لا نجهل ما وراء كتاباتنا بحق الأغنياء من ثوران خواطرهم وقيامها ضدنا،
لكنها هي الحقيقة أبت علينا إلّا أن نخدمها ثابتين في موقف الدفاع عن مبادئنا
الحرة نافين عن نفسنا كل خوف وحذر. ولسنا من الذين فقدوا كل شعور وتعرّوا من
كل وجدان فنقول: «قضي الأمر وجف القلم».
ولعمري كيف نسكت ونكسر القلم ونختنق الأفكار كأننا ما رأينا شيئاً وقد
رأينا في تلك الأيام العصيبة من المشاهد المخيفة الممثلة على مراسح هذه
البلاد التاعسة ما يفتت الأكباد ويذيب الجماد. رأينا وماذا رأينا؟
يا ليت أغنياءنا
الذين كانوا يرقصون على قبور قتلى الجوع في تلك الأيام المشؤومة هبّوا
لمساعدة المنكوبين أسوة باللبنانيين المهاجريني، ليت
أغنياءنا الذين كانوا يرقصون على قبور قتلى الجوع في تلك الأيام المشؤومة
هبّوا لمساعدة المنكوبين أسوة باللبنانيين المهاجرين الذين جمعوا
الإحسان وتبرعوا بالمبالغ الطائلة لتخفيف الويلات عن البقية الباقية من
إخواننا في لبنان.
رأينا ذلك المتموّل المتكبّر يمثّل الإنسانية القوية بكل مظاهر الغنى
والجاه من شمم الأنف ونعومة اللباس والتحلي بأثمن الجواهر وأنفس المعادن،
ورأينا ذلك الضعيف المعدم صريعاً في حومة الجهاد البشري يقاسي عذاب المسكنة
معفّر الجبين في تراب المذلّة تبدو عليه آثار الشقاء من ثيابه الرثة.
رأينا ذلك الغنيّ القويّ تائهاً في سبل القساوة تستعر نيرانها في جنانه
فخلا جنانه من شواعر الرحمة والحنان، ورأينا ذلك المسكين المستعطي منطرحاً
على فراش الضنى يعتنق الشقاء ويجرع كأس التعاسة.
رأينا ذلك الغني النافذ الكلمة يواليه الحظُ فيجمع الأموال الطائلة
ويرقد خالي البال ويأكل خبز الهناء ويشرب كأس الصفاء ويلذّذ نفسه بكل ما
يشتهي قلبه. ورأينا أخاه ذلك الفقير السيئ البخت يئنّ ويشتكي من أنياب الفقر
المدقع يواصل صراخه مستغيثاً إلى أن يبح صوته وينقطع نفَسه فلا يجد ضالّته،
فيتوسّد التراب ويفتت فؤاده ويقتات به ويفرغ كؤوساً من دموعه
ويشربها.
بحقكم أيها الأغنياء الذين تراميتم أيام نكبة البلاد على أقدام الترك
الظلَمة فنثرتم عليهم أزهار المديح والثناء وأهديتموهم أنفس الهدايا وأعددتم
لهم أفخر الولائم وأطربتم مسامعهم بأشجى الأغاني وهلمّ جراً.
بحقكم أيها الأغنياء من سليم علي سلام إلى آل سرسق
إلى آل طراد إلى آل الأصفر إلى آل بيهم إلى آل غندور إلى آل مخيش إلى كل غني
في بيروت وفي الجبل من أطرافه إلى أطرافه.
حقكم قولوا لنا: بماذا جدتم على المعدمين من إخوانكم في الإنسانية أيام
كنتم تُشبعون شهواتكم في الملاذ وتطربون مع جمال السفاح وعلي منيف المراوغ
وعزمي الدموي؟ كانت موائدكم تحاكي موائد الملوك في داخل قصوركم الغنية وكان
تحت تلك القصور صدى الأنين والتوجّع يشق الماء والسماء.. جدران منازلكم كانت
ترقص طربا بينما تحت نوافذها الملعونة أصوات الثكالى واليتامى تناديكم
قائلة:
«سلام لمن يمرّ في الديار، نحن إخوانكم في الإنسانية، احتكرتم أنواع
لوازم الحياة وسابقتمونا على الأقل من القليل من سائر أنواع الحبوب فهلّا
تتكرمون الآن علينا بما يفضل عن كلابكم؟ لقد أصبحنا أشباحاً كسيري القلب
كلمتنا عوالي الدهر ورضّتنا كرات الشقاء فهلّا ترقّ جوارحكم لنا أم ترفق
عواطفكم بنا؟.»
ضربت غشاوة على عيون
الأغنياء فما أبصروا وصمّت آذانهم فما سمعوا وشُلّت أيديهم فما جادوا بشيء
على المستغيثينواحسرتاه! ضربت غشاوة على عيون الأغنياء فما
أبصروا وصمّت آذانهم فما سمعوا وشُلّت أيديهم فما جادوا بشيء على
المستغيثين. فأصبحت بذلك ــ كما قال أديب إسحق ــ رؤوس الفقراء صوامع
تصلّي عليها رهبان الغربان وأجسامهم مطاعم للعقبان.
أبهذا قضت شرائع الإنسانية؟ أم بذا ترضى الشواعر الأخوية؟ أم يسوّغ ذلك
دينياً أم أدبياً أم كيفما أردت قل؟.
يا للجناية الهائلة!
كأني بتلك الدماء تطلب دماء منكم أيها الأغنياء السفاحون.
كأني بتلك الأمواج، أمواج من الدماء اللبنانية تتدفق عند أسرتكم أيها
البرابرة ويخيل لي أن فرشكم تعوم على تلك الأمواج فتمدّون أيديكم مستغيثين
فتلتقي بأشلاء القتلى والضحايا ضحايا ظلمكم طافية على وجه تلك
الدماء...
لو أنّ أغنياءنا أنفقوا فلساً واحداً في سبيل النفع العام أو بذلوا
درهماً في سبيل الإحسان، لو أن أفئدتهم الصخرية لانت لمرأى تلك الفواجع التي
تدمي القلوب حرقةً وتقطع الأكباد حسرة لكسرنا القلم وخنقنا بعض الأفكار
وخفّفنا اللوم والتثريب.
كتبنا ما كتبنا ونحن شاعرون جيداً بحراجة موقفنا ومشاهدون جلياً عيونأ
ترشقنا بأحدّ من السهام وقلوباً تغلي على المراجل علينا حقداً وحنقاً. ولكن
عفواً أيها الأغنياء المستكبرون اللئام، قلنا إننا لا نخاف ولن نخاف ما زلنا
نجاهر بالحق «والحق يعلو ولا يُعلى عليه».
|