الاساس

 حياة مار مارون وتلاميذه

   

مار مارون وتلاميذه
"الأوّل بعد الأوحد"
إعداد الأب حنّا اسكندر

 
  الاساس
 
  حياة مار مارون وتلاميذه
   يعقوب القورشي
    ليمنايوس
    دومنينا
    إبراهيم القورشي
    أوسابيوس (حوشب) القورشي
    يوحنّا
    موسى، أنطيوخوس، أنطونيوس
    برداتوس
    مارانا وكيرا
    البطرك القدّيس يوحنّا مارون
 
  مارونيّات
 
  الصلاة - من زياح القديس مارون
 
 
 
 
معمودية يسوع

أوّلا: مار مارون

1- تنسّك مار مارون

اختار مارون أن يعيش في الهواء الطلق. وصل إلى قمّة رابية كانت قديما مكانا مكرّما للوثنيّين. وبعد أن كرّس هيكلهم لله، وأقام فيه وبنى له كوخا حقيرا من الجلود المكسية بالوبر ولكنّه لم يستعمله إلا نادرا! إذ يلجأ إليه في أوقات الأمطار والثلوج. وما كان يمارس الأعمال النسكيّة العاديّة فقط، بل كان يستنبط أعمالا أخرى.

 

2- حمل أوجاعنا(متّى 8/17)

ومن ثَمَّ فإنّ الله قد وهبه النعمة على قياس تلك الأعمال، فهكذا أغدق عليه الشفاءات، حتّى انتشر إشعاع مجده في كلّ مكان، ومن كلّ ناحية كان يجذب إليه الجموع، مبرهنا بالفعل صدق شهرته. وبالفعل كان بالإمكان أن يشاهدوا حرارة الحمّى تنطفئ من ندى بركته والبرداء تتوقَّف والشياطين يهربون. وكل أنواع الأمراض والمصائب المتنوِّعة تُعالَج بدواء واحد! فإنّ الذين يتعاطون الطبّ، يعالجون كلّ مرض بعلاج مناسب، أمّا صلاة القدّيسين فهي دواء يناسب كافّة الأسقام!

 

3- جِئْتُ لأَدْعُوَ الـخَطَأَةَ إِلى التَّوْبَة (لو 5/32)

ولم يكن يشفي الأسقام الجسديّة وحسب، لكنّه كان أيضا يحمل إلى النفوس بالعلاج المفيد، شافيا هذا من الطمع، وآخر من البخل، وذاك من الغضب، ومانحا لهذا درسا عن الكمال، ولذاك يصف له دواء القناعة، وبالمقابل كان يعلمه قوانين العدل.

مصلحا هذا من الانحراف موقظا ذاك من الفتور. من خلال ممارساته لفنّ زراعة بذور القداسة، قد أنمى العديد من أغراس القداسة وهو الذي زرع لله في جوار قورش ذلك الفردوس المزهر. ويعقوب الكبير هو ثمرة من عمله في هذه الزراعة هذا الذي يصح فيه بكل صواب الآية النبوية "الصديق كالنخل يزهر ومثل أرز لبنان ينمي" وهكذا أيضا، بالنسبة للآخرين جميعهم.

4- رسالة القدّيس يوحنّا الذهبي الفم إلى مار مارون

إنّ علائق المودّة والصداقة التي تربطنا بك، تمثّلك نصب عينينا كأنّك حاضر لدينا، لأنّ عيون المحبّة تخرق من طبعها الأبعاد، ولا يضعفها طول الزمان. وكنّا نودّ نكاتبك بكثرة، لولا بعد المسافة وندرة المسافرين إلى نواحيكم. والآن فإنّنا نهدي إليك أطيب التحيّات، ونحبّ أن تكون على يقين من أنّنا لا نفترّ عن ذكرك، أينما كنّا، لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنّ أنت علينا بأنباء سلامتك. فإنّ أخبار صحّتك تولينا على البعد أجلّ سرور وتعزية في غربتننا، فتطيب نفسنا كثيرا إذ نعلم أنّك في عافية. وجلّ ما نسألك أن تصلّي إلى الله من أجلنا.

 

5- أَلشَّعْبُ الـجَالِسُ في الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا (متّى 4/16)

وفيما كان يجدّ هكذا في الزراعة الإلهيّة معالجا النفوس كما الأجساد أصيب بمرض لوقت قصير حتى نلاحظ ضعف الطبيعة وقوّة إرادته. ومن ثمّ انتقل من هذه الحياة. وحصل قتال عنيف بين أهل الجوار للحصول على جثمانه. ولكنّ البلدة الأقرب عديدة البشر أو مقتظّة بالسكان أقبل أهلها بجملتهم بكثرة، بدّدوا الآخرين واستحوذوا على الكنز المرغوب فيه جدّا، وشيّدوا له عندهم ضريحا عظيما وهم، من ذلك الوقت حتّى يومنا ما زالوا ينعمون بمعوناته مكرّمين هذا الظافر بعيد شعبي.

 

6- جمجمة مار مارون

وفي مطلع القرن الخامس الذي يلائم تاريخ وفاته سنة 410، شيّدت كنيسة كبيرة وضع في داخلها قبر لحفظ ذخائر مار مارون. وفي التقليد الماروني إن تلاميذه نقلوا هذه الذخائر وخاصة جمجمته إلى دير مار مارون أو "بيت مارون" الذي شيّد سنة 452 على ضفاف نهر العاصي في منطقة قريبة من أفاميا المعروفة اليوم بقلعة المضيق، في سوريا الحاليّة، وبلغ عدد رهبانه حوالي 800 ويتبعه 300 منسكة أو محبسة.

 

أعيدت الجمجمة، إلى لبنان، إلى دير كفرحيّ، في منطقة البترون، في بداية القرن السابع. يقول البطريرك الدويهي: "ولما استقرّ في كفرحيّ بين الهيكل والدير على اسم مار مارون وجعل هامته فيه وهي مانحة الشفاء. ومنها تسمّى هذا الدير ريش موران، رأس مارون بسبب وضع هامته هناك".

وعاد وأخذها أحد رهبان القدّيس مبارك وكان رئيس دير الصليب القريب من مدينة فولينيو في إيطاليا لما حضر من الغرب في زيارة حجّ إلى الأراضي المقدّسة سنة 1130، وحملها معه إلى هذه المدينة حيث بنيت على اسمه كنيسة بالقرب من المدينة، لما ظهر منه من المعجزات، وكان الشعب كثير التعبّد له.

ثم إنّ أسقف هذه المدينة نقل سنة 1194 هامة القدّيس مارون إلى كنيسة الكرسي الأسقفي. ووضع المؤمنون تمثالاً صغيراً من الفضّة يمثِّل صورة وجه القدّيس ووضعوا ذخائره في داخله.

ويقول المطران يوسف الدبس أنّه في خلال مروره بإيطاليا سنة 1887 قدّم له مطران فولينيو ذخيرة من هامة مار مارون.

وقد أعاد المطران بولس أميل سعادة هامة القدّيس إلى كرسي أسقفيّته في كفرحي البترون سنة 2007.

 

7- قبر مار مارون اليوم في براد

في سنة 2004 قَبِل مطران حلب يوسف أنيس أبي عاد الأخ توفيق في أبرشيّته، وألبسه الثوب الرهباني بعد سنتين. يقيم الأخ توفيق في براد حيث قبر مار مارون. واللافت للنظر أنّ سكّان بلدة براد، وكلّ محيطها هم عموما من الأكراد المسلمين، وقد عاش الأخ توفيق بينهم! ومحبوبا منهم! وذلك لأن الله قد أجرى على يده كرامات عديدة، من شفاءات وقراءة أفكار... وقد ساهمت زيارة الجنرال عون إلى سوريّا في دفع الكنيسة المارونيّة الممثّلة بأبرشيّة حلب والدولة السوريّة الممثّلة بالرئيس بشّار الأسد للاهتمام بقبر مار مارون وإنشاء كنيسة هناك ومقرّا للكنيسة المارونيّة. وهذا ما كتبته النشرة الرعائيّة، أبرشيّة حلب للروم الكاثوليك، كانون أوّل، 2008:

وأثناء تنقّل الجنرال عون في حلب من كنيسة إلى كنيسة وحتّى ختام الزيارة الرائع الذي جرى في براد، ففي هذا الموقع، حيث دفن القدّيس مارون من 1600، استحدثت السلطات المختصّة، بتوجيه من الرئيس بشار الأسد، معبدا واسعا وأنيقا يستطيع أن يستوعب أكثر من 500 مصلّي، زيّنته وجهّزته أفضل تجهيز ليكون لائقا بالاحتفال الديني الذي ترأَّسه راعي أبرشيّة حلب المارونيّة، الذي احتفل بالذبيحة الإلهيّة، بمشاركة وحضور عدد كبير من المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات والرسميّين والمؤمنين، وكان المشهد رائعا ومؤثّرا للغاية، حيث شعر الجميع وكأنّ هذا الدير العريق يعود إلى الحياة مجدّدا.

والآن أصبح قبر مار مارون محجّا لكلّ المسيحيّين، بكلّ طوائفهم وخاصّة المقيمين في حلب، ولمسلمي الجوار أيضا. يحتفل الأب الياس عدس بالذبيحة الإلهيّة في الكنيسة هناك يوميّا، وخاصّة في الصيف، والأيّام السابقة لعيد مار مارون حيث يفد آلاف اللبنانيّين للحجّ هناك. كما ينظّم الأب المذكور رياضات روحيّة وسجود أمام القربان.

 

ثانيا: يعقوب القورشي

يعقوب هزم بصلاته جيش الفرس وعلى الرغم من سقوط الأسوار لم تؤخذ مدينة قورش لأنّ الأعداء انهزموا يلاحقهم جيش من البعوض.

 

1- تفوّق على معلّمه

إنّ يعقوب هذا الذي كان قد عايش مارون الشهير وتلقّن عنه تعاليمه قد تفوّق على معلّمه بكثرة تقشّفاته فقد تخلّى عن الخيمة، ولم يحتفظ إلاّ بالسماء غطاء له. فكان يحتمل تقلّبات الجو على أنواعها فتارة كنت تراه غارقا في عاصفة من المطر ومرّة مجمّدا بالصقيع والثلج أو بالمقابل مشتعلا وذائبا تحت أشعّة الشمس المحرقة. فكان شجاعا في جميع الأحوال وشتّى الظروف فيجاهد في جسده كأنّه جسد غيره ويحاول الانتصار على الطبيعة الجسديّة بتجرّد كامل. فكان وهو في جسم مائت ومتألِّم يعيش كما لو كان في جسم لا يتألَّم محاولا أن يمارس في جسده هذا سيرة من لا جسد لهم وهو يصرخ مع الرسول الملهَم: "إنّا وإن كنّا نسلك في الجسد لا نحارب بحسب الجسد لأنّ أسلحة حربنا ليست بجسديّة بل هي قادرة بالله على هدم الحصون. فنهدم الآراء وكلّ علوٍّ يرتفع ضدَّ معرفة الله ونسبي بكلّ بصيرة إلى طاعة المسيح". بل كان يتوصّل بأعمال بديهيّة إلى تلك المعارك التي تفوق الطبيعة. كان أوّل جهاده أن اختلى بنفسه في صومعة صغيرة بعيدا عن الضوضاء الخارجيّة وصوّب ذهنه نحو التفكير بالله فهيّأ بذلك نفسه لممارسة قمّة الفضيلة. وبعد أن أنهى تدريبه استعدادا منه لأصلح ما يكون من الجهاد انطلق في ممارسة أقصى التقشّفات فارتقى إلى ذلك الجبل الذي يبعد عن قورش 6كلم فجعله كريما وخيّرا بعد أن كان في الماضي مجهولا تماما وقاحلا. والجميع يعتقدون اليوم أنّ تلك الأرض لكثرة ما نالها من البركات قد استبدلت بأقدام الناس الآتين إليها من كلّ صوب للحصول فيها على النعم.

 

2- حياته في الهواء الطلق

وفي مقرّه كان معرّضا لمشاهدة جميع المارة، فلم يكن كهف أو خيمة أو صومعة أو دار مغلقة أو سور يحيط به، بل كان الناس يرونه مصليّا أو راقدا أو واقفا أو جالسا، ذلك في حال الصحّة وفي حال الانزعاج حتّى أنّه كان دائما تحت الأنظار وهو يمارس تقشّفاته أو يكبت مقتضيات الطبيعة، وإذا كان يصعب على سواه ممّن نالوا تربية ما أن يبرزوا فرثهم في حضور الغرباء، فعلى كلّ الأحوال أنّه ليستحيل ذلك على من بلغ في تدريبه قمّة القداسة.

أقول هذا، لأنّي سمعت الآخرين يروونه، بل لأنّي كنت شاهد عيان على ذلك. أصابه مرض عضال كما يحصل ذلك عادة لجسد مائت. وكان الصيف في أوجه والشمس تطلق حرارتها على أشدّها، والهواء جامدا وخاليا من أي نسمة. وهو كان يشكو من ألم شديد يشعر بأنّ أحشائه تتمزّق وكان بحاجة إلى أن يلتجئ إلى الخلوة. حينذاك تحققتُ قدرة هذا الرجل على الاحتمال. فإنّ جمهورا من الشعب كان مجتمعا حوله يريد أن يحمل هذا الجسم المظفَّر، لأنّه كان جالسا مأخوذا بدافعين متناقضين أوّلهما أنّه كان بحاجة كلّيّة إلى الانفراج، والآخر خجله من إجراء ذلك في محضر هذا الشعب المحيط به. وظلّ مستمرا في حالة الجلوس نفسها. ولما فطنت ذلك وجّهت للشعب تحريضات شتّى وإنذارات شتّى آمرا إيّاهم بالابتعاد عنه. ثم اضطررت أن أهدِّدهم بسلطتي الكهنوتيّة. ولكنّهم لم ينصرفوا إلاّ بعد جهد كبير مع حلول المساء. لكنّ رجل الله ظلَّ ضابطا طبيعته بعد ذهابهم. واستمرّ كذلك حتّى حلول الظلام العميق بعد أن عادوا جميعا إلى منازلهم.

 

3- مرض يعقوب الأوّل

ولمّا عدتُ إليه في صباح الغد وشعرتُ أنّ الشمس قد ازدادت حرارتها والسخونة التي كانت تلازمه صارت ترتفع مع الجو الخارجي المشتعل، تذرعتُ حينئذ بألم في رأسي وقلت له بأنّ الشمس تزعجني ورجوت منه أن يأمر بالعمل على جعل شيء من الفيء لي إلى جانبه. ففعل بأن استحضر 3 عصي غُرست في الأرض وبسط فوقها وشاحان من الوبر فحصلنا بذلك على الفيء المطلوب. ولمّا كلفني كي استظل تحت شبه الخيمة هذه قلتُ له: يا أبتِ، أخجل أن أنعم وحدي بهذه الاستراحة رغم شبابي وعافيتي، وأنت، رغم كلّ ما ينتابك من الحمى الشديدة التي تستلزم لك مثل هذه الاستراحة، تبقى خارجا معرَّضا لأشعّة الحارقة. وأضفت: "أمّا إذا أردت أن أستفيد من الفيء فتعال أنت معي تحت هذه الخيمة الصغيرة لأنّي أحبّ أن أبقى إلى جانبك، فانصاع حينئذ لأقوالي رغبة منه في خدمتي".

 

4- إصرار المؤلِّف في معالجته

ولما أخذنا نتمتَّع بالفيء، انتقلت في حديثي معه إلى موضوع آخر، فقلت له: "أنا في حاجة إلى أن أتمدّد لأنّ خاصرتي لا تسمح لي بأن أستمر جالسا". فسمح لي هذه المرّة أيضا بأن أتمدّد. لكنّ جوابي إليه كان بأنّي لا أطيق أن أتمدّد أنا وأراه هو جالسا فقلتُ له: إذا أردت أن أنعم بهذه الراحة أيضا، فعليك أن تفعل مثلي، لأنّي يا أبت لست مستعدا أن أخجل بأن أراني متمدّدا وحدي". وهكذا بمثل هذه الأقوال المبطّنة تغلبت على ميله للتقشّف وبلغتُ به إلى أن يجد شيئا من الاستراحة بتمدّده.

ولمّا أضحى ممدّدا على الأرض، صرتُ أمازحه لأوصل إلى نفسه شيء من الابتهاج. ثم جعلتُ يدي تحت ردائه محاولا أن أدلِّك ظهره بنعومة. فشعرتُ حينئذ أنّ سلسلتين من الحديد تحيطان بخصره وعنقه وأنّ سلاسل أخرى، إثنتين من الأمام واثنتين من الوراء تنحدر بانعكاس من العنق إلى الخصر على الصدر وعلى الظهر فترتبط كلّها بسلسلتي العنق والخصر. وكان ذراعاه أيضا يحملان حتّى العكس رباطات أخرى مماثلة. حينئذ لما عانيتُ الأثقال الباهظة، طلبتُ إليه أن يرضى بإراحة جسده الذي لا يمكنه أن يحتمل هذه الأثقال كلّها مع الضعف الذي حلّ به دون إرادته: وأضفت قائلا له: يا أبت إنّ الحمّى تفعل فيك في الوقت الحاضر فعل السلاسل. فعندما تزول الحمّى يمكنك أن تفرض على الجسد العذاب الناتج عن السلاسل. فرضخ أيضا لرجائي هذا، مأخوذا بهذه الأقوال التي كانت تبهجه.

 

5- مرض يعقوب الثاني والشعب يختطفه

وهكذا، بعد بضعة أيّام من المرض عادت إليه عافيته تدريجا. ولكن ما لبث أن عاد إليه على أشدّه. وأقبل إليه الناس من كلّ صوب ليستولوا على جثمانه. لكنّ القورشيّين لدى سماعهم بهذا النبأ، أسرعوا بأجمعهم، مدنيّين وعسكريّين، بعضهم بأسلحتهم الحربيّة وبعضهم بما تسنّى لهم أن يحملوه بمثابة سلاح، واصطفوا للقتال. وصار بعضهم يطلقون النار وبعضهم الحجارة، ليس للضرب بل للتخويف. ولمّا توصّلوا إلى إبعاد الجيران، وضعوا الزعيم على نعش وهو في الغيبوبة، لأنّه لم يكن يعي شيئا عندما كان القرويّون يقتلعون ذخائر من شعره. ثم ساروا به إلى المدينة مشيا على الأقدام.

 

6- تدخُّل المؤلِّف مرّة ثانية

ولما وصلوا إلى قبر النبي وضعوا النعش في الدير المجاور. ثم أتى أحدهم إلى بيرية حيث كنت موجودا ليخبرني بما حدث ويعلمني بنبأ وفاته. فقمتُ للحال على عجل وبعد مسيرة ليلة كاملة من السفر كنتُ في حضرة رجل الله الذي لم يكن ينبس بكلمة ولا يتمكّن من معرفة أحد ممّن كانوا حوله. ومع ذلك، لمّا وجهتُ إليه الكلام وبلغتُه أماني أكاكيوس العظيم له، فتح عينيه للحال وسألني كيف حاله وأراد أن يعرف أيضا متى وصلت إليه. ولمّا أجبته إلى أسئلته، أغمض عينيه من جديد. ثم بعد 3 أيام، عند حلول المساء، سأل أين هو موجود. ولما أجابوه إلى سؤاله، حزن كثيرا وطلب أن يعيدوه للجال إلى جبله. ولما كنت مصرّا على معالجته بكلّ الوسائل، أمرت أن يأتوا بالنعش ويحملوه إلى الموضع الذي كان يرغب فيه.

 

7- تواضع يعقوب

لكنّي لاحظت حينئذ اللامبالاة على وجه هذا الرجل الذي أجلُّه كثيرا. وفي اليوم الثاني قدمتُ له كأسا من الشعير المطحون والمغلي بعد أن جعلته يبرد، لأنّه لا يتناول قط شيئا ساخنا بحجّة أنّه حرّم على نفسه استعمال النار. ولمّا رفض أن يشرب قلت له: يا أبت، أرجوك أن تراعي خاطرنا جميعا، لأنّنا نعتقد أن صحّتك هي فائدة عامّة، ولأنّك لست فقط مثالا نستفيد منه جميعنا، بل إنّك تقوّينا أيضا بصلواتك وتجلب علينا العطف الإلهي. وإذا كان ثـمّة من صعوبة في الحياد عن عوائدك، فأقول لك أن تفعل ذلك أيضا، يا أبت، لأن هذا الحياد هو أيضا من سمات الحياة النسكيّة. فإنّك لما كنتَ في الصحّة وكنتَ تشتهي أن تأكل، كانت لك الشجاعة على أن تكبُت جوعك. كذلك الآن وأنت لا تشعر بالشهيّة مطلقا، فأظهر هذه الشجاعة نفسها لتناول شيئا من الطعام". ولما كنت أتكلّم هكذا، كان حاضرا أيضا رجل الله بوليخرونيوس. ولكي يدعم كلامي، أراد أن يبدأ أوّلا بتناول الطعام رغم أنّ ذلك كان في السحر وكان من عادته أنّه كثيرا ما لم يكن يغذّي جسده سوى مرّة واحدة في الأسبوع. وعليه فإنّ يعقوب، رضوخا لأقوالنا، تناول كأسا واحدة فقط من الشراب وهو مغمّض العينين كما يحدث لنا عادة عند تناولنا شرابا مرّا. ويجدر بنا القول أنّنا أقنعناه أيضا أن يضع رجليه في الماء لفقدانهما القدرة على المشي بسبب الضعف. وأعتقد أنّ ذلك دليل على مرونة نفسه في الحياة النسكيّة. ولما كانت الكأس قد بقيت إلى جانبه، حاول أحد القائمين على خدمته أن يخفيها تحت طبق، كيلا تبقى ظاهرة أمام من يزورونه. لكنّه احتج قائلا: "لماذا تخفي الكأس؟" فأجابه: "لكي لا تقع تحت نظر الزائرين". قال: "دع عنك ذلك يا فتى. فلا تخفِ عن الناس ما هو مكشوف لدى ربّ العالمين، لأنّي وقت صمّمت على العيش لأجله وحده، لم أعد أهتمّ لما يرتئيه البشر. فماذا ينفعني إذا حسب هؤلاء أنّ سيرتي النسكيّة عظيمة واحتسبها الله أقلّ من ذلك؟ لأنّهم ليسوا هم الذين يكافئوني على أتعابي، بل الله هو المكافئ".

 

8- ضدّ المجد الباطل

وقد عرفتُ حادثا آخر من هذا النوع جرى له مرّة في الماضي. كان المساء وكان الظلام كثيفا وقد حان وقت الطعام. حينئذ بدأ يشرب ماء الشعير المحضَّر أمامه، ويتناول شيئا من العدس المغلي، لأنّ هذا كان طعامه. وإذا برجل يأتي من المدينة مهمّته جمع الضريبة العسكريّة. فأبصره قادما من بعيد ولم يتوقّف عن متابعة أكله للعدس بدون اكتراث. ثم تخيّل له أنّه شبه شيطان، فزجره بكلمات قاسية تجدر بعدو. ولكي يبدو أنّه لا يخافه تابع أكل العدس. ولكنّ الرجل الذي كانت تنهال عليه اللعنات أخذ يتوسّل إليه ويجاهر بأنّه إنسان وأنّه لاضطراره بموجب قسم أن يغادر هذه المدينة ليلا قد أتاه في هذا الوقت. حينئذ قال له يعقوب: أأا"ثق لا تخف، واذهب بعد أن  تكون قد أكملت صلاتك أو بالأحرى اجلس معي وشاركني في الطعام". وبعد أن قال له هذا، أخذ ملء كفّه من العدس وقدمه إليه. فعلى هذه الصورة كان يبعد عن ذهنه رذيلة المجد الباطل وغيرها من الرذائل.

 

9- قوّته على الاحتمال

مرّات كثيرة كان الثلج يتساقط عليه مدّة 3 أيّام و3 ليال، وكانوا يرونه منبطحا على صدره وهو يصلّي إلى الله والثلج فوقه كثيف لا يترك من ثيابه البالية قطعة صغيرة ظاهرة. وكثيرا ما أيضا كان الناس المجاورون له يأتون بالرفوش والمعاول ليجرفوا عنه الثلج الذي يُغشِّيه ليتمكّنوا من إخراجهم جسمه المرتمي تحته ويرفعوه.

 

10- أعاجيبه: إحياؤه ميتا

فببركته كان الذين بهم الحمّى المحرقة يشفون فتزول عنهم، والمصابون بالقشعريرة تهدأ وتتبدّد تماما، وكثير من الشياطين كان يضطرهم إلى الهرب، والماء الذي تباركه يمينه يصبّه دواء شافيا.

ومن ذا الذي يجهل قصّة ذاك الصبي الصغير الميّت الذي نال بصلاته القيامة من الموت؟ فإنّ أهله كانوا يسكنون في ضواحي المدينة. وكان والداه قد أنجبا كثرة من الاولاد شيّعاهم كلّهم باكرا إلى القبر. لذلك عندما ولد طفلهما الأخير هذا، أسرع والداه إلى رجل الله يسألاه أن يحظى بحياة طويلة ووعده أنّه إذا عاش ينذره لله تعالى. لكنّ الولد لما بلغ الرابعة من عمره مات. وكان أبوه غائبا. ولدى عودته رآه محملا إلى القبر. فخطفه من على النعش قائلا: "يجب عليّ أن أفي بوعدي وأقدّمه لرجل الله فوضع الولد أمامه ثم ارتمى راكعا على ركبتيه وجاعلا وجهه على الأرض وأخذ يصلّي إلى ربّ الحياة والموت. ولما أظلم المساء صار الولد يدمدم بصوته وينادي أباه، فعرف بذلك رجل الله أن الله قد استجاب لصلاته ووهب الحياة للولد. فنهض ثم سجد للذي يعمل بمشيئة من يخافونه ويتقبّل طلباتهم. ثم ختم صلاته وقدّم الولد لأبيه. وأنّني قد شاهدت أنا نفسي هذا الولد وسمعت أباه يروي الأعجوبة نقلت إلى الكثيرين هذا الحادث المضاهي أعمال الرسل.

 

11- ثيودوريتوس والمرقيونيّون

وقد استفدتُ أنا نفسي مرارا كثيرا من عونه. كان مرقيون المنافق قد بذر في منطقة قورش الكثير من أشواك كفره. ولما كنتُ أحاول أن أقتلعها من جذورها كنتُ أستعمل لذلك شتّى الحيل، ولكي أبلغ الهدف كنتُ أستخدم كل الوسائل. لكن الذين كانوا يستفيدون من خدمتي لهم، كانوا، كما يقول النبي: " مُقابِلَ حُبِّي لَهم يَتَّهِمونني وكافأوني الشرّ بالخير والبغضة بمحبتي". (مز 108/4-5). فكانوا يستعملون الوسائل السحريّة واللجوء إلى الشياطين والأشرار وكان هؤلاء يحاولون أن يشنّوا حربا عليّ لا ترى. فقد أتاني ذات ليلة شيطان خبيث وأخذ يصيح باللغة السريانيّة قائلا: "يا فلان، لماذا تحارب مرقيون؟ ولماذا أعلنتَ الحرب عليه؟ وما هو الضرر الذي نالك منه؟ أوقف القتال وأخمد العداوة وإلاّ فإنّ الخبرة سوف تعلِّمك كم أنّ السكينة أصلح لك. فإنّي لقد كنتُ مزّقتُك منذ زمان، لو لم أرَك محاطا بجوقة من الشهداء مع يعقوب"!

لقد سمعتُ هذه الأقوال والتفتُّ إلى أحد رفقائي الراقد بالقرب منّي قائلا: "أتسمع يا فلان هذا الكلام؟" فأجابني: "أجل، سمعتُ كلّ شيء وكنتُ أُريد أن أنهض لأُفتِّش وأعرف من ذا الذي تلفَّظ به. لكنّي حافظتُ على السكينة بسببك، ظنًّا منّي أنّك نائم". وعليه فقد نهضنا كلانا نبحث فورا، فلم نرَ أحدا يتكلَّم أو يتحرَّك. وكان رفاقنا الآخرون هم أيضا قد سمعوا هذا الكلام. حينئذ تيقنتُ أنّ جوقة الشهداء الحاوي بركة من شهداء كثيرين جمعتُها وعلقتُها بالقرب من فراشي. ولأنّه كان تحت رأسي وشاح قديم كان يستعمله يعقوب العظيم وهو بالنسبة لي أقوى من أي ترس من فولاذ.

 

12- رؤيا يعقوب

لما كنتُ مستعدًّا لمجابهة أهم مراكز المرقيونيّين، وفيما كانت الصعوبات العديدة تصدّني عن الذهاب إلى إحدى البلدات، أرسلتُ أطلب إلى من كان بالنسبة لي أشعيا آخر أن يضمن لي العون الإلهي. فأجاب: "كن على ثقة أنّ كلّ هذه العقبات قد تبدّدت كنسيج العنكبوت، لأنّ الله تعالى قد أعلمني ذلك ليلا. وكان إعلانه هذا لي ليس في منام مبهم، بل برؤيا". وأضاف: "إنّني لدى شروعي في الصلاة، رأيتُ في اتجاه المنطقة الحاصلة فيها هذه البلدة، حيّة ناريّة تزحف من المغرب نحو المشرق محمولة في وسط الرياح. ثم بعد أن أنجزتُ تلاوة 3 صلوات شاهدتُها من جديد منطوية على ذاتها وتبدو بشكل دائرة رأسها ملتصق بذنبها. ثم بعد انجازي تلاوة 8 صلوات، شاهدتُها تنقسم إلى شطرين وتتحوَّل إلى دخان".

13- فوز ثيودوريتوس على المرقيونيّين

هذا ما تنبأ به ونحن قد رأينا كيف تحقَّقت هذه النبوءة في الواقع. فإنّ الذين كانوا قبلا أنصار مرقيون وهم اليوم كتيبة من الرسل، كانوا قد اصطفوا للقتال من الفجر تحت راية الحيّة، مبدأ الشر. وانقضوا علينا من المغرب مستلّين سيوفهم. ولكنّهم في الساعة الثالثة من النهار انطووا على ذواتهم للحفاظ على نفوسهم على مثال الحيّة التي جمعت رأسها إلى ذنبها. وفي الساعة الثامنة، أخلوا المنطقة مفسحين لنا المجال أن ندخل إلى البلدة. فوجدنا هناك حيّة من نحاس كانوا يعبدونها، لأنّهم كانوا أعلنوا الحرب جهرا على مبدع الكون وصانعه. فإنّهم كانوا يتعاطون مداراة الحيّة اللعينة عدوة الله. وقد نعمـت أنا بنفسي بمثل هذه المواهب الجليلة على يد هذه الهامة المكرّمة.

 

14- يعقوب يثبت صدق الذخائر

وبما أنّ الحديث قد جرّني إلى التكلُّم عن الإيحاءات الإلهيّة، فعليَّ أن أُخبر ما سمعته من هذا الفم الذي لا يكذب. فقد أطلعني على الرواية الآتية بدون افتخار البتّة، لأنّ نفسه الإلهيّة بعيدة كلّ البعد عن هذه الرذيلة، وقد فعل ذلك لأنّ الظروف قد اضطرته إلى كشف ما كان يريد أن يخفيه. كنتُ قد طلبتُ إليه أن يصلّي إلى إله العالمين كي ينقّي حصادي من الزؤان ويحرّره تماما من بذار الهرطقة، لأنّي كنت في اضطراب جزيل من تأصّل ضلال مرقيون اللعين. وهو قد أجابني ببساطة: "إنّك لست بحاجة  إليّ أو إلى غيري من شفيع لدى الله، لأنّ عندك يوحنّا العظيم، صوت الكلمة وسابق الربّ، الذي لا يزال يتشفّع فيك باستمرار. ولما قلتُ له أنّني أثق أيضا بصلاته هو وبصلاة الرسل القدّيسين أيضا والأنبياء الذين حظينا بذخائرهم منذ قليل"، أجاب: "كن على ثقة أنّك حاصل أيضا على ذخيرة يوحنّا المعمدان".

لكن مع هذا كلّه لم أستطع أن أصمت، بل ألححت إليه المزيد من الإيضاح، رغبة منّي في أن أعرف لماذا يأتي على ذكر يوحنّا المعمدان أكثر من غيره، فأجاب: "أنا أريد أن أقبل ذخيرته المحبوبة". فقلتُ له إنّي لا آتيه بها إلا إذا وعدني بأن يقول لي ما هو الذي كان شاهده. فوعدني بذلك. وفي اليوم التالي أتيته بما كان يرغب فيه. ولما انصرف عنّا الحاضرين بالقرب منّا، روى لي وحدي ما يأتي، قال: "لما وصل من فينيقيا وفلسطين حماة البلد، أولئك الذين استقبلتهم أنت مع الجوقة الداوديّة، خطرت لي فجأة هذه الفكرة وهي: هل في الحقيقة هذه ذخائر يوحنّا الشهير أم هي لشهيد آخر يدعى بهذا الاسم". وفي اليوم التالي، لما نهضتُ ليلا للصلاة، رأيتُ شخصا لابسا ثوبا أبيض يقول: يا يعقوب أخي، لماذا لم تأتِ لاستقبالنا لدى وصولنا؟ فسألته: ومن أنتم، أجاب: نحن أولئك الذين وصلوا بالأمس من فينيقيا وفلسطين. فإن الجميع قد استقبلونا بحرارة، الراعي والشعب، المدنيّون والقرويّون. وكنت أنت وحدك الذي لم يشترك في هذا الإكرام، وكان يدلّ على ما كان راودني من شكّ، فأجبته قائلا: "إنّي أكرمك حتّى في غيابك وغياب جميع القدّيسين وأسجد لربّ العالمين. وفي اليوم أيضا وفي الوقت نفسه، ظهر لي الشخص نفسه وقال: "يا يعقوب أخي، إلتفت وانظر إلى ذاك الشخص الواقف هناك وثيابه ناصعة كالثلج أمام الأتون المشتعل. فألقيتُ بناظري إلى تلك الجهة، فتصوّر لي يوحنّا المعمدان، لأنّه كان يرتدي ثوبه المعروف ويمدّ يده ليعمّد. فقال لي: أنّه هو هو بالحقيقة من تتصوّره".

 

15- يعقوب يشاهد رؤيا

وقال لي يعقوب مرّة أخرى: في ذات ليلة، كنتَ قد طلبتَ منّي أن أرفع إلى الله ابتهالا أكثر حرارة، ذلك قبل ذهابك إلى أولى القرى لمعاقبة الثوّار فيها". فقضيتُ تلك الليلة كلّها في الصلاة إلى الربّ. ثم سمعتُ صوتا يقول لي: "لا تخف يا يعقوب، فإن يوحنّا المعمدان العظيم يواصل هو أيضا الابتهال إلى ربّ العالمين الليل كلّه، ولكانت قد حدثت مذبحة عظمى لولا أنّه أطفأ جسارة الشيطان بتوسّلاته". ويعقوب هذا، بعد أن روى لي هذا الحادث، ترجّاني أن أحتفظ به لذاتي ولا أطلع عليه الآخرين.

 

16- تجاربه الكبرى

وقد روى لي يعقوب أيضا التعدّيات المتنوّعة التي شنّها عليه الشياطين الأشرار قائلا: "ما كدتُ أبدأ ممارستي هذه السيرة حتّى ظهر لي كائن عار، شبيه بالأحباش تنبعث النار من عينيه. فلدى هذه الرؤيا استحوذ عليّ الخوف ولجأت إلى الصلاة ولم استطع تناول الطعام، لأنّه كان يتراءى لي كلّ مرّة كنتُ أعزم فيها على الأكل. ومضى كذلك سبعة وثمانية وعشرة أيّام وأنا ألازم الصوم. أخيرا احتقرتُه وأخذتُ أتناول الطعام. لكنّه بدا لي أنّه لم يحتمل منّي هذا التحدّي، فهدّدني ثم أمسك بعصا كي يضربني، حينئذ قلتُ له: إن كنت تفعل هذا بسماح ربّ العالمين فاضرب، لأنّي أتلقّى الضربات بلذّة كأنّه هو نفسه الذي يضربني. ولكن إن لم يكن هذا السماح من قبله، فلن تضربني ولو كنت مغتاظا منّي ألف مرة". فلما سمع هذا القول هرب للحال.

ولكنّه في الخفية كان لا يزال مغتاظا منّي، فإنّه لما كان أحدهم يأتيني بالماء إلى فوق مرّتين في الأسبوع، كان هو يتنكّر بشكلي ويذهب إلى لقاء حامل الماء فيتسلّمه منه ويوعز إليه بالانصراف ثم يدفق الماء. وإنّه لم يفعل ذلك مرّة واحدة بل مرّتين وثلاث مرار ممّا كان يجعلني أتلظّى من شدّة العطش. حينئذ سألتُ ذاك الذي كان يحمل إليّ الماء: "ما الذي جرى لك حتّى أنّك لم تأتِني بماء منذ 15 يوما؟ فأجابني بأنّه كان قد حمله إليّ ثلاث أو أربع مرّات وسلّمني إيّاه بيدي. فقلتُ له: "وأين إذاً قد تسلمتُ منك الماء الذي أتيتَني به؟" فدلَّني على الموضع. فقلتُ له: "إذا رأيتني هناك ألف مرّة، فلا تسلّمني الجرّة حتّى تبلغ إلى ههنا".

 

17- الخوف من الفضيحة

وهكذا لما أفشلتُ له محاولته هذه، تعرضتُ من جديد لتجارب أخرى. فكان مثلا يصرخ ليلا قائلا: "إنّي سأسوِّد صيتك وأفضحك كي لا يبقى إنسان ينظر إليك". فأجبته على تهديده هذا قائلا: "إنّني لك من الشاكرين، لأنّك بذلك تحسن إلى عدوٍّ على الرغم منك، إذ تسمح له بأن ينعم أكثر بذكر الله، لأنّك بذلك تتيح لي الفرصة كي أتفرغ للتأمّل في جمال الله". وبعد أيّام، وفيما كنتُ في منتصف النهار أقوم بالخدم المعتادة، إذا بي أُشاهد امرأتين تنحدران من الجبل، فاضطربتُ لهذه المفاجأة وتناولتُ بيدي حجرا لأرميهما به وإذا بي أتذكّر تهديدات اللعين وأدركتُ هذه الفضيحة التي كلّمني عنها. فبادرته حينئذ بالصراخ قائلا: "إنّهما حتّى إذا تسلّقتا على كتفيّ لا ألقي عليهما الحجارة ولا أطردهما، بل أكتفي باللجوء إلى الصلاة فقط". وما كدتُ أُنهي كلامي هذا، حتّى غاب عنّي هذا المنظر الوهمي.

 

18- مخاوف فارغة

وتابع حديثه قائلا: "وبعد ذلك أيضا، كنتُ ذات ليلة أصلّي وإذا بصوت مركبة يطرق أذنيّ وحوذيّ يصيح وخيل تصهل. فاضطربتُ لهذا الضجيج المستغرب وصرتُ أقول في ذاتي إنّه في الوقت الحاضر ليس من حاكم في المدينة وليس من طريق تصلح للسير عليها وهذه الساعة ليست مناسبة للسير!!! وفيما كنت أفكّر بهذا، إذا بي أسمع صوت حشود تتقدّم وحرّاس أمامهم يصرخون ويصفرون لردّ الشعب وفسح الطريق أمام الحاكم. ولما بدا لي أنّهم صاروا بالقرب منّي أخذتُ أقول: "من أنت ومن أين أتيت؟ وما هو الداعي لمجيئك في مثل هذه الساعة؟ حتّى متى يا شقي تتلاعب وتحتقر طول أناة الله؟" قلتُ هذا وأنا متّجه إلى الشرق ورافع صلاتي إلى الله. وإذا بالشيطان يدفعني دون أن يتمكّن من أن يرميني، لأنّ نعمة الله تصدّه عن ذلك. وفجأة زال هذا كلّه.

 

19- الدعارة

وأضاف يعقوب قائلا: "وفي مرّة أخرى، انتحل الشيطان صورة فتى مرح ذا طلعة جذّابة وشعر أشقر جميل. وصار يدنو منّي ويبتسم بدعابة. لكنّي كنتُ متسلّحا بالغضب أردّه عنّي بالإهانات وهو بقي ينظر إليّ بلطف مع ابتسامة وصوت تنبعث منهما الدعارة. حينئذ استشطتُ غضبا وقلتُ: "كيف يمكنك أن تطوف المسكونة كلّها لتنصب الشراك للبشر على هذه الصورة؟" فأجابني أنّه ليس وحده، بل هم جوقة من الشياطين منتشرون في العالم كلّه يتسابقون إلى نصب مثل هذه المخادعات. وهم بمثل هذه الخزعبلات يحاولون إهلاك البشر. فقلتُ له حينئذ: "إذا أقول لك أن تذهب من ههنا، فإنّ المسيح يأمرك بذلك وهو الذي أرسل إلى الهاوية جوقة كاملة من الشياطين وأدخلها كلّها في الخنازير" (متى 8/28-34 ومر 5/1-2 ولو 8/26-33). أمّا هو فلما سمع هذا هرب.

 

20- قبر يعقوب

كان البعض من جيرانه قد شيّدوا له قبرا فخما في بلدتهم، ذلك على مسافة بضع غلوات من مقره. وكنتُ أنا بدوري قد هيأتُ له ناووسا في مقبرة الشهداء. لكن لما بلغه ذلك، ألحَّ عليّ كثيرا أن أودع جثمانه قبرا في الجبل. لكنّي بعد أن أجبتُه مرارا أنّه لا يليق أن يهتمّ هو بقبره عندما نراه غير مكترث بحياته ورأيتُه مصرّا على ذلك أجبتُه بأنّي موافق على طلبه. ثم جعلتُهم ينحتون له ضريحا ويحملونه إلى فوق. ثم لما رأيت أنّ الحجر أخذ يتفتت من الصقيع، أوعزت بتشييد مبنى صغير لحماية القبر. ولما أنهينا البناء ورأى هو أنّنا قد وضعنا فيه الحجر الأخير وسقفناه، قال: "إنّني لا أطيق أن يدعى هذا قبر يعقوب، بل أريد أن يكون قبرا للشهداء البواسل وأن أودع أنا في أيّة زاوية منه بمثابة قبر، شريطة أن أكون مستحقّا أن أستقرّ في جوارهم". وهو لم يقل هذا الكلام فقط بل أنجزه بالفعل. فجمع من كلّ مكان عددا كبيرا من ذخائر البعض من الأنبياء والرسل والشهداء، على قدر الامكان، وجعلها كلّها في صندوق واحد، بغية السكنى مع جماعة القدّيسين والقيامة معهم والحظوة معهم بمشاهدة الله.

 

21- فضائله

وكفى بذلك برهانا على اتزان عقله. فإنّ هذا الانسان قد اكتنز لذاته ثروة طائلة من الفضيلة في عيشه بأقصى الفقر. وقد رغب في مساكنة الأغنياء في الفضيلة. وكم كانت جهاداته، وكم نال من نعم من لدنه تعالى، وكم كانت عظيمة انتصاراته، وما هي الأكاليل التي تشرّف بها.

 

22- طبعه

ولما كان بعضهم يرى في طبعه شيئا من التوحّش فيأخذون عليه حبّه المفرط للوحدة والصمت، فإنّي أضيف شيئا في هذا الموضوع قبل أن أُنهي حديثي عنه.

لقد سبق وقلت أنه كان عرضة لمشاهدة الجميع، فلم يكن له دار محصّنة يلجأ إليها أو صومعة أو خيمة. وعليه فلمّا كان يأتيه الزائر الكريم ولم يكن حاجز يصدّه عن الدخول، كان هذا الآخر يريد أن يتّصل به فورا ليحادثه، وذلك خلافا لسائر معتنقي هذه الحياة النسكيّة الذين لديهم دور مغلقة وأبواب، فينعمون بالسكينة، يفتحون له الباب إذا أرادوا أو يتركون الناس ينتظرون على خاطرهم قدر ما يريدون. وهكذا يبقون منقطعين إلى المشاهدة الإلهيّة بحسب مزاجهم. أمّا هنا فلا شيء من هذا. فأغلب الأحيان يكون انزعاجه كبيرا عندما يحين وقت الصلاة والتجمهر قائم حوله. فإذا طلب إليهم أن ينصرفوا وفعلوا فإنّه يباشر الصلاة. أمّا إذا ظلوا يزحمونه ونبّههم مرّة أو مرّتين ولم ينكفئوا عنه، فحينذاك يغضب ويوجّه إليهم الملامة لينصرفوا.

وفي إحدى المناسبات فاتحته بذلك قائلا: "إنّ بعض الناس قد انزعجوا من أنّك صرفتهم دون أن ينالوا بركتك. فكان من اللائق أنّ الذين أتوك ليحظوا ببركتك بعد أن قضوا أيّاما كثيرة في طريقهم إليك ألاّ يعودوا أدراجهم خائبين، بل مغمورين بالفرح كي يتغذّى بأحاديثهم عن اختبارك مع المسيح أولئك الذين يجهلونها". فأجابني قائلا: "إنّني لم أنفرد في هذا الجبل لأجل غيري بل لأجلي نفسي، لأنّي لما كنت مثخنا برواسب خطاياي الكثيرة، فأنا بحاجة ماسّة إلى مداواتها. لذلك فإنّي أواصل الطلب إلى الله أن يمدّني بالأدوية الناجعة للتخلّص من شروري. وعليه أفليس من الغرابة والغباوة أن أتوقّف في أثناء ذلك عن مناجاتي هذه كي أتحدّث إلى الناس؟ ولنفرض أنّني خادم عند رجل من طبيعتي وفي وقت القيام بخدمة مولاي توقّفت عن تقديم الطعام أو الشراب في حينه وانصرفت إلى التحدّث مع رفاقي الخدام، فكم أكون آنذاك مستحقّا بعدل أن أنال من الجلدات؟ أو إذا كنتُ واقفا بحضرة القاضي الذي كنتُ قد رفعت دعواي إليه ضدّ أحدهم يكون قد وقع عليّ الضيم من قبله. ثم في أثناء المرافعة قطعتُ الكلام وأخذتُ أوجّه حديثا آخر إلى أحد الحاضرين في المجلس، أفلا تعتقد أنّ القاضي يحقّ له حينئذ أن يغضب ولا يكتفي بالامتناع عن مساعدتي، بل يأمر بجلدي وطردي من المحكمة؟

وعليه لماذا يتوجّب على الخادم أن يتصرّف بلباقة أمام مولاه والمدعي أمام القاضي، وأنا نفسي، بدل أن أحذو في حذوهم في وقوفي في حضرة الله للصلاة الذي هو السيّد المطلق والقاضي السامي العدالة وملك العالمين، أقطع الصلاة في وسطها ثمّ التفتُّ إلى عبيد مثلي كي أجري معهم حديثا طويلا؟"

هذا ما سمعته منه وأنا أنقله إلى الناقمين عليه. ويبدو لي أيضا أنّه هو المحقّ، فإنّ من ميزات المحبّين أن يحتقروا كلّ شيء ما عدا حبيبهم، فيمتزجون بشخص من يحبّون فيعشقونه ويحلمون به في الليل ويذكرونه في النهار. ويبدو لي أن يعقوب يغضب لهذا السبب عينه وهو أنّهم يمنعونه، في أثناء تأمّله، عن الغوص في بهاء الحبيب.

 

ثالثا: ليمنايوس

1- من الحياة المشتركة الى الحياة التوحديّة

تيليما قرية من عندنا كان مرقيون قد ألقى فيها بذار كفره. وهي اليوم تنعم بالبشارة الانجيلية. وإلى الجنوب من هذه القرية تلّة انحدارها ليس بالزائد في الشموخ وليس بالسهل التسلّق إليها. وقد بنى عليها ثلاسيوس العجيب ملجأ للنسّاك. كان هذا الرجل غنيا بالكثير من الصلاح، بسيطا في تصرفاته. وقد فاق معاصريه في الحقيقة بنعومته واتزان حكمه. أقول هذا ليس لأنّي أخذت من غيري ما أقول، بل قد اختبرت ذلك بنفسي، لأنّي التقيت هذا الرجل ونعمت مرارا بعذوبة معشره.

 

2- ليمنايوس

وإنّ ليمنايوس الذي يشيّد اليوم الجميع باسمه كان قد قضى مدّة في جوقة ثلاسيوس. وقد انخرط في هذه الجماعة وهو في مطلع شبابه وقد تدرّب حسنا وفي الصميم على السير في خطى القداسة. وفي البدء، بالنظر إلى صغر سنّه، وتحاشيا لزلقات اللسان، كان قد فرض عليه معلّمه الصمت. فلبّى هذا الطلب على قدر المستطاع دون أن يتكلّم بشيء مع أحد. ثم بعد أن أتقن السير بإرشاد هذا الشيخ الإلهي، وتكوّنت فيه سمات الفضيلة، انتقل إلى جوار مارون العظيم المذكور أعلاه. وكان ذلك متزامنا مع وصول يعقوب الإلهي. وأفاد كثيرا من هذه الإقامة. ثم لما كان متشوّقا إلى الحياة التوحديّة، انتقل إلى جبل آخر يعلو بلدة ترغلة.

3- طريقة حياته

وهو مقيم هناك إلى يومنا هذا، حيث لا ملجأ ولا كوخ ولا خيمة، بل هو محاط بسور بسيط من حجارة متفككة دون لحمة بينها بطين. وللسور باب صغير مردوم دوما بالتراب لا يفتحه للزوار مطلقا، بل يسمح أن يفتحه لي فقط لدى قدومي إليه. ولهذا السبب يتجمّع الكثيرون من كلّ جهة عندما يعلمون بقدومي عليهم يستطيعون العبور معي. وما سوى ذلك، فإذا أرادوا أن يكلّموه، يكون ذلك بواسطة نافذة صغيرة، فيمنحهم البركة التي تكون لأكثرهم واسطة لاسترجاع صحّتهم. فإنّه باستدعاء اسم مخلّصنا يوقف الأمراض ويطرد الشياطين ويضاهي الرسل في استعمال سلطان فعل العجائب.

 

4- الأشفية

وإنّه لا يأتي بالأشفية للواردين إليه فحسب، بل إنّه قد أجرى الشفاء لجسده أيضا. فذات مرّة، أصيب بداء المغص. وإنّ الذين حلّ بهم هذا الداء اختبروا بأنفسهم تلك الآلام المبرحة الناتجة عنه. ويعلم ذلك أولئك الذين شاهدوا المصابين به. فهم يرتمون على الأرض كالمصابين بداء الكلب ويتقلبون من جهة إلى أخرى ويمدّدون سوقهم ثم يضمونها إليهم. ثم يقعدون ثم يقومون ثم يمشون محاولين إيجاد ما يهدئ ألمهم، أو أنّهم يجلسون إلى جانب الحمّام ويغطسون فيه مرّات عديدة علهم يخفّفون من أوجاعهم ولكن ما لنا لإطالة شرح ما يعرفه الجميع جيّدا؟ لكنّ ليمنايوس عندما كان يصيبه هذا الداء ويكون عرضة لآلام مبرحة، لم يكن يلجأ إلى الوسائل الطبيّة، ولم يكن يتمدّد، ولم يكن يتناول شيئا من دواء أو طعام للتسكين، بل كان يجلس على خشبة مرميّة على الأرض ويعالج نفسه بالصلاة وإشارة الصليب ويسكّن آلامه بعذوبة ذكر الاسم الإلهي.

وذات مرّة أيضا، فيما كان يمشي في الظلام داس أفعى نائمة، فأمسكت بكعب رجله وغرست فيه أسنانها. ولما حاول أن ينقذ رجله مدّ يده إليها، إذا بالأفعى تتناولها بشدقيها، ومدّ يده الأخرى، فكان ذلك لإثارة الأفعى ضده. ولما هدأ غضبها، بعد أن عضّته نحو 10 مرات، انصرفت زاحفة إلى وكرها. وبقي ليمنايوس عرضة لأوجاع قاسية، لكنّه، على الرغم من ذلك، لم يلجأ إلى المعالجة الطبيّة، بل اكتفى بمداواة جروحه بعلاج الإيمان وإشارة الصليب والصلاة والابتهال إليه تعالى.

 

5- صبره

واعتقادي أنّ ربّ العالمين قد سمح بأن يتهجّم هذا الحيوان على جسد هذا الرجل القدّيس لكي يظهر للجميع كم كان عجيبا صبر هذه النفس الإلهيّة، لأنّنا نرى أنّ الله قد أجرى هذا التدبير نفسه مع أيّوب الشجاع، لأنّه سمح بأن تلاطمه الأمواج من كلّ جهة لتبدو للجميع مهارة الربّان. لأنّه كيف يتّضح لنا إذا سخاء هذا وصبر ذاك، إذا لم يتمكن عدو الإيمان من أن يصوِّب إليهما من كلّ جهة أسهمه المتنوّعة؟ وعليه فإنّ هذا يكفي لتبيان عظمة صبر هذا الرجل.

 

6- إنسانيّته

ولنأتِ الآن من جهة أخرى إلى الكلام عن إنسانيّته. فإنّه قد أوى عنده الكثيرين ممّن فقدوا البصر وأصبحوا في حالة العوز. فبنى لهم ملاجئ في الجهتين الشرقيّة والغربيّة ودعاهم إلى السكنى فيها وتسبحة الله، محرّضا زوّاره على القيام بمعيشتهم. وجعل هو محبسته في الوسط وكان يحرض هؤلاء وأولئك على الترانيم الليتورجيّة. وكانت ترتفع أصواتهم بالصلاة إلى ربّ العالمين بدون انقطاع. وهو لا يزال يمارس هذه الأعمال الإنسانيّة نحو قريبه حتّى الآن.

 

رابعا: دومنينا

1- طريقة حياتها

إنّ دومينيا العجيبة، رغبة منها في أن تعيش على طريقة مارون الملهم، اصطنعت لها كوخا من قصب في حديقة بيت أمّها وسكنت فيه. وهي تذرف الدموع على الدوام، ليس على خديها فحسب، بل على ثيابها الوبريّة أيضا، لأنّ ثيابها كانت من هذا النسيج. وهي تذهب عند صياح الديك إلى المعبد الإلهي القريب منها لترفع ابتهالاتها إلى ربّ العالمين مع سائر الناس رجالا ونساء. وهي لا تفعل هذا في مطلع النهار فحسب، بل في آخره أيضا، لأنّها تدرك وتعلّم الآخرين أنّ المكان المكرّس لله هو أحقّ من سائر الأمكنة للقيام بواجبات العبادة. ولهذا السبب هي تعتبر ذلك جديرا بالكثير من اهتماماتها حتّى أنّها قد أقنعت أمّها وإخوتها أن ينفقوا كلّ مقتناهم في هذا السبيل.

 

2- موهبة الدموع

إنّ طعامها هو العدس المسلوق وهي تتحمّل كلّ هذا الجهاد في جسم كأنّه هيكل عظام شبيه بالأموات. لأنّ جلدها قد أضحى  رقيقا جدّا كالقشور وهو يغشي عظاما سريعة العطب، فإنّ الإماتات قد أذابت منها الشحم والعضلات. وعلى الرغم من أنّها معرضة لمشاهدة كلّ من يرغب في رؤيتها، رجالا ونساء، فهي لا ترَ أحدا ولا تظهر وجهها أمام أحد، بل تبقَ محجوبة تماما تحت ستارها وحانية رأسها حتى الركبتين، وهي تتمتم كلمات بصوت خافت يكاد لا يسمع وتلفظها ذارفة الدموع باستمرار. وقد حدث مرارا أن أخذت يميني ووضعَتْها على عينيها ثم ردَّتْها وهي مبلَّلة تقطر دموعا.

وبناء عليه، فإنّ المرأة الممتلئة من محبة المسيح، التي تبكي وتنوح وتتنهّد كأولئك العائشين في أقصى العوز، بأيّة عبارات يمكننا أن نفيها حقّها من المديح؟! إنّه الحب الحار لله الذي يولّد هذا البكاء عندما يضرم النفس بالمكاشفة الإلهيّة وينسخها بمهمازه فيدفعها إلى أن تغادر هذه الحياة الدنيا.

 

3- الضيافة والإحسان

وعلى الرغم من أنّها تقضي أيّامها ولياليها كما ذكرنا، فهي أيضا لا تهمل سائر مظاهر الفضيلة، فتخصّ اهتمامها بأولئك المجاهدين الذين أوردنا أسماءهم وغيرهم ممّن لم نأتِ على ذكرهم. وتهتمّ بأولئك الذين يأتون لزيارتها، فتجد لهم مأوى لدى راعي البلدة وتؤمن لهم احتياجاتهم، لأنّها تبذل لذلك من ثروة أمّها وإخوتها فتستجلب عليهم البركات. وأنا نفسي، عندما أكون في زيارة تلك المنطقة التي هي إلى الجنوب من بلادنا، ترسل لي خبزا وفاكهة وعدسا مسلوقا.

 

4- الأديار النسائيّة في سوريّا

ولكن حتّى متى أنا أتابع في جهادي في إظهار كلّ فضيلة هذه الإمرأة؟ لأنّه حينئذ يتحتّم عليّ أن أمتدّ في الحديث عن حياة سائر النساء اللواتي يقتدين بها واللتين سبقنا وتكلّمنا عنهما. لأنّ هناك الكثيرات أمثالهنّ يعشن الحياة التوحديّة أو يعشن في المحبّة الحياة المشتركة، وقد بلغ عددهن المئتين والخمسين تقريبا. وهنّ يعشن العيشة نفسها ويتناولن كلّهن الطعام نفسه ولا يرتضين بالرقاد إلاّ على الحصير، ويستعملن أيديهن لغزل النسيج، وألسنتهن لإنشاد التسابيح.

 

 

خامسا: إبراهيم القورشي

1- الناسك والأسقف

وإنّه لا يجوز أن نهمل ذكر إبراهيم العجيب بحجّة أنّه، بعد حياته النسكيّة، جمّل الكرسي الأسقفي. بل بلا شكّ ولهذا السبب نفسه يتوجّب علينا أن نذكره أكثر بكثير من غيره، لأنّه مع اضطراره إلى تغيير وظيفته، لم يغير نمط حياته، بل حمل معه مستلزمات الحياة النسكيّة الشاقّة، فجمع بين أعمال الحياة النسكيّة ومهام الأسقفيّة، فقضى حياته كلّها بالأتعاب.

2- أصله وحياته النسكيّة في لبنان

وكان هذا أيضا ثمرة من ثمار منطقة قورش حيث ولد ونشأ وجمع ثروته من الفضيلة النسكيّة. ويخبر عنه الذين عايشوه أنّه لكثرة السهر والوقوف والصوم قد روّض جسده على أن يبقى مدّة طويلة بلا حراك حتّى صار غير قادر أن يمشي البتّة.

ولما نجا من هذه العاهة، قرّر أن يستسلم للمخاطر في سبيل النعمة الإلهيّة، فرحل إلى لبنان وأقام في بلدة كبرى معروفة بغرقها في ظلام الكفر. فأخفى هناك صفته النسكيّة بلباس تاجر وصار مع رفاقه يحمل أكياس كأنّه راغب في شراء الجوز، لأنّ تلك البلدة كانت شهيرة بإنتاجها هذه الثمرة، ثم استأجر بيتا بثمن بخس يدفعه لمالك البيت وحافظ على السكينة مدّة ثلاثة أو أربعة أيّام ثم صار يرنّم الليتوجيّا الإلهيّة، مستعملا بذلك صوتا خافتا. لكنّ الناس لما شعروا بالترانيم، خرج المنادي مستدعيا الجماهير بأعلى صوته. فتجمّع الرجال مع الأولاد والنساء وصاروا يوصدون الأبواب من الخارج ويرمون عليهم التراب بكثرة من أعلى السطح. ولكنّهم لما رأوهم على وشك أن يختنقوا ويطمروا في التراب دون أن يبدو حركة ولا يقولوا شيئا، بل واصلوا صلاتهم إلى الله، حينئذ توقّفوا عن عملهم الجنوني تجاه تدخّل الشيوخ لممانعتهم. ففتحت الأبواب وأخرجوا من الأتربة وأمروا أن يرحلوا في الحال.

 

3- زعيم البلدة

لكن في ذلك الوقت بالذات، أقبل جباة الضرائب يطالبون أهل البلدة بما يتوجّب عليهم دفعه. فكانوا يكبّلون بعضهم بالسلاسل ويجلدون بعضهم الآخر. فلمّا رأى رجل الله هذا، نسي ما حلّ به وبرفاقه من قبل هؤلاء القوم، ثم على مثال معلّمه، الذي وهو مسمر على الصليب كان يهتمّ بالقائمين على تعذيبه، أخذ يتوسل إلى الجباة بأن يقوموا بواجبهم بلطف. لكن هؤلاء طالبوه بتقديم كفالة عنهم، فتقدّم طوعا إلى المحكمة وتعهّد بدفع 100 قطعة من النقود الذهبيّة لهم بعد أيّام قليلة. فأخذ من أهل البلدة العجب كل العجب من ذلك الرجل الصالح الذي كانوا عاملوه أسوأ معاملة فطلبوا منه المغفرة عما تجاسروا أن يقترفوه نحوه من المساوئ وعرضوا عليه أن يكون زعيمهم، لأنّ بلدتهم لا زعيم لها، ولأنّهم كانوا هم أنفسهم المزارعين وأرباب العمل. وعليه فقد ذهب فورا إلى مدينة حمص واستدان من بعض أصدقائه هناك المئة قطعة ذهبيّة ثم عاد إلى البلدة وفي اليوم المعيّن قام بوعده المضروب.

 

4- سيامته الكهنوتيّة على البلدة

فلدى رؤيتهم هذه الغيرة عليهم، جدّد أهل البلدة نحوه الدعوة إلى تسلم زمام أمورهم. فوعدهم أن يلبّي طلبهم إذا تعهّدوا ببناء كنيسة عندهم. حينئذ رجوه أن يقوم في الحال بإنجاز رغبته. فذهبوا برجل الله إلى البحث عن المكان الأصلح لذلك، فكان هذا يرشده إلى هذا المكان، والآخر إلى ذاك على أنه الأفضل. أما هو فاختار المكان الأنسب ثم أخذ بوضع الأساسات للبناء وبعد قليل أنجز العمل بسقف الكنيسة. ولما تم كلّ شيء نصحهم أن يختاروا لهم كاهنا لخدمتهم الروحيّة. لكنّهم أجمعوا على اختياره هو نفسه ليكون لهم أبّا وراعيا. عند ذاك نال نعمة الكهنوت وبقي معهم 3 سنوات. وبعد أن وجّه خطاهم إلى الأمور الإلهيّة، وإقامة واحد من رفاقه على خدمتهم مكانه، عاد إلى صومعته.

 

5- أسقف قراي

قد حاز ابراهيم على شهرة واسعة جدّا حتّى أنّه أقيم أسقفا على قراي التي كانت غارقة في الكفر ومستسلمة للشياطين لكثرة مزاولتها شرب الخمر فكانت بحاجة إلى فلاّح مثله، لأنّها بعد أن اشتعلت بنار تعاليمه أضحت محرّرة من أشواكها الماضية. وهي اليوم تتباهى بالحصاد الروحيّ فيها، فترفع الى الله أغمارا يانعة من القمح الناضج.

 

6- مواظبته على الحياة النسكيّة

وفي مدّة أسقفيّته كلّها، كان الخبز في نظره من النوافل والماء كذلك، وكان لا يستعمل الفراش. ومان حاجته إلى النار من النوافل أيضا. وكان يقوم في الليل بترتيل 40 مزمورا بكاملها مع تقاطيعها فيردّد القطع التي تتخلّلها. وكان يقضي بقية الليل جالسا على كرسيه فلا يسمح لجفنيه إلاّ باستراحة برهة من الزمن. يقول موسى المشترع: "إنّه لا بالخبز وحده يحيا الانسان" (تث 8/3). وقد استشهد الربّ بهذه الآية حينما أبعد عنه تجربة إبليس (متى 3/4) لكنّ الكتاب المقدّس لا يذكر قطّ أنّ الحياة بلا ماء هي من الأمور الممكنة. فإنّ إيليّا العظيم مثلا، قد كان يروي عطشه من ماء النهر. ولما ذهب إلى أرملة صرفت صيدا أرسلها أوّلا لتأتيه بماء ثم طلب منها بعد ذلك خبزا أيضا (3مل 17/10-11). أمّا هذا الرجل العجيب فكان طيلة أسقفيّته كلّها لا يشرب الماء ولا يتناول الخضار المجفّفة ولا الخضار المطبوخة، ولا ذاك الماء الذي يحسبه أهل الخبرة أحد العناصر الأربعة الضروريّة. بل كان طعامه وشرابه الخس والهندباء والكرفس وأمثالها من الخضار، مؤكدا بذلك على أنّه من الممكن الاستغناء عن الخبازين والطباخين. وفي موسم الفاكهة، كان يكتفي بها لسدّ حاجته. فكان يتناول منها بعد ليتورجيّة المساء فقط.

 

7- ضيافته

وفيما كان يضني جسده بهذه الممارسات الشاقّة، كان يبذل في سبيل الآخرين غيرة لا تملّ. فالغرباء الذين كانوا يحلّون ضيوفا عليه كانت الفراش مهيّأة لهم، وكان يقدّم لهم الخبز الفاخر الممتاز والخمر ذا النكهة الطيّبة والسمك والخضار الطازجة مع التوابل المعتادة. وكان يجلس معهم على الطعام، فيعطي كلا من ضيوفه حصّته ويقدّم الكؤوس لجميعهم ويحثّهم على  الشرب، ذلك على مثال سميّه  العظيم، أعني به أبا الآباء الذي كان واقفا بخدمة ضيوفه دون أن يأكل معهم (تك 18/1-8).

 

8- جلوسه للقضاء في الخصومات

وكان يمضي النهار كلّه جالسا للقضاء، فيقنع بعضهم بالتراضي. ولم يحصل قط أن واحدا من الظالمين خرج من عنده منتصرا على الحقّ بفجوره. لأنّه عندما يكون أحد الفريقين مغبونا كان يحكم له فيجعله في مأمن من ذلك الذي يرغب في ضرره.

 

9- في البلاط الملكي

وقد رغب الملك نفسه في مشاهدته، لأن للشهرة أجنحة وهي تذيع من الأخبار أفضلها وأسوأها. وعليه فقد استدعاه الملك إليه وعانقه لدى وصوله محتسبا جلد الماعز القروي أكرم من البرفير الملكي. وأقبلت إليه أيضا جوقة من أميرات البلاط الملكي وكنّ يلمسن يدي هذا الرجل وركبته ويعرضن عليه احتياجاتهن دون أن يتمكن هو من فهم ما يقلنه باليونانيّة.

 

11- موته وتشييع جثمانه

وهكذا فإنّ هذه القداسة جديرة بإكرام الملوك وسائر الشعب. ولدى وفاة محبّيها ومريديها فهم يحظون بالمزيد من المجد. وهناك أحداث شتّى تؤكّد ذلك، ولاسيّما ما حصل لهذا الرجل الملهم. فلمّا مات وعلم الملك بذلك، أراد أن يجعل مثواه في أحد القبور المقدّسة. ولكنّه أدرك أنّه من العدل أن يتسلّم أبناء رعيّته جثمان راعيهم. فسار هو نفسه في مقدّمة الموكب وتبعته جوقة أميرات البلاط ثم السلطات والموظفّون والعسكريّون والمدنيّون. فاستقبلته مدينة أنطاكية بتلك الرهبة المأثورة وبعدها سائر المدن التي اجتازها الموكب حتّى بلوغه ضفة النهر الكبير. وهناك على ضفاف الفرات كان ازدحام المدنيّين وازدحام الغرباء وكل أهالي القرى والمناطق المجاورة، كلّهم يتراكضون لنيل بركته. وكان الحرس الملكي يحيط النعش بكثافة لمنع الناس من تجريد الجثمان من ثيابه أو اقتطاعهم أجزاء منها، ذلك مع التهديد بضربهم. وكنت ترى البعض يترنمون بالمزامير والبعض بالمراثي، وتلك المرأة تندب حاميها وتلك الأخرى معيلها وغيرها راعيها ومرشدها، وهذا الرجل يدعوه أباه باكيا وهذا الآخر سنده ومعينه. وبعد أن رافقوه هكذا بالمديح والنحيب، واروا جثمانه الطاهر والمقدّس في الضريح.

 

11- مثال الأساقفة

أمّا أنا فإنّي معجب لكونه رغم ارتقائه إلى الدرجة الاسقفيّة، لم يغيّر نمط حياته بحياة أقلّ قساوة، بل أضاف إليها المزيد من الأتعاب النسكيّة. لذلك جعلت له مكانا في تاريخ النسّاك لكي لا أفصله عن الرفاق الذين أحبّهم، ذلك على أمل أن أنال بركته.

 

سادسا: أوسابيوس (حوشب) القورشي

1- طريقة حياته

عاش سنين طويلة صابرا على الجهاد كلّ هذه المدّة واقتنى من الفضيلة على قدر جهاده وحظي بالمكافأة العظمى.

كان قد بدأ جهاده بتسليم زمام أموره إلى غيره وكان يسير بموجب توجيهاتهم، لأنّهم هم أيضا كانوا رجال الله، أبطالا في الفضيلة ومرشدين إليها. وبعد أن قضى معهم بعض الوقت وتشرّب مبادئ القداسة، اختار الحياة التوحديّة، فارتقى إلى قمّة جبل بالقرب من بلدة كبيرة تدعى أسيخا. واكتفى هناك بسياج صغير من الحجارة المجمعة دون بناء، فقضى حياته هناك يرتدي الوشاح الجلدي ويغتذي بالحمّص والفول المنقوعين بالماء. وكان من وقت إلى آخر يتناول شيئا من التين المجفّف لدى الحاجة لتقوية جثمانه الهزيل. وعلى الرغم من بلوغه الشيخوخة القصوى وسقوط أسنانه، لم يغير شيئا في طعامه وفي مسكنه، بل كان البرد يجمد أعضاءه شتاء والحرّ يحرقه صيفا، فيحتمل بشجاعة تقلّبات الطقس، رغم وجهه المتجعِّد وأعضاءه اليابسة. وبسبب كثرة تقشّفاته، بلغ الضعف منه أقصى الحدود حتّى صار زنّاره لا يستقيم على خاصرتيه، بل يرتمي على الأرض. ولم يكن ثمّة من سبيل لتجميده، لأنّه بزوال الخاصرتين والجلسة لم يعد له ما يسنده إليه، فاستنبط حيلة لتثبيته بأن أخاطه بثوبه.

 

2- انحباسه

وكانت الزيارت المتواصلة تضنيه تماما، لأنّه، وقد كان دوما مأخوذا بتأمّله في الله. ورغم شغفه هذا المضطرم حبًّا به تعالى، كان يسمح للبعض من أصدقائه أن يفتتحوا لهم منفذا ويجتازوا إلى الداخل. وبعد أن يكون غذّاهم بالأقوال الإلهيّة، كان يوعز إليهم أن يبنوا بالطين بعد خروجهم الثغرة المفتوحة. لكنّه أخيرا لكي يتحاشى الاتصال بتلك القلّة من الأصدقاء، رأى الأفضل له أن يوصد تماما ذلك المدخل بحجر ضخم وصار يخاطب البعض من أصدقائه من شبه طاقة من دون أن يرَوه. وكانت هذه واسطة ليتمكّن من تناول الشيء اليسير من الطعام الواصل إليه. ولما صار يمتنع عن كلّ حديث، كنت أنا وحدي المسموح له بسماع ذلك الصوت العذب المحبوب لديه تعالى. ولما كنت أريد أن أنصرف من عنده، كان يوقفني للمزيد من الحديث معه في الأمور السماويّة.

 

3- انعزاله في دير

ولما كان الكثير من الزوّار يقصدونه للفوز ببركته وكانت هذه الضجّة تضنيه وتنهك قواه، فبدون أن يفكِّر بما هو عليه من الشيخوخة وبدون أن يفطن إلى ما كان عليه من الضعف توصّل إلى أن يتسلَّق جدار محبسته الذي كان يصعب على الشبّان أنفسهم المتمتِّعين بكامل قواهم أن يتسلّقوه وانضم إلى جماعة من النسّاك المقيمين على مقربة منه واكتفى بزاوية من سياج المنسكة فأغلقها عليه ثم تابع فيها جهاده مع تقشّفاته المعتادة.

وممّا يخبر عنه المتقدِّم في القطيع وهو رجل مزدان بكلّ فضيلة، أنّه في مدّة أسابيع الصوم المقدّس السبعة، كان يكتفي بـ15 تينة فقط. وقد مارس هذا الجهاد في مدّة حياته التي تزيد عن 90 سنة. ومات خائر القوى وفي وضع لا يمكن تصوّره. لكنّ سخاءه أقوى من ضعفه وتشوّقه إلى الله كان يسهل له الأمور ويجعلها عفويّة. وهكذا فقد أنهى شوطه من الحياة وهو غارق في العرق وعيناه مصوّبتان نحو الديّان، انتظارا منه للإكليل.

 

سابعا: يوحنّا

إنّ حياة يعقوب ولينايوس نفسها قد عاشها أيضا يوحنّا، الرجل الذي، علاوة على سائر الفضائل، امتاز بلطفه ووداعته. وقد جعل إقامته على قمّة شامخة جدّا معرّضة للإعصار ومتّجهة نحو الشمال. وقد أمضى عليها حتّى الآن 25 سنة وهو يحتمل تقلّبات الأنواء الجويّة. أمّا ما تبقى، ولكيلا نذكر عنه كلّ شيء من مأكل ولباس وسلاسل حديديّة فهي على مثال جميع القدّيسين الذين أتينا على ذكرهم. وإنّما هو قد تسامى على كلّ ما هو بشريّ حتّى أنّه لم يكن يتوخّى أيّة تعزية من كلّ هذا. وها أنا أورد على ذلك مثلا لإيضاح كلامي.

كان أحد أصدقائه قد نصب بقرب مقرّه غرسة لوز. ومع مرور الوقت نمت وأصبحت شجرة يستظلّ تحتها ويتمتّع بجمالها. فأمر أن تقطع لئلا يناله تعزية بوجودها بالقرب منه.

 

ثامنا: موسى، أنطيوخوس، أنطونيوس

...وهناك موسى  الذي يجري جهاده على الجبل يطلّ على بلدة راما وقد اختار هذه المسيرة نفسها. كذلك أنطيوخوس الرجل الشيخ الذي قد ابتنى له دارا مغلقة على جبل قاحل جدّا، وأنطونيوس الذي يمارس هذا الجهاد نفسه كالشباب بجسم قد أضنته السنون. وللجميع لباس واحد وطعام واحد وصلاة واحدة وعمل متواصل في الليل وفي النهار. فلا طول الوقت ولا الشيخوخة ولا التعب، كلّ هذا لا يحدّ من صبرهم، بل لهم في ذاتهم اندفاع إلى العمل لا حدّ له. وإنّ الله المكافئ الفضيلة له على جبالنا وفي السهول كثرة من المجاهدين الآخرين الذين لا يصعب تعدادهم وحسب، بل من الواضح أيضا أنّه يستحيل تدوين حياتهم بالتفصيل.

 

تاسعا: برداتوس

1- أنواع الحياة النسكيّة

لقد استبط عدوّ البشر العام طرقا للشرّ عديدة، ذلك محاولة منه أن يدفع الجنس البشريّ جميعه إلى الهلاك العام. لكنّ الذين رضعوا التقوى مع الحليب وجدوا لهم سبلا عديدة ومتنوّعة للبلوغ بها إلى السماء. فمثلا، إنّ هناك المجاهدين الذين يعيشون الحياة المشتركة ومنهم العشرات الآلاف من الجماعات التي لا يمكن إحصاؤها وهم ينالون الأكاليل التي لا تذبل في اختيارهم الطريقة التي تناسبهم. ومنهم من يعتنقون الحياة التوحديّة، فينقطعون إلى مخاطبة الله وحده دون أن يسمحوا لذواتهم بتعزية ما بشريّة. وهم في ذلك يحقّ لهم المديح. فمنهم من يقضون حياتهم تحت الخيم أو في الصوامع واهتمامهم الدائم أن يرفعوا التسبيح لله. ومنهم من يفضّل العيش في المغاور والكهوف. وهناك الكثير ممّن ذكرت بعضهم قرّروا أن لا يكون لهم مغارة أوكهف أوخيمة أو صومعة، فعرضوا أجسادهم للأنواء الجويّة المختلفة، فتارة هم مسمرّون تحت وطأة الصقيع الذي لا يطاق، وتارة هم يلتهبون بأشعّة الشمس. أخيرا إنّ هناك تبيانا في معيشة هؤلاء أيضا، فمنهم من ينتصبون دوما واقفين، ومنهم من يقسِّمون أوقاتهم بين الوقوف والجلوس، ومنهم من اختفوا  خلف سور صغير يرفضون كلّ معاطاة مع الناس، ومنهم، وهم بدون أيّة حماية من هذا النوع، يتعرّضون لمشاهدة من يرغب في ذلك.

 

2- مسكن غريب

وأنا الآن أروي سيرة برداتوس العجيب وأكون بذلك قد أنهيت الأخبار عن كل واحدة من هذه الطرق المعيشيّة. لأنّه هو أيضا قد استنبط طريقة جديدة للتقشّف. ففي أوّل الأمر اختلى مدّة طويلة داخل صومعة صغيرة حيث لم يكن يتمتّع إلاّ بالتعزية الالهيّة. ثم انتقل بعد ذلك إلى صخرة تشرف على مكانه الأوّل حيث صنع له ما يشبه صندوقا من خشب قياسه أقلّ من طول جسمه وسكن فيه مضطرا بذلك أن يحني رأسه باستمرار. وعلاوة على ذلك، لم يكن هذا الصندوق الخشبيّ محكم الصنع، بل كانت له فتحات مستطيلة كأنّها نوافذ يتسرّب إليه النور منها بوفرة. ولذلك لم يكن في مأمن من الأمطار الغزيرة ولا من حرارة الشمس المحرقة، وهو بذلك يصيبه من الانزعاج من كليهما كما يصيب النسّاك أمثاله، لكنّه يتفوّق عليهم من جراء ما يناله من تعب في الانحباس.

 

3- تدخّل أسقف أنطاكية في أمره

وبعد أن عاش مدّة طويلة على هذه الحال، اضطر أن يخرج من صندوقه، تلبية لطلب ثيودوتس المُلهَم الذي كان تسلَّم كرسي رئاسة الكهنوت على أنطاكية. ولكنَّه بقي على عادته من الوقوف باستمرار ويداه مرتفعتان نحو السماء وهو يسبِّح إله الجميع. وكان جسمه كلّه مغطّى بوشاحه الجلدي. وقد ترك فيه فتحة صغيرة لأنفه وفمه لكي يتنشّق الهواء الخارجي، لأنّ طبيعته على غرار البشر لا يمكنها أن تعيش على خلاف ذلك. وكان يتحمَّل هذا العناء كلّه دون أن يكون ذا بنية قويّة، بل على العكس من ذلك كان مبتلى بأمراض جمّة. لكنّ نشاطه المتدفِّق والذي تغذّيه المحبّة الإلهيّة يحمله على أن يتعب فوق طاقته.

 

4- فضائله

ولما كان مزدانا بروح الفهم، فهو ضليع فيما يتطلّبه الجدل من أخذ ورد في متاهات أرسطو حتّى أنّه قد يحدث له أن يجادل فيها أفضل من أكثرهم خبرة وبقوّة أشدّ. ورغم أنّه قد بلغ إلى قمّة الفضيلة، فهو لا يسمح لذهنه أن يتماشى معها، بل أن ينحدر بها إلى أسافل الجبل لأنّه يعلم إلى أيّ ضرر يؤدّي به العقل المنتفخ بالدخان.

 

عاشرا: مارانا وكيرا

1- أصلهما وطريقة حياتهما

بعد أن كتبتُ حياة أولئك الرجال الأبطال، أرى مفيدا أن أجعل ذكرا للنساء اللواتي جاهدن هنّ أيضا بعزيمة ليست في شيء أقلّ من عزائم أولئك، لأنّهنّ رغم طبيعتهنّ الضعيفة قد أظهرن من البسالة ما يضاهي شجاعة الرجال. وبذلك قد حرّرن جنسهنّ الضعيف من عارهنّ التقليدي.

وابدأ بذكر مارانا وكيرا اللتين تفوّقتا على جميع النساء ببطولتهما في الجهاد. بيرية (حلب) هي مدينتهما. وطبقتهما هي المثلى فيها. وتربيتهما كذلك. لكنّهما قد تخلّيتا عن هذا كلّه وجعلتا لهما حصنا صغيرا عند مدخل المدينة وأوصدتا الباب بالطين والحجارة. وكانتا قد اصطحبتا معهما خادماتهما الفتيات اللواتي رغبن في العيش على طريقتهما، وشيّدتا لهنّ ديرا صغيرا خارجا عن حصنهما وأوعزتا إليهنّ أن يعشن فيه. ثم صارتا تطلاّن عليهنّ من نافذة صغيرة وتدعيانهنّ مرارا إلى الصلاة فتضرمان فيهنّ نار المحبّة الالهيّة. أمّا هما فتعيشان في الهواء الطلق دون غرفة ولا كوخ.

 

2- معاطاتهما مع الزوّار

وقد هيّأتا نافذة عوض الباب يصل إليهما الطعام الضروري بواسطتهما وتخاطبان منها النساء الآتيات لزيارتهما. لكنّ هذه الزيارات لا يسمح بها إلاّ في زمن العنصرة فقط. أمّا في سائر أوقاتهما فهما تلتزمان ممارسة حياة الهدوء. ومارانا هي وحدها التي تتولّى المعاطاة مع الزائرات، لأنّ الأخرى لم يسمعها أحد قط تتكلّم.

 

3- إماتاتهما بشهادة المؤلّف

وهما ترزحان تحت عبء الأثقال الحديديّة، حتّى أنّ كيرا، وهي الأضعف، يبقى جسمها كلّه منحنيا نحو الأرض، فلا تستطيع أن تتنتصب البتّة. وهما ترتديان ثيابا طويلة جدّا يجرّانها وراءهما على الأرض فتستر الرجلين تماما. أمّا من الأمام فهي تنحدر حتّى الخصر فتحجب منهما الوجه والعنق والصدر واليدين. وقد شاهدتهما مرارا وأنا في داخل ذلك المعبر الذي كانتا تأمران بفتحه لي إكراما لدرجتي الأسقفيّة. ومن ثم رأيتهما وهما تحملان من الأثقال الحديديّة ما يعجز حمله رجل معافى. ولكثرة لجاجتي توصّلت إلى إقناعهما بالتخلّي عنها في أثناء حضوري. ولكنّهما بعد ذهابي كانتا تعودان إلى إرجاع تلك الأثقال إلى محلّها في الجسم: الطوق الحديدي في العنق والزنّار في الخصر والباقي في الذراعين والرجلين.

 

4- موضوع تأمّلهما

وهما تسيران على هذه الطريقة من العيش ليس منذ خمس سنوات أو عشر أو خمسة عشرة فحسب بل مدّة اثنتين وأربعين سنة أيضا. وهما وقد مضى عليهما كلّ هذه المدّة في الجهاد لا تزال حرارتهما فيه على ما كانت في البدء. فهما تتأمّلان في جمال العريس الإلهي فتتحمّلان بكثير من الارتياح وبسهولة أكثر أتعاب مسيرتهما وتتطلّعان بفروغ الصبر إلى غاية جهادهما حيث تشاهدان حبيبهما واقفا ينتظرهما وهو يلوح لهما بإكليل الظفر. ولهذا السبب هما تتقبّلان سقوط المطر والثلج عليهما وحرارة الشمس دون ما حزن أو تذمُّر، بل هما تجنيان تعزية في وسط هذه العوارض التي تبدو كأنّها مزعجة لا تطاق.

 

5- زيارتهما للقدس ولقبر القدّيسة تقلا

واقتداء منهما بصوم موسى، قصدتا الامتناع عن تناول الطعام ثلاث مرّات لمدّة طويلة على مثاله، ففي أثنائها لم تتناولا شيئا من الطعام إلاّ بعد مضي 40 يوما. وقرّرتا أن تصوما صوم دانيال الإلهي لمدّة 3 أسابيع ثم أعطيتا طعاما لجسديهما. وخطر لهما يوما أن تشاهدا الأماكن المقدّسة بآلام المسيح الخلاصيّة، فأسرعتا نحو القدس دون أن تأكلا شيئا في الطريق، ولكنّهما لدى وصولهما إلى المدينة المقدّسة وإتمامهما مراسيم العبادة، تناولتا طعاما، ثم قفلتا راجعتين دون طعام، ومن سفر اقتضى له 20 يوما من السير. ثم أيضا تلبية لرغبتهما في أن تشاهدا ضريح تقلا المظفّرة في إيصورية فتضرما في المنازل نار المحبّة الإلهيّة، راحتا إلى هناك صائمتين ذهابا وإيابا بدافع من العشق الإلهي الذي الذي أخرجهما عن ذاتهما وجعلهما تجنّان في محبّة عروسهما الإلهي. وعليه لما غدتا بسيرتهما هذه زينة لجنس النساء ومثالا لهنّ جميعا، فإنّ الربّ قد هيّأ لهنّ جميعا أكاليل الظفر.

 

حادي عشر: البطرك القدّيس يوحنّا مارون

ولد في قرية سروم القريبة من أنطاكية. اسم ابيه أغاتون وأمه أنوهاميا. وكلاهما من المؤمنين الأتقياء. فربّيا ولدهما يوحنّا تربية مسيحيّة وثقّفاه في مدارس انطاكية، ثم في القسطنطينيّة. ولما توفّي والده، عاد إلى أنطاكية. ثم مضى إلى دير مار مارون على شاطئ العاصي، ولبس ثوب الرهبانيّة، ورقي إلى درجة الكهنوت، وسمي مارون نسبة إلى الدير الذي ترهّب فيه. وشرع يتفانى غيرة على خلاص النفوس ويحميها من البدع. ووضع كتابه في العقيدة الكاثوليكية الصحيحة، مبرهنا أن في المسيح طبيعتين ومشيئتين وفعلين كاملين. ثم إن ممثِّل البابا يوحنّا الفيلادلفي رسمه أسقفا وأرسله إلى جبل لبنان سنة 676، حيث أقيم أسقفا شرعيّا على مدينة البترون وما يليها. وسنة 685، اجتمع رؤساء جبل لبنان واختاروا يوحنا مارون بطريركا إنطاكيا.

وقد جاء في تقليد طائفتتنا أنّ هذا البطريرك ذهب إلى روما وأن البابا سرجيوس رحّب به ووشّحه بيده درع الرئاسة السامية. واتخذ الشعب الماروني هذا الاسم من ذلك الحين ودعوا موارنة نسبة إلى دير مار مارون، وإلى يوحنّا مارون الذي جعل كرسيه الأوّل في دير سيّدة يانوح بين بلدتي قرطبا والعاقورة. وقد يكون، كما جاء في التقليد، أنّه هو الذي أقام في كفرحي فوق البترون، ديرا يعرف الآن بدير يوحنّا مارون، وإليه نقلت هامة  القدّيس مارون أبي الطائفة المارونيّة.

وعند تفشّي مرض الطاعون في البلاد، كان البطرك يوحنّا مارون يتفقّد بذاته المطعونين ويشفيهم بصلاته. وحينئذ وضع نافور القدّاس المشهور باسمه.

وما زال هذا البطرك القدّيس مجاهدا في سبيل شعبه، يعنى بالمرضى والفقراء منهم ويبني لهم الكنائس والأديار ويوصيهم بالثبات في إيمانهم الكاثوليكي، إلى أن نقله الله إلى الأخدار السماويّة في 2 أذار سنة 707.

 

ملحق: مارونيّات

1- رسالة من البابا لاون العاشر الى البطرك الماروني سمعان سنة 1515

...علاوة على ذلك، فإنّا من مضمون رسالة ابننا الحبيب فرنسيس السرياني، من رهبانيّة الإخوة الصغار، لمار فرنسيس، وجّهها إلينا من زمن قريب، بحسب عوائد الرهبانيّة المذكورة، فهمنا ببركة الله، أنّك أنت وجميع الموارنة معتصمون أبدا في استقامة الرأي بحقّ إيماننا المستقيم المشترك، وإنّكم تكرّمون غاية الإكرام الكنيسة الرومانيّة المقدّسة، كالأبناء الصالحين الأحبّاء، وإنّكم فيما يخصّ الأمور اللازمة والضروريّة لخلاص النفوس، لم تحيدوا قطّ عن ذاك الايمان...

وإنّك أنت والشعب الماروني لتعيشون باستقامة وثبات، في الإيمان والأصوام والأخلاق وشظف العيش ومثاليّة الحياة، هذا ما تفحّصناه أيضا في رسالتك التي، عندما قرأنا وسمعنا ذلك فيها، سبَّبت لنا فرحا وانشراحا عظيمين، وغمرت قلبنا سعادة تفوق الوصف وابتهاجا بالغا. فوجب علينا أن نمدح لطف الله ونباركه لأجلها. لأنّ الرب العلي شاء أن يكون عبيده الأمناء، بين الكنائس الشرقيّة، وفي وسط غير المؤمنين، وفي حقل الضلال، كالورد في وسط الأشواك، لمدح اسمه ولاهتداء غير المؤمنين أنفسهم. أولئك الذين حفظوا بتقوى وشجاعة طقوس الكنيسة المقدّسة الجامعة وعاداتها، فما انحرفتم عن الإيمان بالمسيح في التضييقات ولا في الاضطهادات ولا في الشدائد، لا من قبل غير المؤمنين، ولا من قبل الهراطقة، بل صرتم أقوى وأصلب يوما عن يوم، في تحمّل جميع الاضطرابات والإهانات لأجل محبّة الله. حتى ليخيّل إلينا أنّه من النافل جدّا أن نحثّكم أو نحضّكم على حفظ وصايا أعظم من تلك التي أوصاكم بها سلفنا بولس الثاني وغيره من أسلافنا الباقين. ولكن هذه هي وصيّتنا وتحريضنا لكم: أن تثبتوا على تلك الوصايا، وفي الخصوص على قانون الإيمان، الذي يجب أن يجاهر فيه كلّ مؤمن بلغ الرشد، أقلّه مرّة في السنة، وأن تتقدّموا كلّ يوم من فضيلة إلى فضيلة، بالمثابرة على قراءة تلك الوصايا، وتتميمها بالفعل، لمجد الله الأعظم.

 

2- المونسيور ميسلين مرشد أمبراطور النمسا

تقوم العائلة في لبنان على الحزم والقداسة. وإلى ذلك مردّ الطهارة والأخلاق والآداب هناك، المتفوّقة على ما عندنا نحن. ويعتقد شعب لبنان أنّه لا يجوز قول كلّ شيء، ولا عمل كلّ شيء، فإنّ القول يجرّ إلى الفعل. وتجنّب الشرّ خير من عقابه، يطيعون القدماء والمتقدّمين فيهم، لأنّ الله يأمر بذلك. وهم لم يرضوا أن تصبح الخيانة والباطل والغرور وعدم الخبرة أساسا لسياسة العائلة والمجتمع. يعتبرون الكاهن كوكيل الله، ولم يكتشفوا بعد أن يحبّوا الدين ويبغضوا العاملين على نشره. يعتمدون على تعاليم الإنجيل التي يدّخرونها في قلوبهم ويمارسونها بالفعل. يوقنون أنّ النظام هو قاعدة المجتمع الطبيعيّة، وإقلاقه هو الجريمة النكراء.

لذلك أحبّ هذا الشعب الأنيس الوديع، البسيط، الصالح، المؤمن... وأقول أيضا المنوّر الراقي، ولا نور ولا رقي من غير الإيمان... كيف استطاع هذا الشعب الصغير الفقير أن يصمد ويقاوم 12 قرنا في وجه الغزوات البربريّة؟ لقد هدم البرابرة صور وصيدا وقيصريّة وأفسس واللاذقية و100مدينة تبسط على أقدام لبنان أطلالها وخرائبها، وعجزوا أن يهدموا كيان الموارنة المساكين الذين نموا وانتشروا وسط العبوديّة.

 

 
 
 

pure software code