الكنيسة السريانيّة المارونيّة الأنطاكيّة - القديس يعقوب
  القديس يعقوب   القديس ابراهيم   تلاميذ مار مارون   اساس  

 

 

 

 
 
 

 تذكار القديس يعقوب


 

1- الرهبان المعاصرون لتيودوريطس

       بعد أن رويت قصة أبطال الفضيلة وجهادهم، الذين أعلن انتصارهم، وبعد أن اختصرت مجاهدتهم في الحياة الروحية، وما تصبب منهم من عرق في جهادهم، وانتصاراتهم الباهرة والممتازة، اكتب الآن قصّة الأحياء وهم يجاهدون أبطالاً، ويحاولون التفوق على السلف كدًّا وعرقًا. وسنسلم الى الخلف ذكرهم الطيب. فكما ان حياة القديسين السلف قد أفادت الخلف كثيرًا، كذلك تاريخ هؤلاء، الذي نكتبه الآن، سيكون مثالاً للذين سيخلفوننا.

 

2- سأبدأ بيعقوب العظيم، لأنه أولهم زمنًا وتقشفًا، ولأن أمثاله قد قاموا، وهم يتمثلون به، بأعمال عجيبة ومدهشة. ولست أعلم لم يأتي اسم يعقوب في مقدمة المتوفين والأحياء. فعندما تكلمت على سيرة السابقين، ابتدأت بيعقوب الالهي، الذي بدد، بصلواته، جيش الفرس وصدّه، على الرغم من سقوط أسوار المدينة واحتلالها، وأجبر الأعداء على الهرب، أمام سحابة من البعوض والبرغش. والذي يحمل الآن الاسم ذاته، ويسلك نمط الحياة عينه، يأتي في مقدمة الأبطال الأحياء، لا لأنه يحمل الاسم  نفسه، بل لأنه، في الوقت عينه، اقتدى بفضيلته، وأصبح مثال الحكمة، للآخرين.

 

 

 

3- يعقوب تلميذ مارون، أقام بالقرب من قورش

       انضم الى مارون الشهير، وأخذ عنه التعليم الالهي، ففاق معلمه في كثير من الأعمال الشاقة. فمارون اتخذ معبدًا تكرّس قديمًا للضلال، وجعله صومعة له، ونصب فيه خيمة من جلد يكسوه الشعر، ليقيَ نفسه من أضرار الثلج والمطر. أما يعقوب، فقد عاف كل هذا: الخيمة والكوخ والصومعة، وأصبحت السماء سقفًا له: يتحمل كل تقلبات الطقس، يغمره مطر عنيف حينًا، وحينًا يرتعد تحت الثلج والجليد، أو بالعكس، تحرقه أشعة الشمس وتذيبه. وفي كل هذه الحالات، يبقى شجاعًا، ويجهد في أن يتغلب، بسخائه، على طبيعته البشرية، لأنه يبدو، وهو في هذا الجسد المائت، المتألم، وكأنه جسد لا يتألم، ويجاهد، وهو في هذا الجسد، وكأنه لا جسد له. ويصرخ مع بولس الملهم: " اننا نحيا حياة البشر، ولكننا لا نجاهد جهاد البشر، فليس سلاح جهادنا بشريًا، ولكنه قادر، في سبيل الله، على هدم الحصون، ونهدم آراء المغالطين، وكل مرتفع يحول دون معرفة الله، ونعتقل كل ذهن لنهديه الى طاعة المسيح" (2 كور 10:3-6).

 

4- انه، بالاضافة الى جهاد يفوق الطبيعة، كان يقوم بأعمال وضيعة. حبس نفسه أولاً في بيت ضيق، وتحرر من ضجة الخارج، وركّز فكره على ذكر الله، استعدادًا للتمرس بكمال الفضيلة. وبعد أن أتم تمرينه، وأثبت أنه متمرس بالجهاد الحسن، راح يخاطر بأعمال بطولية، فصعد الجبل، وهو يبعد ثلاثين غلوة عن مدينتنا، وجعله شهيرًا ومرموقًا، بعد أن كان مجهولاً كل الجهل وعقيمًا، وفي ظن الناس ان هذا الجبل (ويزعم اليوم انه جبل الشيخ خورس أو خورن) حل عليه من البركات منذ ذلك الحين، ما جعل الزوار، من كل مكان، يستنفدون ما عليه من ثرى تيمّنًا.

5- الحياة في العراء

       كان معرضًا، في اقامته تلك، لنظرات المارة جميعًا، إذ لم يكن له، كما سبق وقلت، مغارة أو خيمة أو كوخ، أو دار مقفلة أو صومعة تحجبه، بل يشاهده الناس وهو يتمتع بصحة جيدة، يصلي ويرتاح ويقوم ويقعد، أو ينتابه انزعاج ما، حتى انه لم يكن يتوقف عن القيام بجهاده، بمرأى من المشاهدين، فيضبط حاجات الطبيعة. لأنه، إذا شقّ على سواه، ممن تربّوا على بعض التحفظ، ان يقضوا حاجتهم في حضور الغرباء، فكيف لا يرفضه رجل بلغ ذروة الحكمة.

       أسرد هذا الخبر، لا لأني سمعت ذلك، با لأني رأيته بذاتي. فمنذ أربعة عشر عامًا، ثقل مرضه، فبلغ به لى ما يتوقعه جسد مائت. كنا في أوج الصيف، وكانت الشمس نارًا حارقة، والهواء، لا نسمة ولا حركة، وكان يعقوب يتألم من اسهال حاد، يؤلم أحشاءه، وهو يتجه الى أسفل البطن، فيضغط عليه، ويجبره على التنحي جانبًا. فلاحظت عند هذا الرجل معاناته. في هذا الوقت كان يحتشد قوم من أهل البلاد، وقد جاؤوا ليحتفظوا جسدًا أثقلته الانتصارات، فبقي جالسًا، تتنازعه رغبتان : الطبيعة تضطره لقضاء حاجته، والخجل من المتحلقين حوله يضطره للمكوث في مكانه. وما ان علمت بذلك حتى رحت أحث الجمع وأهدده، طالبًا اليه أن يبتعد، ثم وجهت اليهم إنذارًا بإسم سلطتي الكهنوتية، وبكل جهد تمكنت من ابعادهم. عند المساء، وعلى الرغم من ابتعادهم عنه، بقي هذا الرجل الالهي مسيطرًا على طبيعته، وصامدًا، حتى أقبل الليل العميق، وأعاد الجميع الى بيوتهم.

6- مرضه الأول

       عندما عدت اليه في صباح اليوم التالي، كانت الشمس لافحة، والحمى، عند يعقوب، ترتفع في الجو اللاهب، فتذرعت بألم في رأسي وقلت له أن الشمس تزعجني، ورجوته أن يوفر لي بعض الظل بالقرب منه، فأصدر أوامره، فغرزت ثلاثة قضبان في الأرض، ونشرت فوقها عباءتان من شعر، فكان لنا بعض الظلّ. وفيما هو يسالني ان استظل هذه الخيمة قلت له: " إنني اخجل، أبتِ، انا الشاب القوي، (وكان عمر تيودوريطس آنذاك سبعًا وثلاثين سنة) ان أنعم بما توفره لي الخيمة من تلطيف الحرارة، وأنت لا تلبث تعاني من شدّة الحمى، وفيك حاجة الى الراحة، والى أن تظل جالسًا خارج الخيمة، تحت وطأة الشمس الحادة". وقد أردفت:"فإذا كنت تريد أن أفيد أنا من الظل، تعال فاجلس معي تحت هذه الخيمة الصغيرة، لأنني أريد البقاء بالقرب منك، إلا أن الشمس تمنعني من ذلك". فخضع لهذه الحجة، وفضل أن يخدمني.

  

7- تدخل تيودوريطس

       وفيما كنا نستفيد معًا من الظل، تطرقت الى موضوع آخر، وقلت له ان بي حاجة الى أن أتمدد، لأن جنبي تضايقني وأنا جالس. وهذه المرة أيضًا رجاني أن أتمدد، فإذا به يلقى مني جوابًا انني لا أطيق أن أتمدد ويظل هو جالسًا، فقلت:"إذا شئت أن أنعم أيضًا بهذه الراحة، فلنتمدد معًا، أبتِ، لأنني لا أرضي أن أخجل من تمددي وحدي". وبعد أن ظفرت من جَلَده، بلبق الكلام، رضخ فرقد وأحرز بعض الراحة.

8- وعندما تمدد على الأرض حدثته بالنكتة، علّه يستسلم للمرح. ثم مددت يدي تحت ردائه، وحاولت أن أفرك ظهره بلطف، فأحسست بسلاسل الحديد الثقيلة تطوق حقويه ورقبته، بالاضافة الى سلاسل أخرى متدلية من عنقه: واثنتان الى وراء، تتدلى منحنية بشكل x على الصدر وعلى الظهر، وتربط بينها سلسلتا الرقبة والحقوين، وذراعاه تحملان تحت ثيابه حتى المرفقين، قيودًا مشابهة. فعندما شعرت بهذا الثقل الهائل، طلبت اليه أن يرحم جسده التعب، الذي لا يقوى على احتمال ما يلزم من عبء ثقيل، وما يصيب جسده من ضعف، رغم إرادته. فقلت له:"ان الحمى، يا أبتِ، تفعل الآن فعل السلاسل، ومتى توقفت تردُ على الجسد عبء السلاسل". فوافق على هذا الرجاء أيضًا، مرتاحًا الى هذا الرأي الذي أدهشه.

 

9- مرضه الثاني وخطفه من قبل المؤمنين

       بعد ايام من المرض، تعافى بسهولة، غير أنه عاد، بعد وقتٍ قليل، ومرض مرضًا خطيرًا، فتدفق الناس من كل صوب ليستولوا على جسده وما أن ذاع الخبر حتى توافد سكان المدينة، مدنيين وعسكريين، بعضهم يحمل سلاحه الحربي، وبعضهم يحمل كل ما وقع تحت يده بمثابة سلاح، واصطفوا صفوفًا متراصة، وراحوا يتقاتلون، فيطلقون السهام ويتراشقون بالحجارة، وهم لا يتوخون الضرب، بل التهويل. وبعد أن دحروا جيرانهم، مدّدوا البطل على محمل، وهو لا يعي ما يحدث، اذ لم يكن قد استعاد وعيه عندما كان القريون ينتفون شعره، وساروا به نحو المدينة.

10- تدخل تيودوريطس

       فلما بلغوا قبر النبي، وضعوا المحمل في الدير، قرب القبر. في هذه الأثناء، وصل أحدهم الى بيريه (Bérée) حيث كنت، ليروي لي ما حدث، وكيف دنا أجله. فأسرعت، وعلى سفر ليلة، وصلت، مع طلوع النهار، الى قرب رجل الله، الذي لم يكن ينبس بكلمة، ولا يتمكن من التعرف الى من حوله. ومع ذلك، فعندما سلمت عليه وبلغته تحيات آكاس (A cace) العظيم فتح عينيه حالاً، وسألني كيف حاله، واستطلعني متى وصلت. وما أن أجبته، حتى أغمض عينيه. وبعد ثلاثة أيام، سأل عند المساء، اين هو، وعندما أطلع على الأمر انزعج كثيرًا، وطلب أن يعاد من فوره الى جبله. ولما كنت قد أصررت على الاعتناء به بكل الوسائل، أمرت بإحضار المحمل في الحال، وبنقله الى حيث يريد.

11- تواضع يعقوب

       على هذا الوجه الذي اُجلّ، لم أتبين علامة للغرور. وفي اليوم التالي قدمت له مغلي الشعير المقشور، بعد أن تركته يبرد، لأن يعقوب لم يكن يتناول شيئًا ساخنًا، وقد امتنع عن استخدام النار. ولما كان يرفض أن يشرب، قلت له:"أكرمنا، ابتِ، فنحن مقتنعون بأن في صحتك خيرًا لنا جميعًا. فأنت لست مثالاً لنا مفيدًا وحسب، بل انك تساعدنا بصلواتك، وتضمن لنا رحمة الله. إذا استصعبت مقاومة ما تعودته فتشجع، يا أبتِ، وقاوم، فبفعلك هذا دليل حكمة. فعندما كنت تتمتع بالصحة، وكان بك قابلية للأكل، كنت قادرًا على أن تسيطر على الجوع، واليوم، وأنت لا تشعر بشيء من القابلية، فتشجّع وتناول شيئًا ما". وفيما أنا أتكلم بهذا، كان الى جانبي، جل الله "بوليكرونيوس". وقد شاء، دعمًا لمقالي، أن يكون أول من يتناول طعامًا، مع أنه كان صباح، ولم يكن يعقوب ليغدي جسده الا مرة واحدة كل سبعة ايام. فامتثل لتوسلاتنا، ولم يشرب إلا كأسًا من الشعير المغلي، وعيناه مغمضتان، كما يحدث عادة. عندما نشرب شرابًا مرًا. وأرى من المناسب أيضًا أن أكشف عمّا أظهره من حكمة سامية بعدما أقنعناه بأن يصب ماءً على رجليه. وكان ما أصابه من ضعف قد أفقده المقدرة عبى المشي. فكان الكاس بقربه، وقد حاول أحد الخدم ان يغطيه بسلّة، ليخفيه عن نظر الزائرين، فسأله: لماذا تغطي الإناء؟ فأجاب:"لئلا يقع تحت نظر الزائرين". فقال له:"لا، يا بني، لا تُخفِ عن أعين الناس ما يراه إله الكون، لأنني، وقد قصدت أن أعيش له وحده، لم أعد أحفل براي البشر. فما يفيد ان يعتبر هؤلاء تنسكي اعتبارًا جزيلاً، اذا كان اعتبار الله له أقل! فأجر اتعابي ليس منهم بل من الله". فمن لا يعجب بهذا القول، وبالفكر الذي ابتدعه، وهو لعمري يسمو على ادراك البشر!

12- ضد المجد الباطل

       سمعت رواية مماثلة، حصلت مرة أخرى. كان مساء، وطالت السهرة، ووقت تناول الطعام قد حان، فأخذ بخزفةٍ، في متناول يده، عدسًا مغليًا، طعامه المألوف. عندئذٍ أقبل من المدينة رجل مكلف تحصيل ضريبة عسكرية. فرآه آتيًا من بعيد، فلم يكفّ عن أكل العدس، كالمعتاد. وقد خيّل اليه أنه صورة شيطان، فزجره بكلام كثير، كأنه عدو. وكان يتابع أكل العدس إثباتًا لعدم تخوفه. أما الذي أوسعه شتمًا، فكان يتضرع اليه ويؤكد أنه انسان، وانه قد تعهد بأن يترك المدينة عند المساء، وانه وصل الساعة. فقال له:"ثق ولا تخف، بل صلِّ وارحل، أو بالأحرى اجلس معي الى المائدة. وقاسمني طعامي". وفيما هو يقول ذلك، أخذ قبضة عدسًا وناوله. وبتصرفه هذا أبعد عنه شهوة المجد الباطل، وسائر الرذائل في النفس.

 13- صبره

       وفي كل حال، انه لمن الفضول ان أتحدث عن صبره، لأنه ظاهر كعين الشمس، فعندما كان الثلج يغطي الأرض ثلاثة ايام وثلاث ليالٍ، وُجد، أحيانًا كثيرةً، مكبًا على وجهه، وهو يصلي الى الله، تحت كومة من الثلج، تخفي مي يغطيه من اسمال. وكان سكان الجوار، أحيانًا كثيرة، يأتون ويجرفون الثلج عنه، بالرفوش والمعاول، ليخرجوا جسده الممدد ويوقفونه.

14- عجائبه: بعث ميت

       من هذه المشقات جنى مواهب النعمة الالهية، التي ينعم بها جميع الذين يبتغون ذلك. وبفضل بركته، انطفأ، وما زال ينطفىء، عدد من حالات الحمى الشديدة، وهدأ عدد من حالات الرجفة، واختفى تمامًا، وأجبر عدد من الشياطسن على الهرب، والماء الذي باركه أصبح دواءً شافيًا.

       فمن يجهل أن ولدًا ميتًا، نهض من الموت بشفاعته؟ كان أهل الولد يسكنون ضواحي المدينة، ولهم أولاد كثيرون، إلا أنهم حملوهم جميعًا الى القبر وهم لا يزالون صغارًا. وعندما ولد طفلهم الأخير، أسرع الأب الى رجل الله، يتوسل اليه أن يمنح ولده حياة طويلة، واعدًا أن يكرسه للرب إذا عاش. ولما بلغ الطفل سنواته الأربع مات. وكان والده عندئذ غائبًا، وما ان عاد حتى رأى الناس يحملون الولد الى القبر، فانتزعه عن المحمل قائلاً:"يجب أن ابر بوعدي، وارسل الطفل ميتًا الى رجل الله". وفعل كما قال، وطرحه عند قدمي يعقوب المقدستينن وكرّر ما أعلنه أمام محيطه. فوضع رجل الله الولد أمامه وركع وسجد الى الأرض، متضرعًا الى سيد الحياة والموت. وفي ساعة متأخرة، عند المساء، تمتم الولد ونادى والده، ولما أدرك هذا الرجل الالهي أن السيد استجاب صلاته وردّ الحياة الى الطفل، نهض، وبعد أن سجد لمن يعمل إرادة الذين يخافونه، ويستجيب طلباتهم، أكمل صلاته، وأعاد الصبي الى والده. شاهدت أنا هذا الولد، وسمعت والده يروي لي الأعجوبة. وقد نقلت لكثيرين، هذه الرواية الجديرة بالرسل، عالمًا بما يكون لها من بالغ الأثر في من يسمعونها.

 

15- تيودوريطس والمرقيونيون

 

       اما أنا فقد استفدت مرات متعددة من مساعدته. وسأذكر حادثة أو حادثتين، معتبرًا اني – ان سكت عن ذكر إحانه وأخفيته – أكون جاحدًا  لمعروفه.

 

       كان اللعين مرقيون قد زرع أشواك الكفر – وما أكثرها – في ناحية قورش. وفي جهادي على اقتلاعها من جذورها، لجأت الى جميع الوسائل، وثابرت عليها، وبدلاً من أن يراعوا جانبي فيتسنى لهم أن يتحدثوا مع النبي، كان المستفيدون من خدماتي ، يفترون علي، ويكافئوني الشر بالخير والبغضة بمحبتي (مز=108=4) فاستعملوا التعويذات السحرية، ولجأوا الى الشياطين الشريرة، وحاولوا أن يعلنوا عليَّ حربًا خفية. وفي احدى الليالي، أقبل شيطان مجرم وهو يصرخ، وشرع يقول بالسريانية:"يا هذا، لماذا تحارب مرقيون؟ لماذا بدأت أنت بمحاربته؟ هل أذاك يومًا؟  أوقف الحرب، وكفّ عن العداء له، والا علمتك الخبرة أنه من الأفضللك أن تتعقل. تأكد انني لكنت طعنتك منذ وقت طويل، لو لم أجدك تحت حماية جوقة الشهداء ويعقوب".

 

16-  سمعت هذا الكلام، وقلت لصديق يرقد بقربي:"يا هذا، هل أنت سامع ما يقال؟"

 

       فأجابني:"سمعت كل شيء، وكان بودي أن أنهض لأنظر وأعرف من تفوه به، ولكنني حافظت على السكينة لأجلك، وقد خمنتك نائمًا". فنهضنا وذهبنا معًا نتطلع، لكننا لم نسمع أحدًا يتحرك أو يتكلم. وقد سمع رفاقنا الآخرون هذه الأقوال. فأدركت ان الشيطان يعني "بجوقة لشهداء"، قارورة زيت الشهداء التي كانت تحوي بركة سبق ان جمعت من عدد كبير منهم، وهي معلقة قرب سريري. وتحت رأسي غطاء عتيق، كان يخص يعقوب العظيم، وهو بالنسبة الي أقوى من أي حصن من الفولاذ.

 

17- رؤيا يعقوب

       عندما كنت على وشك  مهاجمة أهم قرية من قراهم، وأمامي عقبات شتى منعتني من الذهاب اليها، أرسلت فطلبت اليه، وهو لي بمثابة أشعيا النبي، أن يضمن لي العون من الله، فقال:"فإن كل هذه الحواجز تهدمت كنسيج العنكبوت، لأن الله أعلمني بذلك في الليل، وقد أعلنه لي، لا بحلم كاد يرتسم، بل برؤيا. وعندما جئت لأبدأ صلاة الفرض، رأيت في اتجاه هذه الناحية، حية نارية تزحف من المغرب الى المشرق. محمولة في الفضاء، وعند نهاية صلوات ثلاث، رأيتها تلتف على ذاتها بشكل دائرة حتى لامس رأسها ذنبها. وبعد أن تلوت صلوات ثمانية، رأيتها انفلقت، ثم تلاشت دخانًا.

18- نجاح ضد المرقيونيين

       هذا ما تنبأ به يعقوب. أما نحن فقد ثبت لدينا مما حصلنا عليه من نتيجة، تحقيق نبوءته. فمنذ الصباح، تجمّع تحت لواء الحية الشريرة أتباع مرقيون في الماضي، وهم اليةم من كتيبة الرسل، ووثبوا علينا من الغرب وهم يلوحون بسيوفهم، وفي نحو الساعة الثلاثة تحلقوا ليضمنوا سلامتهم، كالحية التي حَمَت رأسها تحت ذنبها. وعند الثامنة تشتتوا فحُرر لنا مدخل البلدة. وفي الحال وجدنا حية من البرنز يعبدونها لأنهم، في الحرب التي أعلنوها على الخالق، مبدع الكون، انقطعوا الى عبادة الحية الملعونة، التي كانوا يحسبونها عدوًا لهم. هذه هي النعم التي حصلت عليها من هذا الوجه الجليل.

19- يعقوب يثبت صحة الذخائر

       ولأن قصتي بلغت بي الى الحديث عن الرؤى الالهية، أروي الآن ما سمعته من فمٍ لا يكذب. سرد لي هذه القصة دون غرور، فنفسه الالهيةبعيدة كل البعد عن هذه النقيصة، ولأن الظروف اضطرته الى البوح بما كان ينوي أن يخفيه، فقد سألته ان يتوسل الى اله الكون، لينقي حصادي من الزؤان، ويخلصه من بذور الهرطقة. لأنني، في الحقيقة، كان يعذبني أشد العذاب، عناد مرقيون المقيت في الضلال، فأجابني وأنا الحّ عليه:"لا حاجة بك الي أو الى سواي ليشفع لك الى الله، فعندك يوحنا الشهير، صوت الكلمة، وسابق المعلم، الذي لا ينفك يدعو لك". ولما قلت له انني اثق أيضًا بصلواته وصلوات الرسل والأنبياء الذين نقلت رفاتهم حديثًا الى عندنا، قال:" ثق، وانت تفكر بأن عندك يوحنا المعمدان".

20- مع ذلك، لم أكن أقوى على السكوت، بل زدت إلحاحًا، مستوضحًا لمَ ذكر يوحنا المعمدان، فأجاب:"اتمنى لو قبّلت ذخائره العزيزة". ولما صارحته بأني لن أوافيه بها ما لم يعدني بأن يخبرني عما رآه، وعدني بذلك، وأحضرت له في الغد ما تمناه. وبعد ان استبعد جميع الناس اخبرني ما يلي:"عندما حضر حراس المدينة المشهورون، من فينيقيا، ومن فلسطين، واستقبلتهم انت مع جوقة داود، طرق بالي فكرة: هل هي فعلاً ذخائر يوحنا الشهير، ام هي لشهيد آخر يحمل الاسم ذاته؟ وفي اليوم التالي، نهضت ليلاً لأداء صلاة الفرض فإذا شخص يرتدي ثيابًا بيضاء، يقول لي: أيها الأخ يعقوب، لماذا لم تخرج لملاقاتنا عندما وصلنا اليكم؟ فقلت له من أنتم؟ فأجابني: نحن الذين وصلنا أمس من فينيقيا  ومن فلسطين، جميع الناس استقبلونا استقبالاً حارًا، الراعي والشعب، سكان المدن والقرويون. أنت وحدك لم تشارك في هذا التكريم. وكن يشير الى موقف الشك، موقفي. وعلى ذلك، أجابه يعقوب، على حدّ قوله: "حتى في غيابك، وغياب جميع القديسين، أكرمكم، واعبد اله الكون". وفي اليوم التالي، وفي الوقت ذاته، ظهر الشخص ذاته وقال:"أيها الأخ يعقوب، أنظر الى الشخص الذي هناك، والذي ثوبه من لون الثلج، وأمامه تنّور نار". والتفتُّ الى هذه الجهة، واشتبهت في أنه يوحنا المعمدان، يلبس الثوب ذاته، ويمد يده كأنه يعمّد. وقال لي:"أنا هو ذاته من خمّنت".

 

21- يعقوب يتلقى وحيًا

       قال لي يعقوب غير مرّة:"عندما توجهت الى البلدة الرئيسية، لتعاقب المتمردين، وبعد أن دعوتني الى أن أرفع صلاة حارة الى الله، قضيت تلك الليلة كلها، أتوسل الى المعلم، ثم سمعت صوتًا يقول لي:" لا تخشى شيئًا، يا يعقوب، فيوحنا المعمدان، العظيم، يتوسل الى اله الكون كل يوم، لأنه لو لم ينطفىء تعنت الشيطان، بشفاعته، لكانت حصلت مذبحة كبرى".

       وبعد أن روى علي هذا، رجاني أ أحتفظ به، ولا أبوح به للآخرين، ولكني، رغبة مني في افادة الناس منه، لم أكتف بنقله الى عدة أشخاص، بل دونته كتابة.

22- رؤيا أخرى

       كان يعقوب يخبر أنه رأى يوسف، أحد آباء اسرائيل. وهو على بياض شعر رأسه ولحيته، يبدو في شيخوخته وكأنه في وهج شبابه، وعلى ارتقائه ذروة الفضيلة، يعدّ نفسه في القديسين آخرهم.

23- التجارب الكبرى: الوسواس

       أخبرني يعقوب، أيضًا، عن جميع أنواع هجومات الشياطين الشريرة عليه. فكان يقول لي:"منذ ان اعتنقت نمط حياتي هذا، كان يظهر لي كائن عريانًا، شكله شكل حبشي، والنار طالعة من عينيه، فامتلأت رعبًا، وأخذت أصلي، وما كنت أتمكن من ان اتناول طعامًا، لأنه كان يظهر لي كلما عزمت على أن آكل. ومكثت لا آكل سبعة أيام وثمانية وعشرة. وفي آخر المطاف، سخرت من هذه الهجومات الحقيرة، وجلست لآكل ولما لم يتمكن من تحمل صبري على كل تجربة، أخذ يهددني بأنه سيضربني بعصًا، فقلت له:"إذا كنت تفعل هذا بإذن  رب الكون، فاضربني وأنا أتلقى الضرب مسرورًا، كانه هو يضربني، ولكن ان كنت ما حصلت على اذن منه، فلن تضربني، ولو استعرت غيظًا ألف مرة". وما ان سمع ذلك حتى ولّى هاربًا.

24- ولكنه، في الباطن، لم يكظم غيظه، كان أحدهم يحمل اليّ الماء مرتين في الأسبوع، فيذهب هو أمام حامل الماء، وهو يقلّدني، ويأخذ منه الماء، ويجبره على العودة من حيث أتى، ويكبّ السائل. لم يفعل هذا العمل مرتين فقط، بل ثلاث مرات. وكان يبرّح بي العطش، فسألت الذي اعتاد أن يحمل الي الماء: كيف لم تجلب لي ماء، منذ منذ خمسة عشر يومًا؟ فأجاب بأنه أحضره ثلاث مرات او أربعًا، ووضعه بين يدي، فقلت له، ترى، أين تسلمت منك الماء الذي حملته اليّ؟ فدلني على المكان، فقلت له: لو رأيتني هناك ألف مرة، لا تسلمني الإبريق قبل أن تصل الى هذا الكان بعينه.

 

25- الخوف من الفضيحة

       عندما كشفت لعبته، أخضعني لتجارب أخرى، فكان يصرخ في الليل، مثلاً: سأوسّخك وأذلّك، فلا يعود ينظر اليك أحد. فأجبته: اني أكون لك شاكرًا، لأنك على غير قصد منك، صانعٌ جميلاً لعدوك، فيزداد تنعّمًا بذكر الله. وبما أنه سيتوفر لي وقت أكثر للراحة، سيكون عملي التأمل في جمال الله. وأردف يعقوب قائلاً:"بعد عدة أيام، فيما كنت، في وسط النهار، احتفل بالليتورجيا المعتادة، رأيت امرأتين تنزلان من الجبل، فزعجني قدومهما غير المألوف، وكنت مستعدًا لأن أرشقهما بالحجارة، فتذكرت تهديدات هذا الفاسق، وقلت في نفسي: هذا هو الاذلال الذي حدثني عنه. فبادرت وصرخت، بأنني، لو ركبتا على كتفي، فلن أرجمهما بالحجارة، ولن أطردهما، بل أكتفي باللجوء الى الصلاة. وما أن تلفظت بهذا حتى تلاشتا، وتوارى هذا المشهد الخيالي، وأنا أتكلم.

26- الرعبات الباطلة

       ثم أضاف يعقوب:"في ذات ليلة، وفيما كنت أصلي، طرق مسمعي ضجيج عربة، وكان الحوذي يصرخ، والخيول تصهل، فزعجني هذا الضجيج غير المألوف، وقلت في نفسي: لا حاكم في المدينة الآن، ولا الطريق طريق عربات، ولا الوقت وقت مرور عربات. وبينما كنت أتأمل هذا سُمع ضجيج حشد يقترب، وحاملوا الفؤوس في المقدمة يصيحون ويصفرون، ليبعدوا الجموع، ويشقوا ممرًا للحاكم. ولما اقتربوا مني شرعت أقول: من أنت؟ من أين اتيت؟ وما مطلبك فتأتي الآن؟ حتى متى تتلهّى أيها المسكين، باحتقار حلم الله؟ كنت أتكلم بهذا ووجهي نحو الشرق، لأقدم الى الله صلاتي، فدفعني الشيطان، ولكنه لم يستطع أن يوقعني، لأن النعمة الالهية اعترضته، وإذا بكل شيء يضمحل.

27- ويخبر أنه فيما كان يطلع من إيصوريا (Isauria)، أولئك اللصوص المجرمون، ويقومون بغزوات في الشرق، وهم يحرقون كل شيئ تقريبًا، كان يتخوف تخوفًا شديدًا، لا من الاغتيال – ولم يكن يهمه أمر الجسد -  بل من الاستعباد أو الأسر، ومن مشاهدة الكفر والفجور، والشيطان الذي كشف هذا التخوف، لأنه طالما سمعه يبثه أصدقاءه، تنكّر ذات ليلة بزي نساء ينتحبن، وأضاف يعقوب يقول:"بدا لي انني أسمع جلبة، كأن الأعداء مقبلون. والنيران تتساقط على القرى، ففرقت شعري المتدلي فرقين، الى اليمين والى اليسار، من على كتفي، حتى الصدر، كي أكون مستعدًا لأن يقطع رأسي، وتنقذني – وأنا غير مذنب – ضربة السيف الأولى من هذا المشهد الكريه.

       قضيت تلك الليلة كلها، على هذه الحال، وأنا منتظر أبدًا هجومهم عليّ. وعندما طلع النهار، وصل أناس سألتهم هل سمعوا شيئًا عن شأن اليصوريين، فأجابوا بأنهم لا يعلمون شيئًا، في هذه الأيام. فاستنتج يعقوب قال:"هذا ما جعلني أدرك ان هذه الرؤيا هي من الشيطان".

   

28- الفسق

       أخبرني يعقوب، مرة أخرى، ان الشيطان اتخذ شكل غلام مرح، وجهه فاتن، وشعره اشقر جميل. وكان يقترب مني، بشوشًا مازحًا. أما أنا فقدت تسلحت بالغضب، وقذقته ببعض الإهانات. أما هو، فقد لبث ينظر اليّ، نظرة ولد ظريف، وابتسامته وصوته تنفثان الشهوة، ففجرت غيظي، وقلت:"كيف لك أن تطوف العالم، لتنصب مثل هذه الفخاخ لجميع البشر؟" فأجابني بأنه ليس وحده بل هم جماعة من الشيلطين، منتشرون في العالم كله، ليقوموا بهذا النوع من الدعابات، لأنهم وهم متسترون بظاهر المزاح، يعملون على إهلاك البشر، فقلت له:" أما أنت فإليك عني، في كل حال، فالمسيح يأمرك بذلك، وهو الذي أهبط الى الهاوية جوقة كاملة من الشياطين، بعد أن أدخلها في الخنازير (متى 28:8). فلما  سمع كلامي هذا فرّ هاربًا، لأنه كان لإسم المعلم عليه من القدرة ما لا يطاق. وكان يعجزه ان يقاوم بناظريه ما يظهره عبيد المعلم من حكمة باهرة.

29- رصانة المؤلف

       ما أكثر ما أعرف من قصص بعد، ولكنني لا أريد أن أدونها، خوفًا من أن تكون كثرتها حجة للضعفاء، لئلا يثقوا بها. إلا اننا عندما نرى رجل الله، فلا حجة لنا ألاّ نصدّق أية قصة من هذا النوع، لأن فضيلته البيّنة تؤكّدها. ولكن بما أن كتاب التاريخ هذا سيبقى للخلف، ولأن معظم الناس يثقون بما يرون أكثر مما يثقون بما يسمعون، فلنحتكم في روايتنا وِفقَ ضعف السامعين.

30- بناء قبر يعقوب

       بنى له جيرانه قبرًا واسعًا، على مسافة بضعة غلوات من قريتهم. أما أنا فقد أعددت له ناووسًا في قبر الرسل الظافرين. وعندما علم بذلك رجل الله، ازداد توسلاً اليّ، ليدفن في الجبل. أما أنا فما أكثر ما كنت أجيبه بأنه لا يليق به ان يهتم بدفنه ما دام لم يعد يهتم بالحياة الحاضرة. ولما تأكدت أن الأمر يهمه، أفهمته انني موافق على رأيه، وأمرت بأن ينحت له نعش ويرسل الى فوق. وعندما لاحظت ان الجليد يفتت الحجر، أمرت ببناء حجرة تغطي النعش. وعندما انتهينا من عملية البناء، وفق ارادته، ووضع السقف، قال يعقوب:"لن أسمح بأن يسمى هذا القبر قبر يعقوب، لكنني أرغب في أن يكون قبر الشهداء الظافرين، وأن أوضع في قبر آخر كغريب أرادوا له أن يساكنهم". ولم يكتف بالقول، بل فعل ذلك، فجمع من كل الجهات، ما استطاع، ذخائر عدد كبير من الأنبياء والرسل وجميع الشهداء، ووضعها في نعش واحد، حتى يكون له ان يسكن مع جمهور القديسين، وأن ينهض من الموت معهم، الى معاينة الله.

31- فضائله

       اليكم ما يكفي للبرهان على مدى تواضعه، فهذا الرجل الذي جمع من الفضائل ثروة طائلة، وهويعيش في فقر مدقع، تمنى ان يجلس في مجلس الأغنياء. وتكفيني هذه القصص، لأبين ما احتمله هذا الوجه الذي احترمه، من مشقات ومن جهاد، وما نال من الله من نعمٍن وما أحرزه من انتصارٍ، وما حظي به من اكليل الظفر.

32- ملامح طبعه

       ولما كان بعضهم يعيب عليه كآبته، ويأخذ عليه حبه للوحشة والصمت، أردت أن أقول كلمة في هذا الموضوع قبل أن أنهي حديثي.

       انه، كما قلت، كان على مرأى من الجميع، لأنه ليس منزويًا في كل واحد، ولا من مانع يمنع، الى التحدث اليه. أما غيره من عشاق هذه الحكمة، فدورهم محصنة، ولها أبواب، وهم ينعمون بالسكينة. يفتح الحبيس بابه ان شاء، كما يستمهلهم ما طاب له، ويعبّ، ما شاء، من التأمل في الله. أما هنا، فلا شيء من كل هذا. ولهذا السبب خاصة، تراه يتألم من تألب الناس عليه، في وقت صلاته. فإذا انسحب الناس، عندما يطلب اليهم ذلك، يعود الى صلاته، أما اذا لبثوا يرهقونه، وما استطاع أن يطاع، بعد انذار أو انذارين، فكان يغتاظ ويصرفهم وهو يوبخهم.

33- سلّم القيم عنده

       اغتنمت فرصة لأحدثه عنها، فقلت له: "استاء بعضهم، لأنهم أبعدوا، ولمّا يحصلوا على بركة، فيستحسن ان القاصدين اليك لهذه الغاية، وقد تكبدوا السفر أيامًا عدة، ينصرفون بلا استياء، طافحين فرحًا حتى يتسنى لهم أن يمتّعوا الذين يجهلون حكمتك، بما يقدمونه لهم من وصف لها". فأجابني:"انني ما أويت الى الجبل في سبيل أحد سواي. ولما كانت جراحات الخطايا الكثيرة تكتنفني، ففيّ حاجة قصوى الى مداواتها. ولهذا أتوسل الى ربي أن يمدني بالأدوية التي تشفي ما فيَّ من شر. أو ليس من المستغرب، وغير المعقول، أن أوقف توسلاتي لأحدث الناس؟ فلو كنت، افتراضًا، خادمًا عند سيد ما، وهو ليس انسانًا مثلي، وأهملت، في وقت خدمتي، أن أقوم بخدمة المائدة أكىً وشربًا، في الموعد المعين، ورحت أتلهى مع سائر الخدم، أفما أعرّض نفسي، وبحق، للضرب؟ اليك افتراض آخر: لو مثلت امام القاضي، لأدعي على من سبب لي ضررًا، ثم توقفت في معرض حديثي، وشرعت أتحدث الى من هم حولي، أفلا تظن ان القاضي سيغتاظ، ويمنع عني مساعدته لي، والحالة هذه، ويأمر بأ أجلد وأطرد من المحكمة؟ كيف لخادم ان يمثل لائقًا أمام سيده، ولمدّعٍ أمام القاضي، بينما أنا، بدلاً أن أمثل مثلهم أمام الله، الرب الأبدي، القاضي العادل، ملك الكون، أرتد، وأنا في أوج صلاتي، الى الخدام الذين هم مثلي، لأباشر معهم الأحاديث الطوال؟

34- هذا ما سمعته، ونقلته الى الساخطين عليه. أما أنا فيبدو لي، ان يعقوب على حق، لأنه شرح موقفه، وعلاوة على ذلك قال: انه من شأن العشّاق ان يرذلوا كل شيء ليذوبوا في الحبيب، وهم يفكرون فيه ليلاً نهارًا. هذا هو، على ما أظن، سبب غيظه، عندما يمنع، على غير رضاه، وهو في ذروة تأمله، من أن يمتلىء من جمال الله الحبيب.

35- تمنيات المؤلف

       كتبنا هذه السيرة، بشكل قصة، لا على سبيل المديح. وقد حرصنا أشد الحرص على الايجاز، لئلا نتعب قراءنا بالاسهاب. فإذا امتدت أيام يعقوب بعد كتابة هذه القصة، فانه سيزيد عليها، دون شك، من الأعمال الباهرة، ما لا يحصى، وغيري يدونها، لأني أنا مشتاق جدًا الى مغادرة هذا العالم. منحه سيد أبطال التقوى آخرة تليق بجهاده، وجعل ما بقي له من مسيرة مماثلاً لأوائله، حتى يبلغ الهدف منتصرًا. وقوّى ضعفنا بصلواته، حتى يتسنى لنا، متى أصبحنا أقوياء، ان نعوض ما خسرناه، وان نغادر هذه الحياة ظافرين.

 
 
 

www.puresoftwarecode.com