الاساس

الفصل الأوّل: أوّل المشوار

   

القدّيـس شربـــل
من معاصريه إلى عصرنا
إعداد الأب حنّا اسكندر

 
  مقدمة
  التصميم
 
  الفصل الأوّل: أوّل المشوار
  الفصل الثاني: جهود الحياة
  الفصل الثالث: نحو السماء
 
  خاتمة
 
 ملحق: "كلمات مار شربل"
 
  الأصول
  المراجع
 
 
 

     العناوين الرئيسية :
 
معمودية يسوع

الفصل الأوّل: سرد شبه تاريخيّ لأحداث طفولة شربل وما رافقها، حتّى دخوله الرهبنة وسيامته الكهنوتيّة، ووجوده في دير مار يعقوب الحصن، ثمّ انتقاله إلى دير عنّايا، واستحباسه.

أوّلا: يوسف زعرور، في بقاعكفرا

 

1- عائلة مقدّسة

أبوه أنطون زعرور مخلوف "أبو حنّا" من بقاعكفرا، وأمّه بريجيتا الياس يعقوب الشدياق من بشرّي. له شقيقان: حنّا وبشارة، وشقيقتان: كونة ووردة. وهو أصغر إخوته. واسم الأب شربل الأصليّ هو يوسف، وقد بدّله بشربل عند دخوله الرهبانيّة. وكان أبوه فلاّحا بسيطا كعموم أبناء بلدته، يعيش من زراعة أملاكه، وأمّه تهتمّ بشؤون البيت، وكانا من الأتقياء الصالحين. وقد اهتمّ الوالدان بتربية أولادهما تربية مسحيّة حقيقيّة.

2- موت الوالد بالسخرة

إنّ عمّال الأمير بشير شهاب في ذلك الوقت كانوا يُسخِّرون من عندهم دوابّ لنقل محاصيل الأمير من جميع أصناف الحبوب إلى بيت الدين. ففي موسم سنة 1832 كان أنطون زعرور يملك دابّة وكان يعمل عليها في جهات مجدليّا (بلدة بين زغرتا وطرابلس) فحُجِز معها للسخرة ونقل عليها غلّة من مجدليّا إلى جبيل لتُرسَل منها إلى بيت الدين. وفي عودته من جبيل إلى بقاعكفرا، وصل إلى غرفين، فمرض ومات ودفن فيها، في اليوم الثامن في شهر آب. واهتمّت أرملته بالأولاد يساعدها في ذلك أخوه طنّوس زعرور.

3- ولادة شربل وعماده

تمّ ترميم بيت جدّ القدّيس شربل، لوالدته بريجيتا، الذي ولد فيه، في الخالديّة، وأصبح كنيسة. ويقال: كانت بريجيتا تأتي وعائلتها ومعهم بقر للشتاء في الخالديّة هربا من البرد والفقر. وكانت تساعد أهلها في قطاف الزيتون، وتبقى حوالي 4 أشهر. وولد هناك يوسف في شتاء 1833، بعد وفاة الوالد بشهور[1].وقد تعمّد في كنيسة سيّدة الخالديّة القديمة، أو في سيّدة كنيسة بقاعكفرا. ونظريّة أخرى: ولد في 8 أيّار عام 1828.

4- زواج الوالدة

 تزوّجت بريجيتا لحّود بن جرجس ابراهيم في شهر تشرين الأول سنة 1833. وانتقلت بريجيتا معه، نحو شليفا وبتدعي حيث يملك أراضي. وحوالي العام 1850، سيم لحّود كاهنا، ودعي باسم الخوري عبدالأحد. لكنّه لم يخدم في بقاعكفرا، بل في بلاد بعلبك، وكانت وفاته حوالي 1853.

5- يتم الأمّ ووصاية العمّ

عاش يوسف يتيما عند عمّه طنّوس، وربّاه مع إخوته، إذ بقي الأولاد، بعد زواج والدتهم، في بيت والدهم، وكانت أمّهم تطلّ عليهم من حين إلى آخر. وكانوا هم يهتمّون ببعضهم البعض، ويشرف عليهم عمّهم طنّوس، وأقاربهم الأدنون.

 

6- مدرسة دير مار حوشب

تعلّم يوسف أصول القراءة والكتابة، وفقا لعوائد تلك الأيّام، على يد كهنة الضيعة، في دير مار حوشب، مدرسة القرية في تلك الأيّام. وكان يحمل كتاب صلاة دائما بيده. وكانت أطباعه حسنة ومحبّا لإخوته. وكبر يوسف، ونما بالعمر والعلم والتقوى والصلاح. وكان مثالا حيّا بالقول والعمل، بين أولاد قريته. كان كثير الصلاة، كثير الإعترافات والمناولات.

 

7- ضحك أمام الكارثة

كان يوسف فطنا ذكيّا له عدّة فكاهات، لا بل كان يميل إلى الفكاهة أحيانا، وفكاهته هي ضمن الآداب طبعا. ففي يوم الإثنين 12/10/1842[2]، أمطرت السماء، مطرا غزيرا عقبه طوفان فانصبّت المياه على الشاغورة، وهي تخصّ بشرّي، قريبة من أرز الربّ. فوصف ذلك بهذه الزجليّة، وقد قالها إذ كان يتعلّم القراءة والكتابة، في مدرسة القرية مع رفاقه الأولاد:

 

حـومَيْلة (تصغير حامولة) تمّ المزراب[3]            هالنِزْلت عا شــــــــــــــــــــــــــــاغورة [...]

 

العرب (بدو رعاة غنم) عا ضهر القضيب            قــــالوا: فــــــــرج الله قـــــريــــــــــــــــــب

هيدي  هــــــــــي  فرصـــــــة  للديـب           بياخد غنمي وقـــــــــــــــرقــــــــــــــــــورة

 

بشرانيّــــــــة بالأَوِّل (في بداية الطوفة)              قالــــــوا: قوموا تا نْحَوِّل (تفضَّل أدخل البيت)

هـــــــــــــــــي غيمــــــــــة ما بتطوِّل           هـيدي غيمـــــــــــــــــي عـــــــــابــــــــورة

 

لمّـــــــن وصلـــــــت   لبشــــــــــرّي            العالم صارت مِنْحَرّي (مضطربين ومهموكين)

هـــــــاتوا   مجــــارف  تـــا  نْسَرّي            ونسدّلنا تــــاغـــــــــــــورة (ثغر سبّبته المياه)

 

طوفــــــــــــــة    جرفــــــت  الوادي            ومـــــــــــــــــا خَلِّـــت حيط هـــــــــــــــادي

العالـــــــــــم   تصــــــــرخ   وتنادي            يـــا ألله شـــــــــو هـــــــــالصــــــــــــــــورة

 

لمّــــن  وصلت  عــــــا   حــــدشـيت            إخــــــــــــــــدت عِــــــــزّ وأكبـــــــر صيت

حيطــانــــــــا    راحـــت  تــهــبـــيط           هـــــــدمــــــــــــــت أكبـــــــــر معمـــــــورا

 

وصلـــــــــــت لـــــــوادي قنّوبيــــن            تـــــقــــــــدف عــــا شمـــــــال ويـــميــــــن

وصـــــــاروا العــــــــالم بهتانيــــــن            وتــــــــخبّــــوا بـــــالـــــــــــوكـــــــــــــورة

 

وصلــــــــــــت لــــــوادي الفراديس            صـــــــار عنــــــدا قـــــــوّة وتــــحمــــــيس

حـــمـــلــــوا صــــــورة الــقــــدّيس            وقــــــالــــوا: نـــجّـــيــنــا يـــا هـــالصــورة

 

بقرقاشيّـــــــــــة هـــــــــالغــــــزلان            كلّـهم غـابـوا عا سـلـيـمان (عريضة أضاعوه)

يـــوســــف حــــنّا هـــالبـــوسنــــان            طــــــمّ فـــعــــالــــو (خروجه) بــالجــــــورة

 

بـــالجـــــورة طـــــمّ فـــــعـــــالــــو            ونـــده عــــا ســــركـــيـــس خــــــالـــــــــــو

جــــا تـــــا يـــنـــفـــضــلــو ديــالـو            كـــــان يـــخـــزقــلـــــو الـــتــــنّورة (العباءة)

 

كـــمـــــــا ولاد بـــــقـــــاعـــكــفـرا            قــــلـــبــــت خــــلـــقـــتـــهـــم صـــفــــــــرا

لــــــمّــــــــن نــويــو عـــا السفــرا            دارو المركــب (المركوب الحيواني) شختورة

 

متاعـين (أهالي) حصرون وبزعون              مــــــن هــــــالحامـــــولـــــي فـــــزعـــــون

قوموا تا نْقَشِّر سيكون (نقطع أغصان رفيعة)               تـــــــا نــــســــدّلـــنـــا عــــابـــــــــــــــــورة

 

وصـــــــــــــــــلت للحدد وقــــنات              واحــــد مــــــــــن الشــــركــــا    مـــــــــات

صَـــــــــــــــــوَّلو  مــــن الـتوتات              عنـد بساــيـن حنطورا (دير السيدة- حماطورة)

 

ومتـــــاعين طاحـــــــــــون شحلا               صحابـــــــــــا مــــــــــن الفــــــــزع رحلـوا

فــــيــــهـــا برّاك (الطحّان)  سْتَحْلا[4]               مــــــــــن   فــــزعــو   تــــلاّ   الجـــــــورة

 

ومـــتــــاعـــيـــن طــاحون  البلاط               وصــــحـــابـــا   قـــامــــــــوا   العــــيـــــاط

جــــيــــبـــولــنـــا وحــل  وشطاط              تـــــــا   نـــطـــيِّـــِن   هـــا      الــكـــســـورا

 

لــــمّن    وصلــــت       للجـــورة             يــــا    لــطــيــف    شـــو      هــالصــــورة

أكــبـــر   شجرة   بهــاك    الأرض              حــمــلـــتــــــها      لأرض      الكـــــــــورة

 

وصلـــت   عـــا   طــورزا      بقوّة             أشجـــــارا     صــــــارت        تـــلــــــــوي

يــــــا   عالم    شــو       مــــنسوّي             مــــا    شـــفـــنا    مـــــتل     هـــالصــــورة

 

وصــــلــــت    عــــا       راسكــيفا              الــنـــاس    حــيـــاتــــــا      تــــــعــــيـــفـــا

الأرض    قــــامت      بــتحريــــفا              فـــتـــحـــتـــلا    مـــيّـــة      جـــــــــــــورة

 

لـــــمّـن    وصلت      عا     كــسبا             اشـــتـــــدّت     وقــــوي     عــــصــــبـــــــا

قــــــبـــعـــتـــلا   كلّ        نـصـــبا             بــــــــــهالقـــــــــــوّة       المــــشــــهـــــورة

 

لـــمِّـــن    وصلـــت     لبصـــرما             حــامـــولـــة    ونـــفـــســـا    عــــــــــرمـــا

ما خـلِّت جرَّه قرما (مكسورة الأذنين)                ولا   مـــصفايــــة   ولا  دورة (جرّة صغيرة)

 

لـــمّـــن    وصـلت     لكفـــرقاهل[5]              شــعــبــــا    كـــافــــر     وبــيــســتــاهـــــل

أكـــبــــر   حـيط   صار       زاحل              مــــــا   بـــــقالـــو   اشــــايـــر   صـــــــورة

 

لـــمّــــن   وصلت  لضهر      العين             صـــــــارت    تــــجـــرف    عـــالــمــيليــن

قالوا جانا غراب البين(النحس والتعاسة)               الدعــــــــوة    صــــــارت     مـــحــصــورا

 

لمّن  وصلت     لبو  علي (طرابلس)               كــل   مــالــــو   الـــــمـــــوج     عــــلـــــي

فـــي   نـــاس    سكنـــو      بالبلي             وبـيــوتــــن   صــــارت    مـــهـــجـــــــورة

 

لـــمّـــن    وصلــــت       للـــمـينا             اشــتـــدّت       وقـــــــوي        عــــنـــيـــنا

تــــقـــــدف   عـــــا   شمالا   ويمينا              وضربــــــــــــة     الله        مـــظـــهـــــورا

 

البحــــر     صـــفّا      مـــعكـــــور             ومــــــوجــــــــــو   يـــعــــلا     عــالفصول

لـــو   تــبــقـــى    مــدّي   وتطول               مـــــا     بـــقــــي       ولا       شخـتـــورة
      

8- "قلعة القدّيس" والبقرة

كان يتعاطى حراثة أملاك والده، وكان يبتعد عن معاشرة الناس والإختلاط بهم، لا ليصلّي فقط، بل لتجنُّب أحاديثهم البطّالة، ويحبّ الإنزواء والعزلة. يُسرِّح بقرته، التي ورثها عن أبيه، في المرعى ويجلس قبالتها في مكان يُسمّى "قلعة البحيص" من أملاك أهله، فيها صخرة، شبه مغارة، وكتاب الصلاة في يده. ولكثرة تردّده إلى هذا المكان، وانفراده فيه، أطلق عليه الأهالي إسم "قلعة القدّيس". وعندما كانت هذه البقرة تشبع، كان يرقدها قائلا لها: يا زهرة نامي الآن راح دورك وإجا دوري. أنا بدّي إقرأ صلاتي. وكان يصلّي وقت قيلولة بقرته، لا يكفّ عنها عندما تنهض للمرعى بل يقول لها: لا تقومي هلّق، انتظري إلى أن أكون كمّلت الصلاة، لأن ما فيني حاكيكي وحاكي الله: الله أبدى منِّك. وكان يبقى مدّة طويلة مستغرقا بالصلاة. وما سُمِع عنه قطّ أنّه ترك بقرته تخرِّب رزق أحد.

9- "القدّيس" والمغارة

كان يركع نصبا في الكنيسة، لا يلتفت إلى هنا وهناك. كان يصلّي منفردا، ويذهب إلى مغارة، ينصرف فيها إلى الصلاة، الأمر الذي كان يستدعي تعجّب وأحيانا سخرية رفاقه منه. وهذه المغارة تدعى إلى الآن مغارة القدّيس، تقع جنوبيّ بقاعكفرا، كانت ملك عائلته، كان يأوي إليها غالبا، حاملا حفنة من البخّور، واضعا فيها، صورة العذراء، وباقة زهر، ولفرط تقواه وميله إلى الصلاة، وحضور القدّاس وحفلات الطقوس العموميّة، وتميّزه عنهم بحسن السلوك والتقوى، دعاه أولاد الضيعة "القدّيس"، إستهزاء به في بادئ الأمر، وقد تَمَّم الله قولهم وجعله قدّيسا.

 

10- مآسٍ

في عمر يقارب الست سنوات توفّيت "والدته الثانية" زوجة عمّة طنّوس مربّيه، في 9 أيلول سنة 1839. كما في عمر يقارب السبع سنوات اندلعت الثورة الشعبيّة ضدّ المصريّين وقتل اثنان على الأقل من بقاعكفرا على يد عسكر ابراهيم باشا صيف 1840. وفي عمر ال14 سنة انتشر مرض الكوليرا المعدي وسقط واحد على الأقل من بقاعكفرا ودفن خارج القرية في 10 ت2 1847. وفي أجواء هذه المآسي، والميتات الطبيعيّة، نظّم يوسف شعرا يصف الواقع، سيّما موت الشباب، قتلا وإمّا بسبب المرض، وينتقل منه إلى التأمّل في الأبديّة:

 

سكابا  ويا  دمُوعِ  العين   سكابا                             شمسِ  العمر  وَلّتْ  عا الغيابا

 

جاني  الموت غَمَّضْلي   جْفوني                             وأَهلِ البيتْ ما عادوا طاقوني

دعيوا  الكهنة  حتّى    يْجَنْزوني                            ويرشّوا  عا   جسمي   التُرابا

 

يا   خــاطي   بِالبْحور    غارق                             شبه  خيال عا هالدني  ومارق

جاك الموت على البــاب طارق                             شـــو نــفعتك عِشْــرِةِ الشبـابـا

 

11- أفراح: زيجات مبكرة

كانت الزيجات المبكرة أمرا عاديّا في المجتمع القديم، فكان شربل يقارب ال12 سنة، حين تزوّجت أخته كونة في 19 أذار سنة 1845بعمر يقارب ال15 سنة، وفي أقل من شهرين تزوّج أخوه حنّا في 3 أيّار سنة 1845بعمر يقارب ال16سنة، الذي رزق بطفلة في آخر أذار سنة 1846.
 

ثانيا: شربل الراهب

1- خالا القدّيس شربل

وكان للأب شربل خالان، هما يوسف وأنطونيوس، ولدا الياس الشدياق. وكانا ذكرين وحيدين لوالدهما. فذهبا وترهّبا في الرهبنة اللبنانيّة، ودعي الأوّل: الأب أغوسطين، والثاني: الأب دانيال، البشرّاويّين اللذين استحبسا. والأب دانيال كان الأصغر عمرا، ولكنّه ترهّب أوّلا قبل أخيه، لأنّ أخاه الأكبر لبث في بيت والده، ليعتني بوالده الشيخ، ولا يتركه في عجزه، إذ لم يكن له من يخدمه ويعوله سواه. ولمّا رقد بالربّ ذلك الوالد، لحق بأخيه الأصغر، فأكمل واجبين مقدّسين. وكان كلاهما حبيسين فاضلين. فصدق المثل في الأب شربل: الولد لو مال ثلثاه على الخال.

ولد هذان الأبوان في بلدتهما بشرّي أو في الخالديّة "المشتى". أبرز دانيال نذوره في 9/2/ 1838،  سيم كاهنا في 20/6/1841. عايش القدّيس شربل، في ديري ميفوق وكفيفان. وكان مرشدا للقدّيس نعمةالله الحرديني.وأبرز أغوسطين نذوره في 1/7/1841، سيم كاهنا في23/3/1847، وبقي في دير قزحيّا، انتقل بعدها إلى دير سيّدة ميفوق.

وانتقل الأبوان الأخوان إلى دير قزحيّا، وبقيا راهبين في الدير إلى ما بعد 2/11/1874. واستحبس دانيال في محبسة مار بولا- غبتا، التابعة لدير قزحيّا، قبل 8 شباط 1875، وعلى أخيه أغوسطين أن يلحق به. وتوفّيا حبيسين: الأب أغوسطين الحبيس، في 1 ت2 1884، مسلّحا بكامل الأسرار. وكان سبب موته داء الإستسقاء. ومات ميتة صالحة؛ والأب دانيال الحبيس، في 23 أذار 1895، وسبب موته، عجز طبيعيّ. ومات مسلّحا، بكامل الأسرار،  وكان فضيلا وانتقل إلى ربّه وهو يقول : رغبتي أن أنحلّ لأكون مع المسيح. 

 

2- نحو الرهبنة ...في دير قزحيّا

بقي شربل في القرية حتّى سنّ الثامنة عشرة. ولم يكن يميل إلى اللهو، ولا إلى معاشرة الشباب، بل كان دائما يحبّ العزلة والإنفراد والصلاة. وكان يذهب مع أخيه حنّا، لزيارة خاليه. وحضر الأب دانيال يوما، إلى بقاعكفرا، ولمّا أراد الرجوع إلى دير قزحيّا طلب من حنّا أنطون زعرور أن يكون برفقته شقيقه يوسف. فقال له حنّا: "يا خالي قلبي ناقزني، أنا خايف إنّو يوسف يجي لعندكم وما بيعود يرجع ويبقى في الدير" فأجابه دانيال: "انشالله يروح عالرهبنة شو في بالعالم!" فرافق يوسف خاله إلى دير قزحيّا.

 

       3- في دير ميفوق: إتبعني (مر 2/14)

وبعد رجوعه إلى بقاعكفرا بثمانية أيّام، توجَّه للترهّب، برفقة الأب دانيال، في دير سيّدة ميفوق، حيث كان يسكن خاله وقتئذ، فابتدأ فيه يوسف، وسمّي شربل في 8 آب سنة 1851، بعد أن مكث في ثيابه العلمانيّة ثمانية أيّام، ليرتدي بعدها الثوب الرهبانيّ، ويلزمه أن يدخل بالروح ويترك الجسد برّا. ويعلم مُتيقِّنا أنّه ترك أبوين جسديّين، وسلّم نفسه لأبوين روحيّين (الرئيس ومعلّم المبتدئين). ومدّة الإبتداء، كان قائما بواجباته على أكمل وجه، وكان مسرورا جدّا بدعوته، ومثالا للمحافظة على قوانين الرهبانيّة ونظمها، وقدوة في الطاعة للرؤساء، والمحبّة لرفاقه.

 

4- إسم شربل

شربل إسم سرياني مركّب من شَرْب= قصّة أو حكاية أو خبر، وإيل= الله. فيصبح إسم شربل قصّة أو حكاية أو خبر الله. وهذا الإسم حمله شهيد سرياني كان أسقف الرها (تركيا اليوم) واستشهد مصلوبا عام 121. وحمله أيضا رهبان كثر من الرهبانيّة. ويوجد في بقوفا القريبة من بغلة بشري، آثار كنيسة مار شربل. والمعروف إلى اليوم أنّ عائلة الشدياق، عائلة والدة شربل، تملك قسما من أراضي بغلة بشرّي القريب من بقوفا، وقد يكون تردّد شربل إلى أراضي جدّه لأمّه في بغلة بشري وتعرّف على القدّيس شربل هناك، وصلّى لصاحب المقام.

 

5- لم يلتفت إلى الوراء (لو 9/62)

لحقه عمّه أوّلا طنّوس مربّيه، ثمّ والدته، ثمّ شقيقاه حنّا وبشارة، ليمنعوه عن الرهبانيّة ويردّوه إلى البيت، فما رجع معهم. وذهبت بريجيتا هي وسلفها طنّوس زعرور إلى دير ميفوق، لإرجاع ابنها يوسف إلى الضيعة، وكان مبتدئا هناك. فأخذت تترقّب خروج المبتدئين من الدير إلى الحقل لترى ابنها. وإذ لمحته بينهم ركضت ومسكته بثوبه قائلة له، وهو مطرق ببصره إلى الأرض: إرجع معي إلى البيت. فغافلها وأفلت منها ولحق إخوته. وجملة المرار التي قصدته فيها والدته وعمّه طنّوس ليرجعاه إلى بقاعكفرا نحو 12 مرّة. وفي ميفوق دعاه الناس: روح قدس، فكان ينكش بالمعدور وراء الفلاّح، وعيناه في الأرض. لا يلتفت إلى أحد، ولا يكلّم أحدا.

 

6- لا تحزني على يوسف (لو 23/28)

لمّا خاب أمل بريجيتا، ويئست من ترك ابنها يوسف الدير ورجوعه إلى بقاعكفرا، حزنت حزنا عظيما ظهرت دلائله على وجهها. ولم يخفَ حزنها عن أهل القرية. وكانت دائما تَهْدس بابنها يوسف. وعندما توفّيت ابنتها وردة، قال لها أهل القرية: لا تشدّي الحزن على يوسف، جرّبك الله بموت بنتك وهيي صبيّة! إذ توفِّيت وردة في 22 تشرين الثاني، سنة 1851 مُتزوِّدة بالأسرار المقدَّسة.

7- وردة ...التقيّة

كانت تُدمِن الصلاة، تقيّة جدّا، وتركع منتصبة، وهي رافعة ذراعيها وتتلو المسبحة الورديّة، وكان قد خطبها طنّوس حنّا الخيسي. وكان في جيب وردة سبحة ورديّة طويلة، فكان مَن يراها مِن الأهالي تصلّي يقول: إنّك مطوّلة ها المسبحة، فمتى تزوّجت، هل تدعك حماتك تصلّي فيها؟ فأجابت: لعلّي أموت قبل أن أدخل بيتها. وقد تمّ قولها بالفعل، لأنّها ماتت عذراء مخطوبة. وكانت تردّد هذا الكلام دائما: يا ربّي تقرّب الخير، وتبعد الشرّ. إذا كان زواجي لا يرضيك فإنّي أفضّل الموت قبل زواجي! وشاع أنّ أنطون بطرس زعرور إبن عمّها شاهد حمامة خارجة من نافذة البيت، ساعة وفاتها. وكانت عندما يأتي خطّيبها لزيارتها، وهي راكعة مصليّة مبسوطة الذراعين، تقول لإبنة أخيها حنّا: قفي ورائي واحجبي بيني وبين خطّيبي ببسط ذراعيك مثلي لأكمِّل صلاتي.

 

8- مغامرة مجنونة (متّى 18/8-9)

عمّم الأب العام ومجلس المدبّرين: "منع اختلاط الرهبان بالنساء لشيل دود القز، ولو خربت مداخيل الأديرة". وكانت العادة، في دير ميفوق، أن يذهب المبتدئون لتقشير قضبان التوت، ومرشقة الورق للقز، بينما كانت النساء والبنات ينصرفن من جهة ثانية، في البيت ذاته، لإطعام الدود. فحدث أنّ إحدى البنات، المشتغلات بالقز، وقد لاحظت حشمة الأب شربل، المتميّزة عن سواه، فأرادت أن تختبره. فرشقته بدودة قز، وهي على المطلع، ولمّا نزلت إلى الأرض، أخذت الدودة ووضعتها على يده. وإذا به يغادر الدير ليلا، إلى دير مار مارون عنّايا، المنفرد والبعيد عن العمران. ولذلك، ذكر في رزنامة دير ميفوق، مقابل إسم الأخ شربل، كلمة "فشح" دلالة على أنّه ترك الرهبنة. غير أنّه، بعد أن روى قصّته على رئيس دير مار مارون عنّايا، راجع هذا قدس الأب العام، بأمر الطالب، فأذن الرئيس العام بقبوله في دير عنّايا، تتميما لسنة ابتدائه الثانية.

وقد ساء أخوه حنّا أن يُقال عنه "فشح". ولكنّه عرف بعدئذ، أنّ السبب الحقيقي لتركه ميفوق، كان رغبته في الإنقطاع التام عن الناس، لأنّ دير عنّايا أبعد عن العالم. وكان الأب افرام بقاعكفرا، أحد أبناء بلدته، وقتئذ في دير مار مارون عنّايا.

 

9- كلام الحياة عندك (يو 6/68)

وإثر هذا الخبر أسرعت بريجيتا لتعيده إلى بقاعكفرا، فبينما كان خارجا مع المبتدئين في دير مار مارون إلى الحقل، وكان معهم مبتدئا، فأسرعت إليه وتمسّكت بعباءته ملحّة عليه لترجعه معها إلى البيت. ولمّا رأته متمسّكا بدعوته قالت له: إمّا أنّك تثبت في الرهبانيّة وتطلع راهب مليح، وإمّا إرجع معي إلى البيت من الآن، فأجابها شربل: وهو عند قولك.

 

10- حملي خفيف (متّى 11/30)

وبعد انتهاء الابتداء، نذر شربل ولبس الاسكيم الملائكيّمن يد رئيس دير عنّايا، الأب أنطونيوس البانيفي1 ت2 1853، وكان له من العمر عشرون سنة. والنذور كانت تبرز مرّة واحدة، وإحتفاليّة.

11- نرى بعضنا في السماء (مر 3/31-35)

ذهبت بريجيتا من جديد لأفتقاد ابنها في دير عنّايا، وكان قد لبس الإسكيم، وطلبت مواجهته بإلحاح فما واجهها، بل كلّمها بعض كلمات قليلة من داخل، وهي في الخارج بدون أن تراه ويراها، فقالت له: أهكذا تحرمني شوفتك يا ابني؟ معاتبة ومتعجّبة من تصرّفه هذا. أجابها: إن لم أرَكِ الآن، فسوف نرى بعضنا في السماء. فعادت حزينة باكية.

وقد فعل ذلك شربل تنفيذا لقانون المبتدئ: فلا يتكلّم مع غير الرهبان من أهله وغيرهم... وإذا كان من جنس النساء، فيعمل جهده عند الرئيس وغيره بألاّ يلزمه بمواجهتهنّ. وإذا أُلزِم بذلك فليحرص ألاّ ينظر وجوههنّ. وليكن كلامه قليلا جدّا معهنّ... وتنفيذا للقانون الرهباني: ليعتزل الراهب عن النساء حتّى الأهلين[6].

12- أنا أريحكم (متّى 11/28)

كان محافظا على نذوره وواجباته أشدّ المحافظة، وما عمل شيئا في حياته يؤاخذ عليه، ولو طفيفا. وكانت أعماله ومشيته ومنظره ممتازة، تلقي الهيبة والخشوع، ولا دبّ فيه الفتور في آخر أيّام حياته، بل كانت كلّها، على ازدياد في الصلاح، وحرارة التقوى. لقد مارس الأب شربل مجموع الفضائل بطريقة تفوق عامة الناس والرهبان، كما تبعد السماء عن الأرض، وبثبات واستمرار دون أي ضعف أو وهن، وبسرعة وبطيبة خاطر؛ فلم يبقَ له فكر إلاّ ليفتكر في الله، ولا لسان إلاّ ليتكلّم عن الله، ولا صوت إلاّ ليبارك الله. فكان راهبا يُضرَب به المثل بحفظ القانون وإتمام الواجب، حتّى إذا طلب من أحد عمل ما صعب أو عسير، يجيب الطالب: أتظنّني الأب شربل حتّى تطالبني بكلّ هذا؟ أنا لا أقدر أن أعيش مثل الأب شربل، أو أعمل مثله. وكان العلمانيّون عندما يرون الأب شربل في تلك الحالة، من ركوع دائم على الأرض، وسكوت متواصل، وصلاة غير منقطعة، وخشوع في القدّاس، وشغل شاقّ مثل أحقر الأجراء، وحقارة في اللبس، وعدم اهتمام في أمر من أمور الدنيا، كانوا يقولون هنيئا له! هذا الراهب يعيش مثل القدّيسين والحبساء القدماء الذين نقرأ عنهم في السنكسار. ويشهد بطرس موسى بتأثّر: كان إيماننا يتقوّى، ونلوم أنفسنا على تعلّقنا في هذه الدنيا الزائلة.

13- الحبيس أليشاع... مرشد وأستاذ شربل

لقد اكتشف الأب الحبيس أليشاع "القدّيس" موهبة شربل، من يوم تعرّف إليه مبتدئا، في دير عنّايا... عندما تردّد شربل على أليشاع في المحبسة، ليكون مرشده في بداية حياته الرهبانيّة... وبعد نذور شربل، تقرّر إبقاءه أخا عاملا، إذ بقي شربل في عنّايا 3 سنوات. واستفاد أليشاع من وجود شربل بقربه، وبمبادرة شخصيّة، وفي الآحاد والأعياد، فأعطاه دروسا لغويّة ولاهوتيّة. وبعد أن عيّنت روما السلطة الرهبانيّة، في العام 1856، ومن بينها القدّيس نعمةالله الحرديني مدبّرا عامّا، طلب أليشاع، من أخيه، إرسال شربل إلى دير كفيفان ليتعلّم ويصبح كاهنا، فرأى فيه بالروح كاهنا قدّيسا.

14- شربل ...تلميذ القدّيس نعمةالله الحرديني

فأرسله رؤساؤه إلى مدرسة دير مار قبريانوس كفيفان، يتلقّى فيها العلوم اللازمة للكاهن. وكان يدير شؤون تلك المدرسة يومئذ، رجل الصلاح والعلم، الأب نعمةالله الكفري. فكان الأخ شربل بوجوده في ذلك المحيط الجامع العلم والقداسة، قد وجد ضالّته المنشودة. فنال بفضل جدّه وكدّه، نصيبا وافرا من علم اللاهوت الأدبيّ والنظريّ، مع أصول اللغة السريانيّة والعربيّة، ونصيبا آخر أوفر من الفضائل الرهبانيّة والكمالات المسيحيّة. وعند تغيّب الكفري من الدير كان يحلّ محلّه في التدريس القدّيس نعمةالله الحرديني.

كان من أحسن وأمهر التلاميذ، ذكيّا مجتهدا، بارعا في اللاهوت الأدبيّ، وممتازا في دروسه اللاهوتيّة. وكان شديد الذكاء، ومتفوّقا بعلومه ومعارفه اللاهوتيّة. وكان رؤساؤه ومعلّموه راضين عنه جدّا، ويثنون على فضائله، وعلى سلوكه الرهبانيّ الكامل، فما استحق أيّ قصاص أو عقاب، وكان مثالا للجميع، يركع على البلاط، في محلّ واحد، ولم يكن في الكنيسة بنوك ومساجد، وكان ركوعه يدلّ على تمام الخشوع، وباقي التلاميذ يتخشّعون لرؤيته، ودفعهم لتسميته قدّيسا. والحرديني قال: عندي تلميذ قدّيس، هو الأخ شربل بقاعكفرا. وقد حضر شربل وفاة الحرديني في 14/12/1858.

15- والدة تقيّة

وإنّ بعض نساء بقاعكفرا كُنَّ يشتغلن بغزل "شرانق الموّاتي" لعمل القمصان. فكانت بريجيتا والدة الأب شربل، عندما تسمع قرع جرس صلاة المساء، السبت مساء الأحد، تترك المغزل من يدها وتحضر الصلاة، ولا تعود إليه إلاّ في يوم الإثنين. ومن عادتها أن تصوم كلّ يوم إلى الظهر. وثابرت على هذه الحالة إلى آخر حياتها. وكانت تنقطع عن تناول كلّ زفر لأنّها نذرت أن تفعل ذلك، وكانت تذهب إلى دير مار سركيس في بشرّي للرهبان الكرمليّين من حين إلى حين، وتعترف هناك عند أحد آباء الدير. فأخبرته مرّة عن نذرها هذا أن تصوم وتنقطع عن الزفر حياتها كلّها، فسمح لها مرشدها بالصوم، ومنعها عن التقيّد بالقطاعة جميع أيّام السنة قائلا لها: إنّك تضطرين أن تذوقي الطعام المزفّر الذي تطبخينه لعيلتك. ولا يمكنك أن تعدّي طبختين. فعليك إذا أن تأكلي من أكلة العيلة. وعوضا عن السماح لك بأكل الزفر، صلّي كلّ يوم خمس أبيات بالمسبحة.

16- ليَخدُم لا ليُخدَم (مر 10/45)

بعد نجاح شربل في دروسه، سيم كاهنا في 23 تموز سنة 1859، من يد سيادة المطران يوسف المريض. وأتت وردة، إبنة حنّا شقيق الأب شربل، مع فريق من أقاربه، لتهنئته بارتقائه درجة الكهنوت وطلبوا إليه بإلحاح، للذهاب إلى مسقط رأسه، لإقامة قدّاس هناك، فأجاب: إنّ الراهب الذي يأتي إلى الدير ثم يرجع إلى قريته يتوجّب عند رجوعه إلى الدير أن يبتدئ من جديد. وبالحقيقة أنّه منذ أن غادر بقاعكفرا قاصدا الرهبانيّة ما عاد إليها أبدا.

 

17- في دير مار يعقوب الحصن

أُرسِل إلى دير مار يعقوب الحصن بلاد البترون، حيث قضى مدّة، منقطعا إلى النسك والتقشّف والصلاة.  وفي 30/10/1859انتَخَب شربل، الأخ يوحنّا بقاعكفرا، وكيلا لدير مار يعقوب الحصن، ليحضر المجمع العام.وما طال بضعة أشهر، إذ عاد أليشاع يطلبه من جديد، لينمّي مواهبه ويسهر عليه، ويتمتّع برفقته.

18- في دير عنّايا

بنت الرهبانيّة، عام 1820، بعض القلالي وكنيسة صغيرة[7] في موقع الحارة حيث كان البيدر. وسنة 1828، تقرّر بناء دير عنّايا، لكن عمليّا: في 8 أيّار سنة 1839 كان ابتداء بناء البير والأقبية والكنيسة[8]، وفي 20 ت1 سنة 1841 كان الإنتهاء؛ بالرغم من أضرار عسكر ابراهيم باشا ومرض الجدري ومقاومة المتاولة[9]. ونُقِل شربل إلى عنّايا، بأمر الطاعة، ووُجِد اسمه في دير عنّايا، في المجامع الديريّة لإنتخاب وكلاء الأديار لعام 1868 و1871 و1874. وكان يعمل مع المبتدئين، بين الأعوام 1869و1874؛ وبين 1895 و1898.

 

19- أعجوبة 1865

زحف الجراد سنة 1865 على منطقة البترون ولم تتحرَّك الحكومة لمكافحته، وحاول الرهبان جاهدين لطرده، فلم يفلحوا. فأمر الأب روكس المشمشاني رئيس الدير الأب شربل أن يصلّي على الماء، ويرشّ أراضي الدير، منعا للجراد من إتلاف المزروعات والأشجار. فكان يسير في الأرض ويرشّ ويخاطب الجراد قائلا: كُل يا مبارك من البرّي لا من الجوّي. وبذلك وقّى الله مزروعات الدير وتوتها من أضرار الجراد.

 

ثالثا: شربل الحبيس

1- تأسيس محبسة شربل

إنّه بتاريخ 1798 أخذ أولاد بو رميا  بطرس  وإخوانه من إهمج  الأرض المسمّاة المروج من مشايخ بني ملحم  بموجب حجّة من الشيخ حسن ملحم وأعطاهم دير التجلّي، الكائن على طور طابور، والمتاولة يكنّوه النبي راس،  وأعطوا المحلاّت لأخيهم يوسف[10] ، وساعدوه مع أهل القرية لبناء الكنيسة على إسم الرسولين بطرس وبولس. ويوسف ترك العالم ولبس إسكيم رهبنة العبّاد من البطرك  يوحنّا الحلو، وترهَّب عنده داود بعد  4سنوات وسيم كاهنا. إنتسبا إلى الرهبانّية اللبنانيّة المارونيّة، وأوهبا الأرض إليها إبتداء من العام 1814، ومعهم أيضا من قرية إهمج الأخ مخايل والأب سمعان. وجُعِل دير مار بطرس وبولس محبسة سنة 1828.

 

2- وصف المحبسة

والمحبسة واقعة على قمّة، تعلو عن سطح البحر 1378م. هي طابق واحد أرضيّ، مؤلَّفة من جناحين، شرقيّ وغربيّ. وكلّ جناح مؤلّف من 3 صوامع، وجميعها مسقوفة بالجذوع والأخشاب. والكنيسة، معقود سقفها بالحجارة، والمذبح بجانب الحائط الشرقيّ، مكرّس على إسم الرسولين بطرس وبولس، شفيعي المحبسة. أرض الكنيسة مفروشة بحجريّة بسيطة، وفي حائط الكنيسة الغربيّ، باب يدخل منه العوام من خارج المحبسة إلى الكنيسة، رأسا لسماع القدّاس.

ومن الممشى الذي يفصل الصوامع عن الكنيسة، ينتهي شرقا برواق مفتوح إلى الشمال بقنطرة. والمحبسة مسوَّرة بسور من حجر، يعلو من مترين إلى ثلاثة. وهي معرّضة للعواصف والصواعق، ندر وجود مثلها، قمّة مأهولة في لبنان لعلوّها.

 

3- حبيسُها الأوّل

 أوّل حبيس دخل هذه المحبسة، من أبناء رهبانيّتنا، هو رجل الله الأب أليشاع الحرديني. ففي 29 تشرين الثاني سنة 1829، إستمدّ الإذن من الأب العام اغناطيوس بليبل. ودخل أوّلا إلى محبسة قزحيّا، ومكث فيها نحو سنة ونصف. ثمّ انتقل، بأمر الرؤساء، إلى محبسة مار مارون عنّايا. كان محبّا لعمل اليد فهو الذي بلّط المحبسة، وحمل بلاطها على ظهره من مكان بعيد. وهو الذي غرس الكرم، في شرقيّ المحبسة بعد أن قطع الأشجار، وأعدّ الأرض بقلبها وتنقيتها، إلى أن صلحت للغراس. وقد أجرى الله على يده معجزات.

 

4-  رأي "أستاذا"شربل في الإستحباس

أثناء وجود القدّيس نعمةالله الحرديني في دير عنّايا (1847- 1850)، كان يزور أخاه الحبيس أليشاع، ويشكو لديه أفكاره ويعترف له، فكان أليشاع يلحّ عليه ويدعوه إلى دخول المحبسة ليكون وإيّاه في سلام وطمأنينة  قائلا: الأوفق لك والأنسب، أن تترك الدير وتأتي إلى هذه المحبسة معي، حيث تقضي باقي عمرك بالهدوء والسكينة، بعيدا عن كلّ ضوضاء، وتصلّي براحة بال وصفا فكر، ونصرف حياتنا سويّة، فتعيش بأمان. فأجاب: إنّ الذين يجاهدون في العيشة المشتركة، مع الجمهور فيها أجر كبير، وفضل أكبر، هناك الإحتمال والصبر وكسر الإرادة، واحتمال ضعف الضعفاء. وأنّ عيشة الإشتراك تعدّ عند آباء الروح مثل استشهاد دائم، إذ لا يسوغ للراهب أن يعمل ما يلائم ذوقه وطبعه وأخلاقه. بل عليه دائما أن يسهر لئلاّ يمسّ أو يكدّر إخوته. وعليه أن ينتبه كلّ الإنتباه إلى سيرته لئلاّ تشكِّك بشيء ما إخوته. هذه هي واجبات الراهب. أمّا الحبيس يا أخي فهو وحده لا مجرِّب من الخارج، يقضي أوقاته بصلاته وبإتقان هذا الكرم –أي كرم المحبسة- ويعيش على خاطره. أمّا في الدير فالراهب مأمور بأمر الطاعة. ثمّ في المحبسة ليس نكايات، أمّا مع الجمهور فهذا متوفّر. لذا يجب أن نعيش بين جمهور الإخوة في الأديار ونحتمل بصبر وثبات ما يلحقنا من الهزء والاحتقار، بها يزداد أجرنا، ونكفّر عن آثامنا، ونعمل بقول الربّ: "من يصبر إلى المنتهى يخلص" (متّى 24\13)، "وبصبركم تقتنون أنفسكم" (لو 11\19) ثمّ في الدير من مارس الفضيلة يكون قدوة لغيره. ومع ذلك أقول: لكلٍّ دعوته، وليس كلّ الناس سواء، فهذا للصلاة، وذاك للعيشة المشتركة. وأنا هذه دعوتي، وقد عانقتها من زمن طويل.

 

5- أوضاع الرهبانيّة قُبَيْل استحباس شربل

بعد مجمع عام 1832، الذي تدخّل فيه البطرك الماروني، وعيّن رجل الله الأب مبارك حليحل رئيسا عاما، بدأت في الرهبانيّة أحزاب، أنمت لاحقا قوميّة القرى. وبالرغم من الحفاظ بعض الشيء على الروح الرهبانيّ، فالقوميّة المناطقيّة تنامت... وبقيت أديرة جبيل والشمال مشتركة بين رهبان المقاطعتين إلى أن عُيِّن الأب افرام جعجع رئيسا عاما عام 1862.

 

6- سياسة الأب العام افرام جعجع

كان الأب العام من دعاة القوميّة المناطقيّة فأفرغ أديرة مقاطعة جبيل، تقريبا، من الرهبان الشماليّين وأسَّس دير مار سمعان القرن ومدرسة بان في الشمال. وهجر كرسيّ الرئاسة العامّة في دير طاميش، ليقيم أوقاتا كثيرة في دير قزحيّا ودير مار سمعان القرن.

 

7- دير عنّايا حتّى استحباس شربل

تسلّم مهام دير عنّايا، الرهبان الجبيليّون، لاسيّما المشامشة، وبدأوا يحجّمون الحبيس أليشاع الحردينيّ الذي كان شبه رئيس في محبسته، وكان إداريّا ناجحا. طرح اسمه البطرك المارونيّ كرئيس عام لسنة 1856 حلاًّ لمشكلة حزبي الرهبانيّة يومها كونه من أشهر الرهبان علما وفضيلة وإدارة. فتصرَّف في نذورات المحبسة، واشترى 50 قطعة أرض و7 وقفيّات بين العامي 1833 و1870، ما عدا الذي بيع بعد وفاته. وبعد العام 1870 تاريخ آخر حجّة اشتراها، حدث خلاف بينه وبين رئيس دير عنّايا الأب روكس المشمشانيّ، وبعده الأب عبد المسيح يسانده الأبوان روكس وأنطون مشمش؛ فأرسلوا أناسا أردياء ضربوا الأخ عبدالله البانيّ خادمه وجرحوه، أدّى إلى تدخّل الأب العام جعجع، تنازل بموجبه الحبيس عن إدارة الأراضي. لكنّ "الرهبان" يريدون كلّ شيء، فأتى "الأب أنطون مشمش وشمط العَنْزات من الراعى". فكتب الحبيس إلى البطرك يستنجده بأحشاء المسيح.

8- أليشاع يطلب شربل بجرأة القدّيسين

فرزت القوميّة المناطقيّة رهبان الرهبانيّة إلى 5 مجموعات كبيرة، تتألّف كلّ منها من مجموعات صغيرة رابطها القرابة الدمويّة وخاصة القوميّة[11] القرويّة والمصالح. ولكنّ الأب الحبيس أليشاع "القدّيس" كان يُحبّ رهبنته، ويؤسفه ما يجري فيها، ويعمل لمصلحة دير عنّايا والرهبانيّة، لذلك لم ينسحِب إلى الشمال، هربا من الاضطهاد، بل بالعكس، فقد طلب الأب شربل، من قدس الأب العام افرام جعجع، الذي كان يحترمه، لفضيلته وإدارته وهو أيضا شقيق "قدّيس كفيفان"، فكرّمه بأن أبقى له الأب شربل، ولم يأخذه إلى الشمال. وأيضا طلبه من رئيس الدير، الأب روكس المشمشاني الذي رفض في البدء؟! وقَبِل بعد آية السراج التي حدثت في تموز 1869. فلبّى حالا، ليَرِثَه رسميّا غداة وفاته ودفنه، ويكونا كونيَّين، وعَلَمَي قداسة.

 

9- ماء في السراج (متّى 25/1-13)

لمّا كان في الدير، في عهد رئاسة الأب روكس المشمشاني يزاول العمل في الحقل كأصغر الخدم. فليلة ما، وهو يحرس معز الدير، أيّام الحصاد، وكان مع الدير عونة حصّادين. وبعد عشاء الرهبان، والحصّادون على العشاء كانوا نحو 30 رجلا. والخدم مشغولون بخدمتهم على المائدة والكرارجي[12] مهتمّ بالقيام بواجب الحصّادين، طلب من الكرارجي أمام الجمهور على المائدة، وقت العشاء أن يضع له زيتا في السراج. فانتهره الكرارجي قائلا: لماذا لم تأتِ قبل الآن في النهار؟

- فأجابه: كنتُ في الحقلة.

- فقال له: قصاصا لك ، ما في زيت الليلة، رُح. فأطاع، وعاد إلى غرفته.

وكان الخدم قد وضعوا في طريقه بنكا بالعرض، ليسدّوا عليه الطريق، عثر به وسقط على الأرض، على أنّه لم يفه بكلمة تذمُّر أو شكوى. فلحق به سابا، وكان لا يتجاوز 13 سنة، وكان خادما في الدير آنذاك، وطلب السراج منه، بحجّة أنّه سيملأُه له زيتا، ولكنّه في الواقع، ملأ السراج ماء من تنكة الصفوة، وتوفيرا للزيت، قد أمر الرئيس الكرارجي بألاّ يعطي أحدا زيتا، والمنع صدر عن الرئيس للكرارجي شخصيّا، فأخذه الأب شربل وأضاءه، فأضاء. وكان الرئيس، بغياب شربل، قد أمر الرهبان أن لا يضيئوا غرفهم بعد قرع جرس النوم، فأفاق الرئيس في الليل بحاجة، ورأى النور، فخرج من غرفته وذهب إلى حيث الضوء، فإذا به في غرفة الأب شربل.

فقال له: أما سمعت الناقوس؟ لماذا لم تطفئ سراجك؟ ألست ناذرا الفقر؟ فجثا حالا على ركبتيه طالبا منه الغفران قائلا: رجعت من الحقلة، وعليّ صلاة فوفيتها ولم أعلم بهذا المنع. وكان سابا في خارج غرفة شربل وقريبا منها. وبينما يخرج الرئيس من غرفة الأب شربل، قال سابا للرئيس: إنّي حضرت لأملأ سراج الأب شربل، فرفض الكرارجي إعطائي، عندئذ تحوَّلتُ برجوعي على تنكة الصفوة، الموجودة خارجا، وملأتُ السراج منها. ففتح السراج، وأفرغ محتواه في وعاء، فتحقّق الرئيس أنّه ماء. عندئذ لم يُخفِ رئيس الدير تأثُّره على من كان حوله. وقد سرد لهم واقع الحال، وانتشر الخبر في الدير.

بعد هذه الحادثة، في صباح اليوم التالي، إستدعى الرئيس الأب شربل، وقال له: إذا أردت، خدمة الحبساء، فلا مانع من قبلي.

قال له الأب شربل: بين رغبتي وأمر الرئيس فرق بعيد. فأنا ناذر. والناذر، لا يجوز له أن يتحرَّك بحسب إرادته، لأنّ إرادته لم تعد له. فإذا أمرتني حضرتك، طعت ورحت.

فقال له الرئيس: إذهب. فركع الأب شربل أمام الرئيس وطلب بركته. فصلّى الرئيس عليه، وباركه. فقام شاكرا ومسرعا، فجمع كتبه الروحيّة، وكتب صلواته في قطعة البلاس: فراشه وغطاؤه وحزمها بمرسة صغيرة. وألقاها على ظهره. ومرّ بالكنيسة فزار القربان. وصعد إلى المحبسة.

10- لماذا المحبسة؟!

كان الأب شربل شديد الرغبة في الإعتزال عن العالم. وقد ظهرت رغبته في كونه لم يطلُب، عندما سيم قسّا، أن يعفوه من الأشغال اليدويّة، التي كان يزاولها قبل القسوسيّة. وبما أنّه وضع بأمر السلطة، لا بطلبه في هذا الدير المنفرد عن القرى في البريّة، كان يصنع ما يعمله أكثر الآباء. إذ كانوا ينصرفون بعد صلاة الخورس والتأمُّلات الروحيّة إلى الشغل في الحقل، مثلما كان يصنع الرهبان القدماء.   وحيث إنّه في هذا الجيل الأخير، قلَّ أن اشتغل الآباء في الرهبانيّة بالحقل، نظرا لحاجة الرعايا إليهم، كان وجود الأب شربل في الدير والحقل، أمرا نادرا لقناعته بهذه الحالة. إنّ حبّه للصمت وهربه من معاشرة لا أهل العالم فقط بل الرهبان إخوانه، وتعشُّقه للفقر الكلّي أو لإماتاته الشاقّة الغريبة، جعل الرؤساء يجارون رغباته دون أن يطلب، ويتركونه في الدير لئلاّ يفقد شيئا من روحه السامي، إذا خُصِّص بخدمة الرعايا، لذلك أبقوه في الدير لكي يعطي المثل الصالح في الصلاة، والقدّاس، والشغل، والمحادثات اللاهوتيّة، وسماع الإعترافات للرجال أحيانا، ثمّ أُرسِل إلى المحبسة إذ رأوه عائشا عيشة حبيس خارجا عنها، وكانت حياته النسكيّة في المحبسة، تتمّة لحياته الرهبانيّة منذ الإبتداء... ولم تختلف حياته في الدير عن حياته في المحبسة. وبحقّ يدعونه أعجوبة النسّاك. وذهابه إلى المحبسة، لم يكن بطلب منه، بل عملا بالطاعة لرؤسائه. لأنّه هو لم يكن له ذوق خصوصيّ. وفضله في المحبسة لم يكن بأعظم ممّا كان في الدير.

ورأي آخر: إنّ إخوته الرهبان لم يعودوا يستطيعون احتمال قداسته إذ كان بمثله يوبِّخ الرهبان والحبساء المحافظين لا المتراخين فقط. فلو عرض لأحدهم أن يأكل حبّة عنب، ورأى الأب شربل، في الحال يخجل من ذاته ويترك العنب.

11- خادم أليشاع

طلب الحبيس الأب أليشاع الحرديني، شربل إلى المحبسة، فلبّى حالا. وكان الأب شربل يخدم إخوته الحبساء، وخاصّة الحبيس الأب أليشاع، يأخذ له حاجاته من الدير مثل أكل وشرب، ويخدم له القدّاس. وهو يأتي أحيانا إلى الدير يتلو الذبيحة فيه لعدم وجود من يخدم له القدّاس في المحبسة. وبقي مثابرا على هذه الخطّة ستّ سنين.

12- بارك لهم جرّة الماء

عندما كان الأب سمعان إهمج لا يزال في العالم، قبل دخوله الرهبانيّة، أي قبل سنة 1871، أتى الجراد إلى منطقته. فطلب أهالي إهمج من الأب شربل أن يبارك لهم ماء ليرشّوه في كرومهم وحقولهم دفعا لأذى الجراد. وفعلا بارك لهم جرّة الماء، وكان يحملها الأب سمعان نفسه، ورشّوا بها كرومهم القريبة من المحبسة، فلم يدخلها الجراد، وحُفِظَت تماما.

13- قدّموا له الطعام! (مر 5/43)

شهد اسكندر بك الخوري: نحو سنة 1873، مرض خالي، الدكتور نجيب بك الخوري، وأشرف على الموت. فأرسلت جدّتي، والدته، إلى الأب شربل أن يأتي ليصلّي عليه عسى الله يشفيه، لأنّ جدّي كان طبيبا، وكان يعتقد أنّ حالته خطرة، لا يمكن شفاؤه. وعند وصول الرسول للأب شربل، قال له بأن يأتي ليلا. فأفهمه أنّ المريض بحالة خطرة، ولا يمكن التأجيل فأجابه: سنذهب فورا، ولكن لا أريد أن يراني أحد- تواضعا منه لئلاّ يستلفت أنظار الناس إليه- وعندما وصل إلى البيت، كانت حرارة المريض مرتفعة جدّا وهو بحالة الغيبوبة. وكان مريضا بالتيفوئيد. فصلّى عليه الأب شربل، ومسح جبينه بمنديل مرطب بالماء المبارك. وفورا فَتَح عينيه، بعد أن كان فاقد الوعي منذ أيّام ونطق بهاتين الكلمتين: بونا شربل؟! فقالت له والدته: قَبِّل يد الأب شربل! ففعل. فقال الأب شربل للحاضرين: مجّدوا الله، فقد شفي المريض، قَدِّموا له الطعام! فتردّدوا، لأنّ الولد كان مريضا بالتيفوئيد، وكانوا يعتقدون أنّ الطعام سيقضي عليه. على أنّ الأب شربل ألحّ عليهم بأن يطعموه، وانصرف. عندئذ قدَّموا له الطعام، فأكل وارتاح. وبعد برهة قليلة، عاد والده، جدّي، إلى البيت، فأخبروه بما فعل الأب شربل. فقال لهم: قُضِيَ الأمر. فإذا كان من أمل قبل الأكل، فلم يعد من أمل بعد الأكل. ولكنّ الولد شُفِي، وعاش، وأصبح طبيبا، وعاش 85 سنة. وقد داوى الأب شربل مرارا في حياته.

14- أليشاع يوصي بشربل ...ليخلفه

وبعد أن قضى الأب أليشاع في محبسة عنّايا 44 سنة ونصف توفّي في 13 شباط 1875، وله من العمر 76 سنة، مسلّحا بالأسرار المقدّسة. وكان موته عجزا طبيعيّا. وبقي بانتباه كامل إلى آخر دقيقة من حياته. ودفن يوم الاحد في 14 شباط الساعة 8 في مقبرة دير مار مارون، بجنّاز حافل، ووضع ضمن صندوق من خشب. وفي اليوم التالي، أمر الرئيس الأب الياس المشمشانيّ الأب شربل أن ينحبس في المحبسة رسميّا. فأقام فيها مع الحبيس الأب ليباوس الراماتيّ.

 

15- شربل يهمل منهج أليشاع الإقتصادي

كان من عادة الحبساء أن لا يسمحوا بقطع الحطب من حرش المحبسة، نظرا لقربه من الدير، بل كانوا يقولون: حطِّبوا وافرعوا من المحلاّت البعيدة الغير مصانة. أمّا الأب شربل، فقد خالف عادة أسلافه، وترك المسألة لفطنة الرئيس وحكمته. وهكذا كان منقادا لأمر الطاعة، حياته كلّها إنقيادا أعمى. وكذا قل عن مسألة جمع النذور وخلافها، غيره كان يجمعها لمشترى أملاك للدير، أمّا هو فيسلّمها لخادمه، ثمّ للرئيس ليصنع ما يراه، دون أن يبدي أدنى رأي.

 

16- قمر بين النجوم

لم تختلف حياته في المحبسة عن حياته في الدير، إلاّ بكونه كان متّبعا قانون الحبساء، فما أخلَّ بأدنى واجب من واجبات الحبساء. وتسنّى له أن يطاوع رغبته الزائدة في التقشّف وإماتة الذات، والإكتفاء بوجبة واحدة في اليوم. وكان يزيد القانون تقشّفات زائدة مثل المسح وزنّار الحديد على اللحم والجلد.

كان حبيسا لا يماثله بالفضيلة، وحفظ القانون أحد بين الرهبان الأتقياء. وتفوّق على الحبساء جميعا، فقد كان بالنسبة للرهبان والعلمانيّبن، كالقمر بالنسبة إلى النجوم، وكما تمتاز السنديانة الكبيرة عن البلاّنة، فحياته ملائكيّة سماويّة، تتمثّل بشخصه العفّة، والرزانة، والإيمان الحيّ، والرجاء، ومحبّة الله والقريب.

17- خادم الحبساء (يو 13/14)

دخل الأب مكاريوس المشمشانيّ محبسة عنّايا في 25 نيسان عام 1880، وكان الأب شربل يتردَّد على الدير ليأخذ للحبيسين الأبوين مكاريوس المشمشانيّ وليباوس الراماتيّ حاجات المأكل والمشرب، فيَحمِل على ظهره كيسا من الشعر، يأخذ فيه مؤونة المحبسة لمدّة أسبوع، لأنّه كان يقوم بخدمتهما، وكان يعتبر نفسه خادما للحبيس رفيقه الأب مكاريوس المشمشانيّ.

 

18- إرجع إلى المحبسة!

كُلِّف الأب شربل بالسهر ليلا على حراسة صحراء المقتي والخيار. وفي الصباح وجد الأب مكاريوس أنّ الصحراء قد أكلتها بنات آوى. فوبّخ الأب شربل على هذا الإهمال. فقال له الأب شربل: رأيت بنات آوى وهي صغيرة، فأخذتني الشفقة عليها، وما منعتها عن الأكل. فقال له الأب مكاريوس مغتاظا: إذهب ونم في الدير. فوصل الدير متأخِّرا، ودخل غرفته الفارغة، فرأى المصباح فارغا، الذي أهمله من سنوات! فذهب إلى العشّي ليملأ له المصباح زيتا. فأجابه العشّي: إنّ الكرارجي راح وليس عندي زيت، فرجاه أن يعطيه ولو قليلا من الزيت. فأخذ العشّي المصباح، ووضع فيه بدل الزيت ماء، وسلّمه للأب شربل. فأضاءه فأنار وبقي الماء يضيء مدّة أطول ممّا لو كان زيتا. وبعد الغياب بساعتين دخل الأخ فرنسيس مشمش الكرارجي غرفة الأب شربل، فوجد سراجه منارا. فدنا منه، وامتحنه، فرأى أنّ فيه ماء، فخاف الأخ واضطرب، ولم يجسر أن يسأله شيئا.  وأخبر أخاه الرئيس الأب الياس المشمشاني، ففحص السراج ووجد أنّ فيه ماء. لذا في صباح اليوم التالي أمر شربل بالعودة إلى المحبسة، التي طرده منها الأب مكاريوس.

 


 


 

 [1] وذلك لثلاثة أسباب:

-  لا تزال الأم فتيّة، فقد أنجبت بعد زواجها الثاني: طنّوس في 8 أيلول 1834...  ونوح في 3 تموز 1837.

-  يوسف هو الولد الأخير، من زواجها الأوّل، والأرجح أن تكون أمّه حاملا به عند وفاة الوالد.

- يجب أن يحمل الراهب معه حين دخوله الرهبانيّة شهادة تثبت ميلاده وعماده وتثبيته، لذا يكون تدوين رزنامة عنّايا (عمره 20 سنة 1853) هو الأقرب للمنطق.

 [2] وصف الشاهد العياني سليم خيرالله الطوفة في طرابلس: الساعة الثالثة بعد الظهر فاض نهر أبو علي، وعلا الماء فوق الجسر، ووصل لباب الحديد، وعَدَم كامل السويقة والمسلخ وسوق الحراج والملاحة، ووصل لمحل حارة النصارى بزخم قوي جدّا. وعلا فوق الأسواق فوق الدكاكين حتّى لا عاد يظهر. وفي محلاّت بلغ الماء السقف. وبعض محلاّت، على الهز هدمها بأصحابها وكامل ما بها. كذلك جاب أبقار وخيل وحمير وجمال كثيرة، ودلب وحور: كل شجرة قد حارة كبيرة. وغرق رجال ونساء وأولاد بالأسواق وماتوا. وتقريبا ثلث البلد خربت. راح كامل ما هو موجود بمحلاّت المتقاربة للماء من أثاث ونحاس وفرش ولحف ومونة وصيغة ودراهم: شي يبلغ 3000كيس (الكيس 500قرش) هذا من داخل البلد. والذي خارج البلد من بساتين وجنينيات وطواحين: شي ينوف عن 2000كيس. وأخذ من نسا ورجال وأولاد. ومات ما يقرب 100امرأة من الرعب، هذا الأمر غريب بأيامنا. وعلا فوق جسر الماء لقامة. وكل ذلك حكم نصف ساعة. ولولا الله ما تدارك الخلق كانت هلكت الناس بالماء. ولكن لحد الساعة الرابعة بعد الظهر همد النهر ورجع لأصله. والماء الذي إجا كمثل ماء الطين أسود تقيل جدا. وعناية المولى لطف بالخلق. فلو استقام الفيضة بزيادة ربع ساعة راحت تلتين البلد. ولو كانت بالليل كان الأمر كذلك. ولكن المولى قدر ولطف بالخلق، ولولا قدرة الله أعانتنا لكانت أنفسنا هلكت مع بقيّة الناس. ولله الحمد على كل حال الآن وإلى أبد الدهور آمين. ولمّا انجزرت المياه، استقدم الباشا غوّاصين استخرجوا تلك الأرزاق الراسبة في الماء، وربح مالا كثيرا.

 [3] تمّ المزراب وضهر القضيب قمّتان من جبل المكمل، أعلى جبال لبنان، بعلو حوالي 3080م عن سطح البحر.

 [4] كلمة غير واضحة، بمعنى أنّه كان مستهزئا بالطوفة فانهار من الخوف.

 [5] أهلها من الأمراء السابقين أو من نسل الأمراء... كانوا من الظالمين... تنام عندهم العروس قبل أن تذهب إلى بيت زوجها.

 [6] ويوضح قرألي مؤسّس رهبانيّة شربل: ومعروف هو عند الكلّ، أنّ كثيرا من الآباء النسّاك أحزنوا والداتهم وأقاربهم لمّا لم يسمحوا لهم بمخاطبتهم، ولا أيضا بالنظر إليهم، فضلا عن مخالطتهم ومعاشرتهم، كما هو مشهور من سيرة الأب القدّيس سمعان العامودي، والأب بيمين وإخوته، وغيرهم بلا عدد.

 [7] ويوضح شبلي: نقل الرهبان إلى بيت عنايا الذي سكنه الرهبان مؤقتا.

 [8] عمّر الأقبية والكنيسة بتمامهم الأخ عبدالله الخباز (المعروف بالحجّار) أمّا عمار غرف الممشى الشمالي على الصفّين مع غرفتين لجهة البحر، الأب العام سابا العاقوري، وكمالة غرف البحري عمّرهم الأب روكس المشمشاني مع بضع قلاّيات لجهة الجنوب.

 [9] توفّي 3 رهبان بمرض الجدري، وهم: أب عمانوئيل من  قرطبا، في 15ت2 1841؛ وأخ جرمانوس  من عمشيت، في 15 ك1 1841؛ وأخ صموئيل   من تنّورين، في  8 ك2 1842؛ وقتل المتاولة أخ اسكندر من  ترتج،  في 23 أيلول 1842. وفي الموضوع نفسه من تعديات الحمادية المتاولة على دير قرطبا كتب رئيس دير قرطبا إلى البطرك: ومن حيث التحسّب من الذي تقدّم به الإعراض وهو أنّه حاصل لنا الإحتياج إلى الجابخانة تأمروا لنا كم رطل رصاص وبارود لأجل الإحتفاظ من أمر يأتي على غفلة.

 [10] هو من أسّس رهبنة العبّاد، في دير التجلّي، قبل أن يتّفق مع الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، ويلتحق بها.

 [11] يقول القدّيس باسيليوس: ظلم أن يكون في الدير إخوة مرتبطون بالإتّفاق ربائع ربائع وثلاثة ثلاثة وإثنين إثنين، لأنّ الذي يحبّ واحدا أكثر من الباقين، فهو يظهر أنّ المحبّة الكاملة ليست فيه.

 [12] من كرّ وهو كيل للحبوب، والكرار جمع الكُرّ مكان المونة، والكرارجي هو الراهب المسؤول عن مؤونة الدير.

 
 

pure software code