زمن العنصرة
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
العنصرة 1   العنصرة 2

التنشئة المسيحية 2008 - 2009

 
  • العنصرة 1 - من عيد العنصرة الى الاحد السابع من زمن العنصرة
  • العنصرة 2 - من الاحد الثامن من زمن العنصرة الى الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة
  1. عيد حلول الروح القدس - العنصرة - عيد تثبيت الكنيسة
  2. عيد الثالوث الاقدس - الشركة مع الله الثالوث ورسالة الكنيسة
  3. الاحد الثالث من زمن  العنصرة - المؤمن سكنى الله الثالوث
  4. الاحد الرابع بعد العنصرة - مدعوون لنغتني بفكر المسيح
  5. الاحد الخامس من زمن العنصرة -  عيد القديسين بطرس وبولس
  6. الاحد السادس من زمن العنصرة - الكنيسة جسد المسيح، مرسلة للشهادة للمسيح
  7. لاحد السابع من زمن العنصرة - بنعمة المسيح مخلصون ومرسلون
     
  8. الاحد الثامن من زمن العنصرة - الدعوة المسيحية للتشبّه بالمسيح
  9. الاحد التاسع من زمن العنصرة - مسحة الروح القدس
  10. الاحد العاشر من زمن العنصرة - ناقص
  11. الاحد الحادي عشر من زمن العنصرة - المصالحة والوحدة بالمسيح
  12. الاحد الثاني عشر من زمن العنصرة - عيد الانتقال آخر عظائم الله
  13. الاحد الثالث عشر من زمن العنصرة - خدمة الكلمة والمشاركة في كهنوت المسيح
  14. الاحد الرابع عشر من زمن  العنصرة - مقتضيات الكرازة بانجيل الله
  15. الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة - التحوّل الى الانسان الجديد
 

 


 

عيد حلول الروح القدس- العنصرة

اعمال الرسل 2:1-21

يوحنا 14:15-20

عيد تثبيت الكنيسة

 

عيد ارسال الروح القدس، الرب والمحيي، هو عيد الكنيسة التي هي المسيح الكلي. فمن بعد ان ولدت من موت يسوع وقيامته، مثل السنبلة من حبة القمح (يو12:24) بخمسين يوماً، حلّ عليها الروح القدس، وكانت تضمّ " الرسل الاثني عشر، ومريم ام يسوع، ونسوة، واخوة يسوع"، من خلال عناصر الريح والنار، كما يورد كتاب اعمال الرسل.

انحيل القديس يوحنا لهذا اليوم يكشف لنا الشروط لقبول الروح القدس، ودور الروح في المؤمنين والكنسية، وهو انه النور الهادي الى الحقيقة، وان به يدخل المؤمن في شركة مع الله الثالوث.

 

اولاً، حدث حلول الروح القدس: اعمال الرسل: 1-21

 

وفي تَمَامِ اليَوْمِ الـخَمْسِين، كَانُوا كُلُّهُم مَعًا في مَكَانٍ وَاحِد. فَحَدَثَ بَغْتَةً دَوِيٌّ مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ دَوِيُّ رِيحٍ عَاصِفَة، ومَلأَ كُلَّ البَيْتِ حَيثُ كانُوا جَالِسين. وظَهَرَتْ لَهُم أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَار، واسْتَقَرَّ عَلى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم لِسَان. وامْتَلأُوا كُلُّهُم مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وبَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى، كَمَا كَانَ الرُّوحُ يُؤْتِيهِم أَنْ يَنْطِقُوا. وكَانَ يُقيمُ في أُورَشَلِيمَ يَهُود، رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ السَّمَاء. فَلَمَّا حَدَثَ ذـلِكَ الصَّوت، احْتَشَدَ الـجَمْعُ وأَخَذَتْهُمُ الـحَيْرَة، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم كَانَ يَسْمَعُهُم يَتَكَلَّمُونَ بلُغَتِهِ. فَدَهِشُوا وتَعَجَّبُوا وقَالُوا: "أَلَيْسَ هـؤُلاءِ الـمُتَكَلِّمُونَ جَمِيعُهُم جَلِيلِيِّين؟ فَكَيْفَ يَسْمَعُهُم كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِـاللُّغَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا؟ ونَحْنُ فَرْتِيُّون، ومَادِيُّون، وعَيْلامِيُّون، وسُكَّانُ مَا بَينَ النَّهْرَيْن، واليَهُودِيَّة، وكَبَّدُوكِيَة، وبُنْطُس، وآسِيَا، وفِرِيْجِيَة، وبَمْفِيلِيَة، ومِصْر، ونَوَاحِي لِيبيَةَ القَريبَةِ مِنْ قَيْرَوَان، ورُومَانِيُّونَ نُزَلاء، يَهُودٌ ومُهْتَدُون، وكْرِيتِيُّون، وعَرَب، نَسْمَعُهُم يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا عَنْ أَعْمَالِ اللهِ العَظِيمَة". وكَانُوا كُلُّهُم مَدْهُوشِينَ حَائِرينَ يَقُولُ بَعْضُهُم لِبَعْض: "مَا مَعْنَى هـذَا؟". لـكِنَّ آخَرِينَ كَانُوا يَقُولُونَ سَاخِرين: "إِنَّهُم قَدِ امْتَلأُوا سُلافَة!". فَوَقَفَ بُطْرُسُ مَعَ الأَحَدَ عَشَر، ورَفَعَ صَوْتَهُ وخَاطَبَهُم قَائِلاً: "أَيُّهَا الرِّجَالُ اليَهُود، ويَا جَمِيعَ الـمُقِيمِينَ في أُورَشَلِيم، لِيَكُنْ هـذَا مَعْلُومًا عِنْدَكُم، وأَصْغُوا إِلى كَلامِي. لا، لَيْسَ هـؤُلاءِ بِسُكَارَى، كَمَا تَظُنُّون. فَـالسَّاعَةُ هِيَ التَّاسِعَةُ صَبَاحًا. بَلْ هـذَا هُوَ مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ النَّبِيّ: ويَكُونُ في الأَيَّامِ الأَخِيرَة، يَقُولُ الله، أَنِّي أُفِيضُ مِنْ رُوحِي عَلى كُلِّ بَشَر، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُم وبَنَاتُكُم، ويَرَى شُبَّانُكُم رُؤًى، ويَحْلُمُ شُيُوخُكُم أَحْلامًا. وعَلى عَبِيدي وإِمَائِي أَيْضًا أُفِيضُ مِنْ رُوحِي في تِلْكَ الأَيَّامِ فيَتَنبَّأُون. وأَعْمَلُ عَجَائِبَ في السَّمَاءِ مِنْ فَوْق، وآيَاتٍ عَلى الأَرْضِ مِنْ أَسْفَل، دَمًا ونَارًا وأَعْمِدَةً مِنْ دُخَان. وتَنْقَلِبُ الشَّمْسُ ظَلامًا والقَمَرُ دَمًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الرَّبّ، اليَوْمُ العَظِيمُ الـمَجِيد. فَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِـاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُص.

 

1. في اليوم الخمسين من بعد قيامة الرب يسوع من الموت، حلّ الروح القدس، مرسلاً من الآب بالمسيح الابن، على الكنيسة الناشئة. وكانت مكوّنة آنذاك من الرسل الاثني عشر،كهنة العهد الحديد، ومن المؤمنين العلمانيين، تلاميذ يسوع المعروفين " باخوته". وبسبب الخمسين يوماً، دُعي عيد حلول الروح القدس بالارامية واليونانية وسائر اللغات Pentecosté وسُمّي بالعربية "العنصرة"، لارتباطه " بعناصر" الرياح والنار. أما لماذا بعد خمسين يوماً، فلان في اليوم الخمسين من عيد الفصح اليهودي، كان شعب الله القديم يحتفل " بعيد ختام الاسابيع السبعة لتقديم ذبيحة الشكر لله على مواسم الحصاد ( تثنية16:13)، وفي المناسبة كان يتذكّر تسليم الشريعة الالهية لموسى في لوح الوصايا العشر، التي هي وصايا عهد الله مع البشر.

 

2. عيد العنصرة هو عيد تثبيت الكنيسة وأصل انطلاقتها مرسلة الى جميع شعوب الارض تحمل هبة الروح القدس للخلق الجديد. وُلدت الكنيسة من صدر المسيح المطعون بالحربة، من محبته، المرموز اليها بالدم والماء (يو19/34)، وهما علامة ذبيحة القربان والمعمودية، صانعي الكنيسة. لهذا تُسمى الاسرار الثلاثة الاولى المعمودية والميرون والقربان " اسرار النشأة المسيحية". بالمعمودية نولد الولادة الثانية، ابناءً لله واعضاء في جسد المسيح، الذي هو الكنيسة، ومعدِّين لنرث ملكوت الله؛ بالميرون ننال قوة الروح القدس ومواهبه، وبالقربان نغتذي من جسد الرب ودمه قابلين الحياة الالهية.

عيد العنصرة هو عيد الخلق الجديد، في الخلق الاول يرفرف الروح فوق المياه والارض الخاوية الخالية، فكان به الخلق كله وآدم الانسان الاول، كما يروي سفر التكوين (1: 2) واليوم، في الخلق الثاني، نولد بالروح عينه خلقاً جديداً، ابناء لله، على مثال يسوع المسيح، الانسان الجديد. ان العالم الذي يهيم في ظلمة الخطيئة والشر يحتاج الى انسان جديد لكي يبصر، ويتحرر، ويقوم من موته الروحي والمعنوي.

 

3. اما لماذا حلّ الروح القدس بعلامات النار والرياح، فلكي يتم الانتقال من الشريعة المكتوبة على الواح من حجر وورق الى شريعة مكتوبة في قلب الانسان وعقله، شريعة الحب والحقيقة المطلقين. هذه هي شريعة الروح القدس التي تحيي، فيما شريعة الحرف تقتل، على ما يقول بولس الرسول.

على جبل سيناء، اعطى الله شريعة عهده لموسى ولشعبه وسط النار والرياح (خروج19: 3). وفي علّية اورشليم أعطى شريعة العهد الجديد بالمسيح والروح القدس وسط ألسنة من نار جعلت الكنيسة الناشئة تتكلم مع جميع الشعوب وبلغاتهم، للدلالة ان الكنيسة جامعة ورسولية، وتحمل رسالة الخلاص الى جميع الناس والثقافات والاديان.

في برج بابل كانت لغة البشر، بمعزل عن الله، فبلبلت الجميع وفرّقتهم (تك11/1-9). اما في العنصرة فلغة الروح القدس، لغة الله على ألسنة البشر، قد فهمها كل الشعوب، ما يعني ان الكنيسة لا تعرف حدود العرق والثقافة والمساحة والزمن، وان الروح القدس بلغته وحضوره يحوّل البلبلة الى شركة. وبما ان الروح القدس هو المحبة، فانه يزيل الكبرياء والانانية اللذين يخلقان الانقسامات، وتقيمان جدران العداوة والبغض والعنف واللامبالاة[1].

 

4. عنصرة انسان اليوم: انجيل القديس يوحنا 14/15-20

يؤكد الرب يسوع ان الروح القدس يُعطى اليوم، في عنصرة كل انسان، عندما يكون في قلبه حب المسيح ويحفظ وصايا انجيله: " اذا كنتم تحبوني، فاحفظوا وصاياي. وانا اطلب الى ابي فيعطيكم الروح المعزي-البارقليط، ليكون معكم الى الآبد" (يو14/15-16). هذا الروح هو "المعزي" لانه يبين لنا، وسط الحقد والبغض والعنف الذي يملاء العالم، والذي اختبره يسوع، ان عمل المسيح هو عمل الحبّ، حبّ ذاك الذي قدّم ذاته، وحب الآب الذي جاد به. يعلمنا الروح القدس، في عنصرة اليوم، ان نكون اداة محبة المسيح وعلامتها. وكما صلّت الكنيسة الناشئة بانتظار حلول الروح، نصلي نحن اليوم: " تعال، ايها الروح القدس، واملاء باطن قلوب مؤمنيك"[2].

ويؤكد الرب يسوع ايضاً ان الروح المعزي هو " روح الحق الذي يقيم في المؤمن" ( يو14/17). مهمته، كما قال الرب يسوع في مواضع آخرى من انجيل يوحنا: انه يعلّم  فيلهم نقل بشارة انجيل الخلاص، ويذكر فيساعد على فهم ما جاء حقاً في بشارة المسيح، ويقود الى جميع الحق اذ يؤمّن متابعة البشارة هذه وفهمها فهماً صحيحاً وسط تقلبات الظروف والاحوال[3]، ويكشف تباعاً في الكنيسة وللكنيسة، حتى انقضاء الدهر، كل ما يتصل بسرّ المسيح وبما " عمل وعلّم " (اعمال 1/1)، وهكذا يقبل المؤمنون سرَّ الله العامل في تاريخ الانسان ، ويعلنونه جهاراً، وبذلك ينجلي للافهام معنى التاريخ[4]. مع حلول الروح القدس، يتواصل " تعليم المسيح وعمله". هذا ما تعنيه كلمة الرب يسوع:"لا اغادركم يتامى، لاني اعود اليكموانتم ترونني لاني حيّ، وانتم تحيون ايضاً " (يو14/18-19).

 

وينهي الرب يسوع ان بالروح المعزي، روح الحق، تتم الشركة مع الله. "

في ذلك اليوم، تعرفون اني في ابي ، وانكم فيّ، واني فيكم" (يو14/20).

الله يعطي ذاته في الروح القدس لخلاصنا، وحلول الروح القدس هو نتيجة عمل الفداء وانتقال الرب يسوع، كما قال عن نفسه: " خير لكم ان امضي، فاذا لم امضِ، فلن يأتيكم البارقليط، واذا مضيت ارسلته اليكم"(يو16/7). هذه بداية شركة خلاص جديدة.

كانت الشركة الاولى في الخلق،وقد وهب الله ذاته عطية خلاص، وكان " روح الرب يرف فوق المياه"(تكوين1/1)، للدلالة على حضور روح الرب في الخليقة، وعلى بدء شركة خلاصية يقيمها الله مع الاشياء التي خلقها[5].

اما الشركة الثانية ففي الفداء بحضور الثالوث في داخل الانسان وفي الجماعة المؤمنة، بالاتصال المباشر بين الله والانسان في الروح القدس، الذي افاض به الآب محبته في قلوبنا، ويتم فينا عمل الفداء، وننال به ثمار الخلاص (افسس4/11-12). هو يسكن في الكنيسة وفي قلوب المؤمنين كما في هيكل (1كور3/16). وبقوة الانجيل يجدد شباب الكنيسة ويحييها ويقودها الى الاتحاد الكامل مع عريسها السماوي[6]؛ ويجعلها الكنيسة شركة أي اداة اتحاد المؤمنين بالله وفيما بينهم. هذه الشركة الثالوثية بالروح القدس، يشبهها الرب يسوع بالكرمة والاغصان (يو15/5-8). الروح القدس فيها هو بمثابة الماوية.

 

***

 

ثانياً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

تكشف " شرعة العمل الساسي" في الفصل الثاني من القسم الاول الخاص بالمبادىء، العلاقة بين الكنيسة والدولة. ان بينهما تمايزاً في الصيغة والهيكلية والوسائل، والواحدة مستقلة عن الاخرى في حقل عملها الخاص. لكن الاثنتين تعملان لخدمة الانسان والمجتمع. فبات من الضرورة ان يقوم تعاون بينهما.

1. التمايز

تمارس الدولة السلطة السياسية بكل وجوهها ومهامها للبلوغ الى خير الانسان وخير المجتمع العام، من خلال الاعتناء بمجمل اوضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والخلقية والسياسية التي تمكّن الناس والعائلات والمجموعات ولاسيما الاكثر حاجة من تحقيق ذواتهم تحقيقاً اكمل.[7]

        اما الكنيسة، التي تعمل هي ايضاً من اجل خير الانسان وخير المجتمع العام، فتتمايز عن الدولة بطبيعتها وبمساحات خدمتها ووسائلها. انها شركة الايمان والرجاء والمحبة، لخدمة الحقيقة والنعمة الفائضتين من المسيح على الجميع، ولتعزيز اتحاد كل انسان اتحاداً شخصياً بالثالوث الالهي، ووحدة الجنس البشري[8]. ليست رسالتها ان ترسم  او تعتمد نظاماً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً محدداً، لان الهدف الذي رسمه لها مؤسسها الالهي هو لتكوين جماعة البشر وتثبيتها وفق الناموس الالهي. لكنها تستطيع، بل يجب عليها،عندما يلزم وبحسب ظروف المكان والزمان، ان تقوم بمبادرات تهدف الى خدمة الجميع وخاصة المعوزين، كالاعمال الخيرية والثقافية والاجتماعية والطبية.[9]

كون مهمة الكنيسة  دينية، وبالتالي معنية بتنظيم علاقة المؤمن بربه وباخيه الانسان ومجتمعه وبسائر المخلوقات، على المستوى الروحي والاخلاقي، فإن الكنيسة تقوم بنشاطات ذات طابع وطني تختص بالانسان في كرامته الشخصية وحقوقه ومصيره الابدي، وبالمجتمع لقيام عدالة اجتماعية ومساواة في الحقوق والواجبات وسلامة الاخلاق والتضامن والتعاون لتأمين الخير العام، وبالوطن من ناحية سلامة اراضيه وسيادته واستقلاله وشرفه ووحدته.[10]

 

الاستقلالية

2. لكل من  الكنيسة والدولة استقلاليتها الواحدة عن الاخرى في حقل عملها الخاص. فالكنيسة تتنظم باشكال تلبي حاجات المؤمنين الروحية، فيما الجماعة السياسية تنشىء مؤسسات وعلاقات لخدمة كل ما يؤدي الى الخير العام الزمني. لكن الاستقلالية تدعو الكنيسة والدولة الى التفاهم من دون تخالط، والى التقارب من دون تصارع. والشراكة تعني ان الكنيسة لا تنافس السلطة السياسية بل تقرّ بصلاحية المجتمع المدني والسياسي واستقلاليته، وفي الوقت عينه تنتظر الكنيسة من الدولة ان توفر لها الظروف والشروط اللازمة لتأدية رسالتها.

       

***

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

        نبدأ مع هذا الاسبوع الاول من زمن العنصرة بتقبّل النص المجمعي السادس عشر: "الكنيسة المارونية والتربية: التعليم العام والتقني".

        1. يبدأ النص بالتأكيد ان " التربية والتعليم وسيلة اساسية تعتمدها الكنيسة، لتقوم بدورها كأم ومعلمة، بحيث تكون خادمة لشعبها فيما تقدم للاجيال الطالعة أفضل علم مع التربية على القيم الانجيلية والتقاليد المسيحية والمبادىء الوطنية، مقدمة "للطلاب الرب يسوع مثالاً أعلى ورفيقاً اميناً وهدفاً اسمى" (تمهيد).

        هذا النص المجمعي موجّه الى الجماعة التربوية المؤلفة من السلطة الكنسية الامينة على رسالة المدرسة، والادارة المؤتمنة على رسم خطوط الرسالة التربوية، والمعلمين وسائر المربين الذين يقومون بالمهمة التعليمية والتربوية، والتلامذة الذين هم الهدف في هذه العملية، والاهل الذين اولوا المدرسة ثقتهم وامّنوها على مصير ابنائهم وبناتهم ( تمهيد).

        يتألف النص من ثلاثة فصول: الاول يستعرض تاريخ خدمة التعليم والتربية في الكنيسة المارونية؛ الثاني يحدد معضلات هذه الخدمة اليوم؛ الثالث يشير الى تطلعات الكنيسة وخياراتها (فقرة 1).

        2. بدأت رسالة التعليم والتربية في الكنيسة المارونية في عهد مار مارون وبوهح مدرسة انطاكية. فتميّز التعليم بانه علاقة شخصية بين المعلم وتلميده، بحيث يكون الاول مثالاً للثاني. ونمت الرسالة التعليمية مع نتاج مدرسة انطاكية، ترجمةً ونسخاً وتأليفاً وتفسيراً للكتب المقدسة واللاهوت، فضلاً عن ترجمة فلسفة ارسطو من اليونانية الى السريانية. ثم راحت تنتشر هذه التربية من خلال الاديار والكنائس على يد تلامذة مار مارون والرهبان والكهنة ( فقرة 2).

        3. بعد القرن العاشر بدأت حركة الارساليات اللاتينية من الغرب على يد الرهبان الفرنسيسكان اولاً ثم الدومينيكان من اجل التفاعل الثقافي، وبفضل مساعٍ من البطريرك موسى سعاده العكاري والبطريرك مخايل الرزي، اسس البابا غريغوريوس الثالث عشر المدرسة المارونية في روما سنة 1584، وأسند الى الآباء اليسوعيين ادارتها. فخرّجت عباقرة في العلوم والفلسفة واللاهوت، والشعر والاداب والرياضيات والتاريخ والقانون واللغات الحديثة والقديمة. وتأسست مطبعة دير قزحيا سنة 1585. واسس يوحنا مخلوف اول معهد اكليريكي في دير سيدة حوقا سنة 1624 وفي سنة 1734 انشأ الخوري اندراوس اسكندر مدرسة في جزيرة قبرص. اما من بين الذين تثقفوا في الغرب، قبل انشاء المدرسة المارونية في روما، العلامة المطران بطرس جبرايل ابن القلاعي الفرنسيسكاني الاصل، الذي عاد الى لبنان سنة 1443 (الفقرات 4-5). 

***
 

صلاة 

        هلّم ايها الروح القدس، وثبّتنا في مفاعيل معموديتنا وهب لنا مواهبك السبع: الحكمة والمعرفة والفهم لتنير عقلنا وايماننا، فنلج الى  سرّ معرفة الله والذات والانسان؛ المشورة والقوة لتوجّها خياراتنا الحرّة وتسندا ارادتنا صامدة في الخير، وتشدّدا رجاءنا؛ التقوى وخوف الله لتظل محبة الله مشتعلة في قلوبنا فنعلب الشر ونرضي الله في كل شيء. ونرفع المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الأبد، آمين.


[1] . عظة البابا بندكتوس السادس عشر، عيد العنصرة،4 حزيران 2006.

[2] . المرجع نفسه.

[3] . الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني: الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم،3.

[4] . المرجع نفسه،6.

[5] . المرجع نفسه،12.

[6] الدستور العقائدي قي الكنيسة،4 ؛ الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم،25.

[7] الكنيسة في عالم اليوم،74.

 رجاء جديد للبنان،19.[8]

[9] الكنيسة في عالم اليوم، 42/2.

[10]   انظر رسالة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لصوم 1990: في الكنيسة والسياسة، ص 6-12.

 


 

عيد الثالوث الاقدس

روم 11/25-36

متى 28/16-20

الشركة مع الله الثالوث ورسالة الكنيسة

 

تحتفل الكنيسة اليوم بعيد الثالوث الاقدس والاله الواحد، الآب والابن والروح القدس، من بعد ان انكشف لنا سرّ الله الواحد في الطبيعة والجوهر والمثلث الاقانيم، عبر سرّي  التجسد والفداء بالابن الالهي، المرسل من الآب، وعبر سرّ التقديس بالروح القدس، المرسل من الآب والابن. ونذكر اليوم ايضاً انطلاقة الكنيسة لتواصل رسالة الرب يسوع الخلاصية المثلثة: التعليم والتقديس والرعاية او التدبير. الثالوث الاقدس هو مصدر هذه الرسالة، فباسم الآب والابن والروح القدس تتم؛ وهو غاية الرسالة لانها تعلنه وتدخل المؤمنين في الشركة معه.

 

اولاً، سرّ الله الواحد والثالوث ورسالة الكنيسة

 

انجيل القديس متى:28: 16-20

        أَمَّا التَّلامِيذُ الأَحَدَ عَشَرَ فذَهَبُوا إِلى الـجَلِيل، إِلى الـجَبَلِ حَيثُ أَمَرَهُم يَسُوع. ولَمَّا رَأَوهُ سَجَدُوا لَهُ، بِرَغْمِ أَنَّهُم شَكُّوا. فدَنَا يَسُوعُ وكَلَّمَهُم قَائِلاً: "لَقَدْ أُعْطِيتُ كُلَّ سُلْطَانٍ في السَّمَاءِ وعَلى الأَرْض. إِذْهَبُوا إِذًا فَتَلْمِذُوا كُلَّ الأُمَم، وعَمِّدُوهُم بِاسْمِ الآبِ والا بْنِ والرُّوحِ القُدُس، وعَلِّمُوهُم أَنْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُكُم بِهِ. وهَا أَنَا مَعَكُم كُلَّ الأَيَّامِ إِلى نِهَايَةِ العَالَم".

 

1.    الثالوث القدوس اساس ايمان المسيحيين

 

سرّ الثالوث الاقدس هو السّر المركزي والاساس للايمان والحياة المسيحية: فهو سرّ الله في ذاته، ونبع جميع اسرار الايمان، والنور الذي يجليها، وهو التعليم الاساسي والجوهري في تراتبية حقائق الايمان, ذلك ان تاريخ الخلاص ليس سوى تاريخ الطريق والوسائل التي اعتمدها الاله الحق والواحد، الآب والابن والروح القدس، في الكشف عن ذاته، وفي مصالحته مع الجنس البشري، وفي اتحاده مع الناس الذين يبتعدون عن الخطيئة[1].

       

         اعلن الله عن نفسه ثالوثاً بالوحي والاعمال[2]

        الآب كشف عن نفسه بالابن. فالله ليس أباً كخالق فقط، ولكنه منذ الازل آب بالنسبة الى علاقته بالابن، الذي هو  "ضياء مجده وصورة جوهره" (عبرا1/3). في كثير من الاديان يسمى الله اباً ، لا من حيث الجوهر كما كشفه الابن، بل من حيث علاقته بالخلق والجنس البشري: فالله " اب" لانه جودة وعناية ومحبة لجميع ابنائه.

        والابن كشف عن نفسه، عندما تجسّد من مريم في بشريته بقوة الروح القدس، مرسلاً من الآب، ليفتدي جميع البشر. انه صورة الله غير المنظور(كولسي15:1)، و"مساوٍ للآب في الجوهر" أي اله واحد معه، كما اعلن مجمع نيقيه سنة 325، وهو " ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل الدهور، نور من نور ، اله حق من اله حق، مولود غير مخلوق"، كما اعلن مجمع القسطنطينية سنة 381.

        والروح القدس كشف عن نفسه بحلوله على الرسل ومريم، الكنيسة الناشئة، يوم العنصرة، (اعمال2: 1-13). انه " البارقليط الآخر" بالنسبة الى الاول يسوع المسيح، الذي " يعزي" في الشدة، و" يدافع" في المحنة، و" يقود الى الحقيقة الكاملة" بالالهام والتعليم والتذكير. انه الرب الحي والمحيي المنبثق من الآب منذ الازل، والمرسل من الآب والابن في الزمن لكي يتمم  التقديس النابع من استحقاقات الفداء.

        الخلق والفداء والتقديس ثلاثة اعمال الهية مرتبطة بكل واحد من اقانيم الثالوث القدوس كعمله الخاص، نذكرها في نافور القداس وهي: الخلق عمل الآب ، الفداء عمل الابن، التقديس عمل الروح القدس. لكنها كلها في الوقت عينه العمل المشترك للثالوث كله. ذلك ان لأشخاص الثالوث، المميزين الواحد عن الآخر بالعلاقات التي تربط في ما بينهم، طبيعة واحدة وبالتالي قوة واحدة وعملاً واحداً. لا يتقاسم الاقانيم الثلاثة الطبيعة الالهية الواحدة، بل كل اقنوم هو اله كامل . لسنا نؤمن بثلاثة آلهة بل باله واحد في الطبيعة ومثلث في الاقانيم. والله واحد وليس متوحداً (التعليم المسيحي، 254).

 لنا اجمل تشبيه لفهم الثالوث القدوس في الشمس، كمصدر وشعاع ونور. من هذا التشبيه نأخذ صورتين الانبثاق والارسال. فالانبثاق هو في داخل جوهر الله الذي لا بداية له ولا نهاية من الآب المصدر، انبثق الابن، ونسميه مولوداً منذ الازل، ومن الآب والابن انبثق الروح القدس. اما الارسال فقد تمّ في الزمن ويستمرُّ فاعلاً في التاريخ حتى نهاية الازمنة. الآب ارسل الابن كشعاع الشمس، والآب والابن ارسلا الروح القدس كحرارة وقوة ونور.

 

2.    الشركة مع الثالوث القدوس اساس الشركة بين الناس

 

بالروح القدس ندخل في شركة عامودية مع الله الواحد والثالوث، وفي شركة افقية مع الناس. كل تدبير الله الخلاصي، خلقاً وفداءً وتقديساً، يهدف الى ادخال جميع الخلائق في الوحدة الكاملة مع الثالوث وفي السعادة الالهية. بالشركة العامودية يتحد المؤمنون بالله ويصبح كل واحد منهم سكنى الله الثالوث، كما يؤكد الرب يسوع: " من يحبني، يحفظ كلمتي، وابي يحبه، واليه نأتي وعنده نجعل منزلاً" (يو14/23)، وتتحقق وحدة الجنس البشري. ان الكنيسة هي اداة  الاتحاد ووحدة الجنس البشري وعلامتهما، انها تعمل برسالتها على تحقيق الشركة مع الله الثالوث والوحدة بين الناس. وهي بذلك اداة المسيح الذي يرسلها الى جميع الامم بسلطان التعليم والتقديس والتدبير.

العائلة المسيحية هي شركة اشخاص على صورة شركة الآب والابن في الروح القدس. وكون مهمتها الخلق بنقل الحياة البشرية، والتربية على الدخول في الشركة مع الله والناس، فالعائلة انعكاس لعمل الآب الخالق، ولعمل الكنيسة الام والمعلمة. نقرأ في الارشاد الرسولي، " رجاء جديد للبنان" انه " انطلاقاً من الاسرة اولاً ينتقل الايمان المسيحي من جيل الى جيل، ويحاك النسيج الاجتماعي" (فقرة46). بالصلاة تعيش الاسرة شركتها مع الثالوث وبين افرادها وبالتالي مع الكنيسة والمجتمع. تستمر رسالة الكنيسة في قلب من يصلي، لان القلب يُشبّه بالمذبح، والصلاة هي دائماً صلاة الكنيسة[3] .

 

3.    رسالة الكنيسة باسم الثالوث القدوس

 

الكنيسة، جسد المسيح السرّي او " المسيح الكلي"، تواصل رسالة المسيح التاريخي بسلطانه نفسه: " اعطيت كل سلطان في السماء وعلى الارض، كما ارسلني ابي ارسلكم انا ايضاً "(متى28:18). هذا يعني ان الرعاة في الكنيسة، الاساقفة والكهنة معاونوهم، يقومون برسالة الخلاص الشامل باسم المسيح وبشخصه. تهدف الرسالة الى اعلان الشركة وتحقيقها في بعديها العامودي والافقي، الالهي والبشري، من خلال التعليم والتقديس والتدبير(متى28: 19-20).

التعليم ، مهمة نبوية تُشرك في مهمة المسيح النبوية: " امضوا وتلمذوا كل الامم". انها الكرازة بانجيل الخلاص لكل انسان ولجميع الشعوب. فكلام الله يولّد الايمان بالثالوث ويغذيه ويحييه في الشركة العامودية، ويجمع المؤمنين في الحقيقة وحضارة المحبة في الشركة افقية.

التقديس ، مهمة كهنوتية تُشرك في مهمة المسيح الكهنوتية: " وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". انها خدمة النعمة بحلول الروح القدس فينا مع كل محبة الآب واستحقاقات الابن الخلاصية، وبها نتقدس (الشركة العامودية). في هذه الخدمة التقديسية التي تتم بواسطة العبادة الالهية، الليتورجيا والاسرار، تلتقي الجماعة وتتألف موحّدة برباط الروح القدس (الشركة الافقية).

التدبير، مهمة ملوكية تُشرك في مهمة المسيح الملوكية: " وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به". أوصانا بان نحب الله من كل قلبنا وفكرنا وقوتنا (الشركة العامودية)، وبان نحب قريبنا كنفسنا بكل ابعاد هذه المحبة الاجتماعية والثقافية والوطنية والانسانية (الشركة الافقية).

ان المسيح الاله، من خلال عمله المشسترك مع الآب والروح القدس، يسند هذه الرسالة الى الكنيسة، ويضمن استمراريتها ونجاحها: " وها انا معكم جميع الايام، الى انتهاء العالم" (متى28: 20).


***

 

ثانياً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

في موضوع " العلاقة بين الكنيسة والدولة"، رأينا ما بينهما من تمايز واستقلالية. وتعرض " الشرعة" مفهوم علمنة الدولة في هذا الضوء. ثم تبيّن التعاون الذي ينبغي ان يقوم بين الكنيسة والدولة.

 

1.    العلمنة

 

 اعتمدت بعض الدول الغربية " علمنة الدولة" اي الفصل بين الدين والدولة. اما لبنان فاتخذ صيغة  "الدولة المدنية" التي تحترم الاديان عقيدة وممارسة. ان كلاً من الصيغتين تعني سيادة الدولة واستقلالها في حقل النظام الزمني، وحقها دون سواها في الادارة اليومية للشأن السياسي والقضائي والاداري والمالي والعسكري في اطار المجتمع،  وبشكل عام في ادارة كل ما يرتبط بالتقنية السياسية والاقتصادية. كما تعني ان على الدولة ان تصون حرية المعتقد والعبادة في البلد المتعدد دينياً.

        لكن الكنيسة لا تقبل  "بعلمنة الدولة " اذا كانت تعني عقيدة فلسفية تحتوي على مفهوم مادّي وملحد للحياة البشرية والمجتمع ، واذا كانت الدولة تعتبر هذا المفهوم نظاماً سياسياً أوحد للحكم، وتريد فرضه على المواطنين، حتى في حياتهم الخاصة ، وعلى المدرسة والجامعة، وعلى الامّة باسرها. ولا تقبل بها اذا كانت تعني ارادة الدولة في عدم الخضوع لاي سلطة معنوية اعلى ، وفي الاعتراف فقط بمصلحتها كقاعدة لعملها.  ففيما الكنيسة تحترم الدولة وانظمتها وبرامجها السياسية، فانها لا تتدخل في هذه الانظمة والبرامج إلاّ من ناحية نتائجها الدينية والخلقية[4]. ولهذا لا يمكنها ان تقف مكتوفة الايدي  عندما تُنتهك حرمة الانسان  والقواعد الدينية والخلقية، وكأن الله لا انزل وصايا ولا سّن شرائع، ولا "ارسل ابنه الى العالم ليحيا به العالم" (1يو4/9).

 

2.    التعاون بين الكنيسة والدولة

 

         من الواجب قيام تعاون وثيق بين الكنيسة والسلطة السياسية من اجل الخير العام وخيرهما المشترك، يتم على قاعدة التفاهم والاحترام.  ففصل الدين عن الدولة لا يعني حالة تجاهل او عداء بينهما، بل يقتضي اعترافاً متبادلاً وتضافراً للجهود، مع التكامل على اساس التنسيق والتخطيط المشترك، وصولاً الى التضامن في سبيل انماء شامل للشخص البشري وللمجتمع انماءً شاملاً ومتكاملاً. وبمقدار ما يقوم بينهما من تعاون سليم، تكون خدمتهما للجميع اكثر فعالية.[5]

يوجب هذا التعاون على السلطة السياسية ان تدرك ما للدين من دور وواقع. " فالدولة مهما كان لونها ونظامها، ينبغي عليها ان تستنجد بالقيم الروحية، وتستلهمها كمرجع قادر على ان يغذي نسيج المجتمع السريع العطب ويقويه [6] وعلى الدولة الاعتراف القانوني بهوية الكنيسة، لان رسالتها تشمل كل الواقع البشري. والكنيسة تشعر بأنها متضامنة بعمق مع الجنس البشري وتاريخه[7]. فتطالب بحرية التعبير والتعليم والتبشير بالانجيل، وحرية العبادة العلنية، وسواها من الحريات العامة[8].

ويوجب التعاون على الكنيسة ان تعترف بواقع الدولة ونظرتها السليمة الى الحياة والناس والاشياء، وان تشجع المؤمنين على حسن التعاطي معها، وتدعوهم الى العمل باخلاص مع مؤسساتها على قاعدة العدالة والمحبة؛ وان تربي ضمير المواطنين على محبة الوطن وعلى احترام الدولة واجهزتها ومؤسساتها والمحافظة عليها وتنميتها، والخضوع لقوانينها؛ وان تحثهم على واجب تحمّل المسؤوليات فيها؛ وان تعزز خلقية المجتمع؛ وان تساهم في الخدمة العامة من خلال مؤسساتها الاجتماعية والثقافية والانمائية.

ويوجب التعاون بين السلطة السياسية والكنيسة، عند الحاجة، ابرام اتفاقيات بينهما تحمي  حقوق الكنيسة وممتلكاتها ومؤسساتها ورسالتها، ما يضمن العلاقات المتناغمة بينهما، ويجنبّهما الخلافات[9].

 

 يبقى من حق الكنيسة وواجبها ان تحكم في صلاح الافعال البشرية وشرها من حيث تقييم هذه الافعال في ضوء الشريعة الالهية والادبية. انها تعطي " حكمها الادبي " في جميع الشؤون، بما فيها الشأن السياسي، عندما تقتضي ذلك حقوق الشخص البشري الاساسية وخلاص النفوس.[10] كل نظام او اداء  سياسي  يهدد كرامة الانسان وحياته انما يمسّ الكنيسة في صميم فؤادها وايمانها بابن الله الذي بتجسده وفدائه، اتّحد نوعاُ ما بكل انسان. فلا يحق لها ان تصمت عن المظالم، بل عليها ان تتسلّح بالجرأة وتعطي صوتاً لمن لا صوت له، وتعيد دوماً صرخة الانجيل في الدفاع عن بؤساء هذا العالم والمهدّدين والمحتقرين والمستضعفين والمحرومين من حقوقهم الانسانية. ولا يستطيع أحد ان يوقفها عن ذلك.[11]     

على الكنيسة ان توجّه الضمائر وتنيرها، لكنها لا تحكم في فائدة هذه السياسة او غيرها، ولا في تناسب هذا الاقتصاد ولا في وجهه العلمي، بحيث يتصرف العلمانيون في الشؤون الزمنية في ضوء ضميرهم المستنير، لان ما من عمل بشري، حتى في الشأن الزمني، يستطيع التفلّت من سلطة الله.[12] ومن ناحية اخرى، لا تعتنق الكنيسة اي نظام سياسي خاص، ولا يمكنها ان تتلون بهذا او ذاك من الالوان السياسية، بل ترضى بكل اداء ونظام يضمن للانسان حقوقه وخيره واستقراره وكرامته، ويفسح في المجال لجميع المواطنين ليحققوا شخصيتهم في مناخ من الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص.[13]

 

***


 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

        تتابع الخطة تقبّل النص المجمعي السادس عشر: في التعليم العام والتقني، وتحدد المراحل التاريخية التي سلكتها رسالة التعليم والتربية في الكنيسة المارونية.

        1. اعطى المجمع اللبناني ( 1736) دفعاً جديداً لحركة العلم والمعرفة، فشدد على تعميم التعليم للصبيان والبنات، والزاميته ومجانيته. وطلب من الاساقفة والكهنة والرهبان والراهبات تولي هذه المهمة وايجاد معلمين ومعلمات كفوئين، وحدد مواد التعليم وكيفية تأمين كلفته (انظر الفقرة 6).

        2. تحقيقاً لهذا التوجّه، بدأت " مدارس تحت السنديانة" في القرى، الى ان حوّل البطريرك يوسف اسطفان دير عبن ورقه الى مدرسة اكليريكية وعامة سنة 1789، التي خرجّت رجالات علم وسياسة وقلم، كان لهم الدور الريادي في انعاش النهضة العربية في ارجاء الشرق. نذكر من بينهم بشاره الخوري ورشيد الدحداح وفارس الشدياق وبطرس البستاني ونعوم مكرزل. فكانت هذه المدرسة بمثابة الحجر الاساس للمدارس الاخرى التي أنشأها البطاركة: مدرسة دير مار يوحنا مارون في كفرحي ( 1812)، مدرسة دير الرومّية (1817)، مدرسة صربا ( 1827)، مدرسة دير مار عبدا هرهريا (1830)، مدرسة دير مار يوسف ريفون (1832). والكل بفضل علاقة الموارنة باوروبا عامة، وبايطاليا وفرنسا خاصة. ثم اسس المطران يوحنا حبيب مدرسة الكريم (سنة 1872)، والمطران يوسف الدبس مدرسة الحكمة سنة 1875، والمطران يوسف جعجع ويوسف الزغبي مدرسة مار يوسف في قرنة شهوان سنة 1884 ( فقرة 7 و8).

        3. وكانت حركة ناشطة في تأسيس المدارس من قبل الرهبانيات المارونية واللاتينية: فأسس الاب بطرس مبارك اليسوعي مدرسة عينطوره سنة 1728، وتأسست مدرسة مشابهة في زغرتا سنة 1735، الى جانب مدارس في بلدان الانتشار (فقرة 9 و10).

        4. اليوم وقد كثرت المدارس الكاثوليكية في لبنان، تعنى بشؤونها المشتركة اللجنة الاسقفية للمدارس الكاثوليكية مع امانتها العامة (فقرة11). 

***
صلاة
 

        ايها الثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، ظللنا بمحبتك وقدّسنا بنعمتك واحيينا بروحك. هلّم واسكن فينا، لنعيش ملء الشركة والاتحاد بك، ووحدة الشركة فيما بيننا. فها نحن، ارسلنا، بحكم المعمودية والدرجة المقدسة، لنواصل رسالة المسيح بالتعليم والتقديس والتدبير، لكي يبلغ كل انسان الى الخلاص، ويُبنى ملكوتك في عالمنا، ملكوت الحقيقة والقداسة والمحبة. لك المجد والشكران، ايها الآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،234.

[2] المرجع نفسه، 238-248.

[3] المرجع نفسه، 2655.

[4]  البابا يوحنا بولس الثاني: السنة المئة،47.

[5]  رسالة البطريرك لصوم 1990، الفقرات 30-38؛ الكنيسة في عالم اليوم،76

[6]  الكردينال روجيه  اتشغاري: الاوسرفاتوري رومانو بالفرنسية، عدد 35 تاريخ 31 آب 1999.

[7]  الكنيسة في عالم اليوم،1

[8]  البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة الى رؤساء الدول موقعي معاهدة هلسينكي (اول ايلول 1980)،4.

[9]  انظر المجلس الحبري للعدالة والسلام: مختصر تعليم الكنيسة الاجتماعي (بالايطالية)، عدد 427.

[10] الكنيسة في عالم اليوم 76؛ كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،2246.

[11] انجيل الحياة، 5؛ فادي الانسان،13.

[12] الدستور العقائدي في الكنيسة، 36.

[13] الكنيسة في عالم اليوم، 76.

 


 

الاحد الثالث من زمن  العنصرة

1 كورنتس 2: 1-10

يوحنا 14 :21-27

المؤمن سكنى الله الثالوث

 

زمن العنصرة هو زمن الروح القدس الذي يهدي الكنيسة في اعلان سرّ المسيح وتحقيق ثمار الفداء في المؤمنين به. يتحدث بولس الرسول في رسالته هذا الأحد عن الوسيلة التي يمنحها الروح للكنيسة لكي تؤدي خدمة اعلان سرّ المسيح، وهي " حكمة الله"، اولى مواهب الروح القدس. اما الانجيل فيتكلم عن عمل الروح القدس في الكنيسة: يعلّم ويذكّر بما قاله كلمة الله المتجسّد، وعن ثمار الفداء التي يحققها في المؤمنين وهي سكنى الله الثالوث فيه.

 

اولاً، عمل الروح القدس في الكنيسة من خلال قراءات هذا الاحد

 

رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل كورنتس:2/ 1-20

 

وأَنَا، أَيُّهَا الإِخْوَة، لَمَّا أَتَيْتُكُم لأُبَشِّرَكُم بِسِرِّ الله،  لَمْ آتِ بِبَرَاعَةِ الكَلاَمِ أَوِ الـحِكْمَة؛ لأَنِّي قَرَّرْتُ أَنْ لا أَعْرِفَ بَيْنَكُم شَيْئًا إِلاَّ يَسُوعَ الـمَسِيح، وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا! وقَدْ جِئْتُ إِلَيْكُم بِضُعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ شَدِيدَة. ولَمْ يَكُنْ كَلامِي وَتَبْشِيري بِكَلِمَاتِ الْحِكْمَةِ والإِقْنَاع، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالقُدْرَة، لِئَلاَّ يَكُونَ إِيْمَانُكُم قَائِمًا عَلى حِكْمَةِ النَّاس، بَلْ عَلى قُدْرَةِ الله. غَيْرَ أَنَّنَا نَنْطِقُ بِالـحِكْمَةِ بَيْنَ الكَامِلين، ولـكِنْ لا بِحِكْمَةِ هـذَا الدَّهْر، ولا بِحِكْمَةِ رُؤَسَاءِ هـذَا الدَّهْرِ الَّذِينَ مَصِيرُهُم إِلى الزَّوَال. بَلْ نَنْطِقُ بِسِرِّ حِكْمَةِ اللهِ المَحْجُوبَة، الَّتي سَبَقَ اللهُ  فَحَدَّدَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا. وهيَ الـحِكْمَةُ الَّتي لَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ  هـذَا الدَّهْر، لأَنَّهُم لَوْ عَرَفُوهَا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الـمَجْد. ولـكِنْ، كَمَا هوَ مَكْتُوب: "مَا لَمْ تَرَهُ عَيْن، ولَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُن، ولَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَر، قَدْ أَعَدَّهُ اللهُ  لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ". لـكِنَّ اللهَ أَعْلَنَهُ لَنَا بِرُوحِهِ، لأَنَّ الرُّوحَ يَسْبُرُ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ الله.

 

        1. سرّ الله الظاهر في شخص المسيح ابن الله المتجسد الذي ارسله الآب، وفي شخص الروح القدس الحالّ في الكنيسة، جسد المسيح السرّي، مرسلاً من الآب والابن، لا يُعرف ولا يُعلن بحكمة البشر وببراعة الكلام، بل بالايمان بيسوع المسيح الذي صُلب للتكفير عن خطايانا، وقام لتقديسنا.

        انه الايمان بقدرة الله وحكمته الفاعلة فينا، لا بقدرة البشر وحكمتهم، فمصير هذه الاخيرة الى الزوال. اما حكمة الله فهي محجوبة منذ الازل، وقبل الدهور، وقد اعلنت بالابن المتجسد، يسوع المسيح، وبالروح القدس الذي " يسبر كل شيء حتى اعماق الله".

        بارسال الابن والروح القدس اصبحت الاقانيم الالهية الثلاثة حاضرة شخصياً في الكنيسة، سرّ المسيح الكلي. وفي كل مؤمن. ويُسمى هذا الحضور " السكنى الالهي"، بحيث يعلن الله الواحد والثالوث ذاته ويعطيها.

        في هذا " السكنى الالهي" يستبق المؤمن بنور الايمان مشاهدة " ما لم تره عين، ولم تسمع به اذن، ولم يخطر على قلب بشر ما عدّه الله للذين يحبونه".

        ان الحكمة، اولى مواهب الروح القدس، هي نور العقل والايمان، الذي يجعلنا ننظر الى شؤون الارض والسماء من منظار الله، انطلاقاً من الوحي الالهي. فما يوحيه الله حقيقة مطلقة. هكذا نفهم قول الرب يسوع في انجيل اليوم: " الروح القدس البارقليط-اي المشير والمحامي الذي يرسله اليكم ابي باسمي، هو يعلّمكم كل شيء، وهو يذكّركم بكل ما اقوله لكم" (يو14/26).

 


 

1.     المؤمن سكنى الثالوث

 

        " من يحبني يحبه ابي، وانا احبّه، واليه نأتي ، وعنده نجعل منزلاً " (يو14/23).

        انها شركة الحب بين الله والانسان، تتم بالروح القدس. الثالوث القدوس يسكن في الانسان . لفظة  "سكنى الله " هي عينها كلمة بولس الرسول: " نحن هيكل الروح القدس "  (1كور6/19). تعني حضور او سكنى الاقانيم الالهية الثلاثة فينا. " روح الرب يسكن فيكم"  (روم8/9)، يقول بولس لاهل روميه . هذه السكنى ، في اطار حياتنا على الارض ، تعني ان الحياة الالهية معطاة لنا بشكل محجوب ، انما تدريجياً، مثل " عربون " (2كور1/22)، و"باكورة" (روم8/23) للميراث الموعود. ان الغاية الاخيرة من كل تدبير الله الخلاصي هي دخول الخلائق في الوحدة الكاملة مع الثالوث القدوس. نحن مدعوون ، منذ هذه الحياة التاريخية ، لنكون سكنى الثالوث.

صلّت الطوباوية اليزابيت الثالوث ( Elizabeth de la Trinité) هكذا : " يا ربي، ايها الثالوث الذي اعبد ، اجعل مني سماءك ، سكناك المحبَّبة ، ومكان راحتك . فلن اتركك فيَّ لوحدك ، بل اكون هناك بكليتي ، واعية لحضورك بايماني ، وعابدة لك بجملتي ، ومنفتحة كلياً لفعلك الخلاّق "[1].

        سكنى الثالوث فينا تُنتج واقعين في كياننا الداخلي:

        أ- البنوة الالهية: " انظروا كم هو عظيم حب الآب لنا، حتى انه دعانا وجعلنا ابناء" (1يو3/1)، تبنانا بأبنه (افسس1/5) ، ووسمنا بشبه صورة ابنه ، الذي هو البكر لاخوة كثيرين (روم8/29). لقد نلنا هذه البنوة بالمعمودية ، ولنا كان  الصوت الذي سُمع يوماً على ضفاف الاردن : " انت ابني الحبيب ، الذي به سُررت " (لو3/22). هو الروح القدس يجعلنا بالمعمودية ابناء الله وبناته . يقول بولس الرسول : " هذا هو الدليل على انكم ابناء ، ان روح ابنه ، الذي ارسله الله ، هو في قلوبكم " (غلا4/6؛روم8/15-16).

        ب- التأليه ((divinisation : " مكتوب انكم آلهة " (يو10/35).

        هو العلاقة الحقيقية والحية التي يخلقها الله فينا بحبه: الله يحبنا . يأتي الينا ويأتي فينا ، يُتحدنا به  يجعلنا على شبهه ، يشركنا بحياته . يقول آباء الكنيسة : " يؤلهنا " ، في ضوء كلمة الرب يسوع : " مكتوب في الشريعة : "انا قلت انكم آلهة " (يو10/35)، وكلمة بولس الرسول في أريوباح آثينا : " الاله الذي خلق العالم وجميع ما فيهلم يكن عن احد منا بعيداً . ففيه نحن نحيا ونتحرك ونكون . وكما قال بعض حكمائكم : ان أصلنا منه"(اعمال17/24-28). اختبر بولس الرسول هذه الحقيقة قائلاً : " لست انا أحيا ، بل المسيح هو الذي يحيا فيّ"(غلا2/20).

        انه عمل الروح القدس الذي نلتمسه في ذبيحة القداس لكي يقدس القرابين ويقدّس متناوليها. نقول في نافور القداس : استجبنا يا رب وارسل روحك علينا وعلى هذه القرابين: على الخبز والخمر لكي يصبحا جسد المسيح ودمه ، وعلى المؤمنين لكي يصبحوا هم ايضاً مقدسين ، محوَّلين ، مؤلَّهين.

 

****

 

ثانياً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان.

 

        تتناول " الشرعة" في قسمها الثاني " خصوصية لبنان" اي ما يتصّف به كوطن له كيانه وقيمته الحضارية وميثاقه وصيغته ورسالته ونموذجيته. نعرض اليوم لبنان الوطن والكيان.

لبنان وطن سيّد حرّ مستقل، نهائي لجميع ابنائه، واحد ارضاً وشعباً ومؤسسات في حدوده المعترف بها دولياً. عربي الهوية والانتماء، عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، وعضو مؤسس وعامل في منظمة الامم المتحدة وملتزم مواثيقها والاعلان العالمي لحقوق الانسان. وهو جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز او تفضيل. شعبه مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية . ارضه  واحدة لكل اللبنانيين، فلا فرز للشعب على اساس اي انتماء كان، ولا تجزئه ولا تقسيم ولا توطين. لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك[2].

 " نهائية الكيان اللبناني" تضع كل اللبنانيين، الذين لهم فيه وجود مؤسس، امام واجب مقدس هو الدفاع عن استقلاله، وسيادة دولته الكاملة، وحرية ابنائه في أخذ قراراتهم المصيرية، والوقوف في وجه أي محاولة أو احتلال لاراضيه وانتقاص لسيادته[3].

"عضوية لبنان في منظمة الامم المتحدة" تعني التزامه باهدافها ومبادئها التأسيسية اي خير العائلة البشرية الشامل والرغبة في السلام، والبحث عن العدالة، واحترام الشخص، والتعاون الانساني؛ كما تعني التزامه  "الاعلان العالمي لحقوق الانسان" بشموليتها وعدم تجزئتها، وبترابطها [4]؛ وتقتضي  التمسّك بقرارات الشرعية الدولية، والمطالبة بتطبيقها كاملة، للحفاظ على كيانه ومصالح شعبه، ولحمايته من المطامع[5].

و"عضوية لبنان في جامعة الدول العربية"، تجعله ملتزماً بقضايا العالم العربي ومشاركاً اساسياً في ثقافتها ومساهماً في ترقي شعوبه[6] .

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

        فيما تواصل الخطة التطبيقية تقبّل النص المجمعي السادس عشر: في التعليم العام والتقني، نبدأ بعرض الفصل الثاني عن " تحديات الواقع الحالي" وهي ترتبط بصياغة التربية الشاملة، وانجاز التعليم النوعي والتعلّم للجميع، والجودة الشاملة في العمل التربوي.

1.    المدرسة المربية بين عدة مربين (الفقرة 13).

التحدي الكبير الذي تواجهه المدرسة اليوم هو ان تربي على القيم الروحية والانسانية والاجتماعية، وعلى العقلانية واحترام كرامة الذات والآخر؛ وان تربي على الواجب والالتزام مكان التراخي، وعلى بذل الذات مكان اللذة، وعلى التآخي مكان الفردية، وعلى الحوار مكان العنف والعصبية.

فقد كثر المربون الذين، بسبب الانحراف عن دورهم وواجبهم، يؤثرون سلباً على اجيال الطالعة. وهؤلاء المربون هم العائلة والدولة ووسائل الاعلام والمحيط المباشر والمجتمع الاوسع. الامر الذي يضع المدرسة في خط المواجهة لقضية تربوية اساسية.

 

2.    المدرسة والتربية الشاملة ( الفقرة 14).

اهمية المدرسة في انها تؤمّن تربية شاملة تهدف الى انماء شخصية المتعلم روحياً واكاديمياً ووطنياً واجتماعياً.

على المستوى الروحي، تعمل المدرسة على تعزيز الايمان بالله، والشهادة للقيم الدينية، والعيش بموجب الانسان الجديد، والتمرس على الغفران والمصالحة والمحبة والرحمة.

على المستوى الاكاديمي، تؤمن المدرسة لطلابها المعرفة العلمية العميقة والواسعة.

على المستوى الوطني، توفّر المدرسة تربية وطنية مبنية على اسس الحرية والتعاون والمساواة امام القانون واعتماد مقياس الكفاءة واحترام حقوق الانسان، ومعرفة التراث الوطني.

على المستوى الاجتماعي، تسعى المدرسة الى تربية الشخص الانساني وفقاًُ لغايته الاخيرة في الوجود، ولخير الجماعة.

 

*** 

        صلاة

        هلّم ايها الروح القدس، وعلّمنا بحكمتك سرّ الله المحجوب وما انكشف لنا بشخص يسوع المسيح. ذكّرنا بكل ما قاله لنا الرب في حياته التاريخية. ايها الثالوث القدوس، هلّم واسكن فينا. اجعلنا هيكلك لتكون حاضراً في مجتمعنا وفاعلاً. أدخلنا في شركة البنوّة الالهية لنستعيد صورة الله فينا. لك المجد والتسبيح، ايها الآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية/260.

[2]  مقدمة الدستور اللبناني أ-د؛ ط –ي.

[3]  اعلان ثوابت الكنيسة المارونية (بكركي 6 كانون الاول 2006) صفحة2 عدد4

[4]  خطاب البابا بندكتوس السادس عشر امام الجمعية العامة للامم المتحدة في 18 نيسان 2008.

[5]  اعلان ثوابت الكنيسة المارونية، صفحة 3 عدد5.

[6]  رجاء جديد للبنان،93.

 


 

الاحد الرابع بعد العنصرة

1 كورنتس 2/11-16

لوقا 10/21-24

مدعوون لنغتني بفكر المسيح

 

        زمن العنصرة هو زمن استلهام الروح القدس لكي يعطينا فكر المسيح، ويجعلنا روحانيين، نقبل ما يقول لنا الله بروح الاطفال، بالوداعة وتواضع القلب. عن هذا الموضوع تحدثنا رسالة القديس بولس والانجيل في هذا الاحد، الذي تبدأ معه السنة الكهنوتية، وقد افتتحها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في 19 حزيران 2009.

 

اولاً، مضمون الرسالة والانجيل: الاغتناء بفكر المسيح

 

رسالة القديس بولس الاولى الى اهل كورنتس:2/11-16

 

فَمَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ مَا في الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذي فِيه؟ كَذلِكَ لا أَحَدَ يَعْرِفُ مَا في اللهِ  إِلاَّ رُوحُ الله. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ العَالَم، بَلِ الرُّوحَ الَّذي مِنَ الله، حَتَّى نَعْرِفَ مَا أَنْعَمَ بِهِ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ مَوَاهِب. ونَحْنُ لا نَتَكَلَّمُ عَنْ تِلْكَ الـمَوَاهِبِ بِكَلِمَاتٍ تُعَلِّمُهَا  الـحِكْمَةُ البَشَرِيَّة، بَلْ بِكَلِمَاتٍ يُعَلِّمُهَا الرُّوح، فَنُعَبِّرُ عَنِ  الأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ بِكَلِمَاتٍ رُوحِيَّة. فَالإِنْسَانُ الأَرْضِيُّ لا يتَقَبَّلُ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ الله، لأَنَّ ذلِكَ عِنْدَهُ حَمَاقَة، ولا يَسْتَطيعُ أَنْ يَعْرِفَ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ الله،  لأَنَّ الـحُكْمَ في ذلِكَ لا يَكُونُ إِلاَّ بِالرُّوح. أَمَّا الإِنْسَانُ الرُّوحَانِيُّ فَيَحْكُمُ عَلى كُلِّ شَيء، ولا أَحَدَ يَحْكُمُ عَلَيْه. فَمَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ لِيُعَلِّمَهُ؟ أَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الـمَسِيح!

 

        1. يحدد القديس بولس الرسول الحياة الروحية المسيحية، التي تحيي كل مؤمن وتوجّه افكاره واعماله ومواقفه، بانها اقتناء فكر المسيح، بواسطة هبة الروح القدس الذي اُعطي لنا بالمعمودية والاسرار. بفضل هذا الروح الآتي من الله، لا من العالم، يستطيع الروحاني ان  "يحكم على كل شيء".

        هذا الروح يلج الى نفس المؤمن بهباته الثلاث: النور، حامل الحقيقة؛ والحب، حضارة الله في العالم؛ والقوة، الشهادة للحقيقة والحب، والصمود فيهما وسط المحن والمصاعب. هذه الثلاث تكوّن عندنا فكر المسيح.

        الحياة الروحية هي الدخول في سرّ الحياة الالهية حيث تنجلي لنا حقيقة اساسية هي ان في الله يوجد " انا وانت". لا يعيش الله في عزلة، بل هو حدث حب ازلي، تجلّى في التاريخ بارسال الابن والروح القدس. هذا " انا وانت" في سرّ الثالوث القدوس موحى لنا في الآب الذي يكلّم الابن، والابن الذي يتكلم مع الآب بالروح القدس، المحبة الجامعة بينهما[1]. الثلاثة واحد في الطبيعة، هذا هو الله محبة (1يو4: 8). الثالوث الاقدس هو الله الواحد الوحيد. هكذا كشفه لنا يسوع المسيح، على ما يقول يوحنا الانجيلي: " ليس أحد رأى الله قط. الابن الوحيد، الاله الذي في حضن الآب ابيه، هو أخبر عنه" ( يو1: 18).

الحياة الروحية هي الدخول في شركة مع الله على اساس " أنا وانت" في حوار من القلب الى القلب. وتصبح شركة مع الانسان الآخر، كل انسان، وحواراً معه، على القاعدة نفسها. وحدها الحياة الروحية الغنية بفكر المسيح، الحقيقة والمحبة، تشكل الاساس للحياة في العائلة والمجتمع والكنيسة والوطن.

 


 

2. فكر المسيح هو معرفة اسرار ملكوت الله ( لوقا10/22-24).

كشف الله بالمسيح اسرار ملكوت الله، وهي الله الواحد والثالوث، الاب المحبة، والابن النعمة، والروح القدس الحياة الجديدة، الذي يُعلنه الكاهن كل يوم للجماعة المؤمنة في بداية نافور القداس: " محبة الله الآب، ونعمة الابن الوحيد، وشركة وحلول الروح القدس تكون معكم الى الابد". واسرار الملكوت هي حياة الشركة مع الله التي نلجها بكلمة الانجيل ونعمة الاسرار وهبة الروح القدس. لقد ظهرت " اسرار الملكوت" في التاريخ من خلال الكنيسة التي هي " زرع الملكوت وبدايته"[2]، وتشبه حبة الخردل التي تصبح  شجرة عظيمة يعشعش فيها طير السماء (متى13: 31-32).

لكن معرفة اسرار الملكوت هي عطية من الله في الوحي الالهي، لا نقبلها بالحكمة والفهم البشري، بل بروح الاطفال، هؤلاء الجائعين الى معرفة سرّ الله. انها تقبل في جوّ من الصلاة والشكر والخضوع لمشيئة الله، كما يظهر من صلاة يسوع في انجيل هذا الاحد: " اشكرك، يا ابتِ، يا سيّد السماء والارض...".

ملكوت الله واقع يبدأ في التاريخ، حيث نبنيه في مدينة الارض على اسس الحقيقة والعدالة والحرية والمحبة، وما ينتج عنها من قيم وفضائل، ولاسيما السلام بين الامم والشعوب.

 

***

 

ثانياًً،  السنة الكهنوتية

 

        بمناسبة مرور 150 سنة على وفاة القديس جان- ماري فيانيه Jean-Marie Vianney المعروف بالقديس خوري آرس، وعيد قلب يسوع، واليوم العالمي للصلاة من اجل نقديس والكهنة، اعلن قداسة البابا بندكتوس السادس عشر سنة كهنوتية من 19 حزيران 2009 الى 19 حزيران 2010. افتتحها قداسته في  بازيليك القديس بطرس، على ان تجري احتفالات مماثلة في الكنائس المحلية، في الابرشيات والرعايا وفي كل جماعة محلية، في العالم أجمع، تعبيراً عن المحبة للكهنة والرغبة في رؤيتهم سعداء، قديسين، وفرحين في عملهم الرسولي اليومي. أعلن قداسة البابا السنة الكهنوتية في 16 اذار 2009، وهي بعنوان: " امانة المسيح، امانة الكاهن". سنتعمق، عبر التنشئة المسيحية، في وجه الكاهن ولاهوت الكهنوت، وفي روحانيته ورسالته الراعوية وابعادها الرسولية والرسالية، انطلاقاًُ من مهام التعليم والتقديس والتدبير.

        تريد الكنيسة، من خلال السنة الكهنوتية، ان تقول للكهنة اولاً، والى كل المسيحيين، بل الى المجتمع الدولي، كم انها تحب الكهنة وتعتبرهم وتقرّ بكل امتنان بنشاطهم الراعوي وبشهادة حياتهم. وفيما الكنيسة تحمل بصلاتها الكهنة الذين يتعثّرون ببعض المشكلات، فانها تشجع الكهنة الذين باكثريتهم الساحقة يعيشون بامانة دعوتهم ورسالتهم، مع كثير من التضحيات الشخصية والمحبة ليسوع المسيح.

        تهدف السنة الكهنوتية الى التعمّق في الهوية الكهنوتية، وفي لاهوت الكهنوت الكاثوليكي، وفي مفهوم دعوة الكهنة ورسالتهم في الكنيسة والمجتمع. هذا يقتضي تنظيم مؤتمرات وندوات وايام تفكير، ورياضات روحية مختصة، واسابيع لاهوتية في الكليات الكنسية، بالاضافة الى ابحاث علمية والى منشورات.

        اما الغاية الاخيرة، فهي تعزيز سعي الكهنة الى الكمال الروحي الذي ترتبط به بنوع خاص فاعلية خدمتهم. ولذلك هي سنة صلاة مع الكهنة ومن اجلهم، وسنة تجديد روحي لكل كاهن ولمجلس الكهنة في كل ابرشية.

        ويُولى، في هذه السنة، اهتمام باحوال الكهنة المعيشية، من اجل اتخاذ ما يلزم من تدابير.

        الى السيدة العذراء، سلطانة الرسل، نكل السنة الكهنوتية لكي تشفع بالكهنة وتقود مسيرتهم الى المسيح، الكاهن الاسمى.

***

 

ثالثاً، ابعاد زيارة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر الى الاراضي المقدسة

 (8-15 ايار 2009)

 

في حوار مع الوفد الصحافي المرافق، أعلن البابا بندكتوس السادس عشر ان الغاية من زيارته الى الاراضي المقدسة، الاردن واسرائيل واراضي السلطة الفلسطينية، المساهمة في تعزيز السلام وتوطيده، لا كفرد بل باسم الكنيسة الكاثوليكية والكرسي الرسولي، لا كسلطة سياسية، بل كقوة روحية.

قال قداسته ان هذه المساهمة تتم على ثلاثة مستويات: الصلاة وتثقيف الضمائر والتعقّل.

1- نحن نؤمن بأن الصلاة قوة حقيقية لانها تفتح العالم على الله. ونؤمن ايضاً بأن الله يسمعنا ويستطيع التدخل في التاريخ. اذا صلّى الملايين من المؤمنين، يشكلون قوة حقيقية مؤثرة، ويساهمون في مسيرة السلام.

2. نساعد على تثقيف الضمائر، والضمير هو قدرة الانسان على رؤية الحقيقة. لكن هذه القدرة غالباً ما تتعرقل بمصالح خاصة. علينا ان نحررها من هذه المصالح، ونفتحها قدر ما يمكن على الحقيقة وعلى القيم الحقّة.

3. نخاطب العقل، فلاننا لسنا حزباً سياسياً، نستطيع ربما، بشكل أسهل وفي ضوء الايمان، تمييز المقاييس الحقة، والمساعدة على فهم ما يساهم في عملية السلام، ومساندة المواقف العقلانية. هذا ما فعلنا، وما نريد فعله الآن وفي المستقبل[3].

 

***

 

رابعاً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

        في اطار " خصوصية لبنان" نعرض من " الشرعة" ما جاء  بشأن قيمة لبنان الحضارية.

 لبنان  " قيمة حضارية ثمينة"[4]، بفضل ميزاته وعطاءاته:

أ- يشكل ارثاً للبشرية، لكونه " مهد ثقافة عريقة واحدى منارات البحر الابيض المتوسط. اسم جبيل – بيبلوس يذكّر ببدايات الكتابة"[5]. ان موقعه على حوض البحر المتوسط، وكونه منطلقاً لاحدى اهم حضاراته، مكّنه من ان يكون جسراً بين الشرق والغرب على المستوى الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، ويدعوه ليكون ملتزماً بخاصة قضايا ضفته المشرقية، ولاسيما المساهمة في ايجاد الحلّ العادل للقضية الفلسطينية، والتصدي للارهاب، وفي نشر الديموقراطية وتعزيز حقوق الانسان.

ب- فيه تلاقي الاديان الذي  يجعل من لبنان ارضاً نموذجية، حيث اناس متباينون على الصعيد الثقافي والديني مدعوون الى العيش معاً على الارض نفسها، والى بناء مجتمع سلام وحوار وعيش مشترك[6]، تؤدي كلها الى مجتمع مستقر وخلاّق.

ج- ومنه انطلق الحوار الثقافي بين الشرق والغرب منذ قرون بعيدة وتكثّف في القرون الوسطى، ولاسيما في القرن السادس عشر مع المدرسة المارونية في روما سنة 1584، وانطلقت النهضة الثقافية في العالم العربي في مطلع القرن التاسع عشر، وانتشرت افكار الحداثة بواسطة المدرسة والجامعة والصحافة.[7]

د- وفي رحابه تقوم المبادرات المسكونية بفضل مناخ حرية التعبير والمعتقد، وجو الانفتاح على الثقافات والديانات، والتراث الانطاكي المشترك بين مختلف الكنائس الشرقية الكاثوليكية والارثوذكسية. [8]

ه- وفيه تُعاش الحرية ولاسيما الحرية الايمانية ومعها الحرية الفكرية والاجتماعية والسياسية،

الى جانب التفاهم والضيافة وانفتاح الروح.

و- وعنده ميزة الديموقراطية التعددية التوافقية التي ارتضاها اللبنانيون وكرّسها الدستور، حفاظاً على جميع مكونات المجتمع اللبناني التعددي، وإفساحاً في المجال لها جميعاً أن تشارك مشاركة متوازية في الحياة الوطنية والقرارات المصيرية، وفي ادارة شؤون الوطن، وفي بناء مشروع الدولة وتمتينه وتطويره.[9]

 تقتضي هذه القيمة الحضارية وثوابت الوطن اللبناني تربية على المواطنية، يوفّرها كل من البيت والمدرسة والجامعة والمجتمع، بهدف تنمية محبة الوطن، والافتخار بارثه المشترك، ومعرفة تقاليده ودعوته التاريخية، ونقلها الى الاجيال الطالعة. ان محبة الوطن تشمل شعبه بكل فئاته التي تكوّن ثروته، وتشمل ارضه التي هي عطية من الله، نحافظ عليها حتى الشهادة، ومساحة للعيش الحر والكريم فيه وللتفاعل الانساني والحضاري. والارض هي مصدر الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية. المحافظة عليها وحماية بيئتها واستثمار قدراتها والافادة من نتاجها وعدم بيعها للغرباء واجب مقدس[10].

ان لبنان بقيمه وثوابته علامة رجاء مرفوعة للجميع. "فازدهار المسيحية فيه يوفر ضمانة لوجود الاقليات المسيحية في بلدان الشرق الاوسط[11]. " مصير المسيحيين مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير لبنان وبدعوته المميزة".[12] هذا الازدهار ينعكس ايجابياً على الشرق ويعطي مجتمعاته نكهة مميزة. كما ان " الحوار والتعاون بين مسيحيييه  ومسلميه قد يساعد على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان اخرى، ببناء مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف الى تطوير شعوبهم تطويراً انسانياً واخلاقيا. وبهذا يُزهر لبنان من جديد، ويلبّي دعوته بان يكون نوراً لشعوب المنطقة، وعلامة للسلام الآتي من الله[13].

 

***

 

خامساً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

        تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي السادس عشر: التعليم العام والتقني، وعرض " تحديات الواقع الحالي".

       

1.     اشكالية التأقلم بين التقليد والحداثة (الفقرتان 16-17).

التعليم النوعي الذي تقدمة المدرسة يقتضي ايجاد التوازن بين ما يقدمه التقليد  من تقيّد بفضيلة التديّن وبما يوحيه الله في الكتب المقدسة، وتعلمه الكنيسة في تعليمها الرسمي، وبما ينتج عنهما من قيم روحية واخلاقية واجتماعية، وبين ما تقدّمه الحداثة من حرية فردية، وتطوّر علمي وتقني، وروح استهلاكية، ونزعة الى المادّية، وتفلّت من القواعد الخلقية.

ان عملية التأقلم تقتضي من المدرسة ان تساعد طلابها على فحص التقليد وما يقدّم بنقد علمي، وعلى استخراج ثوابته وادراجها في نتاج الحداثة، هذه التي ترتكز في مسيرتها التطورية على اسس التقليد. فالاساس ثابت والبناء يتطور. من شأن التربية ان تكشف الاساس وتواكب الحداثة التي تبنى عليه.

 

2.     تأمين العدالة التوزيعية في التعليم (الفقرة 18).

من واجب الدولة، التي تتقاضى رسوماً وضرائب من المواطنين، الالتزام بمبدأ العدالة التوزيعية، بحيث يستطيع الوالدون ان ينعموا بحرية اختيار مدرسة اولادهم بحسب ما يمليه عليهم الضمير. وهذا من حقوق المواطن الاساسية، ولاسيما المساواة والحرية.

يطلب من السلطة المعنية في الدولة اقرار الزامية التعليم الاساسي اي الابتدائي والمتوسط بتمويل من الدولة، واجراء توجيه مدرسي نوعي يمكّن الطالب من ولوج المرحلة الثانوية فالتعليم العالي، او من ولوج التعليم المهني، وفقاً لقدرات الطالب العلمية ولمواهبه الخاصة.

 

3. توفير جودة في التعليم وبقاء المدرسة مفتوحة بوجه المحتاجين (الفقرتان 19 و20).

انطلاقاً من تعليم الكنيسة الدائم، بدءاً من المجمع اللبناني (1736) وصولاً الى الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" (1997)، يبقى الواجب المزدوج قائماً وهو ان على المدرسة تقديم جودة العلم والثقافة، وتوفيرها للجميع ولاسيما التلامذة المحتاجين. نظراً للاوضاع الاقتصادية المرهقة، يطلب من ادارة كل مدرسة العمل على انشاء صندوق دعم تتضافر في تغذيته جهود الادارة والمعلمين والقدامى واولياء التلاميذ وسواهم، لمساعدة من هم بحاجة حقاً.

 

4. بقاء المدرسة الكاثوليكية جذّابة لغير المسيحيين (الفقرتان 21 و22).

هذا يقتضي المحافظة على جودة التعليم، والتربية على القيم، والانفتاح على الثقافات العالمية. ومن ناحية اخرى، السهر على خلق وعي أكبر لقيم قبول الآخر المختلف، واحترام حرية المعتقد والتعبير، وتقييم التعددية الثقافية والدينية. ومن ناحية ثالثة، انشاء مدارس في المناطق الجغرافية المختلفة وتعزيز دورها التربوي. 

*** 

        صلاة

        هلّم ايها الروح القدس، واملأنا من موهبة حكمة الله، نوراً وحباً وقوة، لكي نغتني بفكر يسوع المسيح، فنستنير بحقيقته، ونحيا لمحبته، ونصمد في الشهادة للحقيقة والمحبة. اعطنا ان نلتزم بتعزيز السلام من خلال الصلاة ووعي الضمير ولغة العقل. قدّس الكهنة، وأفض من انوارك على السنة الكهنوتية لتؤتي ثمار القداسة في حياة الكهنة والشعب المسيحي. اعطنا ان ندرك قيمة لبنان الحضارية، ونثمّرها في خدمة ترقي الشخص البشري والمجتمع، وفي تعزيز التقدم نحو الافضل. بارك نشاط العاملين في حقل التعليم والتربية لكي يخرّجوا مؤمنين ملتزمين ومواطنين مخلصين، متحلّين بالمعرفة العلمية وبالقيم الروحية والاخلاقية والاجتماعية. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . عظة البابا بندكتوس السادس عشر، عيد العنصرة 3 حزيران 2006.

[2] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 567.

[3] . راجع جريدة اوسرفاتوري رومانو الاسبوعية بالفرنسية، عدد19 في 12 ايار 2009، صفحة 16.

[4] رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى جميع اللبنانيين في اول ايار 1984..

[5]  رجاء جديد للبنلن، 1.

[6]  المرجع نفسه،119.

[7]  المجمع البطريركي الماروني النص 18: الكنيسة المارونية والثقافة،20؛ انظر التفاصيل في الفقرات 20-22؛ النص 3: حضور الكنيسة المارونية في

     النطاق البطريركي، الفقرات14-18.

[8]  رجاء جديد للبنان، 85-88؛ المجمع البطريركي الماروني، النص2: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها،45-48.

[9]  الثوابت المارونية،  ص 2 عدد3.

[10]  المجمع البطريركي الماروني النص 23ك الكنيسة والارض؛ البطريرك مار نصرالله بطرس صفير: رسالة الصوم الكبير 2007: في محبة الوطن.

[11]  البابا يوحنا بولس الثاني: رسالة الى اساقفة الكنيسة الكاثوليكية في العالم، في اول ايار 1984.

[12]  رجاء جديد للبنان، 6.

[13]  رجاء جديد للبنان، 93، 125.

 


 

الاحد الخامس من زمن العنصرة

عيد القديسين بطرس وبولس

اعمال الرسل 9: 19-30

انجيل متى 10: 1-7؛ 16: 13-20

 

نختتم اليوم سنة القديس بولس وقد تعمقنا في شخصيته وتهليمه طوال هذه السنة. بمناسبة الاحتفال بعيد القديسين الرسولين بطرس وبولس. كتاب اعمال الرسل يروي ارتداد شاوول- بولس على طريق دمشق، والانجيل يروي اختيار الرسل الاثني عشر وارسالهم من الرب يسوع وايمان سمعان بن يونا الذي جعله صخرة بنى المسيح عليها الكنيسة. يكشف الرسولان وجه الكاهن الحقيقي، في بداية سنة الكهنوت التي افتتحها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في 19 حزيران الماضي. بطرس يكشف وجه الكاهن رجل الايمان بالمسيح، الحامل في قلبه حبّاً عظيماً ليسوع، والشاهد للراعي الصالح في رعاية الجماعة المؤمنة. بولس يكشف وجه الكاهن الباحث باستمرار عن المسيح والعائد اليه بتوبة دائمة، والملتزم باعلان انجيل الخلاص.

 

اولاً، مثالية بطرس وبولس في ضوء القراءات المقدسة

 

        1. من انجيل القديس متى 10: 1-7

ودَعَا يَسُوعُ تَلامِيْذَهُ الاثْنَي عَشَر، فَأَعْطَاهُم سُلْطَانًا يَطْرُدُونَ بِهِ الأَرْوَاحَ النَّجِسَة، ويَشْفُونَ الشَّعْبَ مِنْ كُلِّ مَرَضٍ وكُلِّ عِلَّة. وهـذِهِ أَسْمَاءُ الرُّسُلِ الاثْنَيْ عَشَر: أَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذي يُدْعَى بُطْرُس، وأَنْدرَاوُسُ أَخُوه، ويَعْقُوبُ بنُ زَبَدَى، ويُوحَنَّا أَخُوه، وفِيْلِبُّسُ وبَرْتُلْمَاوُس، وتُومَا ومَتَّى العَشَّار، ويَعْقُوبُ بنُ حَلْفَى وتَدَّاوُس، وسِمْعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذي أَسْلَمَ يَسُوع. هـؤُلاءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُم يَسُوع، وقَدْ أَوْصَاهُم قَائِلاً: "لا تَسْلُكُوا طَرِيقًا إِلى الوَثَنِيِّين، ولا تَدْخُلُوا مَدِيْنَةً لِلسَّامِرِيِّين، بَلِ اذْهَبُوا بِالـحَرِيِّ إِلى الـخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل. وفِيمَا أَنْتُم ذَاهِبُون، نَادُوا قَائِلين: لَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات.

بطرس هو رأس الرسل الاثني عشر الذين اختارهم الرب يسوع ودعاهم، ليكونوا معه واعطاهم سلطاناً لشفاء النفوس، وأرسلهم ليعلنوا سرّ المسيح في العالم، وسمّاه " ملكوت السماء" اي دخول الله الى عالم البشر، واجتذابهم الى الاتحاد به، والى الوحدة فيما بينهم. بهذا ظهرت ملامح الكنيسة السّر والشركة والرسالة.

        الرسل الاثنا عشر اعمدة الكنيسة وحارسو وديعة الايمان

        منهم تحمل الكنيسة لقب رسولية لانها مبنية عليهم، وتنقل تعليمهم الذي تسلموه من الرب يسوع، بمعونة الروح القدس الساكن في الكنيسة. ويسمى تعليمهم " وديعة الايمان". وتتواصل رسالة الرسل، حتى مجيء الرب الثاني في نهية الازمنة، بواسطة الاساقفة خلفائهم والكهنة معاونيهم، في الشركة التامة مع خليفة بطرس، راعي الكنيسة الجامعة. لكن المسيح هو نفسه يسوسها من خلالهم.[1]

 

        2. في انجيل القديس متى ( 16: 13-20) بطرس هو صخرة الايمان بالمسيح. وقد اعلنه في قيصرية فيليبس، حيث تكلم يسوع صريحاً ولاول مرة عن الكنيسة. شبهها بالمبنى القائم على صخرة الايمان، وجعل فيها سلطة عليا متمثلة ببطرس، واعطاها سلطان " الحل والربط" فيما يتعلق باعلان العقيدة الايمانية والمسلك الاخلاقي في ضوئها، وبرعاية خدمة الكلمة الانجيلية ونعمة الاسرار والمحبة. هذا السلطان الالهي مشبَّه " بمفاتيح البيت" التي تفتح ابوابه بوجه جميع الشعوب للدخول الى ملكوت السماء، وتحرسه بوجه الاعداء. فلن تقوى على الكنيسة قوى الشر.

        في موضع آخر سلّم الرب يسوع لبطرس رأس الكنيسة مهمة " تثبيت الاخوة" (لوقا22: 32). ان الشيطان وقوى الشر تمتحن الكنيسة وتطال رعاتها. المسيح يعد بالصلاة من اجلهم لئلا ينقص ايمانهم. ووعدهم بانهاضهم اذا سقطوا، لكي يثّبتوا ابناء الكنيسة وبناتها في الايمان، فلا يتزعزعوا ولا يضيعوا.

        وعلى شاطىء بحيرة طبريه سلّم الرب لبطرس مهمة ثالثة هي " رعاية الخراف" (يوحنا 21: 15-19)، وهم جميع الناس الذي افتداهم المسيح بموته على الصليب وصالحهم مع الله. السلطة في الكنيسة هي خدمة الحقيقة والثبات والمحبة. واجب واحد مثلث الوجوه، اعلنه المسيح لبطرس وللكنيسة في ثلاثة ظروف.

        السنة الكهنوتية تكشف معالم وجه كاهن العهد الجديد، أكان في درجة الاسقفية ام في درجة الكهنوت ام في درجة الشماسية. انه مؤتمن بسلطان الهي على هذه الخدمة المثلثة من خلال مهام التعليم والتقديس والتدبير.

 

        3. بولس نموذج الاهتداء والالتزام باعلان انجيل المسيح ( اعمال الرسل 9: 19-30)

        عرف شاوول – بولس كيف ينهض من سقطته بنعمة يسوع المسيح التي وحدها تحرر ما اعتاد عليه الانسان من فكر ومسلك وموقف. فلما وضع حننيا الكاهن يده على رأس بولس، باسم المسيح، لينال الروح القدس، " تساقط من عينيه ما يشبه القشر، وانفتحت عيناه، فقام واعتمد"  (اعمال9: 17-18).

        بوضع اليد وحلول الروح القدس سقطت هوية شاول القديمة، " الانسان العتيق"، كما يسميه هو نفسه، وانفتحت عيناه على الحقيقة المطلقة، فتبدل كل مجرى حياته، وأصبح رسول يسوع المسيح وخادم الانجيل، حاملاً سيف كلمة الله. هذه الكلمة هي عنده، كما تعلّم الكنيسة، الحدث الخلاصي بيسوع المسيح. هو الله الذي يدخل في تاريخ الانسان، كاشفاً عن نفسه، ومقدماً ذاته لكل انسان، عله يبلغ الى ما بلغ اليه بولس: " انا أحيا، لا انا، بل المسيح يحيا فيّ"  (غلا2: 20). الكاهن هو رجل التجدد الدائم بالروح القدس، لكي يحسن نقل كلمة الله بعد قبولها في قلبه وعقله، والتفاعل معها، كاسباً فكر المسيح.

 

***

 

ثانياًً، السنة الكهنوتية

 

        للتعمق في سرّ الكهنوت، نتحدث اليوم عن الدرجات المقدسة، وعن مفهوم السلطة الكهنوتية والرسالة، وعن ميزات خدمة الكاهن.

        يدخل الكهنوت في اطار سرّ الدرجات المقدسة المؤلفة من ثلاثة: الشماسية والكهنوت والاسقفية، فضلاً عن الدرجات الصغرى: المرتل والقارىء والشدياق. انه سرّ الخدمة الرسولية التي سلّمها الرب يسوع رسله وخلفاءهم الاساقفة والكهنة معاونيهم والشمامسة. فمن بعد ان اسس المسيح الكنيسة، اعطاها سلطة ورسالة، توجيهاً وهدفاً.

 

        السلطة في الكنيسة تعمل بشخص المسيح وباسمه. والرسالة هي اعلان سرّ المسيح بحيث يبلغ الجميع الى الخلاص. انها تفترض ارسالاً من المسيح لاعلان الانجيل. لا يتكلم المرسل بسلطان من ذاته، بل بسلطة المسيح، لا كعضو في الجماعة، بل كمتكلم عليها باسم المسيح. ولا احد يستطيع ان يعطي النعمة لنفسه، بل ينبغي ان تُعطى له وتُقدّم. هذا يفترض خداماً للنعمة، مكلّفين ومعطين سلطة من المسيح للعمل بشخص المسيح الرأس.

 

        تتميّز السلطة الكهنوتية بطابع الخدمة. فالكاهن هو خادم المسيح وكلامه ونعمته ومحبته، لصالح الآخرين. وتتميّز ايضاً بالطابع الجماعي، لان الرب يسوع اقام في الاساس الاثني عشر، وارسلهم معاً، واراد ان تكون وحدتهم الاخوية في خدمة الشركة بين المؤمنين، وان تعكس شركة اقانيم الثالوث الالهي. ولذا يمارس الكاهن خدمته انطلاقاً من الجماعة الكهنوتية بقيادة مطران الابرشية. وتتميّز اخيراً بالطابع الشخصي، لان الكاهن يعمل بطريقة شخصية، ويؤدي شهادته الشخصية في اطار الرسالة المشتركة، ويتحمل مسؤوليته امام الذي يعطيه الرسالة: " انا أعمدّك باسم الآب والاب والروح القدس... انا احلك من خطاياك...".

 

        تُعطى الدرجة المقدسة بالرسامة التي تمنح موهبة الروح القدس لممارسة سلطان مقدس. والرسامة تفوق الاختيار البشري والتعيين والانتداب. فهي تكريس من المسيح للكنيسة، يظهر في علامة وضع اليد من الاسقف وصلاة التكريس[2].

 

***

 

ثالثاً، ابعاد زيارة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر الى الاراضي المقدسة

 (8-15 ايار 2009)

 

في الزيارة الى المملكة الهاشمية الاردنية، وفي كلمته على مطار الملكة علياء، قال قداسته انها زيارة لتكريم الاماكن المقدسة حيث جرت احداث من التاريخ البيبلي هي بمثابة مفاتيح. جبل نابو حيث قاد موسى شعبه، وأطل معه على الارض التي ستصبح وطنه. هناك مات وقُبر. بيت عنيا على الضفة الاخرى من الاردن حيث ادى يوحنا المعمدان كرازته، وشهد للمسيح، وعمّده في مياه الاردن الذي اعطى اسمه للمملكة.

وهي زيارة لاعلان الحرية الدينية حقاً انسانياً اساسياً. وهو حق ينبغي احترامه، لارتباطه بكرامة كل انسان وامرأة. انه محترم في المملكة الاردنية. والعلامة هي ان قداسة البابا سيضع الحجر الاساس لكنيستين في بيت عنيا على ضفاف الاردن: واحدة للاتين، وواحدة للروم الملكيين الكاثوليك.

وهي ايضاً زيارة لتوجيه نداء من اجل السلام في الشرق الاوسط، الذي يعمل الاردن في سبيله،  وكأن المغفور له الملك حسين رائداً لهذا السلام. ينطلق النداء ينطلق تحديداً من هذه الارض الغنية بالمفاهيم الدينية لكل من اليهود والمسيحيين والمسلمين، مع الدعاء بان تنمو في القلوب محبة الله العلي والرحوم، والمحبة الاخوية بين الجميع. وكان الملك عبدالله الثاني، ابن الحسين، قد شدد في كلمة الترحيب على هذه المحبة وعلى الحوار الموسّع معاً، وهو حوار يقبل الهويات الدينية الخاصة، حوار لا يخاف نور الحقيقة، حوار يبرز قيمنا المشتركة والروابط العميقة التي تجمع بيننا[3]

***

 

رابعاً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

في اطار الكلام عن خصوصية لبنان، تتناول " الشرعة" ميثاق العيش المشترك والصيغة. الميثاق القائم على الثقة المتبادلة بين المسيحيين والمسلمين ثابت ولا يتغيّر. اما الصيغة التي تترجمه عملياً فقابلة للتطور.

 

1. الميثاق الوطني

 بفضل الميثاق الوطني القائم على حرية الافراد والجماعات والمساواة فيما بينهم وارادة العيش معاً بين المسيحيين والمسلمين، يتميز نظام لبنان بانه متوسط بين النظام التيوقراطي الذي يجمع بين الدين والدولة، والنظام العلماني الذي يفصل تماماً بينهما. فلبنان، بحكم المادة 9 من الدستور، يفصل بين الدين والدولة، مع اعتبار " حرية الاعتقاد  مطلقة وتأدية فروض الاجلال لله تعالى، واحترام جميع الاديان والمذاهب وانظمة احوالها الشخصية ومصالحها الدينية". والميثاق الوطني، الذي هو بمثابة الروح للكيان اللبناني، جاء يجسّد هذا النظام المتوسّط انطلاقاً من شعار: "لا للشرق ولا للغرب"، بمعنى "لا"  للذوبان في محيطه و"لا" للتبعية للغرب، ويصبّ القول اليوم بمعنى " لا" للتيوقراطية و "لا" للعلمنة الالحادية. فكانت مبادئه ان لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً تاماً، عربي الهوية والانتماء، متعاون مع الدول العربية والاجنبية، مع حفظ التوازن بين الجميع، من دون ان يكون لاي منها وصاية او امتياز او اتحاد [4].

 

2. الصيغة اللبنانية

وقد ُتُرجم الميثاق الوطني وما زال بالصيغة اللبنانية التي ارتكزت على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. اذا كانت الوظيفة تقنية، روعيت فيها الكفاءة. وكان التوافق على ان يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس مجلس النواب شيعياً، ورئيس مجلس الوزراء سنياً. والصيغة تعتمد في الدستور قاعدة التساوي بين المسيحيين والمسلمين في توزيع المقاعد النيابية (المادة 24)، وتشكيل الوزراء (المادة 95،أ)، وتعيينات وظائف الفئة الاولى وما يعادلها (المادة 95،ب). لكنها انحصرت بتوزيع المسؤوليات العامة على جميع الطوائف بالانصاف وكان يؤمل من هذه الصيغة تأمين استقرار الكيان وتحقيق الديموقراطية وازدهار الاقتصاد،  لو تطوّرت حسب مقتضيات الحداثة والتجربة التاريخية.

 

        3. العيش المشترك

كان الميثاق الوطني نموذجاً للشرق كما للغرب[5]. فالعيش المشترك المحصّن بالدستور القائل: " لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك" (المقدمة،ي)، انما يقوم على الاعتراف المتبادل، ووحدة المصير، والتكامل في تكوين النسيج الوطني الواحد.[6] انه يتخطى مستوى التساكن، ليكون نمط حياة يؤمّن للانسان فرصة التواصل والتفاعل مع الآخر، فتغتني شخصيته من تلقيّها جديد الآخر، وتغني بدورها شخصية هذا الآخر، من دون الغاء الخصوصيات والفوارق التي تصبح مصدر غنى للجميع.[7]

والعيش المشترك مسؤولية يحملها المسيحيون والمسلمون معاً امام الله الذي دعاهم واراد لهم ان يكونوا معاً، وان يبنوا معاً وطناً واحداً، وجعلهم في هذا البناء المشترك مسؤولين بعضهم عن بعض.[8] ومن واجبهم ان " يحافظوا على القيم الاخلاقية، والعدالة الاجتماعية، والسلام والحرية، ويدافعوا عن الحياة البشرية والعائلة، ويعززوا الثقة ببعضهم وبالمستقبل الذي يحملهم على الانفتاح على أفضل ما في الحداثة".[9]

 

***

 

خامساً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

        ما زالت الخطة الراعوية تعرض النص المجمعي السادس عشر: التعليم العام والتقني، وتحديداً تحديات الواقع الحالي.

 

1.     تعزيز المدرسة الرسمية(الفقرة 24).

ان تعزيز المدرسة الرسمية يقتضي:

أ- ضبط الهدر في الطاقات البشرية والمالية، وتأمين نوعية التعليم لكي تبقى المدرسة الرسمية في منافسة شريفة مع المدرسة الخاصة. وهذا يضمن للوالدين حرية اختيار المدرسة الملائمة لاولادهم.

ب- تأمين الابنية والتجهيزات اللازمة لكي تأتي العملية التعليمية والتربوية على مستوى انتظارات الاجيال الطالعة واهلهم، وملائمة للمناهج الجديدة.

ج- تعزيز ادارة المدرسة الرسمية، تطبيقاً لمعايير التوظيف، وضمانة للنوعية والجودة واعطاؤها الصلاحيات اللازمة وحسن توزيع المعلمين وتعزيز قدراتهم، وإبعاد المحسوبيات والتسييس عن القرارات التربوية.

        د- تحسيس المجتمع المحلي على دوره في دعم المدرسة وتطويرها.

 

        2. المحافظة على حرية التعليم (الفقرة 24).

        فضلاً عن ان الدستور اللبناني في المادة العاشرة يكفل حرية التعليم ما لم يُخلّ بالنظام العام او ينافِ الآداب او يتعرّض لكرامة احد الاديان او المذاهب، فان هذه الحرية تقتضي:

أ- قيام توازن ومساواة بين المدرستين الرسمية والخاصة لكي يتمكن الاهل من الاختيار الصحيح.

ب‌-توفير مجاّنية التعليم، والتشريع لالزاميته.

ج- تأمين تعدد اللغات في المدارس الرسمية، والانفتاح على الثقافات المتنوعة، من اجل تنمية الفكر النقدي، وتفتّق الابداع، وانتاج المعرفة.

 

3. تعزيز التعليم المهني والتقني (الفقرة 27).

 التعليم المهني والتقني هو العمود الفقري للاقتصاد الوطني، لانه يعدّ الكفايات الانسانية المتخصصة، شرط ان تلبي المناهج سوق العمل، وتتناسق مع المستجدات التكنولوجية، وبخاصة الصناعة الالكترونية والمعلوماتية. يستلزم هذا التعليم في لبنان المزيد من التدريبات المهنية، بالاضافة الى المعلومات النظرية، وتنمية قدرات الطلاب، وتعزيز اللغات الاجنبية ولاسيما اللغة الانكليزية. 

***

صلاة

ايها القديسان الرسولان بطرس وبولس، عمودا مدينة الله واساسها، باسشهادكما ولدت كنيسة روما، وفي حياتكما وضعتما النموذج لخدمة الكهنة. استمدا من المسيح الكاهن الازلي، في هذه السنة الكهنوتية، نعمة تقديس الكهنة، واضرما في قلوبهم الايمان الحار بالمسيح، والمحبة المتقدة له، والغيرة والحماس في اعلان انجيل الخلاص، وفي خدمة نعمة الاسرار الشافية. فترفع الجماعة المؤمنة نشيد التسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 857-869.

[2] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،874-875؛ 1538.

[3] . راجع الاوسرفاتوري رومانو، الاسبوعي الفرنسي، عدد 19-12 ايار 2009.

[4]  هذه المبادى مقتبسة من خطب رئيس الجمهورية الشيخ بشاره الخوري يوم انتخابه في 21 ايلول 1943، ومن البيان الوزاري الاول لرئيس مجلس الوزراء رياض الصلح في 7 تشرين الاول 1943. وطبقت في الدستور اللبناني الصادر في 23 ايار 1926 بموجب القانون الدستوري الذي صدر بتاريخ 9 تشرين الثاني 1943. ثم ادخلت في مقدمة الدستور المعدل سنة 1990 بموجب القانون الدستوري الصادر في 21 ايلول 1990، على اساس وثيقة الوفاق الوطني التي وقعت في اتفاق الطائف (22 تشرين الاول 1989).

[5]  البابا يوحنا بولس الثاني: رسالة الى اساقفة الكنيسة الكاثوليكية حول الوضع في لبنان (7/9/1989)،6.

[6]  الثوابت المارونية، صفحة 2، عدد 2.

[7]  المجمع البطريركي الماروني، النص 19: الكنيسة المارونية والسياسة، 36-37.

[8]  مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك: الرسالة الراعوية " معاً امام الله" صفحة 27.

[9]  رجاء جديد للبنان، 92.

 


 

الاحد السادس من زمن العنصرة

1 قورنتس 12/12-13، 27-30

متى 10/16-25

الكنيسة جسد المسيح، مرسلة للشهادة للمسيح

 

في زمن العنصرة، ما زالت تنكشف لنا ملامح سرّ الكنيسة. في رسالة القديس بولس الكنيسة هي جسد المسيح. هو الرأس والمؤمنون الاعضاء. وفي الانجيل الكنيسة مرسلة من خلال اعضائها لمتابعة رسالة المسيح، مع ما يرافق هذه الرسالة من صعوبات ومحن، يمكن مجابهتها بالحكمة والوداعة وبهدي الروح القدس.

 

اولاً، سرّ الكنيسة ورسالتها في القراءات المقدسة

 

1.    الكنيسة جسد المسيح

من رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل كورنتس 12: 12-13، 27-30.

 

فكَمَا أَنَّ الـجَسَدَ هُوَ وَاحِد، ولَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَة، وأَعْضَاءُ الـجَسَدِ كُلُّهَا، معَ أَنَّهَا كَثِيرَة، هيَ جَسَدٌ وَاحِد، كَذ,لِكَ الـمَسِيحُ أَيْضًا. فَنَحْنُ جَمِيعًا، يَهُودًا ويُونَانِيِّين، عَبِيدًا وأَحْرَارًا، قَدْ تَعَمَّدْنَا في رُوحٍ وَاحِدٍ لِنَكُونَ جَسَدًا وَاحِدًا، وسُقِينَا جَمِيعًا رُوحًا وَاحِدًا. فأَنْتُم جَسَدُ الـمَسِيح، وأَعْضَاءٌ فِيه، كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا قُسِمَ لَهُ. فقَدْ وَضَعَ اللهُ في الكَنِيسَةِ الرُّسُلَ أَوَّلاً، والأَنْبِيَاءَ ثَانِيًا، والـمُعَلِّمِينَ ثَالِثًا، ثُمَّ الأَعْمَالَ القَدِيرَة، ثُمَّ مَوَاهِبَ الشِّفَاء، وَإِعَانَةَ الآخَرِين، وحُسْنَ التَّدْبِير، وأَنْوَاعَ الأَلْسُن. أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ رُسُل؟ أَلَعَلَّ الجَمِيعَ أَنْبِيَاء؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ مُعَلِّمُون؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ صَانِعُو أَعْمَالٍ قَدِيرَة؟ أَلَعَلَّ لِلجَمِيعِ موَاهِبَ الشِّفَاء؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ يَتَكَلَّمُونَ بِالأَلْسُن؟ أَلَعَلَّ الـجَمِيعَ يُتَرْجِمُونَ الأَلْسُن؟

يشبّه بولس الكنيسة بالجسد البشري. فهي جسد المسيح، هو رأس الجسد، وجماعة المؤمنين المعمدين اعضاؤه، من دون اي تمييز في الجنس او العرق او اللون او الحالة الاجتماعية: " قد تعمّدنا في روح واحد لنكون جسداً واحداً". اما روحه التي تحييه فهو الروح القدس: " لقد سُقينا جميعاً روحاً واحداً". وكما لكل عضو في الجسد البشري دوره ومهمته، هكذا في جسد المسيح، الذي هو الكنيسة، لكل عضو موهبته ودعوته، وفقاً لمواهب الروح، والاختيار الالهي، وحاجات الجسد.

 

2.     الكنيسة مرسلة للشهادة للمسيح (متى10: 16-20).

" ها انا ارسلكم كالخراف بين الذئاب " (متى10/16).

        الكنيسة مؤتمنة على الشهادة لسرّ المسيح : التجسد والفداء اللذين يشكلان قلب ايمانها وتراثها النفيس.

        بالتجسّد ، الله صار معنا ، أخذ الحالة البشرية وجاء يسكن بيننا لكي نستطيع ان نسكن فيه . هو الكلمة الالهي ، ابن الله ، صار بشراً وسكن بيننا (يو1/14)، عطية حب من الآب ، ليرمم في الانسان صورة الله المشوهة بالخطيئة.بالفداء، ابن الله المتجسد ، افتدانا بالآمه وموته ، وحررنا من الخطيئة والموت الابدي ، وصار لكل انسان ينبوع الحياة الجديدة : واحد مات من اجل الجميع (2كور5/14). وراء موت يسوع، يوجد تصميم حب ، تسميه الكنيسة بايمان " سر الفداء" أي ان البشرية باسرها مخلِّصة ، بمعنى انها تتحرر من عبودية الخطيئة ، وتدخل في ملكوت الله. كل هذا يعني ان اله الخلق هو عينه اله الفداء ، امين لنفسه ، امين لحبه للانسان وللعالم ، كما كشف عن نفسه يوم الخلق.

        ابناء الكنيسة يشهدون لهذه الحقيقة بثبات في ايمان الكنيسة، مترجمين نتائجها في الثقافة والاقتصاد والسياسة وفي سائر انشطتهم الزمنية.

        أجل ان اعلان سرّ المسيح الذي انكشفت معه حقيقة الله والانسان والتاريخ بشكل كامل ونهائي ، واعلان سرّ التجسد والفداء، مسألة لا تقف عند البُعد اللاهوتي بل تمتد الى ابعاد خلقية وثقافية وسياسية.

        سرّ المسيح يكشف ان الله واحد في طبيعته، وثالوث في اقانيمه . ولانه اله واحد لا ثلاثة الهة ، بل ثلاثة اشخاص في الالوهة الواحدة ، فالله محبة . ولانه محبة فهو خالق وفادٍ ومبّرر : الآب خلق ، والابن تجسد وافتدى البشرية بموته وقيامته ، والروح القدس قدس الانسان وأشركه في الحياة الالهية بحلوله . ولو لم يكن الله واحداً في ثلاثة اقانيم لما كان محبة ولما خلق الانسان ، ولما افتداه ، ولما اشركه في سعادة حياته الالهية ، ولما دخل في علاقة مع الانسان والتاريخ، ولما اسس الكنيسة اداة للخلاص الشامل ، واداة للشركة مع الله وبين الناس . هذه الحقيقة الايمانية تستدعي مقتضيات روحية وخلقية وثقافية.

        المقتضيات الروحية هي اولاً عبادة الله الواحد وخضوع لشرائعه ووصاياه وطاعة لارادته ، وعمل في المجتمع من وحي الهاماته . فتسقط هكذا كل الاصنام وتسقط العبادة للذات او للشخص او للنظام او للايديولوجية؛ ثم انخراط في حياة الكنيسة المؤتمنة على كلمة الحياة ونعمة الخلاص وشريعة المحبة ، فالتزام رسالتها . كانت البدع والشيع والتيارات المناوئة للكنيسة ، والرافضة لوديعة الايمان المسلَّمة اليها ، ولسلطتها الالهية التشريعية والاجرائية والقضائية ، ولسلطة التعليم والتقديس والولاية التي سلّمها اياها السيد المسيح لتمارسها من اجل خلاص جميع الناس ، والمعرقلة لرسالتها . وكانت التيارات الملحدة. كل ذلك من خارج الكنيسة ومن داخلها.

        المقتضيات الخلقية هي التصرف قولاً وعملاً على قاعدة القيم الروحية والادبية والانسانية والاجتماعية التي تنطلق من مبدأ كرامة الشخص البشري وحقوقه الاساسية ، ومن قدسيته ككائن مخلوق على صورة الله ، مفتدى بدم المسيح ، مكرس ليكون هيكلاً للروح القدس وعضواً في جسد المسيح السّري ، ووريثاً للحياة الالهية . هذه المقتضيات تصطدم بتيارات الاباحية الخلقية ، والفئوية ، والطبقية ، والتسلط ، والظلم والاستبداد والاستعباد والاستغلال ، واللامساواة، وتسييس القضاء ، وروح التفرقة والنزاعات ، والسعي وراء المصالح الخاصة والنزوات ، والروح الاستهلاكية.

        المقتضيات الثقافية هي ترجمة المبادىء في حضارة الشعوب وثقافاتهم وانظمتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . وتتجلى في نظام الحريات العامة ، وحقوق الانسان الاساسية، والديموقراطية ، والحوار ، والتعاون والنمو الشامل للانسان والمجتمع . لكنها حوربت بالانظمة الديكتاتورية والتوتاليتارية والشيوعية والماركسية والراسمالية الفردية.

        هذا الواقع المتنوع على الاصعدة المختلفة شبّهه السيد المسيح بواقع الخراف بين الذئاب . من هنا قول الفلاسفة قديماً وحديثاً : " الانسان ذئب لاخيه الانسان " .لكن الكنيسة مرسلة من السيد المسيح لتحقق نبوءة اشعيا التي قيلت عن الزمن المسيحاني الذي يحل فيه روح الرب بمواهبه السبع : " حينئذٍ يسكن الذئب مع الحمل ، ويربض النمر مع الجدي ...لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل قدسي، لان الارض تمتلىء من معرفة الرب ، كما تغمر المياه البحر" (اشعيا11/6و9). وحدها معرفة الرب توحد البشر ، وتقرّب فيما بينهم . ان اساس الازمات كلها فقدان معرفة الرب.

       

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية[1]

 

يشمل سرّ الكهنوت ثلاث درجات: الاسقفية والكهنوت والشماسية. الاثنتان الاوليان هما درجتا خدمة المشاركة في كهنوت المسيح، اما الشماسية فهي لخدمة الاسقفية والكهنوت. لفظة " كاهن" تعني الاساقفة والكهنة، لا الشمامسة. لكن الثلاث تمنح بفعل اسراري، يسمى الرسامة، اي بواسطة سرّ الدرجات المقدسة.

الاساقفة هم خلفاء الرسل الذين وصلت اليهم الخلافة بوضع اليد، عبر الرسامة الاسقفية التي تمنحهم ملء سرّ الدرجات المقدسة، اي رئاسة الكهنوت. بالرسامة الاسقفية يمنح المرتسم مهمة التقديس والتعليم والرعاية. وتطبعه نعمة الروح القدس بطابع مقدس، وتجعله قائماً مقام المسيح نفسه، معلماً وراعياً وكاهناً، فيعمل كممثل له، اي بشخصه. يصبح الاسقف عضواً في الجسم الاسقفي بالرسامة الاسرارية والشركة التراتبية مع رأس هذا الجسم واعضائه. ولهذا السبب، يشارك عدة اساقفة في منحه الرسامة.

كنائب للمسيح، يتولى الاسقف العناية بالكنيسة الخاصة الموكولة اليه، ولكنه يحمل في الوقت عينه جماعياً مع سائر اخوانه الاساقفة العناية بكل الكنائس، ومسؤولية رسالة الكنيسة. ولذا، عندما يحتفل الاسقف بذبيحة الافخارستيا، تتمثل الكنيسة مجتمعة حول المذبح. بهذا المعنى يقال: حيث الاسقف هناك الكنيسة.

الكهنة هم معاونو الدرجة الاسقفية والكهنوت في رسالة الكنيسة. وبهذه الصفة يشاركون في السلطة التي يبني بها المسيح جسده ويقدسه ويسوسه. انهم بوسم الروح القدس يُصوّرون على صورة المسيح الكاهن، بحيث يعملون بشخصه كرأس، في كرازة الانجيل والاحتفال بالاسرار ورعاية جماعة المؤمنين. وانهم يشاركون في الرسالة التي سلّمها المسيح للرسل.

يشكّل الكهنة مع اسقفهم جماعة كهنوتية واحدة برباط الاخوّة الاسرارية. وفي خدمتهم يمثلون اسقفهم، ويعملون بتوجيهه وبالشركة معه. ان وعدهم بطاعته اثناء الرسامة الكهنوتية، وقبلة السلام منه لهم في ختام الرسامة تعني انه يعتبرهم معاونين له وابناء واخوة واصدقاء. وهم من جهتهم يبادلونه الحب والولاء.

الشمامسة يُرسمون بوضع يد الاسقف، ويطبعون بطابع يصورهم على مثال المسيح الذي جعل من نفسه " خادماً للجميع". انهم يساعدون الاسقف والكهنة في الاحتفال بالاسرار الالهية ولاسيما الافخارستيا، وفي توزيع المناولة المقدسة، وفي اعلان الانجيل والتعليم، وفي خدمة المحبة.

 

***

 

ثالثاً، ابعاد زيارة البابا بندكتوس السادس عشر الى الاراضي المقدسة

(8-12 ايار 2009)

 

        في خطاب القاه قداسته في المتحف الهاشمي وجامع الحسين بن طلال، في عمّان، حيث التقى الرؤساء الروحيين المسلمين واعضاء السلك الديبلوماسي ورؤساء الجامعات الاردنية، شدد على الايجابية التي تقدمها الديانة للمجتمع[2]، خلافاً لما يدّعي البعض ان الدين يفشل بناء الوحدة والتناغم، وفي كونه تعبيراً عن الشركة بين الاشخاص ومع الله, بل يدّعي البعض الآخر ان الدين يتسبب بالانفسام في العالم، وانه بقدر ما يُهمّش عن الساحة العامة، تكون الفائدة افضل. لكن قداسة البابا يجيب ان المشكلة ليست في الدين بل في التلاعب الايديولوجي بالدين، لاسباب، بعض المرات،  سياسية. هذا التلاعب يتسبب بالخلافات والنزاعات والانقسامات. فالمطلوب من المؤمنين، مسيحيين كانوا ام مسلمين، ان يكونوا اوفياء لمبادىء معتقدهم. فهم من عباد الله الامناء على الصلاة، الملتزمين بحفظ وصايا العلي، والساعين الى كل ما هو حق وصالح، والواعين اصلهم المشترك وكرامتهم كأشخاص.

        من اجل ان يقدّم الدين مساهمة ايجابية للمجتمع، دعا قداسة البابا الى تنمية قدرة العقل البشري، بالعودة الى الايمان والحقيقة، من اجل الخير. فالعقل البشري عطية من الله، ويرتقي الى القمم العليا عندما يستنير بالحقيقة الالهية. فلا يضعف العقل عندما يتنقى بالايمان، بل بالحري يتقوّى في مقاومة الادّعاء، وفي تخطّي الحدود الشخصية. وهكذا، الانتماء الاصيل الى الدين لا يضيّق الروح، بل يوسّع افق التفاهم البشري، ويحمي المجتمع من " الانا" الذي يسعى الى اطلاق صفة المطلق على المحدود، والى كسف اللامتناهي، ويؤمّن ممارسة الحرية على قاعدة الحقيقة، ويغني الثقافة بوجهات النظر المتعلقة بالحق والخير والجمال.

        ان الكرامة المشتركة بين المسيحيين والمسلمين تولّد حقوقاً شاملة لكل رجل ولكل امرأة، مهما كان دينه او عرقه او ثقافته. من بين هذه الحقوق، الحق في الحرية الدينية الذي يتخطى مسألة العبادة ليشمل الحق، ولاسيما عند الاقليات، في الولوج الى سوق التوظيف وسائر مساحات الحياة العامة.

 

***


 

رابعاً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

بعد ان عرضت " الشرعة" مضامين خصوصية لبنان، فانها تعرض خطة لانهاضه كدولة مدنية ديموقراطية. وهي مهمة مشتركة بين جميع اللبنانيين. تشمل خطة الانهاض ثمانية موجبات تقع على عاتق السلطة السياسية هي:

أ- اعتماد آليات للحؤول دون تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، وتفعيل هذه المؤسسات الكفيلة وحدها بتوطيد الاستقرار السياسي والامني والاقتصادي، ما يقتضي اسناد المراكز الحكومية والادارية والقضائية الى من يتميّزون بالكفاية والنزاهة والخبرة، واحترام احكام القضاء من قبل الادارة، وتعزيز عمل المجالس والاجهزة الرقابية، منعاً لهدر المال العام.[3] وتحقيق الموازاة بين المسؤوليات العامة والصلاحيات، وتعميم المهل الدستورية والقانونية على مستويات القرار كافة.

 

ب- الابتعاد عن سياسة المحاور الاقليمية والدولية وعدم التمحور في أحلاف خارجية تخوض صراع مصالح ونفوذ على ارض لبنان، وعلى حسابه، مع الحرص على الانفتاح والتفاعل مع محيطه والعالم.[4] ولا بدّ من السعي، بالتعاون مع منظمة الامم المتحدة وجامعة الدول العربية، الى تحييد لبنان مع تعزيز قدراته الدفاعية، بحيث يكون بلداً نموذجياً للحوار الديني الثقافي العالمي ومنفتحاً على جميع الدول بروح الصداقة والتعاون والاحترام المتبادل، ويلتزم قضايا المنطقة والعالم في كل ما يختص بالسلام والعدالة والحقوق وترقي الشعوب.

 

ج- تحقيق اللامركزية الادارية الموسعة، في سبيل تأمين فرصة جدّية لبناء الوحدة الوطنية وتأمين الاستقرار عبر تخفيف حدّة الصراع على السلطة المركزية، وتعزيز الانماء المتوازن. فاللامركزية الموسعة اولوية وطنية قصوى.

 

د- تعزيز الحياة الاقتصادية والاجتماعية واصلاحها بالاجراءات التالية:تطبيق المبادىء الاخلاقية فيها، الكفيلة باحياء التضامن والتكافل، وبالحدّ من الفساد والمضاربات والصفقات غير المشروعة؛ ت؛ تعديل النظام الضريبي ليكون اكثر عدالة وفعالية؛ دعم النشاط الانتاجي الصناعي والزراعي والخدماتي والسياحي وجذب الاستثمارات؛ اصلاح السياسة النقدية وتسديد الديون؛ تركيز علاقة الدولة بالقطاع الخاص على التعاون والتكامل والشفافية في التعامل الاقتصادي والمالي، والسهر على منع الممارسات الاحتكارية وعلى تأمين تعادل الفرص؛ تحديث التشريعات لمواكبة العولمة واحلال الثقة لدى المستثمرين.[5].

 

ه - محاربة الفساد من اجل بناء دولة الحق الشفافة التي ترسي حكم القانون وتطمئن مواطنيها. ما يقتضي وضع قانون فاعل واتخاذ تدابير تطبيقية. هذا يتطلب منع التدخل السياسي في التعيينات الادارية، ومحاسبة الراشي والمرتشى.

و-  الاهتمام بالطاقات الشبابية، التي هي ثروة البلاد الكبرى والقوة التجددية في المجتمع والكنيسة، بحيث تتوفر للشباب ثقافة علمية ومهنية مع تربية انسانية واخلاقية واجتماعية تهيئهم للاشتراك الواعي في القرارات الوطنية، وللانخراط في وظائف القطاع العام، بذهنية جديدة وتطلعات بعيدة؛ وتتأمن لهم فرص عمل وفقاً لمهاراتهم وكفاءاتهم، ما يتيح لهم البقاء في وطنهم وتحفيز الابداع على ارضه وتأمين مستقبلهم فيه وانشاء عائلة، ويفتح ابواب الرجاء امامهم بمستقبل افضل وبتحولات ممكنة.[6]

ز- تعزيز  مساهمة المرأة في المسؤوليات العامة ومشاركتها في الحياة السياسية، بما لها من حقوق وطاقات وما لديها من حيوية وانفتاح وصدق في مقاربة المواضيع، ومن حسّ اجتماعي لاستدراك المشاكل الانسانية والتربوية والصحية والبيئية.[7]

ح- الاهتمام باللبنانيين المنتشرين، بحيث تعترف الدولة بحقوقهم الوطنية وبخاصة اعادة الجنسية لمن تحقّ له، وتستعين بقدراتهم وتوظّفها، حتى لا يبقوا في غربة عن الوطن. بل يسهمون في الحفاظ على هويته وحضوره في المنطقة والعالم، ويدعمون قضاياه المحقة، ويوظّفون قدراتهم على اعادة اعماره في مختلف الميادين.[8] وتتعاون الدولة مع الكنيسة على تمتين الروابط معهم انطلاقاً من دعوة لبنان التاريخية ورسالته.[9]

 

***

 

خامساً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

        تتابع الخطة الراعوية تقبل النص السادس عشر: في التعليم العام والمهني، وتحديداً الفصل الثالث: الخيارات والثوابت، التطلعات والتوجهات.

        انطلاقاً مما سبق، يعدد النص المجمعي الخيارات والثوابت.

1.     المدرسة الكاثوليكية مؤسسة كنسية، تعليميه تربوية ( الفقرة 29).

انها بهذه الصفة تتميز بما يلي:

أ‌-     توفير العلم والتربية للجميع بشكل الزامي ومجاني لغير القادرين.

ب‌-نقل روحانية الكنيسة وتعاليمها وتراثها وقيمها.

ج- التربية على التمسك بالوحدة والتضامن والارض والعائلة والوطن، وتنمية الانفتاح على العالم العربي والتراث العالمي.

د- تدريس اصول اللغة العربية والعلوم بكافة انواعها.

 

2.     التربية عمل جماعي مشترك (الفقرات 30-33).

يشارك في هذا العمل الوالدون والمدرسة والدولة والكنيسة. لكن الحق والواجب الاول في تربية الاولاد انما يعود الى الوالدين لانهم اعطوهم الحياة. وهم يعهدون بهم الى المدرسة التي اختاروها.

اما محور العملية التربوية وهدفها فهو التلميذ الذي يوجب على النظام التربوي ان يؤمن له الخدمة الفضلى، ليصبح انساناً متكاملاً في ذاته، ومواطناً مخلصاً، ومؤمناً ملتزماً. ومن حقه على العملية التربوية ان تدرّبه على الحرية المسؤولة، بحيث يتمكن من اكتشاف مواهبه، وبناء معارفه، وانماء ميوله وتوجيهها نحو الحق والخير والجمال.

تكوّن المدرسة اسرّة تربوية، اعضاؤها الادارة والمعلمون والاهل، تربط فيما بينهم اواصر ثقة وعدالة ومحبة. لكن المعلم هو المحور الاساسي لانجاح العملية التربوية. فهو اولاً مربٍّ، يجسّد في شخصه كل ما يبغي ان يعلّمه لتلاميذه، الى جانب ما له من علم ومهارة. فلا بدّ من إعداده وتنميه شخصيته بشكل متكامل، أكاديمياً واخلاقياً وروحياً. 

***

صلاة

 

        ايها الروح القدوس الحالّ في الكنيسة، جسد المسيح السرّي، هلّم شدد اواصر وحدة جسد المسيح بالمحبة بين اعضائه، جماعة المعمدين. أعطِ كل واحد منا ان يدرك ما تمنحه من موهبة، ويميّزها، ويضعها في خدمة سائر الاعضاء والجسد كله. قوّنا بموهبة المشورة والشجاعة لنصمد في الشهادة للمسيح مهما كثرت المحن وتفاقمت المصاعب. قدّس الاساقفة والكهنة والشمامسة في خدمتهم، وازرع في قلوبهم محبة المسيح والغيرة على انجيل الخلاص. فنرفع المجد الى الثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس الى الابد، آمين.


[1] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1554-1570.

[2] . راجع الاوسرفاتوري رومانو، الاسبوعية الفرنسية، عدد19، في 12 ايار 2009.

[3]   النداء التاسع لمجلس المطارنة الموارنة (3 ايلول 2008).

[4]  اعلان ثوابت الكنيسة المارونية، صفحة 3، عدد 3.

[5]  المجمع البطريركي الماروني، النص21: الكنيسة المارونية والقضايا الاقتصادية،36-54.

[6]   رجاء جديد للبنان، 96؛ المجمع البطريركي الماروني، النص 11: الشبيبة..

[7]  رجاء جديد للبنان،50.

[8]  النص المجمعي4: الكنيسة المارونية في انتشارها العالمي،38.

[9]  النص المجمعي 19: الكنيسة المارونية والسياسة،57.

 


 

الاحد السابع بعد العنصرة

2 قورنتس 3/1-6

لوقا 10/1-7

بنعمة المسيح مخلصون ومرسلون

 

     يتواصل في زمن العنصرة ظهور ملامح الكنيسة. في رسالة بولس الرسول يظهر عمل الروح في الكنيسة حيث النعمة تكمّل الشريعة، وفي انجيل القديس لوقا يتبين ان ابناء الكنيسة يشاركون بحكم معموديتهم في رسالة المسيح الخلاصية.

 

اولاً، ملامح الكنيسة في القراءات المقدسة

 

         1. رسالة القديس يحنا الرسول الثانية الى اهل كوؤنتس 3: 1-6

 

أَنَعُودُ  نَبْدَأُ فَنُوَصِّيكُم بِأَنْفُسِنَا، أَمْ تُرَانَا نَحْتَاج، كَبَعْضِ النَّاس، إِلى رَسَائِلِ تَوْصِيَةٍ إِلَيْكُم أَوْ مِنكُم؟ إِنَّ رِسَالَتَنَا هيَ أَنْتُم، وهيَ مَكْتُوبَةٌ في قُلُوبِنَا، يَعْرِفُهَا وَيَقْرَأُهَا جَمِيعُ النَّاس. أَجَلْ، لَقَدِ اتَّضَحَ أَنَّكُم رِسَالَةُ الـمَسِيح، الَّتي خَدَمْنَاهَا نَحْنُ، وهيَ مَكْتُوبَةٌ لا بِالـحِبْرِ بَلْ بِرُوحِ اللهِ  الـحيّ، لا عَلى أَلْوَاحٍ مِنْ حَجَر، بَلْ عَلى أَلْوَاحٍ مِنْ لَحْمٍ  أَي في قُلُوبِكُم. تِلْكَ هيَ الثِّقَةُ الَّتي  لَنَا بِالـمَسِيحِ عِنْدَ الله، وهِيَ أَنَّنا لا نَقْدِرُ أَنْ نَدَّعيَ شَيْئًا كأَنَّهُ مِنَّا، بَلْ إِنَّ  قُدْرَتَنا هِيَ مِنَ الله، فهوَ الَّذي قَدَّرَنَا أَنْ نَكُونَ خُدَّامًا لِلعَهْدِ الـجَدِيد، لا لِلحَرْفِ بَلْ لِلْرُّوح، لأَنَّ الـحَرْفَ يَقْتُلُ  أَمَّا الرُّوحُ  فَيُحْيِي.

 

يتحدث بولس الرسول عن ان وصايا الله، تلك الشريعة المكتوبة على الواح من حجر، اصبحت بعد حلول الروح القدس في العنصرة، وصية مكتوبة في القلوب، ويقول " ليست مكتوبة بالحبر بل بروح الله الحي، لا على الواح من حجر بل في قلوبكم".

فالروح القدس هومحبة الله المسكوبة في قلوب المؤمنين، ليعيشوا بقوة النعمة التي تحيي، لا بموجب الحرف الذي يقتل. وقد شدد بولس الرسول في رسالته على ان الايمان بالمسيح، بموجب تعليم الانجيل والكنيسة، هو الذي يمنح الخلاص، لا العمل بالشريعة. وأكّد في رسالة اليوم ان " قدرتنا هي من الله لا منا"، وقد بدأت فينا بقوة المعمودية والميرون.

في ضوء هذا التعليم البولسي، الكنيسة تخدم كلمة الله التي تنير العقول والضمائر وتولّد الايمان؛ وتخدم نعمة الاسرار التي يطلبها المؤمن لينال الخلاص بالمسيح، فالنعمة الالهية هي التي تقدّس المؤمن، لانها تحقق فيه ثمار الفداء النابعة من موت المسيح تكفيراً عن خطايانا، ومن قيامته التي حصلت لتبريرنا؛ وتخدم محبة الله  التي تُسكب في قلوب المؤمنين المخلصين، بهبة الروح القدس وهؤلاء يعيشونها شريعة جديدة مكتوبة في القلوب، من شأنها ان تعطي الشريعة الحرفية روحاً ونكهة وحياة[1].

 

2. انجيل القديس لوقا 10: 1-7

         وَبَعْدَ    ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ اْنَينِ وَسَبْعِينَ آخَرِين، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ كانَ مُزْمِعًا أَنْ يَذْهَبَ إِلَيه. وَقالَ لَهُم: "إِنَّ الـحِصَادَ كَثِير، أَمَّا الفَعَلةُ فَقَلِيلُون. أُطْلُبُوا إِذًا مِنْ رَبِّ الـحِصَادِ أَنْ يُخْرِجَ فَعَلةً إِلى حِصَادِهِ. إِذْهَبُوا. هَا إِنِّي أُرْسِلُكُم كَالـحُمْلانِ بَيْنَ الذِّئَاب. لا تَحْمِلُوا كِيسًا، وَلا زَادًا، وَلا حِذَاءً، وَلا تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ في الطَّرِيق. وأَيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوه، قُولُوا أَوَّلاً: أَلسَّلامُ لِهـذَا البَيْت. إِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ سَلامٍ فَسَلامُكُم يَسْتَقِرُّ عَلَيه، وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ  إِلَيْكُم. وَأَقيمُوا في ذـلِكَ البَيْتِ تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مِمَّا عِنْدَهُم، لأَنَّ الفَاعِلَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ. وَلا تَنْتَقِلوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْت.

 

         يمثل التلاميذ السبعون اليوم المسيحيين، اؤلئك الذين بحكم معموديتهم اصبحوا مشاركين في رسالة المسيح. انهم في الخط الامامي، في الكنيسة، بحيث انهم في حياتهم وقولهم ومثلهم يهيئون طريق الرب الى قلوب الناس. فهم، بحكم وجودهم في محيطهم المدني، وفي مختلف نشاطاتهم الزمنية، يشهدون للمسيح، عندما يمارسون حياتهم واعمالهم باسم المسيح، في كل ما هو حق وصالح وعادل.

         فليعتبر كل مسيحي نفسه مرسلاً مثل اؤلئك التلاميذ الذين " ارسلهم يسوع اثنين اثنين امام وجهه الى كل موضع ومدينة حيث كان مزمعاً ان يذهب" ( لو10/1).

         هذا يعني ان المسيحيين، بحكم معموديتهم، مشاركون في ما يُسمى بالكهنوت العام، كهنوت الشهادة الحياتية القائمة على ثلاثة: قبول كلمة الانجيل وجعلها قاعدة حياة، قبول نعمة الاسرار النابعة من سرّ القربان وجعل الاعمال اليومية وافراح الحياة واحزانها قرابين روحية، وانفتاح القلب لقبول هبة الروح القدس لمحاربة الخطيئة والشر والظلم، واحلال حالة النعمة والخير والعدل.

         اما ذوو الدرجات المقدسة الكهنوتية فيشاركون في كهنوت الخدمة الذي، بالاضافة الى مشاركتهم الحياتية مثل سائر المسيحيين، يمنحهم سلطاناً الهياً ليقوموا باسم المسيح وبشخصه بمهام التعليم والتقديس والتدبير، وهي مهام المسيح، الكاهن الاسمى، المعلم والمخلّص والراعي. وتسمى هذه المهام في الكتاب المقدس النبؤة والكهنوت والملوكية[2].

         بحكم المعمودية والكهنوت كلنا مرسلون الى عالم يعيش، على ما يقول يوحنا الرسول، شهوات ثلاث: شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الحياة" (1يو2: 6)، فيحتاج الى خدمة الكلمة والنعمة والمحبة على مستوى الكهنوت العام وكهنوت الخدمة. ولهذا يقول الرب يسوع: " ها انا مرسلكم كالخراف بين الذئاب" (لو10/3). ويعني " بالذئاب" كل الذين يعاكسون عمل الله والكنيسة بالقول والفعل والموقف، وانهم منغمسون في هذه الشهوات.

 

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية[3]

 

في اطار السنة الكهنوتية والتأمل في سرّ الكهنوت، نعرض اليوم  مفاعيل الرسامة الاسقفية والكهنوتية والشماسية، وهي محصورة باثنين: الطابع الذي لا يمحى ونعمة الروح القدس.

1.    الطابع الذي لا يمحى

 تطبع رسامة الدرجات المقدسة الاسقف والكاهن والشماس " بطابع لا يمحى"، تماماً مثلما  يفعل سرّا المعمودية والميرون. هذا الطابع يصوّر قابله على صورة المسيح، بنعمة خاصة من الروح القدس، ما يمكّنه من الخدمة " كأداة" للمسيح من اجل الكنيسة. فيعمل كممثل للمسيح، رأس الكنيسة، في مهامه الثلاث ككاهن ونبي وملك. ولان الطابع الكهنوتي لا يمحى، لا يمكن اعادة الرسامة او منحها لزمن مؤقت. ولان المسيح هو الذي يعمل ويحقق مفاعيل الخلاص بواسطة الخادم، فان عدم اهلية هذا الاخير لا تحول دون عمل المسيح الخلاصي في قابلي السّر.

 

2.    نعمة الروح القدس

هذه النعمة الخاصة بسرّ الدرجات المقدسة هي تصوير المرتسم على صورة المسيح الكاهن والمعلم والراعي، وجعله خادماً للمسيح ولمهامه الثلاث.

بالنسبة الى الاسقف، انها نعمة القوة، الروح الرئاسي، ليقود الكنيسة ويحامي عنها بقوة وفطنة كابٍ وراعٍ بمحبة مجانية للجميع وبمحبة تفضيلية للفقراء والمرضى والمعوزين. هذه النعمة تناشده ليعلن الانجيل للجميع، ليكون مثالاً لقطيعه، ليتقدّمه في طريق القداسة متماهياً مع المسيح الكاهن والذبيحة في سرّ القربان، ومضحياً بحياته من اجل الخراف.

بالنسبة الى الكاهن، النعمة تؤهله ليقف امام مذبح الرب، ويعلن انجيل الملكوت، ويتمم خدمة الحق، ويقدّم له الذبائح والقرابين الروحية، ويجدد شعب الله بالميلاد الثاني. كما تؤهله لملاقاة الرب، في مجيئه الثاني، ولنيل مكافأة الخادم والوكيل الامين.

اما الشماس، فتكرّسه نعمة الروح القدس لخدمة شعب الله، ارتباطاً بالاسقف والكهنة، في الليتورجيا، واعلان الانجيل، زواعمال المحبة.

ثالثاً، ابعاد زيارة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر الى الاراضي المقدسة

 (8-15 ايار 2009)

 

         بمناسبة هذه الزيارة، طرح قداسة البابا، في حديث مع وفد الصحافيين المرافق، اهمية اطلاق حوار مثلث الاطراف من اجل السلام. تتشارك فيه المسيحية واليهودية والاسلام[4].

         فما يجمع بين المسيحية واليهودية، انما هو اصلهما المشترك، وكتب العهد القديم التي هي ايضاً مشتركة، وتشكل لهما كتاب الوحي. ولكن على مدى ألفي سنة، قامت تفسيرات وتعابير وافكار، أسفرت عن اختلافات وسوء فهم ينبغي عمل دؤوب لازالتها. تنفتح حالياً آفاق لذلك: يستطيع الكاثوليك في القدس دراسة اللاهوت في الجامعة العبرية، ويوجد اتصالات اكاديمية مع الشباب اليهود للغاية نفسها. ثمة خطوات متقدمة من شأنها ان تعزز السلام والمحبة المتبادلة. تجب الاشارة ايضاً الى ان كتب العهد الجديد مرتبطة عضوياً بكتب العهد القديم، بحيث ان كتب العهد الجديد لا تفهم من دون كتب العهد القديم، وهذا الاخير يكتمل مضمونه كتب العهد الجديد.      

         ودين الاسلام ولد في محيط كان يوجد فيه على السواء الدين اليهودي وسائر الفئات االمسيحية، مثل الفئة اليهودية-المسيحية، والمسيحية الانطاكية، والمسيحية البيزنطية. كل هذه الظروف تنعكس في التقليد القرآني. ولذلك يوجد منذ الاصل العديد من النقاط المشتركة في الايمان بالله الواحد.

         ويرى قداسة البابا وجوب قيام حوار ثنائي بين المسيحية مع اليهودية من جهة، وبين المسيحية والاسلام من جهة اخرى، ثم حوار مثلث بين الاديان الثلاثة. وهو شخصياً احد مؤسسي "جمعية الحوار بين الاديان الثلاثة" ، اصدرت منشورات حول القرآن والعهد الجديد والعهد القديم. ان الحوار المثلث يقتضي ان يتواصل، لانه يخدم السلام، ويساعد كل طرف في ان يعيش مقتضيات ايمانه الخاص.

 

***

 

رابعاًً، شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان

 

تضيف " الشرعة" على النقاط الثمانية التي تحدد الوسائل " للنهوض بلبنان والدولة المدنية الديموقراطية"، شروطاً لاكتمال عملية الانهاض بحيث تكون هذه الدولة الحديثة " ذات نظام سياسي واجتماع عادل ومنصف". والشروط اربعة:

أ- التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، فلا الدين يُسيِّس، ولا الدولة تعتدّ بالدين. ان تماهي الشريعة الدينية مع الشريعة المدنية غالباً ما يؤدي الى خنق الحرية الدينية والحدّ من حقوق الانسان الاساسية، والى التصلّب واللجوء الى العنف وشنّ الحرب باسم الدين، ما يعني في الاساس وجود مفهوم خاطىء عن الله وبالتالي مفهوم خاطىء عن الانسان.[5]

ب- ممارسة الديموقراطية ممارسة صحيحة ونشر ثقافتها، من اجل تأمين تداول السلطة وتجديد النُخب السياسية واستمرارية الاصلاح. فالديموقراطية عامة تعتمد التنوّع الفكري والسياسي والتعدد الحزبي وسواه، كما تعتمد الاعتراف بالآخر وبوجود اكثرية واقلية تعملان وفقاً للاصول الديموقراطية وتداول القيادة السياسية. تكون الديموقراطية تنافسية ضمن الجماعة المتجانسة طائفياً، وتوافقية ضمن المجتمع الاوسع والمتنوع طائفياً، كما هي الحال في خصوصية لبنان. ما يعني ان السلطة السياسية تعمل للخير العام في البلاد ليس فقط وفقاً لتوجهات الاكثرية، بل ايضاً بموجب الخير الفعلي لكل اعضاء الجماعة المدنية، بمن فيهم الاقلية، بحيث تتأمن للجميع مستلزمات الحياة الكريمة[6].

ج- التوفيق بين المواطنة والتعددية. فالمواطنة تقتضي المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع، عبر مؤسسات دستورية قادرة على نشر عدالة سليمة ومنصفة. والتعددية تقتضي العمل بمبدأ المشاركة الفاعلة والمتوازنة من قبل جميع الطوائف والمذاهب والافراد في الحكم والادارة، من دون ابعاد دور احد او اسقاطه  في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية ومن دون امتيازات لأحد او لطائفة.[7]

د- تأمين حرية المواطنين وتعزيز دورهم في المساءلة والمحاسبة، من خلال قانون انتخاب نيابي يؤمن صحة التمثيل لشتّى فئات الشعب، واجراء انتخابات دورية نزيهة تسمح للمواطنين بالتعبير عن رأيهم في اختيار ممثليهم وترسيخ العلاقة معهم وايصال خياراتهم وتطلعاتهم عبرهم؛ كما يفسح بالمجال لمشاركة المنتشرين في الانتخاب الذي هو من حقهم، بغية ترسيخ علاقتهم بوطنهم الام، وتقوية مساهمتهم الفعالة في اعادة بنائه.[8]

 

***

 

خامساً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         في اطار تقبّل النص المجمعي السادس عشر: في التعليم العام والتقني، تواصل الخطة التطبيقية عرض الخيارات والثوابت التي تكوّن الجزء الاول من الفصل الثالث.

 

1.    المدرسة تربي على كلام الله (الفقرة 34).

 بما ان التربية تتناول الانسان –الطالب بوجوده الكامل، فانها الى جانب الثقافة العلمية والتقنية والفن والرياضة، عليها ان توفّر له ايضاً ثقافة روحية وخلقية، مرتكزة على تعليم الانجيل، وسرّ المسيح كحقيقة سامية وهدف أعلى للحياة. ومن واجبها ان تنشّئه على حياة الصلاة اليومية، والممارسة الاسرارية، والنشاطات الراعوية، وتوجّهه الى الانخراط  في المنظمات والحركات الرسولية. ويوصي المجمع بأن تتأمن ساعتا تعليم مسيحي لكل صف في المدرسة.

ان الغاية من هذا التثقيف المتنوع والمتكامل هي اعداد مواطنين مستنيرين ومسؤولين، ومؤمنين ملتزمين.

        

2.    المدرسة تعزز الحسّ الوطني الاجتماعي (الفقرة 35).

 فضلاً عن المعرفة العلمية والثقافة الدينية، من واجب المدرسة ان تعزز الحسّ الوطني عند الطلاب. تعرّفهم على تاريخ وطنهم وقيمه وتقاليده ودوره في محيطه وفي الاسرة الدولية. فالمواطنية معرفة للهوية والرسالة والتزام بهما.

 

3.    المدرسة حق للجميع ( الفقرتان 36و37).

تبقى الكنيسة ملتزمة بما عاهدت في المجمع اللبناني (1736)، بان تكون مدارسها مفتوحة بوجه الفتيان والفتيات على السواء، ولاسيما من بينهم الفقراء والمعوزين والمعاقين، من اجل اعداد آباء وامهات المستقبل، وانماء حضارة المحبة والتضامن.        

*** 

صلاة

ايها الرب يسوع، انت ترسلنا لنحمل رسالتك الخلاصية، وقد اشركتنا بكهنوتك، لخدمة الكلمة والنعمة والمحبة، بالتعليم والتقديس والتدبير. اننا نحمل هذه الرسالة بحكم معموديتنا والدرجة الكهنوتية المقدسة. ترسلنا كما ارسلت التلاميذ السبعين لنهيّء طريقك الى العقول والضمائر والقلوب. ارسل الى حِصاد العالم الكثير فعلة ملتزمين يعملون بشجاعة وثبات وحكمة، لكي يبلغ انجيل الخلاص الى جميع الناس. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن والى الابد، آمين.


[1] . راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،645، 1266، 1922، 1987، 2020.

 

[2] . راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1546-1548.

[3] . راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1581-1589.

[4] . انظر جريدة الاوسرفاتوري رومانو، الاسبوعية الفرنسية، عدد16، تاريخ12 ايار 2009.

[5]   البابا بندكتوس السادس عشر: الرسالة ليوم السلام العالمي 2007: الشخص البشري قلب السلام،10؛ البابا يوحنا بولس الثاني: الرسالة ليوم

     السلام العالمي 1990؛ النص المجمعي 19: الكنيسة المارونية والسياسة، 45.

[6]  الكنيسة في عالم اليوم، 26/2؛ كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1908؛ المجلس الحبري  عدالة وسلام: مختصر تعليم الكنيسة

      الاجتماعي،169.

[7]  النص المجمعي 19: الكنيسة المارونية والسياسة،44؛ رجاء جديد للبنان،92.

[8]  اعلان ثوابت الكنيسة المارونية،ص 4 عدد 5.
 


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code