"يسوع وسيط العهد الجديد". (عبر12/24)، الذي هو صورة الله،
اشرق بنور انجيل مجده الى الذين أعمى اله هذه الدنيا بصائرهم
(2كور4/4). فلا بد من ان يستنير به الجميع من اجل حضارة جديدة، وان
يعتمدوا على وساطته لكي يتجددوا بنعمة الخلاص، ويتقدسوا في اعمالهم.
اناجيل الآحاد في زمن الغطاس او الدنح تحمل قسمين:
الاول شرح النص الانجيلي بمفهومه اللفظي والعقائدي والخلقي
والنهيوي، والثاني خطة راعوية لتطبيق توصيات المجمع
البطريركي الماروني.
هذه السلسلة من التنشئة المسيحية موجهة الى جميع المؤمنين،
ولاسيما الى الكهنة والشمامسة والاكليريكيين ومعلمي ومعلمات
التعليم المسيحي، الى الجماعات الرهبانية في الاديار والمراكز، الى
المكرسين والمكرسات وسط العالم، الى المجالس الراعوية واللجان،
والى المنظمات الرسولية في الرعايا والابرشية، الى سائر الهيئات،
والى العائلات والجماعات العيلية والمنظمات المعنية بالاسرة.
الغاية منها تحقيق المسيرة معاً، وسط شعب الله، السائر في هذا
العالم ساعياً، يوماً بعد يوم، الى بناء مدينة الارض على قيم ملكوت
الله.
نأمل ان يقود خطانا يسوع وسيط العهد الجديد بنور انجيل
مجده، فنبني معاً حضارة المحبة.
+ بشاره الراعي مطران جبيل
عيد الغطاس والاحد الاول
انجيل القديس يوحنا 1/29-74
خلق جديد وحضور متجسد
كان أول ظهور علني ليسوع يوم اعتمد على يد يوحنا المعمدان
في نهر الاردن. لقد ملأ الروح القدس بشريته واستقر عليه بشبه
حمامة، واعلن الآب من السماء، بالصوت، بنوته الالهية والرضى عن
رسالته ( متى3/13-17؛ مر1/9-11؛ لو3/21-22). وشهد له يوحنا: "هذا
هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم...ويعمّد بالروح القدس... انه
ابن الله".
اولاً، الغطاس ومضامينه
1.
الغطاس تدشين لرسالة الفداء ومسيرة شعب تائب
باعتماد يسوع في نهر الاردن على يد
يوحنا، بدأت حياته العلنية. يحسب نفسه بين الخطأة، ويسير معهم نحو
يوحنا لقبول " معمودية الماء للتوبة" (لو3/11)، لا كشريك للخطأة في
معاصيهم، بل كحامل خطاياهم ومتشفع من اجلهم بوصفه عبد الله
المتألم، كما تنبأ اشعيا قبل 700 سنة: "هوذا عبدي...كحمل سيق الى
الذبح ولم يفتح فاه... أسلم نفسه للموت، واُحصي مع الخطأة، وحمل
خطايا الكثيرين، وشفع في معاصيهم" ( اشعيا53/7و12). في غداة
اعتماده جاءت شهادة يوحنا تحقق النبؤة: " هذا هو حمل الله الذي
يحمل خطيئة العالم". لقد انتهى معه الفصح القديم الذي
كانت تٌقرَّب فيه ذبيحة حمل من البهائم كفارة عن الخطايا وفداءً (
خروج12/1-14)، ليبدأ فصح العهد الجديد، يسوع ابن الله فادي الانسان.
استبق يسوع " معمودية" موته على الصليب ( مر10/38)، خاضعاً
كلياً لارادة ابيه، راضيا، عن حب، بمعمودية الموت لمغفرة الخطايا (
انظر متى26/39). لفظة " غطاس" تعني النزول في الماء والخروج
منه، استباقا للنزول الى قبر الموت والقيامة، كمقدمة للخلق الجديد.
هذا " الغطاس" سيتواصل في معموديتنا، وهو رمز المشاركة في موت
المسيح وقيامته، من اجل الولادة الثانية لحياة جديدة، على ما قال
يسوع لنيقوديمس: "ما من أحد يمكنه ان يدخل ملكوت الله، إلا اذا
وُلد ثانية من الماء والروح"(يو3/5).
ولفظة " دِنْح"، من الاصل السرياني، تعني ظهور سرّ
المسيح والثالوث القدوس. فبسبب قبوله رسالة الفداء، كان
جواب الآب المعلن براءة يسوع وبنوته الالهية والرضى عن رسالته
الخلاصية: " هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" ( متى3/17)، واعتلن
عمل الروح القدس الذي عضد بشرية ابن الله في انجاز رسالة الفداء، "
بالاستقرار عليه" (يو1/32-33). فتحققت نبؤة اشعيا: " هوذا فتاي
الذي اعضده، مختاري الذي رضيت عنه نفسي، قد جعلت روحي عليه، فهو
يبدي الحق للامم" (اشعيا42/1). وانفتحت السماوات، التي كانت قد
اغلقتها خطيئة آدم، لتعلن تقديس الجنس البشري بمعمودية الماء
والروح (انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،536-537).
غطاس ودنح، معمودية وظهور، الاثنان متواصلان فينا.
بالمعمودية نولد الولادة الثانية ابناء لله بالابن الوحيد،
ونندمج في سرّ الكنيسة اعضاء حية في جسد المسيح، ونستعيد بهاء صورة
الله والشبه الالهي (التعليم المسيحي،719-720). اما الظهور
ففي الاسم الذي يُعطى للمعمّد، الاسم المسيحي واسمه الخاص، يعطى له
اسماً جديداً ابدياً مكتوباً على جبينه مع اسم الحمل وابيه (رؤيا
2/17؛14/1)،وفي اعماقه صوت يقول: " لا تخف، فأني قد افتديتك
ودعوتك باسمك، انك لي" (اشعيا43/1). ويُدل على هذا الظهور بالزياح
العلني.
معمودية يسوع هي مسيرة شعب تائب يلتقيه الله، كما روى لوقا
في انجيله: " كان لما اعتمد الشعب كله اعتمد يسوع ايضا، وكان يصلي،
فانفتحت السماء ونزل الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه
حمامة، واتى صوت من السماء يقول: " انت ابني الحبيب عنك رضيت"
(لو3/21-22). هذا يجري في معموديتنا اسرارياً.
يشرح بولس الرسول ابعاد مسيرة يسوع نحو معمودية التوبة
متضامناً مع الشعب الخاطىء: " جعله الله خطيئة من اجلنا، هو الذي
لم يعرف الخطيئة، لكي نصبح به برَّ الله" ( 2كور5/21). في الواقع،
تجسّد ابن الله آخذاً ضعف طبيعتنا الساقطة والسائرة نحو الموت بسبب
خطيئة آدم وخطايا جميع الناس ( انظر روم 8/13)، وظهر بصورة عبد،
"الخادم المتألم" واطاع ارادة الآب الخلاصية موتاً على الصليب (
انظر فيليبي2/7-8)، فداء عن الجنس البشري وخلاصاً له، على ما يقول
بطرس الرسول: " لم تفتدوا بالفاني من الفضة او الذهب من سيرتكم
الباطلة، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، دم
المسيح" ( 1بطرس1/18-19).
ان استمرارية ذبيحة يسوع على الصليب، في القداس الالهي، هي
استمرارية مسيرة الكنيسة نحو التوبة، عبر اسرار الخلاص
ولاسيما المعمودية والتوبة ومسحة المرضى، المعروفة باسرار الشفاء.
تتجلى هذه المسيرة الجماعية نحو التوبة من خلال افراد يتوبون الى
الله ونساك ورهبان وراهبات ومؤمنين في العالم يلتزمون بروح الزهد
والاماتة والتقشف والصوم واعمال الرحمة والمحبة، ومن خلال جماعات
ومنظمات وحركات تصلي وتخدم المحبة وتقوم بمسيرات توبة وتجدد.
وتتجلى مسيرة التوبة في آلام الابرياء من مرضى ومعاقين وفقراء
ومستضعفين وسائر ضحايا الظلم والاضطهاد والتسلط والتمييز العنصري.
ان ما يخيّم حالياً على العالم من حروب وكوارث واحقاد
وعداوات ونزاعات، لا يمكن ان يحلّ بالعنف والارهاب، بل يقتضي
مبادرات توبة وغفران. من الضرورة اليوم ان يتداعى المؤمنون الى مثل
هذه المبادرات. " فمثل هذه الارواح الشريرة السائدة لا تُطرد الا
بالصوم والصلاة" (مر9/29). ولا بدّ من تنظيم ساعات سجود امام
القربان في الرعايا، وتلاوة وردية العذراء لهذه الغاية.
كان نداء يوحنا المعمدان في بريّة اليهودية: "
توبوا فقد اقترب ملكوت السماء... اثمروا ثمراً يليق بالتوبة... كل
شجرة لا تثمر ثمراً صالحاً تُقطع وترمى في النار" ( متى3/2 و8
و10). وما زال يتواصل النداء عينه في برّية المجتمع، في برّية
العقول والضمائر والقلوب. النداء اياه وجّهه الرب يسوع:
"لقد تم الزمان، وملكوت الله اقترب. توبوا وآمنوا بالانجيل" (
مر1/15). وعندما " ارسل تلاميذه الاثني عشر، واعطاهم
السلطان على الارواح النجسة ليطردوها، وعلى الاوجاع والامراض
ليشفوا منها" ( متى10/1)، فانطلقوا يعظون داعين الى التوبة، وكانوا
يطردون الكثير من الارواح النجسة، ويمسحون بالزيت الكثير من المرضى
ويشفونهم ( مر6/12-13). وهكذا كان يتحقق " الخلق الجديد" في
البشرية، بواسطة " التوبة والايمان بالانجيل" (مر1/15)، ويحلّ
السلام في القلوب والعائلات والمجتمعات.
تنمو " الخليقة الجديدة" المولودة من المعمودية، متقدسة بالروح
القدس والميرون، ومتجددة بالتوبة، وتغتذي من الافخارستيا حيث "
الحمل" يعدّ للكنيسة عروسته ولجماعة المؤمنين، وليمة عرسه الخلاصي
على الارض وفي ملكوت السماء، وقد افتداها واحبها وأسلم نفسه من
اجلها (افسس5-25-26).
2.
يسوع ابن الله
هذا اللقب يعني في شهادة يوحنا المعمدان ما كان يعنيه في العهد
القديم، اي البنوة بالتبني التي تقيم بين الله وخليقته علاقات مودة
وحياة حميمة خاصة. فلا يتعدى اللقب بشرية الانسان. وقد كان يطلق
على الملوك مثل سليمان: " يا داود أقيم من يخلفك من نسلك،
وانا اثبّت ابناء للرب الهكم...لانك شعب مقدس للرب الهك، وقد
اختارك الرب لتكون له شعباً خاصاً من بين جميع الشعوب التي على وجه
الارض" (تثنية14/1-2)؛ وعلى الشعب المختار: " اسرائيل هو
ابني البكر. قلت لك: اطلق ابني ليعبدني، وان ابيت ان تطلقه
فهاءانذا قاتل ابنك البكر" (خروج4/22-23)، وعلى ملائكة الله
الذين يشكلون بلاطه الملوكي: " واتفق يوماً ان دخل بنو الله
ليمثلوا امام الرب" (ايوب1/6).
بهذا
المعنى
نحن اصبحنا بالمعمودية "ابناء الله"، حسب لاهوت القديس بولس
الرسول. الروح القدس الحال فينا يجعلنا خاصة الله: " من لم
يكن فيه روح المسيح فما هو من خاصته" (روم8-9)، وابناء الله:
" ان الذين ينقادون لروح الله يكونون ابنا الله" ( روم8/14-16)،
وورثة الله شركاء المسيح في الميراث: " اذا شاركناه في الآمه،
نشاركه في مجده ايضاً" (روم8/17).
بنوتنا لله
تأتينا من ابن الله المتأنس: " ارسل الله ابنه مولوداً لامرأة،
مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى
بالتبني" ( غلاطية4/4-5). هذا ما تفعله فينا المعمودية.
لكن شهادة يوحنا تضيف على مفهوم العهد القديم وجهاً الهياً يسمو
الحدود البشرية: " يأتي بعدي رجل قد تقدمني، لانه كان قبلي".
لم يكن قبله من ناحية التاريخ البشري، بل من ناحية الوجود الالهي،
وشهادته تستند الى اعلان الصوت من السماء: " انت ابني الحبيب".
وعندما يعترف سمعان-بطرس ان يسوع " هو المسيح ابن الله الحي"، فانه
بفضل الوحي الالهي يعلن كل الوهيته (متى16/16-17). والسيد
المسيح يسمي نفسه "الابن" بمفهوم البنوة الالهية الكاملة: هو
الابن الذي يعرف الآب (متى11/27)، ويفوق كل الخدام الذين ارسلهم
الله قبله (متى21/33-39). ويميز بين بنوته وبنوة التلاميذ: " اني
صاعد الى ابي وابيكم" ( يو20/17)، فلم يستعمل قط صيغة ابانا
لتشمله معهم بل اياهم وحدهم: " كونوا انتم كاملين، كما ان اباكم
السماوي كامل هو" ( متى5/48)، " لان اباكم يعلم ما تحتاجون اليه
قبل أن تسألوه"
(متى 6/8)، " صلوا انتم هذه الصلاة: ابانا الذي في السموات..." (
متى6/9). عندما يعنيه الامر يقول " ابي": ليس من يقول لي يا رب يا
رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بمشيئة ابي الذي في السماوات"
( متى7/21).
من الناحية الخلقية
تقتضي بنوتنا لله الطاعة له، والاتكال على عنايته الوالدية، والبحث
عن ارادته والسماع لنداءاته، والقيام بالرسالة التي أوكلها الينا،
والمحافظة على الشبه الالهي فينا. اما قوتنا فنستمدها من لابن
الوحيد، الابن بامتياز.
من الناحية النهيوية الاسكاتولوجية
نعلم اننا نعود الى الله خالقنا ومخلصنا ومقدسنا.الكنيسة
المنظورة ترمز الى البيت الابوي الذي يسير نحوه شعب الله. انها بيت
جميع ابناء الله، المفتوح على مصراعيه ليستقبل الجميع. في
هذا البيت نعيش بنوتنا لله بكل ابعادها ومقتضياتها، وفي طقوسنا
نستبق ليتورجيا السماء، كما يرويها يوحنا الرسول في كتاب الرؤيا
(الفصل 19).
**
ثانياً، الخطة الراعوية
بمعموديته في نهر الاردن وباعتلان سرّه، وسرّ الثالوث القدوس، وسرّ
والانسان " الخليقة الجديدة"، بدأ يسوع حياته العامة، وهي المرحلة
الثانية من حياته بعد تجسده وطفولته. نحن ايضاً، اذ نتذكّر
معموديتنا وما جرى فينا، نبدأ حضوراً جديداً مع المجمع البطريركي
الماروني فهو يذكرّنا بالماضي هوية، ودعوة ورسالة؛ ويجدّدنا في
الحاضر اشخاصاً وهيكليات؛ ويطلقنا لحضور في العالم من اجل مستقبل
أقضل.
الخطة الراعوية
تبدأ من اعطاء زمن الغطاس مفهومه الروحي في حياتنا الشخصية
والجماعية: في الرعية، في العائلة، في الجماعة الرهبانية، في
المنظمة الرسولية، في المؤسسة الثقافية والاجتماعية الرياضية.
أ- نتساءل حول كيفية عيش هويتنا المسيحية: " خليقة جديدة
بالمسيح" ، في ضوء ثمار الروح التي يتكلم عنها بولس الرسول:
المحبة والفرح والسلام وطول الاناة وروح الخدمة والجودة واللطف
والثقة بالآخرين والسيطرة على الذات (غلا 5/22-23).
ب- بما ان هويتنا المسيحية تتميز بطابع الهوية المارونية
الخلقيدونية القائمة على سر التجسد، وهي ان في المسيح طبيعتين
كاملتين، الهية وانسانية، فيوصي المجمع البطريركي الماروني بالعيش
بموجب هويتنا المسيحية الانطاكية حسب الصيغة الخلقيدونية (451). ما
يعني ان نعمل مع شركائنا في المواطنية والمصير من اجل ترقي الانسان،
كل انسان، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ووطنياً، لكي يستعيد،
بيسوع المسيح، كرامته وصورة الله فيه. هذه الهوية تترجم "بالحضور
المتجسّد" بحيث نطبع شؤوننا الزمنية بقيم الانجيل، ونجعل من كل
انسان محوراً لهذه الشؤون (النص المجمعي رقم2: هوية الكنيسة
المارونية ودعوتها ورسالتها، عدد17 و38).
تتشاور المجالس الراعوية واللجان والجماعات الرعوية والديرية
والمنظمات الرسولية والعائلات، بشأن تحديد مجالات الحضور المتجسّد
وما تقتضي من مبادرات فردية وجماعية، يلتزم بها الجميع.
ج- نعزز المعنى الروحي لتبريك المياه في عيد الغطاس، رمزاً
لينبوع الحياة الجديدة من المعمودية، والاغتسال من ادناس الخطيئة،
والحماية الالهية من الارواح الشريرة، والتماس النعمة الالهية التي
تقدسنا وتحمينا من كل شر في النفس والجسد.
**
صلاة
نشكرك ايها الآب القدوس، لانك كشفت لنا وجهك بالابن الوحيد يسوع
المسيح وبه خلصتنا، فصرنا لك ابناء بالمعمودية، وافضت علينا
بواسطته روحك القدوس الذي جعلنا بالميرون هياكل له.
اعطنا ايها النور الحقيقي، يسوع المسيح، ان نسير كابناء
النور في الحقيقة والنعمة والمحبة.
نسألك ايها الروح الحي والمحيي، ان تجدد فينا الانسان
الجديد المجمّل بثمار الروح، فنلبس المسيح نحن الذين اعتمدنا
بالمسيح، لمجد الله وبهاء صورته فينا وفي المجتمع البشري. آمين.
الاحد الثاني بعد الدنح
انجيل القديس يوحنا 1/35-42
اللقاء بيسوع يوحي ويغييّر
الدِّنْح زمن ظهور سرّ المسيح وتجليه فينا ومن خلالنا؟ لقد ظهر في
شهادة المعمدان انه " حمل الله" (يو1/36)، وفي شهادة اندراوس "انه
المسيح" (يو1/41)، وفي تبديل هوية سمعان بن يونا (يو1/42) انه صانع
الخلق الجديد، على ما قال عن نفسه ليوحنا الرسول في رؤياه: " ها
انا جاعل كل شيء جديداً" ( رؤيا21/5)، واكّد بولس الرسول: " كل من
هو بالمسيح الآن، هو خليقة جديدة" (2كور5/17).
اولاً، ابعاد النص الانجيلي
1.
يسوع حمل الله
لماذا، لما رأى يوحنا المعمدان يسوع ماشياً، سماّه " حمل الله"
(يو1/36)؟ كان ذلك غداة نقاشه مع البعثة من الكهنة واللاويين الذين
ارسلهم اليهود من اورشليم ليسألوه: من انت؟ أأنت المسيح؟ أأنت
ايليا؟ أأنت النبي؟ فاجاب: لا. بل انا صوت صارخ: في البريّة مهدّوا
طريق الرب. وسألوه، لماذا، اذاً، تعمّد، ان لم تكن المسيح، ولا
ايليا، ولا النبي؟ (يو1/19-26).
كان يعتبره تلاميذه حملاً بين ذئاب بريّة مجتمعهم، لوداعته وتضحيته
وتقشفه ومناداته بمعمودية التوبة ولغفران الخطايا والتكفير عنها
(انظر مرقس1/2-6). فلما رأى يسوع ماشياً قال لتلميذيه: "هذا هو حمل
الله"، لينفي عن نفسه هذه الصفة، امام من هو حمل الله بامتياز. هذا
كان نهجه، اعلنه يوماً للتلاميذ: "ينبغي لذاك ان ينمو، ولي ان
انقص، لان الذي اتى من فوق، هو فوق الكل، والذي هو من الارض ارضي
هو، وارضياً يتكلم" ( يو3/30-31). يسوع هو حمل الله بامتياز
بالنسبة الى المعمدان والينا. ذلك ان الناس يقولون عن الشخص الذي
يعيش بتواضع ويضحي ويسالم: " هذا حمل وديع". ويسوع، عندما ارسل
تلاميذه للرسالة في برّية هذا العالم، قال: " ها انا مرسلكم
كالخراف بين الذئاب، كونوا حكماء كالحيات، وودعاء كالحمام" (
متى10/16).
قال المعمدان عن يسوع انه "حمل الله"، وقد اكتشف، يوم
معموديته، انه ابن الله القدوس الذي لا تشوبه خطيئة، والممتلىء من
الروح القدس. صورة " حمل الله" مأخوذة من الكتب المقدسة في العهد
القديم ولاسيما من سفر الخروج (12/1-4) ومن نبؤة اشعيا (15/13-15)؛
وترمز الى فادي الجنس البشري، يسوع المسيح؛ لكنها في الوقت نفسه
تحقيق لما تعني واكتمال. فالمسيح هو حمل الفصح الجديد، وعبدالله
المتألم الذي يحمل خطايا جميع الناس، ويكفّر عنها بآلامه البريئة
وموته على الصليب، ويزيلها برحمة من الآب، وبقوة من الروح القدس
الذي يبعث الحياة الالهية فينا.
انه حمل الفصح الجديد بالنسبة الى الفصح اليهودي القديم
الذي يصفه سفر الخروج (12/1-14). سيقول عنه بولس الرسول في صلبه
وموته: " لقد ذُبح حمل فصحنا وهو المسيح" ( 1كور5/7). ورأى يوحنا
تحقيق الحمل الفصحي في المسيح المصلوب، اذ قال، عندما لم يكسر
الجنود ساقيه مثل اللصين المصلوبين معه: " لن يكسر له عظم"
(يو19/36)، مثلما قضت شريعة موسى بالنسبة الى حمل الفصح: " وعظماً
لا تكسروا منه" ( خروج12/46).
عندما كان القديس اغسطينوس يتأمل في سرّ المسيح، حمل الفصح المجيد،
الذي افتدى خطيئة البشر بموته وانتصر على الموت، بقيامته. تساءل: "
ما هو هذا الحمل الذي تخافه الذئاب؟ ما هذا الحمل المقتول الذي
يقتل الآسد؟ في الواقع، قال بطرس الرسول ان " الشيطان عدوكم يزأر
كالاسد ويجول في طلب من يبتلعه.فقاوموه انتم راسخين في الايمان
بالمسيح" ( 1بطرس5/8-9؛ اغسطينوس، تعليق على انجيل يوحنا، العظة
7).
لقد تنبأ أشعيا عن حمل الفصح هذا وسماه " عبد يهوه"، "عبدالله
المتألم"، (اشعيا 52/13-15؛ 53/2-3)، وقال عنه: "لقد حمل
آلامنا واحتمل اوجاعنا. طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا، نزل
به العقاب من اجل سلامنا، وبجرحه شفينا. ألقى الرب عليه اثم كلنا،
عومل بقسوة فتواضع ولم يفتح فاه. كحمل سيق الى الذبح، وكنعجة صامتة
امام الذين يجزّونها، ولم يفتح فاه" (53/4-7). انه يسوع المسيح
الذي أسلم نفسه للموت فداء عن البشر، فأستبق الآب اعلان رضاه عنه
على نهر الاردن، والروح القدس ملأ بشريته قوة لرسالة الفداء،
والسماوات انفتحت بعد ان أغلقتها خطيئة آدم، والمياه تقدست بنزول
يسوع اليها. فكان الكل العلامة والاداة للخلق الجديد بمعمودية
الماء والروح (يو3/5-7).
بالمعمودية،
يصوَّر المسيحي في كيانه الداخلي على شبه يسوع في موته وقيامته:
انه يموت عن حياة الخطيئة ويقوم لحياة النعمة. يموت فيه الانسان
العتيق، ويحيا الانسان الجديد. ما يقتضي منه ان يدخل في سر الاتضاع
والتوبة، وان ينزل الى الماء مع يسوع، ليصعد معه مولوداً ثانية من
الماء والروح، فيصبح، في الابن الوحيد، ابناّ حبيباً للآب، ويعيش
وفقاً للحياة الجديدة (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 537).
2.
اللقاء بيسوع يكشف ويبدّل
يسوع يُعرف بالاختبار الشخصي: " تعاليا وانظرا" ( يو1/39). بهذه
الدعوة اجاب على سؤال تلميذي المعمدان اللذين تبعاه عند سماع شهادة
يوحنا: " هذا هو حمل الله". فأقاما معه طيلة النهار. ولما رجعا،
اعلن اندراوس لسمعان ما كُشف لهما: " لقد وجدنا المسيح" (يو1-41).
"حمل الله"، المسيح المنتظر، الذي كتب عنه الانبياء.
آمن التلميذان بفضل ما سمعا من قول بولس الرسول: " الايمان من
السماع، والسماع من كلمة الله" (روم 10/17). المبادرة الاولى هي
من المسيح، كلمة الله المتكلمة الى كل انسان (القديس برنردوس):
"ماذا تريدان؟ تعاليا وانظرا". هذا اصل مسيرة الايمان. تبعاه عند
سماعهما قول المعمدان، متسائلين، فساءلهما هو؛ وتبعاه باحثين، فكان
هو الذي يبحث عنهما. هذه قصتنا مع المسيح (انظر رسالة البابا يوحنا
بولس الثاني الى الشبيبة في 15 آب 1996، اعداداً للايام العالمية
في باريس 1997، بعنوان: " يا معلم اين تقيم؟ تعاليا وانظرا"). وكان
سمعان بن يونا ذروة بحثه وقد اراده نائباً له على رأس الكنيسة،
والصخرة التي تبنى عليها، بفضل ايمانه. فلما اتى سمعان الى يسوع،
على شهادة اخيه اندراوس، بادره الرب بنظرة ثاقبة حتى الاعماق،
وقال: " انت سمعان بن يونا. ستدعى الصخرة-بطرس "
Petros"
باليونانية، " وكيفا" بالسريانية (يو1/42).
لقد اعلن يسوع معمودية سمعان- بطرس ومفاعيلها، قبل حدوثها في سرّ
فصحه. اعلن ولادته الجديدة، وتغيير هويته العتيقة. وبعد ايام قليلة
التقى يسوع سمعان واندراوس على شاطىء بحر الجليل، يلقيان الشباك في
البحر، لانهما كانا صيادين، فقال لهما: " هلّم اتبعاني، اجعلكما
صيّادي الناس. فتركا شباكهما للحال وتبعاه" (متى4/18-19).
نحن نتساءل عن المسيح، فاذا به يسائلنا: " ماذا تريدان"؟ نبحث عنه
فيجدنا هو، ونحن نجد ذواتنا فيه: "انت سمعان بن يونا. ستدعى
الصخرة". بعد قيامته، لن نسأله: " اين تقيم؟" اما هو فيوجّه الدعوة
الى الجميع، الى كل واحد: " تعال وانظر". انه حيّ وحاضر ابداً في
كنيسته: حاضر في الافخارستيا، خبزاً حياً نازلاً من السماء، هو خبز
كلامه وخبز جسده ودمه لحياة المؤمنين والعالم (يو6/50)؛ حاضر بشخص
الكاهن خادم السّر، الناطق والفاعل باسمه وبشخصه؛ حاضر في الاسرار
فعندما احد يعمد، المسيح نفسه هو الذي يعمّد؛ حاضر في الجماعة
المصلية كما وعد: " اذا اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي، اكون هناك
بينهم" ( دستور الليتورجيا،7).
غير ان عمر الشباب يبقى المناسبة بامتياز لطرح السؤال
الحاسم اياه، لانه عمر البحث عن الذات والمستقبل، عمر القرارات
البطولية، ولكون الشباب " حراس الصباح" و " ومستكشفي المستقبل" (
البابا يوحنا بولس الثاني). ان آباء الجمعية الحادية عشرة لسينودس
الاساقفة التي التأمت في روما (2-23تشرين الاول 2005) بعنوان: "
الافخارستيا ينبوع حياة الكنيسة ورسالتها وقمتهما"، استعادوا في
ندائهم الاخير كلمة البابا بندكتوس السادس عشر للشبيبة: " لا
تخافوا من المسيح. انه لا ينتزع شيئاً، بل يعطي كل شيء. استقوا من
ينبوع الطاقة الالهية التي هي الافخارستيا المقدسة لاجراء
التغييرات الضرورية، ولاسيما لتغيير ما هو ظلم وعنف" ( النداء،21).
**
ثانياً، الخطة الراعوية
الخطة الراعوية لهذا الاسبوع، كما تمليها كلمة الانجيل، تتناول
الليتورجيا التي هي مكان اللقاء بيسوع واداته. ذهاب تلميذي يوحنا
المعمدان مع يسوع، ورؤيتهما اين يقيم، ومكوثهما معه طيلة النهار،
واكتشافهما انه المسيح، صورة مسبقة عن الليتورجيا الالهية، التي هي
مكان اللقاء بالمسيح والثالوث القدوس واداة هذا اللقاء. الليتورجيا
هي مدرسة الايمان ( انظر المجمع البطريركي الماروني، النص 12:
الليتورجيا). فعملاً بتوصيات المجمع البطريركي الماروني.
1) يتوقف المؤمنون معاً في لقائهم الاسبوعي، في الرعية، في
العائلة، في الجماعة الديرية، في المنطمة الرسولية ولجنة الشبيبة،
وسواهما من الجماعات، عند الحدثين الاساسيين في حياة يسوع المسيح
العلنية ورسالته: رسالة اعلان انجيل الفداء بعماده في الاردن،
وتحقيق الفداء بموته على الصليب وقيامته. يفكرون معاً في
الوسائل والمبادرات التي تتيح لهم امكانية ان يعيشوا مفاعيل
المعمودية:
أ- ان يحيوا في المسيح متحدين به، بواسطة كلمته التي تنير العقول
بانوار الحقيقة، ونعمته التي تشفي ضعفنا، ومحبته المسكوبة في
القلوب بالروح القدس وهي " محبة تستحثنا (2كور5/14).
ب- ان يؤدوا الرسالة الموكولة اليهم بمسحة الميرون، وهي مثلثة:
اعلان بشرى الحياة الجديدة (البُعد النبوي)، وتحويل الاعمال
والنشاطات الزمنية الى قرابين روحية (البُعد الكهنوتي)، والشهادة
لمحبة المسيح باحلال السلام والعدالة والحرية (البُعد الملوكي).
في ضوء هذه المفاعيل يتخذ الافراد والجماعات مبادرات عملية تكون
العلامة لثمار الفداء، والاداة لتعزيز هذه الثمار في مجتمعهم (النص
13 عدد18).
2) انطلاقاً من ادراك المؤمنين ان المسيح حاضر في كلامه، فعندما
نقرأه او نسمعه، المسيح نفسه يتكلم (القديس ايرونيموس)، تتهيأ
الجماعات المذكورة للمشاركة الفعالة في الاحتفالات الليتورجية
ولاسيما في القداس الالهي، وتهيئه، بحيث تكون هذه الاحتفالات
الواحة الفضلى للقاء المسيح عبر كلامه: تصغي اليه، تفسّره، تتأمل
فيه، تتبادل الافكار والمبادرات، تجعله ينبوع وحيها، ومصدر
رسالتها، ومرتكز شهادتها. ان بلوغ هذه الغاية يقتضي:
أ- جعل الاحتفال الليتورجي احتفالاً للشعب، كما يوصي المجمع
البطريركي، فلا تبقى جماعة المؤمنين غريبة، مشاهدة ومستمعة وصامتة.
على الكاهن المحتفل والشماس والمنشّط الليتورجي مساعدة الشعب على
المشاركة الواعية والتقوية والفعاّلة في التراتيل والزياحات
والصلوات، مع ما يستوجب ذلك من تنشئة لفهم رموز الليتورجيا
وابعادها اللاهوتية.
ب- بما ان الليتورجيا هي للشعب، لا يحق للجوقة ان تأخذ مكان الشعب.
بل ينبغي ان تساعد الجماعة المصلية على المشاركة في الترانيم
والالحان وفق الاصول الموسيقية وبروحانية وخشوع، ما يقتضي ان تقوم
الجوقة بخدمة الاحتفال باتقان وتقوى ، فتتناغم الاصوات العذبة مع
القلوب المصلية.
ترسم الجماعات المعنية خطة عمل لتحقيق المشاركة الواعية والفاعلة
(النص 13، عدد40،39،36).
صلاة
اليك،
يا يسوع ربنا، ننظر لتنيرنا ايها النور الآتي الى العالم، فندرك
الدعوة الى اتّباعك، وسماع كلامك الحي، والدخول في شركة حياة معك.
انجيلك قوة وفرح لنا. أحلّ فينا روحك القدوس، فيغيّر حياتنا
ويفرّحها بالاخوّة لجميع الناس، والخدمة السخية، والغيرة في العمل
الرسولي، فنحقق خير البشرية في الحقيقة والحرية والعدل والمحبة.
هكذا اليك نصلي، ايها المسيح، انت الذي تحيا وتملك مع ابيك وروحك
القدوس الى الابد. آمين.
(صلاة البابا بولس السادس).
انجيل القديس يوحنا 3/1-8
المعمودية والمسلك المسيحي
يحدثنا الرب يسوع عن الولادة الجديدة من الماء والروح
بالمعمودية. وهي ولادة تؤهل المعمد ليرى سرّ ملكوت الله المتجلي في
شخص المسيح، وتدخله في هذا الملكوت الذي يجد بدايته في الكنيسة
واكتماله في السماء، عند نهية الازمنة.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
معمودية الشوق والمعمودية
الاسرارية
كان يسوع في اورشليم، بمناسبة عيد الفصح، بعد ان حول الماء
خمراً في عرس قانا الجليل، وبعد ان شهد له يوحنا المعمدان انه "
حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم " (يو1/29)، وانه " يعمد بالروح
القدس" (يو1/33). قصده ليلاً نيقوديمس، رئيس اليهود في اورشليم،
بعيداً عن الانظار، تجنباً للحساسيات والانتقادات من قبل اليهود،
واعلن " فعل ايمانه" بيسوع: " رابي، يا معلم، نحن نعلم انك جئت
من الله معلماً، لانه لا أحد يقدر ان يعمل الآيات التي انت
تعملها ما لم يكن الله معه" ( يو3/2).
كان هذا الايمان بالمسيح كافياً، ليعلن الرب يسوع بطريقة غير
مباشرة ولادة نيقوديمس الجديدة بمعمودية الشوق: " الحق الحق
اقول لك: لا أحد يقدر ان يرى ملكوت الله ما لم يولد من
جديد" (يو3/3).
في اساس معمودية الشوق
الايمان بالمسيح. فالمعمودية هي سرّ الايمان، وهي
اداته وعلامته، على ما يقول الرب يسوع: " من آمن واعتمد
يخلص"(مر16/16). وهذا ما قاله ايضاً بطرس الرسول لحارس سجن فيليبي
حيث اعتقل مع سيلا: "آمن بالرب يسوع فتخلص انت واهل بيتك"(
اعمال86/31). نقرأ في"التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية" ان
الايمان المطلوب للمعمودية ليس الايمان الكامل والناضج، بل بداية
ايمان ينبغي ان ينمو بعد المعمودية (عدد1253).
معمودية الشوق هي ان كل انسان يجهل انجيل المسيح والكنيسة، لكنه يبحث
عن الحقيقة ويصنع ارادة الله وفقاً لفهمه لها، يستطيع ان يخلص. ذلك
انه يوجد لديه ارادة ضمنية وشوق لقبول المعمودية لو استطاع اليها
سبيلاً او ادرك ضرورتها (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،
1260). وتعلّم الكنيسة ان " كل الذين لم يعرفوها، لكنهم عاشوا
بموجب الهامات النعمة الالهية باحثين عن الله وباذلين جهدهم لاتمام
ارادته، انما يخلصون بالمسيح ولو لم يعتمدوا" (المرجع نفسه،
1281؛ الدستور العقائدي " في الكنيسة"، 16).
اقتبل نيقوديمس معمودية الشوق عندما اعلن ايمانه بالمسيح "
فرأى ملكوت الله" في شخص يسوع بالذات.
اما المعمودية الاسرارية،
التي حدّث يسوع عنها نيقوديموس، فتتم بالماء والروح و " تُدخل"
المعمَّد في عمق الشركة مع الله، وتجعله عضواً حياً هو الكنيسة:
"الحق الحق اقول لك: لا احد يقدر ان يدخل ملكوت الله ما لم
يولد من الماء والروح" (يو3/5).
ان كل معمد، سواء بمعمودية الشوق او بالمعمودية الاسرارية، مدعو
ليعيش بحسب مقتضيات الروح الالهي الذي ناله،" فالمولود من الجسد هو
جسد، والمولود من الروح هو روح" (يو3/6). كشف بولس الرسول ان هذه
المقتضيات هي " ثمر الروح" اي: "المحبة والفرح والسلام والاناة
واللطف والصلاح والثقة والوداعة والعفاف" (غلاطية 5/22-24). وفي
المقابل كشف بولس ان "اعمال الجسد" واضحة وهي: "الفجور والنجاسة
والعهر وعبادة الاوثان والسّحر والعداوة والحسد والسّكر وما اشبه
ذلك". واضاف "انبهكم ان الذين يعملون مثل هذه الاعمال لن يرثوا
ملكوت الله" (غلاطية 5/19-21).
2.
ملكوت
الله
اعلن الرب يسوع في حديثه مع نيقوديمس ملكوت الله وعناصر
ارتباطه بالمسيح والكنيسة. نجد شرح هذا الموضوع بالتفصيل، مع
ازالة كل التباس بشأنه، في الوثيقة الصادرة عن مجمع عقيدة الايمان
بعنوان: "اعلان الرب يسوع، حول وحدة وشمولية الخلاص بيسوع
المسيح والكنيسة " (6 آب 2000).
ملكوت الله هو اعتلان تصميم الله الخلاصي وتحقيقه بكامله (عدد19)، وهو ذو
بعد اسكاتولوجي يعني ان تصميم الخلاص، الذي اصبح حاضراً في الزمن،
لا يتحقق بشكله النهائي والكامل إلا في نهاية التاريخ واكتماله
(عدد18).
لقد ظهر ملكوت الله وتحقق بشخص يسوع المسيح، كما كشف هو
لنيقوديمس بقوله: " لا احد يقدر ان يرى ملكوت الله ما لم يولد
من جديد" (يو3/3). ونيقوديمس رآه عندما اعلن ايمانه
بيسوع: انه المعلم المرسل من الله الذي يأتي آيات لا يصنعها إلا من
كان الله معه (انظر يو3/2).
الكنيسة هي العلامة والاداة
لملكوت الله: تعلنه كعلامة وتحققه
كاداة (اعلان عدد18). ولهذا تسمى "زرع الملكوت وبدايته على الارض"
(الدستور العقائدي في الكنيسة،5). ان لفظة "ملكوت" تعني الاشخاص
البشريين والمجتمع والعالم بكامله. و" العمل في سبيل
الملكوت" يعني الاقرار بالدينامية الالهية الحاضرة في
التاريخ البشري، وتعزيزها وتفعيلها بحيث تحوّل هذا التاريخ.
الكنيسة تعلن وتعمل، وبهذا هي اداة. اما " بناء
الملكوت" فيعني العمل على تحرير التاريخ البشري من الشر بكل
اشكاله، وبذلك يظهر ملكوت الله للعيان وتكون الكنيسة
علامة له (اعلان، عدد19).
وبما ان " تصميم الله الخلاصي" الظاهر في تاريخ البشر والمتحقق
في المسيح، يهدف الى " اتحاد الجنس البشري بالله اتحاداً عميقاً،
والى وحدته بكليته"، فالكنيسة هي العلامة والاداة لهذا
الاتحاد ولهذه الوحدة" (اعلان، عدد18؛ الدستور العقائدي في
الكنيسة،1)؛ وهي " الشعب الذي يستمد وحدته من وحدة الآب والابن
والروح القدس؛ وهي "مملكة المسيح الحاضرة سرياً في العالم، وتشكل
زرع هذه المملكة ومبدأها ( الدستور العقائدي في الكنيسة 3 و4).
وعندما تكلم يسوع عن سرّ المعمودية بقوله: " لا احد يقدر ان
يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء والروح" ( يو3/5)،
انما تكلم عن السّر الذي تمنحه الكنيسة-الاداة، في واقعها
المنظور والاجتماعي. لكن عمل المسيح والروح القدس لا ينحصران ضمن
حدود الكنيسة المنظورة ( رسالة الفادي، 18). ولهذا "يهبّ الروح،
كالريح، حيث يشاء" (يو3/8). بالمعمودية ندخل في شركة اتحاد
مع الله الثالوث بواسطة الكنيسة- الاداة، وندخل في شركة
ووحدة مع جماعة المعمدين وسط
الكنيسة- العلامة.
3.
سرّ المعمودية ورموزها
المعمودية هي سرّ الولادة الثانية لحياة جديدة من الماء والروح
كأبناء لله. بها نتحرر من الخطيئة الاصلية والخطايا الشخصية
ونمتلىء من الحياة الالهية، ونصبح اعضاء في جسد المسيح وهياكل
الروح القدس، ونندمج في الكنيسة، ونغدو شركاء في كهنوت المسيح
ورسالة الكنيسة؛ وبذلك تكون المعمودية الباب الذي يُدخلنا الى باقي
الاسرار ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1279؛ عرض مختصر
للايمان الكاثوليكي،110).
يحقق الروح القدس ايات هذا السّر ومفاعيله بقوة حلوله، ويجعل
ثمار موت المسيح وقيامته حاضرة في المعمّد، فيموت مع
المسيح عن انسان الخطيئة القديم، ويقوم معه انساناً جديداً
بالنعمة ( مختصر الايمان الكاثوليكي،111).
اما رموز المعمودية فهي اولاً الماء: وهو رمز الموت
والقيامة والولادة الجديدة على شبه يسوع المسيح. فبالمعمودية
نولد من احشاء الماء كما ولد يسوع من احشاء مريم، وبها نبدأ
رسالتنا كمسيحيين مثلما بدأها هو معتمداً في ماء الاردن،
ونقتدي بدينامية موته وقيامته، في حياة جديدة نسلكها.
الماء هو رمز الحياة. انه جوهري للحياة على الارض، فلا
يمكن ان نتصور حياة بدون ماء. الكائن البشري مؤلف في معظمه من
الماء الذي ينقل الغذاء من الخلايا واليها. الجنين محاط بالماء في
بطن امه، الذي يوفرّ له البيئة الملائمة لنموه وتطوره. على صعيد
اوسع، الماء يغطي ثلثي مساحة الارض، وينظم حرارتها فيجعل مناخها
مناسباً لامكانية حياة كائناتها البشرية والحيوانية والنباتية.
اعتادت الكنيسة على تبريك الماء في عيد الغطاس تذكاراً لمعمودية
المسيح ومعموديتنا والتزاماً منا بعيش مواعيدها ومفاعيلها، وفي عيد
ارتفاع الصليب تذكاراً لموت المسيح وقيامته ولمشاركتنا في سرّه
الفصحي، والتزاماً منا بالعيش حسب مقتضيات الروح والحياة الجديدة.
كل ذلك بقدرة الماء المبارك بحلول الروح عليه.
هناك رموز اخرى هي: زيت العماد الذي يمسح به
الكاهن جبين المعمّد علامة للصراع ضد الارواح الشريرة؛ والثوب
الابيض الذي يلبسه المعمد علامة لحالة النعمة؛ والشمع
علامة الاشعاع المسيحي؛ والزياح اعلان للكنيسة، جماعة
المؤمنين، عن انتماء عضو جديد اليها؛ والبركة بايقونة العذراء
علامة البنوة الروحية بالنعمة لمريم ام المسيح وامنا؛ واخيراً
اسم المعمودية هو اسم القديس الذي يتخذه المعمّد شفيعاً وقدوة.
المعمودية هي السّر الاول من اسرار التنشئة المسيحية الثلاثة،
الى جانب سرّي الميرون ( التثبيت) والقربان ( المناولة). سرّ
الميرون " يثبّت المعمد في ملء نعمة العماد ويشدده برباط اوثق
في الكنيسة، ويملأه من مواهب الروح القدس السبع: الحكمة والعلم
والمعرفة ( للعقل والايمان)، والمشورة والقوة ( للارادة والرجاء)،
والتقوى ومخافة الله ( للقلب والمحبة). يتألف الميرون من زيت معطّر
يباركه البطريرك يوم خميس الاسرار، ويرمز االى مسحة الروح القدس
التي تحقق فينا حلوله كما حلَّ يوم العنصرة على الرسل ومريم،
الكنيسة الناشئة، ويجعلنا شهوداً ناشطين للمسيح ( مختصر
الايمان الكاثوليكي،118-119). مناولة القربان، جسد المسيح
ودمه، هي الغذاء الذي ينمي الحياة الالهية فينا، فالغذاء هو المسيح
ذاته الذي هو كل الخير الروحي. تمحو المناولة خطايانا العرضية،
وتعطينا المناعة للانتصار على التجارب، وتوحّدنا مع جماعة
المؤمنين، جسد المسيح السرّي، وتمنحنا عربون المجد الابدي ( المرجع
نفسه،128).
4.
الاسرار السبعة تكمّل مرحل الحياة الطبيعية:
حياة الانسان الطبيعية تولد من الزواج وحياته الفائقة الطبيعة
من سرّ المعمودية؛ الانسان ينمو ويتقوى بالمناعة، وحياته
الجديدة تنمو بمسحة الروح القدس؛ الحياة الطبيعية تتغذى بالطعام،
والحياة الجديدة بسر القربان، جسد المسيح ودمه؛ الانسان
يمرض ويتعافى بالتطبيب، وبسّر التوبة تشفى النفس من
خطيئتها؛ الانسان يتحرر من آثار المرض بالنقاهة، وبسر مسحة
المرضى يتعافى نفساً وجسداً من آثار الخطيئة؛ الانسان ينتظم في
حياة اجتماعية للخير العام، وبسر الكهنوت يحظى برعاية تقوده
الى الخلاص الابدي؛ الحياة البشرية تتواصل في الوجود جيلاً بعد جيل
بالتوالد، وبسّر الزواج تستمر الكنيسة وتنمو وايمانها
يتناقل ليشمل جميع الناس في ملكوت الله ( القديس توما الاكويني).
**
ثانياً، الخطة الراعوية
في النص 9 عن العلمانيين، استعاد المجمع البطريركي
الماروني تعليم الكنيسة حول مفاعيل المعمودية في المؤمنين وقد
اصبحوا بالمعمودية ومسحة الميرون جسداً واحداً مع المسيح. منهم
تألف شعب الله، واصبح كل معمّد، بحسب مواهبه وامكاناته ومكانته،
شريكاً في وظائف المسيح النبوية والكهنوتية والملوكية، من خلال
الكهنوت العام. هذا الكهنوت عبّر عنه القديس اغسطينوس بالقول: "
كما اننا ندعى جميعاً مسيحيين بسبب المسحة السرّية، كذلك ندعى
جميعاً كهنة، لاننا جميعاً اعضاء في جسد الكاهن الاوحد، ولان الرأس
والجسد يؤلفان المسيح الكلي" ( مدينة الله،20/10). هذا الكهنوت
العام اعلنه صريحاً بطرس الرسول: " انتم جيل مختار، كهنوت ملوكي،
امّة مقدسة، شعب مقتنى، لتخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة الى
نوره العجيب" (1 بطرس2/4و5و9).
يذكّر المجمع
ان المعمّدين مدعوون من خلال كهنوتهم العام الى القداسة، والى
العمل كالخمير من الداخل على تقديس العالم، من خلال اعمالهم
اليومية ومهامهم وحياتهم الزوجية والعائلية ونشاطاتهم الزمنية على
مختلف المستويات، جاعلينها قرابين روحية مرضية لله بيسوع المسيح،
تنضم الى قربان جسد الرب ودمه في الافخارستيا لترفع بكل تقوى الى
الآب (النص 9، عدد8 و9). اما تعليم الكنيسة الذي استعاده المجمع
البطريركي الماروني فنجده في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني
وبخاصة الدستور العقائدي في الكنيسة " نور الامم" (الفصل الرابع)،
وفي الارشاد الرسولي: " العلمانيون المؤمنون بالمسيح" (الفصل الاول)،
والارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" ( الاعداد 45-51).
1. يوصي المجمع البطريركي الماروني بالعمل على اشراك
المؤمنين العلمانيين في الهيكليات الكنسية، على مستوى الرعايا
والابرشية، وهي العاملة في خدمة الكلمة والتعليم، النعمة والتقديس،
المحبة والشركة المتضامنه. نذكر من بين هذه الهيكليات المجالس
الراعوية، وهيئات الشؤون الاقتصادية، ولجان ادارة الوقف، والمنظمات
الرسولية على اختلاف انواعها، وجوقة الكنيسة، وفريق السهرات
الانجيلية، ولجنة تحضير المناولة الاولى، ولجان راعوية العائلة،
ولجان الشبيبة، ولجان التعليم المسيحي، ولجان ادارة صندوق الخدمات
الاجتماعية والانمائية، ولجان كاريتاس لبنان، وسواها من المنظمات
الخيرية لخدمة المرضى والفقراء والمسنين والمعاقين، والانخراط في
العمل الليتورجي (النص 9، عدد32/3ً).
الخطة الراعوية تقتضي التفكير معاً حول امرين: تعزيز
المشاركة في الهيكليات الكنسية والرسالة، ووسائل تنشئة العلمانيين
على دورهم وحسن مشاركتهم.
2. ويوصي المجمع بتنشيط الحركات والمنظمات الرسولية
والجماعات العيلية في الرعايا، بانشائها وارشادها وتنشئتها
وفقاً لمقاييس الانتماء اليها: السعي الى تقديس الذات، قبول حقائق
الايمان والمجاهرة بها في المسلك والموقف، تمتين اواصر الوحدة
والشركة في الرعية والابرشية، تثقيف الذات دينياً والمشاركة في
اعلان الانجيل، واخيراً العمل على خدمة المحبة في الرعية واحلال
العدالة وشدّ روابط الاخوّة (العلمانيون المؤمنون بالمسيح،30)
(النص 9، عدد 32/3ً). انها خلايا فاعلة في حياة الرعية ورسالتها.
ويوصي بالتنسيق بين المنظمات الرسولية وسواها من القوى الحية في
الرعية، بانشاء المجلس الرعوي وما يتفرع عنه من لجان، وتفعيل دوره
وفقاً لنظامه الذي اقرّه الشرع الخاص بالكنيسة المارونية ( النص 9،
عدد32/6ً).
صلاة
يا
يسوع الراعي الصالح، بارك كل العاملين في خدمة الكلمة لكي يصلوا
بجميع الناس الى اكتشاف المعنى الاصيل للحياة المسيحية، ولكي، اذا
اصغوا الى صوتك، يتبعوك بفرح وسخاء.
بارك رعايانا وحوّلها الى جماعات حيّة تنعشها الصلاة والحياة
الليتورجية، ويجددها السماع الواعي لكلمتك، وتحييها المحبة السخية
لك وللاخوة.
يا مريم، سلطانة الرسل، سلي الرب يسوع ان يفيض روحه القدوس على
المؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساءً، ليضطلعوا تماماً بدعوتهم
ورسالتهم، ويسهموا في بناء حضارة الحقيقة والمحبة على الارض، حسب
رغبة الرب ولمجده. آمين.
( صلاة البابا يوحنا بولس الثاني).
الاحد الرابع بعد الدنح
انجيل
القديس يوحنا 4/5-25
الحوار وملاقاة الحقيقة
اجرى يسوع هذا الحوار مع المرأة السامرية على مقربة من بئر ماء
معروف ببئر يعقوب في مدينة سوكار على سفح جبل جرزيم حيث كان
للسامريين هيكل يكتبون على حجارته كلمات الشريعة كتابة واضحة،
ومذبح يقدمون عليه ذبائح ومحرقات للرب، ويأكلونها هناك ويفرحون
امام الرب الههم، وقد سماه موسى " جبل البركة" (تثنية
الاشتراع27/4-12). تحدث معها عن اعمق اسرار الله: عن ماء
الحياة الابدية، وعن الله الذي هو روح ويملأ الناس من
حياته الالهية، وعن العبادة الحقيقية المتوجبة للاب بالروح
والحق. واعلن لها اخيراً انه هو المسيح المنتظر
(يو4/25-26). وكانت نتيجة هذا الحوار ان السامرية، بالرغم من انها
"خاطئة"، اصبحت " تلميذة " للمسيح ورسولة. فمن بعد ان عرفته، بشرّت
به اهل السامرية، فاستقبلوه بايمان (يو4/39-42).
اولاً،
الحوار الرائع في نص الانجيل
1.
اطار الحوار وابعاده
يصل يسوع الى بئر يعقوب وقد اعياه التعب الحسّي من الطريق (يو4/6)،
والتعب النفسي من الفريسيين الذين كانوا يترصدونه، فترك منطقتهم
اليهودية قاصداً الجليل (يو4/1-3). وكان لا بدّ من ان يمرّ
بالسامرة، فتوقف في سوكار حيث بئر يعقوب.
علّق القديس اغسطينوس على تعب يسوع وضعفه، قال: " خلقنا المسيح
بقوته، واتى يبحث عنا ليخلقنا من جديد بضعفه" ( شرح انجيل يوحنا،
العظة 15، المقدمة). واضاف: " في الاسرار العظيمة التي عرضها
للمرأة تجد كل نفس جائعة ما تغتذي به، وكل نفس تعبة ما يجدد قواها"
(المرجع نفسه، عدد1).
لم يكن بئر يعقوب مجرد بئر لتجميع المياه، بل كان فيه ينبوع جارٍ.
على حافته جلس يسوع، والتعب قد اعباه، منتظراً من يأتي ليحييه هو
من تعبه، " فالذي اوجده من العدم بقوته، يحميه من الهلاك بضعفه"
(القديس اغسطينوس، المرجع نفسه، عدد6). وصلت المرأة السامرية
لتستقي ماء. وكان اليهود يعتبرون السامريين غرباء. جاء يسوع يكسر
بواسطة المرأة هذه المسافة وهذا " البعد"، فآمنت هي به وآمن كثيرون
(يو4/41). انها معهم صورة الكنيسة الناشئة من الامم، من " البعيدين
والغرباء". ان الحوار هو قوة الكنيسة التي تجتذب الشعوب.
جلس يسوع على حافة البئر عطشاناً، ليروي عطش الآتين اليه من
الايمان به، فكانت المرأة تلك العطشى بامتياز الى "روح القدس الذي
سيرويها.
2.
وقائع الحوار وتدرجه
بادر يسوع المرأة، طالباً ان تعطيه ماء ليشرب. المبادرة الاولى هي
دائماً من الله، الذي يضع نفسه على طريقنا. واجهته بالرفض: " كيف
تطلب مني انا السامرية ماء لتشرب، وانت يهودي". اما هو، ولو بكلمات
غير مفهومة منها، وبشكل محتجب ارشدها، الى عطية الله التي
هي الماء الحي، رمز الروح القدس، والى شخصية الطالب منها
الذي هو المسيح (يو4/10-11)، كما سيكشف لها (يو4/26). لقد فهمته
مادياً، اذ كيف يستطيع ان يعدها بما كان يطلبه منها: " فالبئر
عميق، وليس له دلوٌ".
عاد من جديد يحدثها عن الماء الروحي: " من يشرب من ماء بئر يعقوب
يعطش، ومن يشرب من الماء الذي اعطيه انا لن يعطش الى الابد، بل
يصير عنده معين ماء يجري للحياة الابدية" ( يو4/14). ولكنها لم
تفهم إلا مادياً، فقالت له بشيء من السخرية: " اعطني من هذا الماء،
حتى لا اعطش بعد، واجيء الى هنا وادلي بدلوي".
هنا دخل يسوع الى عمق نفسها وسرّ خطيئتها ليرويها بماء الروح
القدس، فأمرها: " اذهبي وادعي زوجك وعودي الى هنا" ( يو4/16).
فاعطت جواباً، تصفه كذب والنصف الآخر حقيقة: " ليس لي زوج". فكشف
لها الحقيقة كلها: " كان لك خمسة ازواج، والزوج الذي هو لك الآن،
ليس زوجك، بهذا صدقت".
ما اكبر عطش هذه المرأة الى ماء الروح القدس، الماء الحي! ما
أحوجها الى الحقيقة التي تخرجها من أسر كذبها، وتحررها من قيود
خطيئتها! بالسؤال والجواب، اوقفها يسوع امام حقيقة نفسها الداخلية،
وحسّسها بالعطش الحقيقي الذي لا يمكن لبئر يعقوب ان ترويه. لا شيء
يوقف الانسان عن الازدواجية سوى حقيقة نفسه المكشوفة امامه، فيما
كان يخبئها باكاذيب واهية. ولا شيء يحمل الانسان الى الجديّة وقرار
التغيير سوى وقوفه بوضوح لا يقبل الشك امام واقعه المنحرف. فالمتهم
بجرم لا يعترف به إلا عندما يضعه القاضي امام الحقيقة الواضحة،
فيقرّ بها ويمثّل الجريمة. شاوول- بولس، مضطهد الكنيسة، قرر
التغيير عندما اسقطه الرب عن جواده، وهو في طريقه الى دمشق للامعان
في الاضطهاد، واعمى عينيه في وضح النهار، وكاشفه بانه يضطهد يسوع
الناصري نفسه. امام الواقع والحقيقة قال: " ماذا تريد ان افعل؟" (اعمال
9/3-6). هو سلطان يسوع، سلطان الحق على الضمير البشري، يوقظه
ويحرّكه.
الآن تقف المرأة السامرية امام الحقيقة وتعلنها بالقول: " يا سيدي،
انا ارى انك نبي" (يو4/19). وهكذا ارتفعت الى مستوى الروح، فسألته
عن قضية العبادة لله: أهي على جبل السامرة كما يعتقد السامريون، ام
في اورشليم حسب زعم اليهود؟ فاجابها يسوع: " آمني، يا امرأة، بما
اقول لك: اتت الساعة لان تسجدوا لله لا في هذا الجبل ولا في
اروشليم، بل بالروح والحق تسجدون". فارتفعت بفهمها اكثر فأكثر، حتى
بلغت الى مستوى حقيقة المسيح، وقالت: " المسيح عندما يأتي يعلمنا
كل شيء". لقد وصلت، من حيث لا تدري، الى " الماء الحي" الذي
يعطيه المسيح، راجية التماسه عندما يأتي. اما يسوع، فمن بعد ان كشف
لها حقيقتها الشخصية، كشف لها عن حقيقة ذاته قائلاً: " انا هو
المسيح، انا الذي يتكلم معك" (يو4/21).
ارتوت المرأة من " الماء الحي" الذي حدّثها عنه في البداية،
فاستغنت عن ماء البئر. تركت جرّتها واسرعت الى المدينة تخبرهم انها
وجدت المسيح ( انظر يوحنا 4/27-30)، وكأنها تدعوهم للارتواء من
معينه بلسان آشعيا: " ايها العطاش جميعاً، هلموا استقوا المياه من
ينابيع الخلاص مبتهجين، فان القدوس في وسطكم" (اشعيا12/3و6؛55/1).
"الماء الحي"
الذي اروى السامرية اصبح فيها، على ما تنبأ يسوع، " معين ماء يجري
للحياة الابدية" (يو4/14)، اي ملأها من الروح القدس، الذي سوف
يقبله المؤمنون به ( يو 7/38-39). فصارت رسولة المسيح الشاهدة له.
ولكلام شهادتها، خرج الناس من المدينة، واتوا الى يسوع. وآمن به
كثير من السامريين (يو4/30 و39).
الدعوة اياها سيوجهها يسوع نفسه: " من هو عطشان، فليأتِ اليَّ
ويشرب، من يؤمن بي، كما قالت الكتب، تجري من جوفه انهار ماء
الحياة" ( يو7/37-38). وسيرددها بلسان يوحنا الرسول من على
عرشه في السماء: " ها انا جاعل كل شيء جديداً... انا الالف والياء،
الاول والآخر. انا اعطي العطشان من معين ماء الحياة مجاناً" ( رؤيا
21/5-7).
3.
يسوع نموذج كل حوار
يسوع المسيح، الكلمة الالهي، هو " نور الحق الذي ينير كل انسان
آتٍ الى العالم" (يو1/9). وهو كلمة حوار الله مع الانسان: " فمن
بعد ان كلم الله آباءنا منذ القديم بانواع شتى، كلمنا في هذه
الايام الاخيرة، بابنه الذي هو ضياء مجده، وصورة جوهره، وضابط الكل
بقوة كلمته (عبرانيين 1/1-3).
في شخصه تمّ حوار الالوهة والانسانية، باقنومه الالهي جمع بين كمال
الطبيعتين، على ما علّم مجمع خلقيدونيه (451)، فكان الهاً كامل
الالوهة وانساناً كامل الانسانية. وبات يسوع الصورة لكل انسان
مدعوٍ منذ مولده ليدخل في حوار عميق مع الله وجميع الناس (الكنيسة
في عالم اليوم،19)، وصورة الكنيسة المؤتمنة على الحوار مع العالم
بحكم رسالتها، وهي ان يستنير جميع الشعوب بنداء الانجيل، وان يجتمع
بروح واحد جميع الناس من كل امة وجنس وحضارة (المرجع نفسه،92).
حوار يسوع مع السامرية يبرز قيمة كل حوار، ويحدد مساره: من يريده
حقاً يباشر بالخطوة الاولى، كما بادر يسوع بالطلب من المرأة ليشرب.
ويقابل الرفض بطرح الموضوع الذي هو غاية الحوار البعيدة؛ في الحوار
مع السامرية كان الموضوع الماء الحي. ربما يلقى الاستهتار او
الازدراء من قبل المحاور الآخر او التقليل من قيمة ما يطرح، كما
فعلت السامرية. لا بد من الصبر والتواضع لتذهب الى اعمق، من خلال
الولوج الى شخصية الآخر، فتطرح عليه امراً يعنيه في الصميم: "
اذهبي وادعي زوجك". هي المرحلة التي تصل بالآخر الى قول الحقيقة
المجردة، والسير نحو الغاية المنشودة من خلال حوار وجداني، مثل
المرأة التي من بعد ان رأت في شخص يسوع نبياً ومسيحاً، ارتوت من "
ماء الحياة" آمنت، وتفجر في داخلها ينبوع ماء حملها على الشهادة
للمسيح وجلب الكثيرين من البعيدين اليه، فارتووا بدورهم، وشهدوا:
"نحن آمنا وعرفنا ان هذا هو المسيح حقاً، مخلص العالم" (يو4/42).
هذا الحوار، وهو من اجمل الحوارات في الانجيل، بلغ الى اعلان كرامة
المرأة ودعوتها، فيما التلاميذ " تعجبوا اذ رأوه يحادث امرأة"
(يو4/27)، لان هذا التصرف كان يتنافى مع العوائد المرعية لدى
معاصريه. لاقاها يسوع على بئر سوكار، وعلى علمه بأنها خاطئة،
فاتحها في امر خطيئتها مع الرجال الخمسة، وتحدث معها عن اعمق اسرار
الله وعن عطية الحب الالهي غير المتناهية، التي شبّهها " بينبوع
ماء يجري للحياة الابدية" (يو4/14)، وعن الله، الذي هو روح، وعن
العبادة الحقيقية المتوجبة للآب بالروح والحق (يو4/24). وأعلن لها
اخيراً انه هو المسيح الذي وعد الله به شعبه (يو4/26).
لا احد منا يدرك مسبقاً نتائج الحوار الصادق مع الآخر. فالمرأة
السامرية، بالرغم من انها خاطئة، اصبحت " تلميذة" المسيح. بل انها،
بعد ان عرفته، بشرّت به اهل السامرة، بحيث انهم، هم ايضاً استقبلوه
بايمان (يو4/39-42).
كل هذا الذي جرى بين يسوع والمرأة السامرية يبيّن عطية الله التي
بدأ يسوع باعلانها في بداية حواره: " لو كنت تعرفين عطية الله"
(يو14/10). هذه " العطية" هي تقدير الرب لكرامتها، وكرامة كل
امرأة، وللدعوة التي تؤهلها للمشاركة في رسالة المسيح (البابا
يوحنا بولس الثاني، كرامة المرأة، 31). و"العطية" هي سرّ فداء
الانسان الذي شمل، في هذه اللوحة الانجيلية، كرامة المرأة ودعوتها،
وقد نصّب المسيح نفسه امام معاصريه مدافعاً عنها (المرجع نفسه،12).
***
ثانيا، الخطة الراعوية
يبيّن الحوار بين يسوع والمرأة السامرية كم نحن بحاجة الى ان
نتحاور: الزوج مع زوجته، الوالدون مع اولادهم، الجيران مع سكان
الحي الواحد، السلطة مع شعبها، الثقافات والاديان مع بعضها، افراد
الجماعة الواحدة في المنظمة والمؤسسة والدير والرعية، وبين الاجيال
الكبيرة مع الصغيرة.
1) في هذا الاسبوع، نحن مدعوون لتعزيز الحوار الحقيقي
المرتكز على احترام متبادل لكرامة الاشخاص وحرية الضمير والعمل
معاً على حفظ الانصاف والعدالة وقيم الحرية والسلام، وعلى السعي
الى توبة القلب واحلال المحبة والاخوّة، وعلى التفاني في سبيل كل
عمل صالح ( رجاء جديد للبنان، 89).
2) يوصي المجمع البطريركي الماروني:
أ- الازواج وافراد العائلة
بالحوار المحب، القائم على الاحترام والتكامل، الذي هو الطريق
الملوكي لسعادتهم الزوجية والعائلية. فالزواج والاسرة يرتكزان على
عهد الحب والحياة، قطعه الازواج مع بعضهم ومع الله ومع الاجيال
المتحدرة منهم. يحدد النص المجمعي العاشر، بعنوان " العائلة
المسيحية"، عناصر هذا العهد: انه مبني على الرضى المتبادل بين
الزوجين والانفتاح لقبول هبة الحياة من الله في الاولاد، وعلى كلمة
الله والانجيل وبركة الثالوث القدوس، وعلى الامانة والحياة
المشتركة (الفقرات 45-58).
ب- ابناء الكنيسة في لبنان، بحكم تجربتهم التاريخية
والصيغة اللبنانية المرتكزة على التنوع في الوحدة، يوصيهم المجمع،
في النص 15: " تحديد عالم اليوم بالنسبة الى الكنيسة المارونية"،
بالتأقلم مع البيئة التي يعيشون فيها، معززين حوار الحضارات.
فالكنيسة هي كنيسة الحوار والعيش معاً بين مختلف الاديان والكنائس.
خاصة واننا نحن اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، ننتمي الى تراث واحد
ومصير واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد؛ مهما كانت الفوارق، وهذا امر
طبيعي، ومهما كانت الاختبارات متنوعة بين حلو ومرّ، يبقى ان ما
يجمع هو اكثر مما يفرق. ان الحوار يهدف الى تثبيت الحرية والعدالة
والديموقراطية واحترام الآخر، والى العيش المشترك في لبنان،
والمصير المشترك في العالم العربي، وحوار الحضارالت في الانتشار
(الفقرات 24-30).
3) تتشاور الجماعات: ابناء وبنات الرعية، افراد العائلة،
الجماعة الديرية، المنظمة الرسولية،اعضاء اللجان، في ضوء النص
الانجيليي كيف يجسّدون في حياتهم وعلاقاتهم طبيعة الكنيسة التي
اليها ينتمون، وهي " ان الانسان هو طريقها، كما كان طريق المسيح"
(البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته فادي الانسان)، وانها " خبيرة
في الانسانية" (البابا بولس السادس) و" خبيرة في الحوار" ( النص
المجمعي 15، فقرة 23 و25). لا بدّ من ابتكار مبادرات حوار تعزز
التلاقي وكرامة الانسان.
صلاة
يا يسوع المسيح، الكلمة التي تجسدت لتحاور كل انسان، لقد اظهرت لنا
سرّ الله وسرّ الانسان، ومعنى التاريخ. اهلنا، بمحبة الآب لنا
وبانوار روحك القدوس، لان نواصل الحوار بين السماء والارض، بين
بعضنا البعض. فيعم السلام العادل، ويسعد الناس بدفء المحبة، وينعم
الجميع بفرح التلاقي، ويتأنسن المجتمع، وتنكشف كرامة الاشخاص
والاوطان. لك المجد الى الابد. آمين.
تذكار الكهنة
انجيل القديس لوقا12/42-48
هوية الكاهن ورسالته
تبدأ مع هذا الاحد سلسلة من ثلاثة اسابيع مخصّصة تباعاً للتذكارات:
الكهنة، والابرار والصديقين، والموتى المؤمنين. ثم يبدأ زمن الصوم.
تذكار الكهنة اليوم يشمل التأمل في سرّ الكهنوت وشخصية الكاهن
ورسالته، والتماس الراحة الابدية للكنهة المتوفين، والصلاة من اجل
تقديس الكهنة الاحياء المنصرفين الى خدمتهم وثبات الدعوات
الكهنوتية، والطلب الى الله ان" يرسل فعلة لحصاده الكثير"
(متى9/38).
اولاً، الكهنوت خدمة رسولية للخلاص
1.
سرّ الكهنوت
الكهنوت هو "سرّ الدرجة المقدسة"، واحد الاسرار السبعة في الكنيسة،
بالاضافة الى المعمودية والتثبيت والافخارستيا والتوبة ومسحة
المرضى والزواج. الاسرار هي علامات تدلّ على النعمة الالهية
وتحققها في قابليها، وقد اسسها السيد المسيح وسلمها الى الكنيسة
لكي توزع بواسطتها على المؤمنين الحياة الالهية. ولكل سرّ من
الاسرار نعمته الخاصة يمنحنا اياها الروح القدس ليشفينا من خطيئتنا
ويقدسنا، وليشركنا في عمله ويؤهلنا لنعاون في خلاص الآخرين ونمو
جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة (التعليم المسيحي للكنيسة
الكاثوليكية 1131و2003). يشمل "سرّ الدرجة المقدسة" ثلاث رتب:
الاسقفية، الكهنوت ، الشماسية.
اسس الرب يسوع سرّ الكهنوت في عشائه الاخير مع سرّ
الافخارستيا. وسلّم كهنة العهد الجديد متابعة رسالة الخلاص باسمه
وبشخصه. قائلاً لهم: " اذهبوا وتلمذوا كل الامم وعمّدوهم باسم الآب
والابن والروح القدس، وعلّموهم كل ما اوصيتكم به. وها انا معكم
طوال الايام الى انقضاء العالم " (متى28/19-20). الكهنوت هو سرّ
الخدمة الرسولية، الذي يجعل قابلي الكهنوت مكرَّسين ليكونوا
رعاة الكنيسة باسم المسيح، لخدمة الكلمة والنعمة والمحبة، ويهدف
الى خلاص المؤمنين، ويساهم في خلاص خادم الكهنوت من خلال
خدمته.
2.
الكاهن وكيل المسيح
" من تراه الوكيل الامين الحكيم " (لو12/42).
الكاهن وكيل اقامه سيده، يسوع المسيح الكاهن الازلي،
ليعطي طعام الكلمة والنعمة والمحبة في حينه، بشكل دائم ودؤوب، الى
بني بيته اي جميع الناس الذين افتداهم واقتناهم بدمه، فاصبحوا
خاصته. بالتوكيل يعطيه سلطاناً ورسالة، توجيهاً وغاية، لكي يعمل
بشخص المسيح الكاهن الوحيد، ووسيط الخلاص بين الله والناس. فمن
خلال خدمة الكاهن، المسيح نفسه حاضر في الكنيسة، كرأس لجسده، وراعٍ
لقطيعه، وكاهن لذبيحة الفداء، ومعلم للحقيقة. وبالتوكيل، الذي يجري
بالرسامة الكهنوتية، يصبح الكاهن بالنعمة الالهية، في كيانه
الداخلي، كاهناً على صورة المسيح ومثاله، وينال من الروح القدس
السلطان ليعمل بشخص المسيح نفسه الذي يمثله وبقدرته. ولهذا عندما
يقول "انا"، اثناء منح الاسرار، هو المسيح نفسه الكاهن الوحيد الذي
يتكلم ويمنح نعمة السرّ. وبهذا المعنى نقول ان
الكاهن
–
الوكيل
يتكلم باسم المسيح ويعمل بشخصه. هذه الحقيقة عبّر
عنها الرب يسوع بكلمات واضحة: "من يسمع منكم يسمع مني. ومن
يرفضكم يرفضني. ومن يرفضني يرفض الذي ارسلني" (لو10/16). "كل ما
تربطونه على الارض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلونه على
الارض يكون محلولاً في السماء "(متى18/18).
ولان الكاهن وكيل، فلا يعطي نفسه السلطان والرسالة
، التوجيه والغاية. بل اعطاه اياها المسيح نفسه موكّله. ولهذا
يطلب منه ان يكون اميناً لشخص المسيح ولرسالته التي أوكلت اليه
بالسلطة المقدسة الآتية من المسيح بواسطة الكنيسة في الرسامة
المقدسة، وقد كرسّته بنوع من الفرز والتولية لخير الكنيسة.
الفرز يتم بوضع يد الاسقف، علامة لاختيار الشخص ووضعه على حدة
وجعله خاصة المسيح والكنيسة. والتولية تتم بحلول الروح
القدس الذي يمنح النعمة والسلطان. بالنعمة، يصبح الاسقف او
الكاهن او الشماس على صورة السيد المسيح في كيانه الداخلي، ويتقدس
ويشفى من خطاياه وضعفه. وبالسلطان يعمل باسم المسيح وبشخصه،
وبالتالي باسم الكنيسة جمعاء التي هي جسد المسيح. ليس الكاهن
منتدباً او موكلاً من الجماعة، ولا هي انتخبته او عينته او فوّضته،
بل المسيح نفسه اختاره وانتدبه بواسطة الجماعة: " لستم انتم
اخترتموني بل انا اخترتكم واقمتكم لتأتوا بالثمار وتدوم ثماركم "
(يو15/16). ولهذا يطلب من الكاهن ان يكون حكيماً، يخاف الله
ويسعى الى مرضاته، لا ان يخاف الجماعة سعياً الى استرضائها
لمكاسب خاصة، فلا يحق له ان يساوم على ما هو موكلَّ عليه.
3.
الكاهن خادم المسيح
" طوبى لذلك الخادم الذي يأتي سيده فيجده فاعلاً هكذا " (لو12/43).
الكاهن خادم المسيح لدى الجماعة، بحكم ارتباطه
الاسراري وتعلّقه الكلي بالمسيح الذي يعطي السلطة والرسالة.بهذا
المعنى هو خادم المسيح لا الجماعة. خدمته تقتضي منه ان يبحث دوماً
عن ارادة من اولاه الخدمة، كما كل خادم بالنسبة الى سيده، وان يتمم
مشيئته بامانة واخلاص: " فالخادم الذي علم مشيئة سيده وما عمل بها
يضرب ضرباً كثيراً " (لو12/47). انها الطاعة الكهنوتية
للمسيح الذي يأمر، بالهامات الروح القدس، ونداءات المجتمع، وبصوت
السلطة في الكنيسة. اعطانا يسوع المثال باتخاذه طوعاً لاجلنا
"صورة عبد للآب الذي اطاع حتى موت الصليب" (فيليبي2/7). وبولس
الرسول سمّى نفسه "عبد المسيح يسوع الذي دُعي ليكون رسولاً واُفرز
ليعلن بشارة الله" (روم1/1).
الكاهن هوخادم المسيح لدى الجماعة، يقدّم
لها طعام الكلمة والنعمة والمحبة التي هو خادمها، والتي ليست منه
وله، بل من المسيح الذي ائتمنه عليها لاجل الآخرين. وبذلك يكون
الكاهن طوعاً "عبد الجميع"،على مثال بولس الرسول: "ومع اني حرّ من
جهة الناس جميعاً، فقد جعلت من نفسي عبداً لجميع الناس كي اربح
الكثيرين" (1كور9/19).
الكاهن الخادم يرضي المسيح سيده ، ويخلص نفسه من خلال
تأدية خدمته: " طوبى لذلك الخادم الذي اذا جاء سيده وجده منصرفاً
الى عمله هذا. الحق اقول لكم انه يقيمه على جميع امواله "
(لو12/43-44).
4.
ماذا يطلب الناس من الكاهن ، وماذا يعطيهم؟
" اقامه سيده على بني بيته ليعطيهم الطعام في حينه "(لو12/42).
يقيم الرب يسوع على الناس " الذين اقتناهم بدمه " وكيلاً
للخيرات السماوية هو الكاهن. يسميه بولس الرسول "وكيل اسرار الله
" (1كور4/1)، يتسلم من المسيح الخيور الخلاصية ، وعليه ان
يوزعها طعاماً على الاشخاص الذين ارسله اليهم، ويوزعها بامانة، اذ
"جلّ ما يُطلب من الوكيل ان يكون اميناً"(1كور4/2). "اسرار الله"
او "الخيور الخلاصية"هي الخيرات اللامرئية واللامحدودة التي تتعلق
بالنظام الروحي والفائق الطبيعة. " فكل ما هو ذات منفعة اقتصادية
واجتماعية وسياسية لا يُطلب من الكاهن بل من آخرين كثر. ان في
الانسان المعاصر تطلعاً واحداً وكبيراً الى الكاهن هو انه عطشان
الى الله. انه يطلب المسيح من الكاهن" (البابا يوحنا بولس الثاني :
عطية وسرّ ،ص92).
الطعام الذي عليه ان يقدمه مثلث :الكلمة والنعمة
والمحبة.
1) طعام الكلمة، بالكرازة والتعليم، بالوعظ والارشاد، بحيث
يتأصل المؤمنون في المسيح من خلال كلمة الله، وينموا في الايمان
والرجاء والمحبة، فيؤدوا شهادة الحياة في المجتمع البشري، مسلكاً
وموقفاً وحضارة حياة. على الكاهن ان يتعاون مع مكرسين من رهبان
وراهبات ومع مؤمنين علمانيين مؤهلين بمثل حياتهم وبثقافتهم
الدينية. الغاية من خدمة الكلمة ان يولد الايمان في النفوس ويلتقي
المؤمن يسوع المسيح . الكاهن هو اولاً وفي الاساس رجل كلمة الله
والمبشر السخي الذي لا يتعب، شرط ان يكون شاهداً للكلمة قبل ان
يكون مبشراً بها (المرجع نفسه ص97).
2) طعام النعمة، يوزعها من خلال اسرار
الكنيسة، فتقدس المؤمنين وتغذي نفوسهم، وبخاصة نعمة
الافخارستيا ونعمة المصالحة. وبذلك يكون الكاهن وكيلاً لاكبر
خير هو: غفران الخطايا في سر التوبة والمصالحة، والحياة الالهية في
سرّ الافخارستيا. وكونه وكيلاً لهذه الخيرات ، يبقى الكاهن دوماً
وبنوع خاص على اتصال مع قداسة الله التي يرددها: " قدوس
قدوس قدوس الرب اله الكون. السماء والارض مملؤتان من مجدك، هوشعنا
في الاعالي"؛ ويحيا كل يوم مجيء هذه القداسة من الله
الى الانسان. لذلك على الكاهن ان يصبح هو بالذات قديساً ورجل صلاة:
فالصلاة تولد من قداسة الله وهي جواب على هذه القداسة. الصلاة تجعل
الكاهن شاهداً لقداسة الله قبل ان يكون معلماً لها. الاحتفال
بالقداس هو اسمى واقدس عمل يقوم به الكاهن. وخدمة منبر الاعتراف
تجعله الشاهد والوسيلة للرحمة الالهية، وتحقق ابوته الروحية اكمل
تحقيق. في كرسي الاعتراف تقدس خوري آرس والاب بيّو.
3) طعام المحبة، برعاية النفوس، رعاية " الراعي
الصالح"، يسوع المسيح ( يو10/1-6)، الذي على مثاله صوّرت النعمة
الكاهن في جوهر كيانه. انها رعاية تسلمها من الرب، مثل سمعان بطرس:
"أتحبني ، ارع خرافي " (يو21/15-17). هذه الرعاية، النابعة من
قداسة الكاهن ومحبته، تدفعه الى معرفة ابناء رعيته من اجل خدمتهم
في حاجاتهم المتنوعه وهي: تنمية الايمان وتعزيز الحياة المسيحية
لدى الجميع، مصالحة المتخاصمين، الاعتناء بالفقراء والمهمشين،
مؤاساة الحزانى، زيارة المرضى، مرافقة المنازعين، الاهتمام
بالاطفال والشبيبة اهتماماً خاصاً. الكاهن هو صاحب " قلب من لحم"
(حزقيال11/19)، في مجتمع اضحت فيه القلوب من حجر". بمقدار ما يحب
الله بمقدار ذلك يحب جميع الناس، لان محبة الله لكل انسان تمر عبر
قلب الكاهن.
مسؤولية الكاهن كبيرة، وقد نبهه اليها السيد المسيح
في انجيل اليوم (لو 12/45). ذلك انه " استودع كثيراً فيطلب منه
اكثر". ولهذا يحتاج الى صلاة المؤمنين وتشجيعهم ودعمهم، من اجل
خيرهم وخيره.
**
ثانياً، الخطة الراعوية
وكلّ الرب يسوع "رعاية خراف الله" (يو21/15-17) الى الرسل
وخلفائهم الاساقفة ومعاونيهم الكهنة. هؤلاء مدعوون لأن يكونوا في
وسط الجماعة امتداداً لحضور المسيح، الراعي الاوحد والاعظم، نبياً
يعلن كلمة الحياة، وكاهناً يفتدي البشر بسرّ موته وقيامته، وملكاً
يبني الجماعة الجديدة على اسس المحبة والاخوة والمصالحة. ينتظر
منهم، اساقفة وكهنة، ان يتشبهوا بنمط حياته، ويعكسوا صورته شفافة
وسط القطيع الموكول اليهم ( اعطيكم رعاة،15).
1)
تشمل الخطة الراعوية في هذا الاسبوع ما يوصي به المجمع البطريركي
الماروني في النص 7 عن الكهنة:
أ- تنظيم حلقات صلاة
في كنيسة الرعية من اجل الكهنة، احياء ومتوفين، ومن اجل الدعوات
الكهنوتية في الابرشيات والرهبانيات. تقترن حلقات الصلاة باحاديث
وتأملات عن سرّ الكهنوت في جوهره اللاهوتي ورسالته في الكنيسة، وعن
مفهوم الدعوة الالهية الى الكهنوت واكتشافها ومرافقتها، ومساعدة
الشبيبة على الاصغاء لله الذي يدعو. ليست الدعوة اختياراً شخصياً
من الناس، بل هو الله يختار من يشأ: " لستم انتم اخترتموني بل انا
اخترتكم واقمتكم لتأتوا بالثمار وتدوم ثماركم"( يو15/16).
ب- عقد خلوة روحية ينظمها كهنة المناطق في
الابرشيات لتعميق اتحادهم بالمسيح، والتفكير معاً في السبل التي
تساعدهم على هذا التعمق. يوصي المجمع البطريركي ببعضها مثل:
المثابرة على قراءة الكتب المقدسة بجو من التأمل والصلاة؛ المحافظة
على اوقات الصلاة، وبخاصة الفرض الالهي ووردية العذراء، افرادياً
ومع الجماعة الرعوية؛ الاسترشاد وفحص الضمير؛ القيام الامين
بالخدمة الكهنوتية والراعوية.
ج- بما ان كهنوت الخدمة بالدرجة المقدسة هو في خدمة
الكهنوت العام بالمعمودية، يوصي المجمع البطريركي كل كاهن،
بوصفه علامة لحضور المسيح، ان يعكس صورة المسيح الكاهن، الخادم
والراعي، وسط الجماعة الموكولة اليه، ويضع ذاته في علاقة ايجابية
بالمؤمنين العلمانيين وبالرهبان والراهبات والمكرسين والمكرسات في
العالم؛ وبوصفه رأس الجماعة باسم المسيح، يجتهد في تعزيز دور
العلمانيين والمكرسين والمكرسات في حياة الرعية ورسالتها حسب
مواهبهم، وتنشيط الحركات والمنظمات الرسولية والرابطات المسيحية في
عيش هويتها وتأدية رسالتها وانعاش حياتها المسيحية. من اجل هذه
الغاية، يتشاور الكهنة مع الجماعات الرهبانية والمنظمات الرسولية،
حول ما يجب اتخاذه من مبادرات، بعد القاء نظرة وجدانية على الواقع،
وابراز الحاجات الروحية والراعوية المطروحة.
2) كون العائلة المسيحية " كنيسة بيتية"، فأن لها
دعوة ورسالة تعيشها في محيطها اينما حلّت. يوصي المجمع البطريركي
الماروني، في النص 10 وعنوانه " العائلة المارونية"، بأن تستلهم
الاسرة دوماً تعليم الكنيسة حول المفاهيم الاساسية للزواج المسيحي
وراعوية العائلة. لنا عن هذا التعليم افضل مختصر في الرسالة
الراعوية الثامنة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، وعنوانها "
العائلة مسؤولية الدولة والكنيسة" (15 آب 2005).
يوصي المجمع البطريركي الماروني، في النص 10 (
الفقرات 63-66)، بأن تتحمل العائلة المسيحية مسؤوليتها في الكنيسة
والمجتمع، " كجماعة ايمان ورجاء ومحبة" ( في وظائف العائلة
المسيحية، 51):
أ- تشارك في زرع بذور الايمان
في الحياة الزوجية والعائلية، المهددة بالجهل الديني وفقدان القيم
الروحية. تتشاور الاسرة حول قيمة الايمان، الذي هو هبة من الله، في
حياتها، وحول كيفية احياء الصلاة في العائلة والتأمل في الانجيل،
وهما وسيلتان لاحياء الايمان وتثقيفه.
ب- تساهم في تعزيز الرجاء في افراد العائلة،
الازواج والاولاد، من اجل الخروج من حالة اليأس والضياع او
اللامبالاة. تتأمل الاسرة في كيف ان الله حاضر فيها، وكيف يحملها
بين يديه، ويشملها بعنايته. وتبرز دورها الاجتماعي الذي يعزز
الرجاء في النفوس.
ج- تشهد لمحبة المسيح عملاً بوصيته (يو13/35).
مدعوة العائلة لتدرك ان الحب الالهي يحييها. فهو مسكوب في قلب
الزوجين ومنقول الى الاولاد ومعاش في ممارسة الابوة والامومة
المسؤولتين، ما يمكّنها من تجاوز مخاطر التفكك، بسبب انحراف الحب
والانزلاق في الانانية. يفكر افراد العائلة معاً في كيف ان الاسرة
هي مدرسة الحب النقي الصادق، الذي هو اساس كل الفضائل والصفات
الانسانية والخلقية، ومن شأنه ان يؤنسن المجتمع، الآخذ في فقدان
انسانيته.
صلاة
لقد رسمت ايها القلب الالهي، الكهنوت المسيحي في ليلة
العشاء السرّي، شهادة لعذوبة محبتك التي لا تُحدّ. تعطف ايها القلب
الالهي، وهب كنيستك كهنة على مثالك يحبون الانفس والفقراء والصليب.
كهنة يسيرون على خطاك، فيحلّ السلام أينما يحلّون، ويفيض الخير
حيثما يوجدون. حصنّ كنيستك وجمّلها بكهنة صالحين، وأفض عطاياك
بواسطتهم على المؤمنين. يا مريم يا أم الكهنة، صلّي لأجل أبنائك
الكهنة أجمعين. آمين.
احد الابرار والصديقين
انجيل القديس متى25/31-46
المشاركة في كهنوت المسيح بالمحبة والرحمة
تذكرالكنيسة اليوم وطيلة الاسبوع بالتسبيح والتكريم
اصفياء الله، الابرار والصديقين، الذين دخلوا الملكوت السماوي، بعد
ان تقدسوا بمحبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس، وهم يشكلون
حول الثالوث القدوس "كنيسة السماء". انهم مريم والدة الاله،
ويوسف البتول، الانبياء والرسل، الشهداء والمعترفون، القديسون
والمختارون. يسمّيهم الانجيل" بني اليمين" الذين يجلسهم فادي
العالم وديانه، يسوع المسيح، عن يمينه. تقول عنهم ليتورجيا الفرض
الالهي: "على قمم الروح عاشوا، ومنها الى الله طاروا ".
وتستشفعهم "كنيسة الارض المجاهدة" لكي
يضرعوا الى الله من اجل ابنائها وبناتها، ليحفظهم في السعي اليه
كما سعوا هم وفقاً لمقتضيات معموديتهم، فيما يوطّدون على الارض
ملكوت السماوات. وتستشفعهم من اجل " الكنيسة المتألمة" في
حالة المطهر، اي من اجل ابنائها وبناتها المخلَّصين الذين يتطهرون
" بالنار" من نتائج خطاياهم، قبل مشاهدة وجه الله ( التعليم
المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1030-1031).
وتتأمل في سيرتهم، لكي يكونوا مثالاً يحتذى به
وقدوة للمؤمنين، لكونهم معلمي الحياة الروحية، وشهود ايمان ورجاء
ومحبة.
اولاً،
تفسير الانجيل
1.الدينونة العامة
انه انجيل الدينونة الاخيرة: في حقيقتها ومضمونها وغايتها
واجرائها.
حقيقة الدينونة راهنة ولا لُبس فيها. وصفها
الانبياء بيوم الرب العظيم، اذ تقف بين يديه ربوات ربوات،
ويجلس اهل القضاء ويُفتح الكتاب الذي تُدون فيه جميع صالحات
الانسان وسيئاته ( دانيال7/10؛ ملاخي3/16). هو الرب يجمع كل الامم
وينزلهم الى وادي يوشفاط ويحاكمهم هناك (يوئيل3/2). لفظة يوشفاط
تعني "الله يدين"، واصبحت الاسم الرمزي " للمكان " الذي تتم فيه
الدينونة: " لتنهض الامم وتصعد الى وادي يوشفاط فاني هناك اجلس
لادين جميع الامم من كل ناحية " ( يوئيل3/12)، ويسميها يوئيل النبي
"وادي القرار" (3/14)، وحُدد مكانها بالقرب من اورشليم، وهي "وادي
قدرون" في الجنوب الشرقي للهيكل. يصف يوحنا الرسول الدينونة
في رؤياه: "ورأيت عرشاً عظيماً ابيض والجالس عليه...ورأيت الاموات
كباراً وصغاراً قائمين امام العرش. وفُتحت
كتب (دوّنت فيها اعمال البشر)، وفُتح كتاب آخر هو سفر الحياة (
السجل السماوي الذي تدون فيه اسماء المختارين). فحوكم الاموات
واحداً واحداً وفقاً لما دُوّن في الكتب، على قدر اعمالهم
(رؤيا20/11-13).
مضمون الدينونة يدور حول كيفية قبول النعمة
من الله والتفاعل معها بالتوبة والسلوك في الحياة الجديدة ( انظر
متى11/20-24حيث يسوع يعنّف بيت صيدا وكفرناحوم، وفي متى12/41-42:
الجيل الفاسد الذي لم يتب بانذار يونان)، ويدور بالتالي حول
موقف الانسان تجاه اخيه بالمحبة والرحمة، حيث ينكشف حسن
استقبال النعمة والمحبة الالهية او رفضها، كما يظهر في انجيل
اليوم.
غاية الدينونة الثواب او العقاب وفقاً لاعمال
كل انسان، خيراً كانت ام شراً، وقد جاء ابن الله ليخلص الانسان،
"فالله لم يرسل ابنه الى العالم ليدين العالم بل ليخلص العالم
"(يو3/17)، وليعطيه الحياة الالهية: " اتيت لتكون لهم الحياة وتفيض
فيهم " (يو10/10). فمن يقبل نعمة الله ويحيا بموجبها ينال
الخلاص الابدي، ومن يرفضها ويرفض روح المحبة الذي هو الروح
القدس (متى12/32)، ينال الهلاك الابدي الذي استحقته اعماله.
اما مُجري الدينونة فهو يسوع المسيح، ابن الانسان.
انه سيد الحياة الابدية، وله ان يحكم نهائياً على اعمال البشر
وقلوبهم، بكونه فادي العالم. ولقد اكتسب بصليبه هذا الحق، ففوّض
الآب اليه كل دينونة (يو5/22؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية
679).
انها الدينونة الاخيرة بالنسبة الى دينونتين
سابقتين: واحدة عند ساعة الموت لكل واحد منا، كما يؤكد مثل
لعازر والغني (لو16/19-31)، وخلاص لص اليمين (لو23/43)، وكلام بولس
الرسول: " لا بدّ لنا جميعاً من ان يُكشف امرنا امام محكمة المسيح
لينال كل واحد جزاء ما عمل وهو في الجسد، خيراً كان ام شراً "
(2كور5/10؛ التعليم المسيحي 1021-1022). وواحدة في سر التوبة
حيث يخضع الخاطىء لحكم الله الرحوم، ويستبق نوعاً ما الحكم
الذي سوف يخضع له في ختام حياته التاريخية. سرّ التوبة عطية عظمى
من محبة الله، لانه يمكّن الانسان، اذا ما ارتد الى المسيح بالتوبة
والايمان، من ان ينتقل من الموت الى الحياة ولا يخضع للدينونة
(يو5/24). فالتوبة هي الباب المفتوح امامنا لدخول ملكوت السماء
(التعليم المسيحي 1470).
2. الابرار والصديقون هم الذين عاشوا مقتضيات معموديتهم في المحبة
والرحمة
نعمة الله، التي يقبلها الابرار فيخلصوا، ويرفضها الاشرار فيهلكوا،
انما تعطى لنا في سرّ المعمودية وتتجلى في الحياة الجديدة التي
نحياها في الكهنوت العام، مشاركين في كهنوت المسيح.
الكهنوت العام هو كهنوت كل المعمدين، وقد اصبحوا،
كما يقول بطرس الرسول: "الجيل المختار، الكهنوت الملوكي، الامّة
المقدسة، الشعب المقتنى، ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة الى
نوره العجيب" (1بطرس2/9). اصبحوا كذلك بفضل مسحة الروح القدس التي
قبلوها في المعمودية. كانت المسحة تُعطى، في العهد القديم، للملك
والكاهن، اما في العهد الجديد فتُعطى لجميع المسيحيين على ما يقول
القديس اغسطينوس: " ان رأسنا المسيح لم يتقبل وحده المسحة، بل نحن
ايضاً تقبلناها معه، لاننا جسده
…واذا
كنا جسد المسيح، فهذا ناجم بوضوح عن كوننا قد تقبلنا المسحة،
واصبحنا في المسيح ممسوحين ومسحاء، لان الرأس والجسد يؤلفان، على
وجه ما، المسيح الكامل. وكما اننا ندعى جميعاً مسيحيين بسبب المسحة
السرية، كذلك ندعى جميعنا كهنة لاننا كلنا اعضاء في جسد الكاهن
الاوحد ( الارشاد الرسولي للبابا يوحنا بولس الثاني: العلمانيون
المؤمنون بالمسيح، عدد14). لقد تبسّط المجمع المسكوني الفاتيكاني
الثاني في مفهوم الكهنوت العام في الدستور العقائدي "في الكنيسة "
(عدد 34-36). انه الكهنوت العام بالنسبة الى كهنوت الدرجة المقدسة،
المعروف بكهنوت الخدمة. وكلاهما يشتركان، على نحو خاص في
كهنوت المسيح الواحد. ولئن كانت المشاركة في رسالة المسيح هي
مشاركة في الخدمة الكهنوتية والنبوية والملوكية، فانها تختلف في
كهنوت الخدمة عنها في الكهنوت العام، لان الاول، بما له من سلطان
مقدس، ينشىء الثاني الذي وهو الشعب الكهنوتي، ويقوده ويوجهه الى
عيش كهنوته العام.
الابرار والصديقون هم الذين تقدسوا من خلال ممارسة
رسالة كهنوتهم ،سواء في كهنوت الخدمة بالنسبة الى الذين
مُنحوا سرّ الدرجة المقدسة في الاسقفية والكهنوت والشماسية، ام
في الكهنوت العام بالنسبة الى الذين عاشوا مؤمنين علمانيين او
اعتنقوا الحالة الرهبانية او تكرسوا لله في العالم على غرار
الرهبان والراهبات.
طريقنا الى الله والخلاص الابدي يمر عبرّ الكهنوت العام في ابعاده
الثلاثة: العبادة الروحية (الخدمة الكهنوتية )، قبول انجيل
الخلاص ونشره (الخدمة النبوية)، والانتصار على الشر في خدمة
الاخوة بالمحبة والعدالة (الخدمة الملوكية). ولقد تلألأء
الابرار في هذه الخدم، فبلغوا الى حيث رأس جسدهم، لانه حيث يكون
الرأس هناك يصل الاعضاء.
أ- قوام الخدمة الكهنوتية ان يتحد المعمَّدون،
بصفتهم اعضاء في جسد المسيح، في ذبيحة الفادي التي قدمّها على
الصليب، ويواصل تقدمة ذاته في سرّ الافخارستيا. انهم يتحدون بذبيحة
المسيح من خلال تقدمة ذواتهم واعمالهم للرب، كما يناشدهم بولس
الرسول: " اناشدكم بمراحم الله ان تقيموا من اجسادكم ذبيحة حية،
مقدسة، ومقبولة لدى الله بعبادة روحية"(رومية12/1). ان كل اعمالهم
وصلواتهم ونشاطاتهم الرسولية وحياتهم الزوجية والعائلية واشغالهم
اليومية ومشقاتهم، انما يضمونها قرابين روحية الى تقدمة جسد الرب
في الافخارستيا، لتّرفع الى الآب بكل تقوى (العلمانيون المؤمنون
بالمسيح،14). تدخل في اطار الخدمة الكهنوتية، وفقاً لانجيل
الدينونة، مساعدة الاخوة الصغار مثل: زيارة المريض وافتقاد
المسجون.
ب-
يشارك في الخدمة النبوية كل من ينفتح على انجيل ملكوت الله،
الذي اعلنه الرب يسوع، بشخصه وكلامه واعماله، وكل من يقبل كلام
الله بايمان، ويعلنه بالكلمة وشهادة الاعمال، ويندد بالشر، ويجسّد
جدة الانجيل وفعاليته في حياته اليومية، العائلية والاجتماعية،
ويصمد ثابتاً في الرجاء وسط مشقات الزمن الحاضر (المرجع نفسه).
انها حضارة الانجيل المعلنة في كلام الرب اليوم، وهي حضارة تتحقق
اولاً في قلب الانسان وفي نوعية مسلكه الاجتماعي. بدافع منها ينطلق
المسيحيون الى خدمة الاخوة الصغار يقيناً منهم ان كلمة المسيح " كل
ما صنعتم لأحد اخوتي هؤلاء الصغار فلي قد صنعتموه"(متى25/40) ليست
مجرد امنية تقوية بل هي في حياتهم التزام بمساعدة الفقير ومواجهة
كل اشكال الفقر المادي والثقافي والديني والاقتصادي (البابا يوحنا
بولس الثاني: السنة المئة، 57). وهي في الانجيل اطعام الجائعين
الى خبز وعلم وتربية وفرصة عمل ووسائل لتحيق ذواتهم، وايواء
الغرباء الباحثين عن مسكن ودور وانخراط في مجتمعهم الجديد.
ج- اما المشاركة في الخدمة الملوكية، التي دشّن بها
السيد المسيح زمناً جديداً مرضياً للرب (لو4/19) ونشر ملكوت الله
على الارض، فتدعو المؤمنين الى الصراع الروحي لتدمير سلطان الخطيئة
فيهم، والى تكريس ذواتهم لخدمة المحبة والعدالة (العلمانيون
المؤمنون بالمسيح14)، مثل سقي العطشان الى ماء وعدالة
وحقوق؛ وكسوة العريان بلباس مادي وبثوب الكرامة والصيت
الحسن. فكلام الرب في انجيل اليوم يعلن الحقيقة في شأن خيرات
الارض التي وكلها الله الى البشر ليثمروها ويمتلكوها ويحسنوا
التصرف بها، ويشركوا المعوزين فيها؛ ويعلن الحقيقة في شأن
الفداء الذي انقذ جميع الناس وآتاهم ان يكونوا مسؤولين بعضهم
عن بعض، بحيث ان من نال من جودة الله وفرة من الخيرات الروحية
والمادية، فقد نالها بهدف استعمالها لكماله الشخصي، وفي الوقت نفسه
كخادم للعناية الالهية في التخفيف من عوز الآخرين (السنة المئة 51،
الشؤون الحديثة، 19).
***
ثانياً، الخطة الراعوية
انجيل الدينونة في تذكار الابرار والصديقين يؤكد ان طريق
الانسان الى الله يمرّ عبر اخيه الانسان. فالخلاص الشخصي يرتكز على
عيش المحبة والعدالة تجاه الاخوة في حاجاتهم المادية والثقافية
والروحية والمعنوية تحت عناوين الجوع والعطش والحرمان والغربة
والمرض والأسْر. انجيل اليوم دعوة من المسيح، الانسان الكامل،
للالتزام الشخصي في تأمين هذه الحاجات بعضنا لبعض، وتحرير الواحد
الآخر من كل ما يعوّق نموه الشامل، " لان مجد الله الانسان الحي"،
على ما يقول القديس ايريناوس (رجاء جديد للبنان،100).
2) يوصي المجمع البطريركي الماروني في النص 20 (الفقرات 22-24) ببناء
مجتمع قائم على مبادىء اساسية ثلاثة هي:
أ-
التضامن،
وهو " العزم الثابت والدائم على العمل من اجل خير كل انسان، وخير
الجميع، لاننا جميعنا مسؤولون حقاً عن الجميع" (الاهتمام بالشأن
الاجتماعي،38). يذكرّنا المجمع ان التضامن كان ممارساً عندنا في "العونة".
الجماعات، في الرعية والاسرة والمؤسسة والمنظمة، تفكّر معاً في رسم
خطة عملية لعيش التضامن وممارسة "العونة".
ب-
العدالة،
وهي فضيلة خلقية تؤمن لكل انسان حقوقه الاساسية ليعيش بكرامة على
المستوى المعيشي والثقافي والروحي والاجتماعي. المجمع البطريركي
يدعو الافراد والجماعات لتعزيز روح العدالة وممارستها تجاه الجميع
وبخاصة الفقراء والمحتاجين. انجيل اليوم يستحثنا على التفكير معاً
في وسيلة تعزيز هذه الروح، وفي مبادرات عملية تجسّد العدالة التي
تثمر السلام في رعايانا وعائلاتنا ومؤسساتنا ومجتمعنا. " فالسلام
ثمرة العدالة" ( اشعيا 32/37).
ج- ترقي الانسان والمجتمع
بالانماء الشامل الذي يمكّن الشخص البشري من الحصول على حقوقه
الاجتماعية الاساسية التي يعددها المجمع البطريركي الماروني، وهي
الوجه الحقوقي للجائع والعطشان والعريان والمريض والغريب والسجين.
هذه الحقوق هي: الحق في بناء عائلة، والحق في المسكن، والحق في
العمل، والحق في الصحة والطبابة، والحق في التعليم والثقافة
(النص20، الفقرات 28-37). الجماعات عندنا تحدد امكانياتها والوسائل
والمبادرات للعمل معاً على ترقي الانسان، حتى بترقيه يترقى
المجتمع.
**
صلاة
يا رب، لقد اردت ان يكون لكل الشعوب اصل واحد، وتريد ان تجمعهم في
عائلة واحدة، فاجعل البشر يعترفون انهم اخوة ويعملون في التضامن
لانماء كل الشعوب، حتى يتم الاعتراف بحقوق كل انسان، وتعرف الجماعة
البشرية زمناً ينعم بالمساواة والسلام. وليكن الابرار والصديقون
قدوة لنا في السير اليك عبر اخوتنا الصغار، وقد شئت ان تتماهى
معهم، لترفعهم الى مستوى كرامتهم كاعضاء في جسدك السرّي ومفتدين
بدمك الثمين. لك المجد الى الابد. آمين
( صلاة البابا يوحنا بولس
الثاني).
تذكار الموتى المؤمنين
انجيل القديس لوقا 16/19-31
قيمة الحياة والمحبة الاجتماعية
نختم اليوم اسابيع التذكارات الثلاثة ، فنذكر
موتانا الذي سبقونا الى بيت الآب: نصلي من اجل راحة نفوسهم
في مشاهدة وجه الله، رافعين الصلوات عنهم ومقدمين القداسات، متممين
اعمال رحمة ومحبة، وحاملين بصبر صليب الألم ومشقات الحياة.
ونسأل الله ان يخفف من آلامهم المطهرية وينقلهم الى سعادة
السماء، ونستشفعهم ليضرعوا الى الله من اجلنا لكي نبلغ الى
ميناء الخلاص في هذه الدنيا وفي الآخرة.
تتأمل الكنيسة في مثل الغني ولعازر لكي تقود
تفكيرنا الى فهم العلاقة بين الحياة والموت، ومعنى الغنى والفقر،
والدينونة الشخصية ومضمونها.
اولاً،
مضمون الانجيل
1.
العلاقة بين الحياة والموت
ولدنا لنموت.
كلمة صعبة تحطم المعنويات لاول وهلة. ولكن، في ضوء الكلمة الالهي،
ابن الله الذي " تجسد من اجلنا ومن اجل خلاصنا "، ينجلي لغز
الانسان في حياته وموته ( الكنيسة في عالم اليوم،10و22)، وتأخذ
الحياة والموت معنى، فيسهلان. الولادة من حشى الام هي بداية
وجود تاريخي وابدي. الموت هو نهاية الوجود التاريخي وبداية
الوجود الابدي: الوجود الاول يهيء الثاني، والوجود الثاني نتيجة
حتمية للاول. الوجود الاول طريق نسلكه، والثاني هدف نصل اليه.
يعلّم السيد المسيح هذه الحقيقة في مثل الغني ولعازر: الوجود
الاول (لو16/19-21) يصف حياة كل من الغني ولعازر ومسلكهما.
الوجود الثاني (لو16/26) يصف النتيجة ونقطة الوصول: خلاص لعازر
وسعادته الابدية، وهلاك الغني وعذابه الابدي. ولاننا ولدنا
لنموت، فالرب ينير حياتنا وموتنا بكلامه الحي، لنعرف كيف يجب
ان نحيا ونموت. (القسم الاخير من مثل الغني والفقير: لو16/27-31).
اضاءة الشموع في التذكار السنوي للمولد والمعمودية وعند الموت رمز
لكلام الله الذي هو نور الحياة والموت .
نولد ونموت من دون قرار منا. حتى الانتحار ليس
قراراً حراً بل هو قرار مكره تحت وطأة الضغط، فيفقد قيمة القرار
الحر. لكن كل واحد منا يقرر نوعية وجوده التاريخي، أكان في
ضوء كلام الله الذي هو " روح وحياة" (يو6/63)، ام في ظلمة الخطيئة
والشر. وبالتالي يقرر كل واحد منا نوعية وجوده
الابدي اخلاصاً كان أم هلاكاً. ولهذا السبب حبانا الله بثلاث
ملكات: العقل الذي يقودنا الى الحقيقة، والارادة
التي بها نحب الحقيقة ونفعل الخير، والحرية التي بها نصنع
خياراتنا اليومية في اطار الحقيقة والخير. وبما اننا سريعو العطب،
بسبب جرح الخطيئة الاصلية ونقصنا كخلائق، ينحرف العقل،
مخدوعاً، الى ظلمة الضلال، وتنجرف الارادة في خط الانانية
والشر، وتسكر الحرية في هوى خياراتها المدمِّرة. فاعطانا
الله كلامه ونعمته، غفرانه وجسده، لنشفى ونصحح وننهض ونتقوى: "
عندهم موسى والانبياء، فليسمعوا لهم" (لو16/29). هكذا اجاب ابراهيم
الغني عندما طلب منه ان يرسل لعازر الى اخوته لكي يتوبوا وينجوا من
مكان عذابه. ذلك ان لعازر نفسه كان لهم نداء للتوبة، من عند الرب،
فلم يتوبوا: ويبقى لهم النداء في شخص الجائعين والعطشى وسائر
المعوزين. "موسى والانبياء" هم اليوم الكنيسة التي
تعلن كلمة الحق والحياة بالكرازة والتعليم، وتوزع نعمة الخلاص
بالاسرار، وتدعو الى خدمة المحبة والعدالة.
نموت كما نعيش: " في جميع اعمالك اذكر أواخرك فلن
تخطأ ابداً " ( ابن سيراخ 7/36). اذا احسنت عيش الحياة تحسن الموت.
نعني بالحياة كل مداها التاريخي من مهدها الى لحدها، قصيرة كانت ام
طويلة، فلا تؤخذ مجتزأة لما تحتوي من مفاجآت في دروب التاريخ.
ولهذا قال الرب بلسان يشوع بن سيراخ: " لا تغبّط احداً قبل موته،
فان الرجل يُعرف عند موته "(سيراخ11/28).
2. الغني ولعازر
لم يهلك الغني لانه غني وذو ثروة، فالغنى نعمة من الله
وبركة، كما نقرأ في الكتاب المقدس ( مز 104/24؛ مز105/21؛ جامعة
5/18؛ 6/2). وبحبوحة الخير هي افضل ما يتمنى الناس بعضهم لبعض. لكن
مشكلة الغني هي انه وضع سعادته في غناه: فعاش في الطمع
برغبة التملك اللامحدود لخيرات الارض؛ وعاش في الجشع بالهوى
المفرط والمنفلت للثروة وقدرتها (التعليم المسيحي للكنيسة
الكاثوليكية 2536)؛ وعاش في الانانية ممسكاًً قلبه ويده عن
مساعدة لعازر الفقير. فرذله الله، لان الامتناع عن اشراك
الفقراء في خيراتنا الخاصة هو سرقة حقوقهم واستلاب حياتهم.
والخيرات التي نحوزها ليست لنا بل هي لهم ( القديس يوحنا فم
الذهب)؛ ولان مساعدة الفقراء واجب من باب العدالة: "لا بدّ اولاً
من تلبية مقتضيات العدل، خوفاً من ان نهب كعطية محبة ما هو واجب من
باب العدل " (المجمع الفاتيكاني الثاني: رسالة العلمانيين8).
الفقير الذي تجب مساعدته، والمحتاج الذي يجب اشراكه في ثروتنا وفي
ما نملك، ليس الفقير والمحتاج مادياً وحسب، بل وروحياً وثقافياً
ومعنويا ايضاًً. ان محبة الكنيسة للفقراء جزء من تقليدها المستمر،
وحب تفضيلي لهم. فما برحت منذ بدايتها تعمل على مساعدتهم والدفاع
عنهم وتحريرهم. وقد فعلت ذلك باعمال خيرية لا تحصى، معروفة باعمال
الرحمة والمحبة: اعمال رحمة جسدية تجلت في اطعام الجائع،
وايواء الشريد، وكسوة العريان، وعيادة المريض، وزيارة السجين،
والاحسان الى الفقراء، والاعتناء باليتيم والمعاق والعجوز؛
واعمال رحمة روحية ظهرت في التعليم والارشاد والتعزية وتقوية
العزائم والمغفرة والمصالحة.
ليست مشكلة الغني في ملكيته، فهي حق طبيعي للانسان
اقرّته الشرائع الالهية والبشرية (البابا لاون الثالث عشر: الشؤون
الحديثة، 6-8)، بل في عبادة ملكيته وثروته. فكان الغنى
الاله الاكبر عنده، اذ راح يبحث عن سعادته في غناه لا في الله.
نقرأ في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: " الغنى في يومنا هو
الاله الاكبر؛ و يؤدي له الناس اكراماً عفوياً. انهم يقيسون
السعادة بمقياس الغنى، وبمقياس الغنى ايضاً يقيسون الكرامة،
لاعتقادهم ان الانسان الحاصل على الثروة يقدر على كل شيء. الغنى
اذن صنم من اصنام اليوم (فقرة 1723). الملكية الخاصة ضرورية للحياة
البشرية، لكنها تفترض حسن التصرف بها، اذ لا يحق للانسان ان يعتبر
الاشياء التي يملكها خاصة به وحده، بل ينبغي ان يعتبرها مشتركة،
عملاً بوصية بولس الرسول: "
أوصِِ
اغنياء هذا العالم ألاّ يتّكلوا على الغنى الذي لا اتكال عليه، بل
على الله الحي الذي وهبنا بكثرة كل شيء لراحتنا، وان يصنعوا الخير
ويطلبوا الغنى بالاعمال الحسنة، فيعطوا ويشاركوا بسهولة"
(1طيم6/17-18).
لعازر الفقير لم ينل الخلاص لانه فقير، فالله كلي
الجودة لا يريدنا فقراء بمعنى العوز والحرمان، بل يريدنا فقراء
بالروح،غير متعلقين باموال هذه الدنيا حتى عبادتها، ومتجردين،
وكأننا "لا نملك شيئاً فيما نحن نملك كل شيء"(2كور6/10). نال
لعازر الخلاص لانه ارتضى حالة الفقر، وصبر على محنته،
وحمل صليبه دونما اعتراض، واتكل على عناية الله، وعاش في تواضع؛
ونال الخلاص لانه لم يشتهِ مال الغني، رافضاً اللجوء الى العنف
والسرقة والاحتيال والتعدي الظالم، عملاً بوصايا الله؛ ولانه كان
حراً من "شهوة العين"(1يو2/16) نقي القلب وصافي النية.
تعلّم الكنيسة ان الفقر ليس عاراً. فالسيد المسيح "
وهو الغني، جعل نفسه فقيراً "(2كور8/9) من اجل خلاص البشر؛ مع انه
ابن الله، بل الله ذاته. لقد شاء ان يظهر للناس كابن لنجار، ولم
يتورع عن قضاء قسم كبير من حياته في عمل مأجور: "أليس هذا النجار،
ابن مريم؟ "(مر4/3).الغنى الحقيقي الذي يحفظ كرامة الانسان الاصلية
وسموه هو في فضائله الروحية والانسانية (الشؤون الحديثة20). ان قلب
الله يميل اكثر الى الطبقات البائسة: فيسوع المسيح شاطر الفقراء
حياتهم من المهد الى الصليب، فعرف التهجير والجوع والعطش والعري؛
بل تماهى مع الفقراء بكل انواعهم، وجعل من حبهم الفاعل شرطاً لدخول
الملكوت(متى25/31-46)؛ وطوّبهم لان ملكوت الله لهم (متى5/3)؛ واعلن
انه جاء يحمل اليهم بشرى الخلاص (لو4/18)؛ ودعاهم ليأتوا اليه حتى
يوآسيهم ويخفف من اعبائهم (متى11/28).
3. الدينونة الشخصية
نُدان على مدى ردم الهوة القائمة بين الغنى الشخصي وحاجة
الآخر، على مختلف المستويات: مادياً وروحياً وثقافياً واجتماعياً.
قوام ردم الهوة ان تنزل نفس الغني المتشامخة من عليائها وتتضع، وان
يعتصم الفقير بكرامته ودعته وخلقيته ويتشجع، فتمتد الايدي من
الجانبين وتتحد الارادات في الصداقة الانسانية (البابا
لاوون الثالث عشر)، والمحبة الاجتماعية (البابا بيوس الحادي
عشر)، وحضارة المحبة (البابا بولس السادس)، والتضامن
والانماء (البابا يوحنا بولس الثاني).
نردم الهوة عندما نعمل بمبدأ ان كل خيرات الطبيعة
وكل كنوز النعمة هي ملك مشترك لكل الجنس البشري من دون
تمييز(الشؤون الحديثة21). وهذا واجب على الافراد والمؤسسات، على
الحكام والدول. المطلوب بناء عالم يستطيع فيه كل انسان ان
يعيش حياة بشرية كريمة بكل معناها الروحي والمادي، الثقافي
والاجتماعي، دونما تمييز في العرق والدين والجنس، عالم يستطيع فيه
لعازر ان يجلس الى مائدة الغني (البابا بولس السادس: ترقي
الشعوب47).
نُدان على المحبة الاجتماعية أي الحب التقضيلي
للفقراء الذي يفتح قلبنا وفكرنا ويدنا على الجماهير الكثيرة من
الجائعين والمتسولين والذين لا ملجأ لهم، والذين تنقصهم العناية
الطبية، والذين ينقصهم الرجاء، والمحرومين من حريتهم الدينية ومن
حقهم في الحياة السياسية او من حقهم في المبادرة الاقتصادية.
المحبة الاجتماعية هي التزام بالمبدأ المميز للتعليم الاجتماعي
المسيحي: "خيرات هذه الارض معدّة في الأصل لجميع الناس" (الكنيسة
في عالم اليوم، 29)، وبالتالي يقع على الملكية الخاصة " رهن
اجتماعي"، يعطيها وظيفة اجتماعية هي مهمة الالتزام بالفقراء، ويبرر
وجودها انطلاقاً من مبدأ شمولية خيرات الارض. نكران هذه الحقيقة
يُعتبر تشبهاً بالغني المترف الذي تجاهل لعازر المسكين المنطرح عند
باب بيته (الاهتام بالشأن الاجتماعي، 42؛ ام ومعلمة، 106).
***
ثانياً، الخطة الراعوية
انجيل الغني ولعازر يبيّن كيف ان الملكية الخاصة، مهما كان حجمها،
قد تعمي قلب صاحبها وعقله وضميره، فلا يعنيه امر المحروم منها ومن
ثمارها. فيحتاج الى من ينيره فيخرجه من عماه وينجيّه من هلاكه
الابدي.
" عندهم موسى والانبياء، فليسمعوا منهم!" (لو16/
19). هي الكنيسة تنير العقول والقلوب والضمير بتعليمها الاجتماعي
الذي يردد صدى صوت المسيح لنصرة " الاخوة الصغار" الذين هم كل
انسان في حاجة او فاقة او عوز سواء على المستوى المادي والثقافي ام
الروحي والاقتصادي، ام الانساني والاجتماعي. لعازر يمثل هؤلاء
الاخوة.
الخطة الراعوية لهذا الاسبوع تقود خطانا الى تعليم
الكنيسة الاجتماعي، الذي يستعرضه بايجاز المجمع البطريركي الماروني
في النص 21 بعنوان: " الكنيسة المارونية والقضايا الاقتصادية"
(الفقرات1-25).
1) يتعمق الافراد والجماعات: في الرعية والاسرة والدير والمؤسسة
والمنظمة وما شابهها، في مفهوم الملكية الخاصة، اياً كان نوعها
وقيمتها وملكيتها في ضوء تعليم الانجيل والكنيسة:
" الحق الطبيعي في الملكية الخاصة ليس حقاً مطلقاً، لانه حق تابع
لمبدأ التوزيع المنصف لخيرات الارض المعدة من الله لجميع الناس.
وهذا المبدأ لا يسقط ابداً، بل يقودنا الى تغيير جذري في الذهنية
الاستهلاكية القائلة بحق استعمال ما نملك حتى الاسراف، دونما
اهتمام بشأن الآخرين. فمن يملك، انما يملك لاجل الجميع. تلك هي
الحقيقة المسيحية الملزمة" (البابا بيوس الثاني عشر: " رسالة
اذاعية في عيد العنصرة سنة 1941؛ البابا يوحنا الثالث والعشرون: "
ام ومعلمة" سنة 1961؛ تعليم البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته
"الاهتمام بالشأن الاجتماعي" سنة 1987؛ المجمع البطريركي الماروني،
النص ،21 فقرة 4).
مشكلة الغني في اللوحة الانجيلية كانت اسرافه في ملكيته الخاصة،
دون اشراك لعازر ولو بفتات منها.
تقتضي الخطة الراعوية أخذ مبادرات عملية مناقضة " لعقلية
الاستهلاك"، وصادرة عن " ثقافة خلقية" توجه ما نمتلك من
موارد وامكانيات، مادية وروحية وثقافية واقتصادية ومعنوية، نحو خير
الآخر والآخرين.
2) يوصي المجمع البطريركي الماروني في النص 21 المذكور،
بجعل النظرة الى الحياة الاقتصادية نابعة من الله، وبتنظيم الحياة
الاقتصادية والمادية وفقاً لارادة الله، وبنبذ الممارسات السائدة،
مثل: استغلال القوي للضعيف، والغني للفقير، ورب العمل للعامل؛
والتسلط والهيمنة والبذخ المفرط؛ والكسب غير المشروع والرشوة
والخوّة من غير تعب الانسان وعمله الانتاجي.
أ- يعمل الافراد والجماعات على تعزيز ثقافة المشاركة والمساواة في
الحقوق الاساسية، من خلال مبادرات تعاونية وتعاضدية في الرعية
والبلدة، على اساس العدالة والمحبة. وننوّه بصندوق الخدمات
الاجتماعية والانمائية في كل رعية، الذي يغتذي من10
٪
من مدخول الوقف كبيت كبير فيها، ومن مساهمة المؤمنين والمؤمنات
بشكل دؤوب فيه بحكم الوصية " اوفٍ البركة او العشر"، وعملاً
بالممارسة المسيحية في الكنيسة الناشئة: " كان جماعة المؤمنين
يتشاركون في ما يملكون، فلم يكن بينهم محتاج" (اعمال4/32 و34).
ب- تلتزم معاً في تعزيز القيم الخلقية بحيث تكون الاساس في النشاط
الاقتصادي. في طليعة هذه القيم" كرامة الشخص البشري، وحصوله على
حقوقه المشروعة بحكم العدالة والانصاف؛ تأمين الخير العام والعمل
على تجنب قهر الانسان وحرمانه من التمتع بالخيرات المشتركة بين
البشر، واخضاع كل الاعمال الاقتصادية لمبدأ الخير العام؛ ووضع
الخيرات، التي خلقها الله ورتبّها لجميع الناس، في متناول الجميع
بانصاف ووفقاً للعدالة والمحبة. ولنا في تعليم الكنيسة الاجتماعي
مورد كبير لتعزيز هذه القيم الخلقية في النشاط الاقتصادي (رسالة
البابا لاوون الكبير: الشؤون الحديثة (1891)، رسالة البابا بيوس
الحادي عشر:السنة الاربعون(1931)، ورسالة البابا يوحنا بولس
الثاني، السنة المئة (1991). كل تصب في " اهمية الاخلاق في الحقل
الاقتصادي).
***
صلاة
ابقَ معي يا رب بنور انجيلك، انجيل الحياة، وبنور تعليم الكنيسة،
لكي ينفتح قلبي على حاجة اخوتي، وامدّ اليهم يد المساعدة بروح
التضامن والعدالة والمحبة. ابقَ معي ايها المسيح لانك نوري وبدونك
انا في الظلمة وبدون حرارة. كم من فقراء يتخبطون في بؤسهم؟ كم من
رجال ونساء يقعون فريسة عنف التسلّط السياسي والاقتصادي الشرس؟ كم
من معاقين ومسنين ومرضى مهملين ومقتولين حسياً ومعنوياً بداعي
اللامبالاة والاهمال والشفقة الكاذبة؟
اعطِ المؤمنين بك ان يعلنوا لاهل زماننا انجيل المحبة والعدالة،
ويجسّدوه في اعمالهم ومبادراتهم، ويجعلوه حضارة حياة. ضمّنا يا رب
الى هؤلاء المؤمنين، لكي تكون " محبتنا لا بالكلام او باللسان، بل
بالعمل والحق"( يو3/18)، فنرمّم روابط الاخوة والشركة مع كل محتاج،
ويتجلى فيه بهاء مجد الله، لاكرام وتمجيد الثالوث القدوس، الذي
يظللنا بمحبة الآب، ويشفينا بنعمة الابن، ويحيينا بحلول الروح
القدس، آمين
(مقتبسة من صلاة القديس الاب بيّو والبابا يوحنا بولس
الثاني).
|