1-
قرار حاسم
عام 1905، انسحب
يوسف خفية إلى دير كفيفان للترهّب.
فوجئ
إخوته بالأمر، برغم أنّهم كانوا
يرون فيه شابا مثاليّا، راهبا في البيت، فحزنوا لفراقه.
لحقوا به إلى الدير، قاصدين أن
يقنعوه بالعودة معهم، فلم يذعن لهم، بل كان جوابه: إلى هنا جئت وهنا أموت.
2-
مبتدئ مثاليّ
تنشّأ يوسف في
الابتداء على يد رجل الله الأبّاتي
أغناطيوس التنّوري، معلّم المبتدئين آنذاك، فزرع هذا الرجل الفاضل في قلبه بذور
القداسة، فغدا مسرورا جدّا بدعوته. وحسب شهادة معلّمه "القدّيس": كان سالكا
بحفظ القوانين بكلّ نشاط ومحبّة وبإعطاء المثل الصالح لإخوته، والترقّي في سلّم
الكمال الرهبانيّ، متّخذا له اسم إسطفان، تيمّنا بوالده وبأوّل الشهداء شفيع
بلدته.
وشهد الأب متّى
زان في زيارة قانونيّة قام بها الأب العام يوسف رفّول: حالة المبتدئين مرضية
للغاية من كلّ الأوجه، ولا يعيقهم شيء في خطّتهم الروحيّة، فإنّ معلّمهم الأب
اغناطيوس التنّوري باذل كلّما في وسعه لترقيتهم الى درجات الكمال... إنّ جميع
جمهور هذا الدير قائمون بالواجبات الروحيّة بكلّ أنواعها، يصلّون لفظيّا
وعقليّا، ويعترفون غالب الأيّام، ويتناولون القربان المقدّس، ولا يوجد حالة
روحيّة مقدّسة أفضل من حالة سكّان هذا الدير، فإنّهم يُخالون أنّهم ليسوا ببشر!
3-
عهد أبديّ
فهم الأخ اسطفان، خلال الصلاة
والتأمّل المستمر، في سنتي الابتداء، أنّ الله القدّوس خلقنا على صورته ومثاله
لنتقدّس. وطالما سمع من معلّمه اغناطيوس التنّوريّ أنّ القداسة ليست حظّا بل
هي خيار وقرار، وهي نعمة وإرادة: النعمة من عند الله والإرادة من
عندنا. من هنا صمّم الأخ اسطفان على السير في درب القداسة، وقطع مع الله
عهدا أبديّا، فأبرز نذوره الرهبانيّة في 23 آب عام 1907، ليكمِّل سيرته
المقدّسة بحفظ المشورات الإنجيليّة الطاعة والعفّة والفقر الاختياريّ، بحسب
القوانين الرهبانيّة، والسير نحو الكمال المقدّس.
4-
طاعة مثاليّة
كان
راهبا قانونيّا مطيعا
مثاليّا بطاعته، يعمل بحسب أمر
رئيس الدير، محافظا على واجباته ونذوره، قائما بما عُهِد إليه أحسن قيام.
يتنقّل بسهولة من دير إلى دير، ومن عمل إلى آخر، حسب أمر الرؤساء، دون أن يعلّق
قلبه بشيء.
-
سلاح الراهب
أعطاه الأب
العام مرّة تنبيها على المائدة، فجثا فورا على ركبتيه أمام الجميع، السلطة
العامّة والآباء والرهبان الأخوة والتلاميذ الدارسين. مطبّقا المثل الرهبانيّ
القائل: سلاح الراهب: مسبحتو وركابو. أي الصلاة والتواضع.
5-
عفّة ملائكيّة
كان طاهرا
لا بل نسمة طاهرة كأنّه ملاك، محتشما بلبسه، لم يتلفّظ يوما بكلمة شاذّة. يحبّ
العمال كثيرا ويطلب منهم ألاّ يتكلّموا كلاما مشينا.
-
كأنّه ينبّهني إلى ضبط الكلام
شهد الأب اسطفان
فرحات الجاجي: عرفت الأخ في دير سيّدة ميفوق أيّام الحرب العالميّة الأولى، إذ
وجدنا هناك معا، وكنت تلميذا في مدرسة سيّدة المعونات- جبيل وبسبب تلك الحرب
الطاحنة، اضطرت السلطة الرهبانيّة العليا، أن تطلق التلاميذ- في مدّة الحرب-
إلى الأديار ليقيموا فيها، إلى أن تنتهي الحرب، فيعودون إلى متابعة دروسهم.
وكانت قرعتي في تلك السنة، أن أكون في دير سيدة ميفوق.
وكان الاخ اسطفان
هناك رئيس حقلة وكان يحترف النجارة في الوقت نفسه. ولأنّنا ندعى كلانا باسم
اسطفان كان يناديني دائما: يا سميي، ولذلك كنت أتردّد عليه كثيرا في حانوت
نجارته قرب البيدر فنتحدّث عن أمور الحرب وويلاتها، وعن الضائقة الرهبانيّة
أثناءها، وعن أمور كثيرة غيرها- وهو مكبّ على عمله، بينما أنا جالس على قطعة
حطب أعدّها مقعدا له وقت استراحته، وكان يبدو لي في أحاديثه وملابسه وحركاته،
كلّي الاحتشام والتحفّظ، وعندما تبدو منّي كلمة جافية كان يناديني سميي! -
كأنّه ينبّهني إلى ضبط الكلام فأعتذر له...
6-
فقر كامل
على مثال المسيح
الذي لم يكن له موضع يسند إليه رأسه، كان الأخ إسطفان متجرّدا كلّ التجرّد،
محافظا على فضيلة الفقر المقدّس،
فقيرا عاملا لمجد الله وخير
الرهبانيّة، "ما معو فرنك
ما معو شي، ما يقتني مصاري"، إذا باع شيئا من الحقلة، كان يعطي ثمنه لرئيس
الدير أو للأقنوم. كان فقيرا في لبسه، لم يكن له قميص، فألبسه رئيسه قميصه عند
الوفاة. عباءته كانت نظيفة، وبيده كان يغسل ثيابه. ولم يكن يضيّع الوقت
سدى، فيصرفه مصليّا أو عاملا في
النجارة أو الحقل.
لم يكن يغادر
الدير إلاّ نادرا. وزيارته للأهل في لحفد كانت قليلة.
إذا اضطرته الظروف على الذهاب إلى لحفد
لزيارة الأهل يجعلها زيارة خاطفة،
ويعود مساء إلى الدير،
وفي اليوم الثاني يعمل كالمعتاد.
وذات يوم كان
راجعا من بلدته إلى الدير، وكانت الأمطار غزيرة، فاعترضه بعض أقاربه ومنهم
طنّوس الياس نعمه، وألحّوا عليه ليبقى في الضيعة، ولكنّه برغم الأمطار الغزيرة،
واصل سيره إلى الدير، لأنّه ما اعتاد أن ينام خارج ديره.
وشهد ابن أخيه:
عمّرنا غرفة شدّ لنا عمّي الأخ منجورها. ولمّا أنهاه قال لوالدي: هالمنجور
كلّف أخشابه ليرتين، هودي بدكن تدفعوا ثمنها. وأمّا إجرتي، فقد طلبت من الرئيس
تركها لكم مسامحا. فقال له أحدهم: وهودي الليرتين اتركهم لبيت أخيك. أجاب:
أنا لا أريد أن يدخل بيتهم شيء من مال الوقف.
7-
مهنة للحياة
أتقن الأخ إسطفان،
بعد مرحلة الابتداء، مهنة النجارة، حتّى قيل فيه: "الأخ اسطفان ما فيه يدشِّر
المنشار، بتبرد مسكتو". مع النجارة، أمضى الأخ اسطفان حياته في الرهبانيّة، على
مدى 31 سنة، عاملا في الأديار وفي الحقول والكروم.
8-
خادم لله في الرهبانيّة
تنقّل الأخ
إسطفان في الرهبانيّة من سنة 1907 إلى سنة 1938، بأمر الرؤساء، بين أديرة:
سيّدة ميفوق (1907- 1910) ومار أنطونيوس حوب (1910-1913)، ومجدّدا سيّدة ميفوق
(1913- 1922) ومار مارون عنّايا (1922-1925)، ومار شلّيطا القطّارة (1925-1928)
وسيّدة المعونات جبيل (1928- 1938) وأخيرا مار قبريانوس ويوستينا كفيفان
(1938).
كان تنقّله هذا
رحلة مقدّسة، وتحوّل دائم من المادة إلى النور، بالصلاة والخدمة والصمت الحيّ
المصغي.
9-
جرأة وحرّيّة
عاش الأخ إسطفان
حرّيّة الروح، وعلم أنّ من يعمل الخطيئة، يصير عبدا للخطيئة، ولو كان بيده
صولجان الملك. لذلك كان حرّ الضمير، جريئا لا يهاب أحدا في الحقّ، فهمّه الوحيد
أن يرضي ربّه. وكان يدافع
عن الأجراء والعمّال ولا يسمح لأحدهم أن يتكلّم كلاما مشينا.
ومن تجرّأ على التلّفظ بكلام مشين
بحضرته، يكون حظّه الطرد من عمله، إذ يدفع له أجرة نهاره ويقول له: لا تأتي
غدا.
-
أنا رئيس الحقلة!
كان رجل من جران
القريبة من دير كفيفان يعمل على دابته في دير كفيفان، وكان الأخ رئيس حقلة
الدير. فكان الأخ المساعد يطلب من العامل بعد انتهاء العمل خدمات مجانيّة،
ويقول له أخيرا: الله يؤاجرك. فعلم بذلك الأخ اسطفان. فأتى وقال للعامل: أنت
عامل تعب، وبعد انتهاء العمل عليك أن تذهب إلى بيتك لتطعم دابتك وترتاح وعندك
عمل في بيتك. أنا رئيس الحقلة، لا تسمع من الأخ إذا أشغلك بعد انتهاء وقت العمل!
10-
سلام دائم
إمتاز الأخ
إسطفان بالوداعة والهدوء وسكون الضمير،
لا يغضب أبدا، بل يظلّ دائما
طويل البال والأناة والروح، لطيفا رحوما مع الجميع.
حياته منظّمة هادئة، لا يتأفّف،
ولا يتذمّر من أكل أو من معاملة أحد.
يعمل بوصيّة
الربّ يسوع: طوبى لفاعلي السلام فإنّهم سيدعون أبناء الله.
يحبّ السلام ويكره الخصومة بين
الناس. إذا حدثت مشاجرة
بين جماعة فضّها سريعا، وإذا حدث خصام أسرع إلى
إطفاء ناره بما كان يتحلّى به من حكمة ودماثة أخلاق ولين عريكة وخبرة في
الأمور، فيعيد السلام إلى القلوب.
-
روح ارتاح!
كان الأخ إسطفان،
رئيس حقلة دير سيدة المعونات جبيل، وكان معه فلاّحون يحرثون أرض الدير على
البقر. وكان أحد الفلاّحين يسبّ ويكفر ويصرخ غاضبا على فدّانه الذي يعذّبه ولا
يسمع كلامه– كون الفدّان يتعوّد على صوت الفلاّح ليفهم عمله، ليقف أو يسير
شمالا أو يمينا...- وبدأ يعنّف الفدّان يوخزه بإبرة المسّاس، والفدّان يتوتّر
بزيادة، حتّى كاد الفدّان يكسر النير ويخلع الصند. وكان من عادة الأخ اسطفان أن
يطرد كلّ عامل تفوّه بكلمات بذيئة. ولكنّه هذه المرّة تقدّم من الفلاّح قائلا
له: اعطيني الفدّان، خلّيني إفلح عنّك! روح ارتاح. أخذ الأخ إسطفان يفلح
بهدوء، فهدأ الفدّان. وبعد أن ارتاح الفلاّح بعض الوقت، وشرب سيجارة، ناداه
الأخ اسطفان ليعود إلى عمله. فبقي الفدّان هادئا! فقال له الأخ اسطفان: شفت!
بس رقت، راق الفدّان! وهكذا شكر الفلاّح الأخ اسطفان واعتذر عن كلامه غير
اللائق.
11-
يوميّاته
يقوم باكرا
يوميّا إلى الإشتراك في القدّاس الإلهي، فيتناول القربان المقدّس كلّ صباح قبل
التأمّل، ويحضر التأمّل، وصلاة الصباح الخورسيّة مع الجمهور، ثمّ يخرج فيجهّز
أغراض الحقل مع الأجراء. ويسيرون سائقين أزواج البقر للزراعة، ويسير هو وراءهم
ومسبحته الورديّة بيده إلى مكان العمل. يضع مسبحته على صخر، ويبذر لهم الأرض
فيبدأون بعملهم، وهو يرجع إلى مسبحته يصلّي، وعيناه ساهرتان على العاملين في
الحقل، حتّى منتصف النهار، فيجلس وإيّاهم للغداء. ثمّ يبذر لهم الأرض الواجب
زرعها ويرجع إلى مسبحته ويبقى كذلك حتّى نهاية النهار. فيجمع الأجراء أغراض
الحقلة ويحملونها، ويسوقون البقر راجعين، والأخ إسطفان يتلو ورديّته سائرا
وراءهم، حتّى يصلوا إلى قرب الدير فهم يهيّئون عشاء البقر وهو يرجع إلى الكنيسة
ومسبحته بيده. ولا يخرج من الكنيسة إلا وقت العشاء. وبعدها يعود يصلّي في
الكنيسة إلى وقت النوم. فيخرج والمسبحة في يده ويدخل غرفته. تلك كانت حياته
طوال السنة في إدارة مزارع الدير واستثمارها، فكان هو هو في كلّها دون أن يغيّر
شيئا في نظام حياته الروحيّة والعمليّة.
وبشهادة أخرى:
كان حاضرا دوما قبل طلوع الفجر مهتمّا بالبقرات ومنتظرا العمال وفي يده سبحة
البتول مريم. كنّا نبدأ نهارنا معه بتلاوة التبشير الملائكيّ، وهو راكع. كان
يعزّل الحجارة أمامنا، أثناء الفلاحة، ويعمّر الحيطان. يحصد القمح، ويجمع
أغماره على البيدر الذي يستوعب 300 حملة قمح، يقلب طرحة القمح وحده، بينما نحن
نستريح تحت السنديانة ونأكل من الفواكه التي قطفها لنا. وعند قرع جرس الدير
ظهرا، يتوقّف عن العمل ويركع مكانه، حتّى ولو كان على الرجمة، ويتلو التبشير
الملائكيّ. وعند انتهاء العمل نتلو كما بدأنا التبشير الملائكيّ.
12-
مثل صالح
كان محترما لدى
الجميع، يحترمون فيه الفضيلة والتقوى الصحيحة، وصفات الراهب الصالح، خفيف الروح
محبوبا من الجميع نظرا ومثله الصالح. وكان الرؤساء يتنازعون ويتسابقون على طلبه
ليكون في عداد جماهيرهم زينة لأديارهم. كان يعطي المثل الصالح في كلّ تصرّفاته،
فكلّ جمهور الدير آباء وإخوة كانوا يتّخذونه مثلا صالحا أمامهم، ومنارا للأجراء
التابعين له، وقدوة صالحة بجميع أعماله لجميع الناس، فالجميع يلهجون باسمه
لقداسة روحه.
واذ سمع احدا
يتكلم بأحاديث غير مثمرة ولا مضرّة تظهر على ملامحه إمارات عدم الرضى فيقطع
الحديث المتكلّم الحديث احتراما له.
-
يوقد شعلة الإيمان
شهد بشارة نعمة:
تعرّفت إليه يوم كنت تلميذا في معهد سيّدة ميفوق فكان في بيت الله مثالا حيّا
يوقد شعلة الإيمان وروح التقوى في الناظرين إليه وخصوصا في قلوبنا نحن الصغار.
-
رائحة المسيح
شهد ابن أخيه:
كنّا في شبابنا على اتصال معه ولم نكن نشاهد فيه إلاّ المثل الصالح كما كنّا
نسمع عنه في الرهبانيّة الأخبار الطيّبة التي هي رائحة المسيح تفوح في كلّ
مكان.
-
أرى فيه شخص المسيح
شهد الخوري بولس
ابن أخيه: حبّب عمّي إليّ روح التقوى، وشوّقني إلى الكهنوت، وأعطاني المثل
الصالح. فكنت أرى فيه شخص السيّد المسيح ووداعته وتواضعه.
-
حبّب إليّ الرهبانيّة
شهدت الأخت
مارينا ابنة شقيقه: كان يحرّضني على حفظ الآداب والأخلاق الطاهرة، في كلّ مرّة
أجتمع به ويقول: انتبهي يا بنتي، إنّ الفتاة مثل الزجاجة، إذا عطبت ذهبت
وبادت! حافظي على واجباتك الدينيّة، واهربي من الأسباب المضرّة بالآداب التي
ألفتها بنات هذا العصر، ولا تتبعي الأزياء. وقد حبّب إليّ الرهبانيّة
بمحبّته وسداد رأيه الصائب، وأنا لم أكن أحلم بدخول الدير. وقد باشر بطلب
المأذونيّة لأدخل الدير. بيد أن الموت عاجله، قبل إتمام عمله، فبتّ أندب حظّي!
وذات ليلة رأيت في الحلم الأخ إسطفان وقال لي: لا تخافي أنا لم أمت بل أنا
حيّ! فقلت له: ودعوتي؟ قال: لا تخافي، بل اتكلي على الله وهو يدبرك!
وفي صباح اليوم التالي أتتني المأذونية، ودخلت الدير.
13-
تواضع عميق
كان
الأخ إسطفان مسالما، بعيدا عن الخصومات، قنوعا. حالة النعمة على وجهه. مع كونه
خبيرا بأمور الحقل، كان يتهرّب من المسؤوليّة، ولا يريد أن يكون متقدّما.
يقبل النصيحة والمشورة من سلطته ومن إخوته بكلّ ارتياح.
في الشتاء كان
يصرف أيّامه في محل نجارة الصنود والأنيار. وكان ذا قوّة عجيبة يأخذ شلف الحديد
فيطويه لدى الحاجة أو يقوّمه وإن سئل عن ذلك تبرّأ متّضعا.
-
اعتذر بلطف
شهد الأخ سمعان
لحفد: سكنت والاخ اسطفان نعمة في غرفة واحدة بمزرعة كفرسيّادة الخاصّة بدير
المعونات، فلاحظ يوما أنّه يضايقني ليلا فيحرمني قسما من النوم لأنّه كان يشخر
في نومه فاعتذر إليّ بلطف وصنع لنفسه غرفة ضيّقة إزاء غرفتي فأحببت أن
أنقل أنا إليها ليظلّ هو حيث كنا فلم يشأ بل نقل فرشته إليها وسكنها بهدوء.
14-
عمل مثمر
يشهد الجميع أنّ
الأخ إسطفان كان إنسانا نبيها، قويّ البنية، صحيح الجسم، نشيطا في عمله، نجّارا
ماهرا ولبقا،
يجمع المورج، ينجّر الصنود والأنيار للبقر، والسكك للفلاحة، ويصلح عدّة الحقلة
والشبابيك، وبنّاءً مميّزا يعمّر الحيطان، لكنّ أكثر أعماله كانت في الحقل،
ينقب الأرض ويحرثها على الفدّان، وقد سمّي "رئيس حقلة"،
يدبّر أملاك الدير، يزرعها
ويستثمرها ليوفّر مؤونة الجمهور مدى السنة كاملة، فلا يحتاج الدير أن يشتري
شيئا من المؤن طول السنة.
يتعب ويكدّ لخير
الدير ونجاحه، فيحافظ على أملاك الدير ويعمل بلا انقطاع. يشتغل وهو يناجي ربّه
لا يلهو أبدا، وإذا خرج من بيت الله، بل يواظب على أعماله اليدويّة ولا يلتهي:
كان خصما لدودا للبطالة. حياته حياة نشاط وعمل لا فراغ فيها.
-
غداؤه للفقراء
شهد الأب بطرس
زهرة: كثيرا ما كنت أحمل له الغداء الى الحقل، وعندما يقرع جرس الدير، عند
الظهر، يركع ويتلو السلام الملائكيّ، ثم يدعو الأجراء والعملة إلى الغداء،
ويأمرهم أن يصلّوا في بدء الأكل. وكثيرا ما كان يوفّر من طعامه ليطعم الفقراء،
سواء كانوا من العملة أو الشركاء، في الدير وفي الحقل. وهو يتّخذ في الحقل
ناحية يخلو بها إلى الصلاة ثمّ يعود إلى الفلاحة يفلح على الفدّان بذاته أغلب
الأحيان.
وروى أحد شركاء
الدير: كنت يوما أعمل معه في حقل دير كفيفان وقد لاحظ أنّي بدون زوّادة، وكان
العمل طويلا أي من السادسة صباحا إلى الرابعة بعد الظهر ويستحيل العمل من دون
غداء. وكنّا فقراء ويومها أتيت بدون زوّادة. فأعطاني زوّادته. فقلت له: لا يا
معلّمي أنا ما بدّي. فألحّ وأعطانيها، وذهب هو وقت الغداء مع كسرة خبز يجمع بعض
الأعشاب ويأكلها! وهذه كانت تتكرّر بكثرة.
-
عا كفالتي ما بيوقع
شقّوا طريقا
للسيّارات تصل إلى دير المعونات، وكان حائط مبنيّ على كوع، قد انهدّ ثلاث
مرّات، تحت الدير، فتدخّل الأخ اسطفان وقال للرئيس العام: يا أب العام
بيهدّي الحيط بس بدّو المعلّم يعمّرو منيح ويركّو منيح. عطيني فعالة، والمعلّم
يسمع منّي وأنا عا كفالتي بقدر بعملّك الحيط، وعا كفالتي ما بيوقع. فأتى
الأخ اسطفان ونبش الحائط وبناه جيّدا، وإلى الآن لم يقع الحائط. شكره الأب
العام والمدبّرون، وعملوا له حفلة على المائدة، إذ بسبب سقوط هذا الحائط،
جُرِح 4 أشخاص.
-
ذكريات غاليات
شهد الأب مخايل
الخوري: الأخ اسطفان كنت معو بدير المعونات 1931-1935 على مدى أربع سنوات. كنّا
نعمل يوم الخميس ساعتين، ونذهب إلى الأخ اسطفان في كفرسيّادة حيث كان يشتغل في
الأرض، ويهتمّ بالموز والليمون والزيتون، مع العمّال. وكان الخير طافحا، ويده
مباركة، كنّا نجمع الأحجار، وننقب التراب، ونقلع العشب، وهو يشتغل معنا،
وإسكيمه على رأسه، ووقت الشمس كان يربط فوطة على رأسه لتحميه من الشمس. من بعد
الشغل، كنّا نجلس عنده بالحارة، وهو يحكي لنا عن الرهبان المشهورين بقداستهم،
عن شربل ورفقا والحرديني وعن الحبساء في الرهبانيّة، كيف كانوا يعيشون، وكيف
كانوا يشتغلون، وبعد الحكي كان يقول لنا: هلّق إجا دور المسبحة، ومن بعد
صلاة المسبحة كنّا نرجع عا الدير.
15-
محبّة حنونة
فهم الأخ اسطفان، وهو المتأمّل في
الإنجيل، أنّ المحبّة المسيحيّة لا تطلب ثمنا، ولا مقابلا لعطائها ذاتها. لذا
كانت حياته مجبولة بالحبّ والعطف والحنان خاصّة على ذوي الفاقة،
ويطعم العملة الفقراء ما عنده.
كان محبّا للجميع، لا يماحك ولا يجرح أحدا بكلمة، ومحبوبا من الفعلة
الذين كانوا يعملون معه، إذ يلقي عليهم النصائح والإرشادات.
كان سهلا جدّا مع الفعلة، شفوقا،
محبّا، ورحوما عليهم، يهرع إلى مساعدتهم إذا قصّروا في عملهم، فيساندهم ولا
يقسو عليهم،
لذا كانوا
يحبّونه كثيرا ولم يكن يؤذي أحدا.
ومعاملته للناس كانت حلوة ورضيّة
فلا يسيء إلى أحد.
كان قريبا من
العالميّين وبعيدا عنهم في الوقت نفسه، مضيافا حنونا متواضعا محبّا قريبا إلى
القلب. ويؤكّد أخوه: كنت أزوره من حين إلى آخر فيجلس إليّ ويظهر لي العطف
والاهتمام بمصالحي.
-
الإخوة العملة
كان يقول للإخوة
العاملين في الرهبانيّة: "الرهبان الكهنة يخدمون يسوع بمحبّة بعد اطلاعهم
أيضا على العلوم وعلى ثقافة عالية. أمّا نحن الإخوة العملة فيكفي يا إخوتي أن
نخدم الله بمحبّتنا الكاملة له وتكرّسنا الرهباني وهذا المهم.
-
أبّ وأمّ
إبّان الحرب
العالميّة الأولى، حدثت في لبنان مجاعة كبرى، هلك فيها ثلث سكّانه، فقنّن دير
ميفوق في تلك الأيّام السوداء الخبز لرهبانه. كان الأخ اسطفان يأكل منها رغيفا
واحدا، ويوزّع الباقي على الفقراء والجياع. ومرّة دخل الاخ اسطفان على عائلة
جائعة حاملا إليها الطعام فوجد الطفل الرضيع يرضع ثدي أمّه الميّتة. أثّر فيه
هذا المشهد حتّى الأعماق، فحمل الصغير بعطف الأمّ على ذراعيه إلى حارة الحقلة،
وراح يعتني به عناية شديدة يرضعه من ضرع البقرة الحلوب، مع لفيف من رفاقه
البؤساء الآخرين. وما زال يهتمّ بهم حتّى خرجوا بعد الحرب سالمين.
-
يتفقّدهم بروح المحبّة
في أيّام الأخ إسطفان كان في دير
ميفوق 73 راهبا. إذا شاهدوه عانقوه بحبّ، لأنّه كان كلّ ليلة يعود من الحقل،
يدور على غرفهم، يتفقّدهم بروح المحبّة، ويقضي لوازم الشيوخ منهم.
وإذا سمع راهبا يتكلّم بحقّ أخيه الراهب أمامه، يحزن ويترك حالا.
-
يا حرام! لا تكمّل!
روى شريك لدير
كفيفان: كنت فتى بعمر يقارب الرابعة عشرة أنكش وراء الفدّان بالمعول. فالفدّان
عندما يفلح يبقي زوايا بورا خاصّة قرب الحيطان والأشجار والدوالي. وكون يديّ لا
تزالان طريئتين وأنا غير معتاد على هذا العمل الطويل والشاقّ، بقبقت يداي وسال
الدم، فعندما رآني الأخ اسطفان على هذه الحالة، شفق لحالتي وقال: يا حرام.
أوقفني عن العمل وجلب عشبة معروف عنها في تقليد الطبّ القديم أنّها تطيّب
الجراح وصار يداوي جروحي. ولما انتهى قال لي: لا تكمّل العمل بالمعدور، روح
نقّي حجار، وهذا العمل أسهل بكثير بالنسبة لي.
-
لطف وسرور
كان الأخ اسطفان
كثير الرأفة بالشركاء الذين يأتونه لإصلاح معدّات الزراعة: المحراث والنير
والمعول وغير ذلك من لوازم الحراثة، فيلبّي طلبهم بكلّ سرور ولطف. وكان يحدثّهم
بكلّ رصانة بحديث خال من الهزل والكلام الفارغ.
-
من مآسي الحرب
شهد الأب اسطفان
فرحات الجاجي: التقيت بالأخ اسطفان في دير مار انطونيوس حوب، وكانت الحرب قد
انتهت وعاد التلاميذ الى متابعة الدروس في مدرسة سيّدة المعونات، وفي العطلة
الصيفيّة كان التلاميذ يتوزّعون على الأديار الجرديّة، وصدف أن كانت قرعتي أيضا
في دير حوب في عهد رئاسة الأب نعمةالله اللحفدي، وكان الاخ اسطفان رئيس حقلة
أيضا، فكان من الطبع أن زاد حبّي وتعلّقي بالأخ اسطفان نظرا لماضينا معا في دير
سيّدة ميفوق. فلم أكن لأدع فرصة سانحة إلاّ وأذهب إلى مجالسته وخاصّة في
البناية المعدّة للحيوانات، وهي بعيدة عن الدير، وكثيرا ما كنا نتحدّث معا، عن
أيّام الحرب الكونيّة الماضية، التي قاسى فيها لبنان المآسي ومات كثيرا من
أبنائه جوعا، ونتذكّر خاصّة، كم قاسى إذ ذاك الأب أنطونيوس نعمة رئيس ميفوق من
الشقاء، وتجشّم الأسفار إلى عكّار وحمص وحماه للحصول على ما يقوت به الرهبان
والشركاء والفقراء حول الدير. وكان باب الدير مفتوحا للجميع، والصورة التي أخذت
لهؤلاء في ساحة الدير تشهد على ذلك، وهي موجودة في صالون دير ميفوق. وكان الأخ
اسطفان وغيره من الرهبان يوزّعون على هؤلاء الأطعمة بكلّ سخاء ومحبة.
16-
صلاة
كان راهبا صالحا،
تقيّا، ورعا، يصلّي كثيرا، ويتأمّل طويلا، وكأنّه ملاك بصورة بشر،
مواظب على الصلاة، ومثابر على
زيارة القربان الأقدس. وكان في جوّ صلاة دائمة، حتّى عندما يكون صامتا، كان
يبان وكأنّه يصلي. وكان يردّد طيلة النهار هذه العبارة: الله يراني.
كان أوّل من
يدخل الكنيسة وآخر من يغادرها.
كان يحضر أوقات الصلاة في الصبح
والمساء، مع الجمهور دون إبطاء، وبينما يكون الكهنة والتلاميذ يتلون الفرض
البيعي، وهم عاقدون حلقة حول القرّاية -وهي من صنعه- يكون الأخ اسطفان جاثيا
على ركبتيه في صحن الكنيسة على البلاط، بالرغم من وجود مقاعد خشبيّة فيها، وهو
يتلو صلاته في الشبيّة، أو على حبّات الورديّة.
-
صرخة وقرع صدر
ملأ الله كيان
الأخ إسطفان فداوم الحمد والشكران كمحوريّة تجعله يشكر بلا انقطاع الربّ الخالق
القدير المحبّ الفادي... يرنّم يا أمّ الله... ويشهد الأب يوسف الخوري:
فكم كنّا نتأثّر عند سماعنا صوته الناعم الشجي خاصّة عندما يصرخ قارعا صدره:
تشفّعي فينا يا عذرا.
-
في عالم آخر
روى الأخ شربل
نعمة: أتيت في أواخر أيّامه في دير كفيفان، وكنت أعمل معه وهو شجّعني لأكون
راهبا. وكان الأخ إسطفان يهتمّ بالزرّيعة الصيفيّة، من بندورة وخيار ومقتي
وغيره... وكان يعمل فيها لوحده بكثرة وكان يردِّد هذه الترتيلة، بلذّة وفرح،
وهو يعمل وهي:
يا قلب الفادي
كلّ العباد أضرم بقلبنا هواك
إنّ العبادة لك
سعادة طوبى لمن يبغي رضاك
طوبى لمن يرضي
جلالك يا قلب يسوع المجيد
يعود إن رأى
جمالك من هذه الدنيا سعيد
كنزي خيري حظي
حياتي مجدي أيا بحر الصلاح
تاقت نفسي إليك
تأتي هبها من حلمك السماح
إقبلني في حلمك
الزاهي يا منقذي كي أستريح
واملك أنت في
قلبي الواهي واجعله بالحبّ جريح
وكان عندما
يرتّلها كأنّه مخطوف في عالم آخر. وكنت إذا ناديته يتأخّر ليلملم أفكاره
ويجيبني.
17-
صمت عميق
كان يمتاز بفضيلة
الصمت التي هي جمال الراهب.
لا يتكلّم، عند الحاجة إلاّ
الكلام اللازم،
متأمّل.
وإذا تكلّم فبصوت
منخفض.
-
لطف وابتسامة
شهد الأب اسطفان:
لم يكن أحد يسمع منه كلمة بطالة أو جارحة، وإذا أظهر لواحد أنّه غير راض عنه
فيقول له: يحرق شيطانك وهذه الكلمة التي سمعتها منه مرارا. فسألته مرّة:
يا معلمي خي اسطفان شو عامل معك الشيطان حتّى تحرقو دايما؟ فأجابني بكلّ لطف
وهو يبتسم: أنا عم بحرقو؟ فهو محروق رايح رايح!
18-
فرح
كان
يستقبل الإخوة بكلّ ترحاب وأخوّة
والابتسامة لا تفارق وجهه، وما وجد عابسا. يقبل النصيحة أو الشور من سلطته بكلّ
ارتياح. وكان يُفرِح من يلقاه. ويُسِرّ من يعمل معه.
- أنا عم إمزح!
شهد الأب مارون
كرم التنّوري: عندما تدخّلت روما عام 1938 وعيّنت الأبّاتي باسيل غانم رئيسا
عامّا. وكانت الرئاسة العامّة مع أهل بلدتي بالتناوب بين رجل الله الأبّاتي
اغناطيوس داغر (1913-1929) والأبّاتي مرتينوس طربيه (1929-1938). ضجّت يومها
الرهبنة، وصار هذا التغيير حديث الرهبان بين الفرحان والمتفاجئ والغاضب
والمطيع. وملأت المناشير، التي هاجمت الرئيس العام الجديد، مماشي دير الرئاسة
العامّة في جبيل. وكانت معروفة، ولا تزال إلى اليوم، قضيّة المقاطعات والمناطق
في الرهبانيّة، ومنها ينبثق مفهوم القوميّة القرويّة، فيقال "التنارني" أي
رهبان تنّورين، و"اللحافدي" أي رهبان لحفد... كلّ يشكّل قوميّته القرويّة. وكان
الأخ إسطفان راهبا عاديّا، غير متميّز، على الاطلاق، بمظهر قداسة ظاهر عن بقيّة
إخوته الرهبان، وما أشار عليه أحد أنّه راهب قدّيس، يمزح وينكّت أحيانا. وكنت
من أعزّ الرفاق للأخ إسطفان وكنت أرقد معه في كفرسيّادا، إذ ضاق دير المعونات
بالرهبان: السلطة العامّة، ورهبان الدير والإخوة الدارسون. فبعد تغيير السلطة
العامّة بسبب تدخّل روما، حزنت بعض الشيء، كون الرئيس العام السابق من بلدتي
تنّورين. فأنشد لي الأخ إسطفان بيت عتابا مازحا، ومضمون بيت العتابا: نكتة و"تزريكه"
لخسارة "التنارني" الرئاسة العامّة بعد امتلاكها ربع قرن، وكون الجوّ متوتّرا،
اعتقدت أنّ الأخ اسطفان جدّيّ في ما يقول، فقلت له: ولو يا خي اسطفان؟! إنت
راهب وبتقول هيك؟! فأجابني ببسمته المعهودة: سامحني أنا عم إمزح!
|