انتقال العذراء مريم الى السماء
تحتفل الكنيسة في 15
آب بعيد انتقال السيدة العذراء الى السماء بنفسها وجسدها. ونحن نتأمل في اسس
العقيدة وثمارها.
أ. العقيدة
واسسها
الانتقال هو تذكار
موت مريم ام يسوع الاله، المعروف، بنياحها" " نياح" لفظة سريانية تعني راحة
الموت. الله ينيّح الانسان اي يريحه بالموت. صلاة المرافقة للميت هي ابتهال الى
الله لكي يريحه في مشاهدة وجهه القدوس في سعادة السماء، وينجيه من العذابات.
وهو عيد انتقال
مريم ام الاله بنفسها وجسدها الى السماء. يخبر التقليد ان عند نياح مريم اجتمع
الرسل بوحي الهي لوداعها، كما نصلي في حساي قداس العيد ( الشحيمة المارونية):
اجتمعوا من كل اقطار الارض حول جثمانها: سمعان-بطرس من روما، يوحنا
من افسس، توما من الهند، اندراوس من بلاد اصفهان ( ايران)، يعقوب
من القدس، يعقوب بن حلفى من سروج، تادي من الرها ( اورفا-
تركيا)، برتلماوس من ارمينيا، سمعان الغيور من قبرص، يهوذا
من كيليكيا. الاخرون وصلوا بعد وفاتها، ولما توجهوا الى القبر للتبرك من
حثمانها، لم يجدوه. هذا هو الحدث التاريخي.
كانت الجماعة
المسيحية الاولى تعيّد انتقال العذراء مريم بنفسها وجسدها الى السماء. لكن
العقيدة الايمانية ترقى الى سنة 1950 عندما اعلنها البابا بيوس الثاني عشر
بالدستور الرسولي الصادر في اول تشرين الثاني 1950 وعنوانه "
Munificentissimus Deus"
( الله الغني بالجودة): " ان مريم البريئة من دنس الخطيئة، وام الله الدائمة
البتولية وشريكة ابنها في الفداء، بعد نهاية حياتها على الارض، نقلت بجسدها
ونفسها الى المجد السماوي,
اما اسس العقيدة
فاربعة:
1) الحبل
البريء من دنس الخطيئة الاصلية.
عقيدة ايمانية اعلنها البابا بيوس التاسع عشر في 8 كانون الاول 1854 بالبراءة
الرسولية "
Ineffabilis Deus" ( الله
الفائق الوصف): " ان الكلية الطوبى مريم العذراء، قد عصمها الله من دنس الخطيئة
الاصلية، بنعمة منه وامتياز، واستباقاً لاستحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس
البشري".
2) انتصار
مريم الكامل على الخطيئة الشخصية
ونتائجها، طيلة حياتها الارضية. بنعمة خاصة من الله. لم ترتكب اي نوع خطيئة،
حسب تعليم المجمع التريدنتي ( 13 كانون الاول 1545 – 4 كانون الاول 1563) في
الدورة 6 القانون 223 (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 411).
3) أمومتها الالهية وبتوليتها
الدائمة:
مريم ام الاله
Theotokos
عقيدة ايمانية اعلنها مجمع افسس ( 431). " ان مريم هي ام الاله، لا بمعنى ان
طبيعة الكلمة الالهية والوهيته اخذتا من مريم مبدأ وجودها، بل بمعنى ان جسد ابن
الله المكمّل بنفس مفكّرة قد انبثق منها، وبالتالي ان الكلمة الالهي، بفضل
اتحاده بالجسد في حشاء مريم بشكل غير قابل للتفسير والفهم، قد ولد منها بالجسد
البشري".
ومريم دائمة البتولية:
عقيدة اعلنها المجمع اللاتراني ( 5-13 تشرين الاول 1649): ان الله الكلمة،
الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس، نزل من السماء وتجسد بالروح القدس من مريم
العذراء الدائمة البتولية وصار انساناً...وان مريم هي ام الاله القديسة
والدائمة البتولية والبريئة من كل وصمة، وان الاله الكلمة، المولود من الآب قبل
كل الدهور، حُبل في حشاها بالروح القدس في الازمنة الاخيرة، بدون زرع رجل، وهي
ظلت بعد الحبل " دائمة البتولية". الحبل البتولي تحقيق لوعد الهي اعلنه اشعيا:
" العذراء تحبل وتلد ابناً" ( اشعيا 7/14)، وقد كشفه الملاك ليوسف ( متى1/10).
ولادة يسوع لم تنتقص من كمال بتولية امه بل كرسّتها.
4) مريم
شريكة ابنها في الفداء:
شاركته في آلامه، وفي قبوله الآلام والموت فداء عن البشر. بقولها " انا آمة
الرب"، اعلنت تكرسيها الكامل لخدمة ابنها الكلمة المتجسد، وانفتاحها الكلي على
شخص المسيح وكل عمله وكل رسالته، لذلك، ليست مريم ام يسوع ابن الانسان وحسب، بل
" اصبحت شريكة المسيح الفادي السخية بنوع فريد على الاطلاق" ( الدستور العقائدي
في الكنيسة عدد61). " في مسيرتها، مسيرة الايمان، حتى الصليب، قدمت مساهمتها
كأم في رسالة المخلص التي اتمها بافعاله وآلامه. طيلة هذه المساهمة في عمل
ابنها الفادي، انطبعت امومتها بطابع "المحبة المتقدة" نحو كل الذين تتوجه اليهم
رسالة المسيح. وبهذه " المحبة المتقدة" الرامية الى نقل الحياة الفائقة الطبيعة
الى النفوس، دخلت مريم شخصياً في عمق الوساطة الوحيدة بين الله والناس، التي هي
وساطة الانسان يسوع المسيح. ولادتها مملؤة نعمة وحياة فائقة الطبيعة، كانت
مؤهلة للتعاون مع ابنها، الوسيط الوحيد لخلاص البشرية" (البابا يوحنا بولس
الثانتي، ام الفادي، عدد39).
ب.
ثمار الانتقال في
حياة المؤمنين والكنيسة
انتقال القديسة مريم
ام الفادي بنفسها وجسدها الى مجد السماء يجعل منها تحفة الفداء وعمل الله
الثالوث: انها ابنة الآب وام الابن وعروس الروح. بواسطتها تحقق تصميم الآب
الخلاصي، ومنها ظهر للعالم الكلمة المتجسد، ومعها بدأت الشركة بالروح القدس بين
الله والانسان. محبة الآب ملأتها، ونعمة الابن خلصتها، وحلول الروح قدّسها.
الانتقال يجعلها
نموذجاً لعمل الله الثالوث في كل انسان في دعوته الشاملة الى القداسة،وفي دعوته
الخاصة وسط مسيرة شعب الله. ويجعل منها قدوة في اختبارات الانسان مع عمل الله.
انتقالها بالنفس
والجسد مشاركة فريدة في قيامة ابنها وصعوده بالمجد نفساً وجسداً الى السماء،
واستباق لقيامة القلوب ولمشاركة النفوس المفتداة بدم ابنها الفادي الالهي في
مجد السماء، ولقيامة الاجساد في نهاية الازمنة للمشاركة في هذا المجد.
الانتقال، في كل ما يحتوي من حقائق، اعلان لكرامة الشخص البشري في نفسه وجدسه،
ولمصيره الابدي الذي يتساءل حوله الكثيرون: ماذا بعد الموت؟
بانتقالها الى مجد
السماء، ظلت امومتها في الكنيسة وساطة ام بالتشفع ترفعه لاجل ابنائها المسافرين
في هذا العالم وسط محنه وتعزيات الله، تضرع من اجلهم وتستنزل عليهم النعم التي
تضمن خلاصهم الابدي، فيكتمل نهائياً عقد المختارين جميعاً، ولهذا تدعوها
الكنيسة: المحامية، المعينة، المغيثة، الوسيطة (الدستور العقائدي في
الكنيسة،62). ونحن ننشد لها: " وان كان جسمك بعيداً منا، صلواتك هي تصحبنا...".
مريم العذراء، منذ
تكوينها بريئة من دنس الخطيئة حتى نياحها محرّرة من فساد الموت والقبر، هي الى
جانب ابنها ايقونة الحرية والتحرير بمعناها الروحي وبُعدها الانساني والاجتماعي
والسياسي. ان الكنيسة، بالنظر الى مريم امها ومثالها، تفهم فهماً كاملاً معنى
رسالتها وابعادها، وتلتزم بها دونما خوف او تردد او مساومة. |