طوباويان جديدان: لبنان والسماء... حكاية ثقة وإيمان

 

 
 تطويب الأبوين الكبوشيين، ليونار عويس ملكي وتوما صالح، يوم السبت 4 حزيران 2022
"لبنان أرض وقف" عبارة تحمل الكثير من مشاعر الاطمئنان وتكتنز العديد من اوجه الايمان والرجاء والأمل. فترداد هذه العبارة ما هو إلا دلالة على إيمان ثابت عند الشريحة الأوسع من اللبنانيين أن الله سبحانه وتعالى لم ولن يتخلى يومًا عن لبنان، والأمثلة في هذا السياق كثيرة ومتعددة.

وفي هذا الزمن يبدو هذا الإيمان، أي الإيمان بقدرة الله على اجتراح المعجزات هو الوحيد القادر على منح اللبنانيين شيئًا من عدم الخوف والقدرة على الصمود والتفاؤل بالخير على الرغم من عدم العثور عليه. فالمواطن الذي أمسى على قناعة تامة أن الواقع المحلي معقد ومتشابك إلى أقصى الدرجات الممكنة، يعلم أيضًا أن الخارج تخلى أو بصدد التخلي تمامًا عن لبنان لأسباب كثيرة ومتعددة، لذلك تشخص عيونه نحو السماء فقط، منتظرًا أن تمطر عليه معجزة تنهي هذا المساس المستمر بكرامته وانسانيته.

وفي العلاقة بين لبنان والسماء، ألف حكاية وحكاية، فالسماء بما تمثل جعلت من هذا الوطن الصغير أرضًا للرسالة وشهادة للعيش الواحد ونموذجًا للتعدّدية وتقبل الآخر المختلف، ولبنان في هذا الإطار وعلى الرغم من كل أزماته لا بدّ له من أن يكون علامة فارقة في فضاء هذا العالم المتجه نحو الأنانيّة والأحادية وغيرها من معالم الـ"أنا" لا الـ"نحن".

وفي عكس التيار العالمي المفعم بالحروب والدماء والتسابق على الثروات، يطلّ لبنان على العالم يوم السبت 4 حزيران 2022 حاملاً صرخة سلام مفعمة بالمحبة والإخلاص والتمسّك بالأرض حتى الموت والشهادة. فصحيح أن السماء لم تستجب مباشرة إلى دعوات المواطنين اللبنانيين ولم تقدم لهم حلولاً سريعة وواضحة ولم تخلصهم من كابوس حكامهم حتى اليوم، إلا أنها أرسلت إشارتها قائلة "أنا هنا، وسأبقى دائمًا إلى جانبكم". فلبنان المدمّر وشعبه الذي يعيش أقسى مشاعر الحزن واليأس سيحتفلون معًا بهدية سماويّة متمثلة في تطويب الأبوين الكبوشيين، ليونار عويس ملكي وتوما صالح.


انتصار على لغة الحقد والكراهية

في هذا الإطار تحدّث رئيس الرّهبنة الكبّوشيّة في الشّرق الأدنى الأب عبدالله النّفيلي  مؤكّدا أنّ "دعوى تطويب الأبوين الكبوشيين، ليونار عويس ملكي وتوما صالح تَعود جذورها إلى ما قبل 2005، لكن كما تعلمون الأمور في هذا السّياق بحاجة إلى وقت ودراسة كما أنّ جائحة كورونا التي أجّلت الكثير من الأحداث حول العالم دفعت الى تأجيل بسيط على صعيد التطويب الذي سنشهده يوم السّبت".

وأضاف "انّ التطويب هو علامة أكيدة من ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، الذي يريد بواسطة الكنيسة أن يقول لنا، أن يقول للبنانيين ولكل أبناء هذا الشرق أنا معكم... لا تخافوا". وأكّد النّفيلي أنّ "التطويب هو علامة صريحة تدلّ على أنّه مِن المُمكن كثيرًا قَتل الجسد، لكن الرّوح ستبقى ولا يمكن أن ينتزعها أيّ أحد، وما سنعيشه السّبت ما هو إلاّ انتصار على لغة الحقد والكراهية والتعصّب ودعوة لنا جميعًا حتى نثبت في أرضنا وبلدنا وحياتنا المسيحيّة وحتى نكون شهودًا للكلمة كلٌ منّا مِن موقعه وحسب وزنته".

ورأى رئيس الرّهبنة الكبّوشيّة في الشّرق الأدنى أنّ "لبنان على الرّغم مِن صِغر حجمه، إلاّ انّه مُفعم بالقداسة والإيمان وهذا ما يؤكّده عدد احتفالات التطويب والتقديس التي يعيشها هذا البلد بشكلٍ دائم ومستمرّ، ولكل قدّيس في لبنان ميزة وروحانيّة تخصّه وتُعبِّر عنه، وفيما خصّ الطوباوييّن ليونار عويس ملكي وتوما صالح، فهما تمسكا بمبدأين أساسيّين أوّلهما الشهادة للمسيح أيّ الرّسالة والتّبشير إذ أنّهما تركا بلدهما وتوجّها نحو شعبٍ جديدٍ ومختلف ليخبروه عن يسوع القائم من بين الاموات، أمّا المبدأ الثّاني فهو الاستشهاد من أجل المسيح إذ انّهما فضّلا الموت على أن يحيدوا عن إيمانهما".

وأشار الى انّ "حياة الطوباوييَّن مرتكزة على روحانيَة الرّهبنة الكبّوشيّة التي أسسسها القدّيس فرنسيس الأسيزي، الذي ومنذ البداية طلب إلى رهبانه أن يذهبوا إلى الناس المُختلفين ثقافيًا ودينيًا وفكريًا وإلى الفقراء وينقلوا إليهم محبّة المسيح".

وختم الأب عبدالله النفيلي شاكرًا "الرّبّ على نعمة التطويب التي أتت في هذا الزمن الصعب" وداعيًا "كلّ اللبنانيين للمشاركة في قداس التطويب يوم السبت 4 حزيران عند السادسة والنصف مساء في دير الصليب في جل الديب، إذ أنّ هذه المناسبة لا تتكرّر دائمًا، وحضورنا فيها لا بُدّ مِن أن يُشكّل نعمة لحياتنا"، كما أشار إلى "اكتمال مختلف التحضيرات اللّوجستيّة التي ستساعد على عيش اللّحظة بايمان وفرح ومحبّة".


العودة إلى ركائز الحياة المسيحية

من جهته، يقول المطران سيزار أسايان، النائب الرسولي للاتين في لبنان: "الأبوان الكبوشيان ليونار عويس ملكي وتوما صالح هما من أبناء القديس فرنسيس الأسيزي وكما الطوباوي أبونا يعقوب الكبّوشي، نذرا أن يعيشا حياتهما بحسب قانون الرهبانية الفرنسيكانيّة أي أن يحفظا الإنجيل المقدّس بالطاعة ودون أي شيء خاص والعفة. توج كلّ منهما حياته ودعوته الفرنسيسكانيّة بالاستشهاد وكان ذلك منذ قرن تقريبًا.

أضاف: "يلتحق الطوباويان الجديدان بالمجموعة التي لا تحصى من الشبان القديسين والشابات القديسات الذين وهبوا حياتهم من أجل المسيح والآخرين من دون تردد. فقد استشهد الأب ليونار عويس ملكي وكان في الثالثة والثلاثين من عمره، وأما الأب توما صالح فكان في السابعة والثلاثين من عمره".

وتابع: "ليس بالصدفة أن تعلن الكنيسة تطويبهما في هذا الوقت الذي يمر فيه لبنان واللبنانيين بأصعب المحن. إنها مناسبة لنستقي منهما كيفية عيش هذه الأزمة بالعودة إلى ركائز حياتنا المسيحية والتزامنا الإنجيل وتعاليم سيدنا يسوع المسيح". ثم تحدث عن ثلاث نقاط تمحورت حول بذل الذات في الرسالة وبذل الذات في سبيل الآخرين، وبذل الذات إيمانا بالمسيح.

هذا وسيترأس الكاردينال مارتشيلو سيمرارو، عميد مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان، قداس التطويب اليوم السبت 4 حزيران، عند 6:30 مساءً في دير الصليب في جل الديب. فيما سيترأس البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي قداس الشكر غدًا الأحد 5 حزيران في كنيسة مار انطونيوس البادواني في بعبدات عند الساعة الحادية والنصف صباحًا.
 
من هما الشهيدان الأب توما صالح والأب ليونار عويس ملكي اللذان ستعلنهما الكنيسة طوباويّان؟

الأب توما صالح

أكبرهما جريس صالح. ولد في 3 أيار 1879، في بلدة بعبدات المتنيَّة. وهو الخامس من عائلة مارونيّة مؤلفة من ستة أولاد، جميعهم صبيان. نشأ في جوّ من التقوى والإيمان. ولمَّا انقسمت البلدة، إثر خلافات بين العائلات، انتقل قسم كبير من عائلاتها إلى البروتستانتية، عندما لم يلقوا آذانًا صاغية لمشاكلهم من قبل السلطات المدنية والدينية. وكانت من بينهم عائلة جريس صالح. لكن بعد تدخل الفاتيكان، عادت العائلات جميعها إلى الكنيسة الكاثوليكية، في أقلّ من سنة، وصارت جميعها لاتينيّة كحلّ وسط. طُلب من الكبوشيين الاهتمام بهذه العائلات، فقدموا إلى بعبدات في بداية سنة 1893. وفي 19 تشرين الثاني 1893، نال جريس صالح، مع رفاق له، سرّ التثبيت.

ودخل مدرسة الكبوشيين، وتأثر بمثالهم وتواضعهم، فأراد مع رفاق آخرين أن يصير مثلهم راهبًا، لا بل مرسلًا. فذهب سنة 1895 إلى إسطنبول، إلى المعهد الرسوليّ للشرق التابع للرهبنة الكبّوشيّة. هناك أكمل دروسه لأكثر من أربع سنوات، ثمّ دخل الابتداء في 2 تموز 1899، ودُعي الأخ توما الأكويني. بعد سنة أبرز نذوره الموقتة وانتقل إلى دير بودجا، بالقرب من إزمير، حيث درس الفلسفة واللاهوت لمدة ست سنوات. سيم كاهنا في 4 كانون الأول 1904. وفي 5 أيار 1906، عُيّن في رسالة بلاد ما بين النهرين. وقبل الالتحاق بمركزه قدم إلى لبنان، بعد غياب طويل، لتمضية عطلته. أمّا في بلاد ما بين النهرين، فتنقّل بين ماردين، وخربوط، وديار بكر، عاملًا في شتّى حقول الرسالة مع الشبيبة (المدارس، التعليم، الوعظ، التعليم المسيحيّ، الشبيبة، الرهبنة الثالثة، الاعترافات…).

ولمّا حلَّت الحرب العالميّة الأولى، طُرد من ديره في ديار بكر، فلجأ إلى دير أورفا، حيث بقي سنتين، في ظروف صعبة للغاية. فخبأ كاهنًا أرمنيًا في ديره، بالاتفاق مع سائر الرهبان. ولما اكتُشف أمر الكاهن واعتُقل، كان يزوره الأب توما في السجن، بشجاعة. فطلب من يسوع القربان أن يأخذ آلام الكاهن الأرمني عنه ويمنحه إياها. فهذا ما حدث: اعتُقل هو أيضا، مع رهبان ديره الثلاثة، وسُجنوا. فاقتيدوا من مكان إلى آخر في الصحراء، بهدف تعذيبهم (في الشمس، وتحت المطر، وسيرًا على الأقدام، من دون أكل، وفي ظروف صحية صعبة).

فأُصيب الأب توما بالتيفوس، وحُكم عليه بالإعدام، لكنّه توفِّي في 18 كانون الثاني 1917، من جرَّاء التِّيفوس والمعاملة السَّيِّئة في السِّجن، قبل تنفيذ الحكم. وكان يقول: ”آه! نعم، أنا أثق كلِّيًّا به. لن يتركَنا الرَّبّ. أنا لا أخاف الموت. ولماذا أخاف؟ أليس الآب الرَّحوم هو مَن سيديننا؟ لمَ نحن نتألَّم الآن، إن لم يكن لأجل حبِّه؟“ نعاه السفير البابوي في اسطنبول: ”غادر هذه الدنيا دون ندم مُصاباً بالتيفوس، لم يخفْ من الموت. كان موتُه موت أحد القدّيسين. يا طوباه“.

على الرغم من أنّه لم يسفك دمه، تعتبره الكنيسة شهيدًا، لأنّه مات من جراء المعاملة السيئة في السجن، التي كانت عن قصد وكرهًا بالإيمان المسيحي. وهو كان مستعدًا للموت حبًا بالمسيح.

الأب ليونار عويس ملكي

ولد يوسف عويس ملكي، في 17 تشرين الثاني 1881، في بلدة بعبدات. وهو السابع من عائلة مارونيّة مؤلفة من أحد عشر ولدًا. نشأ في جوّ من التقوى والإيمان. ولمَّا انقسمت البلدة، انتقلت عائلته أيضًا إلى البروتستانتية. وبعد بضعة أشهر، عادت مع الآخرين إلى الكنيسة الكاثوليكية، فصارت عائلته هي أيضًا لاتينية. ومع رفيقه جريس صالح، ورفاق آخرين، نال سرّ التثبيت في 19 تشرين الثاني 1893.

دخل مدرسة الكبوشيين، وتأثر بمثالهم، فأراد مع جريس ورفاق آخرين أن يصير مثلهم راهبًا، لا بل مرسلًا. فذهبوا جميعهم سنة 1895 إلى إسطنبول، إلى المعهد الرسوليّ للشرق التابع للرهبنة الكبّوشيّة. هناك أكمل دروسه لأكثر من أربع سنوات، ثمّ دخل الابتداء مع رفيقه جريس في 2 تموز 1899، ودُعي الأخ ليونار، نسبة إلى القديس ليونار من بورتو ماوريتسيو، الواعظ الفرنسيسكاني الشهير. بعد سنة أبرز نذوره الموقتة وانتقل مع رفيقه الأخ توما إلى دير بودجا، بالقرب من إزمير، حيث درس الفلسفة واللاهوت لمدة ست سنوات. سيم كاهنًا مع رفيقه في 4 كانون الأول 1904. وفي 5 أيار 1906، عُيّن مع الأب توما في رسالة بلاد ما بين النهرين. وقبل الالتحاق بمركزه قدم مع الأب توما إلى لبنان، لتمضية عطلته. وفي بلاد ما بين النهرين، تنقّل بين ماردين، ومعمورة العزيز، وأورفا، عاملًا في شتّى حقول الرسالة مع الشبيبة (المدارس، التعليم، الوعظ، التعليم المسيحيّ، الشبيبة، الرهبنة الثالثة، الاعترافات…).

في بداية الحرب العالميّة الأولى، ولمَّا بدت الأوضاع خطرة في ماردين، أراد أن يرافق الراهبات ليبعدهم عن الخطر، فقال له رفيقه الكاهن الشيخ: ”أهكذا تتركوني جميعكم وتذهبون؟“ فتأثر الأب ليونار، وبقي حبًا به. وكانت المضايقات قد بدأت ضدهم في المدينة. لمّا قدم الجنود إلى الدير ليفتشوه، ذهب حالًا وخبأ القربان لدى الجيران. فاضطر إلى النوم من دون سقف، تحت البرد والصقيع. استمرت المضايقات، إلى أن بدأ مسلسل الاضطهادات في المدينة. فاعتُقل الكهنة والمئات من المؤمنين من مختلف الطوائف بالإضافة إلى الطوباويّ أغناطيوس مالويان، مطران الأرمن.

وجاء دور الأب ليونار، فاقتيد إلى السجن، واستُقبل حالًا بالتعذيب والإهانات التي استمرت خمسة أيام. في السجن كان الكهنة يسمعون اعترافات المؤمنين، واحتفلوا بالذبيحة مع الأسقف، وكانوا يصلون المسبحة الوردية طوال الوقت. فتحول السجن إلى كاتدرائية، تصدح بالترانيم والصلوات. وأتى الشيوخ إليهم، عارضين عليهم أن يؤسلموا حتى يسلموا. ولما رفضوا جميعهم، اقتيدوا في قافلة أولى، في 10 حزيران 1915، مؤلفة من 417 شخص. على رأسهم الأب ليونار، وفي آخر القافلة المطران مالويان. ولما وصلوا إلى الصحراء، عرضوا عليهم مجددًا أن يؤسلموا، فرفضوا قائلين: نموت حبًا بالمسيح! طلب الأسقف أن يسمحوا لهم بصلاة أخيرة. فكان الاحتفال بالقداس الأخير، الذي غطاه غمام كبير، كما يقول الكثير من الشهود العيان من الجلادين الحاضرين. عندئذ فصلوهم كل 50 شخص في منطقة مختلفة، وكانوا يربطونهم كل أربعة أفراد سوية، ويقتلونهم برصاصة واحدة. فاستشهد الأب ليونار في 11 حزيران 1915.

من كلماته: ”وضَعنا ذواتنا، كلِّيًّا، بين يدي الله. فلتكن مشيئته القدُّوسة“.

سؤال أخير: ما العجيبة التي قاما بها؟ الشهيد لا يحتاج إلى عجيبة للتطويب، لأن ثباته واستشهاده حبًا بالمسيح هما أكبر أُعجوبة.
 

     Chucri Simon Zouein, Computer engineer
     
echkzouein@gmail.com
© pure software code - Since 2003