، لأنشرَه في الأرض كلِها، دعني أحبُك بحرارة، وأقبل هذه الصلاة الملتهبة التي أصليها لك مع القديس اوغسطينوس، وأصدقائك الحقيقيين فأقول: «أنت هو المسيح، أبي القدوس، الهي الرحوم، ملكي العظيم، راعيّ الصالح، معلمي الوحيد، مساعدي الأمين، حبيبي الأجمل، خبزي الحي، كاهني الابدي، مرشدي نحو الوطن، نوري الحقيقي، حلاوتي المقدسة، طريقي المستقيم، حكمتي المنيرة، بساطتي الطاهرة، طمأنينتي الهادئة، حراستي الكاملة إرثي الثمين وخلاصي الدائم».

«يا يسوع المسيح، أيها الربُ الحبيب، ما بالي رغبتُ واشتقتُ في حياتي الى آخرَ سواك؟ أين كنت عندما لم أكن أفكّر فيك؟ إتّقدي يا أشواقي، أقلَّهُ منذ الآن، وصُبي في الرب يسوع. إجري، فانك لمتأخرةٌ، أسرعي لتبلُغي الهدف، فتّشي عن الذي تشتاقين إليه. ليكن مبسَلا من لا يحبك يا يسوع، وليمتلئ حرارةً من لا يتلهف إليك. ليحبَك يا يسوع الحلو وليتلذذَ بك وينذهلَ امامك كلُ شعورٍ طيبٍ لائقٍ بمديحك.

آه يا إلهَ قلبي وإرثي، أيها الرب يسوع، ليشده عقلي واحيا انت فيّ، وليضطرم جمرُ محبتك الملتهب في روحي، ويتقد بسعير كامل. وليضئ دوماً في هيكل قلبي ويلتهب في أعصابي، ويحترق في حنايا نفسي إلى يوم الممات عندما احضُر أمامك في محبتك، آمين».
 
 
to enlarge
 
10    في عبوديتنا ليسوع المسيح ولمريم 
الحقيقةُ الثانية. نظراً لما هو يسوع المسيح إلينا، يمكن أن نستنتج بأننا لسنا ابداً لذاتنا، بل كما يقول الرسول (1كور 6: 19) إننا بجملتنا له، كأعضائه وعبيده الذي اشتراهم بثمنٍ لا مُتناهٍ، ألا وهو دمُه. وكنا قبل المعمودية كعبيد للشيطان، وأصبحنا بالعماد عبيداً حقيقيين ليسوع المسيح. فلا يحقُ لنا بعد أن نحيا أو نشتغل أو نموت الا لكي نُعطيَ ثماراً لهذا الالهِ الانسان (رومية 7: 4) فنجدُه في جسدنا، ونملكه في نفسنا، لأن صرنا ملكه وشعبه المكتسب وميراثه.

لهذا يشّبهُنا الروح القدس (مز 3:1، يوحنا 12:15، 11:10، متى 3:13) 1: بالأشجار المغروسة على مجرى مياه النعمة، في حقل الكنيسة والتي يجب أن تعطي ثمارها في أوانها 2: بأغصان الكرمة التي أصلُها يسوع المسيح، والتي يجبُ أن تحمل عنباً جيداً 3: بالقطيع الذي يرعاه يسوع والذي يجب أن ينمو ويعطي حليباً 4: بالأرض الجيدة التي يحرثها الله، والتي يجب ان تنمو وتزداد وتعطي الواحدة ثلاثين وستين ومائة. لأن لعنَ بسوع التينة العقيمة (متى 19:21) وشجب العبد الكسلان الذي لم يتاجر بوزنته (متى 24:25-30). إن يسوع ينتظر من أشخاصنا الحقيرة ثماراً، أي اعمالاً صالحة، تخصُه هو وحده، «لأنا مخلوقون في الاعمال الصالحة في يسوع المسيح» (افسس 10:2)، فهذه الكلمات الصادرة من الروح القدس، تبيّنُ بأن يسوع هو المبدأ الوحيد، ويجب أن يبقى الغاية الوحيدة لكافة اعمالنا الصالحة، وان نخدمه لا كخدامٍ بأجرة، بل بالأحرى كعبيده المحبين.

هناك نوعان من الانتماء، بهما يتبعُ المرء شخصاً آخرَ ويخضعُ لسلطته، إما بسبب الاجرة، فيقدمُ له خدمته لقاء ذلك ونسميه خادماً، وإما لأنه عائدٌ له بجملته وندعوه عبداً، في الخدمة الاعتيادية يتعهدُ المرءُ خدمة الآخر لحين ما لقاء اجرته، بينما في العبودية، يصبحُ الانسانُ خاضعاً للآخر بكليته وطيلة حياته، دون مقابلٍ أو أجرةٍ البتة.

أما العبودية فهي على ثلاثة أشكال: أي طبيعيةٌ، وقسريةٌ وطوعيةٌ. فبالأولى، جميعُ الخلائقِ هم عبيدُ الله: «للرب الأرضُ بملئِها» (مز 1:23). وبالثانية، هم الشياطين والهالكون. أما بالنوع الثالث، فهم الابرارُ والقديسون. وهذه الأخيرة هي الأكمل والتي تعطي المجدَ لله أكثر، لأنه ينظرُ إلى القلبَ (1ملوك 7:16)، ويطلبُ القلبَ (امثال 26:23) ويُدعى بالهِ القلب (مز 26:72)، فهي عبوديةُ حبٍ، لأننا بواسطتها نحبُ الله فوق كلِ شيء، ونحبُ خدمته رغم أن الطبيعة لا تلزمُنا بذلك.

هناك فرقٌ كليٌّ بين الخادمِ والعبد. 1) الخادمُ لا يقدّمُ لسيده كل ما هو فيه أو له، أو يمكنه الحصول عليه بنفسه أو بواسطة غيره، بينما العبدُ يقدمُ لسيده ذاته بجملتها وكل ما يملك، أو يمكنُه أن يكتسبَه دون استثناء. 2) يشرطُ الخادمُ على سيده أُجرةً، لقاء الخدمة المقدمة له، بينما العبدُ لا يقوى على مطالبته بشيء مهما اظهر في خدمته من مثابرة أو مهارة أو قوة. 3) يستطيع الخادمُ أن يهجرَ سيدَه كل ما طاب له ذلك، أو أقله عند انتهاء الزمن المتفق عليه، اما العبد، فلا يقدر قط أن يتركه مهما أراد. 4) لا حقَ للسيد على حياة أو ممات خادمه، واذا ما قتله فإنه يرتكبُ جرماً يعاقَب عليه، أما العبد فحياتُه ومماته هما طوعُ إرادةِ سيده، فيقدرُ أن يبيعَه لمن يشاء أو حتى أن يقتله كما لو قتل حيوانا له. 5) أخيراً، الخادم هو عند سيده لأجَلٍ معيّنٍ فقط، بينما العبدُ هو دائماً.

لا شيء يربطنا بالبشر أقوى من العبودية، ولا شيء أوثق يتحدُ المسيحيين بيسوع المسيح وأمه القديسة، من العبودية الطوعية، على غرار يسوع الذي «اخذ صورة عبد» (فيلبي 7:2) حباً بنا، وقالتِ العذراءُ مريم عن ذاتها: «ها أنذا امةٌ للرب» (لوقا 38:1) ويتشرف بولس الرسول بلقب «عبد المسيح» (روميه 1:1، غلاطيه 10:1، فيلبي 1:1، طيطس 1:1). ويدعو الكتاب المقدس المسيحيين، مرات عديدة، «عبيد المسيح». فإن هذه الكلمة حسب الملاحظة الدقيقة التي يعلمها كاتبٌ كبير لم تكن فيما مضى الا العبودية الحقيقية، يستعمل أيضاً «التعليم المسيحي» لمجتمع ترنت، كلمة «عبد»، وليس خادم، ويقول: «إننا عبيدُ يسوع المسيح».

وعلينا أن نكون عبيدَ يسوع المسيح وأن نخدمه لا فقط كخدامٍ بأجرة، ولكن مثل عبيدٍ نتيجة محبتنا العظمى له، ويكفينا شرفُ الانتماء إليه.

إن ما أقوله عن عبوديتنا المطلقة ليسوع المسيح، أقوله نسبياً عن عبوديتنا لمريم القديسة. لأن يسوع اختارها رفيقة غيرَ منفصلةٍ لحياته ومماتِه ومجدِه وقدرتِه على الأرض وفي السماء، فأعطى لها بنعمته الفائضة كل الحقوق والامتيازات التي يملكها هو بالطبيعة. يقول القديسون: «كلُ ما يليقُ بالله حسبَ الطبيعة، يليقُ أيضاً بمريم حسبَ النعمة». لذا لكليهما نفسُ الرعايا والعبيد.

حسب فكر القديسين وكثيرين من الرجال العظام، على المرء أن يعلن ذاته عبداً محباً للعذراء الطوباوية ليصيرَ عبداً أكملَ ليسوع المسيح. لأن العذراء مريم هي الواسطةُ التي استخدمها ابنُها للمجيء إلينا، فعلينا نحن أيضاً أن نستخدمها كواسطتنا للذهاب إليه. إنها ليست كبقية الخلائق التي إذا ما تعلَّقنا بها، تُبعدُنا عن الله غايتنا، بل بالأحرى تُقرّبنا منه. فلا رغبة اعظَمَ لمريم من أن تتحدَنا مع ابنِها يسوع. ولا شوقَ ايضاً احر للابن من ان نصلَ اليه بواسطة امه الطوباوية. لأننا بذلك سنعطي له شرفاً أكبر وفرحاً اعظم، تماما كما نُفرحُ ملكاً ونعطي له شرفاً أكثر، عندما نصبح عبيداً للملكة، لإظهار ذاتِنا أننا من اخلص الرعايا وأحبِ العبيدِ له. لذا يُصرّح القديسون، وأخصُّ بالذكرِ منهم القديس بونافنتورا القائل: إن الاقترابَ منها هو الطريق إلى المسيح».

بما ان العذراء القديسة هي ملكة السماء والارض، كما يقولُ القديسون، إذن كلُ البرايا هم رعاياها وعبيدُها. أليسَ من المنطق أن يكونَ بجانب عددٍ كبير من العبيد قَسراً، عبيدٌ ايضاً عن مجردِ حبٍ واختيار؟ الا يوجدُ للبشر وحتى للشياطين عبيدٌ متطوعون؟ لما لا يمكنُ ان يكونَ لمريم ايضاً؟ أليس أمراً مشرفاً للملك أن يكونَ للملكة عبيدٌ يفدونها بحياتهم؟ من يتجاسر أن يزعمَ أو أن يفكرَ بأن ربنا يسوع الذي كان خيرَ البنين، يكونُ احترامُه وحبُه لوالدته أقلَّ من حبِ حشويرش لأستير، أو سليمان لبتشاباع؟

إذا ما هناك أُناس لا يروق لهم ان يتسَموّا عبيداً لمريم، فليقولوا ويصبحوا حقاً عبيداً ليسوع، وهذا يكفي ليجعلَهم بذات الفعل عبيداً أيضاً لمريم، لأن يسوع ثمرةُ مريم ومجدُها وهذا ما يُرادُ بالتكريم الحقيقي.
 
 
to enlarge
 
11    في إخلاء ذاتِنا من كلِ ما هو رديءٌ فيها
الحقيقةُ الثالثة. إن خيرَ اعمالِنا هي ملوثةٌ عادةً بالخطيئة بسبب معدنِنا الرديء. عندما يُصَبُّ ماءٌ رائق في وعاء وسخ، يتعكرُ ويتلوثُ الماء. عندما تضعُ خمراً في إناء ملوث بخمر فاسدة يتلوثُ وتصيرُ له رائحة كريهة. كذلك عندما يضعُ الله في نفوسنا الملوثة بالخطيئة، نعمَه وعطاياه السماوية، تتلوثُ اعتيادياً ببقايا الخطيئةِ التي فينا، وحتى أسمى اعمالنا تعطي رائحةً لا طيبة. لذا من المهم جداً، لاكتسابِ الكمالِ الذي نحصلُ عليه باتحادِنا مع يسوع، ان نُفرغَ ذاتَنا من كلِ ما هو رديء فيها.

ونصلُ إلى ذلك بمعرفة نفسنا جيداً تحت انوارِ الروح القدس. فنعرف باطنَنا الرديءَ وعدمَ مقدرتِنا على الخير وضعفَنا الشديد، وتقبلَنا المتواتر وعدمَ أهليتنا وفسادنا. إن الخطيئة بالنظر إلى الإنسان هي بمثابة الخميرة إلى العجنة التي توضعُ فيها، فتحمّضُها وتنفخُها وتفسدُها.

إن الخطايا التي ارتكبناها وإن غُفرت لنا، تركت فينا ضعفاً وقلةَ ثباتٍ تكوّنُ بقايا رديئة في نفوسنا وتجعلُ أجسادنا فاسدة حتى يسميها الرسول: «اجساد الخطيئة»، لأنها معجونةٌ بالخطيئة ونفسُنا المتحدة بهذه الاجساد، تصبحُ هي أيضاً بدورها نفساً جسدية (تكو 12:6) ملوثةً بالكبرياء وقساوةِ القلب وعمى الروح وعدم الثبات والشهوات والخ.

لا عَجَب إذن اذا ما نسمعُ مخلصَنا يقول بأن من يريدُ ان يتبعه عليه «ان يُنكرَ ذاتَه ومن يحبُ نفسَه يُهلكها، ومن يُهلكها من أجله يخلصها» (يوحنا 25:12). فنكره ذاتنا لأننا نستحق ذلك، بينما لا شيء يستحقُ المحبة أكثر من الله.

كذلك لكي نخلي ذاتنا، علينا أن نموتَ عنها كل يوم، بالمعنى الذي يقصده الرسول عند قوله، اذا ما نرى كأننا لا نرى، واذا ما نسمع، كأننا لا نسمع البتة، واذا ما استخدمنا اشياء هذا العالم، كأننا لا نستخدمُها قط (1كور 31:15). «اذا حبةُ الحنطة التي تسقط في الارض، لا تموت، تبقى وحدها» (يوحنا 24:12) اذا لا نموت عن ذاتنا، لا نعطي ثماراً لائقة، فتصبح عبادتُنا غيرَ نافعة، اذ تتلوثُ اعمالُنا التقويةُ بمحبة الذات. وهكذا عند الموت سنجد نفسنا فارغة من الفضيلة والاستحقاق وعاربةً من المحبة الحقة، تلك المحبة التي تمنح للنفوس المائِتة عن ذاتها والتي حياتُها هي خفيةٌ مع يسوع المسيح في الله (كولوسي 3:3).

إذن علينا أن نختارَ من جميع الممارسات التقوية لمريم الطوباوية، تلك التي تحمِلُنا أكثر الى الموت عن ذاتنا، لأنها الاحسنُ والاكمل. لا نخدعنَّ أنفسَنا. «ليس كلُ ما يلمع ذهب» يقول المثل. ولا «كلُ ما هو حلو هو عسل». هكذا ليس كل ما هو اسهل للعمل ويمارسه عددٌ أكبر، هو الاكثر قبولاً وقداسة.

كما توجد في الطبيعة طرقٌ بموجبها نمارس بعضَ الامور في وقت قصير وجهدٍ قليل ويُسرٍ كبير، هكذا ايضاً في حقل النعمة توجد سبلٌ تحملنا في زمن وجيز وحلاوة لذيذة إلى القيام بأعمال روحية عظيمة، كإخلاء الذات والامتلاء من الله والتقدم في معارج الكمال. إن هذه الممارسة التي أريدُ كشفها، هي من اسرار النعمة التي يجهلها كثيرٌ من المسيحيين ولا يمارسٌها الا النزرُ القليل من الورعين.
 
 
to enlarge
 
12    في حاجتنا إلى وسيط لدى يسوع المسيح الوسيط بالذات   
الحقيقة الرابعة. إنَّ الاقتراب من الله بواسطة وسيطٍ، هو أكملُ من التقدم إليه بذاتنا بدون وسيط، لأنه اكثرُ تواضعاً واحتراماً. إنَّ اعمالنا التقوية الشخصية قيمتُها قليلة من ذاتها فلا نقوى على إغرائه للاتحاد بنا او الاستجابة لنا، فاذا اهملنا هؤلاء الشفعاء القديرين، وخطونا نحوه مباشرةً بلا توصية، نُظهرُ قلةَ تواضعٍ وعدمَ احترامٍ، لذا أعدّ لنا الله بمراحمه الغزيرة، وُسَطاءَ لنقدمَ اعمالنا له بواسطتهم. فهل نتجاسر على الدنو من ملكٍ ارضي وحدنا؟ ألا نفضلُ أن يكونَ معنا صديقٌ يوصي بنا؟

يسوع هو محامينا لدى الله الأب، ووسيطُنا في الافتداء. علينا اذن ان نصلي بواسطته مع كل الكنيسة المنتصرة والمحاربة، مقدّمين للآب استحقاقاتِه، لننالَ منه الحُظوى مثل يقوب الصغير الذي حضر امام ابيه اسحق لابساً جلد العنز، ليقبلَ بركتَه. فهل لسنا بحاجة الى وسيط لدى هذا الوسيط بالذات؟ إنه إلهٌ مساوٍ لأبيه في كل شيء، فهو قدوس القديسين، وأهلٌ للاحترام مثل ابيه، فلا يجب ان يقلَ احترامُنا لجلاله وقداستِه، لذا أُرددُ مع القديس برنردس، نعم، إننا بحاجةٍ إلى هذا الوسيط. ومريمُ تقدرُ أن تقومَ بهذا الدور أحسنَ الجميع. فاذا نخاف الدنوَّ من يسوع بسبب عظمتِه اللامتناهية، أو بسبب حقارتنا وخطايانا، لنلتمسَ بثقةٍ عونَ مريم أُمنا وشفيعتنا. إنَّها جميلةٌ وحلوة كالقمر (أناشيد 9:6)، وليس كالشمس التي بتوهج أشعتها تُبهر عيون ضعفِنا. إنها الأمُ المحبة، فلا تُبعد كلَّ من يطلب شفاعتَها مهما كان خاطئاً، وكما يقول القديسون، لم يُسمع قط أنَّ احداً التجأ إليها بثقة وثبات وعاد خائباً. إنها الأمُ القديرة التي لا ترفض طلباً. يكفي أن تمثُلَ امام ابنها سائلةً، ليستجيبَ حالاً، ويقبلَ طلبتَها فوراً.

هذا ما يعلمه القديسان برنردس وبونافنتورا. حسبهما توجد ثلاثُ درجاتٍ للارتقاء نحو الله. الأولى وهي الأقربُ منا والانسبُ لنا، وهي مريم. والثانية هي يسوع المسيح، والثالثةُ هي الله الآب. فللذهاب إلى يسوع، علينا الذهاب بواسطة مريمَ شفيعتِنا، وللذهاب إلى الله الآب، لنذهب بواسطة وسيطنا في الفداء يسوع. هذا هو الترتيب الكاملُ الذي نراعيه في هذه الممارسة.
 
 
كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم،   جزء       1   2  
 
 
 www.puresoftwarecode.com  :    HUMANITIES Institute  ART Institute & Others
 SOFTWARE Institute  CHRISTIANITY Institute    
 "Free, 100 Software Programming Training Courses"       History of the MARONITES in Arabic  Basilica Architecture, in the Shape of a Cross
 VISUAL STUDIO 2010 in English  Holy BIBLE in 22 Languages and Studies ...  Le HANDICAP c'est quoi ?   (in French)  Old Traditional Lebanese houses
 VISUAL STUDIO .NET, Windows & ASP in En  220 Holy Christian ICONS  Drugs and Treatment in English, french, Arabic  5 DRAWING Courses & 3 Galleries
 VISUAL STUDIO 6.0 in English  Catholic Syrian MARONITE Church  Classification of Wastes from the Source in Arabic  Meteora, Christianity Monasteries, En, Ar, Fr
 Microsoft ACCESS in English  HOLY MASS of  Maronite Church - Audio in Ar  Christianity in the Arabian Peninsula in Arabic  Monasteries of Mount Athos & Pilgrimage
 PHP & MySQL in English  VIRGIN MARY, Mother of JESUS CHRIST GOD  Summary of the Lebanese history in Arabic  Carved Rock Churches, in Lalibela, Ethiopia
 SOFTWARE GAMES in English  SAINTS of the Church  LEBANON EVENTS 1840 & 1860, in Arabic  
 WEB DESIGN in English  Saint SHARBEL - Sharbelogy in 10 languages  Great FAMINE in LEBANON 1916,  in Arabic  my PRODUCTS, and Statistiques ...
 JAVA SCRIPT in English  Catholic RADIO in Arabic, Sawt el Rab  Great FAMINE and Germny Role 1916,  in Arabic  
 FLASH - ANIMATION in English  Saint SHARBEL Family - Evangelization  Armenian Genocide 1915  in Arabic  4 Different STUDIES
 PLAY, 5 GAMES  Читать - БИБЛИЯ и Шарбэль cвятой, in Russe   Sayfo or Assyrian Genocide 1915 in Arabic  SOLAR Energy & Gas Studies
   Apparitions of  Virgin Mary - Ar  Christianity in Turkey in Arabic  WELCOME to LEBANON
 SAADEH BEJJANE Architecture  Andree Zouein Foundation    YAHCHOUCH, my Lebanese Village
 CARLOS SLIM HELU Site, new design  REPORT, Cyber Attack Attacks the Current Site  Prononce English and French and Arabic Letters  ZOUEIN, my Family - History & Trees
       Chucri Simon Zouein, Computer engineer
     
echkzouein@gmail.com
© pure software code - Since 2003