زمني الدنح والتذكارات
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2008 - 2009
عيد الدنح او الغطاس - الاربعاء 6  كانون الثاني 2009

 
  1. عيد الدنح والاحد الاول بعد الغطاس
  2. الاحد الثاني بعد الدنح - العمل الرسولي شهادة ليسوع المسيح
  3. الاحد الثالث بعد الدنح - الانسان الجديد المولود من الايمان والمعمودية
  4. تذكار الكهنة - الكاهن وكيل اسرارلاله  
  5. تذكار الابرار والصديقين - مواطنون في مدينة الله الحي
  6. تذكار الموتى المؤمنين - بنور الايمان والرجاء والمحبة نحيا وننتظر الموت 

 

الثلاثاء 6 كانون الثاني 2009

الاحد 11 كانون اللثاني 2009

عيد الدنح

تيطس2/11-3/7

لوقا3/15-22

الاحد الاول بعد الدنح

يوحنا 1/29-34

 

         عيد الغطاس او الدنح هو الاحتفال بتذكار معمودية الرب يسوع على يد يوحنا المعمدان في نهر الاردن، وهو في الثلاثين من عمره. فيُسمّى " الغطاس" للدلالة الى نزوله في مياه الاردن وقبول معمودية الماء للتوبة. وهو تذكار اعتلان سرّ يسوع انه ابن الله، واعتلان سرّ الله الثالوث: الآب بالصوت، والابن الحاضر في المياه، والروح القدس بشبه الحمامة التي استقرّت على الابن. فيُسمّى  "الدنح" اي الظهور والاعتلان (لوقا3/21-22).

في غداة المعمودية والظهور، كانت شهادة يوحنا المعمدان، الممتلىء هو ايضاً من انوار الروح القدس، استكمالاً لما " اعتلن وظهر" في الامس، فاعلن ان يسوع هو " حمل الله" الذي يحمل خطيئة العالم" اي الفادي الالهي الذي " يعمّد بالروح القدس"، لانه " ابن الله" (يو1/29 و33 و34).

         الله يعتلن لنا بالمسيح، ونحن مدعوون لمعرفته بالقلب والشهادة له بالحياة.

        

اولاً، يوبيل القديس بولس وشرح الرسالة والانجيل

 

1.     ما عرف القديس بولس عن حياة يسوع على الارض[1]

 

معرفة يسوع، كما معرفة كل شخص، نوعان: خارجية وداخلية. المعرفة الخارجية تقف عند مظهره الخارجي واقواله وافعاله وتصرفاته، ويسميها بولس الرسول " المعرفة حسب الجسد" (2كور5/16). اما المعرفة الداخلية فهي معرفة الشخص بالقلب من خلال حياة الصداقة معه. انها معرفته في داخله وجوهره، وهي المعرفة الحقيقية. هذا التمييز أجراه يسوع بسؤاله المزدوج لتلاميذه: " من يقول الناس اني انا ابن البشر؟ - وانتم، من تقولون اني هو؟" (متى16/13 و15). كم من علماء يعرفون يسوع في تفاصيل شخصيته واقواله وافعاله! وكم من اشخاص بسطاء امّيين عرفوه في صميم حقيقته من دون ان يعرفوا تلك التفاصيل! " فالقلب يكلّم القلب". الى هذه المعرفة التي بلغها بولس، يدعونا هذا الرسول. فهو عرفه اولاً بالقلب، ثم بالتفصيل من الرسل والكنيسة الناشئة.

عرف بولس الرسول تفاصيل من كلمات يسوع وافعاله، فجعلها قاعدة حياة منتقلاً هكذا من معرفة العقل الى محبة القلب والتزام الحياة. نعطي بعض الامثلة:

 

أ- مجانية الخدمة ومساندة المؤمنين

فيما يسوع يطلب من الجماعة ان تعتني بمعيشة من هو مكرّس لحمل انجيله اليها بقوله: " كونوا في ذلك البيت تأكلون وتشربون مما عندهم. لان الفاعل يستحق اجرته" (لو10/7)، يؤكد بولس هذا الحق بقوله: " ان الذين يخدمون الهيكل، فمن الهيكل يقتاتون. والذين يخدمون المذبح، فالمذبح يقاسمون. وربنا ايضاً هكذا امر: ان الذين ينادون ببشارته، فمن بشارته يعيشون". لكنه يعلن تخلّيه عن هذا الحق، للتأكيد على واجب التبشر بالانجيل، لانه مفروض عليه من الله، ولا يقوم به عن هوى شخصي، من اجل مكسب وأجر. وهذه هي مدعاة فخره. ولهذا يقول: " الويل لي ان لم ابشّر" (1كور9/13-17).

 

ب- قوة الرسالة من الله

يستوحي بولس الرسول من كلام الرب يسوع عن " المساكين بالروح" (متى5/3)  و"البسطاء الاطفال" (متى11/25)، فاكّد ان الله يختار جهّال العالم ليخزي الحكماء، وضعفاء العالم ليخزي الاقوياء، والوضيعة أحسابهم في العالم، والمنبوذين، والذين ليسوا بشيء، ليبطل المعدودين، لكي لا يفتخر بين يديه كل ذي جسد" ( 1كور1/27-29). وبهذا يتوجّه الى المسيحيين والمكرسين في الكهنوت والحياة الرهبانية بالقول: " انظروا دعوتكم، يا اخوتي، فانه ليس فيكم كثيرون حكماء بحسب الجسد، ولا فيكم كثيرون اقوياء، ولا فيكم كثيرون من ذوي الحسب الشريف" ( 1كور1/26). لقد اختبر بولس في عمله الرسالي ان الودعاء وبسطاء القلوب هم المنفتحون على معرفة يسوع.

 

ج- الجهوزية في تتميم ارادة الله

من تاكيد الرب يسوع عن جهوزيته لتتميم ارادة الآب عندما قال: " طعامي ان اعمل بمشيئة الذي ارسلني، وان اتمم عمله" (يو4/34)، وعن روابط القرابة الروحية معه من خلال هذا العمل، بقوله: " ان من يعمل بمشيئة الله، فذاك هو اخي واختي وامي" (مرقس4/35)، كانت دعوة بولس الرسول الى التشبّه باخلاق المسيح الذي " واضع نفسه وأطاع الآب حتى الموت على الصليب" (فيليبي2/5 و8). فجعل الصليب محور كرازته على انه " حكمة الله وقدرته".

 

2. رسالة بولس الرسول الى تلميذه تيطس:2/11-3/7: الولادة الجديدة بنعمة الرحمة والفداء

 

لأَنَّ نِعْمَةَ اللهِ قَدْ ظَهَرَتْ خَلاصًا لِجَمِيعِ النَّاس، وهِيَ تُؤَدِّبُنَا لِنَحْيَا في الدَّهْرِ الـحَاضِرِ بِرَزَانَةٍ وبِرٍّ وتَقْوَى، نَابِذِينَ الكُفْرَ والشَّهَوَاتِ العَالَمِيَّة، مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ السَّعِيد، وظُهُورَ مَجْدِ إِلـهِنَا ومُخَلِّصِنَا العَظِيمِ يَسُوعَ الـمَسِيح، الَّذي بَذَلَ نَفْسَهُ عَنَّا، لِيَفْتَدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْم، ويُطَهِّرَنَا لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا، غَيُورًا على الأَعْمَالِ الصَّالِحَة.تَكَلَّمْ بِهـذِهِ الأُمُورِ وَعِظْ بِهَا، ووَبِّخْ بِكُلِّ سُلْطَان. ولا يَسْتَهِنْ بِكَ أَحَد. ذَكِّرْهُم أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّئَاسَاتِ والسَّلاطِين، ويُطِيعُوهُم، ويَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِح، ولا يُجَدِّفُوا على أَحَد، ويَكُونُوا غَيْرَ مُمَاحِكِين، حُلَمَاء، مُظْهِرِينَ كُلَّ ودَاعَةٍ لِجَميعِ النَّاس. فَنَحْنُ أَيْضًا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أَغبِيَاء، عَاقِّين، ضَالِّين، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَواتٍ ولَذَّاتٍ شَتَّى، سَالِكِينَ في الشَّرِّ والـحَسَد، مَمْقُوتِين، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا. ولـكِنْ لـَمَّا تَجَلَّى لُطْفُ اللهِ مُخَلِّصِنَا، ومَحَبَّتُهُ لِلبَشَر، خَلَّصَنَا، لا بِأَعْمَالِ بِرٍّ عَمِلْنَاهَا، بَلْ وَفْقَ رَحْمَتِهِ، بِغَسْلِ الـمِيلادِ الثَّاني، وتَجْدِيدِ الرُّوحِ القُدُس، الَّذي أَفَاضَهُ اللهُ عَلينَا بِغَزَارَة، بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا. فإِذا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ، نَصِيرُ وَارِثِينَ وَفْقًا لِرَجَاءِ الـحَياةِ الأَبَدِيَّة.

 

         عرف بولس الرسول الرب يسوع معرفة القلب. يتحدث عن " نعمة الله التي ظهرت لنا بالمسيح". وهي نعمة الفداء بسرّ موته وقيامته: لقد بذل نفسه عنا، ليخلّصنا من كل اثم، ويطهرّنا لنفسه شعباً جديداً يتنافس بالاعمال الصالحة". انه يشرح في ذلك قول يوحنا المعمدان عن يسوع " هذا هو حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (يو1/29).

         ونعمة الله هي " الرحمة" التي من فيضها تبررنا، لا من اعمالنا، بل من الفداء بالمسيح هذا الذي غسل خطايانا بدمه وافاض علينا الحياة الالهية بالروح القدس، بقيامته. ويُجري ذلك في انسان كل زمن وجيل ومكان بالمعمودية التي هي " غسل الميلاد الجديد والتجدد بالروح القدس". ان بولس يشرح شهادة يوحنا المعمدان الذي قال: " انا اُرسلت لاعمّد بالماء، اما الآتي بعدي، وكان قبلي، لانه أقدم مني، فهو يعمّد بالروح القدس" (يو1/30 و33).

         اما مفاعيل النعمة الالهية والميلاد الجديد من المعمودية فهي: الطاعة والخضوع للرؤساء، الاستعداد لكل عمل صالح، الامتناع عن الشتم والخصومة والعصيان والاستعباد للشهوات، وعن الحسد والضغينة والحقد (تيطس3/1-3).

         ميزات " شعب الله الجديد"، المولود بالمعمودية المتفجّرة من موت المسيح وقيامته، هي: التنافس بالاعمال الصالحة، تقديس الذات بالنعمة، العيش في الرجاء واستحقاق ميراث الحياة الدائمة (تيطس2/14؛3/7).

 

         3. بالمعمودية اصبحنا ابناء الله بالابن الوحيد (يو1/29-34)

         شهد يوحنا المعمدان ان يسوع الذي يعمّد بالروح القدس هو ابن الله الذي اشركنا ببنوته للآب، لا في الطبيعة والجوهر، بل بالنعمة والهبة.

ماذا تعني بنوتنا لله من الناحية اللاهوتية، وماذا تقتضي منا على مستوى الحياة، وما الهدف الذي ينير دربنا؟

         لقب ابن الله يعني في شهادة يوحنا المعمدان ما كان يعنيه في العهد القديم، أي البنوة بالتبني التي تقيم بين الله وخليقته علاقات مودة وحياة حميمة خاصة . فلا يتعدى اللقب بشرية الانسان. وقد كان يطلق على الملوك مثل سليمان: " يا داود أقيم من يخلفك من نسلك، وانا اثبّت عرش ملكه الى الابد . انا اكون له اباً وهو يكون لي ابناً"  (2صموئيل 7/12-14)؛ وعلى ابناء شعب الله: " انتم ابناء للرب الهكم....لانك شعب مقدس للرب الهك ، وقد اختارك الرب لتكون له شعباً خاصاً من بين جميع الشعوب التي على وجه الارض" ( تثنية 14/1-2)؛ وعلى الشعب المختار: اسرائيل هو ابني البكر . قلت لك ( الرب لفرعون بلسان موسى ): "اطلق ابني ليعبدني ، وان أبيت ان تطلقه فهاءنذا قاتل ابنك البكر " ( خروج4/22-23)، وعلى ملائكة الله التي تشكل بلاطه الملوكي: " واتفق يوماً ان دخل بنو الله ليمثلوا امام الرب " (ايوب1/6).

         بهذا المعنى نحن اصبحنا بالعمودية " ابناء الله "، حسب لاهوت القديس بولس الرسول. هو الروح القدس الحال فينا يجعلنا خاصة الله: " من لم يكن فيه روح المسيح فما هو من خاصته " (روم8/9)، ويجعلنا ابناء الله: " ان الذين ينقادون لروح الله يكونون ابناء الله. انتم لم تتلقوا روح العبودية، بل روح التبني به ننادي: ابّا، يا ابتِ؛ وهذا الروح نفسه يشهد مع ارواحنا بأننا ابناء الله " (روم8/14-16)، وورثة الله وشركاء المسيح في الميراث: " اذا شاركناه في آلامه، نشاركه في مجده ايضاً " (روم8/17).

         بنوتنا لله تأتينا من ابن الله المتأنس: " ارسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني " ( غلاطية 4/4-5). هذا ما تفعله فينا المعمودية.

         لكن شهادة يوحنا تضيف على مفهوم العهد القديم وجهاً الهياً يسمو الحدود البشرية : " يأتي بعدي رجل قد تقدمني، لانه كان قبلي". لم يكن قبله من ناحية التاريخ البشري، بل من ناحية الوجود الالهي، وشهادته تستند الى اعلان الصوت من السماء: "انت ابني الحبيب". وعندما يعترف سمعان بطرس ان يسوع " هو المسيح ابن الله الحي" ( متى 16/16)، فأنه بفضل الوحي الالهي يعلن كل الوهيته (متى16/17). والسيد المسيح يسمي نفسه   "الابن " بمفهوم البنوة الالهية الكاملة : هو الابن الذي يعرف الآب (متى11/27)، ويفوق كل الخدام الذين ارسلهم الله قبله  (متى21/33-39). ويميز بين بنوته وبنوة التلاميذ: " اني صاعد الى ابي وابيكم " (يو20/17). لم يستعمل قط صيغة ابانا لتشمله معهم بل اباهم وحدهم: " كونوا انتم كاملين، كما ان اباكم السماوي كامل هو" (متى5/48)، " لان اباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل ان تسألوه " (متى6/8)، " صلوا انتم هذه الصلاة: ابانا الذي في السموات ..." (متى6/9). عندما يعنيه الامر يقول " ابي": ليس من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات ، بل من يعمل بمشيئة ابي الذي في السموات " ( متى7/21).

         من الناحية الخلقية علينا كأبناء واجب الخضوع والطاعة لله، والاتكال على عنايته الوالدية، والبحث عن ارادته، والسماع لنداءاته، والقيام بالرسالة التي أوكلها الينا، والمحافظة على الشبه الالهي فينا، ولنا في " الابن الوحيد"، الابن بالامتياز ، كل القدوة.

         من الناحية الاسكاتولوجية نعلم اننا الى الله خالقنا ومخلصنا ومقدسنا نحج في مسيرة الدنيا. الكنيسة المنظورة ترمز الى البيت الابوي الذي يسير نحوه شعب الله. انها بيت جميع ابناء الله، المفتوح على مصراعيه ليستقبل الجميع. في هذا البيت نعيش بنوتنا لله بكل ابعادها ومقتضياتها. وفي طقوسها نستبق ليتورجيا السماء، كما يرويها يوحنا الرسول في كتاب الرؤيا (الفصل 19).

 

***

 

ثانياً، اللقاء العالمي السادس للعائلات

        

         العائلة وتربية الانسان الجديد

         تستعد العائلات في العالم للقائها العالمي السادس مع قداسة البابا في مدينة مكسيكو (14-18 كانون الثاني 2009) والموضوع العام: العائلة منشّئة على القيم الانسانية والمسيحية. وضع المجلس الحبري للعائلة كتيّباً بعشرة مواضيع تحضيرية لهذا الحدث الكنسي العام. نعرض منها اليوم الموضوع الثامن: الرعية والمدرسة معاونتا العائلة في التربية.

         يرتكز هذا الموضوع على قول للقديس بولس الرسول: " انتم تعلّمتم المسيح تعليماً مطابقاً للحقيقة، وهي انكم بالمسيح نبذتم الانسان العتيق الذي أفسدته الشهوات الخداّعة، في سيرتكم الاولى، وتجددتم في اذهانكم تجدداً روحياً، ولبستم الانسان الجديد الذي خُلق على مثال الله، في البّر وقداسة الحق" (افسس4/21-24).

         في العائلة، بموآزرة الرعية والمدرسة، يتربى الشخص البشري على ان يعيش بحسب الانسان الجديد في البّر وقداسة الحق، ويسهم بفاعلية في اعطاء العالم وجهاً مسيحياً (البيان المجمعي في التربية المسيحية،2).

         من اجل هذه التربية في العائلة، يعنى الوالدون، وهم المربّون الاُولون والاساسيون، بخلق مناخ عائلي يحييه الحب والتقوى والقيم الانسانية والاجتماعية، وبتربية اولادهم على معرفة الله وعبادته، وعلى محبة القريب ولاسيما الفقير والضعيف والمريض.

         تحتاج العائلة ايضاً الى المدرسة الخاصة والرسمية، بحيث تكون الحليف الافضل للوالدين، فتوفر للاولاد كل ما لا يستطيع الاهل توفيره، وتساهم في تحقيق ما يبتغيه الاهل لاولادهم. ان المدرسة تهيىء للمجتمع مواطنين مخلصين.

         غير ان الحاجة الى الدولة تبقى هي ايضاً ملّحة. فمن واجب المجتمع المدني تأمين الحقوق والواجبات للوالدين والمعلمين والاداريين، والمحافظة على الاداب العامة وسلامة الحياة الاجتماعية واستقرارها.

 

***

 

ثالثاً، رسالة البابا بندكتوس السادس عشر ليوم السلام العالمي 2009

"محاربة الفقر، بناء السلام"

 

         بعد اظهار العلاقة بين الفقر والسلام، يتناول قداسة البابا في رسالته تبعات الفقر الاخلاقية في خمسة مجالات، نذكر منها اليم اثنين:

         1. مجال النمو الديموقراطي: الفقر هو بمثابة السبب المباشر للنمو الديموقراطي. وهذا ما يحمل الدول على القيام بحملات لخفض نسبة الولادات، باعتماد وسائل لا تحترم كرامة المرأة، ولا حق الازواج في اختيار عدد بنيهم بروح المسؤولية، ولا الحق في الحياة، في أغلب الاحيان. وبذلك يبيدون ملايين من الاطفال غير المولودين.

         من بين الدول الاكثر تقدماً، فإن تلك التي لها نسبة نمو مرتفع للولادات انما هي التي تنعم بافضل القدرات للنمو. هذا يعني ان السكان ثروة لا عامل فقر.

         2. مجال الامراض الوبائية كالملاريا والسّل والسيدا: بقدر ما تصيب هذه الامراض القطاعات الانتاجية من السكان، بقدر ذلك تؤثر، وبشكل كبير، على تدهور الاوضاع العامة في البلاد. من المؤسف ان محاولات الحدّ من هذه الامراض وتبعاتها على السكان لا تأتي دائماً بالنتائج المرجوّة. فان الدول ضحايا هذه الامراض تضطر الى الانصياع للابتزاز التي تمارسه الدول اذ تربط تقديم المساعدات الاقتصادية بشرط بتطبيق سياسات معادية للحياة.

         تجدر الاشارة الى انه من الصعب محاربة السيدا، هذا العامل المأساوي للفقر، من دون مواجهة المشاكل الاخلاقية المرتبط بها انتشار هذا الفيروس. فلا بدّ من تنظيم حملات تثقيفية تربّي الشبيبة على مفهوم الممارسة الجنسية وفقاً لكرامة الشخص البشري. ولقد أعطت مبادرات مماثلة نتائج وافرة في هذا المجال. ويجب ثانياً تأمين الادوية والعلاجات الضرورية للشعوب الفقيرة. وينبغي ثالثاً ان ينطلق التزام جدّي في البحث الطبي، وفي التجديدات العلاجية، وفي تطبيق القواعد الدولية التي تنظّم الملكية الفكرية، من اجل ضمانة العلاجات الصحية الاساسية للجميع (الفقرتان 3 و4).


 

صلاة

         ايها الرب يسوع، لقد أظهرت لنا ذاتك وسرّ الله في يوم دنحك، بشهادة من السماء ومن يوحنا معمّدك. هبنا ان نعرفك مثل يوحنا وبولس، معرفة القلب فنحبك ونلتزم تعليمك ونشهد لك في حياتنا اليومية: في العائلة والمجتمع، في الكنيسة والدولة. لقد جسّدت لنا الرحمة الالهية وغسلت نفوسنا من خطاياها بدمك المراق على الصليب وبماء المعمودية وقوة الروح القدس. ساعدنا لنعيش مقتضيات الانسان الجديد الذي تحقق فينا بالولادة الثانية، ولان نكون بأجمعنا شعباً جديداً، نتنافس بالاعمال الصالحة، نعيش البنوة لله والاخوّة بعضنا لبعض.

         بارك عائلاتنا لتكون دائماً المدرسة الطبيعية التي تربي انساننا الجديد على القيم الانسانية والمسيحية، ولتحسن التعاون مع المدرسة والرعية من اجل استكمال هذه التربية. ألهم المسؤولين في الدولة والكنيسة لايجاد السبل الفضلى لمحاربة الفقر وحماية الشبيبة والعائلات من تبعاته التي تقوّض القيم الاخلاقية، فيضعوا بذلك اسس السلام العائلي والاجتماعي. ولك ايها الآب والابن والروح القدس، نرفع كل مجد وشكر وتسبيح، الآن والى الابد، آمين.



2. خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 8 تشرين الاول 2008.

 


 

الاحد الثاني بعد الدنح

رسالة القديس بولس الى اهل كورنتش: 2كور4/5-15

انجيل القديس يوحنا1/35-42

العمل الرسولي شهادة ليسوع المسيح

 

         في زمن الدنح تتواصل الشهادة ليسوع المسيح مع يوحنا المعمدان وتلميذيه وبولس الرسول. وهي تبلغ الينا، نحن ابناء هذا الجيل. فالمسيح على ما يقول بولس الرسول " هو هو امس واليوم والى الابد" ( عبرانيين13/8)، ما يعني انه يظهر لنا بالطريقة التي تلائمنا، حسب قول القديس مكسيموس المعترف (+662)، ولكنه يظلّ مستتراً عن الجميع بسبب عظمة سرّه. نحن نشهد له بمواقفنا واقوالنا واعمالنا. وهو سرّ لن ينتهي العقل من الامعان فيه. ولذلك نقول مع القديس مكسيموس " التجسّد سرٌّ يبقى، هو سرّ الكلمة، يسوع المسيح ابن الله وابن الانسان، حامل الطبيعتين الالهية التي هو فيها اله، والبشرية التي فيها هو انسان" (صلاة الساعات حسب الطقس الماروني، زمن الميلاد المجيد، القراءة،صفحة 604-605). هذا الاله الذي تجسد حباً بنا، مات مصلوباً بحسده فداءً عنا: انه " حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (يو1/29).

 

اولاً، عام القديس بولس ورسالة الاحد

 

1.     القديس بولس الرسول ولاهوت الصليب[1]

 

         جعل بولس الرسول من صليب المسيح محور حياته وكرازته، واتخذ نهجه قاعدة لرسالته، كما قال لاهل كورنتش: " انا بكل سرور أبذل ما عندي، بل ابذل نفسي لاجل نفوسكم، لاني احبّكم"  (2كور12/15). لقد ادرك منذ لقائه بالمسيح على طريق دمشق انه مات وقام من اجل الجميع ومن اجله شخصياً. فرأى في سرّ الصليب بعدين: البُعد الشمولي، فالمسيح مات وقام من اجل الجميع؛ والبُعد الشخصي، انه مات وقام من اجلي، فتحوّل شاول-بولس من خاطي الى مؤمن، ومن مضطهد الى رسول.

         ادرك بولس يوماً بعد يوم  ان الخلاص  "نعمة" تأتي من موت المسيح لا من الاستحقاقات الشخصية. فأعلن " انجيل النعمة" الذي وجد فيه السبيل الوحيد لفهم سرّ الصليب، ومقياس حياته الجديدة، والجواب على تساؤلات محاوريه. فكان بينهم اليهود الذين وضعوا رجاءهم في الاعمال وانتظروا منها خلاصهم؛ واليونانيون الذين رأوا غاية وجودهم في الحكمة المنافية للصليب؛ والهراطقة الذين كوّنوا فكرتهم الخاصة عن المسيحية وفقاً لنوعية حياتهم.

         بوجههم جميعاً قال بولس: " ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، اما عندنا نحن بني الحياة فهي قوة الله... لقد اراد الله، بجهالة البشرى، ان يحيي من يؤمنون. لان اليهود يطلبون الآيات، واليونانيون الحكمة، اما نحن فنبشّر بالمسيح مصلوباً، عثاراً لليهود، وجهالة لليوانيين. واما للمدعوين، ان المسيح الذي صُلب قد قام من الموت وهو حي بقدرة محبة الله اللامتناهية.

         الصليب بالنسبة لليهود عثار، باليونانية skandalon، اي حجر عثرة لايمان اليهود الذين يعتبرون ان الصليب مناقض لجوهر الله الذي تراءى دائماً وظهر من خلال آيات ومعجزات. انهم يرفضون الصليب امانةً لاله آبائهم. وبالنسبة لليونانيين اي الوثنيين، الصليب جهالة، باليونانية moria. لكن اللفظة تعني حرفياً من دون طعم او نكهة كالطعام من دون ملح. فلا تعني خطأ بل اساءة للذوق.

         اختبر بولس مرارة رفض الانجيل لاعتباره من دون نكهة، من دون أهمية، وكأنه غير جدير بالاهتمام على مستوى منطق العقل.

         هذا المنطق اليوناني نجده لدى ذهنية عالمنا المعاصر. فكم من الناس الذين وضعوا رجاءهم في المال او المنصب او السلاح او القوة، لا يعيرون الانجيل اي اعتبار، وكأنه لا يعني لهم شيئاً في حياتهم وعملهم ونشاطهم. وكأنهم يرددون لمن يعلن لهم كلام الانجيل ما قاله لبولس بعض من اهل زمانه وبسخرية: " سنسمعك في ذلك مرة اخرى" (اعمال 17/32).

 

         2. شرح رسالة القديس بولس الى اهل كوؤنتس:2كور/5-15

        

فَنَحْنُ لا نُبَشِّرُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ نُبَشِّرُ بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ رَبًّا، وبِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا  لَكُم مِنْ أَجْلِ يَسُوع؛ لأَنَّ اللهَ الَّذي قَال: "لِيُشْرِقْ مِنَ الظُّلْمَةِ نُور!"، هُوَ الَّذي أَشْرَق في قُلُوبِنَا، لِنَسْتَنِيرَ فَنَعْرِفَ مَجْدَ  اللهِ  الـمُتَجَلِّيَ في وَجْهِ الـمَسِيح. ولـكِنَّنَا نَحْمِلُ هـذَا الكَنْزَ في آنِيَةٍ مِنْ خَزَف، لِيَظْهَرَ أَنَّ تِلْكَ القُدْرَةَ الفَائِقَةَ هِيَ مِنَاللهِ لا مِنَّا. يُضَيَّقُ عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ولـكِنَّنَا لا نُسْحَق، نَحْتَارُ في أَمْرِنَا ولـكِنَّنَا لا نَيْأَس، نُضْطَهَدُ ولـكِنَّنَا لا نُهْمَل، نُنْبَذُ ولـكِنَّنَا لا نَهْلِك، ونَحْمِلُ في جَسَدِنَا كُلَّ حِينٍ مَوْتَ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا؛ فَإِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسْلَمُ دَوْمًا إِلى الـمَوْت، مِنْ أَجْلِ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا الـمَائِت. فَالـمَوْتُ يَعْمَلُ فينَا، والـحَيَاةُ تَعْمَلُ فيكُم. ولـكِنْ بِمَا أَنَّ لَنَا رُوحَ الإِيْمَانِ عَيْنَهُ، كَمَا هوَ مَكْتُوب: "آمَنْتُ، ولِذـلِكَ تَكَلَّمْتُ"، فَنَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِن، ولِذـلِكَ نَتَكَلَّم. ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ذـلِكَ الَّذي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوع، سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا مَعَ يَسُوع، وَيَجْعَلُنَا وإِيَّاكُم في حَضْرَتِهِ. فَكُلُّ شَيءٍ هُوَ مِنْ أَجْلِكُم، لِكَي تَكْثُرَ النِّعْمَة، فَيَفِيضَ الشُّكْرُ في قُلُوبِ الكَثِيرينَ لِمَجْدِ  الله.

 

العمل الرسولي هو تواصل الشهادة ليسوع المسيح، المخلص والفادي والمجدد وجه الارض بالروح القدس. يسميّه بولس " النور الذي أشرق في الظلمة، وفي قلوبنا، لنستنير بمعرفة مجد الله بوجه يسوع المسيح" ( الآية6).

هذا العمل الرسولي شبيه  "بإناء من خزف" نحمله في ايدينا الواهنة للدلالة ان قوته وضمانة نجاحه هما من الله لا منا. ولذلك يتكلم بولس عن هذا التناقض في مظاهر الانكسار وواقع الانتصار: "نتضايق في كل شيء ولكننا لا نختنق؛نُلطم ولكن لا نُشجب؛ نُطرد ولكن لا نُخذل؛ نصرع ولكن لا نهلك".

ويطمئن الرسول كل من يحمل جرحاً او الماً، أكان حسياً ام معنوياً ام روحياً، ويعطيه معنى لاهوتياً معزّياً ومقوّياً: " نحن حاملون كل حين في اجسادنا ميتة يسوع، لتظهر حياة يسوع في اجسادنا... فذاك الذي أقام ربنا يسوع، سيقيمنا نحن ايضاً بواسطته، ويقرّبنا اليه معكم" (الآيتان 10 و14). انه بذلك يبييّن لنا ان العمل الرسولي نوع من حالة الموت، على مستوى الواقع الذي قد لا نراه متفاعلاً بهذا العمل، بسبب الرفض او اللامبالاة او عدم التجاوب. فلا تراجع ولا قنوط، بل ايمان صامد، صمود ايمان بولس بان موت المسيح يقودنا الى القيامة (2كور15).

 

3. انطلاقة العمل الرسولي والشهادة للمسيح: يوحنا 1/35-43

 

بعد ان ادّى يوحنا المعمدان رسالة التعميد التي تتوجت بمعمودية يسوع وانكشاف سرّ الوهيته وبنوته لله، اعطى الشهادة عن يسوع امام تلميذين من تلاميذه: " هوذا حمل الله". فكانت للشهادة مفاعليها ونتائجها. للحال، تبع التلميذان يسوع واقاما معه ذلك النهار، فاكتشفا  انه المسيح الذي كتب عنه الانبياء. انهما يمثلان البحث الدائم في قلب كل انسان. العمل الرسولي هو اولاً وفي الاساس شهادة لشخص المسيح، لا لفكرة او لعقيدة او لتنظيم او لمشاريع. هذه كلها تتبع، اذا ما عرف الانسان شخص يسوع واحبّه.

فاندراوس الذي عرف يسوع على شهادة يوحنا، واحبّه، آمن انه المسيح المنتظر، وقام للفور بعمل رسولي: فاقتاد اخاه سمعان الى يسوع وكان في قلب سمعان شوق وحب لشخص المسيح من قبل ان يعرفه، فقرأ يسوع مكنونات قلبه. نظر اليه وبادره بمعرفته وبتدبيره عليه: " انت سمعان بن يونا، ستدعى بعد اليوم الصخرة- كيفا اي بطرس".

وفيليبس، الذي دعاه يسوع ليتبعه فلبى الدعوة، قام هو ايضاً بعمل رسولي شاهد لدى نتنائيل وقال له: " ان الذي كتب عنه موسى والانبياء قد وجدناه، وهو يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة". يا لشدّة الايمان والحب عند فيليبس، هذا الذي سيطلب من يسوع يوماً بشوق كبير: " يا رب، أرنا الآب وهذا يكفينا".

وكان كافياً ان يأتي نتنائيل معه. فالرب يسوع يكتفي منا بلحظة نعيره فيها انتباهنا. وكـأنه كمّل العمل الرسولي الذي بدأه فيليبس، فسمّي يسوع نتنائيل باسمه وبمكان وجوده، فكانت للرسالة فعاليتها، ما جعل نتنائيل يشهد عن يسوع باكثر مما سمع، فصرخ: " يا معلم، انت هو ابن الله! انت هو ملك اسرائيل!" ( يو1/49).

ان جوهر العمل الرسولي، أقام به الاكليروس ام العلمانيون المؤمنون، انما هو البلوغ بكل انسان الى الايمان. لكنه مرتبط الى حد بعيد بشهادة الحياة وبالكلمة من قبل الذي يؤدي العمل الرسولي او يعلن الانجيل ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 904-905).

 

****

 

ثانياً، اللقاء العالمي السادس للعائلات في مدينة مكسيكو (14-18 كانون الثاني 2009)

 

تزامناً مع ختام اللقاء العالمي السادس للعائلات وكان بعنوان: "العائلة المسيحية منشّئة على القيم الانسانية والمسيحية"، نختار استكمالاً للمواضيع العشرة التي أعدّها المجلس الحبري للعائلة لهذا الحدث، الموضوع العاشر والاخير: العائلة هدف الانجلة الجديدة ورسولتها.

 

اول انجيل أعلن، وهو البشرى السّارة، كان انجيل العائلة، جماعة الحب والحياة. وقد اُعلن مع الانسان الاول في بداية الخلق. ولذلك تبقى العائلة هدف الانجلة. فلا بدّ من ان تعطي الابرشيات والرعايا الاهتمام الاول لراعوية الزواج والعائلة. على هذا الاساس كانت مراكز التحضير للزواج، ومراكز الاصغاء والمرافقة للعائلات، فضلاً عن المنظمات والحركات المعنية براعوية العائلة.

 

والعائلة هي رسولة الانجلة تمارس اعلان الانجيل في حياتها وفي انجاب الاولاد وتربيتهم. بنعمة سرّ الزواج وحضور الله الثالوث في حياة الزوجين، تصبح العائلة " كنيسة منزلية" حيث يتلقى الاولاد منذ طفولتهم وفي شبابهم الايمان من اهلهم والتربية عليه، لا بالكلام والنظريات بل بالحب اليومي والبساطة وشهادة الحياة. لكن الانجلة في العائلة خدمة كنسية تتجذر في رسالة الكنيسة الرامية الى بنيان جسد المسيح. ولهذا ينبغي ان تتناغم مع خدمة الانجلة في الابرشية والرعية.

وجدير بالذكر ان مهمة نقل الانجيل لا تقتصر على الوالدين؛ بل الاولاد انفسهم قادرون ومدعوون لينقلوا الانجيل الى والديهم عندما يعيشونه بعمق امام  اهلهم.

العائلة هي قلب الانجلة الجديدة (البابا يوحنا بولس الثاني، انجيل الحياة، 92).

 

***

 

ثالثاً، رسالة البابا بندكتوس السادس عشر ليوم السلام العالمي 2009

 

" مكافحة الفقر بناء السلام"

 

         بناء السلام يقتضي مكافحة الفقر وتبعاته الخلقية. نواصل اليوم عرض ثلاث تبعات اضافية الى الاثنتين المذكورتين في التنشئة السابقة.

 

         1. مكافحة فقر الاولاد: الاطفال والاولاد هم اول ضحايا الفقر الذي يصيب العائلة. ويشكلوّن نصف العائشين اليوم في حالة الفقر المدقع. تقتضي  مكافحة فقر الاولاد وضع اولويات لصالحهم هي: تأمين العلاج للامهات، العمل التربوي الشامل، توفير اللقاحات والادوية ومياه الشرب، حماية البيئة، الدفاع عن العائلة واستقرارها الداخلي. كل مرة تضعف العائلة، يقع الضرر على الاولاد.

 

2. مكافحة ربط الانماء بالتسلّح: من المقلق ان تُصرف الاموال الباهظة في سبيل التسلّح على حساب الانماء. وبهذا تُخالف شرعة الامم المتحدة التي تنص على " تعزيز السلام والامن الدولي وترسيخه بتخصيص الحدّ الادنى من الموارد الانسانية والاقتصادية للتسلّح" (المادة26). معلوم ان ازدياد النفقات العسكرية يسرّع السباق الى التسلّح الذي يولّد بدوره بؤر تخلف ويأس، ويصبح عاملاً لزعزعة الاستقرار وللتوتر والنزاعات. وبما ان " الانماء، هو الاسم الجديد للسلام" ( ترقي الشعوب،87)، فلا بدّ من تخفيض نفقات التسلّح وتخصيص الموارد الفائضة لمشاريع انمائية تطال الاشخاص والشعوب الأشد فقراً وعوزاً. ان الالتزام بهذا الاتجاه انما هو التزام من اجل السلام داخل الاسرة البشرية.

 

3. مكافحة الازمة الغذائية وسوء التغذية. مردّ هذه الازمة الى اربعة: نقص الغذاء، صعوبة الحصول عليه، المضاربات، الافتقار الى مؤسسات سياسية واقتصادية قادرة على مواجهة الحاجات الطارئة. ان سوء التغذية يتسبب باضرار جسدية ونفسية خطيرة. وهذه الاضرار تؤدي الى اضرار اخرى في المجتمع: فهي اولاً تحرم اشخاصاً كثيرين من الطاقات اللازمة لتجاوز اوضاع الفقر، وتساهم ثانياً في توسيع هوة اللامساواة الاجتماعية، وتؤدي ثالثاً الى تفجير ردود فعل خطيرة.

ان اسباب الازمة الغذائية تتلخص باثنتين: التبدّل التكنولوجي الذي تستفيد منه المناطق ذات الدخل العالي، ودينامية اسعار المنتجات الصناعية التي تتزايد بسرعة أكبر من اسعار المنتجات الزراعية والمواد الاولية لدى البلدان الاكثر فقراً. فاذا بهذه البلدان تعاني من الدخل المنخفض بسبب التبدّل التكنولوجي، ومن ارتفاع الاسعار بسبب ديناميتها. وهذا كله يؤدي الى الازمة الغذائية لدى سكانها.

 

***

صلاة

 

ايها الرب يسوع، لقد سلّمت الرسل وديعة الشهادة لك امام جميع الشعوب، بارك عملنا الرسولي، الذي نقوم به، رعاة  ومؤمنين، لكي يكون تواصلاً لشهادة يوحنا المعمدان والتلاميذ الاولين. فنجعل من صليب المسيح، مع بولس الرسول، محور شهادتنا، فالمسيح مات وقام لخلاص الجميع وخلاص كل انسان. ونتخذ من صليب المسيح نهجاً وقاعدة في حياتنا، فنعيش ثقافة البذل والعطاء من اجل جميع الناس.

اننا نصلي من اجل عائلاتنا، لكي تتقبل " انجيل الحب والحياة" وتنقله من جيل الى جيل، وتبني في المجتمع حضارة الحب النقي وكرامة الحياة البشرية. ونصلي من اجل المسؤولين المدنيين لكي يعملوا بجدّية وعزم على مكافحة فقر الاولاد، والفقر في نمو الشخص البشري والمجتمع، وازمة الغذاء وسؤ التغذية وبذلك يبنون السلام والاستقرار.

ونرفع المجد والتسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 4 تشرين الثاني 2008.

 


 

الاحد الثالث بعد الدنح

رسالة القديس بولس الى اهل غلاطية: 3/23-29

انجيل القديس يوحنا 3/1-16

الانسان الجديد المولود من الايمان والمعمودية

 

         في زمن الدنح نتذكر ايماننا ومعموديتنا، وقد اصبحنا بهما " انساناً جديداً مخلوقاً على صورة الله في البّر والقداسة الاتيتين من الحقيقة" (افسس4/24). نتذكر لكي نتجدد في هذا الانسان الجديد، عائشين مقتضياته وفقاً لتعليم القديس بولس الرسول وتعليم الانجيل.

 

اولاً، عام القديس بولس وشرح الرسالة والانجيل

التبرير بالايمان والمعمودية

 

1. رسالة القديس بولس الى اهل غلاطية:  3/23-29

         فَقَبْلَ أَنْ يَأْتيَ الإِيْمَان، كُنَّا مُحْتَجَزِينَ مَحبُوسِينَ تَحْتَ الشَّرِيعَة، إِلى أَنْ يُعْلَنَ الإِيْمَانُ الـمُنْتَظَر. إِذًا فَالشَّرِيعَةُ كَانَتْ لَنَا مُؤَدِّبًا يَقُودُنَا إِلى الـمَسِيح، لِكَيْ نُبَرَّرَ بِالإِيْمَان. فَلَمَّا أَتَى الإِيْمَان، لَمْ نَعُدْ تَحْتَ مُؤَدِّب؛ لأَنَّكُم جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بَالإِيْمَان، في الـمَسِيحِ يَسُوع. فأَنْتُم جَمِيعَ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُم في الـمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ  الـمَسِيح. فلا يَهُودِيٌّ بَعْدُ ولا يُونَانِيّ، لا عَبْدٌ ولا حُرّ، لاَ ذَكَرٌ ولا أُنْثَى، فإِنَّكُم جَمِيعًا وَاحِدٌ في الـمَسِيحِ يَسُوع. فَإِنْ كُنْتُم لِلمَسِيح، فأَنْتُم إِذًا نَسْلُ إِبْراهِيم، ووَارِثُونَ بِحَسَبِ الوَعْد.

 

         يؤكد بولس الرسول ان الانسان يتبرر بالايمان بيسوع المسيح وبالمعمودية، لا من الشريعة التي قادت شعب الله القديم او سواه. فالشريعة (الناموس) انما هي طريق يرشد الانسان الى المسيح لكي يتبرر بالايمان. والايمان يصبح لنا المرشد في المسلك والموقف.

الايمان بالمسيح يكتمل بالمعمودية، فيلبس المؤمن ثوب النعمة المبرَّرة، وينزرع فيه الانسان الجديد على صورة المسيح. عبّر بولس عن هذه الحقيقة بقوله الذي اصبح نشيداً مسيحانياً: " انتم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح" ( غلا3/27). هذا يعني ان المعمودية اغتسال يطهّر ويقدس ويبرر(1كور6/11)، وانها موت وقيامة مع المسيح: موت عن الخطيئة والانسان القديم، وقيامة للنعمة والانسان الجديد. الثوب الابيض يرمز الى ان المعمّد " لبس المسيح"، والشمعة المضاءة تعني ان المسيح أناره، وانه أصبح بالمسيح  "نور العالم" ( متى5/14).

         بالايمان والمعمودية تظهر وحدة جسد المسيح في تعددية الاعضاء. هذه الوحدة تنتصر على كل الانقسامات البشرية، " فليس يهودي بعد ولا  رومي ولا عبد ولا حرّ ولا ذكر ولا انثى، بل كلكم واحد في يسوع المسيح" ( غلا3/28).

         يعلّم البابا بندكتوس السادس عشر[1] ان بولس الرسول يكشف، في رسالته الى اهل غلاطية، العلاقة القائمة بين الايمان والمحبة، وبين الايمان والاعمال. فيقول الرسول ان  "الايمان يكمل بالمحبة" ( غلا5/6) التي هي اولى ثمار الروح القدس في المؤمن، ويتبعها الفرح والسلام والصبر واللطف والصلاح والتواضع (غلا5/22-23). ويدعو من ناحية اخرى الى تجنب اعمال الجسد، الانسان العتيق والانتصار عليها وهي: الدعارة والنجاسة والعداوة والخصومة والغضب والبدع والحسد والقتل والسّكر وما شابهها ( غلا5/19-21).

         اما واننا قد تبررنا بعطية الايمان في المسيح، فنحن مدعوون لنعيش محبة المسيح تجاه القريب، كما علمنا اياها الرب يسوع في انجيل الدينونة الاخيرة (متى25/31-46). هذه المحبة المسيحية تولد من محبة المسيح الشاملة جميع الناس. انها تُلزم كل واحد منا بألاّ يعيش لنفسه، منغلقاً في انانيته، بل " في سبيل ذاك الذي مات وقام من اجلنا" ( 2كور 5/15). وبذلك تجعلنا خلقاً جديداً (2كور5/17)، وعضواً في جسده السرّي الذي هو الكنيسة.

         هذه المحبة امتدحها بولس الرسول في نشيده (1كور13/1-8).

         اما العلاقة بين الايمان والاعمال فنجد التوسع فيها في رسالة القديس يعقوب الرسول الذي يؤكد: " كما ان الجسد بدون روح ميتّ، كذلك الايمان ايضاً هو ميت بدون اعمال". والايمان اذا اقتصر على الكلام ولا يترجم بالاعمال لا ينفع بشيء من كان في حاجة (انظر يعقوب2/2-4). الايمان الحقيقي هو الذي يعمل في المحبة. عندئذٍ يكون شهادة للخلاص الذي نناله من الله بالايمان بيسوع المسيح، وعلامة لعمل الله فينا الذي يحرّك منا الارادة والافعال.

         يؤكد  قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ان المؤمن لا يستطيع استباحة كل شيء: المسلك العاطل، الخلافات والانقسامات في جسد المسيح الواحد، الذي هو الكنيسة، المشاركة في سرّ الافخارستيا واهمال الاخوة المعوزين، الاهتمام بالمواهب الخاصة من دون اي خدمة للاخوة. ان  ايماناً لا يتجسّد في اعمال المحبة يصبح تحكماً شخصانياً منغلقاً على الذات، رأياً ورؤية ومصالح، وينزل الضرر الكبير في الاخوة. ان بولس الرسول يدعونا  لنتذكر ان جسدنا هو هيكل الروح القدس، الساكن فينا، وقد قبلناه من الله، واننا لسنا بعدُ لانفسنا ( انظر 1كور6/19).

 

         2. الولادة من الماء والروح ( يوحنا 3/1-11)

 

         المعمودية هي سرّ الانارة. عن نورها كلّم الرب يسوع الوجيه نيقوديمس، رئيس اليهود، الذي قصده ليلاً، وهو يتخبط في ظلمة الشك والبحث عن الحقيقة. لقد نورّه بهذا التأكيد: " ان لم يولد الانسان ثانية من الماء والروح، لا يستطيع ان يدخل ملكوت الله. فالمولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح هو روح" ( يو3/5).

         لفظة معمودية في اللغة اليونانية baptizein تعني النزول في الماء، مثل يسوع في مياه الاردن، وترمز الى الدفن في موت المسيح والخروج منه بالقيامة معه خلقاً جديداً  (2كور5/17؛ غلا6/15).

         وتسمّى المعمودية " غسل الميلاد الثاني والتجدد بالروح القدس"  ( تيطس3/5)، لانها تحقق الولادة من الماء والروح، وتدخل المعمّد في ملكوت الله الذي هو الكنيسة، اي في الشركة العمودية التي هي الاتحاد بالله الثالوث، وفي الشركة الافقية التي  هي الوحدة مع الناس. هذه الشركة المزدوجة هي دخول في الخلاص بالنسبة الى الذين آمنوا بالمسيح وبانجيله واعتمدوا بالماء والروح. فالمعمودية تطهرهم من خطاياهم وتوليهم الولادة الجديدة بالروح القدس، فيصيروا ابناء الله بالابن الوحيد، ومشاركين في الحياة الالهية، واعضاء في جسد المسيح الذي هو الكنيسة، وهياكل الروح القدس، ووارثي المجد السماوي (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1265).

         ان النعمة المبررة التي ينالها المعمّد هي حلول الروح القدس عليه الذي يمكنّه من ثلاثة:

-         أن يؤمن بالله ويرجوه ويحبه.

-         أن يعيش ويعمل بقيادة الروح القدس ومواهبه.

-         أن ينمو في الخير مزيناً بالفضائل الخلقية.

وبهذا يعيش مقتضيات الانسان الجديد (المرجع نفسه،1266).

 

***

 

ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

البطريرك يوحنا الحلو ( 1809-1823)

هو من غوسطا-كسروان، كان في الاساس راهباً ثم نائباً بطريركياً. انتخبه بطريركاً مجمع المطارنة المنعقد في دير مار يوسف عينطوره في 8 حزيران 1809. منحه الشركة ودرع التثبيت البابا بيوس السابع ( 1800-1823) في 25 كانون الثاني 1810.

تميّز عهده بالاجراءات التالية:

1. تنفيذ قرارات المجمع اللبناني ( 1736) بتعيين كرسي خاص بكل ابرشية ليقيم فيه مطرانها، وفصل اديار الرهبان عن اديار الراهبات.

2. اعادة الكرسي البطريركي الى دير سيدة قنوبين، بعد نقله سنة 1808 الى دير مار شليطا مقبس في غوسطا. وكان دير قنوبين مهجوراً منذ عهد البطريرك يعقوب عواد (1705-1733), فانتقل اليه البطريرك سنة 1811 بعد ترميمه.

3. عقد مجمع اللويزه في 13 نيسان 1818، المعروف بمجمع البطريرك يوحنا الحلو. ثبّت البابا بيوس السابع هذا المجمع في 25 ايار 1819. من مقراراته:

أ- تعيين 7 اديار للراهبات، و6 اديار للرهبان، و5 اديار للعابدات، عملاً بقرار المجمع اللبناني.

ب- احياء مدرسة الروميّة في القليعات لتكون مدرسة عامة للطائفة.

ج- اقامة رؤساء ووكلاء على الاديار لترتيب وضبط مداخيلها.

 

4. عناية خاصة بانشاء المدارس، فالى جانب مدرسة الروميّة في القليعات حوّل البطريرك دير مار يوحنا مارون في كفرحي (البترون) الى مدرسة. كانت احدى المدارس الراقية في القرن التاسع عشر، وامتداداً  لمدارس عصر النهضة العلمية في لبنان الذي احياه الافواج الاوائل من خريجي المدرسة المارونية في رومية (1584).

5. تعزيز القضاء. عرف البطريرك يوحنا الحلو برجل القانون. كان في البدء مطراناً مشهوراً باحكامه القضائية في مواضيع مختلفة، اذ كانت صلاحيات الاساقفة تتناول، الى جانب الاحوال الشخصية، الحق المدني والتجاري والجزائي. هذه الولاية كانت ترقى الى عهد البيزنطيين فالى عهد العثمانيين.

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

         تبدأ الخطة اليوم بعرض النص المجمعي الثالث عشر:الرعية والعمل الرعوي. انه نص زاخر، يتضمن وضع الرعية اليوم، ومفهومها، ودورها في رسالة الكنيسة. ويتناول دور كاهن الرعية من خلال وظيفة التعليم والتقديس والتدبير. ويكشف اهمية المنظمات والحركات الرسولية. والكل يهدف الى مساعدة المؤمنين بالمسيح العلمانيين على اكتشاف دعوتهم وابعاد انتمائهم الى الرعية، كوسيلة للانتماء الى يسوع المسيح.

         الرعية المارونية في الاساس ريفية، لان الموارنة عاشوا منذ البداية في الارياف. والمجتمع الريفي متميّز بالعلاقات الاجتماعية الوطيدة بنتيجة اواصر القربى بعضهم الى بعض، ما ولّد حسّ التضامن والمشاركة والبقاء على قلب واحد من اجل الصمود بوجه المصاعب والمحن. وكانت ممارسة " العونة" لبناء بيت او قطف كرم او مساعدة مريض. واليوم تمارس في بناء الكنائس والقاعات الرعائية والاندية وسواها من مشاريع عامة.

         هذا الواقع انعكس على الحياة الرعوية. فكانت كنيسة الرعية مكان اجتماع اهل القرية، تقدم لهم فرص الالتقاء كالاعياد الكبيرة، وعيد شفيع الرعية، واحتفالات الاكاليل والجنازات وغيرها. وهكذا كانت الحياة الاجتماعية والحياة في الرعية تتدخلان.

         ولعبت الاديار دوراً مهماً في حياة الرعية الريفية. فكان يلتّف حولها المؤمنون في شركة حياتية. الرهبان، تمتّد الى الحياة الليتورجية والصلوات والالتزامات الدينية بالاتكال على العناية الطقسية. فكان للعلمانيين روحانية طبعت اعمالهم وحياتهم اليومية بالاتكال على العناية الالهية، وأغنتها بالخلقية وقيم التضحية.

         وكان لكاهن الرعية المقيم في القرية ومع اهلها حضور مميّز: احياء القداس اليومي والرتب والتساعيات، تعليم الاولاد، زيارة المرضى، الوقوف على حالة العائلات وحاجاتها. ما جعله مرجعاً مهماً لابناء القرية-الرعية.

         نجد التنظيمات للرعية والعمل الراعوي وطريقة خدمة الاسرار في مجمع قنوبين المنعقد سنة 1580 والمجامع اللاحقة: قنوبين 1696، وضيعة موسى 1598، وحراش 1644. اما المجمع اللبناني المنعقد في دير سيدة اللويزه سنة 1736، فقد أسحب في موضوع الرعية وكاهنها وترتيب العمل الرعوي من حيث خدمة الاسرار والوعظ والارشاد والتعليم للاولاد، وتنظيم سجلات المعمّدين والمتزوجين والمتوفين، وما يختّص بنظافة الهيكل والمذابح والاواني، وصيانة الزيوت المقدسة وحوض المعمودية.

         وننوّه اخيراً بحوار المحبة في الحياة اليومية الذي عاشه الموارنة مع سكان رعيتهم من الطوائف والاديان الاخرى، والذي تميّز بالانفتاح والمشاركة، بعيداً عن المجالات الدينية والسياسية (الفقرات 1-7).

 

***

  صلاة

 

         ايها الرب يسوع، يا ابن الله المتجسّد، لقد أشركتنا في البنوة الالهية، بواسطة الايمان والمعمودية. فاعطيتنا نعمة الولادة الثانية من الماء والروح، وألبستنا انساناً جديداً. ساعدنا، بانوار الروح القدس وقوة مواهبه، ان نسلك بموجب مقتضيات الانسان الجديد، وفقاً لثمار الروح. اعطنا ان نقرن الايمان باعمال المحبة الشاملة والمنفتحة على كل حالة من حالات اخوتنا. زيّنا بالفضائل الالهية الايمان والرجاء والمحبة، لحياة العقل في الحق، والارادة في الخير، والقلب في المحبة. افض علينا مواهب روحك القدوس لنعيش ونعمل على هديها. جمّلنا بالفضائل الاخلاقية لنشهد في القول والعمل والمسلك لانساننا الجديد. اجعل من رعايانا حقلاً ينمو فيه ملكوت الله من خلال عيشنا شركة الاتحاد بالله، وشركة الوحدة فيما بيننا. لك ايها الثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس كل مجد وتسبيح وحمد، الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 26 تشرين الثاني 2008.

 


 

تذكار الكهنة

رسالة القديس بولس الى طيموتاوس:\طيم 4/6-16

انجيل القديس لوقا: 12/42-48

الكاهن وكيل اسرارلاله

 

 

تبدأ مع هذا الاحد سلسلة التذكارات التي تسبق زمن الصوم، على مدى ثلاثة اسابيع، وهي اليوم تذكار الكهنة، ثم تذكار الابرار والصديقين، واخيراً تذكار الموتى المؤمنين. نتذكرّ ونذكر الكهنة. نتذكرّ الكهنة المتوفين ونصلي لراحة نفوسهم راجين لهم الراحة في الملكوت السماوي، ونصلي لهم ليشفعوا بنا لدى الله، هم الذين حملوا في هذه الدنيا صلاة التشفع. ونذكر في صلاتنا الكهنة الاحياء ليظلوا راسخين في امانتهم لتكريسهم ورسالتهم الكهنوتية. كما نصلي من اجل ثبات الدعوات الكهنوتية والرهبانية، ومن اجل قيام دعوات جديدة في الكنيسة تشهد لمحبة المسيح الخلاصية، وتتهيّأ لخدمة الانجيل.

 

اولاًُ عام القديس بولس وشرح الرسالة والانجيل

 

1. رسالة القديس بولس الى تلميذه طيموتاوس:1طيم4/6-16

 

فإِذَا عَرَضْتَ ذـلِكَ لِلإِخْوَة، تَكُونُ خَادِمًا صَالِحًا للمَسِيحِ يَسُوع، مُتَغَذِّيًا بِكَلامِ الإِيْمَانِ والتَّعْلِيمِ الـحَسَنِ الَّذي تَبِعْتَهُ. أَمَّا الـخُرَافَاتُ التَّافِهَة، وحِكَايَاتُ العَجَائِز، فَأَعْرِضْ عَنْهَا. وَرَوِّضْ نَفْسَكَ عَلى التَّقْوَى. فإِنَّ الرِّيَاضَةَ الـجَسَدِيَّةَ نَافِعةٌ بعْضَ الشَّيء، أَمَّا التَّقْوَى فَهِيَ نَافِعَةٌ لكُلِّ شَيء، لأَنَّ لَهَا وَعْدَ الـحَيَاةِ الـحَاضِرَةِ والآتِيَة. صادِقَةٌ هيَ الكَلِمَةُ وجَدِيرَةٌ بِكُلِّ قَبُول: إِنْ كُنَّا نَتْعَبُ ونُجَاهِد، فذـلِكَ لأَنَّنَا جَعَلْنَا رجَاءَنا في اللهِ الـحَيّ، الـَّذي هُوَ مُخلِّصُ الـنَّاس أَجْمَعِين، ولا سِيَّمَا الـمُؤْمِنِين. فأَوْصِ بِذـلكَ وعَلِّمْهُ. ولا تَدَعْ أَحَدًا يَسْتَهِينُ بِحَداثَةِ سِنِّكَ، بَلْ كُنْ مِثَالاً للمُؤْمِنِين، بِالكَلام، والسِّيرَة، والـمَحَبَّة، والإِيْمَان، والعَفَاف. وَاظِبْ عَلى إِعْلانِ الكَلِمَةِ والوَعْظِ والتَّعْلِيم، إِلى أَنْ أَجِيء. لا تُهْمِلِ الـمَوْهِبَةَ الَّتي فِيك، وقَد وُهِبَتْ لَكَ بالنُّبُوءَةِ معَ وَضْعِ أَيْدِي الشُّيُوخِ عَلَيك. إِهْتَمَّ بِتِلْكَ الأُمُور، وكُنْ مُواظِبًا عَلَيهَا، لِيَكُونَ تَقَدُّمُكَ واضِحًا لِلجَمِيع. إِنْتَبِهْ لِنَفْسِكَ وَلِتَعْلِيمِكَ، وَاثْبُتْ في ذـلِك. فإِذا فَعَلْتَ خَلَّصْتَ نَفسَكَ والَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ.

 

         هذه الرسالة كتبها بولس بين سنتي 64 و65 الى تلميذه الأحب طيموتاوس الذي سيخلفه في الخدمة الرسولية. رسائله الى تلميذه طيموتاوس وطيطس تدعى " الرسائل الرعائية"، لانها تتحدث عن تنظيم الكنيسة الناشئة، تنظيماً شاملاً ودقيقاً. في رسالة اليوم يتكلم بولس عن الكاهن الراعي المثالي، المدعو ليكون " خادماً صالحاً للمسيح يسوع، متغذياً بكلام الايمان والتعليم الحسن الذي تبعه" ( الآية6).

         ميزة الراعي الصالح، المسؤول عن الجماعة المسيحية، فضيلة التقوى اي التعب والجهاد مع المسيح في رسالة الانجيل الخلاصي، بثبات الرجاء في الله الحي الذي هو مخلص الناس. بهذه الفضيلة ننال وعد الحياة الحاضرة والآتية (الآيتان 8 و10).

         الكاهن صاحب خدمة تربطه بالجماعة المؤتمن عليها، وبكلمة الانجيل الموكولة اليه. هو مؤتمن على الجماعة، ليكون " مثالاً للمؤمنين بالكلام والسيرة والمحبة والايمان والعفاف" ( الآية12). ولقد اقامه الله في الكهنوت " لكمال القديسين-المؤمنين بالمسيح- ولعمل الخدمة، ولبنيان جسد المسيح-الذي هو الكنيسة" ( افسس4/12).

         والكاهن صاحب موهبة تربطه بخدمة كلمة الله ليعلنها كرازة وتعليماً بالمواظبة والامانة للموهبة المعطاة له بوضع يد الاسقف. فلا يحق له اهمالها (الآيتان13 و14).

         مطلوب من الكاهن ان يوازن دائماً بين الخدمة والموهبة، بين الهيكليات التنظيمية والمواظبة على خدمة الانجيل بالكرازة والتعليم. فيدعوه بولس الرسول " للانتباه الى نفسه"، الى فحص الضمير الدائم، الى النقد الذاتي، بشأن هذا التوازن. فهو بذلك يخلص نفسه والذين يسمعونه (الآية16).

 

         2. الكاهن وكيل اسرار الله : لوقا12/42-48

 

         في انجيل االيوم، الكاهن الوكيل مقام من المسيح، ومؤتمن على اسرار الله، " الطعام الذي يعطيه في حينه لبني بيته"، لجماعة الله، ويطلب اليه ان يكون اميناً للمسيح ولخدمة اسرار الخلاص وللجماعة الموكولة اليه؛ وان يكون حكيماً فينظر الى شعبه من منظار الله ويؤدي خدمته بالتقوى ومخافة الله التي هي السهر والانتباه لئلا يسيء الى الله بشيء في الخدمة وممارسة الموهبة " فرأس الحكمة مخافة الله"( امثال 9/10).

         أما " الطعام" فهو كلام الله وخبز جسد الرب ودمه، يقدمهما الكاهن بخدمة الكلمة (التعليم) وبخدمة الافخارستيا (التقديس).

         علّم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر مضمون هذه الخدمة في ضوء تعليم القديس بولس بمناسبة يوبيل الالفي سنة لميلاده [1] .

         غاية الخدمة الكهنوتية ان ينال الانسان، كل انسان، الايمان الذي بواسطته يدخل في تاريخ يسوع المسيح، الانسان والاله. انه التاريخ الجديد الذي يُطلق في العنصرة بدء بشرية جديدة، جماعة جديدة هي الكنيسة، جسد المسيح. خدمة الكاهن تهدف، في جوهرها ومبرر وجودها، الى تمكين المؤمن من الدخول في عالم الروح القدس، بحيث يضحي هذا الروح، وهو روح المسيح، روح كل مؤمن.

         واذ يتساءل قداسة البابا كيف يضحي الروح القدس روحي انا؟ يجيب: " يتمّ ذلك بواسطة كلمة الانجيل والاسرار، ولاسيما المعمودبة والقربان".

         الكاهن مؤتمن على هذه الوسائل، من خلال خدمة التعليم والتقديس، التي تشركه في وظائف المسيح النبي والكاهن بامتياز. هذه الوسائل تهب المؤمن الروح القدس الذي يلمس الانسان من الداخل، ويجمع البشرية الجديدة، ويخلقها جماعة موحّدة تتخطى كل انقسام.

         الايمان هبة من الله وثمرة سماع كلامه الذي ينادي به الكاهن ويعلمه. يقول بولس الرسول: " الايمان من السماع. كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا؟ وكيف يسمعون من دون مبشّر؟ وكيف يبشرون إن لم يرسلوا؟" (روم10/14،15،17). هذا هو دور الكاهن الاساسي. عليه ان يقوم بهذا الواجب الاولي " بامانة وحكمة". لا يتكلم الكاهن انطلاقاً من ذاته، بل من كونه مرسلاً. فيعلن الكلمة باسم المسيح. والكلمة هي المسيح ابن الله الذي صار بشراً، لكي يخلق بشرية جديدة.

         سامع الكلمة والمؤمن بها يولد ولادة ثانية من الماء والروح بالمعمودية، على ما يقول يوحنا الرسول (يو3/5). بهذه الولادة الثانية يدخل المؤمن تاريخ يسوع المسيح، وينتمي الى البشرية الجديدة، التي هي الكنيسة.

         في رسالته الى اهل روما يتحدث بولس الرسول عن المعمودية بشكل عميق..قال: " أتجهلون اننا، وقد اعتمدنا جميعاً في يسوع المسيح، انما اعتمدنا في موته، فدفنا معه في موته بالمعمودية، لنحيا نحن ايضاً حياة جديدة، كما اقيم المسيح من بين الاموات بمجد الآب؟" (روم6/3-4).

         علّق البابا بندكتوس على هذا النص بثلاثة:

         أ- المعمودية: لقد اعتمدنا بصيغة بالمجهول حسب النص اليوناني، للدلالة ان لا احد يستطيع ان يعمّد ذاته، بل يحتاج الى آخر. نصبح مسيحيين بفضل آخر، لا من تلقاء نفسنا. هذا " الآخر" هو اولاً يسوع المسيح، وثانياً الكنيسة بالوساطة، فهي جماعة المؤمنين التي منها نتقبّل، بواسطة الخدمة الكهنوتية، الايمان والمعمودية.

         ب- في المعمودية عملية موت وقيامة. ليست المعمودية مجرد غسل خارجي. بل هي تحوّل في الحياة لدى اللقاء بالمسيح. بها تبدأ حياة جديدة قائمة على الموت عن الخطيئة وكل عتيق، والقيامة لحياة النعمة وكيان جديد ورؤية جديدة.

         ج- الحياة الجديدة. ليست المسيحية واقعاً روحياً بحتاً، بل تشمل الجسد والكون، وتمتد نحو الارض الجديدة والسماء الجديدة. ننتمي الى الكنيسة بالمعمودية " لنحيا حياة جديدة". دور الكاهن انعاش وتعزيز هذه الحياة الجديدة، بدءاً من نفسه، وصولاً الى الجماعة.

 

***


 

ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

البطريرك يوسف حبيش (1823-1845)

 

         وُلد في ساحل علما في 27 نيسان 1787، دخل اكليريكية عين ورقه بعمر 22 سنة واتقن اللغات العربية والسريانية والايطالية واللاتينية، ونبغ في الفلسفة واللاهوت والعلوم الطبيعية. تميّز بالنباهة والرصانة والتقوى ودماثة الاخلاق والاتزان والتمسّك بالعقيدة الكاثوليكية السليمة والحرص على تنفيذ مقررات المجمع اللبناني (1736). انتخب مطراناً لابرشية طرابلس سنة 1820 وهو بعمر 33 سنة، وبعد ثلاث سنوات اي سنة 1823 اُنتخب بطريركاً خلفاً للبطريرك يوحنا الحلو، وهو بعمر 36 سنة. انه اول بطريرك من مدرسة عين ورقه، واصغر بطريرك في الطائفة المارونية مع البطريرك يوسف التيان (1796-1909).

         تميّزت بطريركيته بنهضة عمرانية مزدهرة في الحقلين الديني والمدني،وتخللتها نكبات واضطرابات.

 

1.     على مستوى النهضة الثقافية الدينية

تأسست في عهده كل من مدرسة واكليريكية مار عبدا هرهريا في جديدة غزير (1830)، ومدرسة ريفون (1832)، ومدرسة غزير مع الآباء اليسوعيين (1843)، ومدرسة مار شليطا قرب مشموشة.

وأسس جمعية من الكهنة للوعظ والتبشير في القرى المارونية، للمحافظة على الايمان والآداب السليمة في سنة 1840، وكانت معروفة " بجمعية المرسلين الانجيليين". ثم اتخذت هذه الجمعية دفعاً نهائياً مع المطران يوحنا الحبيب، رجل الالهام الكبير، واصبحت " جمعية المرسلين اللبنانيين".

كان هاجسه اليومي تثقيف المؤمنين ثقافة دينية صحيحة. فألزم الكهنة بمنشور في 15 تشرين الثاني 1831 بأن يعلّموا التعليم الديني لابناء رعاياهم في كل يوم أحد وعيد. لاحق الذين يهملون واجباتهم الدينية او يسلكون مسلكاً منافياً للآداب المسيحية. فكان يبادر الى التنبيه والتوبيخ والتهديد بالحرم والتشديد على الكاهن لارجاعه الى الطريق السّوي. وقد قاوم البطريرك بدعة البيبليشيين الذين كانون يتهجمون على كرامة الطائفة المارونية ورؤسائها وقديسيها. فاشهر الحرم ضدهم، وحرّم اقتناء كتبهم وحضور صلواتهم وسماع مواعظهم تحت طائلة الحرم والحطّ من الدرجة.

اولى الرهبان والراهبات عناية خاصة، فكان يعتبر ان " الرهبانيات قوة عظيمة في الكنيسة. فلو اُحسن تنظيمها وتوجيهها والسهر عليها في سبيل المنفعة لقامت باعظم الاعمال واتت بأجلّ الفوائد".

نجد تفاصيل اهتماماته الراعوية في التقرير الذي وجهه الى البابا غريغوريوس السادس عشر بتاريخ 23 كانون الاول 1831 [2]

 

2. على مستوى الشأن الوطني، تعامل البطريرك يوسف حبيش مع الاحداث الدامية التي جرت في سنتي 1840 و1841 بين الدروز والمسيحيين، بكثير من الفطنة والنشاط لتقريب وجهات النظر وجمع القلوب. فجمع اعيان الطائفة واصحاب الرأي وسجّلوا اتفاقاً من ثماني نقاط، بتاريخ 17 تشرين الاول 1841، ووقّعوها على ست نسخ[3].

وبفضل حكمة البطريرك وجهوده،  وفي اثر هزيمة ابراهيم باشا، ونفي الامير بشير الشهابي الكبير الى مالطه بسبب تحالفه مع ابراهيم باشا سنة 1840، انعقدت عاميّة انطلياس بحضور عدد من الاكليروس والمشايخ والاعيان من دروز ونصارى، يتقدمهم الامير حيدر ابي اللمع، صديق البطريرك وذراعه في الدفاع عن لبنان. تعاهد الدروز والمسيحيون على طرد الاجانب من لبنان، لاستعادة الحرّية ورفع نير العبودية. 


 

3. وفاة البطريرك

على اثر تجدد الاحداث الدامية بين الدروز والموارنة سنة 1845، وبسبب ما ينزل بابناء طائفته من قتل واعتداء وتدمير، تأثّر تأثراً بليغاً ومات تحت وطأة الصدمة في 23 ايار 1845 في الديمان، ودُفن في كنيسة سيدة قنوبين في الوادي المقدس عن 58 سنة من العمر.

 

***

 

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تتناول الخطة الراعوية من النص المجمعي 13: " الرعية والعمل الراعوي موضوع: واقع الرعية المارونية الحاضر (الفقرات 8 و9).

1. تواجه الرعية اليوم تحدياً كبيراً. فالوضع الاقتصادي والاجتماعي اثّر بالعمق في واقع الرعية الريفية والمدينية. لقد نزح عدد كبير للغاية من المناطق الجبلية الى المدن الساحلية طلباً للعمل والعلم والاستشفاء. فتنامى عدد المؤمنين في رعايا الساحل حتى الاكتظاظ، وضعف في رعايا الجبل حتى غياب عدد وفير من الاولاد والشباب.

تحتاج الرعية المدينية الى نشاط راعوي مع فئات المجتمع المتنوعة، وبات على العمل الراعوي ان يتوجّه هو الى المؤمنين حيث هم، فيما كان المؤمنون يتوجهون اصلاً الى رعيتهم، كاهناً وكنيسة ومكان التلاقي.

وتحتاج الرعية الريفية الى عمل راعوي خاص يتبدّل في فصل الصيف.

 

2. ثمة تحدٍ آخر على صعيد الكهنة والمؤمنين.

يتمّيز الكهنة فيما بينهم بالثقافة والغيرة والروحانية والنشاط. فهناك من يكتفي بالحدّ الادنى من الخدمة، ومن يهتمّ بالرعية على نحو أكمل. ما يقتضي تنشئة مستمرة للكهنة، ومبادرات انعاش لروحانيتهم، وسهراً على ادائهم، وايجاد السبل لسدّ الثغرات في عملهم الروحي والراعوي.

ويختلف المؤمنون في الرعية نفسها على مستوى الممارسة الدينية، بحيث يقسمهم النص الى ثلاث فئات:

فئة الملتزمين: يمارسون الحياة الاسرارية، ويعاونون كاهن الرعية في مختلف النشاطات الروحية والليتورجية والاجتماعية. انهم بمثابة الخميرة في عجين الرعية.

فئة الممارسين: يشاركون في الحياة الاسرارية بشكل منتظم، لكنهم لا يلتزمون برسالة او نشاط داخل الرعية. يلاحظ ان عدد النساء اكبر من عدد الرجال.

فئة الموسميين: تقتصر ممارستهم على بعض المناسبات والاعياد الكبرى.

 

         3. ثمة دور لافت في العمل الراعوي والرعائي للمكرسين والمكرسات المقيمين في الرعية والعاملين فيها، وللمنظمات والحركات الرسولية التي تقوم بدور ملحوظ في احياء جوقة الرعية، وتحضير المناولة الاولى، وفي المشاركة باللجان العاملة في الرعية والابرشية، ولاسيما في المجلس الرعائي.

 

         4. لا بدّ، امام هذا الواقع، من اتخاذ تدابير تشمل:

         - التنشئة المستمرة للكهنة.

         - التنشئة للعلمانيين واشراكهم في حياة الرعية ونشاطاتها.

         - تقسيم الرعايا الكبيرة ضمن حدود مرسومة.

         - احياء الاحتفالات الليتورجية والرتب والتساعيات باداء منظم يجعل مشاركة المؤمنين واعية وفاعلة.

***

         صلاة 

         ايها الرب يسوع، الكاهن الازلي، مثال كهنة العهد الجديد، اسكب نعمتك في قلوب الكهنة لكي يكونوا خداماً صالحين لك، ووكلاء امناء وحكماء على اسرار الله للحياة الجديدة. افض عليهم نعمة القداسة ليكونوا مثالاً للمؤمنين بالكلام والسيرة والمحبة والايمان والعفاف. ضع في قلوبهم غيرة بولس الرسول لكي لا يهملوا الموهبة التي زيّنتهم بها، بل يواظب كل واحد منهم على اعلان كلمة الحياة والوعظ والتعليم. حرّك قلوب جميع الناس ليصغوا الى كلام الانجيل، فينالوا الايمان وتتجدد حياتهم بنعمة المعمودية، ويشهدوا لها بجدّة الحياة التي يطبعون بها شؤونهم الزمنية. اجمعهم بروحك القدوس في رعيتهم، ليكونوا معاً جسدك السّري برباط الوحدة والتضامن والمحبة. ونرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلة الاربعاء 10 كانون الاول 2008.

[2] . انظر التقرير لدى الاباتي بطرس فهد: بطاركة الموارنة واساقفتهم القرن 19، صفحة 238-246.

[3] . انظر النص في المرجع نفسه، صفحة 234-238.

 


 

تذكار الابرار والصديقين

رسالة القديس بولس الرسول الى العبرانيين:12/18-24

انجيل القديس متى 25/31-46

مواطنون في مدينة الله الحي

        

         تذكر الكنيسة اليوم كنيسة السماء الممجدة حيث الابرار والصديقون يسكنون"مدينة الله الحي، اورشليم السماوية"، كما يسمّيها بولس الرسول (عبرانيين 12/22). هؤلاء الذين ينعمون بمشاهدة وجه الله السعيدة. بفضل ايمانهم والتزامهم ومحبتهم. ان رسالة القديس بولس لهذا الاحد تتحدث عن " مدينة الله" هذه وعن سكانها. اما الانجيل فيتكلم عن الوسيلة للبلوغ الى مدينة الله الخلاصية، وهي المحبة الشاملة.

 

اولاً، يوبيل القديس بولس وشرح الرسالة والانجيل

 

1. رسالة القديس بولس الى العبرانيين12/18-24- مدينة الله الحي

 

فَإِنَّكُم لَمْ تَقْتَرِبُوا إِلى جَبَلٍ مَلْمُوس، ونارٍ مُتَّقِدَة، وضَبَابٍ وظَلامٍ وزَوبَعَة، وهُتَافِ بُوق، وصَوتِ كَلِمَاتٍ طَلَبَ الَّذِينَ سَمِعُوهَا أَلاَّ يُزَادُوا مِنهَا كَلِمَة؛ لأَنَّهُم لَمْ يُطِيقُوا تَحَمُّلَ هـذَا الأَمْر: "ولَو أَنَّ بَهِيمَةً مَسَّتِ الـجَبَلَ تُرْجَم!". وكانَ الـمَنْظَرُ رَهِيبًا حَتَّى  إِنَّ مُوسَى قال: "إِنِّي خَائِفٌ ومُرْتَعِد!". بَلِ اقْتَرَبْتُم إِلى جَبَلِ صِهْيُون، وإِلى مَدِينَةِ اللهِ الـحَيّ، أُورَشَلِيمَ السَّماوِيَّة، وإِلى عَشَرَاتِ الأُلُوفِ منَ الـمَلائِكَة، وإِلى عِيدٍ حَافِل، وإِلى كَنِيسَةِ الأَبْكَارِ الـمَكْتُوبِينَ في السَّمَاوَات، وإِلى اللهِ ديَّانِ الـجَمِيع، وإِلى أَرْواحِ الأَبْرَارِ الَّذِينَ بَلَغُوا الكَمَال، وإِلى وَسِيطِ العَهْدِ الـجَدِيد، يَسُوع، وإِلى دَمِ رَشٍّ يَنْطِقُ بكَلاَمٍ أَفْضَلَ مِنْ دَمِ هَابِيل!

 

مع المسيح بدأت مسيرة البشرية الجديدة نحو "مدينة الله الحي، اورشليم السماوية" التي تكمّل مدينة الارض المرموز اليها بجبل سينا حيث اعطي الوحي لشعب الله القديم عبر الوصايا والشريعة على ي موسى. وكان الشعب يعتبر ان الله ساكن على جبل ارضي ملموس، عليه نار متّقدة، ويظلله ضباب، ويكتنفه ظلام وترعده زوبعة، ويُسمع عليه هتاف بوق (انظر الآيتين 18 و19).

اما مدينة الله الحي، اورشليم السماوية فمرموز اليها " بجبل صهيون"، " مكان" العهد الجديد بوساطة المسيح ودمه الذي به افتدى البشرية، وقرّبها من الله بالثقة والبهاء. وهو دم ناطق اكثر من دم هابيل (الآيتان 22 و24). فدم المسيح يصرخ من السماء، اما دم هابيل فمن الارض.

بفضل دم المسيح وُلدنا ولادة ثانية من الماء والروح، لنكون مواطني " مدينة الله الحي"، وقد نلنا كرامة الابناء بالابن الوحيد. دم المسيح الصارخ من السماء اعطانا الخلاص، وكتب اسماءنا في سفر الحياة في السماء (لوقا10/20؛ فيليبي4/3).

بوساطة كأس دم المسيح وخبز جسده في سرّ القربان، النابع من سرّ محبته العظمى، وبالشهادة لمحبته في خدمة اخوتنا بكل حاجاتهم المادية والمعنوية والروحية، نستطيع الوصول الى الله، الى الشركة الحقيقية معه. الابرار والصديقون هم هؤلاء الذين دخلوا في عمق هذه الشركة على الارض، ويتمجدون بها في السماء في " عيد حافل"، حيث يشكلّون " كنيسة الابكار المكتوبين في السماء، والابرار الذين بلغوا الكمال" (الآيتان 22 و23).

 

1.     انجيل القديس متى :25/31-46-المحبة هي السبيل الى مدينة الله الحي.

 

في انجيل الدينونة العامة، يؤكد الرب يسوع اننا سنُدان على المحبة، لنكون من مواطني " مدينة الله الحي"، اورشليم السماوية".

فالذين يشهدون لمحبته يمنحهم الثواب الابدي: " تعالوا، يا مباركي ابي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ انشاء العالم" (متى25/34)، اما الذين لم يشهدوا لمحبته وخنقوها بانانيتهم وعبادة ذواتهم، فمصيرهم الهلاك الابدي: " اذهبوا عني، يا ملاعين الى النار الابدية المعدّة لابليس وجنوده" (متى25/41).

يفصّل الرب يسوع مجالات الشهادة للمحبة التي تشمل الانسان في كل ظروف حياته المادية والروحية والمعنوية.

الجوع الى الخبز المادي، والى كلام الله، والى نعمة الخلاص، والى العدالة الحقيقية.

العطش الى الماء المادي، والى ماء المعمودية والتوبة، والى المحبة والرحمة.

 العري من اللباس المادي، ومن الكرامة وحسن الصيت، ومن القيم الروحية

         والاخلاقية والاجتماعية.

المرض في الجسد وفي النفس وفي الروح،  وهو مرض حسّي واعاقة، ومرض

         نفساني وعصبي، ومرض روحي: الكبرياء والازدواجية والنفاق والحزن،

        واليأس....

السجن سواء وراء القضبان الحديدية، ام وراء روابط العبودية والاستعباد للذات

         وللغرائز والشهوات، ام الاستعباد لاشخاص وانظمة وايديولوجيات.

الغربة الوطنية والاجتماعية، والغربة عن الله بالالحاد او الاستغناء عن الله؛ والغربة

       عن ملكوت اللهن الناشىء في الكنيسة، بالعيش خارج الشركة مع الله باهمال

       الممارسة الدينية، وخارج الشركة مع الكنيسة بالعيش في حالة الخطيئة

       والابتعاد عن الانجيل والاسرار وحياة الجماعة الراعوية المنظمة؛ والغربة

       النفسية عن  محيط العائلة والمجتمع والوطن.

ان الذين يمرون باحدى هذه الحالات، وكلنا دونما استثناء نمر فيها، هؤلاء ونحن منهم يدعوهم الرب يسوع" اخوتي الصغار" الذين يتماهى معهم. فكل ما نصنعه اليهم، فالى المسيح نصنعه. وكل ما لا نصنعه لهم، لا نصنعه للمسيح (متى25/40 و45).

كلنا مدعوون لنعيش حضارة المحبة، ولنتقبلها. فعليها سندان. وبها منوط دخولنا الى " مدينة الله الحي، اورشليم العليا".

 

2.     سرّ الافخارستيا مشاركة في حضارة المحبة

يكتمل مضمون الرسالة والانجيل بتعليم البابا بندكتوس السادس عشر بمناسبة يوبيل القديس بولس الرسول [1]، عن سرّ الافخارستيا باعتماد نصين.

النص الاول، كأس العهد الجديد بدم المسيح"

" ان الرب في الليلة التي اُسلم فيها اخذ خبزاً وشكر ثم كسره وقال:

" هذا هو جسدي، يُبذل من اجلكم..". وصنع مثل ذلك على الكأس وقال:

" هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي..." (1كور11/23-25).

بهذه الكأس يهب الرب يسوع الذبيحة الحقة والعبادة الحقة، التي كان الاستعداد لها والتوق اليها في العهد القديم بدم الحيوانات ( خروج24/8). هذه الذبيحة الحقة هي محبة المسيح ابن الله، بواسطته يدخل العالم في العهد الجديد، عهد حضارة المحبة. في سرّ القربان يهبنا المسيح ذاته وحبّه، لكي يجعلنا مشابهين له، ولكي يخلق بالتالي العالم الجديد.

 

النص الثاني: المشاركة في جسد المسيح الواحد.

" أليست كأس البركة، التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فلما كان هناك خبز واخد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لاننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد" ( 1كور10/16-17).

يظهر في هذه الكلمات البُعد الشخصي والبُعد الاجتماعي لسرّ القربان في اربعة وجوه:

أ- يتحد المسيح شخصياً بكل واحد منا، يتحد بي كما  وبالآخر. خبزه هو لي وللآخر ايضاً.

ب- المسيح يوحّدنا هكذا جميعاً بذاته، ويوحّدنا احدنا بالآخر. التقي المسيح في المناولة؛ ولكنه يتحّد بالشكل عينه بقريبي.

ج- بهذا الشكل نحن جميعاً خبز واحد، وجسد واحد ،ما يعني اننا نعيش في الوحدة والتضامن، مسؤولين كلنا عن كلنا.

د- في الافخارستيا، يهبنا المسيح جسده، يهبنا ذاته في جسده، ويجعل منا بالتالي جسده، ويضمنا الى جسده القائم من الموت. عندما آكل الخبز العادي، يضحي هذا الخبز عبر عملية الهضم جزءاً من جسدي، ويتحوّل الى مادة بشرية. ولكن في المناولة المقدسة، تتحقق العملية المعاكسة. يستوعبتي المسيح في ذاته، ويدخلني في جسده الممجّد، فنصبح كلنا سوية جسده هو.

على صورة هذا الجسد، تصبح العائلة الدموية الصغيرة، وتصبح الامّة، والاسرة البشرية الاكبر. هذه هي حضارة المحبة التي تستبق على الارض بناء " مدينة الله الحي" التي سنبلغ اليها في السماء.

 

***

 

ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

         البطريرك يوسف راجي الخازن(1845-1854)

         هو من بلدة عجلتون، كان مطراناً لدمشق منذ سنة 1830. انتخب بطريركاً في دير مار يوحنا مارون بالديمان في 16 آب 1845. كان معروفاً  بالدعة والحلم والمثل الصالح. اضطر فور انتخابه الى مغادرة كرسيه في الديمان، بسبب المظاهرات التي قام بها ضد البطريرك الجديد اهالي بشري والجبّه، لانهم كانوا يريدون بطريركاً المطران بولس مسعد. فقصد دير سيدة البشارة في زوق مكايل واحتفل بقداس التنصيب في 24 آب 1854[2]

1.     حفظ وحدة الايمان والكنيسة المارونية

كان البطريرك يوسف الخازن غيوراً ومتفانياً ومحباً لكنيسته ومحافظاً على ايمان ابنائها وعلى تقاليدها.

أ- سهر على الترتيب الكنسي بمنع الكهنة من سماع اعتراف المؤمنين في بيوتهم، ما خلا في حالة المرض ولسبب ثقيل، كما جاء في تعليم المجمع اللبناني (1736). وبعد استئذان قداسة البابا، أمر بقصاص الربط عن الالهيات كل كاهن يخالف هذا الترتيب،.

ب- شجب اعمال الروتستانت المعروفين بالبيليشيين، بفتح مدارس مجانية في الجبل وجذب الاولاد الموارنة وتعليمهم تعاليم مجانية لتجنيب اولادهم الذهاب الى المدارس التي تعلّمهم ما يخالف الايمان الكاثوليكي، وطلب مساعدة مطران باريس لهذه الغاية[3].

ج- التوسط في اوروبا لمساعدة ابرشية صيدا بعد نكبتها في كرسيّها وشعبها وممتلكاتها على مدى سنوات الاحداث الدامية من سنة (1841 الى 1845). وقد أحرق الدروز مدرسة الابرشية مرتين، وحرقوا خمساً وستين كنيسة في هذه الابرشية[4].

د- الاهتمام بارجاع المطران طوبيا عون الى ابرشيته بيروت[5]، والعمل على مساعدتها مالياً للخروج من ضائقتها الاقتصادية.

ه- الاهتمام برفع الظلم عن موارنة حلب الذين يعتدي عليهم مسلمو المدينة. وقد خربوا كل ما وصلت اليه ايديهم في المطرانية والكنائس[6].

 

2.     العلاقة مع السلطات المدنية

تعاون البطريرك يوسف راجي الخازن مع السلطة العثمانية على حفظ حقوق اكليروس الطوائف الكاثوليكية، وحقوق كنائسهم واديارهم وممتلكاتهم، وعلى صيانة امتيازاتهم ومنع وقوع اي خلل فيها[7].

طالب البطريرك السلطة العثمانية بحقوق ابنائه الموارنة الذين تضرروا من الاحداث الدامية بينهم وبين الدروز سنة 1845، ومن دخول العسكر النظامي التركي الى الجبل رغماً عن اللبنانيين لنزع السلاح، خارقاً بذلك امتيازات لبنان. وقد أقدم هذا العسكر على السلب والنهب بحجة نزع السلاح. ثم طلب البطريرك وساطة قنصل فرنسا لهذه الغاية سنة 1850.

كانت وفاة البطريرك يوسف الخازن في 3 تشرين الثاني 1854 في دير مار يوحنا مارون- الديمان، ودُفن في دير سيدة قنوبين في ضريح البطريرك يوحنا الحلو. 

*** 

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

تتناول الخطة الراعوية من النص المجمعي 13: الرعية والعمل الراعوي، موضوع: الانتماء الى الرعية (الفقرات 11-16)

1. ليس الانتماء الى الرعية مجرد تنظيم قانوني على قاعدة جغرافية، بل انه يرتكز على اسس لاهوتية تحدد هوية الرعية ومفهوم الانتماء اليها.

الرعية هي تجسيد للكنيسة السّر والشركة والرسالة. فيها كل وسائل الاتحاد بالله، اعني الانجيل والاسرار وعقيدة الايمان. وهي مكان الشركة الاخوية بعيش الوحدة بين جميع الناس وممارسة فضيلة التضامن والتعاون. وهي حقل الرسالة المسيحية.

ان جماعتها تؤلف جسد المسيح السّري، الذي يشبّهه الرب يسوع بالكرمة والاغصان، ليبيّن ابعاد السّر والشركة والرسالة في الكنيسة المصغرة التي هي الرعية.

الانتماء الى الرعية مشبّه بثبات الغصن في الكرمة. من خلال انتماء الافراد شخصياً تتكون الشركة فيما بينهم، كما يؤلف الاغصان الكرمة الغنية الناشطة. ومثلما كل غصن يأتي بالثمار، ينبغي ان يلتزم ابناء الرعية وبناتها بحياتها ورسالة الكنيسة.

 

2. من هذا المفهوم اللاهوتي، يأتي التنظيم القانوني بأن تُمارس الاسرار في كنيسة الرعية ولاسيما منها قداس الاحد والمعمودية والمناولة الاولى والزواج وجنازة الموتى. وليس من داعٍ ومبرر لممارستها خارج كنيسة الرعية التي تؤلف جسد المسيح من خلال ممارسة الاسرارية وفي مقدمتها الليتورجيا الالهية المعروفة بالقداس.

ويقتضي التنظيم القانوني تدبيراً راعوياً ملائماً في الرعايا الريفية والرعايا المدينية وفقاً لاوضاعها ولعدد مؤمنيها. ما يتطلب تعاوناً بين الكهنة المتجاورين، وبين الكهنة الاصلييين والكهنة معاونيهم ومساعديهم، ومع المنظمات الرسولية.

3. ويوصي المجمع بالتعاون بين الرعايا المدينية والرعايا الريفية، بين الكبيرة والصغيرة في المجالات الروحية والرسولية والترفيهية والاجتماعية والثقافية، ولاسيما في فصل الصيف لاحياء المخيمات والاعمال الرسولية والرياضات الروحية ولقاءات التعاون.

ويوصي ايضاً بالتعاون بين كهنة الرعايا والمؤسسات الرهبانية بروح الشركة-الكنسية، فيضع الرهبان والراهبات طاقاتهم في خدمة النفوس، ويثمّروا مواهبهم في العمل الروحي والراعوي، لصالح ابناء الرعية والمنطقة التي يتواجدون فيها.

 

***

صلاة

ايها الرب يسوع علمتنا حضارة المحبة، وتركتها لنا في سرّ القربان، لنشارك فيها ونطبع بها ثقافتنا العائلية والاجتماعية والوطنية. عاش الابرار والصديقون، في عائلاتهم وكنيستهم والمجتمع والاوطان، شريعة المحبة، وكتبوا صفحات مجيدة في تاريخ المسيحية، وهو تاريخ البشرية الجديدة. هب لنا ان نتخذهم مثالاً لنا وقدوة، فنبلغ مثلهم الى مدينة الله الحي في السماء، حيث كُتبتْ اسماؤنا منذ  ولادتنا الثانية من المعمودية بالماء والروح. ساعد المؤمنين لكي يدركوا ان انتماءهم الى مدينة الله في السماء يبدأ على الارض في الكنيسة، سرّ جسدك في رعيتهم، ليعيشوا فيها متضامنين بروح المسؤولية وبفرح خدمة المحبة وسخائها تجاه الاخوة الصغار، وكلنا منهم، وكلنا لهم. وانّا الى محبة الآب ونعمة الابن وحلول الروح المحيي نرفع كل مجد واكرام وشكر الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 10 كانون الاول 2008

[2] . انظر تقريره المسهب عن هذه الاحداث لدى الاباتي بطرس فهد: بطاركة الموارنة واساقفتهم القرن 19،صفحة 324-326.

[3]  انظر رسالته الى الكردينال رئيس مجمع نشر الايمان بتاريخ 27 شباط 1846 لطلب وساطته، المرجع نفسه ص 330-332.

[4] . انظر رسالة المطران عبدالله البستاني وما فيها من تفاصيل في المرجع نفسه ص 323=324.

[5] . انظر وصف حالتها المتردية بسبب غياب مطرانها عنها مدة 12 سنة في رسالة المطران طوبيا عون الى رئيس مجمع نشر الايمان بتاريخ25 كانون الثاني 1848، في المرجع نفسه،ص 337-338.

[6]. انظر رسالة البطريرك بهذا الخصوص الى رئيس مجمع نشر الايمان، المرجع نفسه،ص 338.

[7] . انظر المراسلة بين البطريرك ووالي بيروت وامق باشا، المرجع نفسه، ص344-345، وبين البطريرك والكرسي الرسولي، ص 346-348

 


 

تذكار الموتى المؤمنين

رسالة القديس بولس الى اهل تسالونيكي 5/1-11

انجيل القديس لوقا 16/19-31

بنور الايمان والرجاء والمحبة نحيا وننتظر الموت

 

نذكر اليوم موتانا وسائر الموتى المؤمنين الذين هم في حالة المطهر، اي حالة التنقية من آثار الخطايا والشرور، استعداداً وتأهيلاً لمشاهدة وجه الله في سعادة السماء. في ذكراهم يكشف لنا بولس الرسول في رسالة هذا الاحد ان حياتنا التاريخية مسيرة في النور، استعداداً لملاقاة الله عند ساعة الموت. والرب يسوع في الانجيل يكشف لنا ان مسيرة النور هي عيش المحبة بتقاسم الخيرات المادية والروحية والثقافية مع من هم في عوز وحاجة اليها. من يمارس المحبة والتقاسم يسير في النور الهادي الى الخلاص الابدي، والذي لا يمارسها يعبيش في ظلمة تؤدي به الى الهلاك الابدي في جهنم النار.

 

اولاً عام القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والانجيل

 

1.      رسالة القديس بولس الى اهل تسالونيكي:1 تس5/1-11

 

أَمَّا الأَزْمِنَةُ والأَوقَات، أَيُّهَا الإِخْوَة، فلا حَاجَةَ بِكُم أَنْ يُكْتَبَ إِلَيْكُم في شَأْنِهَا؛ لأَنَّكُم تَعْلَمُونَ جَيِّدًا أَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ يأْتي كَالسَّارِقِ لَيْلاً. فحِينَ يَقُولُون: سَلامٌ وأَمْنٌ! حِينَئِذٍ يَدْهَمُهُمُ الـهَلاكُ دَهْمَ الْمَخَاضِ لِلحُبْلى، ولا يُفْلِتُون. أَمَّا أَنْتُم، أَيُّها الإِخْوَة، فَلَسْتُم في ظُلْمَةٍ لِيُفَاجِئَكُم ذـلِكَ اليَومُ كالسَّارِق. فأَنْتُم كُلُّكُم أَبْنَاءُ النُّور، وأَبْنَاءُ النَّهَار؛ ولَسْنَا أَبْنَاءَ اللَّيلِ ولا أَبْنَاءَ الظُّلْمَة. إِذًا فلا نَنَمْ كَسَائِر الـنَّاس، بَلْ لِنَسْهَرْ وَنَصْحُ؛ لأَنَّ الَّذِينَ يَنَامُونَ فَفي اللَّيلِ يَنَامُون، والَّذِينَ يَسْكَرُونَ فَفي اللَّيلِ يَسْكَرُون.أَمَّا نَحْنُ أَبْنَاءَ النَّهَار، فَلْنَصْحُ لابِسِينَ دِرْعَ الإِيْمَانِ والـمَحَبَّة، ووَاضِعِينَ خُوذَةَ رَجَاءِ الـخَلاص. فإِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلغَضَب، بَلْ لإِحْرَازِ الـخَلاصِ بَرَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيح، الَّذي مَاتَ مِنْ أَجْلِنَا، لِنَحْيَا مَعَهُ سَاهِرِينَ كُنَّا أَمْ نِائِمِين. فَلِذـلِكَ شَجِّعُوا بَعضُكُم بَعْضًا، وَلْيَبْنِ الوَاحِدُ الآخَر، كَمَا أَنْتُم فَاعِلُون.

 

الحياة التاريخية مسيرة في نور كلمة الله الهادية للعقول، ونعمته الشافية للارادات، ومحبته المنعشة للقلوب. بالمعمودية، المدعوّة " سرّ الاستنارة"، ينال المسيحي نور الفضائل الالهية: الايمان للعقل، والرجاء للارادة، والمحبة للقلب. بها ينصرف الى بناء حياته التاريخية في العائلة والمجتمع والكنيسة، ويستعد لمواجهة " مجيء الرب" عند ساعة الموت. هكذا يخاطب المسيحيين الذين استناروا بالمعمودية:

" انتم ابناء النور وابناء النهار، لا ابناء الليل ولا ابناء الظلمة.

فلنصحُ اذن لابسين درع الايمان والمحبة، وواضعين خوذة رجاء الخلاص" (الآيتان 5 و8).

         ساعة الموت، يسميها بولس الرسول " مجيء الرب المفاجيء"، ويشبّهه بمجيء السارق ليلاً (الآية2). ما يعني ان المسيحي يعيش بثبات الرجاء، فلا يغريه الانتصار المرموز اليه "بالأمن والسلام"، ولا يتناسى مجيء الرب. بل عليه ان يظل دائماً في حالة سهر وانتظار.

هذه دعوة الى تخطي الركود والرتابة، وهي حالة تنتج عن عدم الربط بين الصلاة والعمل، بين ارادة الله وحاجات الانسان، بين كلام الله ونداءات المجتمع. على المسيحي، عندما يصلي، ان يرفع عيناً الى الآب السماوي لاكتشاف ارادته المحبة والرحومة، وعيناً الى الناس الذين يتخبطون في حاجاتهم المادية والروحية والثقافية.

         في هذا الموقف المسيحي تبقى امام اعيننا اللوحة الانجيلية التالية:

" رأى يسوع، من على الشاطىء، التلاميذ منهوكين من التجديف في سفينتهم وسط البحيرة، لان الريح كانت مخالفة لهم، فجاء اليهم في آخر الليل ماشياً على البحيرة... وقال لهم: " ثقوا! انا هو لا تخافوا" ( مرقس6/50،48،47).

" السهر"، حسب بولس: " لنسهرْ ونصحُ" (الآية 6)، ليس فقط على المستوى العقلي، بل ايضاً على المستوى الاخلاقي، المرموز اليه " بالسّكر" (الآية7)، وإلا نلنا غضب الله. ومعلوم ان الله جعلنا لاحراز الخلاص بربنا يسوع المسيح الذي مات من اجلنا ، لنحيا معاً (الآيتان9 و10)، بقيامة العقول والقلوب.

 

2.      السهر والسير في النور بتقاسم خيرات الدنيا: انجيل القديس لوقا: 16/19-31.

بمثل الغني ولعازر، يؤكد الرب يسوع  ان الثروة التي يملكها الانسان روحية كانت ام مادية، ثقافية ام اجتماعية، هي معدّة من الله لجميع الناس. كتب خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة " الاهتمام بالشأن الاجتماعي": " خيرات هذه الارض في الاصل معدّة لجميع الناس. الحق في الملكية الخاصة حق مقبول وضروري، لكنه لا يلغي اهمية هذا المبدأ. فعلى الملكية يقع " رهن اجتماعي"، اي اننا نميّز فيها، كصفة ذاتية، وظيفة اجتماعية يؤسسها ويبررها مبدأ الشمولية في غاية استعمال الخيرات. في التزامنا بالفقراء، يجب ألا نهمل نوع الفقر الذي هو حرمان الشخص حقوقه الاساسية، ولاسيما الحق في حرية التعبير والمعتقد والحق في المبادرة الاقتصادية" ( فقرة42). مشكلة  الغني ليست في غناه، الذي هو عطية من الله: " فالفقر والغنى من عند الرب" (سيراخ11/14)، بل في اعتبار ثروته منه وله، واهمال لعازر المسكين المنطرح عند بابه مثخناً بالجروح الجسدية والنفسية.

هذا الواقع المرير لا يقتصر على الافراد، بل يشمل الجماعات في المجتمع المحلي والدولي: " الغني" هو السلطة السياسة و " الفقير" هو الشعب: " الحب المفضّل للفقراء يتعلق بحياة كل مسيحي، من حيث يقتدي بحياة المسيح، وينطبق ايضاً على مسؤولياتنا الاجتماعية، وطريقة عيشنا، وعلى القرارات التي يجب ان نتخذها بشأن الملكية واستعمال الخيرات. اما اليوم، ونظراً الى البعد العالمي للقضية الاجتماعية، فان الحب المفضّل للفقراء والقرارات التي يوحي لنا بها لا يمكنها الا ان تشمل الجماهير الكثيرة من الجائعين، والمتسولين، الذين لا ملجأ لهم، والذين تنقصهم العناية الطبية، وبخاصة الذين يعوزهم الرجاء بمستقبل افضل. نكران هذه الحقائق يُعتبر تشبها" بالغني المتخم الذي تجاهل لعازر المسكين المنطرح عند باب بيته" ( الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 42).

الموت هو ساعة الحساب: " الله يجازي الانسان بحسب اعماله يوم الموت"  (سيراخ 11/26-27). حقيقة الانسان تنكشف يوم الحساب الاخير: " في اخرة الانسان تنكشف اعماله... لا تغبط احداً قبل موته، فان الرجل يعرف عند موته" ( سيراخ11/27-28). المهم الا يربح الانسان حطام الدنيا ويخسر نفسه: " ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، اوماذا يعطي الانسان فدى عن نفسه" (نر8/36-37). هذا الواقع صوّره الرب يسوع في لوحة الغني ولعازر: الاول في عذاب الجحيم، والثاني في نعيم السماء (لو16/22-24).

اي  ابدية تهيء لنفسك. حياتنا تمرّ بسرعة جنونية: " ألف سنة في عينك يا رب، كيوم امس العابر وكهجعة من الليل" ( مز90/4). الابدية وحدها تدوم: " تذكر انك قبلت خيراتك في حياتك ولعازر بلاياه. وها هو الآن يستريح هنا وانت تتعذب هناك". ( لو16 /24-25). يوصينا يشوع بن سيراخ: " لا تعتمد على اموالك، ولا تقل : انها تكفيني... من الذي يتسلط علي؟ فانت لا تعلم كم يمضي من زمان حتى تترك ذلك لغيرك وتموت. وان الرب يعاقبك عقاباُ ( سيراخ5/3؛11/19). ويؤكد: " في يوم الخيرات تُنسى البلايا، وفي يوم البلايا لا تذكر الخيرات، ساعة سؤ تنسي اللذات" ( سيراخ11/25-27).

تصلي الكنيسة من اجل الموتى لكي يرأف الله بهم باستحقاقات الام الفادي، واعمال الرحمة والخير التي نقوم بها على نيتهم والاماتات والاصوام التي نمارسها، والقداسات التي نقدمها من اجلهم. وتعلّم الكنيسة الحقيقية للناس لخلاصهم: " عندهم موسى والانبياء، فليسمعوا لهم" ( لو16/29).

 

4. الايمان بالمسيح والشهادة لمحبته يبرران الانسان

 

في عام القديس بولس تكلم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر عن التبرير في تعليم القديس بولس الرسول[1].

يؤكد بولس الرسول في رسائله ان الانسان يتبرر بالايمان بيسوع المسيح، المنفتح على المحبة. المؤمن ينظر الى المسيح، يسلّم ذاته له، يتمسّك به، يتشبّه به وبحياته. حياة المسيح هي محبته. اذن الايمان هو التشبّه بالمسيح والدخول في محبته. ويقول الرسول في رسالته الى اهل غلاطية، حيث يتوسّع في عقيدة التبرير: " ان الشريعة الايمانية كلها تكتمل في كلمة واحدة، وهي ان تحب قريبك كنفسك": ( غلا5/14).

اننا نتبرر بدخولنا في شركة مع المسيح الذي هو محبة، ما يعني دخولنا في شركة المحبة مع جميع الناس، وبخاصة من هم في عوز او حاجة، من اي نوع كانت. هذا ما يعلّمه الرب في انجيل الغني ولعازر. فالشركة مع المسيح والايمان بالمسيح يخلقان المحبة. والمحبة هي تحقيق الشركة مع المسيح. عندما نتحد به بالايمان والمحبة نوجد مبررين امام الله.

الغني الذي لم يدخل في شركة المحبة مع لعازر، وُجد بعيداً عن الله، فنال الهلاك. المسافة التي ايعدته عن لعازر وهو امام باب بيته، ظهرت شاسعة بعد موته، ابتعاد الجحيم عن السماء: " تذكر انك نلت خيراتك في حياتك، ولعازر بلاياه. والآن هو يتعزى هنا، وانت تتوجع هناك. ومع هذا كله ، فان بيننا وبينكم هوّة عظيمة ثابتة" ( لو 16/25-26).

 

***

 

ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان

 

البطريرك بولس مسعد (1854-1890)

 

هو من مواليد عشقوت سنة 1806. درس في مدرسة عين ورقه ثم في مدرسة مجمع نشر الايمان في رومة. عيّنه البطريرك يوسف حبيش امين سره، ثم رقاه الى اسقفية طرسوس شرفاً وجعله نائباً بطريركياً في الروحيات وله من العمر 35 سنة، انتخبه مجمع المطارنة بطريركاً في 12 تشرين الثاني 1854 وهو بعمر 48 سنة، بالصوت الحي وبالاجماع التام. كان عالماً كبيراً ومؤرخاً وكاتباً، حادّ الذكاء، وذا ارادة صلبة. منحه درع الشركة البابا بيوس التاسع في 23 اذار 1855.

 

قاد الكنيسة المارونية بسداد وغيرة، وواجه الاحداث السياسية بحكمة ودراية.

1. كنسياً، عقد مجمعاً مارونياً في دير بكركي سنة 1865 دام ثلاثة ايام (11-13 نيسان)، وقد سبقه اثنا عشر مجمعاً بدءاً من مجمع سنة 1580 في عهد البطريرك مخايل الرزي. مجمع البطريرك مسعد هو اطول المجامع المارونية بعد المجمع اللبناني (1736). جاء مطابقاً لهذا المجمع ومؤيداً له إلاّ في بعض الامور التي اقتضى العصر تبديلها او تلطيفها.

ترك مؤلفات عدة نذكر منها كتابة الموسوم بالدّر المنظوم، رداً على المسائل والاجوبة المعزوّة الى البطريرك مكسيموس مظلوم، وكتاب في انبثاق الروح القدس من الآب والابن، والسجل الكبير الذي جمع اوراق الكرسي البطريركي، وتاريخ الاسرة الخازنية، ومقالة في دوام باولية العذراء، وسواها من المقالات.

 

2 .سياسياً، تصرف بكثير من الحنان مع المسيحيين من مختلف الطوائف، الفارّين من الشوف اثر حوادث 1860 التي راح ضحيتها العديد منهم ولاسيما الموارنة. وانفق عليهم مبالغ طائلة.

واجه بكثير من الحكمة والفطنة الاحداث المعروفة بثورة يوسف بك كرم على العثمانيين، وثورة الفلاحين التي قادها طانيوس شاهين.

 

3. على مستوى العلاقات العامة، قام برحلة طويلة سنة 1867، بدأها في رومة حيث شارك في الاحتفالات بمناسبة ذكرى مرور 1800 سنة لاستشهاد الرسولين بطرس وبولس. ثم انتقل الى باريس وقام بزيارة رسمية الى الملك نابوليون الثالث. بعدها سار الى القسطنطينية حيث حلّ ضيفاً على السلطان الغازي عبد العزيز خان من 11 الى 23 ايلول. فاكرمه وانزله وحاشيته المؤلفة من 11 شخصاً بين مطارنة وكهنة وعلمانيين في دار من افخر الدور، حيث اُقيم بامر السلطان معبد للفروض الدينية، وعُينّت عربتان واربعة فرسان للسير بمعية البطريرك[2].

توفي البطريرك بولس مسعد في 18 نيسان 1890 وله من العمر 85 سنة، بعد ان ساس البطريركية مدة 36 سنة. ودُفن في كنيسة مار بطرس وبولس لآل مسعد في عشقوت.

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

   تتناول الخطة الراعوية من النص المجمعي 13: الرعية والعمل الراعوي، موضوع: دور الرعية (الفقرات 17-20).

دور الرعية هو دور الكنيسة، حاملة رسالة التبشير بملكوت الله والمسيح وانشائه على الارض. انه يبدأ في الكنيسة ويكتمل في الملكوت السماوي. هذه الرسالة هي مشاركة المسيح النبي بخدمة الكرازة وتعليم الانجيل، والكاهن بخدمة التقديس في العبادة الالهية والاسرار، والملك بخدمة المحبة.

دوركاهن الرعية المقام في كهنوت الخدمة ان يوجّه المؤمنين ويساعدهم على عيش كهنوتهم العام الذي انتموا اليه بالمعمودية والميرون. فيعيش الجميع المشاركة في كهنوت المسيح المثلث.

1. يعيشون المشاركة في الخدمة النبوية عندما يتمسكون تمسكاً ثابتاً بالايمان، ويشهدون له ولجدّة الانجيل في الحياة اليومية، في العائلة والمجتمع. دور الرعية ان تكون " مدرسة ايمان": تعلنه وتربي عليه وتشهد له. هذا هو المقياس - الدليل لكل عمل رعوي، بل هو المطلب الاساسي الذي ترتكز عليه كل حياة الرعية ورسالتها.

2. ويعيشون المشاركة في الخدمة التقديسية عندما يمارسون اسرار الخلاص والصلوات والليتورجية العمومية والخاصة، ويجعلون من نشاطاتهم واعمالهم في الرعية والمجتمع، ومن حياتهم الزوجية والعائلية، وواجباتهم الخاصة والعامة، قرابين روحية يقدمونها لله بالمسيح، ويضمونها الى قربان جسده ودمه. وبهذا يسلكون طريق القداسة.       دور الرعية ان توفر للمؤمنين هذا المجال، وان تكون السبيل الى القداسة، والطريق الى الالتقاء بالله، بمحبة الآب ونعمة الابن وهداية الروح القدس.

3. ويعيشون المشاركة في وظيفة المسيح الملوكية، عندما ينهجون نهج المسيح الملك الذي "اتى لا ليُخدم بل ليَخدم، ويبذل نفسه فداءً عن الكثيرين (متى20/28)؛ وعندما ينتزعون الخطيئة بقداسة حياتهم، ويخدمون اخوتهم بتواضع وصبر، ولاسيما الفقراء والمتألمين من بينهم، الذين ترى فيهم الكنيسة صورة المسيح الفقير والمتألم، والذين دعاهم " اخوته الصغار"؛ وعندما يعملون على تدمير قوى الشر والظلم بروح الخير والعدالة والحقيقة. دور الرعية ان تواصل حياة الجماعة الكنسية الاولى في عهد الرسل، اي المواظبة على التعليم والقربان والمشاركة في ما يملكون لخدمة الفقراء. ما جعلهم قلباً واحدا ونفساً واحدة، ولم يكن بينهم محتاج (اعمال الرسل2/44-45). دورها احياء الشراكة بين الغني والفقير، وتنظيم الشراكة بين الجميع لتلبية حاجات الفقراء والمرضى، على مستوى الرعية والابرشية والكنيسة ككل.

*** 

صلاة

 

ايها الرب يسوع، اعطِ الراحة الابدية في ملكوتك السماوي موتانا المؤمنين، ليكونوا شفعاء لنا عند الآب. انرنا بانوار روحك القدوس وكلمة الانجيل ونعمة الاسرار، لكي نسير في الحقيقة والمحبة، مسيرة ابناء النور، منتظرين محيئك في يومنا الاخير، بالانصراف الى خدمة اخوتنا في حاجاتهم وعوزهم، متقاسمين معهم ما وضع الله بين ايدينا من خيرات مادية وروحية وثقافية. لقد اشركتنا في سرّ محبتك التي لا حدّ لها، ساعدنا، ونحن نتناول جسدك ودمك وكل ذاتك وكل محبتك، لندخل في شركة المحبة مع جميع الناس، انطلاقاً من ابناء الرعية التي ننتمي اليها، وحيث نبني معاً ملكوت الله على اسس القداسة والمحبة والحقيقة والعدالة. فنرفع المجد والشكر والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 19 تشرين الثاني 2008

[2] . انظر المطران يوسف الدبس: الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصل، صفحة 365.

 


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code