الكنيسة السريانيّة المارونيّة الأنطاكيّة - القديس ابراهيم

  القديس يعقوب   القديس ابراهيم   تلاميذ مار مارون   اساس  

 

 

 

 
 
 

 تذكار القديس ابراهيم


 

1- راهب أسقف

لا يمكننا، دون كفر،ان نسكت عن ذكر ابراهيم العجيب، لأنه، بعد حياته الرهبانية، قد أكسب كرسي الأسقفية شهرة واسعة. ولهذا يزداد حقه علينا في أن نذكره. فإنه، وان اضطر إلى الرجوع عن نذوره، لم يغيرنمط حياته، بل حمل معه طريقة التنسك القاسية. وعلى الرغم من انهماكه بأعمال الحياة الهبانية، وبهموم الأسقفية، فقد سلك مسيرة الحياة حتى النهاية.

2-  أصول وحياة النسك في لبنان

كان هذا الرجل أيضاً ثمرة من ناحية قورش. فيها ولد وترعرع وجعل من فضيلة النسّاك ثروة له، ويؤكّد معاصروه أنه لكثرة سهره ووقوفه وصومه، روَّض جسمه فراح يمكث طويلاً بلا حراك حتى أعجزه المشي. ولأنه نجا من هذا الضعف بمبادرة إلهية، قرر بغيرته، ان يجابه المخاطرفي سبيل نعمة اللّه. فوصل إلى لبنان وقصد قرية كبيرة جداً، يعرف ان ظلام الكفر يكتنفها. فأخفى هويته الرهبانية، تحت قناع تاجر، وراح يحمل، مع رفاقه، أكياساً، كأنه ذاهب ليشتري الجوز، وهو المحصول الأساسي في هذه البلدة. ثم استأجربيتاً لقاء مبلغ زهيد يدفعه إلى الملّاك، ولبث فيه صامتاً، ثلاثة أو أربعة أيام. بعد ذلك، باشر رويداً رويداً الطقس الإلهي، بصوت معتدل. وعندما لاحظ الناس أنه يرنم، ناداهم المنادي جميعاً، بأعلى صوته، فتجمهر الرجال والأولاد والنساء، وسدوا الأبواب من الخارج، وأخذوا يرمون، من على السطح، كمية كبيرة من التراب. ولكنهم عندما رأوا ابراهيم ورفاقه على وشك أن يختنقوا وان يردموا، ولا ينوون أن يعملوا شيئاً، أو ان يقولوا كلمة، مكتفين بتوجيه صلاتهم إلى اللّه، كفّواعن جنونهم، لتوبيخ الشيوخ لهم. ثم، بعد فتح الأبواب، وإخراجهم من بين الركام، أُمِروا بأن يرحلوا حالاً.

3- زعيم قرية

وفي أثناء ذلك، وصل جباة يرغمون السكان على دفع الضرائب، فيقيدون بعضهم ويضربون بعضاً. فتغاضى هذا الرجل الإلهي عمّا حلّ به، واقتدى بربّه، وهو مسمّر على الصليب، يهتمُّ بجلاديه، فتوسل إلى الجباة أن يمارسوا وظيفتهم بلطف ولين، ولما كان هؤلاء يطلبون كفالات، تطوع ابراهيم ووعد بأن يدفع، بعد بضعة أيام، مئة قطعة من الذهب. فهلّل أهل القرية لطيبة هذا الرجل الذي أساؤوا معاملته، فاستغفروه ممّا تواقحوا وألحقوه به من اساءة، وطلبوا إليه أن يصبح زعيمهم، لأنه لم يكن لبلدتهم زعيم، فهم أنفسهم فلاحون وزعماء. فقَصَد ابراهيم بعض الأصدقاء في مدينة حمص، واقترض منهم المئة قطعة ذهباً، ثم عاد إلى البلدة ووفى بوعده في اليوم المعين.

4-  رسامته كاهناً على هذه البلدة

أمام هذه التضحية، ألحّ عليه السكان بالبقاء عندهم، فوعد بتلبية طلبهم، ان هم تعهدوا له ببناء كنيسة، فرجوه ان يباشرالعمل فوراً، ورافقوا الرجل الطوباوي لاختيار المكان الأوفق. فكان الواحد يمتدح هذا الموضع، والآخر ذاك. أما هو فقد اختارالأفضل، ووضع الأساس، وبعد وقت قليل وضع السقف. عندما اكتمل البناء، نصحهم بأن يختاروا لهم كاهناً. لكنهم كانوا يرددون بأنهم لن يختاروا لهم كاهناًغيره، ويلحّون عليه بأن يصبح لهم أباً وراعياً. فاقتبل نعمة الكهنوت، وقضى معهم ثلاث سنوات. وبعد أن هداهم إلى شؤون اللّه، عيّن مكانه واحداً من رفاقه، وعاد إلى مسكنه الرهباني.

5- أسقف على قورش

واني، تجنباً للأطناب في مآثره، أوجز فأقول ان ابراهيم اشتهر في حياته النسكية، فأسند إليه كرسى الأسقفية في  حاران، وهي مدينة انتشت من خمرة الكفر فاستسلمت لسخطٍ شيطاني عنيف. ولكنها، وقد حُسبت جديرة بأن يَهتم بها ويرعاها، وبعد أن اقتبلت شعلة تعليمه، تحررت كلياً من الأشواك الماضية، وهي اليوم تفاخر بما يجنيه فيها الروح من حصاد، وتقدم للّله حُزَماً من السنابل الناضجة.

غير أن هذا الرجل الإلهي، لم يعمل العمل الإلهي هذا بدون عناء، بل كان يتعب كثيراً ويقتدي بمن تعهد إليهم العناية بالجسد، فيهدىء بعضا بضمادات مبللة، وبعضاً بأدوية قابضة، وفي الحالات يقطع ويكوي فيرد العافية. وكان بهاء حياته يساند تعاليمه وكل ما يأتيه من تفانٍ.لأن الناس وقد بهرهم هذا البهاء، يستمعون لمقاله ويرضون عن فعاله.

6- أمانته للحياة النسكية

وطوال مدة اسقفيته، كان يعتبر من النوفل: الخبز والماء والنار والسرير. كان يرنم في الليل أربعين مزموراً ملحناً، مع ما يتخللها من صلوات، ويقضي ما بقي من الليل قاعداً على كرسيه، لا يربح جفونه إلّا لبرهة وجيزة. قال موسى المشترع:"ليس بالخبز وحده يحيا الانسان" (تث: 3:8)، وذكّر السيد المسيح بهذا الكلام وهويرفض  إغراء الشيطان له (متى: 3:4). لكننا لم نتهد إلى أي موضع في الكتاب المقدس، يفيد بأنه يمكن العيش بدون ماء. فإيليا، هذا الرجل العظيم، كتن قد بدأ بإرواء عطشه من النهر، ثم عندما ذهب إلى الأرملة في صرفت صيدا وأرسلها تستقي له ماءً، سألها خبزاً (3 ملوك  10:17). أما هذا الرجل العجيب (ابراهيم) فلم يذق، طوال مدة اسقفيته، الخبز والخضار اليابسة و الخضار الطازجة، ولا المياه التي يعتبرها ذوو الاختصاص العنصر الأول في العناصر الأربعة، نظراً إلى فائدتها. فكان يتغذى ويرتوي من الخس والهندباء والكرفس وما أشبه من نباتات، مبرهناً بذلك على أنه يمكن الاستغناء عن مهنتي الخباز والطباخ. وكانت الثمار في مواسمها تسد حاجته، إلا أنه لم يأكلها إلّا بعد صلاة المساء الطقسية.

7- الضيافة

وكان، وهو يهدُّ جسمه في مثل هذا الجهاد، يتفانى ولا يكل، في سبيل الآخرين. فيجهز السرير للغرباء الوافدين إليه، ويقدم لهم خبزاً ممتازاً وخمراً جيدة وسمكاً وخضاراً طازجة، مع التوابل مع التوابل المعتاد. وكان يجلس، ظهراً، معهم إلى الغذاء، ويقدم إلى كل ضيف حصته، ويقدم إلى الجميع كؤوساً، ويشجعهم على الشراب، مقتدياً في ذلك، بسميّه، عنيت البطريرك الذي كان يخدم ضيوفه دون أن يأكل معهم. (تك. 18 : 1-8).

8- يفصل في الخلافات

كان يقضي طوال نهاره، يفصل في الخلافات، فيقنع البعض بالتفاهم، ويلزم به البعض الآخر، إذا ما رفضوا الخضوع للعدل الذي يلقنهم إياه بحلمه. فلم يبق هناك من أشرار غادروا وقد ظنوا أنهم أحرزوا، بوقاحتهم، نصراً على العدالة. لأنه، إذا لحق بأحدهم غبن ما، كان ينصره، فيضع، فيضع الحق إلى جانبه، ويربّحه على من يريد أن يؤذيه، فكان أشبه بالطبيب الماهر، يجهد في أن يوقف اخلاط الجسد الزائدة، ويؤمن للعناصر توازنها.

9- في البلاط الامبراطوري

رغب الإمبراطور في مشاهدته، لأن االصيت يطير فيسهل عليه أن يذيع الأفضل والأسوأ، فاستدعاه وعانقه لدى وصوله، واعتبر أن جلد الماعز على هذا القروي أوفر احتراماً من ارجوان يلبسه. وكانت جوقة الامبراطورات (1) تلمس يديه وركبتيه، وتتوسل إلى رجل لا يمكنه أن يفهم اليونانية.

10- الوفاة والجناز الاحتفالي

ان الحكمة جديرة باحترام الملوك وجميع الناس، وعندما يحين أجَل عشاقها، يحصلون على مجد أعظم. هذا ما نتبيَّنه بطرق شتى، خاصة مما حدث لهذا الرجل الملهم. فعندما توفي وعرف الامبراطور بذلك اراد ان يدفنه في أحد القبور المقدسة، غير أنه رضي ان يسلّم، من باب العدل،جثة الراعي إلى نعاجه. فرئس الموكب، تتبعه جوقة الامبراطورات، فجميع السلطات، فالرعية، فالعسكريون، فالمدنيون العاديون. مدينة أنطاكية، ومن بعدها المدن الأخرى، استقبلته بحماس، إلى أن بلغ ضفة النهر الكبير، وعلى ضفاف الفرات، كان جميع سكان المدن، وجميع الأجانب، وجميع سكان الريف، وسكان المناطق المجاورة، يتزاحمون للحصول على نعمة منه. وكان حاملو الفؤوس يمشون بأعداد وفيرة، باقرب من نعش الميت، تهويلاً على من يحاولون نزع الثياب عن الجثمان، أو من يتمنون ان يأخذوا قطعاً منه. ولكنتم سمعتم بعضاً ينشد الزامير، وبعضاً المراثي. وهناك امرأة تنوح وتدعوه حاميها، وأخرى تناديه مغذيها، وثالثة، راعيها ومعلمها. وهناك رجل يبكي ويدعوه أباه، وآخر يناديه عوناً وسنداً. وأودعوا القبر جسده الطاهر المقدس وهم يرافقونه بالنوح وبالمديح.

11- عبرة الأساقفة

أما أنا فقد أدهشني أنه، وقد بدل حالته، (من راهب إلى أسقف)، لم يترك نسق حياته، ولم يتذوق، وهو على كرسي الأسقفية، نظاماً أقل قساوة، بل ازداد في تقشفه النسكي. لذلك أوردت ذكره في تاريخ الرهبان، لئلا أفصله عن رفاق أحبهم، على أمل أن أنال بركته

 
 
 

www.puresoftwarecode.com