ظل لبنان كسائر الأقطار العربية نحو خمسة قرون متوالية تحت
سلطان الدولة العثمانية.
خلال هذه الأجيال، بينما كانت مواكب الحضارة تتزاحم في بلدان الغرب حثيثة الخطى
في سبيل المدنية والتقدم، على صعيد العلوم والفنون وعجائب الإختراع
والإكتشافات. كانت الأقطار العربية الخاضعة لولي الأمر العثماني يخيم عليها
غطاء من التراخي والقعود .
كان العهد العثماني بالنسبة للتطور التاريخي عهد
إنحطاط إقتصادي وإجتماعي وثقافي وسياسي، وكان نسيجاً من المظالم والخيانات
والمجازر والحروب ما بين الباشوات والأمراء والعائلات الحاكمة المحلية .
إن تاريخ الباشوات حافل بالمآسي، وقد دفع الإسلام ثمن هذه النقائص من حاضره
ومستقبله، دفعه في الداخل والخارج، فبعد سبعة قرون من هلاك الخليفة العباسي،
كان هناك خليفة قزم من آل عثمان يطرد من منصبه بكل إحتقار، وتراقصت جيوش
الإحتلال فوق الأرض الذليلة .
صحيح أن سيل الهزائم التي أوقعها بنا التتار والصليبيون قد وقف، وعادت كفتنا
إلى الرجحان، وتصدت العسكرية التركية لأعداء ما ينطفئ لحقدهم ضرام، وصحيح أن
الأتراك قمعوا هذا الغرور، ومشوا إلى أصحابه يؤدبونهم، غير أن الأتراك مع أنهم
قاموا بدور عظيم سرعان ما قلدوا العباسيين وغيرهم في الإستبداد السياسي،
والإستعلاء الجنسي في القرن الأخير من حياتهم، وهكذا رأينا القدرة على القيادة
التي تبرز في الرجال الأوائل، تتلاشى في الأعقاب الوارثين .
بين عامي 1914-1918 كانت الدولة العثمانية في إرتعاشة الإحتضار، والحرب
العالمية الأولى تزداد كوارثها، والشعب اللبناني على آخر رمق، والدماء تسيل على
الأرض، والدول تتطاحن، والمدافع تقذف كراتها، والمطامع تفعل فعلها، والنفوس
تتألم، والجوع ضارب أطنابه في ربوعنا، واليأس مستول على القلوب، والناس في جزع
ورعب، والموت الذريع يفتك بالسكان. إذ ذاك كان ملكَ مشاعر الناس هو تأمين
الإعاشة، حتى تضاءلت لديهم سائر همومهم .
ومما لا شك فيه أن لبنان عانى من ويلات الحرب العالمية الأولى وأهوالها
الكثير. إذ سُدت طريق البحر، فقلت البضائع وخلت الأسواق من ضروريات الحياة،
وإرتفعت الأسعار إرتفاعاً جنونياً، وبرز شبح المجاعة المخيف في شتاء 1916
وتفاقم خطره في السنتين التاليتين، فكان البأس والضرر شاغل الناس وعنوان
الأيام، وطالت معظم مناطق بلاد الشام بدرجات مختلفة، وكان أشدها وقعاً في
مقاطعات جبل لبنان .
ومع غياب الأرقام الرسمية الموثوقة حول تلك المأساة البشرية رافق تضخيم
الأرقام إعطاء المجاعة وجهاً طائفياً وحيد الجانب، وأغفل كثير من الأهداف
البعيدة لإستراتجية الحصار الفرنسي – البريطاني المشترك على شرق البحر المتوسط،
فقد كان الفرنسيون والإنكليز يخططون للسيطرة على المشرق العربي منذ عقود طويلة،
وأثناء الحرب وضعت تلك المخططات موضع التطبيق العملي .
إن الحصار البحري وإغلاق المنافذ كان جزءاً من مخطط عام يقضي بتأليب الرأي
العام داخل الولايات العثمانية ضد السلطنة من طريق التجويع والإفقار، وساعدتها
في ذلك السياسة العثمانية والألمانية والمتحالفة معها لتأمين حاجياتها وأمنها
العسكري من طريق المصادرة، وفرض السخرة، وإعدام المشتبه بهم، وفرض التجنيد
الإجباري، وفرض رقابة صارمة على الإنتاج الزراعي .
نتيجة لذلك وجد اللبنانيون أنفسهم خاضعين لحصار مزدوج ومطبق، حصار داخلي
مباشر فرضه الجيش العثماني ولاحقاً مع حليفه الألماني من جهة، وحصار أوسع مدى
لا يراه اللبنانيون لأنه يطاولهم مع محاصريهم، فعاشوا حصاراً أليماً، ودفعوا
الثمن مضاعفاً من أرواحهم وأموالهم وأرزاقهم .
وبقدر ما كان الحصار الخارجي يضيق الخناق على العثمانيين كان هؤلاء يضيقون
الخناق بدورهم على اللبنانيين. فكانت سياسة التجويع جزءاً من مخطط أوروبي مدروس
لتفكيك السلطنة وإحتلال ما تبقى من ولاياتها العربية وتصوير هذا الإحتلال كعامل
إنقاذ لسكان بلاد الشام من الإستبداد العثماني .
عن أهوال المجاعة وآثارها وما خلفته من مآس في جبل لبنان كتبت مراجع عديدة،
وروى شهود عيان ما حدث إبان تلك المحنة التي عصفت باللبنانيين، وأنزلت بهم من
المصائب والكوارث ما يجعل الولدان شيباً .
فقد أمسك الأغنياء على ما في أيديهم من المال فخف الشغل، وكسدت الحرف وأقفلت
أبواب البحر فانقطع الغوث من المهاجرين وخنق السوري واللبناني معاً، وطغى
الجراد في أول سنة من الحرب، فأوقع الخراب واستنزف ما بقي في يد اللبناني من
أسباب الحياة .
ولما فرغت يد اللبناني من وسائل أخذ يبيع كل ما عنده كي يشتري بثمنه خبزاً،
فباع أولاً أرضه ومقتناه، ثم بيته وأثاثه، باع ذلك بأبخس الأثمان، فما كانت
قيمته عشرين ألفاً ذهباً بيع بعشرين ليرة ورقاً .
على أن السعيد الموفق من وجد لأرضه مشترياً أو مسترهناً، وهو يرضى بأن
يستدين المئة بمئتين بل بثلاث بل بخمس بل بألف إلى سنة واحدة .
المعمرون في برجا يروون حكايات تلك السنين
العجاف، ويُجمعون على أن قريتهم لم تتأثر كثيراً بالمجاعة الكبرى التي فتكت
بلبنان وشملت معظم قراه: |