تقديم
زمن العنصرة هو زمن الروح القدس المرسل من السماء ليحرر
الانسان. والحرية هي ثمرة الفداء الذي تممه الرب يسوع بموته، فتحقق
تحرير الانسان من عبودية الخطيئة والموت، وبقيامته من بين الاموات،
فاعطى المفتدين حرية ابناء الله، وبما ان المسيح الرب حي الى الابد،
فان "الرب روح، وحيث يكون روح الرب، فهناك الحرية" ( 2 كور3/17).
يسعدني ان اقدّم العدد التاسع عشر من سلسلة التنشئة
المسيحية للآحاد الثمانية الاولى من زمن العنصرة 2008. وفيه الى
جانب اناجيل الأحاد، تحضير لحدثين متزامنين: الاحتفال بالمؤتمر
القرباني العالمي التاسع والاربعين في كبيك بكندا ( 15 -22
حزيران)، والاحتفال بتطويب الاب يعقوب حداد الكبوشي في لبنان ( 22
حزيران). وأعرض في القسم الثالث من هذا العدد النص الثامن من نصوص
المجمع البطريركي الماروني، بعنوان: " الحياة الرهبانية في الكنيسة
المارونية".
نأمل ان يقودنا هذا العدد الى وعي عمل الروح القدس فينا،
والى انفتاح عقولنا واراداتنا والقلوب لانواره ومواهبه ومحبته،
لنعيش احراراً بالمسيح. فالشكر لله على حضوره معنا بروحه القدوس
لتحريرنا وتحرير العالم على ايدينا " فحيث يكون روح الرب، هناك
الحرية".
+ بشاره الراعي
مطران جبيل
الاحد 11 ايار 2008
عيد العنصرة
العنصرة تتواصل في الليتورجيا
انجيل القديس يوحنا 14/15-20
إِنْ تُحِبُّونِي تَحْفَظُوا وَصَايَاي. وأَنَا أَسْأَلُ
الآبَ فَيُعْطِيكُم بَرَقلِيطًا آخَرَ مُؤَيِّدًا يَكُونُ مَعَكُم
إِلى الأَبَد.ُ هوَ رُوحُ
الـحَقِّ
الَّذي لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ،
لأَنَّهُ
لا يَرَاه، ولا يَعْرِفُهُ. أَمَّا أَنْتُم فَتَعْرِفُونَهُ،
لأَنَّهُ
مُقيمٌ عِنْدَكُم، وهُوَ فِيكُم. لَنْ أَتْرُكَكُم يَتَامَى.
إِنِّي آتِي إِلَيْكُم. عَمَّا قَلِيلٍ لَنْ يَرانِيَ العَالَم،
أَمَّا أَنْتُم فَتَرَونَنِي،
لأَنِّي
أَنَا حَيٌّ وأَنْتُم سَتَحْيَون. في
ذـلِكَ
اليَومِ تَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا في أَبِي، وأَنْتُم فِيَّ،
وأَنَا فيكُم.
***
وعدُ الرب يسوع بارسال الروح القدس تحقق يوم العنصرة، الذي
نحتفل به اليوم. ففي اليوم الخمسين بعد الفصح حلّ الروح القدس على
الرسل الاثني عشر، وقد روى القديس لوقا هذا الحدث في اعمال الرسل
(2/1-13). فانكشف سرّ الله الثالوث، واعتلنت الكنيسة للعالم. عنصرة
الروح القدس تتواصل في الكنيسة بواسطة الليتورجيا لكل من يحب
المسيح ويحفظ وصاياه (يو/15-16).
ما هو الحدث؟ ماذا يعلمنا ان نؤمن به؟ ماذا يجب ان نعمل؟ الى مَ
نسعى عبر رحلة الدنيا؟
اولاً، شرح نص الانجيل
1. الحدث: حلول الروح القدس في اليوم الخمسين
نعرف الحدث من القديس لوقا كما وصفه في كتاب اعمال الرسل
(2/1-13).
" بعد خمسين يوماً" من قيامة الرب يسوع من الموت، حلَّ
الروح القدس على الرسل المجتمعين من خلال ثلاث علامات: صوت ريح
شديدة، ألسن من نور، النطق بلغات لغات. من الخمسين يوماً كانت
اللفظة اليونانية
Pentecosté
التي اشتقت منها اللفظات الاخرى
Pentecôte
بالفرنسية، وPentecost
بالانكليزية...وتعني " اليوم الخمسين". اما اللفظة العربية "العنصرة"
فتعني حسب الاصل العبري "الاجتماع" او " المحفل" كما نقرأ في رواية
الحدث: "وفيما هم مجتمعون". وترتبط ايضاً " بالعنصر" الذي يعني
الجسم البسيط او الهيولي بالنسبة الى اثنين: الروح القدس كجسم
بسيط، والهواء والنار وهما عنصران من العناصر الاساسية الاربعة عند
القدماء، بالاضافة الى الماء والتراب. فالروح القدس يهبّ كالريح
(الهواء)، فينعش ويحيي، كما قال يسوع لنقديموس: " الرياح تهبّ حيث
تشاء، وانت تسمع صوتها، ولكنك لا تدري من اين تأتي، ولا الى اين
تذهب" ( يو3/8). هكذا ظهر حلول الروح القدس: " اذا بصوت من السماء
كصوت ريح شديدة، فامتلأ منه البيت حيث كانوا جالسين". ان الروح
القدس، بما له من طاقة وقدرة، يعمل ويغيّر وينير كالنار: " وظهرت
لهم ألسنة كانها من نار، كانت تنقسم وتستقر على كل واحد منهم.
فامتلاؤا جميعاً من الروح القدس". والروح يعلم ويفـّقه. "وبدأوا
ينطقون بلغات لغات، كما كان الروح يؤتيهم ان ينطقوا" (
اعمال2/2-4).
كما حلّ فصح المسيح مكان الفصح اليهودي، وقد تزامنا تلك السنة في
15 نيسان، كذلك حلّ عيد العنصرة اي حلول الروح القدس على الرسل
المجتمعين، مكان عيد الاسابيع السبع بعد الفصح وهو عيد بواكير حصاد
الحنطة (خروج 34/22؛ تثنية 16/9-10)، المعروف "بعيد الحصاد" ( خروج
23/16) اي عيد الشكر لله على الغلات، ويقدم فيه الشعب ثلاث ذبائح:
ذبيحة محرقة، وذبيحة تكفير عن الخطايا، وذبيحة سلامية (
احبار23/18-19). وكانت فيه ذكرى تسليم الرب لّوحَي الشريعة لموسى
على جبل سيناء. في العنصرة اعطى الله شريعة جديدة، يقول عنها بولس
الرسول انها " لم تُكتب بالحبر بل بروح الله الحي، لا في الواح من
حجر بل في قلوب البشر" ( 2كور3/3). العنصرة تعكس كل الخيرات
الروحية التي اُغدقت على العالم وهي ثمار الفداء (البواكير) التي
يحققها الروح القدس في الكنيسة الناشئة وفي المؤمنين بواسطة
الليتورجيا.
2. ماذا يعلمنا الحدث ان نؤمن به
فسّر بطرس المضمون الروحي لهذا الحدث في العظة التي ارتجلها
(اعمال2/14-41). هو الرب يتمم وعده، الذي تنبأ عنه يوئيل: " ويكون
في الايام الاخيرة، اني أفيض روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم
وبناتكم... واجعل في السماء عجائب، وعلى الارض آيات: دماً وناراً
ودخاناً... ويكون من يدعو باسم الرب يخلص" ( يوئيل 3/1-5؛ اعمال
2/16-21).
الوعد بحلول الروح القدس تحقق بواسطة المسيح الذي، كما
يفسّر بطرس ايضاً، مات وقام وارتفع واخذ من الآب الروح القدس
الموعود، وافاض هذه الموهبة التي ترون وتسمعون (اعمال2/32-33).
هكذا نعلن في قانون الايمان: " نؤمن بالروح القدس الرب المحيي،
المنبثق من الآب والابن".
وكشف الرب يسوع عن اسم الروح القدس ورسالته الذي " يطلبه من
الآب فيعطيه" (يو14/16): انه بارقليط آخر. البارقليط، حسب اللفظة
اليونانية، هو الشخص الذي يُستدعى لدى المتهم للدفاع عنه ونسميه
المحامي، المساعد، المدافع. ومنها اشتقت معانٍ اخرى كالمعزي
والشفيع والمؤيّد. هو بارقليط آخر اي ثانٍ بالنسبة الى يسوع
المسيح، البارقليط الاول، كما يسميه يوحنا الرسول: " ان خطىء احد
فهناك بارقليط (شفيع) لنا عند الآب، وهو يسوع المسيح الذي يبرّر.
انه كفارة لخطايانا ولخطايا العالم اجمع" ( 1يوحنا 2/1-2). الروح
القدس، البارقليط الآخر، يحقق فينا التقديس وازالة خطايانا من معين
موت المسيح وقيامته. هذا ما فعل يسوع يوم قيامته مستبقاً العنصرة:
" نفخ فيهم وقال: خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه غفرت، ومن
حفظتم خطاياه حُفظت" ( يو20/22-23). هذه الحقيقة تعلنها صيغة الحلّ
من الخطايا، يتلوها الكاهن على التائب: " الله ابو المراحم، الذي
صالحنا بموت ابنه وقيامته، وافاض روحه القدوس لمغفرة الخطايا، هو
يمنحك، بواسطة خدمة الكنيسة، الحلّ والغفران. وانا بالسلطان المعطى
لي احلّك من جميع خطاياك، باسم الآب والابن والروح القدس". هذا
السلطان اعطاه الرب يسوع للرسل ولكهنة العهد الجديد. عندما
يمارسونه في الليتورجيا، يمنحون الروح القدس الذي يجعل المسيح
الفادي والمخلص حاضراً وفاعلاً.
الروح القدس شخص الهي ثالث بالنسبة الى الآب ويسوع الابن
(يو14/16). بحلول هذا الروح، اعتلن الثالوث الاقدس بكماله. ومنذ
ذاك اليوم، انفتحت ابواب الملكوت بوجه كل الذين يؤمنون بالمسيح
ويحفظون وصاياه (يو14/15). انهم بالايمان والتواضع يدخلون في شركة
الثالوث منذ رحلتهم التاريخية، الى ان تكتمل هذه الشركة في الحياة
الالهية في العالم الآتي.
ويبيّن المسيح الرب رسالة الروح القدس: انه روح الحق الذي
يكشف حقيقة المسيح، ويقود اليها. هو لا يتكلم عن نفسه. ولذلك
"العالم لا يستطيع قبوله لانه لم يره ولم يعرفه، بينما الذين
يؤمنون بالمسيح يعرفونه لانه مقيم فيهم" ( يو14/17). " يقود الى
الحقيقة كلها" ( يو16/13) لانه روح الحكمة والفهم والعلم. بموهبة
الحكمة يضع عقلنا في وجهة منظار الله ونوره. وبالفهم ينير ايماننا
ويمكّنه من الولوج في عمق الاسرار الالهية، ويلائم عقلنا المحدود
مع اللامحدود. وبالعلم يعطينا موهبة تمييز القيم الآتية من الله،
عن تلك الأتية من الشرير او منا. الروح القدس بمواهبه الثلاث
الاولى ياتي لمعونة عقلنا وايماننا، فيقودنا الى الحقيقة كلها.
وينكشف سرّ الكنيسة التي هي جسد المسيح السرّي: يجمعه
ويوحّده وينعشه الروح القدس. بدون هذا الروح لا كنيسة: فالروح الذي
يحوّل الخبز والخمر، في القداس، الى جسد المسيح ودمه، هو عينه
يحوّل جماعة المؤمنين الى جسد المسيح السرّي، الى كنيسة. يوم
العنصرة ظهرت الكنيسة علناً أمام جماعة الناس وبدأت تنشر انجيل
الخلاص بالكرازة. بدون الروح القدس لا افخارستيا حيث حضور المسيح
دائم وسط الجماعة البشرية: " لا اغادركم يتامى، لاني اعود اليكم" (
يو14/18). حضوره دائم بالروح القدس. فلولا الروح، لكانت الكنيسة
حزباً، والانجيل حرفاً ميتاً، والافخارستيا وسائر الاسرار
فلكلوراً، والكرازة دعاية. ولكن بالروح القدس الكنيسة هي جسد
المسيح السري، الانجيل روح وحياة، الافخارستيا والاسرار لقاء تقديس
وتغيير بين الله والانسان، والكرازة مبعث ايمان وغذاء. ان يسوع
المسيح هو رأس هذا الجسد: " يومذاك تعرفون اني في ابي، وانكم فيَّ،
واني فيكم" ( يو14/20).
3. ما يجب فعله
الايمان الذي يعلّمه الحدث يقتضي من المؤمن الالتزام بمسلك
جديد، اذ يطرح على نفسه السؤال عما يجب ان يعمل. هكذا جرى للذين
سمعوا كلام بطرس يوم العنصرة فخفقت قلوبهم وسألوه وسائر الرسل: "
ماذا نفعل يا اخوتنا؟" فاجابهم بطرس: " توبوا، وليعتمد كل منكم
بأسم الرب يسوع، لمغفرة الخطايا، ولقبول موهبة الروح القدس...
تخلصوا من هذا الجيل الملتوي" (اعمال 2/32-40).
ويقول الرب: " انا حي وانتم تحييون ايضاً" ( يو14/19)، فانه
يؤكد انه اعطى الروح من اجل حياة جديدة فينا. في الواقع، الروح
يعضد العقل في قبول الحقيقة وفهمها بمواهب الحكمة والفهم والعلم،
ويعضد الارادة في الخير والصلاح بالمواهب الاربع الاخرى: المشورة
لحسن اختيار الوسائل الملائمة للغاية المنشودة، القوة للثبات
والصمود بوجه المحنة، التقوى للاندهاش بالله ولحبه من كل القلب
بحفظ وصاياه: " اذا كنتم تحبوني، فاحفظوا وصاياي" ( يو14/15)،
مخافة الله لنعيش في مرضاته وصداقته.
4. الى مّ نسعى عبر رحلة الدنيا؟
الروح القدس الذي فينا هو روح الابن الوحيد، اصبحنا به
ابناء الله وندعوه: ابّا، يا ابانا؛ وهو روح القيامة يدفعنا الى
حياة متجددة، وباكورة الخيرات السماوية التي نرثها كاملة في العالم
الآتي (غلاطية 4/6-7؛ 2كور1/22). نحن جماعة الرجاء، ننتظر وسط محن
العالم تعزيات الله، التي تغيّر وجه البشرية والعالم، ويسمي بطرس
الرسول هذا التغيير الشامل " سماء جديدة وارضاً جديدة" (
2بطرس3/13). ولذا، نهتف: " ارسل روحك ايها المسيح، فيتجدد وجه
الارض".
الليتورجيا هي استدعاء الروح القدس من قِبَل الكاهن فيعطيه
الله للمؤمنين. ليس الروح القدس عطية الانسان، بل عطية الله
باستدعاءٍ من الكاهن في خدمته الليتورجية. ولهذا تُسمى الليتورجيا
" سرّ الروح القدس" الذي يجعل المسيح حاضراً وفاعلاً بواسطة اسرار
الخلاص. الليتورجيا عنصرة دائمة.
***
ثانياً، الروح القدس ومريم العذراء
في شهر ايار نتأمل في العلاقة السرّية بين الروح القدس ومريم
العذراء ام الاله التي هي مثال الكنيسة. هذه العلاقة، التي جعلت
مريم مسكن الروح، هي النموذج لعمل الروح في المؤمن وفي الكنيسة.
1. مريم هي كلية القداسة لانها صارت، منذ اللحظة الاولى
لوجودها "هيكل الروح القدس" ( الدستور المجمعي في الكنيسة: نور
الامم، 53). انها " الممتلئة نعمة" ( لوقا1/28). فالآب اختارها،
ونعمة الروح قدّستها (القديس يوحنا الدمشقي: عظات في مناحة
العذراء،1،3). منذ البدء، اتّحدت مريم بالروح صانع الحياة، وهو
طبعها في كل كيانها واعمالها ومواقفها. وهكذا، جعلها الروح " خليقة
جديدة" ( نور الامم،56)، فأنمت في نفسها الوحدة العميقة مع الله.
2. قاد الروح القدس مريم في كل مراحل حياتها:
في البشارة، قبلت حرّة، بوحي الروح، ان تصبح ام الكلمة.
بجوابها الايماني اسهمت اسهاما كاملاً مع نعمة الله التي تستبق
وتسعف، واظهرت جهوزية وطواعية كاملة لعمل الروح الذي يكمّل الايمان
بمواهبه.
في زيارتها لاليصابات تنبأت، بالهام من الروح، وانشدت نشيد التعظيم
للرب، واظهرت نفسها " فقيرة الله" المستعدة دائماً لتتميم ارادته،
هو الذي يصنع العظائم ( لوقا1/46-49).
في ولادة يسوع عضدها الروح وحفظها عذراء، وآمنت ان طفلها هو تتميم
وعود الله للآباء، وانه "القدوس ابن الله" (لو1/35). وفي طفولته
ونموه " بالقامة والنعمة والقوة" ( لو2/52)، كانت مريم تتأمل في
قبلها، على هدي انوار الروح، تلك الاحداث لكي تتحقق اكثر فاكثر في
ابعادها ومعانيها ( لو2/19،49-51).
بالقرب من الصليب، عضدها الروح القدس فلم تتهرّب امام قساوة موت
ابنها، بل رددت جوابها " نعم" في الروح. بفضل آلامها التي لم
يتألمها كائن بشري بمقدارها، اصبحت ام جميع الناس الذين من اجلهم
قدّم ابنها حياته، واشركها في هذه التقدمة.
في العلّية، كانت مريم تترجى الآب كي يفيض روحه، وثابرت مع
الرسل والجماعة المسيحية على الصلاة بقلب واحد ( اعمال1/14). لقد
طلبت بصلاتها عطية الروح للكنيسة الناشئة، كما حلّ عليها يوم
البشارة ( نور الامم،59).
واخيراً بارتفاعها نفساً وجسداً الى مجد السماء اظهرت للكنيسة ان
الروح القدس الذي حلّ فيها، وجعل منها سكناه، اعطاها جسداً مروحناً،
فامتلكت، بفضل الروح الحي والمحيي، الحياة التي لا تموت. هذه
الحياة كانت مستترة، ولما انتهت مسيرة حياتها الارضية تألقت فيها
بالانتقال الى السماء الذي هو مل النتيجة لتروحنها.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة تقبّل النص المجمعي الثامن: " الحياة الرهبانية
في الكنيسة المارونية"، وقد بلغنا الى الفصل الثاني: روحانية
الحياة الرهبانية السريانية الانطاكية. نختار من صفات هذه
الروحانية ثلاثاً:
1.
التجذّر الانجيلي
( فقرة24).
وجد الرهبان والراهبات في قراءة الكتاب المقدس منبع حياتهم
الروحية، فلبّوا الدعوة الى اتباع المسيح المطيع والبتول والفقير،
والتتلمذ له والسعي الى الاقتداء به. انطبعت حياتهم بالصلاة والعمل
الرسولي.
التزموا بالصلاة التي تفيض بواسطتها النعم السماوية، وهي
تشكّل زينة الكنيسة ومجدها. والتزموا بالعمل الرسولي من اجل خلاص
جميع الناس.
2.
الحب لوحيد الآب ( فقرة 25)
حبّهم للمسيح "وحيد الآب" ( يو1/18) والمتوحَّد بامتياز، يجعلهم
يتحدون به، ليصبحوأ بدورهم متوحّدين. وبهذه الصفة يلتمسون بصفاء
القلب ادراك سرّ الله الخفيّ المتجلي في شخص الاب الوحيد المتجسد،
وتعلنه الكنيسة حاملة اسرار الابن.
هذا الحب لوحيد الآب يجعلهم مخطوبين للمسيح، عائشين الجمال
الالهي، مصممين على احتمال كل شيء بطيبة خاطر في سبيل حبيبهم،
وصامدين صموداً رائعاً بوجه النزوات والشهوات. انها حكمة الشهادة
والاستشهاد في سبيل الحمل الذبيح والقائم من الموت.
3.
النسك والحياة الجماعية
( فقرة26).
جمع الرهبان والراهبات في تراثهم السرياني الانطاكي الروحي بين
النسك والحياة الجماعية.
فالنسك او الزهد وحياة الوحدة اسهمت اسهاماً كبيراً في نشر الانجيل.
هذا النهج المتواصل حتى ايامنا، قائم على الانصراف الى الصلوات
الطويلة والتأمل في سرّ الدهر الآتي، مع العمل اليدوي والتقشف
والصيام، فلا يأكل النسّاك إلا مرة واحدة في اليوم. ولهذا قامت
المناسك قرب عدد من الاديار.
اما الحياة الجماعية فتبنى حول الافخارستيا وبالصلوات المشتركة
وتقاسم الخبز والخيرات الروحية. وكانت تشكل مرحلة لاختيار الحياة
التوحدية من قبل القادرين. من هذه الاديار والمناسك اختير العديدون
للدرجة الاسقفية والبطريركية.
****
صلاة
هلّم ايها الروح القدوس، وأملأ نفوسنا بمواهبك السبع. نوّر عقولنا
بحكمتك لننظر الى الحياة واحداثها برؤية الايمان الصافية. وهبنا
الفهم لنلج الى عمق سرّك ومعنى الوجود. ووجهّنا بالعلم لنحسن تمييز
القيم. علّمنا الحقيقة.
هلّم ايها الروح القدوس، واعضد اراداتنا بمشورتك لكي تأتي خياراتنا
ملائمة لمشيئة الله وساعية الى ما هو صالح وجميل. شدّدنا بقوتك
لنصمد بوجه المحن، ونثبت بالرجاء في المسلك الصالح والموقف الشاهد.
وجّهنا الى الخير.
هلّم ايها الروح القدوس، وحرّك قلوبنا بتقوى الله لنحفظ وصاياه
ونغلب الشر. ضع فينا مخافة الله لنعيش في مرضاته وصداقته. املأنا
محبة.
اجعلنا، ايها الروح القدوس، مسكناً لك على مثال امنا مريم الكلية
القداسة لكي تتحقق فينا بواسطتنا مقاصد الله لخلاص العالم. للثالوث
المجيد الآب والابن والروح القدس كل مجد واكرام الآن والى الابد،
آمين.
الاحد 18 ايار 2008
الاحد الثاني من زمن العنصرة
احد الثالوث الاقدس
سرّ الله الواحد والثالوث وعمل الخلاص
انجيل القديس متى 28/16-20
َ أَمَّا التَّلامِيذُ الأَحَدَ عَشَرَ فذَهَبُوا إِلى
الـجَلِيل، إِلى الـجَبَلِ حَيثُ أَمَرَهُم يَسُوع. ولَمَّا
رَأَوهُ سَجَدُوا لَهُ، بِرَغْمِ أَنَّهُم شَكُّوا. فدَنَا يَسُوعُ
وكَلَّمَهُم قَائِلاً: "لَقَدْ أُعْطِيتُ كُلَّ سُلْطَانٍ في
السَّمَاءِ وعَلى الأَرْض.ِ أذْهَبُوا إِذًا فَتَلْمِذُوا كُلَّ
الأُمَم، وعَمِّدُوهُم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحِ القُدُس،
وعَلِّمُوهُم أَنْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُكُم بِهِ. وهَا
أَنَا مَعَكُم كُلَّ الأَيَّامِ إِلى نِهَايَةِ العَالَم".
***
هذا الانجيل هو خاتمة تدبير الله الخلاصي والوحي الالهي عن
سرّ الله، حسب رواية القديس متى، وهو بداية تحقيقه في الانسان، من
كل جيل ومكان. هذا التدبير وهذا الوحي هما العمل المشترك لله
الواحد والثالوث. وبسبب الخاتمة والبداية، تحتفل الكنيسة اليوم
بعيد الثالوث الاقدس: الله الآب والابن والروح القدس.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
التدبير والوحي
كل الافعال والمبادرات التي قام بها الله كاشفاً ذاته للانسان
ومانحاً اياه الحياة الالهية، نسمّيها تدبير الله الخلاصي
Economie-
Oikonomia
يقول عنه بولس الرسول انه " سرّ مشيئة الله الذي سبق ووضعه، ليُجري
به تدبير ملء الازمنة، ليتجدد ثانية بالمسيح كل شيء مما في "السماء
وعلى الارض" ( افسس1/ 9-10). ثم يشرح تدبير ملء الازمنة كاتباً الى
اهل غلاطية: ولما بلغ ملء الزمن، ارسل الله ابنه فتأنس من امرأة،
وكان تحت الناموس، تمم مشيئة الآب ليفتدي كل الناس المدعوين
للخلاص، وننال منزلة البنين. ولانكم ابناء، ارسل الله الى قلوبكم
روح ابنه الذي يدعو الآب ابانا. لستم اذاً بعدُ عبيداً بل ابناء.
وما دمتم ابناء، فأنتم ورثة الله بيسوع المسيح" (غلا4/4-7).
أما الوحي الالهي فيعني اعلان الله الثالوث، الذي نفهمه بعلم
اللاهوت (
Theologia).
فافعال الله المعروفة بالتدبير تكشف لنا من هو الله في ذاته. أما
سرّ كيانه الداخلي الذي يكشفه اللاهوت فينير فهم كل افعاله. تماماً
كما يحصل على صعيد الشخص البشري: فالشخص يظهر من خلال افعاله؛
وبقدر ما نحسن معرفة الشخص بقدر ذلك نحسن فهم افعاله (التعليم
المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 236).
هكذا عرفنا الله انه واحد في الطبيعة الالهية ومثلث الاقانيم. ان
سرّ الثالوث الاقدس هو محور الايمان والحياة المسيحية، بل هو نبع
كل اسرار الايمان الاخرى، والنور الذي ينيرها. كل تاريخ الخلاص هو
تاريخ الطريق والوسائل التي يكشف بها الله الواحد الآب والابن
والروح القدس عن ذاته، فيتصالح مع الناس العائدين عن الخطيئة ويتحد
بهم.
2.
تحقيق تدبير الخلاص في الانسان
فوّض المسيح الرب الى الرسل والى خلفائهم الاساقفة، وهؤلاء الى
الكهنة معاونيهم، رسالة الخلاص التي تسلمها من الآب ومنحهم السلطان
الالهي للقيام بها: " لقد أعطيت كل سلطان في السماء والارض، فكما
ارسلني ابي ارسلكم انا ايضاً" (متى28/18). فوّض اليهم
السلطان-الرسالة المثلثة ( متى28/19-20):
أ-
التعليم:
" تلمذوا كل الامم" - علموهم سرّ الثالوث وعمله الخلاصي ورسومه.
ب- التقديس: " عمّدوهم بأسم الآب والابن والروح القدس"- حققوا فيهم
الخلاص وامنحوهم غفران الخطايا والبنوة الالهية وكنوز الملكوت.
ج- الرعاية: " علموهم ان يحفظوا ما اوصيتكم به" – ابنوا الجماعة
المسيحية على اسس الانجيل.
انه سلطان المسيح المعلم الذي علّم حقيقة الله والانسان والتاريخ
بشخصه واعماله وآياته، والكاهن الذي افتدى الجنس البشري بالآمه
وموته وقيامته، والملك الذي ارسى ملكوت الله في العالم، ملكوت
المحبة والعدالة والاخوّة والسلام، بتأسيسه الكنيسة على بطرس
والرسل.
ان تدبير الخلاص هو عمل الله الثالوث: الآب الذي احب الانسان وخلقه
وارسل ابنه المولود منه لخلاصه، والابن الذي تأنس وتألم ومات وقام
وتمّم الخلاص واسس الكنيسة اداة الخلاص، والروح القدس الذي يتمم
الخلاص في كل انسان.
انجيل اليوم هو في آن معاً خاتمة هذا التدبير الذي انكشف واكتمل
تاريخياً منذ الفي سنة، وبداية تحقيقه في الانسان على مدى الدهور.
فكما تمّ منذ الفي سنة بواسطة الجسد البشري الذي اخذه ابن الله من
مريم البتول بقوة الروح القدس، كذلك يتم بواسطة جسده السرّي اي
الكنيسة بقوة الروح عينه. لكنه دائماً عمل الله الثالوث المشترك.
3.
سرّ الله الاله الواحد والمثلث الاقانيم
نحن نؤمن باله واحد لا بثلاثة الهة. نؤمن باله واحد في ثلاثة اشخاص.
لا يتقاسم الاشخاص الالهيون الالوهة الواحدة، بل كل شخص منهم هو
الله بكامله. فالآب في الجوهر هو تماماً ما هو الابن، والابن هو
تماماً ما هو الآب، والآب والابن هما تماماً ما هو الروح القدس، اي
اله واحد في الطبيعة. كل شخص الهي هو هذه الطبيعة. ولهذا نقول انهم
متساوون في الجوهر، والثالوث إله واحد.
لكن الثالوث ثلاثة اشخاص متساوون في الجوهر انما متميزون الواحد عن
الآخر. الله واحد ووحيد لكنه ليس منفرداً. ليس الاشخاص تسميات
للكيان الالهي، فالآب ليس من هو الابن، ولا الابن من هو الآب، ولا
الروح القدس من هما الآب والابن. انهم متميزون فيما بينهم من خلال
العلاقات الاصلية المتبادلة: فالآب هو الذي ولد الابن، والابن هو
المولود، والروح القدس هو الذي ينبثق. هي الوحدة الالهية مثلثة.
افضل تشبيه حسّي لهذه الحقيقة الفائقة الطبيعة نجده في الشمس:
طبيعة واحدة تتجلّى في ثلاثة: المصدر الذي منه يولد الشعاع حامل
النور والحرارة وهو ينبثق منهما، هذا من حيث افعال كل شخص. وثمة
صورة اخرى للكيان الالهي الواحد والمثلث في علم الهندسة هو صورة
المثلث ذي الثلاث زوايا. لا يتكوّن هذا المثلث الاّ بزواياه
الثلاث. كل زاوية هي المثلث كله دون ان تذوب في الآخريين او ان
تحلّ محلّ احداهما.
هكذا الآب هو المصدر في صورة الشمس وهو كله في الابن الشعاع وكله
في الروح القدس النور والحرارة. والابن كله في الآب وكله في الروح
القدس؛ والروح القدس كله في الآب وكله في الابن (التعليم المسيحي
للكنيسة الكاثوليكية، 253-255).
4.
عمل الكنيسة هو عمل الثالوث
"وها انا معكم جميع الايام الى انتهاء العالم" ( متى28/20).
" الكنيسة هي اداة الخلاص الشامل" (الدستور المجمعي في
الكنيسة،48). هي الاداة لفاعلٍ هو الثالوث: " عمّدوهم بأسم الآب
والابن والروح القدس". انا معكم" لا تعني المسيح الاله وحده، فهو
ليس واحداً من ثلاثة آلهة، بل تعني الله الواحد الذي تمم الخلاص
باشخاصه الثلاثة: الآب ارسل، والابن تأنس وافتدى، والروح القدس
يحقق ثمار التأنس والفداء.
الكنيسة بسلطانها الكهنوتي تخدم بشخص المسيح، وباسم الله الثالوث.
لا خلاص من دون وساطة الكنيسة جسد المسيح السرّي، كما لم يتم
الخلاص الاّ بواسطة الجسد السرّي التاريخي الذي اخذه الابن الالهي
من مريم البتول. لا يوجد علاقة خلاصية مباشرة بين الانسان والله،
بل بواسطة الوسيط الوحيد يسوع المسيح في جسده التاريخي وفي جسده
السرّي.
في القداس، المعروف بالليتورجيا الالهية، يتحقق وعد المسيح " ها
انا معكم جميع الايام الى انتهاء العالم". وعندما اسس سرّ
الافخارستيا اوصى كهنة العهد الجديد باقامة هذا السّر الذي هو "
سرّ حضوره الخلاصي الدائم، قائلاً: " اصنعوا هذا لذكري حتى مجيئي"
( لوقا22/19-؛ 1كور24/26).
لكن القداس هو عمل الله الثالوث كما نعلن في بداية النوافير: "
محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وحلول الروح القدس تكون
معكم الى الابد"، ثم بعد نشيد " قدوس"، نفصل عمل الثالوث: " انك
القدوس ايها الآب، يا من ارسلت ابنك لخلاصنا، قدوس ابنك الوحيد
الذي نزل فتجسّد وتألم وصلب من اجلنا، قدوس روحك المحيي الذي يقدس
قرابيننا" ( نافور مار يوحنا الرسول). ثم نجدّد ذبيحة الابن وتأسيس
الافخارستيا بالكلام الجوهري، ونذكر كل تدبير الله الخلاصي، ونلتمس
من الآب بيسوع الابن أن يفيض روحه القدوس لاتمام الذبيحة وتحويل
الخبز والخمر الى جسد المسيح ودمه، ويقدس المتناولين ويجمع
المشاركين في جسد المسيح السرّي. وتتواصل الذبيحة مع آيات الشكر
والتعظيم والتشفع الى الثالوث القدوس.
كلمة الرب يسوع: " انا معكم طول الايام" تعني ثلاثة:
ان حياتنا كلها اصبحت تحت حماية الثالوث: فالمسيحي يبدأ نهاره
وصلواته واعماله وينهيها باشارة الصليب قائلاً: " بأسم الآب والابن
والروح القدس". هذا يعني انه يريدها لمجد الله، ويلتمس نعمة الخلاص
التي تقدس النهار والعمل، ويستلهم انوار الروح القدس، لكي يتم كل
شيء كابن للأب. ان اشارة الصليب تقوينا في التجارب والمحن.
وان الزمن هو في يد الله. نستطيع رفع الصلاة اليه اينما كنا: في
السوق، في النزهة، في المتجر، في عمل المطبخ، في اي عمل آخر او
حالة اخرى.
وان الشركة مع يسوع المسيح اصبحت بحلول الروح القدس شركة في جسده
السري، الكنيسة. لا حياة مسيحية خارج الشركة مع الكنيسة اذ تصبح
كالغصن المقطوع من الشجرة او كنقاط الماء الخارجة عن مجرى النهر.
***
ثانياً، الروح القدس ومريم العذراء(*)
في اطار العلاقة السرّية القائمة بين الروح القدس ومريم العذراء،
نتأمل اليوم في امومتها الالهية وابعادها.
كل عظمة مريم تكمن في انها " ام الله". امومتها، وهي بتول، عمل
الروح القدس حقاً. فالروح، في تدبير الخلاص، هو سابق ابداً للمسيح،
اذ لا يكون للكلمة الالهي حضور منظور ما لم يسبقه نزول الروح
وعمله.
1. حدث بشارة العذراء الذي فيه " بدء خلاص الجنس البشري" يشكّل
عنصرة جعلت مريم ام الاله: نزل الروح القدس على مريم بطريقة فعّالة
لكي يحقق بشرية ابن الله. هكذا اجاب الملاك على سؤالها: " الروح
القدس يأتي، وقوة العلي تظللكِ" ( لو1/34-35). نعلن في " النؤمن"
ان يسوع "ولد من مريم العذراء ومن الروح القدس". يؤكّد آباء
الكنيسة: " عندما اعطت مريم جوابها لله، اخذت الروح الذي كوّن فيها
البشرية المساوية لله". الروح الذي أظهر كلمة الله تدريجياً في
التاريخ، الآن في ملء الزمن، يصير ابن الله انساناً بقوته.
(8) "الروح القدس يملأ الكون" تعريب الخوري ايلي اديب ضو، صفحة
78-81.
2. مريم ام الله هي " عروس الروح القدس" حسب التقليد المسيحي.
ناجاها القديس فرنسيس الاسيزي هكذا: " ايتها القديسة مريم العذراء،
لقد وُلدتِ في العالم من دون مثيل بين النساء، فانت ابنة الآب
السماوي الملك العلي، وام سيدنا يسوع المسيح، وعروس الروح القدس".
وخادم الله البابا يوحنا بولس الثاني اوضح: " عندما نزل الروح
القدس عليها في البشارة، اصبحت عروسه الامينة باستقبالها كلمة الله
في حشاها" ( ام الفادي،26).
3. مريم ام الله وعروس الروح القدس هي البتول الدائمة بتوليتها.
بتولية مريم لا تعني فقط فضيلة اخلاقية، بل اتحاداً خصباً بين
شخصها والروح القدس، لا بالمنطق البشري والبيولوجي، انما بالمفهوم
الروحاني. فالروح القدس أحي حشاها وجعل بتوليتها خصيبة، هو الذي
يخلق ويحيي الكون، ومنه وحده تأتي الحقيقةالكريمة التي تدعى "
حياة". وهو وحده يجعل اللامنظور حاضراً، ويجعل الكلمة بشراً.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة النظر في صفات الروحانية الرهبانية السريانية
الانطاكية، التي ينقلها النص المجمعي الثامن: " الحياة الرهبانية
في الكنيسة المارونية".
بعد الصفات الثلاث الاول، نصل الى الصفة الرابعة والخامسة.
1.
الارتقاء الروحي
( فقرة 27)
يمّر هذا الارتقاء الروحي عبر ثلاث مراحل هي: التطهير والتنوير
والتقديس.
مرحلة التطهير هي بداية المسيرة الرهبانية، قوامها الاعمال
التقشفية الجسدية تحت اشراف اب روحي، تبعاً لتمييزه. تشمل هذه
الاعمال الصلاة والصيام والقراءة الروحية والسجود وخدمة الاخوة.
تهدف هذه الممارسات الى محاربة الشهوات الجسدية كالشراهة وحب المال
والميل المنحرف.
مرحلة التنوير هي الانصراف الى الاعمال الخاصة بالنفس. بالاضافة
الى الممارسات في مرحلة التطهير، ينقطع الراهب او الراهبة الى
الصلاة ساعات طويلة متأملاً في المسيح كلمة الله وفي مشروعه الخلاص
للجنس البشري. تهدف هذه الممارسة التأملية الى تنقية النفس من
اهوائها ومن الكسل والوهن والملل والغضب والكبرياء. انها مسيرة
تتواصل وفقاً لارشادات المعلم الروحي.
مرحلة التقديس هي البلوغ الى " الروحانية" اعني الحرية الروحية
لحامل الروح. فالروح القدس يقود الراهب او الراهبة الى ذروة
الروحانية التي هي التأمل في الثالوث القدوس. تهدف هذه المرحلة الى
الدخول في حياة الحب غير الموصوف للاله الواحد والثالوث: الآب
والابن والروح القدس.
2.
الصلاة والعمل
( فقرة 28).
الصلاة، وما تشمل، من صلاة الساعات والليتورجيا الالهية والتأمل في
الكتب المقدسة، وسائر الممارسات التقوية، شكّلت دائماً جوهر
القوانين في حياة الرهبان والراهبات، فعُرفوا بالساهرين اليقظين.
تمتزج رائحة القداسة والتقوى مع رائحة البخور.
العمل يبدأ عندما تنتهي الصلوات والممارسات الروحية. ويهدف الى
اثنين: كسب الخبز بعرق الجبين والابتعاد عن البطالة، وخدمة القريب
ولاسيما الفقراء بتقديم الخبز المادي لهم مع خبز الكلمة. كان العمل
اليدوي المتنوع، داخل الاديار وفي الحقول، يندرج في مسيرة التوبة
والتكفير. وشملت شريعة العمل كلاً من القطاع الزراعي والثقافي
والانمائي والاجتماعي، بهدف انماء الشخص البشري والمجتمع، وتعزيز
كرامة الانسان، ومساعدته في تحقيق ذاته ومصيره التاريخي والابدي.
***
صلاة
ايها الثالوث القدوس، يا محبة الآب ونعمة الابن وحلول الروح، اسكن
فينا ليتحقق في داخلنا وبواسطتنا تدبيرك الخلاصي. لقد اشركتنا،
بواسطة المعمودية والكهنوت والمشورات الانجيلية، في كهنوت المسيح.
افتح، ايها الرب، عقولنا واراداتنا والقلوب لقبول الكلمة والنعمة
والمحبة، وارسلنا الى خدمة التعليم والتقديس والتدبير، باندفاع
وحماس، مدركين انك معنا طول الايام، وانك انت وحدك سيّد التاريخ.
يا مريم امنا، الكلية القداسة، يا ابنة الاب وام الابن وعروس
الروح، علّمينا البُعد الروحي لكل ابوّة وامومة واخوّة. وكما حلّ
عليك الروح القدوس، كأنه في عنصرة دائمة، استمدي لنا هذا الروح
ليقدس نفوسنا كما قدّسك، ويوحي لنا تصميم الله كما اوحاه لك، فيدرك
كل واحد منا دوره في تاريخ الخلاص.
للآب والابن والروح القدس كل تسبيح وشكران، الآن والى الابد، آمين.
الاحد 25 ايار 2008
الاحد الثالث من زمن العنصرة
تدبير الله الخلاصي، عمل الثالوث
من انجيل القديس يوحنا 14/21-27
مَنْ كَانَتْ لَدَيْهِ وَصَايَاي ويَحْفَظُهَا، هُوَ الَّذي
يُحِبُّنِي. ومَنْ يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وأَنَا أُحِبُّهُ
وأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي". قَالَ لَهُ يَهُوذَا، لا ذَاكَ
الإِسْخَريُوطِيّ: "يَا رَبّ، مَاذَا جَرَى حَتَّى تُظْهِرَ ذَاتَك
لَنَا، لا لِلعَالَم؟". أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "مَنْ
يُحِبُّنِي يَحْفَظُ كَلِمَتِي، وأَبِي يُحِبُّهُ وإِلَيْهِ
نَأْتِي، وعِنْدَهُ نَجْعَلُ لَنَا مَنْزِلاً. مَنْ لا يُحِبُّنِي
لا يَحْفَظُ كَلِمَتِي. والكَلِمَةُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا
لَيْسَتْ كَلِمَتِي، بَلْ كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرْسَلَنِي.
كَلَّمْتُكُم بِهـذَا، وأَنَا مُقِيمٌ عِنْدَكُم. لـكِنَّ
البَرَقْلِيط، الرُّوحَ القُدُس، الَّذي سَيُرْسِلُهُ الآبُ
بِاسْمِي، هُوَ يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيء، ويُذَكِّرُكُم بِكُلِّ
مَا قُلْتُهُ لَكُم. أَلسَّلامَ أَسْتَودِعُكُم، سَلامِي
أُعْطِيكُم. لا كَمَا يُعْطِيهِ العَالَمُ أَنَا أُعْطِيكُم. لا
يَضْطَرِبْ قَلْبُكُم ولا يَخَفْ!
***
انجيل اليوم جزء من حديث الرب يسوع الاخير في العشاء
الفصحي، يعلن فيه تجلي جوهر الله الذي هو محبة، ويهب ذاته للذين
يحبونه: " من يحبني يحفظ كلمتي، ابي يحبه، وانا احبه، واليه نأتي
وعنده نجعل منزلاً" ( يو14/21-23). هذا هو زمن " العهد الجديد".
فيه تمّ اتصال الله الواحد المثلث الاقانيم بالبشر، بمبادرة منه،
في الروح القدس، وعبر عمل المسيح الفادي. انه زمن افتداء الانسان
والعالم، ومنه يهب الله ذاته بالمسيح وحلول الروح القدس.
بكلام الرب: " من يحبني يحفظ كلمتي" اي وصاياي، يبين ان
الديانة الحقيقية هي ديانة محبة الله. ولانها كذلك، تحفظ كلام الله
ووصاياه. فهذه ليست "حرفاً" بل هي " روح وحياة" (يو6/63). المسيحية
هي ديانة محبة المسيح الذي فيه يتجلى الله الواحد في سرّ ثالوثه:
الآب والابن والروح القدس. ولانها كذلك، فهي تحفظ كلامه ووصاياه في
الانجيل والكتب المقدسة. ليس المسيحيون " اهل الكتاب" بل جماعة
المحبة المؤمنة بالله الذي هو محبة ( يو4/8).
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
المحبة كمال الوصايا
" من كانت عنده وصاياي ويحفظها فذاك يحبني"؟
عندما سئل يسوع " ما هي اعظم الوصايا في الناموس؟" اجاب: "
ان تحب الرب الهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قوتك، وان تحب قريبك
كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس والانبياء" ( متى22-36-40).
وصية محبة الله والانسان تتضمن وصايا الله العشر التي نقلها سفر
الخروج ( 20/2-17) وسفر تثنية الاشتراع ( 5/6-21)، لان المحبة هي
كمال الشريعة، ولا تسيء الى أحد ( روما13/9-10). وصية محبة الله
تضم الوصايا الثلاث الاول. ووصية محبة الانسان تضم السبع الاخريات.
ليست الوصايا حرفاً وعبئاً، بل هي طريق حياة. فعندما أوحاها
الرب لموسى على جبل حوريب قال لشعبه: "اذا احببت الرب الهك، وسرت
في سبله، وحفظت وصاياه وفرائضه وأحكامه، تحيا ويباركك الرب الهك...
وان لم تفعل تهلك هلاكاً... قد جعلت امامك الحياة والموت، والبركة
واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا" ( تثنية30/16-19). وعندما سأل
الشاب السيد المسيح: " يا معلم، ماذا اعمل من الصلاح لارث الحياة
الابدية؟ " اجابه: " اذا شئت ان تدخل الحياة، احفظ الوصايا". ولما
سأله ما هي؟ ذكّره يسوع بالوصايا العشر ( متى19/16-19). الوصايا هي
" كلمات الله العشر" التي حدّد بها شروط الحياة الحرّة من عبودية
الخطيئة، وتندرج في اطار العهد الخلاصي الذي قطعه الله مع شعبه على
جبل حوريب ( تثنية5/2). الوصايا هي من صلب العهد. فالله يتعهد خلاص
شعبه وتحريره، والشعب يحفظ الوصايا تجاه الله والانسان. ويسوع عاد
فادخل الوصايا العشر في صلب دستور الحياة الجديدة، في عظة الجبل،
فارتفع بها من الحرف والفعل الى الروح والنية: " قيل للاولين،
اما انا فأقول لكم". واكدّ: " ما جئت لانقض الناموس بل لأكمله"
(متى5/47-48).
كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يؤكد ان الوصايا
العشر هي الواجبات الاساسية التي تقع على عاتق الانسان تجاه الله
وتجاه اخيه الانسان، وهي موجبات خطيرة يجب التقيد بها دائماً وفي
كل مكان ( فقرة 2073).
2.
مهمة الروح القدس: التعليم والتذكير
" البارقليط، الروح القدس، يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما
اقوله لكم".
لفظة " بارقليط" يونانية، تعني المعزي، الشفيع، المحامي.
فالروح القدس سيكون معزي الرسل والكنيسة بحضوره الدائم وغير
المنظور الذي يعلّم ويذكّر. انه " بارقليط آخر، بالنسبة الى
البارقليط الاول الذي هو يسوع ( 1 يو2/1) والذي حمل الينا " بشارة
الانجيل" واعلنها. اما الروح القدس فقد جاء بعده وعلى يده، ليتابع
في العالم، بواسطة الكنيسة، عمل انجيل الخلاص.
انه يعلّم: فيلهم نقل بشارة انجيل الخلاص، التي بشّر بها
المسيح، ويساعد على فهمها فهماً صحيحاً.
ويذكّر: فيؤمّن متابعة البشارة وفهمها صحيحة وسط تقلبات
الظروف والاحوال.
بالتعليم والتذكير سيكون دأبه العمل على ان تثبت في الكنيسة
ابداً الحقيقة عينها التي قبلها الرسل من فم معلمهم (البابا يوحنا
بولس الثاني: الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم: 3-4). هذا ما
اختبرته الكنيسة على مرّ الاجيال، بدءاً بالكنيسة الاولى في اعمال
الرسل.
3.
رسالة الروح القدس
" الروح القدس يرسله اليكم ابي باسمي"
الآب ارسل الروح القدس اولاً كعطية للابن الذي سيصير انساناً، لكي
يتم رسالته الخلاصية:
فيسوع الناصري مسحه الله بالروح القدس والقوة" (اعمال 10/37).
"المسيح" كلمة تعني الذي قبل المسحة، وفي تاريخ الخلاص تعني "ذاك
الذي مسحه الروح القدس". المسيح هو الذي قبل ملء الروح القدس، في
سبيل رسالة وسط شعب الله المختار والعيلة البشرية بأسرها.
يسوع هو الذي من نسل داود " من جذع يسّى، الذي عليه " يستقر روح
الرب: روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح العلم وتقوى
الرب" ( اشعيا11/1-3) هذه الآية من اشعيا تُلمح الى مجيء شخص
يكتنفه السّر، ويرى فيه وحي العهد الجديد يسوع نفسه، ويرتبط هذا
الشخص ورسالته ارتباطاً خاصاً بعمل الروح القدس. لهذا السبب سُمّيت
نبؤة اشعيا " الانجيل الخامس".
المسيح هو الذي يرسله الآب مع روحه: "السيد الرب ارسلني مع روحه"
(اشعيا48/16). وهو المرسل الاوحد والاكبر: من حيث انه حلّ فيه ملء
روح الله؛ ولكونه الوسيط الذي يمنح هذا الروح للشعب كله: "روح الرب
عليّ مسحني وارسلني..." (اشعيا61/1-2). يرسله الآب ليكون عهداً
للشعب ( لوقا 4/16-21) ونوراً للامم (اشعيا 42/6)، وليكون خلاص
الرب الى اقاصي الارض ( اشعيا 49/6): " روحي الذي عليك، وكلامي
الذي جعلته في فمك لا يزولان من فمك، ولا من فم نسلك، من الآن والى
الابد" ( اشعيا59/21؛ الروح القدس الرب المحيي 15-18).
والابن ارسل الروح القدس كعطية من لدن الأب لرسله وللكنيسة،
وبواسطتهم لجميع الناس والعالم باسره، في سرّ الفصح. فبعد "
انتقال" المسيح الابن، اتى الروح القدس تواً لمباشرة رسالته
الجديدة، اعني انجاز رسالة الابن، وتحقيق ثمار العهد الجديد الذي
هو تاريخ خلاصنا (الروح القدس الرب والمحيي،22-24).
****
ثانياً، الروح القدس ومريم العذراء
نختتم موضوع العلاقة السرّية القائمة بين الروح القدس ومريم
العذراء، فنتأمل اليوم في امومة مريم للكنيسة، جسد المسيح.
مساهمة مريم في عمل الروح القدس لم تقف عند اعطاء جسد
لبشرية يسوع، بامومتها الجسدية، اتّسعت الى انشاء جسد المسيح الذي
هو الكنيسة، بامومتها الروحية، في نظام النعمة.
1. باعطائها الحياة ليسوع، " ولدت" مريم نوعاً ما البشرية
كلها. فكما المسيح جمع في ذاته كل البشرية وبخاصة جميع المعمدين،
منذ اللحظة الاولى لوجوده الارضي، وكما قبل ويقبل في ذاته جميع
البشر المولودين والذين سيولدون، هكذا مريم العذراء القديسة، عندما
حبلت بيسوع واعطته الحياة بقوة الروح القدس، " تحبل وتلد" ايضاً،
فيه ومعه، جميع الذين سيأتون. ذلك ان المسيح، منذ اللحظة الاولى،
معدٌ ليكون "رأس الجسد الذي هو الكنيسة" ( كولسي 1/18). انه يحقق
في ذاته البشرية جمعاء. القديس باسيليوس يسمّي ميلاد المسيح "يوم
ولادة البشرية". " فولادة الرأس، الذي هو المسيح، تمثّل ايضاً
ولادة اعضاء الجسد، لان الاعضاء لا يحيون إلا مع ولادة الرأس" (
نيكولا كبازيلاس، الحياة في المسيح،4،4).
2. مريم توحّد بين لحظة تجسّد الكلمة، يوم البشارة في
الناصرة، ولحظة ولادة الكنيسة، في العلّية يوم حلول الروح القدس.
في الناصرة مريم تصبح ام يسوع بحلول الروح عليها، وفي العلّية ام
جسده السرّي، الكنيسة، بحلول الروح عينه. الاولى ولادة حسيّة،
والثانية ولادة روحية. مريم الحاضرة في سرّ المسيح كأم، تصبح،
بمشيئة الابن وعمل الروح القدس حاضرة في سرّ الكنيسة، حضوراً
امومياً: " يا امرأة ها هو ابنكِ، ويا يوحنا ها هي امك".
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي الثامن: الحياة
الرهبانية في الكنيسة المارونية"، فنستكمل عناصر روحانية الحياة
الرهبانية المارونية السريانية الانطاكية، وقد عرضنا منها سابقاً
خمسة. يبقى ان نعرض اثنين.
1.
حياة رسولية
(فقرة 29)
تميّزت حياة الرهبان السريان الموارنة بالانخراط في رسالة الكنيسة،
وبالانخراط في العالم بغية حمله الى المسيح. في الاديار، كان
يناضلون نضالاً روحياً شخصياً هيّأهم للصراع الاكثر شدّة ضد الشر
الذي في العالم. الى جانب مثالية حياتهم، قاموا باعمال رسولية مثل:
حسن الضيافة، خدمة المرضى والمعوزين، الكرازة لغير المسيحيين،
التعليم الديني للمسيحيين. تم تطور عملهم الرسولي ليشمل اليوم
مختلف القطاعات التربوية والاجتماعية والاستشفائية والانمائية
والرسالية.
2. حياة منفتحة ( فقرة 30)
تميزت الروحانية الرهبانية السريانية الانطاكية ايضاً، الى جانب
المحافظة على هويتها الخاصة، بالانفتاح على تأثيرات الحياة
الرهبانية في الشرق وفي الغرب.
ففي الشرق، انفتحت على تأثيرات الحياة الرهبانية المصرية
برعاية القديس انطونيوس الكبير. ونهلت من مساهمات كبار معلمي
الروحانية البيزنطية ولاسيما القديسين باسيليوس الكبير ويوحنا
السلّمي، ومعلمي الروحانية السريانية –الشرقية مثل القديس اسحق
النينوي.
ومن الغرب، اعتنقت تيارات روحية واشكالاً مؤسساتية، ما
جعلها تقوم بعملية اصلاح وتجديد للأطر على المثال الغربي من حيث
التنظيم، مع المحافظة على الاساس التوحّدي، النسكي-الرسولي.
صلاة
يا الله الآب، انت المحبة، ودعوتنا بالمسيح لنكون جماعة
المحبة لك ولجميع الناس. ساعدنا لكي نحبّك حقاً بحفظ كلامك، ونحبّ
كل انسان وفقاً لوصاياك.
ايها الروح القدس البارقليط، " علمنا" كلام الله وساعدنا
على فهمه فهماً صحيحاً. " ذكّرنا" بوصايا الرب لئلا ننحرف عنها وسط
ثمار الفداء من اجل تجديدنا وتجديد العالم بروح المحبة، اعضد
الرهبان والراهبات في تكريسهم لكمال هذه المحبة.
يا مريم، ام يسوع وام الكنيسة، استمدي لنا النعمة لنكون
ابناء مخلصين لك، ونقتدي بايمانك ورجائك ومحبتك لله الثالوث،
رافعين للآب والابن والروح القدس بالشفاه والاعمال آيات المجد
والتسبيح والشكر الآن والى الابد، آمين.
الاحد 1 حزيران 2008
الاحد الرابع من زمن العنصرة
اعمال المسيح وصلاة الاعتراف والشكر
من انجيل القديس لوقا
10/21-24
وفي تِلْكَ السَّاعَةِ ابْتَهَجَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ
القُدُس، فَقَال: "أَعْتَرِفُ لَكَ، يَا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَاءِ
وَالأَرْض، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هـذِهِ الأُمُورَ عَنِ
الـحُكَمَاءِ وَالفُهَمَاء، وَأَظْهَرْتَها لِلأَطْفَال. نَعَم،
أَيُّهَا الآب، لأَنَّكَ هـكذَا ارْتَضَيْت. لَقَدْ سَلَّمَنِي
أَبي كُلَّ شَيء، فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ
إِلاَّ الآب، وَلا مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابْن، وَمَنْ يُريدُ
الابْنُ أَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ". ثُمَّ التَفَتَ إِلى تَلامِيذِهِ،
وقَالَ لَهُم عَلى انْفِرَاد: "طُوبَى لِلْعُيونِ الَّتِي تَنْظُرُ
مَا أَنْتُم تَنْظُرُون! فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم: إِنَّ أَنْبِياءَ
وَمُلُوكًا كَثِيرِينَ أَرادُوا أَنْ يَرَوا مَا أَنْتُم
تَنْظُرُون، فَلَمْ يَرَوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا تَسْمَعُون،
فَلَمْ يَسْمَعُوا".
***
زمن العنصرة هو زمن الكنيسة التي يقودها الروح القدس،
بارسال من الرب يسوع، في رسالتها الخلاصية. وهي بالمسيح ترفع للآب
صلاة الاعتراف والشكر. في شهر حزيران الذي فيه تتهيأ الكنيسة
لحدثين متزامنين: الاول، المؤتمر القرباني الدولي التاسع والاربعين
وعنوانه: " سرّ القربان عطية الله للعالم". الثاني، الاحتفال
بتطويب الاب يعقوب حداد الغزيري الكبوشي، مؤسس دير الصليب وجمعية
راهبات الصليب.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
صلاة الاعتراف والشكر
هذه الصلاة رفعها يسوع الى الآب من بعد ان رجع اليه التلاميذ
الاثنان والسبعون فرحين بنجاح الرسالة التي اوكلها اليهم. وهتفوا:
" يا رب، والشياطين ايضاً تخضع لنا باسمك!" اما هو فاجابهم: " لا
تفرحوا بهذا، ان الشياطين تخضع لكم، بل افرحوا بان اسماءكم كُتبت
في السماء" (لو10/17 و20).
صلّى يسوع: "سبحانك يا ابتاه، يا سيّد السماء والارض، لانك أخفيت
هذه عن الحكماء والفهماء، وأظهرتها للاطفال. نعم، يا ابتاه، هذه
كانت مشيئتك" ( لو10/21). انها صورة اعتراف وشكر للآب على انه منح
التلاميذ السلطة على قوى الشر، وكتب اسماءهم في السماء، هم الذين
قبلوا ببساطة الاطفال سرّ المسيح، خلافاً لعلماء الشريعة، من كتبة
وفريسيين. الذين لم يقبلوه. وقد اكّد ان كل الوحي تمّ بشخصه وكلامه
وافعاله: " كل شيء دُفع اليَّ من ابي، ولا احد يعرف من هو الابن
إلا الآب ولا من هو الآب إلاّ الابن، ومن اراد الابن ان يُظهر له"
( لو10/22). وعلّمنا ان نشرك غيرنا، كما فعل هو، بما يجود به الله
علينا من معرفة وخير ونعمة. فلا احد يعيش لنفسه، ولا احد ينال او
يُعطى شيئاً لنفسه، بل ليعيش سعادة العطاء والمشاركة، ويرفع الى
الله صلاة الاعتراف والشكر، لان منه كل عطية صالحة.
اقام يسوع صلاته بفرح روحي، كما اورد لوقا الانجيلي: " في تلك
الساعة، تهلل يسوع بالروح القدس وصلى" ( لو10/21). فمجّد الآب
وشكره. صلاته بفرح وابتهاج، تمجيداً وشكراً، نموذج لصلاتنا وموقفنا
امام اعمال الله الباهرة التي يتمها بواسطة الكنيسة والمؤمنين. هذه
الصلاة يتلوها الكهنة والمكرّسون والمكرسات، ومعروفة بصلاة
الساعات. تتردد من خلالها صلاة يسوع في مختلف ساعات النهار، فيما
اعمال الله تتواصل عبر المؤمنين والمؤمنات. وهي ايضاً صلاة هؤلاء
الذين في بيوتهم وامكنة عملهم او على فراش الالم، يمجدون الله
ويشكرون، ويتشفعون ويستغفرون. انها صلاة يقيمونها بفرح وابتهاج،
لما في قلوبهم من ايمان ورجاء وحب.
لقد فرح يسوع لفرح التلاميذ الاثنين والسبعين وصلّى عنهم ومعهم
صلاة التمجيد والشكر للآب. امثولة عظيمة لنا: ان نفرح لنجاح
اخوتنا، وان نبتهج للخير الذي يتمّه الله على ايديهم، ونرفع صلاة
التمجيد والشكر لله. وبهذا نتمّ وصية بولس الرسول: ان يكون فينا
روح الله ولنا فكر المسيح (1كور2/12 و16).
2.
الطوبى لمن يرى ويسمع
شاهد التلاميذ عظمة الله المتجلية في المسيح الذي اشركهم " بسلطانه
على الاراواح وعلى دوس الحياة والعقارب وكل قوة العدو، ولا تؤذيهم"
( لو10/18-19). وسمعوا من فمه " كلام الحياة" ( يو6/68). الامر
الذي لم يره ولم يسمعه انبياء وملوك كثيرون ( انظر لو 10/24).
ولهذا اعطاهم الطوبى: " طوبى للاعين التي ترى ما ترون" ( لو10/23).
هذه الطوبى تشملنا نحن ايضاً، وتشمل كل مؤمن، اذا سمعنا بشرى
الانجيل، وقرأنا علامات حضور الله واعماله في تاريخ البشر.
وكما ظهرت اعمال المسيح على يد التلاميذ الاثنين والسبعين، يريد
الرب ان يواصل اعماله من خلال كل واحد منا، نحن رسله وعمّال كرمه.
انه يحتاج الى اعيننا ليرى حاجات الناس وجمال الخلق، ويحتاج الى
ايدينا ليملأها من عطاياه فنعطيها للمحتاجين، ويحتاج الى اذاننا
ليسمع انين المرضى والمظلومين، ويحتاج الى ألسنتنا ليعلن كلمة
الحق.
وتعطي الطوبى للذين يرون اعمال الانتصار على الشيطان والخطيئة
والشر، وتحرير الانسان من هذه العبوديات، والنجاة من حبائل الاشرار،
والخلاص من الفساد الخلقي والاجتماعي، وكسر قيود الظلم والاستقواء
والاستضعاف.
***
ثانياً، المكرم الاب يعقوب والمؤتمر القرباني التاسع والاربعون
فيما الكنيسة تتهيأ لحدثين روحيين كبيرين: الاحتفال بالمؤتمر
القرباني العالمي في مدينة كبيك بكندا ( 15-22 حزيران) وعنوانه: "
سرّ الافخارستيا عطية الله لحياة العالم"؛ والاحتفال بتطويب المكرم
الاب يعقوب حداد الكبوشي مؤسس راهبات الصليب (الاحد 22 حزيران).
بين حياة الاب يعقوب والقربان رباط وثيق. منه كان يستمد كل يوم
الوحي والقوة في اعماله ونشاطاته المتنوعة. وكم تلا امام القربان
المقدس صلاة الاعتراف والشكر: " سبحانك، يا ابتِ، يا سيد السماء
والارض..." وكان يكتشف كل يوم اعمال رحمة الله ومحبته في كل الذين
كان يخدمهم هو وراهباته ومعاونوهم في مؤسساته المتنوّعة: في الكهنة
المرضى والمسنين في دار المسيح الملك ( 1950)؛ في البؤساء والعميان
والمقعدين والمختلين وسائر المعوَّقين والعجزة والمرضى المزمنين
وسواهم في دير الصليب (1919و1951)، ومستشفى دير القمر (1933)،
ومستشفى السيدة انطلياس ( 1946)، ومستشفى مار يوسف الدوره ( 1948)؛
في الايتام من بنين وبنات في مدرسة راهبات الصليب برمانا (1950)؛
في الاجيال الطالعة برسالة التعليم والتربية في مدرسة القديس
فرنسيس جل الديب (1919) وفي المدارس التابعة للرهبانية الكبوشية
وقد عهدت الرهبانية الى الاب يعقوب اداراتها، فبلغ عددها من سنة
1903 الى 1910 رقماً قياسياً هو 163 مدرسة ضمّت اكثر من 7500
طالباً. كان نهجه التربوي المعرفة العلمية الفضلى، والتربية على
الايمان والاخلاق والتهذيب. اما المكانة الاولى فاعطاها للتعليم
الديني. ويربط التربية بثلاث طاولات في البيت والمدرسة والكنيسة:
-
طاولة البيت تحمل الخبز والطعام، يعدّها الاب والام.
-
طاولة المدرسة تحمل الكتب ولوازم الدرس، يعدّها المعلم.
-
طاولة الكنيسة تحمل القربان المقدس، يعدّها الكاهن.
وكان يكتشف عمل رحمة الله ومحبته في راهباته منذ تأسيس جمعية
راهبات الصليب سنة 1930 حتى سنة وفاته في 6 حزيران 1954، وكان
عددهن 150 راهبة. كان يكتشفه في حياتهن ونشاطاتهن في مختلف
المراكز، ولاسيما في دير سيدة البئر بقنايا ( 1940) الذي يضم اليوم
مقرّ الرئاسة العامة والطالبية والابتداء ومركزاً للرياضات الروحية
والمؤتمرات والنشاطات الاجتماعية.
ما زالت صلاة الاعتراف والشكر ترتفع من افواه وقلوب راهبات الصليب
التي يبلغ عددهن اليوم 244 راهبة، وما زالت اعمال رحمة الله ومحبته
ظاهرة يوماً بعد يوم في المستشفيات والمدارس ودور العجزة واليتامى
التي تأسست بعد وفاة الاب يعقوب وعددها أحد عشر: مدرسة حراجل
(1975)، الوكالة العامة في روم ( 1976)، مؤسسة اجدبرا للمعوقات (
1977)، بيت الرسالة في بشعله ( 1977)، ثانوية فال الاب جاك بقنايا
( 1979)، دار العجزة في شليفا – بعلبك ( 1989)، مؤسسة حلبا عكار
للاولاد المعوقين ( 1992)، بيت الرسالة في بتدين اللقش جزين
(1995)، بيت العناية الانسانية للعجزة في الفحيص- عمان بالاردن (
1995)، بيت الرسالة في كفرتيه – كسروان ( 1999)، ثانوية القديس
فرنسيس– غزير ( 2003). وقد بلغ عدد الموظفين فيها 2010، والكهنة
المسنين والمرضى والعجزة والمعوقين واليتامى وذوي الحاجات
الاجتماعية 2780 بصورة دائمة، والطلاب 3200 تلميذاً.
وتتواصل صلاة الاعتراف والشكر في المؤسسات والمراكز الكنسية التي
تتولى راهبات الصليب خدمتها وهي: السفارة البابوية في لبنان منذ
1943، والسفارة البابوية في سوريا منذ سنة 1974، ومستشفى سيدة
زغرتا منذ 1975، ودار الكاهن المسنّ في القاهرة بمصر منذ 1988،
وميتم الفرنسيسكان في القدس منذ 1993، ودير القديسة لوسيّا في
الاسكندرية منذ 1996.
من السجود المتأمل امام القربان المقدس كل يوم كان الاب يعقوب
يستمد الوحي لاكتشاف ارادة الله ومصدر قوته في العمل. كان يردد
للراهبات "سلاح المؤمن الصلاة الحارّة امام القربان". في سجوده
اليومي كان يغمض عينه ويغوص في عالم غير عالم البشر، ويبدو كأنه
مخطوف بالروح. كان همه الأوحد، اثناء السجود امام القربان، معرفة
ارادة الله، والتماس عونه، والسير بهديه. وكان يصلي في تلك الاثناء
صلاة للروح القدس: " ايها الروح القدس المانح القداسة، ساعدني
لانقاد الى يسوع،
لأحيا
حياة يسوع، لاصير انعكاساً لشخص يسوع. اسكن فيَّ دائماً، حقق مقاصد
الله الآب في نفسي، كن مسيّراً لحياتي، بل كن حياة لنفسي. انت روح
وحياة. انت نور وقوة. كن حياتي ونوري وقوتي. يا روح المحبة، علّمني
ان احيا من حبك، وان ارتبط بحبك. علّمني ان انشر روح المحبة".
هذا التأمل الساجد امام القربان المقدس كان في نظره ضرورة ملحّة في
حياته وحياة راهباته. كان يردد للراهيات ان هذا التأمل لا يُعفى
منه ابداً، معتبراً ان ثبات الراهبة في دعوتها مستحيل اذا بقيت مثل
مرتا تركض وتتلبّك بامور كثيرة. بينما الحاجة الى واحد، وهو التوقف
عند اقدام المعلم لاستماع كلامه ومخاطبته (الاب سليم رزق الله:
المكرّم ابونا يعقوب الكبوشي، ص 231-232؛ منشورة جمعية راهبات
الصليب: المكرم ابونا يعقوب رسول الرحمة، ص 12-18).
يوصي قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في ارشاده الرسولي: " سر
المحبة"، بالعبادة للقربان المقدس الشخصية والجماعية. فانها تساعد
على العيش بالعمق ثمار الاحتفال الليتورجي، وتكشف جمال الحياة
برقفة يسوع الحاضر في سرّ القربان، وتجري تغييراً داخلياً في
المؤمن وفي الجماعة بفعل حضور الرب الفعلي، وتذكّر بالمكان المحوري
الذي يحتله المسيح في حياة الاشخاص والجماعات، وتجعلنا ندرك بوعي
انتماءنا الى جسد المسيح والجماعة الكنسية. ويوصي، لهذه الغاية،
باحياء التطوافات القربانية وبخاصة بمناسبة عيد القربان، وبتنظيم
مؤتمرات قربانية على المستوى المحلي والوطني والدولي (الفقرتان 67
و68).
***
ثالثاً الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
ما زلنا نتقبّل النص المجمعي الثامن " الحياة الرهبانية في
الكنيسة المارونية"، وتحديداً "قوانين الحياة الرهبانية" (الفقرات
31- 35).
1. قبل سنة 1695، اي قبل الاصلاح الرهباني الذي اجراه
عبدالله قراعلي وجبرايل حوا ويوسف البتن وجرمانوس فرحات، في عهد
البطريرك، خادم الله اسطفان الدويهي، لم يكن للرهبان والراهبات
الموارنة قوانين ورسوم منظمة، بل كان الانجيل قاعدتهم الحياتية الى
جانب قدوة حياة النسّاك والعادات، وبخاصة سيرة القديس انطونيوس
وتعليم المجامع الكنسية وقواعد القديس باسيليوس وقوانين رابولا وما
جاء في كتاب " الهدى" الذي كان دستور الكنيسة المارونية قبل المجمع
اللبناني المنعقد سنة 1736. وكانت سلطة الرئيس القانون الرسمي لكل
جماعة رهبانية (فقرة 31).
يجدر ان تظل هذه الروحانية محرّكاً للرهبان والراهبات
الموارنة، مع التجديد الملائم لعصرنا الحاضر.
2. بعد الاصلاح الرهباني المذكور وضع الاب عبدالله قراعلي
اول قانون من 18 باباً، ثبّته البطريرك الدويهي، وقد اعتمدته
الرهبانيات الثلاث الناشئة المعروفة برهبانيات القديس انطونيوس وقد
اصبحت اليوم: اللبنانية المارونية، والمارونية المريمية،
والانطونية. واستلهم هذا القانون قوانين القديس اغسطينونس والتنظيم
اليسوعي والتنظيم الكرملي الى ان وضع الكرسي الرسولي رسوماً جديدة
سنة 1938 للرهبانيات الثلاث الرجالية وللراهبات اللبنانيات
والانطونيات، وقد تبنى العديد من الكنائس الشرقية هذا التنظيم
الجديد (فقرة 32).
3. معلوم ان القانون الاول والثاني اعتمدا روحانية الرهبان السريان
وتراثهم، مع التشديد على الالتزام بالنذور الثلاثة: الطاعة، العفة
والفقر، ولاسيما فضيلة الطاعة واتخاذ الرئيس بمثابة المسيح مع قطع
النظر. وشدّدا على الانضباط المسلكي والصمت والاصغاء وروح التواضع
واحترام الغير. وتميّزت الرهبانيات الرجالية بقبول الدرجات
المقدسة، باعتبار ان رسالة غالبية اعضائها تتضمن خدمة كهنوتية
(فقرة 34).
4. وطرأت متغيرات في الهيكليات، فتحولت الرهبانيات من حق
بطريركي الى حق حبري سنة 1732 عندما ثبّت قوانينها البابا
اكليمنضوس الثاني عشر. واعطيت الانعامات العائدة للمؤسسات
التوحدّية وابرزها اعطاء رؤسائها العامين انعام الشارات الحبرية في
الاحتفالات الليتورجية اي التاج والعصا وصليب الصدر والخاتم. وأعطي
الذين اتمّوا دروسهم في روما سلطان المباشرة بالوعظ والحلّ في منبر
التوبة، وخدمة الرسالة في جميع انحاء البطريركية، والتعليم في
اديرتهم (الفقرة 34).
5. بعد صدور الارادة الرسولية بشأن الرهبان سنة 1952، والمجمع
الفاتيكاني الثاني (1962-1965). وضعت ثلاثة مبادىء لتجديد الحياة
المكرّسة:
أ-
اتباّع المسيح هو القاعدة الاسمى لكل حياة مكرسة.
ب- الامانة لروح المؤسسين وتراث المؤسسة.
ج- المشاركة في حياة الكنيسة حسب موهبة كل مؤسسة وطابعها
المميّزين، بعد الوقوف على اوضاع الانسان وحاجات كنيسة اليوم.
في ضوء هذه المبادىء وتعليم المجمع الفاتيكاني الثاني ومجموعة
قوانين الكنائس الشرقية (1990)، تجددت قوانين كل رهبانية بمفردها.
*****
صلاة
نعترف لك يا ابانا السماوي، يا سيد السماء والارض، ونشكرك
على اعمالك المتواصلة في حياة المؤمنين والكنيسة. اكشف لنا
باستمرار مقاصدك، وساعدنا على اتمامها بنعمة ابنك الوحيد يسوع
المسيح، وبهدي انوار روحك القدوس. نشكرك ايها المسيح على حضورك
معنا في سرّ القربان، مصدر حياتنا ونورنا وقوتنا. نشكرك على عطيتك
لكنيسة لبنان بشخص الاب يعقوب الذي نستعد للاحتفال بتطويبه. بارك،
يا رب، جمعيته، جمعية راهبات الصليب ومؤسساتها والعاملين فيها
واللاجئين اليها. ساعد المؤمنين العلمانيين على وعي دورهم في
الكنيسة ورسالتهم في المجتمع، لكي يتواصل بناء ملكوتك، ملكوت
المحبة والقداسة، ملكوت الحقيقة والحرية، ملكوت العدالة والسلام.
لك المجد والشكر والتسبيح ايها الاب والابن والروح القدس، الآن
والى الابد، آمين.
الاحد 8 حزيران 2008
الاحد الخامس من زمن العنصرة
سرّ الكنيسة ورسالتها
من انجيل القديس متى 10/1-7
ودَعَا يَسُوعُ تَلامِيْذَهُ الاثْنَي عَشَر، فَأَعْطَاهُم
سُلْطَانًا يَطْرُدُونَ بِهِ الأَرْوَاحَ النَّجِسَة، ويَشْفُونَ
الشَّعْبَ مِنْ كُلِّ مَرَضٍ وكُلِّ عِلَّة. وهـذِهِ أَسْمَاءُ
الرُّسُلِ الاثْنَيْ عَشَر: أَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذي يُدْعَى
بُطْرُس، وأَنْدرَاوُسُ أَخُوه، ويَعْقُوبُ بنُ زَبَدَى،
ويُوحَنَّا أَخُوه، وفِيْلِبُّسُ وبَرْتُلْمَاوُس، وتُومَا ومَتَّى
العَشَّار، ويَعْقُوبُ بنُ حَلْفَى وتَدَّاوُس، وسِمْعَانُ
الغَيُورُ ويَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذي أَسْلَمَ يَسُوع.
هـؤُلاءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُم يَسُوع، وقَدْ أَوْصَاهُم
قَائِلاً: "لا تَسْلُكُوا طَرِيقًا إِلى الوَثَنِيِّين، ولا
تَدْخُلُوا مَدِيْنَةً لِلسَّامِرِيِّين، بلِ اذْهَبُوا
بِالـحَرِيِّ إِلى الـخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ
إِسْرَائِيل. وفِيمَا أَنْتُم ذَاهِبُون، نَادُوا قَائِلين: لَقَدِ
اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات.
****
بدأت رسالة الكنيسة مع الرسل الاثني عشر الذين هم اساس الكنيسة
(افسس2/20)، وحافظو الوديعة الصالحة لكلام الرب يسوع بالروح القدس
" (2تيموتاوس1/14)؛ وتتواصل رسالتها حتى مجيء المسيح الثاني
والاخير ، بواسطة الذين يخلفونهم في مهمتهم الراعوية: الاساقفة
ومعاونيهم الكهنة بالاتحاد مع خليفة بطرس ، راعي الكنيسة الاعظم .
ذلك ان الكنيسة رسولية لكونها مرسَلَة الى العالم كله ، فكل
اعضائها يشاركون في هذا الارسال بانواع مختلفة. ولذلك، الحياة
المسيحية بطبيعتها دعوة الى العمل عبر نشاط الكنيسة، الساعي الى
بسط ملكوت المسيح على الارض كلها.
*****
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
الرسل الاثنا عشر
" انطلقوا الى الخراف التي ضلّت من بيت اسرائيل " (متى10/6).
توجهت الرسالة المسيحية في القرن الاول الى اليهود حيثما وجدوا ،
ثم انطلقت الى الوثنيين المعروفين بالامم . وكان رائد هذه الرسالة
بولس الرسول الذي حمل لقب " رسول الامم" . الرسل الاثنا عشر هم :
1. سمعان بطرس ، هو سمعان بن يونا من بيت صيدا الجليل ، وسكان
كفرناحوم. كان صياد سمك اختاره يسوع رئيساً للرسل وراعياً للكنيسة
جمعاء، ويخلف بابا روما. مات صلباً في روما اثناء اضطهادات نيرون
سنة 64 ودفن على تلة الفاتيكان حيث بازيليك القديس بطرس.
2. اندراوس هو شقيق سمعان بطرس. مات صلباً سنة 62 في اليونان في
بتراس، حيث كان يبشر. في القرن السادس نقلت رفاته الى روما. ثم
اعادها البابا بولس السادس الى بطريرك القسطنطينية المسكوني.
3. يعقوب المعروف بالكبير هو شقيق يوحنا، وهما ابنا زبدى. كان اسقف
اورشليم ومات فيها بقطع الرأس في عهد هيرودس اغريبا بين سنة 41
و44.
4. يوحنا المعروف بالحبيب أي " التلميذ الذي كان يسوع يحبه "، شقيق
يعقوب الكبير. كاتب الانجيل الرابع وثلاث رسائل راعوية وكتاب
الرؤيا. كان اسقف افسس في آسيا الصغرى. مات منفياً في جزيرة باتموس
حوالي سنة 100.
5. فيليبس من بيت صيدا. بشّر في آسيا الصغرى ، مات مصلوباً سنة 53
في مدينة هيروبوليس.
6. برتلماوس مسمى نتنائيل في انجيل يوحنا (21/2)، هو من قانا
الجليل . بشّر في الهند وآسيا الصغرى وارمينيا واستشهد بسلخ جلده
وهو حي ، ثم بقطع رأسه سنة 70.
7. توما الملقب بالتوأم . بشّر في الحبشه ثم في الهند حيث استشهد
رجماً بالحجارة وطعناً بحربة في عنقه على يد كهنة الاصنام فيما كان
يصلي ، سنة 75.
8. متى هو لاوي العشار (متى9/9؛لو5/27) من قانا الجليل . كتب
الانجيل الاول. سمي"متى" أي المعطى لله حسب اللفظة اليونانية
والارامية. بشّر اولاً في اورشليم ثم في الحبشة . مات سنة 90.
9. يعقوب بن حلفى المعروف باخي الرب لانه من انسبائه لجهة امه مريم
ابنة عم او ابنة خالة العذراء ام يسوع ، والملقب بالصغير تمييزاً
له عن يعقوب بن زبدى. شهد مع بطرس ويوحنا تجلي الرب على جبل طابور
ونزاعه في بستان الزيتون . بشر في اورشليم وخلف يعقوب الكبير في
رئاسة كنيستها ولعب دوراً مهماً فيها وفي مجمعها المسكوني الاول (اعمال
15/13-19). كتب رسالة راعوية تحدث فيها عن مسحة المرضى. استشهد سنة
62.
10. تادي معروف ايضاً بيهوذا وملقب بلابي، هو شقيق يعقوب بن حلفى.
اُرسل الى الجزيرة العربية وسوريا والعراق وبلاد فارس . يقول
التقليد انه استشهد في بيروت . له رسالة راعوية صغيرة من 25آية .
11. سمعان ملقب بالغيور لانتمائه الى المقاومة ضد المحتل الروماني
ولتمسكه بالتقاليد اليهودية . معروف بالقانوي لانه من قانا الجليل
. بشّر في مصر. ومات شهيداً في روما في عهد ترايانوس.
12. متيّا هو الذي انتخبه الرسل خلفاً ليهوذا الاسخريوطي ( اعمال
1/15-26) الذي اسلم يسوع.
هؤلاء اختارهم يسوع واقامهم معه ونشّأهم على حقائق ملكوت الله ، ثم
ارسلهم ليكرزوا بالانجيل، مانحاً اياهم سلطان التشريع والقضاء
والولاية ، وسلطان التعليم والتقديس ، في كل ما يختص بشفاء النفوس
من الارواح الشريرة ، والاجساد من الاسقام، وبنشر رسالة الخلاص على
جميع الشعوب ، وقد ضمن لهم نجاح هذه الرسالة بتأييد الروح القدس ،
وتثبيتها بالمعجزات.
2.
الكنيسة سرّ المسيح
ليست الكنيسة مجرد جماعة بشرية لها بعدها الديني والاجتماعي
والثقافي والسياسي كطائفة بين الطوائف الدينية، لكنها تختلف في
جوهرها ورسالتها عن جميع الطوائف والاديان. انها سرّ المسيح،
يذكرنا به الارشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" ( 19-20).
أ-
الكنيسة ذات بعدين: بعد منظور بشري، وبعد روحي الهي.
انها جماعة بشرية يؤلفها ويسندها باستمرار يسوع المسيح، الوسيط
الوحيد، لتكون في الارض جماعة ايمان ورجاء ومحبة، ينشر بواسطتها
المسيح الاله على جميع الناس الحقيقة والنعمة. انها في آن معاً:
جماعة ارضية، بشرية، منظورة، ومجهزّة بهيكلية سلطة من جهة؛ وجماعة
روحية، مزدانة بالمواهب السماوية، وجسد المسيح السرّي من جهة
ثانية.
ان ما هو بشري في الكنيسة مرتب وخاضع لما هو الهي، والمنظور لما هو
غير منظور، والعمل للتأمل. تتعب ويصفرّ وجهها ويشحب، لكنها مزيّنة
بحلة سماوية (القديس برنردوس).
ب-
الكنيسة علامة واداة لشركة البشر مع الله.
بكلمة الانجيل التي تعلنها ونعمة الاسرار التي توزعها، يتحد كل
انسان شخصياً بالثالوث الالهي، فيتوب، ويتبدّل في بشريته بدافع من
الروح القدس، وهكذا يظهر شيئاً فشيئاً عالم جديد في هذه الارض. هذا
هو التجدد بالروح القدس، الذي يضعه الارشاد الرسولي في اساس اعادة
بناء لبنان والمجتمع اللبناني. ويوجهنا هذا الارشاد الى ينابيع
التجدد الاربعة: كلام الله، التقليد الرسولي، الليتورجيا، الصلاة (
39-43).
ج- الكنيسة علامة واداة لاتحاد البشر فيما بينهم
ان الشركة مع الله تثمر اتحاداً بين الناس. سلام مع الله سلام مع
الخلقية كلها. فالكنيسة التي تدخلنا في شركة مع الله، هي عينها
تجمعنا في الوحدة والتضامن، في العطاء والغفران، في العدالة
والمحبة، في السلام والمصالحة. هي تفتحنا على الالتزام بالخير
العام، الذي هو خير كل انسان وخير الجميع. وتعلّمنا ان لا أحد يعيش
لنفسه.
د- الكنيسة اداة الخلاص الشامل
المسيح هو وحده سرّ الخلاص، ولا خلاص من سواه. ان العمل الخلاصي
الذي تممه الرب يسوع ببشريته يظهر ويتم بواسطة اسرار الكنيسة
السبعة، وينشر نعمة المسيح الرأس في الكنيسة التي هي جسده. وبما ان
الكنيسة تصنع الاسرار وتنقل النعة غير المنظورة التي تدل اليها،
انما تسمى اداة او سرّ الخلاص الذي يشمل كل الانسان وكل الناس
(التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 770-774).
3. رسالة الكنيسة
" اعطاهم سلطاناً على الارواح النجسة ليطردوها، وعلى الاوجاع
والامراض ليشفوا منها... وارسلهم لينادوا ويقولوا: لقد اقترب ملكوت
السماء" (متى10/1 و7).
رسالة الكنيسة ان تعلن مجىء ملكوت الله الموعود في الاسفار المقدسة
منذ الدهور. وان تتم اعماله في المجتمع البشري: تطرد الارواح
النجسة، تشفي الاوجاع والامراض الحسية والروحية، المعنوية
والخلقية. تطهّر من برص الجسد والنفس، تقيم من موت الخطيئة. انها
رسالة المسيح نفسه. فملكوت الله تجلّى في كلامه واعماله وحضوره:
كلام يسوع شبّه بزرع في الحقل (مرقس 4/14)، فالذين يصغون اليه
بايمان، وينضوون الى قطيع المسيح الصغير، ينالون ملكوت الله؛
اعماله ومعجزاته الملأى حباً ورحمة دليل ان ملكوت الله قد حلّ على
الارض؛ في شخصه تجلى ملكوت الله، فهو ابن الله وابن الانسان الذي
اتى ليَخدم، لا ليُخدم، ويبذل نفسه فدية عن الجماعة ( مرقس10/45).
الكنيسة، وقد تجهزت بمواهب الروح القدس، تسلمت رسالة اعلان ملكوت
الله والمسيح، وانشائه في جميع الامم. فكانت هي عينها على الارض
نواة هذا الملكوت وبدايته (الدستور العقائدي " في الكنيسة،5).
****
ثانياً، المكرم الاب يعقوب والمؤتمر القرباني
التاسع والاربعون
المكرم الاب يعقوب الذي تستعد الكنيسة للاحتفال
بتطويبه في 22 حزيران، يساعدنا لنتهيأ روحياً لهذا الحدث من خلال
الاقتداء بفضائله. ويساعدنا للتحضير الروحي للاحتفال بالمؤتمر
القرباني الدولي في كيبك بكندا: " سرّ القربان عطية الله لحياة
العالم"، من خلال مثل حياته في عبادة سرّ القربان.
1. اعتاد الاب يعقوب ان يستمد النور الالهي ملهمه في اعماله
من السجود والتأمل والاصغاء امام القربان الاقدس. بل كان يستمد منه
الروح لحياته والقوة في جهاده. وكان يقول:
"سرّ القربان هو سرّ المسيح الذي أحبنا حتى النهاية،
وغذّانا بجسده ودمه، ومات لفدائنا. الكنيسة من دون قربان فارغة،
باردة، حزينة. كيف نستطيع ان نحب بعضنا بعضاً من دون اختبار محبة
يسوع لنا في القربان".
2. كان يدعو "لزيارة المسيح في القربان من قبل اللياقة لانه
يزورنا، ومن قبل الصداقة لانه يحبنا، ومن قبل المنفعة لانه يغذّينا
ويقوّينا". وصفه بعض الشهود في سجوده امام القربان قائلاً: "كانت
عبادته تشع من وجهه، وكان مشهده كملاك، وهو راكع حاني الرأس الى
الارض في خشوع عميق كأنه وحده امام ربه، مخطوف بالروح". لم يكن
يرضَ ان يجلس أحد امام القربان الاقدس وهو مصمود.
3. دعا الاب يعقوب الى المناولة بتواتر بل كل يوم، ويعلّل
الدعوة باننا " في المناولة نصير نحن والمسيح واحداً". وكان يضيف:
" من تزوجت ملكاً صارت ملكة، ومن تزوجت اميراً صارت اميرة. هكذا
نحن في المناولة". وكان حريصاً على تنقية النفس والقلب بالتوبة قبل
تناول جسد الرب ودمه، معطياً هذا التشبيه: " اذا سمح لك ملك ان
تحمل ابنه بين ذراعيك، لن تجسر ان تفعل ذلك إلاّ بعد غسل يديك؛
واذا زارك ملك فانك تزيّن بيتك. هذا ما يصنعه الناس لاستقبال
العظماء. لماذا لا نصنعه نحن لنستقبل المسيح؟" (الاب سليم رزق
الله: المكرم ابونا يعقوب الكبوشي، ص 233-235).
4. انطلاقاً من هذا الدافع كان الاب يعقوب ينظّم التطوافات
بالقربان مع الجماهير ولاسيما بمناسبة عيد القربان، ويتقن حفلات
القربانة الاولى، وينظّم الترانيم القربانية الشعبية. ان
الاحتفالات القربانية التي كان ينظّمها في جل الديب ومعبد حريصا
وامام صليب دير القمر وفي معبد سيدة البحر، حيّة في ذاكرة الذين
شاركوا فيها. وكان يبغي من هذه الاحتفالات، الحاملة وجهاً
فولكلورياً ورمزياً وفنياً تفعيل المشاركة الفعلية من قبل المؤمنين
في سرّ القداس، وادخال هذا السّر في صميم الثقافة المسيحية
واللبنانية.
يؤكد قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في الاشاده الرسولي "
سرّ المحبة" ان " مسار الانثقاف في الاحتفال القرباني مفيد من اجل
مشاركة أفعل في الاسرار المقدسة" ( الفقرة 54). ويدعو الى انجلة
الثقافات بالافخارستيا. ان سرّ القربان يدخلنا في حوار مع الثقافات
المختلفة، ويضع فيها خميرة الانجيل. ذلك ان المسيح هو حقيقة كل
انسان، وحقيقة كل التاريخ البشري. فيصبح سرّ القربان المقياس
لتقييم مضمون التعابير الثقافية على اختلافها، عملاً بوصية بولس
الرسول: " ميّزوا قيمة كل شيء. وما هو حسن، تمسّكوا به" ( 1
تسا5/21) ( الفقرة 78).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
ما زالت الخطة الراعوية تتابع عرض النص المجمعي الثامن: "
الحياة الرهبانية في الكنيسة المارونية"، وبوجه التحديد الفصل
الرابع " رسالة الرهبانيات" (الفقرات 36-41).
1. الوجه الاول من رسالة الرهبانيات التراث الروحي
والانساني والليتورجي الغني. كانت ثماره ظاهرة في نمو الاديار
والمناسك واشعاعها وفي وجوه قديسيها: شربل ورفقا ونعمة الله،
وسواهم من الابرار. وظهرت ثماره في المزارات التي تستقطب مسيحيين
وغير مسيحيين، وفي انعاش التراث الانطاكي، والحوار بين الاديان في
سبيل العيش معاً بالاحترام المتبادل والمساواة. وظهرت ايضاً في
استشهاد الدم ( فقرة 36).
2. الوجه الثاني من الرسالة الرهبانية نشر الثقافة والعلم
والاسهام في التقدم الحضاري، بفضل المدارس والجامعات والمعاهد
الفنّية، والعلوم التطبيقية ودور النشر (الفقرة 37).
3. الوجه الثالث من الرسالة الشأن الانمائي من خلال استثمار
اراضي الاديار والشراكة مع العلمانيين وتعزيز الزراعة وما يتصل بها
(الفقرة 38).
4. الوجه الرابع ظهر على الصعيد الراعوي، عبر خدمة الرعايا
والمستشفيات ودور الايتام والعجوة والمعوقين، ومن خلال العمل
الراعوي المتنوّع، كرازة وارشاداً وتوجيهاً روحياً. وتطور هذا
العمل الى انشاء رسالات في عالم الانتشار، تضمنت كنائس واديار
ومدارس ومؤسسات اجتماعية ( الفقرة 39).
5. الوجه الخامس تميّز بخدمة المحبة تجاه الفقراء
والمعوزين، بمساعدات مباشرة وبواسطة مؤسسات، وبتوفير تعليم مجاني
وفرص عمل، وانجاز مشاريع سكنية (فقرة 40).
كل هذا الحضور الفاعل يندرج في عمق التراث الماروني، ما جعل
" الجماعات الرهبانية في الابرشيات والكنيسة ثروة كبيرة وينبوع
نعمة وحيوية" (الارشاد الرسولي: رجاء جديد للبنان، 54).
****
صلاة
ايها الرب يسوع، كما ارسلت الرسل الاثني عشر الى العالم
ليكرزوا بانجيل الملكوت، وما زلت ترسل رعاة ورهباناً وراهبات
ومؤمنين علمانيين يواصلون هذه الرسالة، نشكرك على المكرّم الاب
يعقوب حداد الكبوشي الذي ارسلته رسول محبة ورحمة. لقد اعلن هذا
الانجيل في الكرازة والتعليم، واعلنه في حياته الشخصية ومثله،
وجسّده في مؤسساته، كما وفي جمعية راهبات الصليب. اعطنا غيرته
ومحبته، لنعلن هذا الانجيل الى عالم متعطش الى الحقيقة والمحبة
والرحمة. بارك رسالة الرهبانيات من اجل بناء ملكوتك على ارضنا.
ونحن نرفع آيات المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن
والى الابد، آمين.
الاحد 15 حزيران 2008
الاحد السادس من زمن العنصرة
نمو الرسالة المسيحية من الألم
من انجيل القديس متى10/16/25
هَا أَنَا أُرْسِلُكُم كَالـخِرَافِ بَيْنَ الذِّئَاب. فَكُونُوا
حُكَمَاءَ كَالـحَيَّات، ووُدَعَاءَ كَالـحَمَام.إِحْذَرُوا
النَّاس! فَإِنَّهُم سَيُسْلِمُونَكُم إِلى الـمَجَالِس، وفي
مَجَامِعِهِم يَجْلِدُونَكُم . وتُسَاقُونَ إِلى الوُلاةِ
والـمُلُوكِ مِنْ أَجْلي، شَهَادَةً لَهُم وِلِلأُمَم. وحِيْنَ
يُسْلِمُونَكُم، لا تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَو بِمَاذَا
تَتَكَلَّمُون، فَإِنَّكُم سَتُعْطَونَ في تِلْكَ السَّاعَةِ مَا
تَتَكَلَّمُونَ بِهِ. فَلَسْتُم أَنْتُمُ الـمُتَكَلِّمِيْن، بَلْ
رُوحُ أَبِيْكُم هُوَ الـمُتَكَلِّمُ فِيْكُم. وسَيُسْلِمُ الأَخُ
أَخَاهُ إِلى الـمَوْت، والأَبُ ابْنَهُ، ويَتَمَرَّدُ الأَوْلادُ
عَلى وَالِدِيْهِم ويَقْتُلُونَهُم. ويُبْغِضُكُم جَمِيْعُ
النَّاسِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي، ومَنْ يَصبِرْ إِلى الـمُنْتَهَى
يَخْلُصْ. وإِذَا اضْطَهَدُوكُم في هـذِهِ الـمَدِينَة، أُهْرُبُوا
إِلى غَيْرِهَا. فَالـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ تَبْلُغُوا آخِرَ
مُدُنِ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَان. لَيْسَ
تِلْميذٌ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، ولا عَبْدٌ مِنْ سَيِّدِهِ.
حَسْبُ التِّلْمِيذِ أَنْ يَصِيْرَ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ، والعَبْدِ
مِثْلَ سَيِّدِهِ. فَإِنْ كَانَ سَيِّدُ البَيْتِ قَدْ سَمَّوْهُ
بَعْلَ زَبُول، فَكَمْ بِالأَحْرَى أَهْلُ بَيْتِهِ؟
اولاً، شرح نص الانجيل
زمن العنصرة هو زمن الكنيسة التي اقامها الرب يسوع لتحمله
نوراً للشعوب، لاخراجهم من ظلمة الجهل بمعرفة الحقيقة، ولهديهم الى
خلاصهم الروحي والمادي والثقافي والاجتماعي بقوة النعمة الشافية،
ولخلق جماعة اشخاص يبنون مجتمعاً تسوده الاخوّة والعدالة والسلام
بشريعة المحبة وحرية ابناء الله. هذه الرسالة تقوم على خدمة مثلثة:
خدمة الكلمة، وخدمة النعمة، وخدمة المحبة. لكن لها مصاعبها ومحنها
التي، اذا تمَّ تجاوزها بالصبر، انضجت اصحابها وانتجت ثمارها
المرجوة.
1.
آلام الرسالة وثمارها
يؤكد الرب يسوع لرسله الاثني عشر، ومن خلالهم لكنيسة كل جيل، انهم
يلقون ما لقيه الرب يسوع من رفض واضطهاد وقتل: " حسب التلميذ ان
يكون مثل معلمه" ( متى 10/25). وينبئهم بتفاصيل هذا الاضطهاد
العتيد.
انهم مرسلون بدون وسائل دفاع وسط خاطفين كخراف ما بين
الذئاب، فيدعوهم ليتسلحوا بوداعة الحمام وحكمة الحيات. سيحاكمهم
ويعذبهم زعماء اليهود في المجامع، والسلطات الرومانية في البلاطات.
سيعيشون اوقات خوف واضطراب من جراء الانقسامات في العائلات وما
يليها من خيانة وبغض واضطهاد.
لكن الرب يسوع يدعوهم للاتكال على الهامات الروح القدس
الذي سيتكلم فيهم، وللصمود لان صبرهم سيؤدي بهم الى الخلاص بفضل
العدالة الالهية، عندما يحلّ ملكوت الله بانتصار الخير على الشر،
والحق على الباطل، والنعمة على الخطيئة. فكما المسيح الرب تألم
ومات ثم قام، هكذا المؤمنون به، اذا تألموا وماتوا، يقومون بقوة
قيامته. وهكذا تتواصل عملية فداء الانسان والعالم، رعاة الكنيسة
والمؤمنون الملتزمون مرسلون الى بريّة هذا العالم حيث " الذئاب
الخاطفة"، لجعل هذه خرافاً للمسيح، لاعادة بهاء صورة الله الى هذا
الانسان الذي حوّلها الى صورة الشرير، ولجعل بريّة العالم مدينة
الله. لكن هذه الرسالة تصطدم بالرفض والاعتداء والاضطهاد بوسائل
الكذب والتعذيب والقتل. عدّد قداسة البابا بندكتوس السادس عشر
البراري المتنوعة في عالم اليوم وهي: برّية الفقر، برية الجوع
والعطش، برّية الوحدة الحسيّة والنفسية، برّية الانانية والمصالح،
برّية الظلم والاستضعاف، برّية الانفلات والانحراف، برية ظلمة الله
وصمته، برية فراغ النفوس وضياع الكرامة منها وهدف الحياة. انها
بريات تتسع، بسبب تزايد البرّيات الداخلية في الانسان والاسرة
الصغيرة، ذلك ان خيرات الدنيا المادية والروحية، الثقافية
والاقتصادية، لا تستخدم لبناء فردوس الله ليعيش فيه الجميع، بل
لخدمة سلاطين الاستغلال والدمار" ( في عظة افتتاح خدمته الحبرية،
24 نيسان 2005).
الكنيسة ورعاتها، على مثال المسيح الراعي الصالح، مدعوون
لاخراج الشعوب من البرّية، مهما كانت الذئاب ضارية، نحو امكنة
الحياة، نحو صداقة ابن الله الذي وحده يعطينا الحياة، ويعطيها
وافرة. لكنها رسالة صعبة تقتضي بذلاً للذات من قبل الرعاة: "
الراعي الصالح يبذل نفسه من اجل الخراف" ( يو 10/14). ليست السلطة
هي التي تفتدي بل المحبة. ان الذي خلّص العالم هو المصلوب لا الذين
صلبوه. الله لا يخلص العالم بقوة سلطانه وبطشه بالاشرار ودحرهم من
اجل خلق عالم أفضل، كما نريده نحن عندما نشكو من الذين ينزلون بنا
شراً او ظلماً، بل يخلصه ويفتديه بالفداء، بصبره وطول اناته.
والعالم يُهدم ويدمّر بعدم صبر الانسان ( المرجع نفسه). بعد ان
تأكد الرب يسوع من محبة بطرس له قال: " ارع خرافي". وبهذا دعاه
ليكون مستعداً للألم من اجلهم، ولاعطائهم غذاء حقيقة الله وكلمته
وحضوره . هذا الغذاء الذي يعطينا اياه الرب هو سرّ القربان.
2.
الألم من اجل الرسالة
تتقوى الرسالة المسيحية وتنتشر بنعمة آلام الفادي الالهي المستمرة
الآن ودائماً في ذبيحة القداس. نذكر القديسة رفقا، بنت الرهبانية
اللبنانية المارونية التي ولدت في حملايا في 29 حزيران 1833، عيد
القديسين الرسولين بطرس وبولس. وقد دعيت بطرسيه، ثم اخذت اسم
والدتها رفقا، التي توفيت وهي بعمر سبع سنوات. اخذته عندما لبست
ثوب الابتداء في الرهبانية اللبنانية المارونية في 12 تموز 1871.
تكرست للمسيح في جمعية المريمات في بكفيا بدخول الابتداء
في اول كانون الثاني 1853 بعمر عشرين سنة، وخدمت رسالة الانجيل
فيها، فعلّمت سرّ المسيح بالمثل الملائكي وبالكلام، في كل من بكفيا
والشبانية وغزير ودير القمر وجبيل ومعاد. وعندما حلّت جمعية
المريمات في آب 1874 لتنضم الى جمعية قلب يسوع، وتصبح الاثنتان
جمعية واحدة باسم: " جمعية القلبين الاقدسين يسوع ومريم"، دخلت
الرهبانية اللبنانية المارونية، بوحي الهي. كان ذلك اثناء وجودها
لرسالة التعليم في معاد، وقد رأت في الحلم القديس انطونيوس ابا
الرهبان بشكل راهب له لحية بيضاء وبيده عكاز، والقديس جرجس، شفيع
معاد، بشكل جندي لابس اثواب الجندية، والقديس سمعان، شفيع دير
الراهبات في ايطو، بشكل شيخ مسنّ. كان عمرها 38 سنة.
في احد الوردية سنة 1885، بعمر 53 سنة، طلبت من الرب يسوع
نعمة الألم من اجل الرسالة، كما روت لرئيستها: " دخلتُ الكنيسة
وبدأتُ الصلاة، وقد رأيت ان صحتي جيدة، ولم يمتحني الله بمرض في
حياتي كلها، فطلبت منه: " يا ربي، لماذا انت متباعد عني لا تفتقدني
بمرض، ألعلك ناسٍ عبدتك؟" فكان لها مبتغاها بدءاً من ذاك اليوم.
دامت رحلة آلامها 29 سنة حتى وفاتها سنة 1914. قضت منها 14 سنة في
دير مار سمعان ايطو ، و15 سنة في دير مار يوسف جربتا، وهي العمياء
والمخلعة والنازفة، مدركة كلمة بولس الرسول: " لقد وُهب لكم لا ان
تؤمنوا بالمسيح فقط، بل ان تتألموا ايضاً من اجله" (فليبي 1/29).
تضامنت مع المتألمين في العالم، وصلّت لكي يتقدسوا في
اوجاعهم، وتشفعت لدى الله من اجل شفائهم، وقدمت قربان حياتها،
مضموماً الى ذبيحة الفادي الالهي، من اجل الكنيسة وخلاص العالم.
وفي اعماق قلبها كلمة الرب يسوع الذبيح لفدائنا: " اصنعوا هذا
لذكري"، مرددة: " مع آلام يسوع. مهما تألمت، يسوع تألم اكثر مني".
ولشدة الاوجاع في كتفها الايمن الممزق الجلد، وفيه فتحة عميقة،
اضافت على جراحات المسيح الخمسة، في اليدين والرجلين والصدر، جرحاً
سادساً هو جرح الكتف. فيما كانت الراهبات يصلين معها صلاة جراحات
المسيح، قالت: " يا اختي، لا تنسوا الجرح السادس، جرح كتف المسيح،
جرحه السادس كان مؤلماً كثيراً، لانه حمل عليه صليب خطايانا
الثقيلة".
اليوم والى الابد القديسة رفقا تعضد من سمائها الكنيسة
ورسالتها، بفضل ما لها من استحقاقات في المشاركة بآلام الفداء،
وتشفع بالمتألمين، على اختلاف آلامهم الحسية والمعنوية، الروحية
والمادية، من اجل شفائهم وتقديس اوجاعهم وعزاء مشاركتهم في آلام
الفداء في هذه الدنيا، والمجد الابدي في السماء.
***
ثانياً، المكرّم الاب يعقوب حداد الكبوشي والمؤتمر القرباني
العالمي
بعد اسبوع تحتفل الكنيسة بحدثين متلازمين: الاحتفال بتطويب
المكرّم الاب يعقوب حداد الكبوشي، مؤسس راهبات الصليب، والاحتفال
بالمؤتمر القرباني العالمي في كبيك بكندا، تحت عنوان: " سرّ
الافخارستيا عطية الله لحياة العالم".
سرّ قداسة الاب يعقوب وعظمة انجازاته بانشاء مؤسسات المحبة
والرحمة ينبعان من ارتباطه العميق والوثيق بسرّ القربان، من قداسه
الخشوعي، ومن سجوده وتأملاته وصلاته امام القربان المقدس. كذلك
محبته للصليب والتكريم الكبير له.
انجلى سرّ الصليب، لدى الاب يعقوب، من ذبيحة القداس، فأحب
الصليب حباً شديداً وكرّمه، حتى سُمّي "رجل الصليب ورسوله وحبيبه".
راوده حُلم بنصب صليب جبّار على احدى قمم لبنان، فحققه على تلة جلّ
الديب وعلى قمة دير القمر وعلى هضبة نهر الكلب، المسيح الملك.
وصرّح في اواخر حياته: " كنت اتمنى لو تمكّنت من تكريس لبنان كله
للصليب. كلما شاهدت قمة كنت اريد ان اركّز عليها صليباً. فالصليب
دليلي وشعلة حياتي. انه فرح لا كآبة، تعزية لا ضجر". و" لأن الصليب
حجر الزاوية في قلب الاب يعقوب"، فقد اختاره شعاراً واسماً لجمعية
راهباته. وجعل التحية بين الراهبات: " يحيا الصليب" والجواب: "
دائماً". وفرض عليهن ممارسة درب الصليب اليومية. وأوصى: " خذوا
المصلوب. ضموّه بين ايديكم كما ضمّته مريم لما انزلوا جسد ابنها من
على الصليب". وكان يردد: " الصليب حياتي! السلام لك يا صليبي. لقد
كنتَ دائماً على صدري، على طاولتي، في غرفتي وفي اسفاري" (الاب
سليم رزق الله: المكرّم ابونا يعقوب الكبوشي، صفحة 237-241).
في الارشاد الرسولي " سرّ المحبة"، يكشف قداسة البابا
بندكتوس السادس عشر العلاقة بين سرّ القربان والصليب، وكلاهما محبة
الله المتجلية لنا. " سر الافخارستيا هو الخبز المكسور من اجل حياة
العالم"، وهذا الخبز هو يسوع المسيح ابن الله الذي وهب ذاته ذبيحة
للفداء على الصليب، ووليمة للحياة الجديدة: " الخبز الذي اعطيه انا
هو جسدي المبذول لكي يحيا العالم" ( يو6/15). سرّ الافخارستيا هو
تأمين لعطية يسوع ذاته ذبيحة ووليمة، وكشف لحنانه ورحمته ومحبته
لكل شخص بشري، وقد ظهرت مشاعر يسوع الانسانية تجاه الخطأة والمرضى
والمصابين بالعاهات المختلفة ( متى20/34؛مر6/34؛ لو19/41)، لكي
يخلص الجميع وينالوا الحياة.
بالمشاركة في سرّ القربان ومناولة جسد الرب ودمه، يدعونا
الله لنكون شهوداً لحنانه ورحمته ومشاعره لكل اخ واخت. هذا ما حققه
ابونا يعقوب على مستواه الشخصي ومن خلال المؤسسات الانسانية
والاجتماعية، التربوية والاستشفائية. في الواقع، يقول قداسة
البابا، حول سرّ الافخارستيا تولد خدمة المحبة تجاه القريب. فذبيحة
المسيح هي من اجل الجميع، ودعوة تستحثّ كل انسان ليجعل من ذاته
خبزاً مكسوراً من اجل الآخرين، وليلتزم من اجل عالم اكثر عدالة
واكثر اخوّة (الفقرة 88).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
الخطة الراعوية التي تنقل النص المجمعي الثامن: "الحياة
الرهبانية في الكنيسة المارونية"، تعرض اليوم الفصل الخامس: ارتباط
الرهبان والراهبات بالسلطات الكنسية العليا (الفقرات 42-44).
1. يوجد ارتباط تاريخي وثيق بين البطريرك والاساقفة
والرهبان والراهبات، منذ النشأة. وهو رباط تميّز بالانسجام
والتعاون والصلاة. لقد تقاسم البطريرك والاساقفة حياة الرهبان
وشاركوهم في صلواتهم واعمالهم وسكنهم في الاديار. وظل هذا الاندماج
بميزته الظاهرة حتى نهاية القرن السادس عشر. وشددت قوانينها بعد
الاصلاح الرهباني (1695) على الخضوع للكرسي الرسولي والبطريرك في
آن، والطاعة للرسوم والاوامر المرتبطة بالايمان الكاثوليكي (فقرة
42).
2. واليوم تشدد الوثائق الحبرية على الارتباط الروحي
والراعوي والليتورجي والتهذيبي بين الرهبانيات والسلطات الكنسية.
نذكر من بينها: وثيقة "العلاقات المتبادلة"، والارشادين الرسوليين
" الحياة المكرسة" و "رجاء جديد للبنان"، والرسالة الرسولية "نور
الشرق" والقرارات المجمعية: "مهمة الاساقفة الراعوية في الكنيسة" و
" نشاط الكنيسة الارسالي" و " تجديد الحياة الرهبانية". كل هذه
الوثائق وسواها تشدد على روح الشركة والتنسيق والتعاون والخدمة
والرسالة المشتركة (فقرة 43).
3. وجاءت مجموعة قوانين الكنائس الشرقية (1990) لترسم خط
الارتباط بين السلطات الكنسية والرهبانية، وتحديد العلاقات مع
الحبر الروماني والبطريرك والمطران الابرشي. ودعت المجموعة
القانونية الى عقد اجتماعات مع رؤساء الرهبانيات، بشكل منتظم،
لتنسيق العمل وتبادل الآراء في ما يختص بالعمل المشترك على المستوى
الرسولي والراعوي والاجتماعي. ( فقرة 44).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، لقد ارسلتنا لنحمل رسالة انجيل الخلاص،
ومهدّت لنا الطريق، وتبقى لنا القدوة في تحمّل آلام الاضطهاد
والعذاب بصبر وثبات. لقد تركت لنا سرّ القربان ليكون مصدر الهامنا
وقوّتنا، فيه نلتقي الله وننفتح فكراً وقلباً ويداً على اخوتنا
البشر في حاجاتهم. اضرم محبتك في قلوب المكرسين والمكرسات، كما
اضرمتها في قلب ابونا يعقوب، ليشهدوا لمحبتك اينما حلّوا، وليجعلوا
وجهك حاضراً، بكامل مشاعره الانسانية والحنان والرحمة، في مؤسساتهم
واديارهم. لك ايها الثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، كل
مجد وتسبيح واكرام، الآن والى الابد، آمين.
الاحد 22 حزيران 2008
الاحد السابع من زمن العنصرة
الرسالة المسيحية، اصلها، غايتها، نهجها
من انجيل القديس لوقا 10/1-7
وَبَعْدَ ذـلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ اثْنَينِ وَسَبْعِينَ
آخَرِين، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ
إِلى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ كانَ مُزْمِعًا أَنْ يَذْهَبَ
إِلَيه. َقالَ لَهُم: "إِنَّ الـحِصَادَ كَثِير، أَمَّا الفَعَلةُ
فَقَلِيلُون. أُطْلُبُوا إِذًا مِنْ رَبِّ الـحِصَادِ أَنْ
يُخْرِجَ فَعَلةً إِلى حِصَادِهِ. إِذْهَبُوا. هَا إِنِّي
أُرْسِلُكُم كَالـحُمْلانِ بَيْنَ الذِّئَاب. لا تَحْمِلُوا
كِيسًا، وَلا زَادًا، وَلا حِذَاءً، وَلا تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ
في الطَّرِيق. وأَيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوه، قُولُوا أَوَّلاً:
أَلسَّلامُ لِهـذَا البَيْت. َإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ سَلامٍ
فَسَلامُكُم يَسْتَقِرُّ عَلَيه، وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُم.
وَأَقيمُوا في ذـلِكَ البَيْتِ تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مِمَّا
عِنْدَهُم، لأَنَّ الفَاعِلَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ. وَلا
تَنْتَقِلوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْت.
تقيم الكنيسة اليوم احتفالين كبيرين: ختام المؤتمر القرباني
العالمي التاسع والاربعبن " سرّ الافخارستيا عطية الله لحياة
العالم"، والاحتفال بتطويب المكرّم الاب يعقوب حداد الكبوشي مؤسس
جمعية راهبات الصليب، في لبنان. الحدثان يستنيران من انجيل اليوم،
انجيل الرسالة الكنسية الى العالم.
***
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
الرسالة المسيحية
التلاميذ الاثنان والسبعون الذين ارسلهم الرب يسوع لاعلان
سرّه الى مجتمعهم يمثلون المؤمنين المسيحيين، ويشكلون مع الرسل
الاثني عشر نواة الكنيسة الاولى. لهم جميعاً قال الرب: كما ارسلني
ابي ارسلكم انا ايضاً" ( متى 28/ ). ارسلهم الى عالمهم، حيث الحصاد
كثير على جميع المستويات، والفعلة العاملون في الرسالة قليلون. لكن
الله يختار ويرسل المزيد من الفعلة، مستجيباً لصلاة ابناء الكنيسة.
غير ان يسوع أنبأهم عما سيعانون من رفض واضطهاد واعتداء، مشبّهاً
اياهم " بخراف بين الذئاب".
حمّلهم رسالة إعداد العقول والقلوب لقبوله، " فأرسلهم اثنين اثنين
امام وجهه الى كل مدينة وموضع كان مزعماً ان يذهب اليه". واوصاهم
باتّباع نهج الرسالة القائم على التجرّد، والاتكال على العناية
الالهية، والغيرة الخالية من اي لهو اجتماعي، واعلان كلمة السلام،
والعيش من حسنات المؤمنين.
الارسال الالهي متواصل جيلاً بعد جيل حتى الينا. كلنا
مرسلون مثل التلاميذ الاثنين والسبعين والرسل الاثني عشر. كلنا
مرسلون بحكم المعمودية والميرون، وبعض بحكم الدرجة المقدسة، والبعض
الآخر بالنذور والمشورات الانجيلية.
ليست
رسالة الكنيسة محصورة بالاكليروس، اساقفة وكهنة ورهباناً وراهبات
فحسب، بل وبالعلمانيين المؤمنين الملتزمين، سواء في لبنان ام في
الخاج. الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" يدعو ابناء الكنيسة،
اكليروساً وعلمانيين، للقيام بالرسالة لدى مسيحيي الشرق الادنى،
كما في ايران والسودان وافريقيا الشمالية ( عدد82)، ولدى
اللبنانيين المنتشرين في مختلف بلدان العالم لمساعدتهم روحياً
ومعنوياً، وللعمل المشترك مع الكنائس المحلية الاخرى، ولاسيما مع
الكنيسة اللاتينية ( عدد83). كما يدعوهم للعمل المسكوني، الرامي
الى وحدة المسيحيين الكاملة، مع الكنائس الارثوذكسية والبروتستنتية
روحياً واجتماعياً وراعوياً، بغية الحفاظ على شركة الايمان والمحبة
( عدد85-87)، وللحوار مع الاديان من اجل التعاون في انماء الانسان
والمجتمع، ومن اجل قيام عيش مشترك على مستوى الحياة والثقافة
والسياسة ( عدد89-93).
رسالة الكنيسة واحدة لكن نشاطها يشمل ثلاثة: العناية
الراعوية بالجماعات المسيحية المنظمة والملتزمة؛ التبشير الجديد
بالانجيل في بلدان ذات تقليد مسيحي عريق فقدت فيه جماعات المعمدين
معنى الايمان الحي، او باتت تعيش حياة بعيدة عن المسيح وانجيله؛
الرسالة بين الامم الموجهة الى جماعات بشرية ومحيطات ثقافية
واجتماعية لا تعرف المسيح وانجيل الخلاص (رسالة الفادي،33).
لهذا الحصاد الكثير، نسأل الله ان يرسل فعلة لحصاده (
متى9/37-38).
***
ثانياً، الاحتفال بتطويب الاب يعقوب حداد الكبوشي وبختام المؤتمر
القرباني العالمي التاسع والاربعين.
الاحد 22 حزيران 2008 يوم مميّز في الكنيسة. ففي لبنان يجري
الاحتفال بتطويب الاب يعقوب حداد الكبوشي، مؤسس دير الصليب وجمعية
راهبات الصليب، وفي كبيك بكندا يجري الاحتفال باختتام المؤتمر
القرباني العالمي التاسع والاربعين، وهو بعنوان: سرّ الافخارستيا
عطية الله لحياة العالم".
من ارض البشر ترتفع صلوات التسبيح والشكر لله على العطيتين:
الطوباوي ابونا يعقوب وسرّ القربان، وعلى كل الخير والنعم الفائضة
من هذا السّر، وتلك التي تمّت وستتم على يد الطوباوي الجديد
وبشفاعته.
نحن نلتمس اليوم بشفاعة الطوباوي ابونا يعقوب نعمة الادراك
لقيمة القربان في حياتنا، كما ادركها هو وعاشها، فقدّسه القربان
وكان له ينبوع النور والقوة في كل ما فعل وانجز من اعمال جبّارة في
خدمة الانسان كل انسان.
يعلمنا الطوباوي ابونا يعقوب:
- بالمناولة تصبح النفس اجمل من النجوم، بل اجمل من
الملائكة اذا نظرنا الى كمالهم الطبيعي. ذلك ان ابن الله بالتجسّد
صار بيننا وبالقربان صار فينا. ازرعوا برشساناً تحصدوا قديسين.
- ما اعظم اعمال الله اجراها ويجريها عبر التاريخ بكلمتين:
قال: " انموا واكثروا" فملأ الارض بشراً. وقال: " هذا هو جسدي"
فملأ الارض يسوعاً. واعطى غذائين ضرورين لهذه الارض وللسماء: تأكل
الخبز فيقودك الى القبر، وتأكل جسد الرب فيعطيك الحياة. لقد صُنع
القربان ليمكث معنا. بدون القربان كنيستنا فارغة باردة حزينة.
ولذا، اكبر جرم في عصرنا هو الابتعاد عن القربان ( من اقوال ابونا
يعقوب، صفحة 8-10).
ما يعلّم قداسة البابا بندكتوس في الارشاد الرسولي " سرّ
المحبة" عن سرّ القربان وابعاده الاجتماعية يكشف لنا العلاقة
الوثقى التي قامت بين ابونا يعقوب وانجازاته الانسانية
والاجتماعية وبين القربان.
اتحاده الوثيق بالمسيح، عبر القربان، فتح قلبه على حاجات
الناس في مختلف انواع بؤسهم وحاجاتهم الروحية والمادية
والاجتماعية. ذلك ان علاقته العميقة بسرّ القربان حملته على
تجسيدها في الالتزام الاجتماعي بتوفير هيكليات خدمةٍ وعدالةٍ
اجتماعية من شأنها ان تعزز الاحترام لكرامة الشخص البشري المخلوق
على صورة الله ومثاله، والذي من اجله اراق المسيح دمه. وعليه، ان
ذبيحة المسيح هي سرّ تحرير يستحثنا لنكون صانعي سلام وعدالة
(الفقرة 89).
من القربان تعلم ابونا يعقوب المحبة وعمل الخير من دون توقف
او حساب، فردّد الدعوة: " لنتشبّه بالينبوع. انه يعطي الماء من دون
بدل، ولا يسأل العطشان: قل لي قبل ان اسقيك من اي بلد "انت"، وقال:
" ليست سعادة الانسان في المال، بل في الخير الذي يصنعه، فاقصدوا
ان تعملوا الخير للخير حباً بالخير، وحباً لله وطاعة له. والخير
مثل الاشجار، اذا زُرع حسب الاصول، فلا بدّ له ان ينمو ويتكاثر" (
من اقوال ابونا يعقوب، صفحة 46،45،41،37).
يلتقي تعليم ابونا يعقوب وعمله مع ما علّم قداسة البابا
بندكتوس السادس عشر في الارشاد الرسولي " سرّ المحبة":
" ان يسوع الرب، خبز الحياة الابدية، يدفعنا لنكون متنبّهين
لاوضاع البؤس التي يتواجد فيها قسم كبير من البشرية". واكّد في ضوء
احصاءات دقيقة ان "النصف على الاقل من المبالغ الطائلة المخصصة
للتسلّح هو اكثر من كافٍ لاخراج جيش كبير من الفقراء من الفاقة،
وبشكل ثابت". لكن هذا يفعله الذين اغتذوا من الحقيقة على مائدة
القربان، فبنوا حضارة المحبة، واستنكروا الاوضاع التي لا تليق
بالانسان، والتزموا بالتضامن مع المعوزين والفقراء والمستضعفين، من
اجل تحريرهم (الفقرة 90).
****
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
فيما تنقل الخطة الراعوية النص المجمعي الثامن: " الحياة
الرهبانية في الكنيسة المارونية"، فانها تعرض اليوم جزءاً من الفصل
السادس والاخير: "تجدد دائم في الكنيسة المارونية"(الفقرات 45-48).
1. بعد ان استعرض النص الجذور الرهبانية والهوية، وواقع
الرهبانيات المارونية الراهن، وما رافقها من شوائب، يتطرق الآن الى
معالجة الشوائب ومبادىء التجدد في ضوء الروحانية والهدف الاوحد
الذي هو يسوع المسيح. ان تحدّد الحياة الرهبانية المتواصل يشكل
عنصراً مساهماً في تجديد الكنيسة ( فقرة 45).
2. مبادىء التجدد هي التالية:
أ- شعور الرهبان والراهبات بانهم اعضاء في عائلة الابرشية،
والتكيّف معها، والاندماح الفعلي في حياة الكنيسة لاسباب لاهوتية
ورعائية. فالحياة الرهبانية تثمر بمقدار ما تتجذّر في عمق الحياة
الكنسية.
ب- صون واحترام خصوصية الرهبانيات ومواهبها الخاصة من قبل
السلطة الكنسية. ودعوة اعضائها للمشاركة في الخدمة الروحية
والراعوية والليتورجية والرسولية والاجتماعية. ضرورة تفعيل الدائرة
البطريركية للتنسيق بين الاساقفة والرهبانيات لهذه الغاية.
ج- التفاعل بين الموهبة والروحانية في زمن تسرّبت فيه الى
الرهبانيات قيم كالحرية والمساواة والعدالة والتواصل والشركة
والشفافية وروح النقد. فأقيم وزن للافراد، وفُتح المجال للمبادرات
والتنمية الذاتية والانخراط في مختلف القطاعات الرسولية والانمائية
والاجتماعية. لكن هذه خلّفت نوعاً من التفرّد، ومساواةٍ لا تقيم
وزناً للسلطة، وافتقار للانصياغ المحب. فلا بدّ من العودة الى
الانجيل، والروحانية، والنموذج الموروث، والى التوبة المتواصلة الى
الله، والى ارجاع الذات الى ذاتها والامانة الى النذور.
د- تعزيز الحياة الروحية بالاتحاد بالمسيح وعطاء شامل
للحياة. فيها ترتبط خصوبة الرسالة. هذا يقتضي توازناً بين الحياة
الروحية والعمل الراعوي والرسولي، بين الصلاة الفردية والجماعية في
الاديار والمراكز والنشاط التربوي والاجتماعي، بين الحياة التأملية
والاندفاع الرسالي.
صلاة
ايها الرب يسوع، ترسلنا نحن المسيحيين كلنا بحكم المعمودية
والميرون، وبعضاً منا بحكم الدرجة المقدسة، والبعض الآخر بحكم
النذور الرهبانية والمشورات الانجيلية. ثبتنا في الغيرة والدينامية،
لنشهد لك ولمحبتك وسط المحن والمصاعب، فلا يغيب حضورك عن اي انسان:
نشكرك مع ابيك وروحك القدوس على العطيتين السماويتين لكنيسة العالم
ولكنيسة لبنان: الطوباوي ابونا يعقوب رسول المحبة القربانية،
والمؤتمر القرباني العالمي الذي يذكرّنا ان الافخارستيا عطية الله
لحياة العالم. قدّس الرهبان والراهبات من خلال عملهم اليومي
وصلاتهم وروحانيتهم، ليشهدوا لكمال المحبة مثل الاب يعقوب، ويعملوا
في كل اماكن تواجدهم على تعزيز حضارة المحبة وادخالها في ثقافة
الشعوب. فيرفع لك، ايها الثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس،
شعوب الارض، ونحن معهم، كل مجد وتسبيح وشكران، الآن والى الابد،آمين.
|