تقديم
" الكلمة صار بشراً وسكن بيننا"
( يوحنا 1/14)
يطيب لي ان اقدم العدد الخامس عشر من سلسلة التنشئة
المسيحية لزمن الميلاد 2007-2008.
يتمحور مضمون الآحاد حول ثلاثة: شرح نص الانجيل، ونقل
التعليم من " معجم التعابير الملتبسة والمتنازع فيها حول الاسرة
والقضايا الاخلاقية والحياة"، وتقبّل نصوص المجمع البطريركي
الماروني، وتحديداً النص الخامس: " البطريركية والابرشية والرعية"،
والنص السادس: " البطريرك والاساقفة".
هذا الفصل الاول من زمن الميلاد او المجيء يقودنا روحياً في
السنة الليتورجية الجديدة 2007-2008 الى سرّ المسيح والكنيسة، بل
الى سرّ الله والانسان والتاريخ. يضيء طريقنا نور " الكلمة الذي
صار بشراً وسكن بيننا، فرأينا مجده المملؤ نعمة وحقاً" ( يوحنا
1/14).
+ بشاره الراعي مطران جبيل
 |
 |
 |
بشارة الملاك
لزكريّا |
بشارة الملاك لمريم |
زيارة مريم
لاليصابات |
|
|
|
 |
 |
 |
مولد يوحنا
المعمدان |
البيان
ليوسف |
نسب يسوع
|
الاحد 4 تشرين الثاني 2007
احد
تقديس البيعة
الكنيسة مقدسة ومبنية على صخرة الايمان
من انجيل القديس متى 16/13-20
قال متى الرسول: جاء يسوع الى نواحي قيصرية فيليبس، فسأل
تلاميذه قائلاً: " من يقول الناس إتي انا ابن الانسان؟". فقالوا: "
بعضهم يقولون: يوحنا المعمدان؛ وآخرون: إيليا؛ وغيرهم: إرميا او
أحد الانبياء". قال لهم: " وأنتم من تقولون إني أنا؟". فأجاب سمعان
بطرس وقال: " أنت هو المسيح ابن الله الحيّ". فأجاب يسوع وقال له:
" طوبى لك يا سمعان بن يونا، لانه لا لَحَم ولا دَمَ أظهر لك ذلك،
بل أبي الذي في السماوات . وأنا ايضاً اقول لك: انت هو بطرس، اي
الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني بيعتي، وابواب الجحيم لن تقوى
عليها. سأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الارض يكون
مربوطاً في السماوات، وما تحله على الارض يكون محلولاً في
السماوات". حينئذ أوصى تلاميذه ألاّ يقولوا لأحد إنه هو المسيح.
الكنيسة جماعة المؤمنين المدعوين، مشبّهة ببيت الله المبني
على صخرة الايمان بالمسيح، وهو الايمان الذي اعلنه سمعان – بطرس: "
انت المسيح ابن الله الحي"، والذي يعلنه خليفته بابا روما،
والاساقفة خلفاء الرسل المجتمعون برئاسته. " احد تقديس البيعة" هو
اعلان الايمان بالمسيح الذي يقدس اعضاءها، واعلان قداستها النابعة
من نعمة الفداء وحضور الثالوث القدوس فيها، واعلان التقديس المؤتمن
عليها رعاتها. في احد تقديس البيعة تبدأ السنة الطقسية. وتسمى كذلك
لان احادها واسابيعها تدور حول سرّ المسيح، شمس الكون، دوران الارض
حول الشمس في السنة الشمسية. دوران الكنيسة حول سرّ المسيح يعني
التأمل فيه والاستنارة منه واتخاذ القوة للحياة والرسالة.
***
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
الكنيسة مبنية على صخرة الايمان بالمسيح
في قيصرية فيليبس كشف الرب يسوع حقيقة ذاته بالسؤال: " من يقول
الناس، ومن تقولون انتم اني انا ابن البشر؟ ( متى16/13 و15)،
وبجواب الايمان من سمعان: " انت هو المسيح ابن الله الحي" (
متى16/16). انه يختلف كلياً عن جواب العقل البشري: " انت يوحنا
المعمدان او ايليا او ارميا او احد الانبياء" ( متى 16/14) الذي
ربما تقمّص. سرّ المسيح لا يُعرف بالعقل البشري وحده، لان يسوع اله
وانسان في آن، بل يُعرف بالايمان الذي ينير العقل. ولهذا " اوصى
تلاميذه بألا يقولوا لأحد انه هو المسيح" ( متى 16/20)، قبل ان
يعلن لهم كلامه الالهي فينير عقولهم لمعرفته، كما جرى لسمعان.
فامتدح الرب ايمانه: " طوبى لك يا سمعان بن يونا، لانه لا لحم ولا
دم اظهر لك ذلك، بل ابي الذي في السماء" ( متى 16/17).
هذه العلاقة بين الايمان والعقل توسع فيها خادم الله البابا
يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة: " الايمان والعقل" (
14 ايلول 1998)، فقال " الايمان والعقل هما بمثابة جناحين يمكنان
العقل البشري من الارتقاء الى تأمل الحقيقة والى معرفة الذات
ومعرفة الله" ( عدد1). انها معرفة واحدة يبلغ اليها العقل، معتمداً
الادراك الحسي والاختبار، ومستنيراً بالايمان الذي يهتدي بالروح
القدس، بحيث يجد في بشرى الخلاص " ملء النعمة والحق" ( يو1/14)،
النابعين من يسوع المسيح ( انظر عدد9) هذا التلاقي بين الايمان
والعقل في الحقيقة الواحدة يتحقق عبر وسيلتين: سماع حقائق الايمان
بقبولها في الوحي الالهي الذي تطوّر شيئاً فشيئاً عبر التقليد
المتناقل والكتب المقدسة والتعليم الكنسي الحي، وفهم الايمان
بتحليل العقل تحليلاً فلسفياً وعلمياً ( الاعداد 64-66).
لكن الرب يسوع كشف ايضاً حقيقة الكنيسة، المعروفة
" بالمسيح الكلي" حسب تعبير القديس اغسطينوس، وأظهر حقيقة كل
انسان مؤمن، فانتقل بالتلاميذ من " المسيح التاريخي" الى " المسيح
السري". فالمسيح والكنيسة واحد: " لقد اصبحنا لا مسيحيين فحسب، بل
المسيح اياه، فهو الرأس ونحن اعضاء جسده. هذا هو ملء المسيح، "
المسيح الكامل" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 795). هذه
الحقيقة السرّية عن الكنيسة " المسيح السرّي والكلي" شبهها في
انجيل اليوم بالبيعة اي " مبنى الله" اساسه صخرة الايمان بيسوع
المسيح، الذي اعلنه سمعان، فسماه " صخرة يبني عليها كنيسته" (
متى16/18). اما حجارة هذا المبنى فهي كل انسان يعلن ايمان بطرس: "
انت هو المسيح ابن الله الحي". ان المبنى الحجري علامة الهيكل
الروحي المؤلف من المؤمنين بالمسيح، حيث اتخذ الله الثالوث سكناه.
" فلن تقوَ عليه ابواب الجحيم"
)متى
16/18)، اي قوى الموت والشر.
وكشف الرب يسوع ايضاً ان الكنيسة تراتبية
من خلال رئاسة سمعان – بطرس،المشبّه بالصخرة التي تعني
مسؤولية حماية الايمان وحفظه بدون شائبة وتثبيت الاخوة فيه ( انظر
لوقا 22/32)، ومن خلال السلطة الموكولة اليه
وهي
سلطة
"مفاتيح ملكوت السماء للحلّ والربط"
)متى16/19).
ان " سلطان المفاتيح" يعني السلطة لادارة بيت الله الذي هو
الكنيسة، وقد ثبّتها يسوع بعد قيامته بجعله راعي القطيع كله: " ارع
خرافي" (يو21/15-17). اما سلطان " الحلّ والربط" فيعني السلطان على
غفران الخطايا، واصدار احكام عقائدية، واتخاذ قرارات تهذيبية في
الكنيسة (التعليم المسيحي، 552-553). واوكل الرب يسوع سلطان "
الحل والربط" الى جماعة الرسل المتحدين برئيسهم. وهو يتواصل من
بعدهم في شخص قداسة البابا والبطاركة والاساقفة ومعاونيهم الكهنة.
المسيح نفسه هو ينبوع الخدمة في الكنيسة، فيعطي السلطة والرسالة،
التوجيه والعناية ( التعليم المسيحي،874): انه يعطي سلطة
العمل بشخصه وباسمه في قيادة الكنيسة، ويوكل رسالة خدمة
جسده كله الذي هو جماعة المؤمنين، ويوجّه الخدم وفقاً
لمواهب الروح القدس من اجل خير الجماعة، شعب الله والبلوغ
به الى الخلاص ( الدستور العقائدي في الكنيسة،18؛ التعليم
المسيحي،874-875). تتميز السلطة التراتبية بانها شخصية وجماعية،
وخدمة قائمة على بذل الذات، اقتداءً بالمسيح الراعي والخادم
والفادي (المرجع نفسه، 876-879).
2.
قداسة الكنيسة
تقديس البيعة اعلان عن ان الكنيسة مقدسة في الاساس بمحبة
الآب ونعمة الابن وحلول الروح القدس. وقد ظهرت قداستها في والدة
الاله الكلية القداسة مريم، وفي الرسل والقديسين، من جيل الى جيل.
وتنتظر ان تتجلى قداستها في ابنائها، من خلال ثمار النعمة التي
ينتجها الروح القدس في المؤمنين من السيد المسيح، بادىء القداسة
ومتممها: " كونوا كاملين كما ان اباكم السماوي كامل هو" (متى
5/48). ويؤكد الدعوة عينها بولس الرسول: " اجل، ان ما يريده الله
هو تقديسكم" ( اتسالونيكي4/3؛ افسس 1/4). ويشرحها آباء المجمع
المسكوني الفاتيكاني الثاني ويرسمون خطها والسبيل اليها في الدستور
العقائدي في الكنيسة "نور الشعوب" (الفصل الخامس: الدعوة العامة
الى القداسة في الكنيسة).
الكنيسة مقدسة،
لان مؤسسها هو " المسيح ابن الله الحي"، ولانها مبنية على " صخرة
الايمان" المتمثلة ببطرس الرسول، ولذلك تبقى ثابتة، منيعة على قوى
الشر، حتى يعمّ ملكوت الله كل شعوب الارض. وهي مقدسة، لانها
هيكل الروح القدس المفاض على كل ذي جسد من موت المسيح وقيامته،
بواسطة المعمودية والتثبيت وسائر الاسرار. هذا الروح عينه يحوّل
الخبز والخمر الى جسد المسيح ودمه، ويجعل جماعة المؤمنين جسد
المسيح السرّي. وهكذا كل من يقبله يختبر اختبار بولس الرسول: " لست
الآن انا الحي، بل المسيح هو الحيّ فيّ وان كنت الآن حياً بالجسد،
فانا حيّ بايمان ابن الله الذي احبني وبذل نفسه من اجلي". (غلاطية
2/20).
في الكنيسة المقدسة توجد وسائل التقديس وهي:
الانجيل وحقائق الايمان، الاسرار الخلاصية ونعمتها، القوانين
وهدفها الاسمى تقديس النفوس.
المسيحيون مدعوون
ليكونوا جماعة كنسية، مبنية على الايمان بالمسيح، تغتذي من جسد
الرب، ، الخبز النازل من السماء على مائدة الكلمة. وتعيش باتحاد
القلب والحياة مع الله اتحاداً غير مشروط، وتسلك في استقامة
النوايا، وتصبر على المحنة، وتشهد للمحبة والرحمة نحو البعيدين
والقريبين، وتخضع بالعقل والارادة لكلام الله في الصلاة وفي الشركة
مع رعاة الكنيسة.
****
ثانياً، الاسرة والقضايا الاخلاقية والحياة
الكنيسة المقدسة تعلن قدسية الحياة البشرية وكرامة الانسان
المخلوق على صورة الله، والمفتدى بدم المسيح والمهيأ ليصير هيكل
الروح القدس، والمدعو ليعاون الله في اعلان الحقيقة وتحقيق تاريخ
الخلاص.
" معجم التعابير الملتبسة والمتنازع فيها حول الاسرة
والحياة والقضايا الاخلاقية"، الذي اصدره المجلس الحبري
للعائلة، يقدّم لنا تعليم الكنيسة حول هذه المواضيع.
نعرض اليوم ما تسميه الكنيسة " اعتراض الضمير".
يتبسط فيه المعجم تحت عنوان "اعتراض الضمير في السياسة"، كتبه
المونسنيور
Michel Schooyans.
اعتراض الضمير قديم التاريخ مارسه سقراط، الذي
اتُّهم بانكاره للدين الوثني. لقد وضع فوق شرائع المدينة الطاعة
للصوت الداخلي، صوت ضميره الشخصي الذي كان يقوده في معرفة الحق
والخير. والضمير هو صوت الله في اعماق الانسان. بطرس الرسول،
عندما امرته السلطة السياسية بعدم الكلام عن يسوع المسيح، اجاب: "
الله اولى بالطاعة من البشر" (اعمال 5/29 ). الاستشهاد، في تاريخ
المسيحية هو التعبير المسيحي بامتياز عن اعتراض الضمير. ففعل
الايمان بالرب يسوع فعلٌ حرٌ كامل يجعل المؤمن ملتزماً بعلاقة
شخصية مع الله. فلا يحق لاي سلطة ارضية ان تتدخل فيه. في زمن
الامبراطورية الرومانية، كان الاباطرة يريدون انتزاع الايمان باله
من دون وطن ليحموا وحدة الامبراطورية وتماسكها. فكانوا يعدمون
المسيحيين وبخاصة الجنود عندما يرفضون تقديم العبادة للديانة
المدنية الوثنية. فكان المسيحيون امام واحد من بديلين: إما جحود
الايمان وإما الموت. القديس الشهيد توماس مور، رئيس الوزراء
البريطاني، واحد منهم ( 1478-1535)، وغيره كثيرون من بعده.
اعتراض الضمير مطروح اليوم على البرلمانيين
المشرّعين الذين يسنّون قوانين تشرّع الاجهاض والقتل الرحيم. كما
يلحق ايضاً بالاطباء والجسم الطبي والتمريضي الذين يمارسون الاجهاض
والقتل الرحيم. من واجب هؤلاء جميعاً ان يمارسوا اعتراض الضمير.
هذا الواجب مطروح كذلك على السياسيين الذين يقررون التعدي على
الشخص البشري، لاي سبب كان، وعلى اي مستوى اكأن التعدي على جسده او
كرامته او املاكه او مصيره، وباي نوع أكان حرباً او اغتيالاً او
قهراً او حرماناً او اهمالاً. فمن واجب كل واحد منهم، ولو كان
مرتبطاً بحلف معيّن او كتلة سياسية ام حزبية، ان يمارس اعترالض
الضمير. ان موافقته على مثل هذا التعدي يضمّه الى موكب تجار الموت.
والاحجام عن ممارسة اعتراض الضمير اهمال خطير يجعل صاحبه شريكاً في
الجرم.
ان المشرّعين الذين يسنّون قوانين تشرّع الاجهاض والاشخاص،
الذين يقررون قتل انسان والذين ينفذون، يرتكبون خطيئة في غاية
الجسامة، ويقعون في الحرم الكبير، والحلّ من الخطيئة والحرم محفوظ
لمطران الابرشية ( ق 1450 و728 بند2).
وتذّكر الكنيسة بأن احترام الحياة البشرية، عند اي انسان
وفي اي مرحلة من مراحل وجوده منذ الحبل به حتى آخر نسمة من عمره،
هو في اساس الهوية المسيحية، وبأن الاقرار بالقيمة اللامتناهية
التي ينعم بها كل شخص بشري امر جوهري في الخلقية المسيحية، وشرط
اساسي للانتماء اليها.
لكن الدفاع عن الحياة البشرية ليس حكراً على المسيحيين، بل
هو تعليم اخلاقي اساسي في جميع الاديان والتقاليد الخلقية في
البشرية وفي كل الحضارات، وقد حددته الشرعة العامة لحقوق الانسان (
1948) في المادة الثالثة. ان حق الانسان في الوجود والحياة الكريمة
من صلب وجوهر كل مجتمع ديموقراطي. في ضوء هذا الحق، لا يمكن القبول
بشريعة القوي على الضعيف. وكل سلطة تستقوي على الضعيف والبريء انما
تنحرف الى الديكتاتورية والتوتاليتارية.
يرتكز اعتراض الضمير على القيم العليا وعلى الشرائع
الداخلية في الطبيعية البشرية وغير المكتوبة. ان مخافة الله
التي كانت تمنع المسيحيين القدامى من تقديم الذبائح لالهة المدينة
القديمة، هي اياها تمنع المسيحيين اليوم من "التقديم لاصنام
الوثنية المعاصرة"، وهي السلطة والمال والسلاح والكراسي والمصالح.
من واجب المسيحي ان يظهر في مجتمعه " كآية للخصام"، كما تنبأ سمعان
الشيخ عن يسوع الطفل ( لو2/34). ومن واجبه ان يتذكر بأنه ينتمي
بحكم معوديته الى شعب نبوي. الانجيل يدعوه للصمود بوجه الشرّ
المنزل بالانسان.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
مع تذكار سرّ الكنيسة، في أحدي تقديسها وتجديدها وفي زمن المجيء،
تتناول الخطة الراعوية تقبّل النصوص المجمعية والعمل على تطبيقها
في السنة الثانية من خطة الخمس سنوات التي وضعتها الامانة العامة
ولجنة المتابعة. فنبدأ بالنص الخامس وعنوانه: "البطريركية
والابرشية والرعية".
1. من الناحية التاريخية،
البطريركية الانطاكية رسولية لانها ترتكز على اول كرسي انشأه بطرس
الرسول في انطاكية، وقد ثبّتها مجمع نقية سنة 325، ثم مجمع
خلقيدونية سنة 451. وسلطان البطريرك سلطان اسقفي مألوف ومكاني على
كل كنيستة داخل النطاق البطريركي، وسلطان شخصي على ابنائها اينما
وجدوا، يمارسه بروح مجمعي مع اساقفة كنيسته وبالشركة التامة مع
اسقف روما رأس الكنيسة الجامعة وراعيها.
النظام البطريركي مجمعي قائم على الشركة الكنسية التراتبية،
وفقاً للقاعدة التي يمارسها القانون 34 من قوانين الرسل ( سنة
381): " على الاسقف (البطريرك) ان لا يفعل شيئاً دون موافقة
المجمع. كما على الاساقفة ان يعرفوا الاسقف الاول في ما بينهم
(البطريرك)، ويعتبرونه رأساً، وألاّ يفعلوا شيئاً من دون الاخذ
برأيه". يتحقق النظام المجمعي في سينودس اساقفة الكنيسة
البطريركية، وفي المجامع الاقليمية والمسكونية التي تعالج مختلف
الامور العقائدية والادارية المشتركة بين الكنائس. ان سينودس
الاساقفة والمجامع الاقليمية والمسكونية تعبير في آن عن الشركة في
الايمان، وعن رابط الاتحاد الذي يجمع الاساقفة في ما بينهم، وعن
شركة المحبة الاخوية التي تخيّم على علاقاتهم المتبادلة، وعن
غيرتهم على الرسالة الشاملة التي قبلوها من الرسل.
بهذه الروح المجمعية، يشترك كل اسقف، بحكم مسؤوليته عن كنيسته
الخاصة، مع سائر الاساقفة في المسؤولية عن الكنيسة الجامعة في
اتحاد تام مع اسقف رومية والبطريرك (الفقرات 3-8؛ القرار المجمعي
في مهمة الاساقفة الراعوية،3).
2. من ناحية الوضع الراهن للكنيسة البطريركية المارونية، قد
اجرى المجمع اللبناني المنعقد في دير سيدة اللويزه سنة 1736
اصلاحاً في بنيتها، تلبية للحاجات الراعوية الجديدة، فأنشأ ابرشيات
ذات كيان قانوني وجعل على كل واحدة منها مطراناً ذا ولاية شرعية
عليها وفرض عليه ان يقيم فيها، وبالروح المجمعية لا يكتفي بعيش
مهمات ابرشيته وهمومها، بل يحمل ايضاً مع ابناء ابرشيته همّ
الابرشيات الاخرى وهمومها (الفقرتان 9 و10).
البطريرك ذو سلطان مزدوج:
الاول بصفته اسقفاً راعياً لكرسيه البطريركي يسوس ابرشيته المحلية
ككل اسقف ابرشي بسلطان خاص ومألوف ومباشر، وبصفته بطريركاً يدير
كنيسته الخاصة كأب لها ورئيس، ممارساً عليها سلطاناً حقيقياً وفقاً
للقوانين الكنسية في اطار الهيكلية المجمعية. يمارس شخصياً السلطة
التنفيذية والادارية، وسينودسياً السلطة التشريعية. يحرص على وحدة
كنيسته، ويحافظ عليها وعلى الشركة في الايمان. والشركة في الرئاسة
الكنسية مع الكرسي الرسولي الروماني ومع باقي الكنائس ( فقرة 12).
تعمل البطريركية المارونية على بناء الوحدة الكنسية في تعددية
وجودها في لبنان والنطاق البطريركي وفي عوالم الانتشار، وفي تعددية
الكنائس التي تعيش معها، ما يقتضي تشاوراً وتنظيماً في سبيل الخير
المشترك، كما يقتضي تنظيم الدوائر البطريركية والاسقفية وتحديثها،
واعادة توزيع الابرشيات وفقاً لحاجات المؤمنين.
ويشدد النص المجمعي على اهمية المركزية البطريركية ووحدة البنية
البطريركية التي تضمن الوحدة في التعددية، وجمع الجهود من اجل
تعزيز المجمعية الاسقفية، والسعي الى توثيق عرى الشركة بين الكنائس
الشرقية الكاثوليكية من جهة والكرسي الرسولي من جهة ثانية، ومواجهة
تحدي الانتشار بوعي ودراسة وتنظيم من اجل تأمين التواصل والشركة
لتحقيق وحدة البنية البطريركية شرقاً وغرباً (الفقرات 11-16).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، لقد انشأت كنيستك في العالم اداة خلاص، وقدّستها
بحضورك فيها، وسلمتها الانجيل والاسرار والسلطان لتقديس المؤمنين.
قدّسنا بروحك القدوس، واعطنا ان نشهد لله وللحق وللمحبة. هبنا
الشجاعة لندلي باعتراض الضمير على كل ما يخالف ارادة الله وشريعته.
ادخلنا برباط الروح في الشركة الكنسية لنبني الوحدة ونشدّ اواصر
التعاون والتضامن لخير كل انسان، ولمجدك ايها الاب والابن والروح
القدس وتسبيحك وشكرك الى الابد. آمين.
الاحد11 تشرين الثاني2007
احد تجديد البيعة
جديد الكنيسة وتعزيز كرامة الانسان
من انجيل القديس يوحنا 10/22-42
قال يوحنا الرسول: حان عيد التجديد في اورشليم، وكان فصل
الشتاء. وكان يسوع يتمشى في الهيكل، في رواق سليمان. فأحاط به
اليهود وأخذوا يقولون له: " الى متى تبقى نفوسنا حائرة؟ ان كنت أنت
المسيح، فقله لنا صراحة". أجابهم يسوع: " قلته لكم، لكنكم لا
تؤمنون. ألاعمال التي أعملها أنا باسم ابي هي تشهد لي. لكنكم لا
تؤمنون، لانكم لستم من خرافي. خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها، وهي
تتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية، فلن تهلك أبداً، ولن يخطفها أحد
من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد ان
يخطفها من يد الآب. أنا والآب واحد". فأخذ اليهود من جديد حجارة
ليرجموه. قال لهم يسوع: "أعمالاً حسنة كثيرة اريتكم من عند الآب،
فلأي عمل منها ترجموني؟". أجابه اليهود: " لا لعمل حسن نرجمك، بل
لتجديف. لانك، وانت إنسان، تجعل نفسك إلهاً". أجابهم يسوع: " أما
كتب في توراتكم: انا قلت إنكم آلهة؟ فاذا كانت التوراة تدعو آلهة
اولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن ان ينقض الكتاب، فكيف
تقولون لي، انا الذي قدسه الآب وارسله الى العالم: انت تجدف؛ لاني
قلت: انا ابن الله؟ أن كنت لا اعمل اعمال ابي، فلا تصدقوني، أما
إذا كنت اعملها، وإن كنتم لا تصدقوني، فصدقوا هذه الاعمال، لكي
تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ واني في الآب". فحاولوا من جديد أن
يقبضوا عليه، فأفلت من يدهم. وعاد يسوع الى عبر الاردن، الى حيث
كان يوحنا يُعمد من قبل، فأقام هناك. واتى اليه كثيرون وكانوا
يقولون: " لم يصنع يوحنا اي آية، ولكن، كل ما قاله في هذا الرجل
كان حقاً". فآمن به هناك كثيرون.
في احد تجديد البيعة نجدد ايماننا بالمسيح الذي يجعل كل شيئاً
جديداً، وبالكنيسة حاملة رسالة التجدد بروح المسيح القائل: " ها
انا آتٍ لاجعل كل شيء جديداً" ( رؤيا 21/5). هذه هي حقيقة سرّ
المسيح الجالس على العرش، كما رآه يوحنا الرسول. جديد المسيح،
في انجيل اليوم، هو انه يجمع لله خرافاً جديدة من شعبه القديم
والجديد: " خرافي تعرف صوتي، وانا اعرفها، وهي تتبعني" (يو10/27)؛
وجديده انه " يعطيها الحياة الابدية فلا تهلك ابداً ولا
يخطفها من يده احد " (يو10/28)؛ وجديده ادخال جميع الناس في
شركة مع الآب بالروح القدس: " انا وابي واحد... وانتم آلهة"
(يو10/30و34)، لان "الآب قدّسه بالروح وارسله الى العالم " من اجل
هذه الغاية (يو10/36)؛ وجديده ان من يعرفه من خلال شخصه
وكلامه واعماله يؤمن بالله: " لقد آمن به كثيرون" ( يو10/42).
***
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
الكنيسة جماعة الايمان والشركة
مضامين " جديد المسيح" هي العناصر المكوّنة للكنيسة التي
نحتفل بتجديدها.
الكنيسة جماعة شعب الله الجديد، فهي تعني " التجمع " حسب
اللفظة السريانية "كانيش". بدأ تجمع شعب الله في اللحظة التي هدم
بها آدم وحواء، الانسان الاول، الشركة مع الله بالمعصية والشركة
فيما بينهما بالاتهام. هذا " الجمع" هو ردة فعل الله على الفوضى
التي تسببت بها الخطيئة، ردة فعل الله هي خلاص جميع الناس. بهذا
المعنى قال القديس كليمنضوس الاسكندري: " العالم هو ارادة الله
المتجلية في الخلق، والكنيسة هي نية الله الظاهرة في الخلاص
(التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 760-761).
تجديد البيعة
هو اعادة جمع شعب الله من كل شعوب الارض في الكنيسة التي هي " اداة
الشركة وعلامتها" عنها قال بطرس لقرنيليوس الوثني: " من اتقى الله،
من اية امّة كان، وعمل البر، كان عنده مقبولاً؛ والكلمة، يسوع
المسيح، الذي ارسله الله مبشراً بالسلام هو رب الناس اجمعين" (
اعمال10/35-36). لقد " جمع" الله شعبه قديماً بدعوة ابراهيم ليكون
اباً لشعب كبير ( تك12/2؛15/5-6)، سماه مع موسى " مملكة من الكهنة
وامّة مقدسة" (خروج19/6). والمسيح " جمع" شعب الله الجديد الذي
دعاه من كل الامم، واقامه كنيسة، حسب اللفظة اليونانية –
اللاتينية
Ecclesia
اي " جماعة المدعوين" المعروفة " بكنيسة الشعوب. "دعاهم"
باعلانه بشرى الانجيل الجديدة وهي بشرى مجيء ملكوت الله الموعود في
الكتب المقدسة، الذي هو تحقيق الشركة بين الله والناس وفيما بينهم،
فكانت الكنيسة التي وُلدت من عطية المسيح الكاملة لخلاصنا بموته
على الصليب وقيامته، وقد استبقها بتأسيس الافخارستيا ليلة صلبه.
وظهرت بداية الكنيسة ووسيلة نموها في علامة الدم والماء اللذين
جريا من جنب المسيح المطعون بالحربة، رمزاً للمعمودية والقربان
اللذين يصنعان الكنيسة. فاستلت الكنيسة، حواء الجديدة، من ضلع
المسيح آدم الثاني، النائم على الصليب (انظر يوحنا 19/34)، مثلما
استلت حواء من ضلع آدم النائم ( تك2/21).
انها الكنيسة – السر والشركة: سر المسيح
المنظور في جسده الذي هو جماعة المعمدين وقد اصبحوا هيكل الرب
وسكنى الله بالروح ( افسس2/21-22). يحييهم المسيح بالحياة الالهية
ويحميهم بعنايته على يد الذين اقامهم رعاة؛ وشركة الروح
الذي يجعل من الكنيسة علامة الايمان للشعوب(اشعيا11/12)، ويجمع تحت
لوائها ابناء الله المشتتين (يو11/52)، ليكونوا رعية واحدة لراعٍ
واحد (يو10/16) ( الدستور المجمعي في الليتورجيا،2).
نجدد اليوم
ايماننا بالكنيسة- السر والشركة، جماعة الايمان بالمسيح، اداة
الخلاص لجميع الناس، ومكان فداء البشرية جمعاء، وينبوع الحياة
الالهية في الايمان: " انا قلت انكم الهة". انها علامة كرامة
الانسان التي تعلن ان " مجد الله الانسان الحي" (القديس ايريناوس).
هذا الانسلن الواقعي، بقوته وضعفه، بجماله وقباحته هو طريق
الكنيسة. ذلك ان المسيح اتحد به، نوعاً ما، بالتجسد والفداء.
فالمسيح طريق الانسان الى خيره الزمني والادبي. فلا أحد يوقف رسالة
الكنيسة عن تعزيز كرامة كل انسان وحمايتها والدفاع عنها بوجه كل
المعتدين عليها (البابا يوحنا بولس الثاني: فادي الانسان 3/13).
2. هوية الكنيسة المارونية
في احد تجديد البيعة لا بدّ من معرفة هوية كنيستنا المارونية. انها
كنيسة رسولية انطاكية سريانية خلقيدونية، ذات طابع رهباني،
في شركة رومانية كاملة، متأصلة في محيطها المشرقي، وحاضرة في عالم
الانتشار، كما علّم المجمع البطريركي الماروني في نصه الثاني:
هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها".
أ- هي رسولية،
لان الخلافة الرسولية لبطرس الرسول، الذي اسس كرسيه الاولى في
انطاكية قبل روما، تتواصل في شخص البطريرك حامل لقب بطرس. في
انطاكية دعي المؤمنون بالمسيح لاول مرة "مسيحيين" ( اعمال11/26).
وهي انطاكيّة في روحانيتها وثقافتها ومحيطها الجغرافي
والتاريخي. ان لها بهذه الصفة تقليداً مشتركاً مع الروم الملكيين
والروم الارثوذكس والسريان. وهي سريانية في خط القديس مارون
وتلاميذه، في لاهوتها وليتورجيتها وطقوسها، المميزة بمضامينها
ومصادرها الآبائية والكتابية، ومن هذه الناحية تتصل بالكنيستين
الكلدانية والاشورية، علماً ان اللغة السريانية كانت اللغة
الشعبية، واليونانية اللغة الثقافية في انطاكية حاضرة الشرق
الهلنستية. وهي خلقيدونية، لانها تعترف بعقيدة مجمع
خلقيدونية المسيحانية (451) كما حددها البابا لاوون الكبير في
رسالته الى فلافيانوس بطريرك القسطنطينية سنة 449، وعلمتها المدرسة
اللاهوتية الانطاكية ودافع عنها رهبان دير مار مارون وتيودوريتس
مطران قورش، واقرها آباء المجمع، وهي "ان في المسيح طبيعتين
كاملتين، الهية وانسانية، متحدتين بشخص يسوع المسيح الالهي، وان
تمايز الطبيعتين يظل قائماً بعد اتحادهما في وحدة شخص ابن الله،
الذي تجسّد لخلاصنا". من هذا المعتقد الخلقيدوني تعزز الكنيسة
المارونية الحوار اللاهوتي مع الكنائس الارثوذكسية غير
الخلقيدونية: الاقباط والسريان والارمن والاحباش، في سبيل ازالة
الخلافات اللاهوتية التي تقف عقبة في وجه شهادة انجيلية مشتركة.
ب- وهي ذات طابع رهباني بالنسبة الى القديس مارون الناسك
(+410)، والى جماعة رهبان دير مار مارون الذي أنشىء في اعقاب مجمع
خلقيدونية سنة 452 في منطقة آفاميا المعروفة بقلعة المضيق اليوم،
الكائنة قي سوريا الثانية حسب التنظيم الروماني آنذاك. شكّل هذا
الدير مهد الجماعة المارونية، وفي رحابه نشأت كنيسة بطريركية
انطاكية مستقلة في القرن الثامن ما بين سنة 686 و707. لكن الطابع
الرهباني يعني، في المفهوم السرياني – الانطاكي، طريقة لعيش
الانجيل، وحالة راعوية في الهيكلية الكنسية.
ج- وهي في شركة رومانية كاملة
اساسها المعتقد الخلقيدوني، وقد عززها من جديد في القرن الثاني عشر
البطريرك ارميا العمشيتي، بعد فترة طويلة من الغربة بين الكنيسة
البطريركية المارونية وكرسي روما بسبب احوال الزمان. قاد هذه
الشركة في الالفية الثانية مفهومان: مفهوم شرقي للكنيسة
البطريركية المستقلة التي تشمل ابناءها حيثما وجدوا، ومفهوم
روماني للكنيسة الكاثوليكية التي تحصر الولاية على كل ابنائها،
بمختلف طقوسهم، رعاة ومؤمنين، باسقف روما رأس الكنيسة وخليفة بطرس
الرسول اينما وجدوا، وتحدد ولاية البطاركة ضمن اطار جغرافي عُرف في
تعبير المجامع المسكونية " بالاراضي البطريركية". وهذه اشكالية
مطروحة اليوم بسبب حركة الهجرة والانتشار.
د- وهي متأصلة في لبنان ومحيطها المشرقي،
فمن المحيط الانطاكي انتقلت المارونية بقسمها الاكبر الى جبل لبنان
ومن ثم الى لبنان في حدوده الحالية، بعد ان تمركزت البطريركية
نهائياً فيه منذ القرن العاشر. على ارضه كتبت تاريخها، وانمت
روحانيتها، وعززت وجودها طيلة الالفية الثانية. ومن لبنان انتشرت
في البلدان المشرقية وتفاعلت مع ثقافاتها واسهمت في نموها. على ارض
لبنان المتسمة بالتعددية على الصعيدين المسيحي والاسلامي، سعت
المارونية الى ان تكون صاحبة رسالة محورها كرامة الانسان وحقوقه
الاساسية والحريات العامة، بواسطة التلاقي والحوار بين مختلف
الثقافات والاديان والنظام الديموقراطي. على هذا الاساس قامت دولة
لبنان الكبير سنة 1920، وكان للبطريرك الياس الحويك الدور الريادي
فيه، ثم اصبحت جمهورية مستقلة سنة 1943، بانهاء الانتداب الفرنسي
وجلاء الجيوش الاجنبية، بفضل مساعي اللبنانيين وفي طليعتهم
البطريرك انطون عريضه. من هذا الواقع جاءت كلمة خادم الله البابا
يوحنا بولس الثاني: " ان لبنان اكثر من بلد، انه رسالة حرية ونموذج
تعددية للشرق وللغرب". ومعروف ان البطريركية المارونية تلعب دوراً
طليعياً في المحافظة على هذه الهوية والرسالة.
ه- وهي حاضرة في عالم الانتشار
بنتيجة الهجرة والتهجير منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
يبقى البحث عن كيفية الحفاظ على الشمولية والوحدة والتنوع من خلال
خدمة راعوية شاملة تسعى، فضلاً عن العمل الروحي، الى ثلاثة اهداف:
التفاف جميع الموارنة حول البطريرك والبطريركية في اطار الشركة مع
الكرسي الرسولي الروماني؛ اعتماد الليتورجيا المارونية في خدمة
القداس والاسرار؛ تعزيز الامانة للروحانية المارونية التي طبعت
حياة الموارنة وتاريخهم.
***
ثانياً، الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية
في احد تجديد البيعة، لا بدّ من ان يتجدد ابناؤها بنور تعليمها حول
الاسرة والحياة والقضايا الاخلاقية، في " معجم التعابير
الملتبسة". نأخذ منه اليوم موضوع " ذهنية منع الحبل"
(المعجم، صفحة 397-404).
تتكاثر اليوم " ذهنية منع الحبل" بسبب انحطاط القيم الاساسية،
فراحت هذه الذهنية تفصل بين ممارسة الجنس والانجاب. وسببها انتشار
وسائل منع الحمْل، والدعاية الواسعة لها، وترويج التباسات نذكر
منها اربعة:
1)
اتهام الكنيسة بأنها تعزز الاجهاض لانها تعارض منع الحمْل.
لكن تعليم الكنيسة بشأن الاجهاض ثابت وواضح: كلا بالمطلق لقتل
بريء. وكل تعاون في عملية اجهاض خطأ جسيم. والكنيسة تنكر ذاتها
ورسالتها اذا ساندت بأي شكل اتلاف حياة تتهيأ لتولد ( انجيل
الحياة، 13 و57؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2270).
2)
اعتبار منع الحمْل الوسيلة الافعل لمحاربة الاجهاض
لكن الاحصاءات تبيّن ان عمليات الاجهاض تتكاثر حيث تنتشر بالاكثر
ممارسة وسائل منع الحَبَل. ويقول خادم الله البابا يوحنا بولس
الثاني: " في الواقع، ثقافة الاجهاض تنمو بالاخص في الاوساط
الرافضة لتعليم الكنيسة حول منع الحمْل" ( انجيل الحياة، 13). يوجد
رباط وثيق بين منع الحمْل والاجهاض، مع ما بينهما من اختلاف على
المستوى الخلقي. منع الحمْل يناقض الحقيقة الشاملة للفعل
الجنسي كتعبير خاص عن الحب الزوجي، والاجهاض يتلف حياة
بشرية؛ الاول ينتهك الطهارة الزوجية، والثاني ينتهك
العدالة والوصية الالهية: " لا تقتل"؛ والاثنان يخالفان ارادة
الخالق ( انجيل الحياة،13).
ان استعمال منع الحبَل يشكّل تجربة قوية، فالشخص الذي يلجأ الى هذا
الاستعمال معرّض ليصبح يوماً قاتل حياة بشرية جديدة تتهيأ لتولد.
3)
ابتكار نوع من منع الحمْل يؤدي الى الاجهاض.
ان بعض المنتوجات المانعة للحمْل هي في الحقيقة وسائل مجهضة، مثل
التحضيرات الكيميائية، وترتيبات داخل الرحم، وتلقيحات. هذه تشكل
وسائل مجهضة لحياة كائن جديد في مراحل نموها الاولى. فيقال بتعبير
ملتبس: " وسيلة لتجنب الحَبَل" عن المواد الكيميائية المسمات
RU 486
المطوّرة في الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا، والحبة الصغيرة،
وحبة الغد. هذه كلها انواع جديدة لقتل ابرياء.
4)
اللجوء الى الوسائل الطبيعية بذهنية منع الحمّل
ان ذهنية منع الحمْل "جنس من دون ولد"، اثّر في العمق على طريقة
اللجوء الى الوسائل الطبيعية القائمة على معرفة اوقات الخصوبة عند
المرأة، والتي تقرّها الكنيسة لتنظيم الولادات عند وجود اسباب
جائزة، مثل اوضاع الزوجين الجسدية والنفسية، وظروف خارجية، ما يسمح
للزوجين بممارسة علاقتها الزوجية في اوقات عدم الخصوبة ( رسالة
البابا بولس السادس العامة: الحياة البشرية، 16). ان رسالة الزوجين
نقل الحياة البشرية وتربيتها. اما اذا لجأ الازواج الى الوسائل
الطبيعية بذهنية منع الحمْل، واجدين فيها فقط نوعاً من تجنّب
الحمْل الطبيعي المماثل لمنع الحمْل الاصطناعي، فتصبح غير جائزة
روحياً وخلقياً. فلا بدّ من ازالة الالتباس حول هذا التعبير،
والاشارة الى ان ذهنية منع الحمْل مبنية على مفهوم خاطىء للحرية
والمتعة الجنسية والانانية.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي الخامس: "
البطريركية والابرشية والرعية"، في ما يعرض من تطلعات مستقبلية
بشأن البطريركية المارونية.
1. المحافظة على الشركة الكيانية
التي تجمع بين الابرشيات المارونية والكرسي البطريركي ومجمع اساقفة
الكنيسة المارونية، انما تقتضي تعزيز حسّ الانتماء الكنسي العميق
وتوطيد روابط الشركة من جهة، والزيارات الراعوية الدورية التي يقوم
بها السيد البطريرك للابرشيات ولاسيما في بلدان الانتشار (الفقرة
17).
2. انشاء امانة عامة في الكرسي البطريركي تعنى
باستكمال الدوائر اللازمة لتفعيل التجدد الروحي والاصلاح
الاكليريكي والانماء الاجتماعي والاقتصادي والبحوث العلمية والحوار
المسكوني والحوار بين الاديان، والتحضير لعقد اجتماعات المجمع
البطريركي كل خمس سنوات، كما ترسم القوانين الكنسية. يكون لهذه
الامانة العامة قسم يعنى بشؤون الانتشار (الفقرة 18 والفقرة 19/و).
3. تفعيل العمل المجمعي الذي يجسّد الكنيسة – الشركة.
انه، من ناحية، حالة روحية يحييها السيد البطريرك بوصفه
اباً ورأساً للكنيسة؛ ومن ناحية ثانية، وسيلة لممارسة سلطته
بذاته ومع المجمع الدائم ومع مجمع الاساقفة؛ ومن ناحية ثالثة، دعوة
للمشاركة بفعالية في رسالة الكنيسة، والتضامن على مستوى القدرات
البشرية والمادية، والتعاون والتنسيق في توزيع الكهنة وتلبية
الحاجات، واعادة النظر في الحدود الجغرافية للابرشيات وانشاء
ابرشيات جديدة عند الحاجة، وتفعيل جماعات الانتشار وتنظيم خدمتها،
وتعزيز اللقاءات الدورية لمطارنة الانتشار فيما بينهم ومع المجالس
الاسقفية المحلية (الفقرة 19).
***
صلاة
ايها الرب يسوع جدّد فينا الانتماء الى الكنيسة بروح
الايمان بك، والشركة مع الله والاتحاد مع جميع الناس، انت الآتي
لتجعل كل شيء جديداً. جدد فينا الوعي لهويتنا الكنسية لنؤدي شهادة
الحياة لها، ونكون جماعة الحوار والتلاقي مع غيرنا. انتزع من
العقول الذهنية المعادية لانجاب الحياة البشرية لكي لا يُحرم احد
من نعمة الوجود. احفظ في الكنيسة الروح المجمعية من اجل تعزيز
الشركة ونيل ثمارها. لك المجد والاكرام مع الآب والروح القدس الى
الابد. آمين.
الاحد 18 تشرين الثاني2007
بشارة زكريا
الصلاة مدرسة الحوار
من
القديس لوقا 1/5-25
كان في ايام هيرودس ، ملك اليهودية، كاهن اسمه زكريا، من
فرقة ابيا،له امرأة من بنات هارون اسمها اليصابات. وكانا كلاهما
بارين امام الله، سالكين في جميع وصايا الرب واحكامه بلا لوم. وما
كان لهما ولد، لان اليصابات كانت عاقراً، وكانا كلاهما قد طعنا في
ايامهما. وفيما كان زكريا يقوم بالخدمة الكهنوتية امام الله، في
اثناء نوبة فرقته، أصابته القرعة، بحسب عادة الكهنوت، ليدخل مقدس
هيكل الرب ويحرق البخور. وكان كل جمهور الشعب يصلي في الخارج، في
اثناء إحراق البخور. وتراءى ملاك الرب لزكريا واقفاً من عن يمين
مذبح البخور، فأضطرب زكريا حين رآه، واستولى عليه الخوف. فقال لله
الملاك: " لا تخف، يا زكريا، فقد استجيبت طلبتك، وامرأتك اليصابات
ستلد لك ابناً، فسمه يوحنا. ويكون لك فرح وابتهاج، ويفرح بمولده
كثيرين، لانه سيكون عظيماً في نظر الرب، ولا يشرب خمراً ولا
مسكراً، ويمتلىء من الروح القدس وهو بعد في حشاء امه. ويرد كثيرون
من بني اسرائيل الى الرب الههم. ويسير امام الرب بروح ايليا وقوته،
ليرد قلوب الآباء الى الابناء، والعصاة الى حكمة الابرار، فيهيىء
للرب شعباً معداً خير إعداد". فقال زكريا للملاك: " بماذا أعرف
هذا؟ فإني شيخ، وامرأتي قد طعنت في ايامها". فأجاب الملاك وقال له:
" أنا هو جبرائيل الواقف في حضرة الله، وقد ارسلت لأكلمك وابشرك
بهذا. وها أنت تكون صامتاً، لا تقدر ان تتكلم، حتى اليوم الذي يحدث
فيه ذلك، لانك لم تؤمن بكلامي الذي سيتم في أوانه". وكان الشعب
ينتظر زكريا، ويتعجب من إبطائه في مقدس الهيكل, ولما خرج زكريا، لم
يكن قادراً ان يتكلم، فأدركوا أنه رأى رؤيا في المقدس، وكان يشير
إليهم بالاشارة، وبقي أبكم. ولما تمّت أيام خدمته، مضى الى بيته.
بعد تلك الايام، حملت امرأته اليصابات، وكتمت أمرها خمسة أشهر، وهي
تقول: " هكذا صنع الرب اليّ، في الايام التي نظر اليّ فيها، ليزيل
العار عني من بين الناس".
زمن المجيء التحضيري لميلاد الرب يسوع، فادي البشر، يبدأ
بالبشارة لزكريا بمولد يوحنا المعمدان، لان مع يوحنا ينتهي الوحي
في العهد القديم، ويتواصل في العهد الجديد، وبالتالي تشكل رسالته
جزءاً لا يتجزأ من رسالة المسيح الفادي. ولهذا يقال عنه انه " آخر
نبي واول رسول". اللوحة الانجيلية تكشف قيمة الاسرة المصلية،
وشخصية يوحنا، وحوار الله مع الانسان. هذا الحوار قائم على ثلاث
مبادرات توحيها الاسماء: زكريا " الله تذكر (زِكارياه)، واليصابات"
الله اقسم"، ( أليشاباع)، ويوحنا " الله تحنن" ( ياهوحَنان).
***
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
الصلاة وتجليات مقاصد الله
" لا تخف يا زكريا، فقد سُمعت صلاتك"
(لو1/13).
زكريا وزوجته اليصابات زوجان "
باران امام الله ، حافظان وصايا الرب ورسومه بدون لوم". هذه
النعوت تعبير عن صلاتهما. فالصلاة هي قبل كل شيء مسلك وموقف
يتميزان بالبرارة، وحفظ الوصايا الالهية، والعيش المستقيم امام
الله والناس.
شاء الله ان يبلّغ البشرى لزكريا،
فيما كان يصلي في الهيكل مع الشعب، ويقوم بخدمة الكهنوت في دور
فرقته، فرقة ابيا من بني هارون، وهي الثامنة بين الفرق الكهنوتية
الاربع والعشرين التي ينظمها سفر الاحبار الاول (1احبار24/10).
تدخل هذه الفرق مداورة الى بيت الرب لتقديم البخور، بحيث تقوم كل
فرقة بخدمتها لمدة اسبوع، وكاهن منها يدخل المقدس ليحرق البخور
مختاراً من فرقته بالقرعة. فالصلاة هي الحوار بين الله الذي يتكلم
ويوحي والانسان الذي يصغي ويجيب طاعة وتسبيحاً، استفساراً وشكراً،
استغفاراً وتشفعاً. استجاب الله طلب زكريا اثناء خدمته.
ماذا طلب زكريا؟ بالطبع لم يطلب
ولداً لانه كان قد فقد الامل به، هو وزوجته، لان هذه كانت عاقراً،
وكلاهما متقدمان في السّن. طلبا ولداً منذ سنوات بعيدة، ولهذا قالت
اليصابات: " هذا ما صنع الرب اليّ، يوم نظر اليّ لينزع عاري من بين
الناس" (لو1/25). كان يلتمس، ما تطلب صلاة الجماعة، بل ما يطلبه
الكاهن باسم الشعب، ان يتجلى الخلاص المسيحاني. ولهذا علمنا الرب
في صلاة الابانا ان نطلب "ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك" (متى6/10).
لقد اٌعطي ولداً، " لم يولد مثله بين مواليد النساء" ( متى11/12)،
لانه سيشكل حلقة اساسية في تاريخ الخلاص بعهديه القديم والجديد.
فالله الذي اقسم " (اليشاباع- اليصابات) " تذكر" (زكريا) وعده
الخلاصي للبشر، " فتجلت رحمته" ( يوحنا) في البشارة للكاهن العجوز.
العائلة جماعة صلاة على مثال عائلة
زكريا واليصابات. فصلاة العائلة تكرّس حضور الله فيها وبين افرادها،
كما وعد الرب في الانجيل: "اذا اتفق اثنان منكم في الارض ان يطلبا
شيئاً، حصلا عليه من ابي الذي في السماء.فاينما اجتمع اثنان او
ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم"(متى18/19).هذا الحضور الالهي في
الاسرة، عبر الصلاة، يقوي متانة العائلة ووحدتها، ويشركها في قدرة
الله ، ويفتح القلوب لحب الناس، ويجعل افرادها قادرين على بناء
التاريخ بحسب مقاصد الله. بالصلاة تلتمس الاسرة العون
الالهي بروح التواضع والثقة، لكي تعيش ظروف حياتها المختلفة، بما
فيها من افراح والآم، وامال واحزان، باعتبارها تدخلات حب الله في
تاريخ الاسرة ( في وظائف العائلة المسيحية، 59).
الربط بين برارة زكريا واليصابات
والخدمة الكهنوتية في الهيكل انما هو للدلالة على ان الصلاة
العائلية تهيءْ الصلاة الليتورجية الخاصة بالجماعة الكنسية
من ناحية اولى، وتبسطها على ظروف الحياة الشخصية والزوجية
والعائلية والاجتماعية من ناحية اخرى (المرجع نفسه، 61).
2.شخصية يوحنا المعمدان
" سمّه يوحنا"
(لو1/13).
يوحنا
هو ثمرة الصلاة والمسلك المستقيم مع الله. وقد شاء الرب ان يكون
اسم المولود تعبيراً عن رحمة الله وحنانه. انه رحمة من الله
لوالديه وللشعب المنتظر خلاص الرب. وهو "السابق" الذي يسير
امام المسيح بروح ايليا النبي وقوته، فيردّ القلوب الى الله، ويعطف
بقلوب الآباء على الابناء، ويهدي العصاة الى حكمه البّر، ويعدّ
للرب شعباً صالحاً. هذا ما فعله بكرازته وبمنح معمودية التوبة،
فلُقّب " بالمعمدان"، وبأستشهاده في سبيل الحق.
تبقى كرازة يوحنا موجهة الى كل واحد
منا. وتظل شخصيته مثالاً يقتدى به. ما احوج مجتمعنا اللبناني الى
اشخاص مثل يوحنا يعملون على تغيير القلوب والذهنيات، ويتقدون غيرة
على الله والانسان والخير العام.
نحن بحاجة الى اصوات مسؤولة تقول
للسلطة السياسية مثلما قال يوحنا لهيرودس: " لا يحق لك ان تفعل
هذا". لا يحق للسلطة ان تسخّر الصالح العام للمصالح الخاصة او
الفئوية. لا يحق لها ان تتمادى في تدمير ما يميّز لبنان عن سواه
اعني: الديموقراطية والوفاق والحوار والتعددية في الوحدة.
3.حوار الله مع الانسان
" تراءى له ملاك الرب قائماً عن يمين
مذبح البخور، وخاطبه.
(لو1/11-12).
الله يأخذ المبادرة في الوقت المناسب،
شرط ان ينتظره الانسان والشعب، بالصلاة والسهر، لتتجلى المبادرة
الالهية. موجز كل صلاة هو صلاة الجماعة المسيحية الاولى: " يا
ربنا، تعال- مارانا تا "، يختم بها يوحنا الرسول كتاب الرؤيا
(22/20).
المبادرة الالهية حوار خلاصي،
وفي ضوئه كل حوار بين الناس يهدف الى خلاصٍ ما بالمفهوم الشامل:
خلاص التفاهم عند النزاع، وخلاص العيش معاً بكرامة واحترام متبادل
عند النفور والانفصال، وخلاص نيل الحقوق الشخصية عند انتهاكها
بالتعدي عليها او عند انتفائها لعدم القيام بموجب من قبل الآخرين،
وخلاص الديموقراطية والحرية عند بروز ممارسات ديكتاتورية تسلطية
وقمعية، وخلاص العيش الكريم عند استفحال الضائقة الاقتصادية، وخلاص
الحضارة والقيم عند تفشي الانحطاط والفساد الخلقي، وما سواه من
انواع الخلاص.
الحوار،
بحد ذاته، بطيء وتدريجي. يبدأ صغيراً ويكبر مثل حبة الخردل
(متى13/31). لا يتحمل التأجيل، بل يقتضي هاجس الساعة المناسبة
والشعور بقيمة الوقت امام التحديات المحرجة ومسؤولية البدء به، من
دون ان ننتظر الاخر ليباشره. فالحوار جزء لا بديل عنه في الجهد
المبذول لاحلال سلام دائم، ولضمانته بالتفاهم.
حوار الله مع زكريا،
بواسطة الملاك، حوار قديم بلغ نضجه في البشارة. هو قديم
تجلّى في سيرة زكريا واليصابات، وبلغ نضجه باعلان البشرى: "
ستلد لك امرأتك اليصابات ابناً ، فسمّه يوحنا. وستلقى فرحاً
وابتهاجاً، ويفرح بمولده اناس كثيرون" (لو1/13-14). للحوار غاية هي
اعلان بشرى، لكن الاعلان ملزم، شرط ان نقبله بحرية. الله لا
يفرض تصميمه الخلاصي فرضاً، بل يعرضه ويحرّض دائماً على قبوله
بحرية، لكي يجد الذي يقبله ملء سعادته في تحقيق ذاته وفقاً لهذا
الاعلان. هذا ما نشهده في حوار الملاك مع زكريا.
منذ زمن والكنيسة في لبنان والشعب
يطالبان السلطة السياسية بالحوار من اجل خلاص لبنان شعباً وارضاً
ونظاماً. غير ان مصالح السياسيين الشخصية تخيفهم من البدء به. بل
راحوا يحاربونه باطلاق ابواق التخوين والتهديد والاتهام، وبافتعال
الفتن الطائفية والقسمة بين اللبنانيين على اساس طائفي وحزبي،
معارضٍ وموالٍ. والادهى من هذا كله التماهي بين السلطة السياسية
والدولة الذي بات مساراً منظماً يعمل على تدمير الديموقراطية
والحوار والوفاق الوطني.
لكن اللوحة الانجيلية
تعلمنا عدم اليأس من الخلاص, فزمن المجيء الذي نبدأه يذكرنا
بالانتظار، بصبر وثبات وصمود. الفجر آتٍ مهما طال الليل، شرط ان
ندخل في حوار مع الله بالصلاة، ومع بعضنا البعض بطرح قضايانا بتجرد
وحرية ضمير، واحترام متبادل، وهاجس مشترك هو البحث عن الخلاص، على
اساس الحقيقة التي تجمع وتحرر.
***
ثانياً، الاسرة والقضايا
الخلقية والحياة
من وحي البشارة بمولد يوحنا نختار من
" معجم التعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة والقضايا
الاخلاقية والحياة" موضوع الجنين البشري وكرامته، كتبه
الاب اليسوعي
Angelo
Serra.
الالتباس بشأن الجنين البشري هو ان بعض التشريعات البرلمانية تعتبر
ان الجنين في مدة الاربعة عشر يوماً من الحبل ليس كائناً بشرياً،
بل " كتلة خلايا". لكن حبل اليصابات العاقر من زوجها زكريا العجوز،
حسب بشارة الملاك، وتعليم الكنيسة، يؤكدان ان الجنين البشري، منذ
لحظة اتحاد الخليتين التناسليتين الذكرية والانثوية (
fusion
des gamètes)،
له قيمة الولد واسمه، مع حق اساسي في الحياة والحب من والديه وفي
اهتمامهما به.
غير صحيح القول ان اللاقحة او البرعم الناتج عن تلقيح البيوضة
الانثوية
المسمّى "Zygote"
ليس بكائن بشري حتى اليوم الرابع عشر للحبَل، بل " كتلة خلايا".
تعلّم الكنيسة: "منذ ان تُخصب البيوضة، تبدأ حياة بشرية شخصية،
ليست حياة الاب ولا الام، بل حياة كائن بشري جديد ينمو لنفسه. ولن
يصبح ابداً بشرياً ان لم يكن كذلك منذ البدء. العلم الوراثي الحديث
يوفّر تأكيدات ثمينة لهذه الحقيقة الواضحة ابداً" (البابا يوحنا
بولس الثاني: انجيل الحياة،60).
فالبرعم
(
Zygote)
هو جنين ذو خلية واحدة مكوَّنة من اتحاد الخليتين
التناسليتين البويضة وزرع الرجل، تبدأ معها مسيرة تكوين الكائن
البشري، ثم يصير انشطار البرعم الى خليتين فاكثر يوماً بعد يوم
وشهراً بعد شهر.
هذا البرعم يتميز بميزتين اساسيتين: الاولى، انه يتمتع
بهوية واضحة، ولا يشكّل بالتالي كائناً مجهولاً؛ الثانية،
انه موجّه داخلياً نحو نموّ محدد تماماً، بحيث يصبح شخصاً بشرياً
ذا شكل جسدي واضح. البرعم-
Zygote
ينتمي هكذا الى الجنس البشري،
ويتمتع بهوية بيولوجية فردية، ويحتوي على برنامج محدد يجهّزه
بقدرات وراثية كبيرة. والبرعم-
Zygote
هو، من دون اي شك، نقطة المكان والزمان حيث " فرد بشري" يبدأ دورته
الحياتية الخاصة".
ان كل مولود لامرأة، مثل يوحنا المعمدان، كائن معروف باسم ابن منذ
اللحظة الاولى لاتحاد المشائج او الخليتين التناسليتين، ويمرّ عبر
ثلاث مراحل: التنسيق بين الخلايا التي تكوّن الجنين بكامله
في مسار دينامي وحيد؛ التواصل في تكوين كائن بشري وحيد له
هويته الخاصة التي تبني نفسها بنفسها عبر مراحل نوعية متماسكة؛
التدرّج هو نمو هذا الكائن الشخصي حتى شكله النهائي مع كل ما
له من قدرات مميزة عن غيره.
****
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق
المجمع البطريركي الماروني
تتناول الخطة الراعوية موضوع
الابرشية من النص المجمعي الخامس: " البطريركية والابرشية
والرعية"، فتستعرض وضعها الراهن.
1. الابرشية، كما يحددها
المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، هي " قسم من شعب الله وُكلت
رعايته الى اسقف يدبّره بالتعاون مع مجلسه الكهنوتي، ويجمعه في
الروح بواسطة الانجيل والافخارستيا. فيكوّن كنيسة خاصة تكون حاضرة
حقاً وعاملة فيها كنيسة المسيح الواحدة المقدسة الرسولية الجامعة"
(القرار في مهمة الاساقفة،11).
يستمد الاسقف من المسيح سلطته
الاسقفية بالرسامة المقدسة، ويمارسها كنائب له ومندوب عنه، بشكل
مألوف ومباشر (الفقرة،20).
2. للابرشية هيكلية مؤسساتية
تتألف من اشخاص ومجالس تحددها مجموعة قوانين الكنائس الشرقية.
أ- الاشخاص
يؤلفون دائرة الابرشية وهم: النائب العام والنواب الاسقفيون
والنائب القضائي ورئيس القلم والقيم الابرشي واشخاص مسؤولون عن
شؤون الكهنة والعمل المسكوني والدعوات الاكليريكية والتعليم
المسيحي واعداد المؤمنين لقبول الاسرار وتعزيز رسالة العلمانيين
والمنظمات الرسولية وحفظ التراث والفن الكنسي واستعمال وسائل
الاعلام، وفقاً لما ترسمه القوانين الكنسية (الفقرة 22).
ب- المجالس والهيئات
هي مؤسسات قانونية لها صلاحيات استشارية وتقريرية يحتاج اليها
الاسقف ليمارس صلاحياته الراعوية والكنسية والاجرائية والادارية
والقضائية. هذه المؤسسات هي: المجلس الكهنوتي وهيئة المستشارين
الابرشيين والمجلس الراعوي الابرشي (الفقرة 23).
3. يدعو النص المجمعي كل ابرشية الى
انشاء الهيكلية المؤسساتية فيها التي من شأنها ان تعزز
التعاون بين الكهنة والمكرسين والمؤمنين العلمانيين بحكم المعمودية
والميرون والدرجة المقدسة، وتشركهم في كهنوت المسيح المثلث:
التعليم والتقديس والرعاية. ومن شأنها ان تقتضي تأهيل الكوادر
العاملة في دائرة الابرشية، وتدريبهم على اكتساب المهارات وعلى
العمل ضمن فريق.
ان الهيكلية المؤسساتية وسيلة
تمكّن الاسقف من تحقيق التزامه الدائم باعلان انجيل المسيح
لخلاص العالم، وسط حاجات ماسّة وجديدة تدعو الى مشاركة جميع قوى
شعب الله.
وتجسّد الهيكلية المؤسساتية الشركة
في الكنيسة التي تقود الاسقف الى اعتماد نهج راعوي منفتح على
التعاون مع الجميع، من اجل تحقيق " مارونية الازمنة الجديدة" التي
تتطلب استحداث جميع الوسائل الممكنة للحفاظ بامانة على الهوية
المارونية، ونقل وديعة الايمان من جيل الى جيل وبسطها وشرحها
والعيش بموجبها (الفقرات 25-29).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، لقد علمتنا ان الصلاة
مسلك امام الله في الحق والبّر قبل ان تكون كلمات. وجّه نظرنا اليك
لنتعلم كيف نصلي. علّمنا حوار الانفتاح والطاعة مع الآب السماوي،
لنحسن الحوار فيما بيننا، كما حاورت جميع الناس بصبر وثقة وثبات.
ساعد الوالدين في حوارهم مع من هو ثمرة حبهم، الكائن ـ الابن الذي
يتكون في حشا الام، ومنذ اللحظة الاولى. واعطنا ان ندرك ان ولادتنا
الثانية بالمعمودية في الكنيسة، كابناء لله، شبيهة في كرامتها
والاعتناء بها بالجنين في حشا الام. لك المجد مع الآب والروح القدس
الى الابد، آمين.
الاحد 25 تشرين الثاني 2007
بشارة العذراء مريم
ملء الزمن وبدء عهد جديد
من انجيل القديس لوقا 1/26-38
قال لوقا البشير: في الشهر السادس، أرسل جبرائيل من عند
الله الى مدينة في الجليل اسمها الناصرة، الى عذراء مخطوبة لرجل من
بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. ولما دخل الملاك اليها
قال: " السلام عليك، يا ممتلئة نعمة، الرب معك". فاضطربت مريم
لكلامه، وأخذت تفكر ما عسى أن يكون هذا السلام ّ! فقال لها الملاك:
" لا تخافي، يا مريم، لانك وجدت نعمة عند الله. وها انت تحملين،
وتلدين ابناً، وتسمينه يسوع. وهو يكون عظيماً، وابن العلي يدعى،
ويعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، فيملك على بيت يعقوب الى الابد،
ولا يكون لملكه نهاية!".
فقالت مريم للملاك: " كيف يكون هذا، وأنا لا اعرف رجلاً؟".
فأجاب الملاك وقال لها: " الروح القدس يحل عليك، وقدرة العلي
تظللك، ولذلك فالقدوس المولود منك يدعى ابن الله! وها إن
اليصابات، نسيبتك، قد حملت هي ايضاً بأبن في شيخوختها. وهذا هو
الشهر السادس لتلك التي تدعى عاقراً، لانه ليس على الله أمر
مستحيل!". ففالت مريم: " ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك!".
وانصرف من عندها الملاك.
انجيل بشارة مريم العذراء يشكل نقطة وصول وانطلاق. فالبشارة
الخلاصية للمرأة الاولى
Protevangile
( تك 3/15) تتحقق في البشارة لمريم بمولد مخلص العالم. فيسميها
بولس الرسول " ملء الزمن".
***
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
ملء الزمن
"ولما بلغ الزمن، ارسل الله ابنه، مولوداً لامرأة في حكم الشريعة،
ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فننال نحن منزلة البنين" ( غلاطية
4/4).
ملء الزمن"
هو ان البشارة لمريم تحقيق للوعد الذي قطعه الله في البشارة
الاولى، وهو الانتصار على الشر وعلى الخطيئة. كان ذلك عندما خاطب
الحية: " اجعل عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، فهو يسحق
رأسك، وانت ترصدين عقبه" ( تكوين3/15). المرأة هي مريم عذراء
الناصرة، ونسلها هو فادي الانسان والمفتدون به. الحية هي الشيطان،
ابو الكذب (يو8/44) والمسبب الاول للخطيئة في تاريخ الانسان. يُسمى
في اللغة اليونانية "
diabolos"
اي الذي " يفتري ويفرق". الاشرار الذين ينهجون نهجه هم ايضاً من
نسله.
ملء الزمن " يتحقق في مريم وبواسطتها.
يتحقق في مريم هذا الانتصار على الشر والخطيئة. انها " الممتلئة
نعمة"، بكر المفتدين بابن الله، الذين نالوا منزلة البنين، فاصبحوا
ابناء الله بالابن الوحيد. تعلن الكنيسة، بهدي الروح القدس الذي
يقودها الى كل الحقيقة (يو16/3)، عقيدة الحبل بلا دنس، اي ان مريم،
بنعمة خاصة وباستحقاق لعملية الفداء، تكونت في حشا امها، حنة زوجة
يواكيم، معصومة من الخطيئة الاصلية، التي يولد فيها كل انسان،
بالوراثة من آدم وحواء، ابوينا الاولين، وانها لم تعرف الشر ولم
ترتكب خطيئة شخصية. هذه العقيدة اعلنها الطوباوي البابا بيوس
التاسع في 8 كانون الاول 1854. واكدتها سيدتنا مريم العذراء بعد
اربع سنوات عام 1858في ظهوراتها لبرناديت في مغارة
Massabielle
في لورد، عندما سألتها هذه عن اسمها، فاجابت: " انا الحبل بلا دنس"
"
Je suis
l'Immaculée Conception".
ويتحقق بواسطتها هذا الانتصار على الخطيئة والشر.
بجوابها " انا امة الرب" بالنسبة الى المولود منها " ابن العلي"،
الذي تنبأ عنه اشعيا انه " خادم الرب" ( مر 421/1؛ 49/3 و6؛ 52/13)
وقال عن نفسه: " ان ابن الانسان لم يأت ليُخدم بال ليَخدم، ويبذل
نفسه فدى عن الكثيرين" ( مر10/45)، واعلنت مشاركتها في رسالة ابنها
مخلص العالم وفادي الانسان. في الواقع شاركت مريم في خدمة الفداء،
كما يعلّم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: " مريم، ابنة آدم،
اذ تقبلت بكل قلبها ارادة الله الخلاصية، سلّمت نفسها بكليتها،
كأمة الرب، لشخص ابنها وعمله، لتكون، بالانقياد له ومعه وبنعمة
الله القدير، اداة الفداء وشريكة في الفداء. يقول القديس ايريناوس:
انها بطاعتها قد صارت، لنفسها وللجنس البشري كله، علة خلاص. ويصرخ
الآباء القديسون: بحواء كان الموت وبمريم كانت الحياة. سلكت
العذراء الطوباوية سبيل الايمان محافظة على الاتحاد مع ابنها حتى
الصليب، حيث وقفت منتصبة لا لغير تدبير الهي، متألمة مع ابنها
الوحيد ألاماً مبرحة، مشتركة في ذبيحته بقلب والدي. حتى سلمها، وهو
يموت على الصليب، اما لتلميذه: " يا امرأة هوذا ابنك" ( الدستور
العقائدي في الكنيسة" 56 و58). وهكذا اتضح سر االآلم البشري، ويبقى
على كل واحد منا ان يكتب صفحة خاصة به في انجيل الألم الخلاصي
(البابا يوحنا بولس الثاني).
في ملء الزمن العذراء مريم تحبل وتلد ابناً يسمونه
عمانوئيل اي " الله معنا" ( اشعيا 7/14).
نبؤة اشعيا التي قيلت قبل سبع مئة سنة من الميلاد، تحققت مع
البشارة لمريم. " كيف يكون هذا وانا لا اعرف رجلاً؟" بكلام آخر "
انا عذراء وليست لي علاقات زوجية مع رجل". وكان جواب الملاك: "
الروح القدس ينزل عليك، وقدرة العلي تظللك، لذلك فالمولود منك قدوس
وابن الله يدعى".
البتول ام: البتولية والامومة تلتقيان في هذه
الكرامة والدعوة للمرأة وللرجل. الامومة الطبيعية في الزواج من
جهة، والامومة الروحية في البتولية المكرسة من جهة اخرى هما دعوة
الى الحب بهبة الذات بدون مقابل، واستعداد فريد للاهتمام بالآخر في
الزواج والحب الزوجي العائلي كما في البتولية بحب المسيح عريس
المكرسات وعروس المكرسين. الزواج هو لخدمة المجتمع بنقل الحياة
وتربيتها وخير الانسان، اما البتولية المكرسة فهي من اجل
الملكوت تخدم الكلمة والنعمة والمحبة، وتستبق ملكوت السماء حيث
الانسان مدعو للاتحاد بالله، وتسطع كعلامة لمجىء الملكوت. لهذا
الملكوت يتكرس بنعمة خاصة، رجال ونساء، بكل قوى النفس والجسد، في
الحياة الزمنية. هذا النهج سلكه الرب يسوع والرسل الاثنا عشر، وما
زال يتواصل الى يومنا في الجمعيات الرهبانية المتفرغة للتأمل او
الرسالة، وفي جماعات المكرسين العلمانيين، وفي الحركات الرسولية
والجمعيات والرابطات.
2.
بداية العهد الجديد
حدث البشارة لمريم هو بد العهد الجديد والنهائي، عهد
الخلاص المعقود بين الله والبشرية، والممهور بدم السيح الفادي.
مريم، عذراء الناصرة، هي مثال لكل رجل وامرأة. في البشارة تجلت
حقيقة الله الواحد والثالوث، حصلت امومة مريم الالهية، وتحقق
الاتحاد العميق بالله، واصبحت مريم مثال المؤمنين وصورة الكنيسة.
1)
في البشارة اول اعلان للثالوث
من بعد ان اعلن الله ذاته، بانواع شتى في العهد القديم، ها هو في
البشارة يكشف عن حقيقته الثالوثية. يُنشد القديس غريغوريوس
العجائبي: " انك تشعّين بالنور، يا مريم. فيك يُمجد الآب، الذي لا
بدء له والذي ظللك بقدرته. وبك يُعبد الابن الذي حملته بالجسد. وبك
يعظم الروح القدس، الذي أنجز في احشائك ميلاد الملك العظيم. انه
بفضلك، يا ممتلئة نعمة، عُرف في العالم الثالوث الاقدس والواحد في
الجوهر" ( كرامة المرأة، 3، حاشية 16).
لو لم يكن الله ثالوثاً لما كان التجسّد الالهي ممكناً،
ولما تحقق الفداء، ولما كان باستطاعة مريم ان تتحد بالثالوث، كابنة
للآب وامّ للابن وعروس للروح القدس، ولما كانت الافخارستيا
والاسرار. وحدانية الله لا تستطيع لوحدها ان تحقق كل ذلك. ولهذا
يستحيل على غير المسيحيين فهم التجسد والفداء والتبرير، اذا لم
يقبلوا اولاً هذه الحقيقة بالايمان قائلين مع القديس انسليموس:
"اؤمن لأفهم".
2)
مريم والدة الاله
اعلان الملاك: " المولود منك قدوس وابن العلي يدعى"، اصبح عقيدة
ايمانية اقرّها مجمع افسس عام 431 بصفة رسمية، هي ان مريم "
والدة الاله" (
Theotokos).
ثم حددها من جديد مجمع خلقيدونية (451)، واستعرضها باسهاب المجمع
المسكوني الفاتيكاني الثاني (الدستور العقائدي في الكنيسة، 52-69).
يسوع المسيح كشخص له طبيعتان كاملتان، طبيعة الهية وطبيعة بشرية.
حبلت مريم، بقوة الروح القدس، وهي عذراء، بانسان هو ابن الله، الذي
هو واحد مع الآب في الجوهر. ان لقب " والدة الاله" اصبح اسم
العلم للاتحاد بالله الذي حظيت به العذراء مريم، والذي يشكل
التحقيق الاسمى للدعوة الفائقة الطبيعة الموجهة الى كل انسان، لكي
يتحد بالآب، بفضل نعمة الروح، ويكون ابناً في الابن. هذا الاتحاد
معروض للانسان، كنعمة وهبة مجانية من الروح، ويفترض قبولاً حراً من
كل انسان. لقد اعربت مريم عن ارادتها الحرة بالقبول، فكان تجسد
الكلمة الالهي. ان كل عمل يقوم به الله، في علاقته مع البشر، يحترم
دائماً الارادة الحرة " للآنا" البشري، وقد احترمها في البشارة
لعذراء الناصرة ( كرامة المرأة، 4).
نتيجة هذه الامومة الالهية والاتحاد العميق العضوي بالله
والانتصار على الخطيئة الاصلية والشخصية، كانت انتقال مريم
الكلية القداسة بنفسها وجسدها الى السماء. وهي عقيدة رافقت كل
اجيال الكنيسة والتقليد الرسولي، وفي العام 1950 اعلنها البابا
بيوس الثاني عشر عقيدة ايمانية.
3)
مريم مثال الكنيسة العذراء والام
يعلم الدستور العقائدي في الكنيسة: ان مريم هي مثال
الكنيسة، الملقبة، هي ايضاً وبحق، اماً وعذراء، وتبدو
مثالاً للبتول والام معاً بطريقة سامية وفريدة. لقد ولدت مريم
ابنها الذي جعله الله البكر بين اخوة كثيرين ( روم 8/29) اي بين
المؤمنين الذين تشارك في ولادتهم وتربيتهم بحبها كأم. والكنيسة، اذ
تتأمل في قداسة العذراء العجيبة، وتقتدي بمحبتها، وتصنع مشيئة الآب
بامانة، تصبح بدورها اما، بفضل كلمة الله التي تتلقاها عن طريق
الايمان. انها بالكرازة والمعمودية، تلد لحياة جديدة ودائمة ابناء
حبل بهم من الروح القدس، ومن الله ولدوا. والكنيسة هي ايضاً عذراء،
لانها قدمت لعريسها ايمانها، وتحفظه بامانة كاملاً، لا يشوبه عيب
(فقرة 63 و64). وهكذا لا مجال لفهم سرّ الكنيسة وحقيقتها وحيويتها،
بدون الاستعانة بأن الله.
****
ثانياً، الاسرة والقضايا الاخلاقية والحياة
في ضوء تجسّد ابن الله، الشخص الثاني من الثالوث الاقدس، الذي ولج
حشا مريم الطاهر، من دون زرع رجل، بل بقوة الروح القدس، فاصبح نطفة
او لاقحة (
Zygote)
اي بيوضة مُخصبة، آخذاً منها طبيعة بشرية، نختار موضوع الحالة
القانونية للجنين البشري،الذي كتبه البروفوسور
Rodolfo
Barra،
من " المعجم بالتعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة
والقضايا الاخلاقية والحياة".
خلافاً لما يدّعي البعض ان اللاقحة التي تسبق الجنين، وتسمى "pre-embryon"
في الاسبوعين الاولين للحبَل، ليست كائناً بشرياً بل " كتلة من
الخلايا". ولهذا تجري اختبارات طبية عليها، ويتم انتاج خلايا
ملقّحة في الانبوب في اطار الاخصاب الاصطناعي، فيجمّد بعضها
للاستعمال والاختبارات العلمية، ويوضع بعضها في رحم الام، ويتلف
بعضها الآخر الزائد.
لكن يسوع، هذا الكائن البشري منذ اللحظة الاولى لتكوينه
لاقحة في حشا مريم، لم يكن "كتلة من الخلايا" فقط، ولم يكن شيئاً
للاستعمال، بل كان كائناً بشرياً معداً ليصبح مخلص العالم وفادي
الانسان. اللاقحة-
Zygote
هي اذن شخص قانوني
ينعم، مثل اي شخص قانوني آخر، بالحق في الحياة وبالعناية والكرامة
والقدسية. هذه الحقوق مطلقة ويجب ان
تُضمن
في كل الظروف.
تؤكد المادة 6 من الشرعة العالمية لحقوق الانسان ان
" لكل كائن بشري الحق، في كل مكان، في الاعتراف بشخصيته
القانونية". هذا يعني ان لفظتي " بشري" و " شخص" تعنيان حقيقة
واحدة هي الشخص القانوني صاحب حقوق. وتعنيان ان كل كائن
بشري شخص ينعم بالحماية القانونية من الشرع.
لكن تاريخ القانون عرف حقبات من الزمن لم تنعم فيها كل
الكائنات البشرية بكرامة الشخص البشري. بل كثيراً ما استخدمت سلعاً
للبيع والشراء، وسلعاً سياسية واقتصادية وصناعية.
المفهوم القانوني للشخص هو من صنع القانون بتأثير
كبير من الحضارة المسيحية. ان يكون كل كائن بشري شخصاً يعني ان كل
الكائنات البشرية اشخاصاً متساوين أكانوا اجّنة في بطون امهاتهم ام
مولودين، صغاراً او كباراً. وبالنتيجة، الاجهاض، اياً كان وصفه
ونوعه، جريمة قتل كقتل اي انسان، والموت الرحيم جريمة قتل كقتل اي
انسان.
لا يوجد درجات على صعيد الشخص البشري ليكون صاحب حقوق
اساسية. ولا يوجد، في المسيحية، كائنات بشرية من درجة ثانية. حق
التنعم بالحقوق الاساسية لا يقتضي عمراً معيناً او وضعاً اجتماعياً
او اقتصادياً، او انتماءً سياسياً، او ديناً معيناً، او عرقاً او
جنساً او لوناً او حالة صحية. كل كائن بشري، في اي حالة كان، شخص
بشري كامل الحقوق.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تعرض الخطة الراعوية من النص المجمعي: " البطريركية
والابرشية والرعية" موضوع الرعية بواقعها الراهن
وتطلعاتها المستقبلية (الفقرات 30-45).
الرعية جزء من شعب الله وخلية اساسية في الجسم
الكنسي، تضمّ في حضنها فئات بشرية متعددة، وتمثّل نوعاً ما الكنيسة
المرئية القائمة على الكرة الارضية. تحتاج الى كهنة مؤهلين للخدمة
في رعايا القرى وفي رعايا المدينة مع الاهتمام بمن هم من كنائس
اخرى واديان اخرى، والتعاون مع الاديار والمدارس والمؤسسات
المتواجدة على ارضها (الفقرات 30-36).
من اجل هذه الغاية يدعو النص المجمعي كل رعية الى تفعيل
لجنة الوقف والمجلس الرعوي فيها.
1. تشكل لجنة الوقف عنصراً اساسياً في ادارة شؤون
الرعية. فكاهن الرعية يسعى بالتعاون معها الى بناء جماعة رعوية
تنعش الايمان لدى المؤمنين والالتزام الروحي والكنسي. فالرعية
مشروع بناء متواصل بشراً وحجراً، ما يقتضي تشكيل لجنة لادارة الوقف
منتجة، ووضع مخطط راعوي وبرنامج عمل من اجل بلوغ الاهداف الاربعة
من اقتناء الاموال الزمنية، هي: العبادة الالهية، الرسالة، اعمال
المحبة، ومعيشة الكاهن ومعاونيه.
لكي تقوم لجنة الوقف بمسؤولياتها ينبغي: توعية اعضائها على
ابعاد خدمتهم الكنسية، والتدقيق العلمي في حساباتها من خلال دائرة
المالية في المطرانية، وتطبيق القوانين والاسس العلمية في تلزيم
المشاريع، واختيار شباب ملتزمين وذوي كفاءة وخبرة يكونون اعضاء
اللجنة، واشراك نساء كفوءات فيها (الفقرات 37-40).
2. المجلس الرعوي هو الهيئة الحاضنة لعمل الرعية
الذي يطول مختلف المجالات ويتعاون فيه ابناء الرعية ويتكاملون. تضم
هذه الهيئة كل العاملين في القطاع الروحي والاجتماعي والاداري
والمالي. وتحمل مع الكاهن هموم الرعية وتعمل معه من اجل بنيان
الجسم الكنسي.
اهمية المجلس الرعوي انه يفعّل دور العلمانيين بحكم
معموديتهم الى جانب العمل الكهنوتي بحكم الدرجة المقدسة، ويشدد
الانتماء الكنسي، ويبيّن المعنى اللاهوتي للجسم الكنسي، ويوزّع
الادوار في الرعية بين اللجان والمنظمات الرسولية.
اما مهمته الاساسية فهي الاشراف على العمل الرعوي،
وتنظيم البرامج الراعوية، والمحافظة على التوازن الحيوي بين مختلف
القطاعات، وانعاش حياة الرعية، وتمكين ابنائها من التعاون في تأدية
الرسالة.
ويعنى المجلس الرعوي بانشاء امانة سر في الرعية تعمل
على ارشفة موجوداتها ووثائقها وتنظيم امورها؛ وباختضان الحركات
الرسولية وتشجيع حياتها وتوظيف جهودها في العمل الرعوي
المشترك؛ وباجراء احصاء دقيق لسكان الرعية؛ وباحياء
الاعياد والاحتفالات الموسمية؛ وبابتكار اساليب تواصل
مع ابنائها المقيمين والمنتشرين؛ وبايجاد وسائل دعم مالي
لمشاريع الرعية (الفقرات 41-46).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، لقد شرّفت، بتجسدك من البتول مريم الكلية
القداسة، كرامة الامومة والبتولية المكرسة. اعضد بنعمتك كل الازواج
الذين اشركهم الآب بسرّ الابوة والامومة، لكي يعيشوا مسؤولية
الانجاب والتربية. قدّس بنعمتك المكرسين والمكرسات، لكي يجعلوا من
بتوليتهم المكرسة ابوّة وامومة روحية خصبة بالنعمة والمحبة.
وبتجسدك أظهرت كرامة الجنين وشخصيته القانونية وحقه في الوجود. أنر
بهذه الحقيقة المشترعين البرلمانيين لكي تتأمن لكل كائن بشري ما
للشخص، اياً كان، من حقوق اساسية. اعضد الكنيسة الحاضرة في كل رعية
لتعزز دائماً ثقافة الحياة وتحميها من جميع المخاطر. لك وللآب
وللروح القدس كل مجد واكرام الآن والى الابد. آمين.
الاحد 2 كانون الاول2007
زيارة مريم لاليصابات
شرف الخدمة
من انجيل القديس لوقا 1/ 39-46
فال لوقا البشير: في تلك الايام ( بعد البشارة بيسوع)، قامت
مريم وذهبت مسرعة الى الجبل، الى مدينةٍ في يهوذا. ودخلت بيت
زكريا، وسلمت على اليصابات. ولما سمعت اليصابات سلام مريم، ارتكض
الجنين في بطنها، وامتلأت من الروح القدس. فهتفت بأعلى صوتها
وقالت: مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك! ومن أين لي هذا
ان تأتي اليّ أم ربي؟ فها منذ وقع صوت سلامك في أذتيّ، ارتكض
الجنين ابتهاجاً في بطني! فطوبى للتي آمنت أنه سيتم ما قيل لها من
قبل الربّ!". فقالت مريم: "تعظم نفسي الرب...
**
بالزيارة لاليصابات تستهل مريم العذراء، الحامل بيسوع، رسالة
الخدمة التي اعلنتها يوم البشارة: " انا خادمة الرب" ( 1/38). وهي
خدمة دامت ثلاثة اشهر، حتى مولد يوحنا المعمدان، وكشفت عن قيمتها
بما تضمنت من ايحاءات الهية، وعن الشرف الذي توليه لصاحبها بفضل
هذه الايحاءات. قال الرب يسوع: " من اراد ان يكون الكبير فليكن
خادم الجميع" ( مر9/35). وعلم بالمثل: " لم يأتِ ابن الانسان
ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه فدى عن الكثيرين" ( متى10/45). من مثل
العذراء مريم، اصبحت الخدمة ملوكية، وتمارس بفضيلة المسؤولية.
***
اولاً، شرح نص الانجيل
1. انجيل الزيارة: انكشاف سرّ الله والانسان
وضعت
مريم العذراء نفسها في خدمة التجسد والفداء، واخذت موقف " امة
الرب" في خدمة الانسان. وبقولها " فليكن لي حسب قولك " (لو1/38)،
اعربت عن طاعة الايمان لكلام الرب الذي يوحي، وعن التزامها في خدمة
الله ومقاصده. قامت عفوياً بزيارة اليصابات لتخدمها طيلة اشهر
حبلها. ولم تكن تتوقع ما سيجري. لكن الله يتدخل في واقع حياتنا
اليومية واعمالنا الوضيعة والعفوية، لاسيما تلك التي نقوم بها بحب
وسخاء. لذا انشدت مريم: " تعظم نفسي الرب لانه نظر الى تواضع أمته"
( لو1/48).
في هذا الجو من الخدمة والصلاة كشف الله المزيد من سرّه وسرّ
الانسان:
أ- حيث المسيح، هناك الروح القدس.
امتلأت اليصابات من الروح الفائض من كلمة الله المتجسد، وهو جنين،
حين وقع صوت مريم في اذنيها. هذا الروح اوحى اليها سرّ مريم فتنبأت
اليصابات مكمّلة ما اوحاه الله بواسطة جبرائيل الملاك: " مباركة
انت بين النساء، ومباركة ثمرة بطنك، انت يا ام ربي" (لو1/42-43).
عن هذا الروح القدس، الذي سيفيضه المسيح القائم من الموت على
الكنيسة والمؤمنين، قال: " هو يقودكم الى الحقيقة كلها، ويذكّركم
بكل ما قلته لكم" (يو14/26؛16/13). يعضد الروح، مدى الاجيال،
السلطة الكنسية التعليمية في عرض حقائق الايمان وتفسيرها، وفي ما
يجب ان نؤمن به عقائدياً، وما يجب ان نعمل خلقياً، وما يجب ان نصبو
اليه نهيوياً ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 115-117)،
وينير من الداخل قلوب المؤمنين لفهم كلام الله وقبوله (البابا بولس
السادس، الحياة البشرية،29). وبهدي الروح عينه طوبت اليصابات مريم
على ايمانها الوطيد بوعود الله التي ستتم: " طوبى لتلك التي آمنت
انه سيتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو1/45). وحوّلت مريم هذه
النبؤة صلاة: " ها منذ الآن تطوبني جميع الاجيال لان القدير صنع بي
العظائم" ( لو1/48-49).
ب- حيث المسيح هناك الفرح.
بمناسبة لقاء مريم واليصابات، التقى يسوع ويوحنا، وهما جنينان
وتفاعلا: "منذ وقع صوت سلامك في اذني، ارتكض الجنين ابتهاجاً في
بطني" (لو1/44). في عرس قانا الجليل، بوساطة مريم، افاض يسوع الفرح
في القلوب، بتحويله الماء الى خمر (يو2/1-11). فرح المسيح هو سلام
القلوب الذي ينفي كل اضطراب وخوف (انظر يوحنا 14/27)، فرح لا
يستطيع احد انتزاعه من القلوب (يو16/22)، بل يولي الثقة والصمود
بوجه المحن برجاء الغلبة: " كلمتكم بهذا ليكون لكم بي السلام.
سيكون لكم في العالم ضيق. لكن ثقوا: انا غلبت العالم" (يو16/33).
ج- في ضوء المسيح الكلمة ينكشف سرّ الانسان.
لقاء الجنينين يسوع ويوحنا عند لقاء الوالدتين، دلّ على ان
الحياة البشرية مقدسة منذ اللحظة الاولى لتكوينها في حشا الام،
لان مصدرها من الله. فيوحنا هو ابن الوعد لزكريا، ويسوع الاله
المتجسد. لا يحق لاحد ان يتعدى على الحياة البشرية قبل ولادتها
وبعدها (البابا يوحنا بولس الثاني، انجيل الحياة، 61)، أكان هذا
التعدي اجهاضاً ام تدخلاً علمياً على الاجنة، ام قتلاً متعمداً، ام
قتلاً رحيماً، ام انتحاراً، ام تعذيباً، ام انتهاكاً للكرامة
والحقوق (التعليم المسيحي، 2270-2283). انها كلها جرائم بحق الحياة
البشرية التي مصدرها الله، وبالتالي بحق الله نفسه الذي امر
بالوصية " لا تقتل" (متى5/21-22)، وبالوصية القديمة الجديدة: "
احبب قريبك كنفسك" ( مر12/31).
ودلّ اللقاء على ان الجنين كائن
بشري، له شخصيته وحقوقه، أكان في ايام تكوينه الاولى مثل يسوع،
ام في شهره السادس مثل يوحنا. " انه مِلك الله الذي كوّنه ويراه،
وهو لا يزال نطفة صغيرة لا شكل لها، ويتوسم فيها انسان الغد
المعدودة ايامه والمكتوبة دعوته في "سفر الحياة" (مز138/1،13-16).
أكّد الكاتب اللاتيني ترتليانوس: "ان منع الجنين من الولادة جرم
قتل. لا فرق بين قتل نفس مولودة في حشا الام واي شخص بشري آخر"
(انجيل الحياة، 61).
2. المرأة والخدمة
في
ضوء انجيل الزيارة، والخدمة، ينجلي وجه المرأة الزوجة والام واهمية
دورها في المجتمع والكنيسة والمحيط المهني. انها تنعم بكرامة دافعت
عنها الكنيسة باستمرار، (انظر البابا يوحنا بولس الثاني: كرامة
المرأة ،6).
تندد
الكنيسة بانتهاك كرامة المرأة
في مختلف وجوهه، ولاسيما العنف الممارس ضدها، واستغلالها جنسياً
لمآرب تجارية واعلانية وشهوانية، ومنعها من حقوقها، وتحقيرها.
كما تندد بالحطّ من قيمة الامومة ان لم يكن بالمعاداة لها،
سواء لمنافع شخصية، مثل عدم تحمل اعباء الامومة، والتحرر الكامل من
الواجبات العائلية، والمحافظة على تناسق الجسد، ام لاجل حماية
الانتاج الصناعي والمهني والتعليمي، ام بداعي عدم التقيد بزواج
والعيش في المساكنة غير الشرعية او في الاتحادات الحرّة. كل ذلك من
اجل حماية كرامة المرأة من جهة، ومن اجل تجنيب العائلة والبشرية
خسارة
جسيمة،
اذ لا سبيل للحلول محلّ المرأة في انجاب الاولاد وتربيتهم. لا تنفك
الكنيسة تطالب الدولة بسنّ شرائع تحمي الامومة في مسؤوليتها
المزدوجة، وتوازن بين تعزيز المرأة مهنياً وحماية دعوتها كأم
ومربية ( خطاب البابا يوحنا بولس الثاني للمجلس الحبري للعائلة، في
24 اذار 1994، استعداداً للمؤتمر الدولي الرابع حول المرأة في بكين
سنة 1995).
ان
وجه مريم العذراء
" خادمة الرب" (لو1/38) يسلّط الضوء على المرأة، لكون الله قد لجأ
الى امرأة والى خدمتها الحرة والفاعلة، ليكمّل حدث تجسد الابن
الالهي. ومريم كالمرآة، اذا نظرت اليها المرأة وجدت جمال
انوثتها وكرامتها واسمى ما ينطوي عليه قلبها من مشاعر مثل:
كمال هبة الذات بدافع من الحب، القدرة على الصمود في وجه افدح
الآلام، الامانة المخلصة، النشاط بدون ملل، البداية من جديد برجاء،
الخدمة بسخاء وبدون مقابل (البابا يوحنا بولس الثاني، ام الفادي،
46).
بتكريس ذاتها في خدمة الرب، وضعت مريم نفسها في خدمة جميع الناس،
لخدمة المحبة. هذا ما جعلها " ملكة السماء والارض" كما تضرع اليها
جماعة المؤمنين، وكما يكرمها شعوب وامم. هكذا ينبغي فهم السلطة
في العائلة والمجتمع والكنيسة: ملوكية تخدم، وخدمة تملك ( رسالة
الى النساء،10). ليست السلطة تسلطاً بل خدمة ( انظر لوقا
22/24-30).
للمرأة دور مميز: دور الام التي تقدم للكائن البشري
حشاها بفرح وسخاء، وترافق خطاه في الحياة، وتعضده في نموه؛ دور
الزوجة التي تربط مصيرها بمصير رجل، بهبة ذات متبادلة في خدمة
الشركة والحياة؛ دور الابنة والاخت التي تحمل في قلب
العائلة والمجتمع مشاعر الحنان والسخاء ومبادرات فرح وسلام؛ دور
العاملة الملتزمة في مختلف حقول النشاط البشري: الاقتصادي،
الثقافي، الفني، السياسي، الاعلامي، التربوي، فتغنيها بمساهمتها
فيها وبانسنتها؛ دور المكرسة في الحياة الرهبانية او في
العالم، على مثال اكبر النساء، ام المسيح الكلمة المتجسّد، التي
تنفتح بروح الطاعة والامانة لمحبة الله، وتساعد الكنيسة والبشرية
جمعاء في اعطاء جواب مخلص لله الذي يريد توطيد شركته مع خلائقه؛
دور المرأة التي تغني العالم بانوثتها، وتسهم في انسنة
العلاقات بين الناس ( رسالة الى النساء،2).
*****
ثانياً، الاسرة والقضايا الاخلاقية والحياة
في ضؤ
زيارة مريم الحامل بيسوع في ايامها الاولى الى اليصابات العجوز
الحامل بيوحنا في شهره السادس، تنكشف لنا حقيقة الكائن البشري الذي
يبدأ فور تلقيح البيوضة بزرع الرجل ويسمّى اولاً اللاقحة-
Zygote،
نختار من " المعجم بالتعابير الملتبسة حول الاسرة والفضايا
الاخلاقية والحياة"، موضوع " حالة الجنين البشري القانونية"
الذي كتبه البروفسور
Rodolfo
Barra.
صحيح ان اللاحقة الناتجة من اتحاد الخليتين التناسليتين هي حتى
اليوم الرابع عشر "كتلة خلايا" بيولوجياً، لكنها كائن بشري
قانونياً وانسانياً. انها " انتاج بشري" لا نباتي ولا حيواني، لانه
نتيجة استئثارية مباشرة وفورية لقدرة البيولوجيا البشرية الخلاقّة.
ولان " كتلة الخلايا" هي نتاج بشري، فانها تشارك منطقياً في
الكرامة البشرية، لانها في الواقعة الحية هي شخص " انا" الذي
يتكوّن بيولوجياً وشكلياً ووراثياً وينمو عبر مراحل بيولوجية خاضعة
لزمن محدد حتى اكتمالها. لهذا " الأنا" الحق الطبيعي بالحياة
والولادة.
اجهاضه قتل كاية جريمة تقتل انساناً. يشارك فيها، الى جانب الام
والاب اذا وافق، الطبيب والممرضات والمحرّضون. التشريعات
البرلمانية التي تشرّع الاجهاض انما تنتهك العدالة وتتجاوز حدود
صلاحياتها حتى الاعتداء على شريعة الله.
عندما قامت مريم بزيارة اليصابات، كانت حاملاً بيسوع في يومه الاول
او الثاني، بعد بشارة الملاك. كانت " كتلة الخلايا" في حشاها تحمل
اسم يسوع الذي اعلنه جبرائيل. كانت شخصاً ذا كرامة وحقوق، وكائناً
بشرياً فرداً مستقلاً عن شخص مريم. ولم يكن بعد قد بلغ يومه الرابع
عشر.
واليصابات كانت حاملاً بجنين عمره ستة اشهر، لكنه كائن وشخص معروف،
اسمه يوحنا مثلما اعلنه الملاك. وهكذا التقى الشخصان السابق للجنين
pre-embryon،
يسوع، والجنين
embryon
الذي في طور اكتماله، يوحنا، وتفاعلا، فكانت عطية الروح القدس الذي
قدّس اليصابات ويوحنا، وامتلأ البيت من فرح المسيح وفرح الروح.
اجل، الكائن الذي لم يبلغ اليوم الرابع عشر والمسمى " كتلة خلايا"
هو شخص بشري مساوٍ لاي انسان مولود، وينعم بالكرامة والاستحقاق ككل
انسان، لان العنصر البشري يساويه باي شخص آخر مولود. وبالتالي
يتمتع بالحقوق التي تقرّها الشرعة العالمية لحقوق الانسان (سنة
1948).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
في اطار الملف الثاني من المجمع البطريركي الماروني الذي يعنى
بالتجدد في الاشخاص والهيكليات، بعد الملف الاول الذي أوضح الهوية
والرسالة، نبدأ النظر في النص السادس: "البطريرك والاساقفة".
شخص البطريرك
1. اختياره الهي بقوة الروح القدس، مثلما اختار الله
ابراهيم وموسى والرسل. في رتبة الرسامة يقول رئيس المجمع المحتفل:
" روح القدس يدعوك لان تكون بطريركياً اي أبا الرؤساء على مدينة
انطاكية العظمى وسائر ولاية الكرسي الرسولي، اعني اباً لجميعنا",
فيجيب المنتخب: " اني اطيع واقبل جميع الاوامر الرسولية والمجامع
المقدسة الملتئمة بالروح القدس بالبر والعدل والامانة لبربنا يسوع
المسيح" ( فقرة 3).
2.صفاته مأخوذة من المقاطع الكتابية وتأتي في سياق رتبة
السيامة وهي: السهر على شعب الله وفق مشيئته بكل نشاط وامانة
وقداسة وبدون محاباة. بوصفه مدبراً حكيماً وقيماً حريصاً وراعياً
صالحاً، يتزين بالقداسة والطهارة ونقاوة الروح والسيرة الصالحة
والتواضع. ويصلي الاساقفة ليمنحه الله ان يكون رأس رؤساء ممجّد،
لتثبيت شعبه بالحكمة والمعرفة، ويكمّله بالحب والمعرفة،
بالخبرة والادب، بالكمال والنشاط، بالقلب النقي والصلاة من اجل
الشعب.
3. يتعهد البطريرك خطياً
بالاعتراف بالايمان الصحيح والتقيّد بالقوانين الرسولية ورسوم
المجامع المقدسة والشركة مع الاحبار القديسين الذين توالوا على
الكراسي البطريركية، والخضوع للجالس على كرسي روما. هذا التعهد
يدرجه في التسلسل الرسولي والشركة الكنسية، وتصبح حياته وقفاً على
الكنيسة ولم تعد ملكاً له. وعليه ان يتصرف بهدي انجيل الراعي
الصالح الذي وضع على رأسه اثناء الرسامة. ويُسلّم عصا الرعاية لانه
اصبح " اباً الآباء". ويهتف الشعب كله ثلاث مرات: " انه لمستحق
ومستاهل" (الفقرات 3-6).
***
صلاة
يا مريم، يا أمة الله وام الاله، علّمينا رفعة الخدمة وشرفها،
لان من خلالها يتجلى روح المسيح ويدخل الفرح الى القلوب. لترَ فيك
النساء جمال الامومة وسموّها، وقد وضعها الله لخدمة الحب والحياة،
واشركها في سرّ ابوّته. ويا ام يسوع، نوّري عقول الاطباء
والمشرّعين ليدركوا ان الجنين البشري في حشا الام كائن وشخص بشري
كامل الحقوق منذ اللحظة الاولى لتكوينه بيولوجياً، وانه بالابن
الالهي اصبح ابناً لله وشريكاً في ميراث الملكوت. للثالوث المجيد
الذي اختاركِ، الآب والابن والروح القدس، كل
شكر ومجد واكرام الآن والى الابد. آمين.
الاحد 9 كانون الاول 2007
مولد يوحنا المعمدان
الرحمة حاجة المجتمع
من انجيل القديس لوقا 1/ 57-66
قال لوقا البشير: تمّ زمان اليصابات لتلد، فولدت ابناً. وسمع
جيرانها وأقاربها أن الرب قد عظّم رحمته لها، ففرحوا معها. وفي
اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا الصبي، وسمّوه باسم أبيه زكريا. فأجابت
أمه وقالت: " لا! بل يُسمى يوحنا!". فقالوا لها: " لا أحد في
قرابتك يدعى بهذا الاسم". وأشاروا الى ابيه ماذا يريد أن يسميه.
فطلب لوحاً وكتب: "إسمه يوحنا!". فتعجبوا جميعهم. وانفتح فم
زكريا، وانطلق لسانه، وجعل يتكلم ويبارك الله، فاستولى الخوف على
جميع جيرانهم، وتحدث الناس بكل هذه الامور في كل جبل اليهودية.
وكان من سمع بذلك يحفظه في قلبه قائلاً: " ما عسى هذا الطفل أن
يكون؟". وكانت يد الرب حقاً معه.
**
مولد يوحنا المعمدان هو انبلاج
الفجر امام شمس يسوع المسيح الذي جسّد رحمة الله ومحبته في
العالم، لانه يحتاج الى رحمة لكي يعيش فرح العدالة والمحبة. مع
مولد يوحنا ورسالته ينقشع دور الانسان في بناء المجتمع البشري بحيث
يصبح اكثر انسانية بوجه عقلية رافضة للرحمة، ومختبئة وراء عدالة
انتقائية ظالمة غايتها المحافظة على الانانيات والمصالح الفردية
والفئوية.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
تجلي رحمة الله
اختار الله لمولود زكريا واليصابات اسم " يوحنا"، واعلنه على لسان
الملاك في البشارة، لانه يعني " الله رحوم" ( ياهو- حنان). الاسم
عند الساميين تعريف بشخص يدعى به، بل عنصر مكوّن لشخصيته، هوية
ودوراً: يوحنا يعني الشاهد لرحمة الله.
في الواقع، بميلاده تجلت رحمة الله لأمه وابيه وللشعب كله: شهد
عارفو اليصابات ان "الله اكثر رحمته لها ففرحوا معها" (لو1/58)،
اذ منحها ولداً هي المسنة والعاقر. عبّرت اليصابات عن تجلي رحمة
الله: " هذا ما صنع الرب اليّ يوم افتقدني برحمته، لينزع عني العار
بين الناس" ( لو1/25). وعندما كتب زكريا على لوح اسم " يوحنا"، "
انحلّت عقدة لسانه وتكلّم وبارك الله" ( لو1/64)، وامتلأ من الروح
القدس وتنبأ: " تبارك الرب الهنا، لانه افتقد شعبه بنعمته، وافتداه
واقام لنا مخلصاً قديراً في بيت داود عبده، كما وعد بلسان انبيائه
في القديم: انه يخلصنا من اعدائنا وجميع مبغضينا. فأظهر رحمته
لأبنائنا وذكر عهده المقدس" ( لو1/67-72). وسيتم تجلي رحمة الله
للبشر اجمعين بتجسد الرحمة الالهية، بشخص ابن الله الذي سيولد من
مريم البتول، بعد ثلاثة اشهر، فيصبح للرحمة الالهية اسم في التاريخ
هو يسوع المسيح: الاله الذي يخلص بالانسان المكرس بمسحة الروح
لتجسيد الرحمة الالهية بالفداء.
رسالة يوحنا ان يعدّ طريق العقول والارادات والقلوب لقبول رحمة
الله، كما كشف الملاك لزكريا: " يسير امام الرب بروح ايليا وقوته،
ليعطف بقلوب الآباء على الابناء ويهدي العصاة الى حكمة الابرار،
فيعّد للرب شعباً متأهباً" ( لو1/17). هو الذي تنبأ عنه اشعيا، قبل
500 سنة: " يقول الهكم: عزوا عزوا شعبي... صوت منادٍ في البرية
اعدّوا طريق الرب واجعلوا سبُل الهنا في الصحراء قويمة" (
اشعيا40/1،3). هذا الصوت المنادي هو يوحنا المعمدان في برية
اليهودية: " توبوا، قد اقترب ملكوت السماوات" ( متى 3/1-2).
زمن المجىء الذي يسير بنا نحو ميلاد الرب يسوع، انما يهيئنا لقبول
الرحمة الالهية المتجلية في شخص ابن الله المتجسد، في كلامه
وآياته. وقد كشف لنا محبة الله الابوية، التي بلغت ذروتها
بموته على الصليب، تكفيراً عن خطايانا وفداءً عنا، وبقيامته من
الموت، لتبريرنا والنهوض بنا الى حياة جديدة. انه " الرجاء الصالح
لبني البشر" الذي سينشده الملائكة يوم ميلاده ( لو1/14). من اجل
هذا الرجاء اصبحت التحية الميلادية: " ولد المسيح، هللويا!".
تُحدّد حاجات عصرنا بحاجتين اساسيتين متلازمتين: معرفة حقيقة
الانسان، ومعرفة حقيقة الله، كما كشفهما يسوع
المسيح. فهو بانسانيته كشف الانسان للانسان بما له من قدسية
وكرامة، وبالوهيته كشف سرّ الله " الغني بالرحمة" ( افسس 2/4).
وخصص خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني رسالتيه العامتين
الاوليين، ليكشف في الاولى حقيقة الانسان، وعنوانها "فادي
الانسان" ( 4 اذار 1979)، وفي الثانية حقيقة الله، وعنوانها:
" الرحمة الالهية" ( 30 تشرين الثاني 1980). ربط بهما بين
مذهبين: واحد يجعل الانسان محور الكون؛ وواحد يجعل الله محوره.
فوفّق بينهما واكّد ان الانسان يكون محور التاريخ بمقدار ما يرتبط
بالله سيد هذا التاريخ، بالوسيط يسوع المسيح الكلمة الذي " به كان
كل شيء، وبدونه ما كان شيء مما كان" ( يو1/3). الى هذا الترابط
تسعى الكنيسة في رسالتها عبر تاريخ البشر (الرحمة الالهية،1).
عندما كشف الله اسمه لموسى، كشف هويته وفعله، قال: " انا هو
الذي هو" (خروج3/14). منه اشتق العبرانيون لفظة " يهوه" من
فعل " هَيَه" الذي يعني ان الوجود هوية ودينامية فاعلة: فالله هو
الكائن الموجود منذ الازل من دون بداية، والحاضر باستمرار
(
esse)،
والحاضر الفعال بمعنى الوجود المتجّه نحو الغير (
ad esse).
بهذه الصفة يعطي الوجود، فهو الخالق والعناية الدائمة بكل مخلوق،
وهو الفادي والمخلص الدائم لكل انسان. بهذين المعنيين، يشمل اسم
يهوه في آن رفضاً وهبة: رفض الانحصار داخل فئات البشر
الموجودين، وهبة الحضور الفعال: " إهْيهْ عمَّك ـ انا معك"
( خروج3/12)، كما قال لموسى وهو يخرج شعبه من عبودية مصر.
ثم يوضح الله لموسى اسمه " انا هو الذي هو"، في الهوية والفعل، انه
" اله رحيم ورؤوف، طويل الاناة كثير الرحمة، والوفاء، يحفظ الرحمة
للألوف، ويحتمل الاثم والمعصية والخطيئة، لكنه لا يترك شيئاً دون
عقاب ( خروج 34/9). استجاب الرب، فكان " عمانوئيل"، الله معنا (
متى 1/32)، الذي يكشف قدرته الفائقة في مغفرة الخطايا: فلأنه قدير
هو رحوم.
2.
الرحمة حاجة مجتمعنا
الرحمة صفة الهية وحياة شعب. هكذا نجدها في اسفار الانبياء
والمزامير. هي صفة الله التي تنشدها المزامير لرب المحبة
والحنان والرحمة والامانة ( مز 103 و145)؛ وهي حياة شعب
عاش في الدالة الحميمية على ربهم في الحوار معه. الرحمة كمال فائق
الطبيعة لدى الله، وفضيلة حقيقية لدى الانسان. وكون الانسان
مخلوقاً على صورة الله، من واجبه الطبيعي ان يكون رحوماً، لتظهر
فيه صورة الله، وينال منه الرحمة: " طوبى للرحماء، فانهم يرحمون"
(متى5/7).
الرحمة صفة الله
وتعني في كتب العهد القديم من جهة طيبة الله العميقة،
ونعمته ومحبته وعهده مع شعبه وامانته لذاته، وتظهر في المحبة
الاغلب من خيانة الانسان والشعب، وفي النعمة الاقوى من الخطيئة
( لفظة حِسِدْ)، وتعني من جهة ثانية محبة الله الفريدة،
مثل محبة الام لطفلها، المليئة بالحنان وطول الاناة والشفقة
والمسارعة الى الغفران، وهي محبة مجانية وليست ثمرة اي استحقاق (لفظة
رحاميم) رسالة البابا يوحنا بولس الثاني: في الرحمة الالهية،
الحاشية 52). بهذين المعنيين، الرحمة فضيلة تجّمل الانسان
وتؤسس العلاقات بين الناس.
الرحمة تلطّف العدالة، هذه الفضيلة الاجتماعية التي تحكم بين الناس
وتوزع الخيور المادية في ما بينهم بطريقة متوازية. ذلك ان الرحمة،
وهي المحبة السمحاء، تعيد الانسان الى نفسه، الى مشاعر الطيبة
والحنان وطول الاناة، في ممارسة العدالة بهدف المساواة بين الناس
والتلاقي على خيرهم. المساواة تكشف وجه العدالة على مستوى الخيور
المادية الخارجية، اما الرحمة فتحمل الناس على التلاقي على خير
اساس هو الانسان، مع ما له من كرامة خاصة به.
الرحمة عنصر لا غنى عنه لانشاء العلاقات المشتركة بين الناس،
بروح الاحترام العميق،بحيث انها تصلح العدالة لئلا تصبح مبدأ "
العين بالعين والسّن بالسن" ( متى5/38). وحدهما المحبة الرحيمة
والعدالة تجعلان المجتمع " اكثر انسانية" (الكنيسة في عالم اليوم،
40)، بفضل المصالحة بين الله والانسان، والمسامحة في العلاقات
المتبادلة بين الناس. فبدون المصالحة والمسامحة "يصبح العالم مجتمع
عدالة باردة جافة يسعى كل بموجبها الى المحافظة على حقوقه في وجه
سائر الناس، وتعمل الانانيات الكامنة في اعماق الانسان على تحويل
الحياة الانسانية المشتركة الى نظام مستبد حيث الاقوياء يرهقون
الضعفاء، والى ساحة صراع دائم بين الناس" ( الرحمة الالهية، 14).
اجل، الرحمة حاجة لكل مجتمع بشري بنوع عام، وحاجة مجتمعنا اللبناني
بنوع خاص، بسبب ما فيه من انقسامات مفتعلة واتهامات وعداوات.
ان " عقلية عصرنا الحاضر ترفض رحمة الله، كعلاقة معه،
وفضيلة اجتماعية بين الناس، بل تسعى هذه العقلية الى القضاء على
فكرة الرحمة واستئصالها من قلب الانسان" (المرجع نفسه، 2)، كما
نشهد على الساحة العالمية والاقليمية، وعلى الساحة اللبنانية عبر
وسائل الاعلام، وعبر المواقف السياسية وممارسات العنف والارهاب.
وباتت لفظة الرحمة بما لها من مفهوم تبدو وكـنها تزعج الانسان. كم
من برامج عنيفة تنقلها الشاشة الصغيرة، وكأنها مدرسة تعمل على
ازالة مشاعر الرحمة من قلوب الناس وبخاصة الاجيال الطالعة.
لكن الكنيسة مدعوة دائماً لان تعترف بالرحمة الملطفة
للعدالة، وتنشرها في التعليم والممارسة، وتقود الناس الى ينابيعها
في سرّي المصالحة والافخارستيا. ان سرّ المصالحة يصحح علاقتنا مع
الله والناس ويكشف كم ان المحبة اقوى من الخطيئة، والغفران من
الثأر. اما سرّ الافخارستيا فيقرّبنا دائماً من محبة الله التي هي
اقوى من الموت، والتي بواسطتها يريد الله ان يتحد بنا، وان يكون
حاضراً فينا، ويسكن في قلب كل انسان.
***
ثانياً، الاسرة والقضايا الاخلاقية والحياة
تجلّت في مولد يوحنا كرامة الكائن البشري، وظهر دور كل مولود
لامرأة في التاريخ وفي سرّ الخلاص. ما يعني ان لكل شخص بشري فرادته
وامتيازه عن غيره منذ اللحظة الاولى لتكوينه. ولا يحق لأحد ان يضع
حداً لحياته او ان يتلاعب بمصيره.
من "معجم التعابير الملتبسة والمتنازع فيها حول الاسرة
والقضايا الاخلاقية والحياة". نتناول من موضوع " حالة
الجنين القانونية"، الذي عالجه البروفسور
Rodolfo Barra،
المساواة بين الكائنات البشرية في اي مرحلة من الحياة، في حشا الام
وخارجه. تكشف البولوجيا والفلسفة وعلم القانون والاخلاق والدين ان
كل الناس متساوون في الانسانية.
بيولوجياً، جميع الناس متساوون، لان جماعة بيولوجية
اساسية تساوي فيما بينهم، كشفها العلم، ووجدها بيّنة للمساواة
والخصوصية، وهي
الحامض النووي _
AND
بالفرنسية او
DNA
بالانكليزية. فكل من يحمل نوعاً محدداً من
AND
يكون بشرياً، وينتمي الى البشرية. وبما انه كائن، ولا هو شيء،
فنسمّيه " كائناً بشرياً". الجنين في حشا الام ينعم بالحامض النووي
منذ لحظة تكوينه، أكان في مرحلة ما قبل 14 يوماً، ام بعدها، أكان "
كتلة خلايا" ام جنيناً مكتملاً.
قانونياً، اذا كان الجنين، من اللحظة الاولى
لتكوينه، كائناً بشرياً، هو ايضاً شخص يمتلك شخصية قانونية. واذا
كان شخصاً، ينبغي ان نقرّ له بالحقوق الاساسية، اسوة بغيره من
الاشخاص. ومن بين هذه الحقوق الحق المطلق في الحياة وفي الاكتمال
الجسدي.
اخلاقياً، بما ان الجنين منذ بداية تكوينه كائن
بشري، فهو ذو كرامة يتساوى فيها مع الجميع، وهو صاحب استحقاق اسوة
بغيره. الكرامة والاستحقاق مطلقان.
فلسفياً، يظهر ان بين الرجال والنساء على اختلافهم
واختلاف اجيالهم وظروفهم، يوجد رباط جوهري يحددهم هو الصفة
الانسانية. ما يجعل غيري " انا الآخر". اذن هذا الآخر يستحق ما انا
استحق، " فلا افعل له ما لا اريد ان يفعله لي الآخرون"، وفقاً
للقاعدة الادبية الاساسية.
دينياً، الرجال والنساء مخلوقون على صورة الله،
والله هو هدفهم الاخير. كلهم يسمون على المادة، ولهم كرامتهعم بحكم
اصلهم ومصيرهم الابدي. كلنا ابناء لاب واحد، وكلنا اخوة، واخي هو "
الآخر". ما يقرّب الناس بعضهم الى بعض انما هي الانسانية. من اجل
الجميع صار الله قريباً لكل واحد، انساناً ليخلص كل انسان.
الاجهاض والتلاعب في الاجنّة وتجميدها واتلافها جريمة قتل
من جميع النواحي المذكورة اعلاه.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي السادس: "
البطريرك والاساقفة"، وتحديداً استكمال التعمق في شخص
البطريرك (الفقرات 7-14).
1.
البطريرك خادم القدسيات
من امتيازات السيد البطريرك ان يكرّس الميرون يوم خميس الاسرار
الذي يستعمل في اسرار المعمودية والتثبيت والدرجة المقدسة ومسحة
المرضى وتكريس الكنائس والمذابح واجران المعمودية والاواني
المقدسة. ما يجعل البطريرك خادم القدسيات، فهو مقدّس شعبه والمؤتمن
الاول على طقوس كنيسته وقائد شعب الله في حجّه نحو ارض ميعاده
الحقيقية (فقرة 7).
2. البطريرك اب ورأس
تربطه بابناء كنيسته علاقة مزدوجة: العلاقة الروحية النابعة
من الميرون، والعلاقة الزمنية التي جعلت منه مرجعاً لهم عبر
تاريخهم الطويل، وخادم وحدتهم والمدافع عنهم والساهر على شؤونهم
وقضاياهم والحريص على نهضة كنيسته وتقدمها في كل مجال.
البطريرك هو الاب الذي له السلطان على بيته، وهو المعلم
والرئيس والمدبر، وله سلطان رسولي من لقب بطريرك انطاكية واضافة
اسم " بطرس" على اسمه.
3. البطريرك متقدم على شعبه ومتكلم باسمه
هذه المهمة قالها عنه البطريرك اسطفان الدويهي: " يتقدم شعبه
ويتكلم عليه" وشعاره في هذه المهمة " الامانة لمارون وللكنيسة
الرومانية". اما الهدف فالحفاظ على وحدة الشعب وخيره الروحي
والزمني.
4. البطريرك ابو الرهبان
قبل اعادة تنظيم الحياة الرهبانية، في اعقاب المجمع اللبناني
المنعقد سنة 1736، كان الرهبان مرتبطين مباشرة بالسيد البطريرك،
الذي اعتبروه بمنزلة الاب والرئيس والمرجع الاخير. فهو الذي كان
يختار رهباناً لرئاسة الاديار. وكان يختار مع مجمعه اساقفة من
الذين من بينهم امتازوا بتقواهم ومحبتهم للكنيسة.
ان ارتباط الرهبان والراهبات بشخص البطريرك يبقى الدليل على ان
الحياة الرهبانية تشكلّ عصب الحياة الكنسية.
5. البطريرك رئيس الرؤساء
يقال له " رئيس الرؤساء" بالنسبة الى الاساقفة الذين يشكلون معه
مجمع اساقفة الكنيسة البطريركية المارونية. اما اساس اللقب فيعود
الى انه منذ تأسيس البطريركية المارونية، تكوكب الاساقفة حول
البطريرك، وكان يرسلهم لتفقّد الشعب في الرعايا، ثم يعودون الى
الكرسي البطريركي او الى اديارهم، قبل ان قسّم المجمع اللبناني
(1736) الابرشيات، وأوجب على الاساقفة الاقامة فيها.
صلاة
اللّهم الغني بالرحمة، نشكرك على مراحمك التي تستر بها خطايانا
وخطايا البشر، وتكثر الينا نعمك الروحية والماديّة. حرّك في قلوبنا
وقلوب البشر مشاعر الرحمة لنكون رحومين، ومؤهلين لاستحقاق رحمتك.
اعطنا والمسؤولين ان نلّطف العدالة بالرحمة، لكي يسود الانصاف في
المجتمع. اجل، نحن ندرك، يا رب، ان أمسّ حاجة لمجتمعنا انما هي
الرحمة. يا سيد الحياة، انر ضمائر الوالدين والاطباء ليدركوا ان
لكل كائن بشري، أجنيناً كان ام مولوداً، كرامة وحقوقاً ودوراً في
التاريخ وفي تدبير الخلاص، وان سيد الحياة هو الله. للثالوث القدوس
الآب والابن والروح القدس كل مجد واكرام الآن والى الابد. آمين.
الاحد16 كانون الاول2007
البيان ليوسف
مقاصد الله في كل انسان
من انجيل القديس متى 1/ 18-25
قال متى الرسول: أما ميلاد يسوع المسيح فكان هكذا: لما كانت
أمه مريم مخطوبة ليوسف، وقبل ان يسكنا معاً، وجدت حاملاً من الروح
القدس. ولما كان يوسف رجلها باراً، ولا يريد ان يشهّر بها، قرر ان
يطلقها سراً. وما إن فكر في هذا حتى تراءى له ملاك الرب في الحلم
قائلاً: " يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، فالمولود
فيها إنما هو من الروح القدس. وسوف تلد ابناً، فسمه يسوع، لانه هو
الذي يخلص شعبه من خطاياهم". وحدث هذا كله ليتم ما قاله الرب
بالنبي: " ها إن العذراء تحمل وتلد ابناً، ويدعى اسمه عمانوئيل، اي
الله معنا". ولمّا قام يوسف من النوم، فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ
امرأته. ولم يعرفها، فولدت ابنهاً. وسماه يسوع.
**
البيان
ليوسف يكّمل البشارة لمريم. بواسطتهما تنكشف مقاصد الله في
التاريخ، كما تنكشف في كل واحد منا، اذا عاش مثل يوسف ومريم، في
اتحاد عميق مع الله. هذا اساس كرامة الانسان، فلا يحق لأحد ان
يتلاعب بمصيره التاريخي والابدي.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
مقاصد البشر ومقاصد الله
فيما
كان يوسف يستعد لنقل مريم خطيبته الى بيته، بعد ان عقد قرانه عليها
حسب عادة اليهود، اكتشف انها حامل في شهرها الثالث، لدى عودتها من
بيت اليصابات. وفيما كانت الحيرة تسكن قلبه، وقرار تطليق مريم
يراوده كشف الله عن مقاصده: " يا يوسف ابن داود، لا تخف ان تأخذ
مريم امرأتك، لان الذي وّلد فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً،
تدعو اسمه يسوع، لانه يخلص شعبه من خطاياهم" (متى1/20-21). ربما
تتناقض مقاصد البشر ومقاصد الله، لكنها تلتقي وتتكامل.
تاريخ البشر هو المسرح الذي عليه تتحقق مقاصد الله، فيصبح "تاريخ
الخلاص". كانت مقاصد يوسف ان يتزوج كسائر الشباب ويؤسس اسرة مع
مريم كسائر الازواج. عقدا زواجهما، وقبل ان يتساكنا، اعلن الرب عن
مقاصده: فكانت البشارة لمريم على لسان جبرائيل (لو1/26-38)، وكانت
البشارة ليوسف في الحلم بواسطة ملاك الرب (متى1/18-23). فلما نهض
يوسف من نومه صنع بموجب طاعة الايمان ما امره به الرب، كما اجابت
مريم بطاعة الايمان عينها على الكلام الالهي: “انا امة الرب، فليكن
لي حسب قولك".
من الضرورة ان يتساءل كل واحد:
من انا في هذا الكون؟ وما هو دوري ومكاني فيه؟ وهل وجودي لا يقدّم
ولا يؤخر في عمر الزمن؟... وهل حياة الانسان وليدة الصدفة، وكأنه
يولد اليوم ويموت غداً، يأتي من العدم ويعود الى العدم، فلا معنى
لميلاده ولا لحياته ولا لموته؟
"وسرعان ما ينير له ايمانه الطريق، ويقوده الى اكتشاف معنى الحياة،
وروعة الدعوة فيها، وقيمة الشخص البشري. فيجد ان حياة الانسان سرّ،
وموته سرّ. بل ان حياته لاشبه ما تكون بمخطط الهي. فكل انسان يولد
ويعيش ويموت، انما يحمل معه رسالة ويحقق دعوة. وما هذا الكون سوى
كتاب، كل انسان فيه كلمة، بدونها لا يقرأ هذا الكتاب" (الكردينال
البطريرك موسى داود: "يا سمعان بن يونا أتحبني؟" صفحة 9-10).
هذه قصة يوسف ومريم،
بل قصة كل واحد منا. ان له دعوته الخاصة ودوره الخاص في
تاريخ الخلاص: الدعوة والدور من مقاصد الله. وحده الايمان يساعدنا
على قبول الدعوة وفهمها وعلى القيام بالدور المطلوب.
اليصابات طوّبت مريم لما زارتها، وقد امتلأت من الروح القدس: "
طوبى لتلك التي آمنت ان ما قيل لها من قبل الرب سيتم! " )لو1/45).
نقرأ في تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني: " لقد سارت
العذراء الطوباوية قدماً مسيرة ايمانها، مقيمة بامانة على الاتحاد
بابنها حتى الصليب، ومستبقة جميع الذين بالايمان يقتفون خطى
المسيح" ( راجع نور الامم 58 و63). يقول خادم الله البابا يوحنا
بولس الثاني: " ان ايمان مريم التقى ايمان يوسف، اذ اجاب
بالايجاب على كلام الله، حين نُقل اليه في تلك اللحظة الحاسمة. فعل
بطاعة الايمان ما امره به ملاك الرب، فقبل كحقيقة صادرة ما عند
الله ما كانت قد قبلته مريم عند البشارة" ( حارس الفادي،4).
ان يكون البابا الطوباوي بيوس التاسع قد اعلن القديس يوسف "
شفيعاً للكنيسة الكاثوليكية" (8 كانون الاول 1870)، فلكي يكون
موقف ابناء الكنيسة وبناتها " موقف الاصغاء الورع الى كلمة الله"،
بالاهبة المطلقة، مثل يوسف، لان عليهم ان يخدموا بامانة ارادة الله
الخلاصية المتجلية في المسيح. اننا نجد نموذج الطاعة مجسداً فيه
بوجه التحديد، بعد مريم، وقد تميز بتنفيذ اوامر الله تنفيذاً
اميناً (المرجع نفسه،30). " ان طاعة الايمان واجبة لله الموحي، بها
يسلّم الانسان امره كله لله حراً في كمال طاعة العقل والارادة لله
الموحي، وفي اعتناق ارادي للوحي الصادر عنه" (في الوحي الالهي،5),
بفضل طاعة الايمان، كشف الله مقاصده ليوسف، هذا " السرّ المكتوم
في الله منذ الدهور" (افسس3/9). هذا السّر مثلث الابعاد،
اعني: تجسّد ابن الله، لخلاص البشر، من مريم البتول
بقوة الروح القدس، بحيث تصبح وهي عذراء ام الاله في طبيعته
البشرية؛ وابوّة يوسف البتول، زوج مريم، المؤتمن على حراسة
الفادي وامه، والمدعو ليكون حارساً لجسد المسيح السري الذي هو
الكنيسة، (حارس الفادي،1)؛ وخدمة يوسف المباشرة ليسوع،
شخصاً ورسالة، بممارسة ابوته، فشارك في سرّ الفداء العظيم، واضحى "
خادماً للخلاص" ( القديس يوحنا فم الذهب): لقد جعل من حياته خدمة
وتضحية في سبيل ابن الله المتجسد ورسالة الفداء، ووهب كل ذاته
وحياته وعمله للعائلة المقدسة، وحوّل حبه البشري الزوجي والعائلي
وقلبه وجميع طاقاته تقدمة ذاتية في خدمة المسيح المولود في بيته
(حارس الفادي،7).
وكشف الله مقاصده في الزواج والعائلة:
رجل وامرأة جديدان يقفان على عتبة العهد الجديد، هما يوسف ومريم،
ويصبحان الذروة التي منها انتشرت القداسة على الارض، خلافاً لآدم
وحواء اللذين، على عتبتي العهد القديم، كانا بسبب خطيئتهما نبع
الشر الذي تدفق على العالم؛ في زواج يوسف ومريم البتولي باشر
المخلص عمل الخلاص فنقّى الحب الزوجي وطهّره وقدّس الاسرة وجعلها
هيكل الحب ومهد الحياة، النابعين من قلب الله؛ في العائلة المقدسة
عاش ابن الله مستتراً بقصد الهي خفي، ليجعلها مثالاُ لكل اسرة
مسيحية مؤمنة، "كنيسة بيتية صغرى" (نور الامم،11)؛ في عائلة
الناصرة ظهرت خيور الزواج التي حددتها قوانين الكنيسة مع القديس
اغسطينوس: الولد وهو الرب يسوع ( حلية الانجاب)، الحب الزوجي
الاستئثاري (حلية الامانة)، وديمومة الزواج ( حلية السّر). لكل
هذه الاسباب قرر البابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون ان يضاف
اسم القديس يوسف، الى جانب اسم مريم، قبل الرسل والاحبار العظام
والشهداء في نافور القداس والصلوات الليتورجية. (13 تشرين الثاني
1962).
2.
مقاصد الله في مريم العذراء
3.
صبية من الناصرة لها احلامها وطموحاتها، تسبقها مقاصد الله
وترافقها وتتبعها، وقد جعلتها الكنيسة اربع عقائد ايمانية:
أ- عقيدة الحبل بلا دنس:
اعلنها البابا الطوباوي بيوس التاسع بالدستور الرسولي " الله
المتسامي-Ineffabilis-Deus”
في 8 كانون الاول 1854: " ان العذراء مريم الكلية القداسة، في
اللحظة الاولى من الحبل بها في حشا امها، حُفظت معصومة من دنس
الخطيئة الاصلية، بنعمة خاصة وامتياز من الله الكلي القدرة،
استباقاً لاستحقاقات يسوع المسيح، مخلص الجنس البشري".
كانت الكنيسة تكرّم منذ نشأتها الحبل الطاهر بمريم،
وتعتبر ان عصمتها من دنس الخطيئة الاصلية ذات جذور ابدية: فالقرار
الالهي بتجسّد ابن الله الكلمة ودعوة مريم لتكون امه، قرار واحد في
الاصل. ما جعل البابا سيكستوس الرابع يدخل صلاة خاصة في الفرض
الالهي للحبل الطاهر بمريم بالدستور الرسولي
Cum Praeexcelsa
(27 شباط 1477). كان الطوباوي
Duns Scot
(1266-1308) اول من برر لاهوتياً عقيدة الحبل بلا دنس، ومفهومها في
تاريخ الخلاص بالمسيح. لكن اول من تكلم عن الاعتقاد بالحبل الطاهر
كان الراهب الروماني بلاجيوس سنة 410. وكتب البابا اسكندر السابع
في الدستور الرسولي " العناية بكل الكنائس-Sollicitudo
omnium Ecclesiarum")
8 كانون الاول 1661) كلمات بشأن العقيدة، رددها البابا بيوس التاسع
في دستوره المذكور اعلاه: “قديمة
تقوى
المؤمنين تجاه امنا مريم العذراء الكلية الطوبى، فانهم يعتبرون ان
نفسها، منذ اللحظة الاولى لخلقها في الجسد، بنعمة خاصة وامتياز من
الله، اعتباراً لاستحقاقات يسوع المسيح، ابنها وفادي الجنس البشري،
عصمت من الخطيئة الاصلية".
ب- بتولية مريم
العذراء: عقيدة معلنة في الكتب المقدسة، في نبوءة اشعيا
"العذراء تحبل وتلد ابناً اسمه عمانوئيل، الله معنا" (اشعيا 7/4)،
وفي بشارة الملاك لمريم: "روح القدس يحل عليك وقوة العلي
تظللك، فالمولود منك قدوس وابن الله يدعى"(لو1/34-35).
ج- امومة العذراء الالهية:
عقيدة اعلنها مجمع افسس (سنة 431) ضد نسطور، فاعطيت مريم لقب " ام
الاله –
Theotokos"
الذي كان شائعاً سنة 360. ونجد لقب " والدة الله القديسة" في
الصلاة المريمية: " تحت زيل حمايتك" التي ترقى الى ما قبل سنة 300.
د- انتقال العذراء القديسة الى السماء بنفسها وجسدها:
عقيدة ايمانية اعلنها البابا بيوس الثاني عشر في اول تشرين الثاني
1950 بالبراءة " الله الكثير الجودة
Munificentissimus".
هي تتويج لمقاصد الله السابقة في مريم.
كان اول من ذكر هذه العقيدة القديس ابيفانيوس (315-403). اما
امبراطور القسطنطينية موريسيوس (582-603) فحدد 15 آب عيداً
للانتقال في الكنيسة اليونانية الى جانب عيد ام الاله. بانتقالها
الى السماء مريم تشفع باخوة ابنها السائرين وسط ضيقات هذا العالم،
حتى يبلغوا الوطن السعيد" ( نور الامم،62).
3. رموز مقاصد الله بشخص مريم في الكتاب المقدس
كشف
الله بالرموز، في الكتب المقدسة، مقاصده في مريم العذراء، البريئة
من دنس الخطيئة الاصلية، ام الاله، الدائمة البتولية، المنتقلة
بنفسها وجسدها الى مجد السماء، وام الكنيسة.
مريم "سفينة نوح"( تك6/14) صُنعت بامر من الله وسلمت
كلياً من غرق الطوفان العام، الخطيئة الاصلية والشخصية. مريم
"السوسنة بين الشوك" (نشيد1/2): المنزهة من خطيئة آدم
الاصلية، ومن كل خطيئة شخصية فعلية. برج داود الذي علّق فيه الف
مجن، وجميع تروس الابطال" ( نشيد 3/4): مريم والكنيسة البتول
كبرج داود، تشرف على العدو من بعيد وتزدريه، ولا تأبه له، وهو اذا
ما رآها إرتعب وهرب. انها ملجأ الخطأة وحصنهم المنيع. مريم "
هيكل الله" (رؤيا15/48) المشع بالتألق الالهي، والمملوء من مجد
الرب. مريم " عرش الملك" من عاج وذهب ابريز (3ملوك10/18):
ان البتول هي عرش سليمان، لان ملك السلام حلّ فيها تسعة أشهر.
والكنيسة هي هذا العرش المقيم فيه ملك السلام بكلمته ونعمته. مريم
" العليقة المتقدة" (خروج3/2) رآها موسى تتقد دون ان تحترق،
واستمرت خضراء ومزهرة بشكل عجيب. مريم "الجنة المقفلة"
(نشيد4/12) لا يقوى احد على انزال الضرر بها باي غش او مكيدة، "
جنة مقفلة وينبوع مختوم". مريم " الباب الشرقي" باب المقدس
الخارجي المتجه نحو الشرق، وكان مغلقاً فلا يفتح ولا يدخل منه رجل،
لان الرب الاله دخل فيكون مغلقاً ( حز44/2). هذه النبؤة تتصل بنبؤة
اشعيا: " ها ان العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى عمانوئيل " الله
معنا" ( اشعيا7/14).مريم " الطائرة بجناحي النسر" ( رؤيا
12/14)، هما جناحا رئيس الملائكة اللذان نقلاها الى مجد السماء.
مريم " المرأة الملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها
اثنا عشر كوكباً " (رؤيا12/1) ظللها النور الالهي، واخترقها،
فعكست نوره على الكنيسة مثل البلور، وكللها بتاج الرسل الاثني
عشر، فهي سلطانتهم وام الكنيسة وملكة السماء والارض.
مريم هذه، تحفة الخلق والفداء، تكوّنت في حشا امها حنّة،
ككل انسان. كانت شخصاً بشرياً معروفاً من الله منذ اللحظة الاولى
لتكوينها، اذ عصمها من خطيئة آدم وارادها اماً لابنه الفادي
الالهي، ولم تكن فقط "كتلة خلايا" في ايامها الاولى للحبَل ( انظر
المعجم بالتعابير الملتبسة والمتنازع عليها حول الاسرة والقضايا
الاخلاقية والحياة": حالة الجنين القانونية، للكاتب البروفسور
Rodolfo Barra).
***
ثانياً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تتناول الخطة الراعوية من النص المجمعي السادس: " البطاركة
والاساقفة" شخص الاسقف في موقعه وصفاته ومهامه، كما تظهر من
الكتب الليتورجية وتعليم الكنيسة (الفقرات 17-19).
1.
الاسقف خادم الكنيسة
الاسقف، خليفة الرسل، اختاره المسيح في تواصل رسولي، كما اختار
الرسل الاثني عشر الذين عليهم بنى كنيسته. وبهذه الصفة يدخل في
شركة الوحدة والتراتبية مع السيد البطريرك والحبر الروماني خليفة
بطرس الرسول. انه خادم كنيسة المسيح، كرمه الروحي، وقد اقيم الاسقف
فيها حارثاً حكيماً ليعمل فيها لتعطي ثمارها، ويبني فيها برج ايمان
للشعوب كافة، بواسطة خدمة الانجيل، سورها المنيع، ونعمة الاسرار،
ينبوعها الذي لا ينضب. وسيؤدي حساباً امام المسيح عن خدمته.
2.
مهمات الاسقف وفضائله
في الرسامة المقدسة حلّ الروح القدس الرئاسي على الاسقف ليرعى
بيعة الله ويدبّرها بمهمّات ثلاث: التعليم، فيعطى نعمة
المعرفة والبلاغة ليعظ ويرشد ويردّ الخطأة الى التوبة؛ والتقديس،
ليسم كهنة وشمامسة ويكرّس المذابح والكنائس ويبارك البيوت ويمنح
اسرار الخلاص، ويحلّ ويربط؛ والتدبير، فيبني الوحدة ويخدم
المحبة ويفتقد المرضى ويعزّي الحزانى ويعطف على الايتام والارامل.
3.
اهداف روحانيته
تهدف روحانية الاسقف الى تمجيد الله وبنيان الكنيسة، متحلياً بصفات
الراعي الصالح، يسوع المسيح، الذي دعاه وقلّده السلطان ليتابع
رسالته في الكنيسة، التي هي للمسيح وليست ملكاً له. ما يقتضي منه
السهر عليها والغيرة والمحبة وبذل كل نشاط ليؤمن خير الافراد
والجماعة. وعليه ان يتباعد عن الروح العالمية والمشاغل والاغراءات
الدينوية، وان يهتم بما يرضي الله، وان يحقق في شخصه الصور
الانجيلية والتشابيه الكتابية وهي انه الراعي والتاجر الروحي
والبنّاء الحاذق والزارع والوكيل الامين والملح والنور.
***
صلاة
يا رب، لقد أزلت القلق من قلب يوسف اذ كشفتَ له مقاصدك
الالهية التي كمّلتْ ورفعت مقاصده البشرية. اكشف لكل واحد منا ما
لك عليه من مقاصد، لكي يُبنى التاريخ البشري وفقاً لارادتك، ويتحقق
تدبير الخلاص. أنر بالهامات روحك القدوس ضمائر الوالدين ليدركوا
شرف الابوة والامومة، ويؤدوا واجب التربية، ويعطوا عائلاتهم هويتها
ورسالتها في الكنيسة والمجتمع. للثالوث المجيد الذي اختار مريم
ابنة للاب واماً للابن وعروساً للروح القدس، ويوسف حارساً لها
ومربياً ليسوع، كل شكرٍ واكرامٍ وتسبيح الآن والى الابد. آمين.
الاحد23 كانون الاول2007
نسب يسوع
معنى الزمن وتاريخ البشر
من انجيل القديس منى 1/1-17
فال متى الرسول: كتاب ميلاد يسوع المسيح، إبن داود، إبن ابراهيم:
ابراهيم ولد إسحق، إسحق ولد يعقوب، يعقوب ولد يهوذا واخوته، يهوذا
ولد فارص وزارح من تامار، فارص ولد حصرون، حصرون ولد آرام، آرام
ولد عميناداب، عميناداب ولد نحشون، نحشون ولد سلمون، سلمون ولد
بوعز من راحاب، بوعز ولد عوبيد من راعوت، عوبيد ولد يشى، يشى ولد
داود الملك.
*****
في نسب يسوع يلتقي تاريخ البشر وتاريخ الخلاص. ويتضح من هذه اللوحة
الانجيلية ان سيد التاريخ البشري هو اياه سيد تاريخ الخلاص، هو
الله الخالق والله المخلص (الكنيسة في عالم اليوم،41). الله لا
ينسى ابداً تاريخ البشر، بل يعتني به عناية دؤوب ليقدم الخلاص
للذين يبحثون عنه بممارسة الخير
(دستور
الوحي الالهي،3).
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
لماذا نسب يسوع وما معناه
لنسب يسوع بعدان: بُعد تاريخي هو تحدّر يسوع من سلالة داود؛
وبُعد لاهوتي هو ارسال المسيح من لدن الله لخلاص الجنس البشري،
وقد تمت فيه المواعيد لابراهيم، ابي المؤمنين. هذا ما عناه متى
الانجيلي بقوله: " يسوع الذي هو المسيح" ( متى1/16). وهكذا لكل
انسان بعده التاريخي المرتبط بمدينة الارض، وبعده اللاهوتي المرتبط
بتاريخ الخلاص، كما هي حال الاسماء التي تؤلف شجرة نسب يسوع، انما
نجد في بعضها ان البعد التاريخي اقوى من اللاهوتي، وفي البعض الآخر
البُعد اللاهوتي ابرز من التاريخي.
يكتب متى انجيله لليهود الفلسطينيين ويسعى الى غاية عقائدية
وتعليمية، هي ان يسوع هو المسيح،الذي تحققت فيه جميع
نبوءات العهد القديم. فكانت الغاية من كتابة نسب يسوع البرهان انه
محط انتظارات الشعوب، وملء التاريخ، فجعل شجرة النسب موزّعة على
ثلاث فئات، مؤلفة كل واحدة منها من 14 اسماً. فالعدد 14 من البعد
اللاهوتي يعني الكمال الذي يرتب به الله كل تاريخ الخلاص السابق
ليسوع والبالغ ذروته في المسيح (7ءX
2 = 14)، اما في البعد التاريخي الذي يذكّر بداود الملك
ومملكته المسيحانية التي ستصبح مملكة المسيح، اي الكنيسة، فعدد 14
يشكل مجموعة اسم داود (د=4+ و=6+ د=4).
فضلاً عن البعد التاريخي واللاهوتي " كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن
داود ابن ابراهيم" ( متى1/1)، نجد في نسب يسوع بُعداً رسالياً
وخلاصياً شاملاً يتعدى الشعب اليهودي. ويظهر في ادراج اربع
نساء غير يهوديات، وبعض منهن خاطئات: تامار، راحاب، راعوت، بتشابع.
هذا دليل على ان الخلاص يشمل الوثنيين ايضاً والخطأة بنوع خاص.
تامار،
من اصل كنعاني، غريبة عن الشعب الاسرائيلي، كنّة يهوذا الملك الذي
رفض ان يزوجها لابنه الثالث شيله، بعد وفاة عير، خوفاً عليه. فتزيت
بزي زانية، وتعاملت مع يهوذا فولدت له ابنين فارص وزارح
(تك38/6-30). وهكذا بواسطة فارص دخلت في سلسلة اجداد داود وبالتالي
يسوع.
راحاب،
امرأة خاطئة محترفة البغاء، ولد منها سلمون والد بوعز، احد اجداد
داود ويسوع. غُفرت خطيئتها لايمانها بالله واستضافتها الجاسوسين
واخفائهما عن اعداء شعب الله ( يشوع 2/1-21؛ يعقوب2/25).
راعوت،
امرأة موآبية غريبة عن شعب العهد. تزوجت بوعز شرعياً ( راعوت،4)،
فولدت له عوبيد، والد يسّى وجدّ داود الملك.
بتشابع،
ارملة اوريّا الحثي. اقام معها داود الملك علاقة غير شرعية فحبلت
منه, حاول ان يستر الحبل من خلال زوجها ولم يتمكن. دبّر مكيدة
لاوريا في الحرب فقتل، وعندها تزوج بتشابع. مات ابنها الاول غير
الشرعي، فولدت له الثاني سليمان الملك (2 صموئيل 11/1-27؛ 12/24).
ذكر متى هؤلاء النساء ليبرّر ذكر مريم العذراء في سلسلة الرجال
الذين يشكلون نسب يسوع. في شخص مريم ام يسوع تجلّت كرامة المرأة
والامومة، وبفضل يسوع المولود من مريم المفتداة والمعصومة من خطيئة
آدم، افتديت تلك النساء وكل امرأة وام.
كل هذه الاجيال المذكورة اكتملت بالمسيح الذي دخل تاريخ البشر
فقدّس العلاقات بين الناس، بدءاً من العلاقات الزوجية والعائلية،
التي تهيء الحياة الاجتماعية. جاء الكلمة الالهي يسكن في ارض
البشر، فدخل تاريخ العالم كانسان كامل، " ليسير الله بالازمنة الى
تمامها، ويجمع تحت رأسٍ واحد، هو المسيح، كل شيء، ما في السموات
وما في الارض" ( افسس1/10) (الكنيسة في عالم اليوم،32 و37). وهكذا
ادخل العالم في تدبير الخلاص، ووجهه نحو التبدّل والتغيير، بعد ان
حرّر البشرية وافتدى التاريخ (المرجع نفسه،2).
ان شجرة نسب يسوع التي تتواصل من بعده، ارتفعت بفضل انتمائه الى
مستوى نشيد الهي يسبّح الله ويشكره على تدبير الخلق والفداء
(الدستور المجمعي في الليتورجيا،83)، فابن الله خضع لعملية الخلق
مولوداً في جسد شبيه بجسدنا، وتمم الفداء ليحرر بجسده جميع الناس
من سلطان الظلمات والشيطان، وينصرهم معه على عالم الشر (القرار
المجمعي في النشاط الرسولي،3).
ربما نتشكك عندما نقرأ سيرة كل واحد من اصحاب الاسماء في شجرة نسب
يسوع، لكننا ندرك نهج الله التربوي، ووفاءه لعهده المقدس الذي قطعه
لخلاصنا. ونجد بين الاسماء ملوكاً تقدسوا عبر تعاطيهم الشؤون
الزمنية، فبدّلوا النقائص المسجلة في التاريخ البشري الى ما هو
صلاح وعدل، وهكذا اعلنوا للتاريخ يوم الخلاص الذي يبدّل القلوب.
هذا هو نداء الكنيسة الدائم (الكنيسة في عالم اليوم، 82). وقد رفعت
على المذابح العديد من الذي تقدسوا عبر الخدمة السياسية.
2.
القداسة ورجال السياسة
بما
ان تاريخ الخلاص يسير عبر تاريخ البشر، والكنيسة تضع في خدمة هذا
الاخير كل طاقاتها، فقد تسجل في سجل القداسة العديد من رجال
السياسة القديسين نذكر منهم:
القديسة
Adelaide
(931-999)
اميراطورة ابنة دوك السويد، زوجة ملك ايطاليا لوتاريو، وبعد وفاته
تزوجها الملك
Ottone
الاول وانجبت منه ثلاثة اولاد. بعد وفاته واصلت الاعتناء بشؤون
الامبراطورية، والعناية بالفقراء، وفي سنيها الاخيرة اعتزلت
الحياة العامة وعاشت في دير للراهبات البندكتان كانت قد انشأته
قرب مدينة ستراسبورغ. اعلن قداستها البابا اوربانوس الثاني سنة
1097.
القديس لويس التاسع ملك فرنسا
(1214-1271) الذي عمل من اجل العدالة والسلام والمصالحة بين الدول،
واعتنى بالفقراء والبرص، وعاش حياة مسيحية ملتزمة: المشاركة في
القداس كل يوم، صلاة فرض الساعات، الاعتراف كل اسبوع، حياة زوجية
مخلصة. حصل على ذخيرة اكليل المسيح من امبراطور القسطنطينية
اللاتيني
Baudouin
الثاني سنة 1239، واستقبلها باحتفال مهيب مشى فيه عاري القدمين
وعلى رأسه اكليل من شوك، تتبعه امه الملكة
Blanche de Castille
واخوه الاكبر وعدد كبير من الفرسان، كلهم عراة الاقدام ومكشوفو
الرأس. اعلن قداسته البابا بونيفاسيوس الثامن سنة 1297.
القديس
Thomas More
(1478-1535) رئيس حكومة انكلترا. استشهد بقطع الرأس بامر من الملك
هنري الثامن سنة 1535، بتهمة الخيانة العظمى، لعدم التوقيع على
مرسوم الانشقاق عن روما واعلان الملك هنري الثامن " الرئيس الاعلى
لكنيسة انكلترا"، بعد ان فسخ زواجه من الملكة
Catherine
d'Aragone
سنة 1533 على يد رئيس اساقفة
Canterbury
آنذاك
Thomas Cranmer
خلافاً لارادة البابا، بسبب عدم انجابها وريثاً للعرش، وتزوج
Anne Boleyn
التي اصبحت ملكة انكلترا. في لحظة قطع رأسه اعلن
Thomas More
امام الشعب المحتشد والملك: " كنت خادماً اميناً للملك، لكنني أبقى
قبل كل شيء خادماً لله". توماس مور اصبح نائباً وعضواً في
البرلمان بعمر 26 سنة، ثم رئيساً لمجلس العموم بعمر 45 سنة،
واخيراً رئيساً للحكومة بعمر 51 سنة. اعلنه البابا يوحنا بولس
الثاني في يوبيل الالفين شفيعاً لرجال السياسة. ناضل توماس مور في
سبيل الكنيسة. من مبادئه في العمل السياسي: يمكن التوفيق بين
السياسة ومقتضيات الضمير، احترام السلطة الروحية، المحافظة عى
كرامة السلطة الزمنية، عدم انتهاك صوت الضمير. لقد جسّد هذه
المبادىء في الممارسة السياسية، وختمها بدم الاستشهاد.
السياسة طريق الى القداسة ايضاً.حدّد
البابا بولس السادس السياسة بأنها " الصيغة السميا للمحبة"، ذلك
انها، في قلب الكنيسة، بحث عن ملكوت الله في ادارة الشؤون الزمنية.
لقد انشأ بعض رجال السياسة في اوروبا مع البروفسور
Alfredo Luciani
رابطة دولية اسمها " المحبة السياسية". فالسياسة هي التكرّس لخدمة
الخير العام الذي منه خير الانسان وكل انسان.
في 5 ايلول 2004 طوّب البابا يوحنا بولس الثاني رجل السياسة
الايطالي
Alberto Marvelli
من قدامى تلامذة الآباء السالزيان، وعضو في منظمة العمل الكاثوليكي
الايطالي، وعضو في المجلس البلدي في مدينة
Rimini.
تميّز بمحبة الفقراء بل دعي " رسول الفقراء الكبير". من قناعاته ان
ما
يوفّر
خير الدولة ليس عمل السياسيين بل نعمة الله التي تنعش عملهم
وتوجهه.
في 3 تشرين الاول 2004 طوَّب البابا يوحنا بولس الثاني امبراطور
النمسا
Charles de Hasbourg
(1771-1847).
تنظر الكنيسة حالياً في دعوى تطويب شخصيتين معاصرتين: خادم اللهRobert
Schuman
(1886-1963)،
رئيس مجلس الوزراء الالماني من
Lorraine
بعد ضمها الى المانيا. تلقى تربية كاثوليكية وتميز بتقواه وهو في
العاشرة من العمر. تلميذ لامع تخرّج من مدارس برلين ومونيخ
وستراسبورغ. انخرط في العمل السياسي وفي التيار الكاثوليكي
الاجتماعي. في فرنسا انتخب نائباً سنة 1919 حتى 1940. ناضل من اجل
التعليم الحر والمدارس الكاثوليكية. اصبح وزيراً للمالية سنة 1946،
ورئيساً للحكومة سنة 1947، فوزيراً للخارجية من سنة 1948 الى 1952
وراح يعمل من اجل المصالحة بين المانيا وفرنسا، بادخالهما في وطن
اكبر هو اوروبا. انتماؤه الثقافي المزدوج والتزامه المسيحي جعلا
منه رسول السلام في اوروبا. كان يحمل حلم عالم جديد: اوروبا مصالحة
ومسالمة. معروف بانه " ابو اوروبا المسيحية الجديدة". وهو الذي
ارسى اسس الجماعة الاقتصادية الاوروبية (CEE)
بانشاء الجماعة الاوروبية للفحم والفولاذ (
CECA).
الشخصية الثانية خادم الله
Alcide De Gasperi
(1881-1954)، رئيس الحزب الديموقراطي المسيحي الايطالي ورئيس مجلس
الوزراء الايطالي الذي تعاون مع
Schuman
من اجل وحدة اوروبا، وتميز مثله بالنظرة المسيحية للسياسة ولمستقبل
اوروبا. كتب عنه عند وفاته رئيس اساقفة ميلانو آنذاك الكردينال
الطوباوي
Schuster
الذي مات بعده بايام قليلة: " يغيب عن الارض مسيحي متواضع ومخلص،
اعطى عن ايمانه شهادة كاملة سواء في حياته الخاصة ام في حياته
العامة". وقال عنه امين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان الكردينال انجلو
سودانو: " جمع برباط وثيق بين الفضائل الدينية والفضائل المدنية
وجعلها في خدمة الالتزام السياسي". كتب
De Gasperi
الى زوجته فرانشيسكا: " يوجد بين رجال السياسة رجال مغانم، ورجال
سلطة، ورجال ايمان. انا اودّ ان اُذكر بين هؤلاء الاخرين". نحن
نتسأءل: بين اي فئة من هؤلاء الرجال يُذكر رجال السياسة عندنا؟
المسيح مفتاح التاريخ البشري ومحوره وغايته (الكنيسة في عالم
اليوم، 10). " ينبغي ان نفتح وقتنا للمسيح لينيره ويوجهه. وحده
يعرف سرّ الزمن وسرّ الابدية. الوقت المعطى للمسيح ليس وقتاً
ضائعاً، بل هو وقت نربحه من اجل انسنة اعمق لعلاقاتنا ولحياتنا" (
البابا يوحنا بولس الثاني، يوم الرب،7). يقول الفيلسوف الفرنسي
والمسيحي الملتزم
Jacques
Maritain:
"للوقت شكل صليب، فله بُعد افقي لشؤون الدنيا، وبُعد عامودي لشؤون
الله. وله شكل
U
الذي
يتخذه الخلق الآتي من الله والعائد اليه". تجسد ابن الله، آتياً
الينا من عند الآب، وانهى رسالة الخلاص والفداء وعاد الى الآب. هذا
هو معنى الزمن والتاريخ بالنسبة الينا.
***
ثانياً، الاسرة والقضايا الاخلاقية والحياة
الاسماء التي وردت في شجرة نسب يسوع تركت اثراً في التاريخ. ما
يعني ان لكل شخص فرد قيمته ودوره الخاص في تاريخ البشر وتاريخ
الخلاص. ومن الجرم ان يعتدي احد على حياة انسان، جنيناً كان ام
مولوداً، او ان يعتدي على مصيره.
من " معجم التعابير الملتبسة والمتنازع فيها حول الاسرة
والقضايا الاخلاقية والحياة"، نختار موضوع " الشخصنة"
كتبه الاب
Aldelardo
Lobato Casado
.
الانسان يعيش فرادته بشكل وحيد اي على شكل شخصه. شخصيته
تتكوّن على مرّ الزمن. عندما يعي كرامته، يكتشف انه قادر على النمو
في اكتساب ما هو حق وفي ممارسة الخير. كما ان شخصيته تبنى في
الاحتكاك بالآخرين..
لكن المفهوم الطاغي عند انسان اليوم يتميز بالفردية التي لا
تعطي قدراً لطاعة الانسان الطبيعية للنمو والانفتاح على الآخرين.
هذا المفهوم يميل الى حصر الانسان في بعده البيولوجي فقط، ويجهل ان
الانسان يتطور دونما انقطاع من لحظة الحبَل به حتى موته. بكلام
آخر، الوجود البشري ينعم بنظام تربية متواصلة تبدأ في الولادة،
وتتفتّح في العائلة، وتتواصل في الجماعة.
الشخص
موجود، اما الشخصية فتُبنى. الشخص يعني " الكائن في
كرامته ونبله". الشخصية تعني الشخص الذي تمكن من بناء طبيعة
رائعة، واصبح قدوة ومثالاً. انه يحقق الحلم الذي يدغدغ كل فرد في
عمق نفسه، اعني ان يكون حكيماً، ان لا يكون اقلّ بشيء من انسان
مخلص، ان يكون فناناً. الشخصية هي الوجه العملي الذي يكتسبه
الشخص وفقاً للتوجيه الذي يعطيه لوجوده.
في الواقع، الانسان المسافر في تاريخ هذه الدنيا موجود
ويصنع ذاته في آن. لكنه يدرك فوراً محدوديته، وانه ليس قادراً على
تحقيق ما يرغب. يسوع المسيح يبقى للجميع القدوة والمثال.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة
الراعوية تقبّل النص المجمعي السادس: " البطريرك والاساقفة"
وتحديداً الفصل الثاني: واقع الخدمة البطريركية والاسقفية
الراهن.
ا الخدمة البطريركية
تتميّز بثلاثة:
1. البطريرك رمز
ومرجع
كون البطريرك اباً
ورئيساً، بات الجميع يلجأون اليه كمرجع في المناسبات
الكبيرة والملمّات الصعبة والقرارات المصيرية، فضلاً عن اعتباره
السند في الحاجات الدينية والاجتماعية، والمنبر في القضايا
الوطنية. انه رمز وحدة الموارنة وضمانها حيثما انتشروا.
3.
المؤتمن على التراث
حافظ البطريرك بسهر وعناية على تراث الموارنة المثلث: الانتماء
الى حضارة الشرق وتراثه الغني؛ الانفتاح على الغرب وثقافته
التعددية؛ الثبات على العقيدة الكاثوليكية الصحيحة.
4.
الحريص على الوطن
تربى الموارنة، بفضل توجيهات بطاركتهم مدى التاريخ، على حب البلاد
التي يتواجدون فيها في الشرق وبلدان الانتشار. فخدموا بلادهم
بامانة، ودافعوا عنها، وسعوا الى انمائها. وفي لبنان، حيث الكرسي
البطريركي، اصبح البطريرك محطّ انظار اللبنانيين. يقدّره الحكام،
ويحترمه الشعب، ويصغي اليه القادة. يجلّ الجميع دوره الجامع
والحكيم، فيذكرّهم بالثوابت الوطنية وباسس العيش المشترك.
لا بدّ من وعي هذه الخدمة البطريركية التى تتثبت عبر العصور، والتي
تشكل علامة رجاء في كنيستنا والوطن. ومن الضرورة ان تتربى الاجيال
الجديدة على حقيقة دور البطريرك، واحاطته بالاحترام والحرص عليه.
انه للكنيسة والوطن بمثابة قبطان السفينة.
****
صلاة
ايها الرب يسوع،
بانتسابك الى الاسرة البشرية، تضامنت مع كل انسان في قوته وضعفه،
لتكون له فادياً ومخلصاً. اظهرت ان وعود الله الخلاصية تمتّ في
شخصك، فصرتَ قبلة آمال الشعوب، ومحطّ انتظاراتهم. وكشفت ان حياة
الانسان مسيرة قداسة نحو الله، في اي حالة من ظروف حياتهم. أنرْ
ايها المسيح تاريخ الشعوب والثقافات لتسير على هدي انوار الحقيقة
والعدالة والمحبة، فيدخل الناس اجمعون في شركة مع الله، ويتضامنوا
فيما بينهم، ويبنوا عالماً يليق بخالقه وفاديه. لك ايها الابن
الوحيد ولابيك المبارك وروحك القدوس كل مجد وتسبيح واكرام، الآن
والى الابد، آمين.
الثلاثاء 25 كانون الاول2007
ميلاد الرب يسوع
لقاء الله والانسان
من انجيل القديس لوقا 1/ 1-20
"قال
لوقا البشير: في تلك الايام، صدر أمر من اغوسطس قيصر بإحصاء كل
المعمورة. جرى هذا الإحصاء الاول، عندما كان كيرينيوس والياً على
سوريا. وكان الجميع يذهبون، كل واحد الى مدينته، ليكتتبوا فيها.
وصعد يوسف من الجليل، من مدينة الناصرة، الى اليهودية، الى مدينة
داود تدعى بيت لحم، لانه كان من بيت داود، وعشيرته، ليكتتب مع مريم
خطيبته، وهي حامل. وفيما كانا هناك، تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها
البكر، وقمتطه، واضجعته في مذود، لانه لم يكن لهما موضع في فاعة
الضيوف.
وكان في تلك الناحية رعاة يقيمون في الحقول، ويسهرون في
هجعات الليل على قطعانهم. فاذا بملاك الرب قد وقف بهم، ومجد الرب
أشرق حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً. فقال لهم الملاك: لا تخافوا! فها
انا ابشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله، لانه ولد لكم اليوم مخلص، هو
المسيح الرب، في مدينة داود. وهذه علامة لكم: تجدون طفلاً مقمطاً،
مضجعاً في مذود!". وانضم فجأة الى الملاك جمهور من الجند السماويين
يسبحون الله ويقولون: " المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام،
والرجاء الصالح لبني البشر".
ولما انصرف الملائكة عنهم الى السماء، قال الرعاة بعضهم
لبعض: "هيا بنا، الى بيت لحم، لنرى هذا الامر الذي حدث، وقد أعلمنا
به الرب". وجاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في
المذود. ولما رأوه اخبروا بالكلام الذي قيل لهم في شأن هذا الصبي.
وجميع الذين سمعوا، تعجبوا مما قاله لهم الرعاة. أما مريم فكانت
تحفظ هذه الامور كلها، وتتأملها في قلبها. ثم عاد الرعاة وهم
يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوا ورأوا، حسبما قيل لهم".
**
حدث الميلاد حدث محدد في تاريخ البشر. وقد اصبح البداية لعهد جديد
هو حضور الله في التاريخ البشري، ينيره ويوجهه الى المجد والسلام
والرجاء. مع الرعاة سارت البشرية تبحث عن الكلمة الذي ينير دروبها،
ويجيب على تساؤلاتها، ويبلغ بها الى الخلاص.
اولاً، شرح نص الانجيل
1.
حدث الميلاد
" ولد اليوم لكم المخلص الذي هو المسيح الرب، في مدينة داود"
( لو2/11).
الاله، ابن الله، صار انساناً في زمان ومكان واسرة محددين. انه
الحدث التاريخي الاساسي الذي يلي عمل الخلق. هو عمل الخلاص
او الخلق الثاني والجديد.
أ- الزمان محدد
بعهد اغسطس قيصر على رأس الامبراطورية الرومانية، واثناء ولاية
قوريناوس حاكم المنطقة الجغرافية المعروفة بسوريا. اغسطس قيصر
هو الامبراطور الروماني
Octavius
ابن شقيق قيصر ملك روما ( 78-44 قبل المسيح) وابنه بالتبني، ولذا
يحمل اسم " قيصر." اما اسم "اغسطس" فهو لقب ناله من
مجلس الشيوخ سنة 27 قبل المسيح، من بعد ان كسر
Antonius
في معركة
Actium
سنة 31، ووحّد الاميراطورية الرومانية، بعد ان كانت اثنتين:
الغربية بقيادة
Octavius
والشرقية
بقيادة
Antonius.
دام عهد
Octavius
الذي اصبح اسمه اغسطس قيصر من سنة 31 قبل المسيح الى سنة 14 بعد
المسيح. انه مؤسس الامبراطورية الرومانية، وحاكم العالم المعروف،
فكان عهد السلام الداخلي والانماء الاقتصادي والثقافي واعادة
الترميم الشامل؛ واعلن اغسطس قيصر السلام العالمي، فكرس له مجلس
الشيوخ " مذبح السلام"
(
Ara
Pacis)
سنة 13 قبل المسيح؛ وفي عهده نالت روما لقب "سيدة العالم "Caput
Mundi).
وهو الذي امر باحصاء المسكونة كلها بين سنة 7 و6 قبل المسيح. في
هذه الاثناء ولد ابن الله انساناً وسُجل باسم " يسوع ابن يوسف من
الناصرة" (يو1/45؛ لو3/23)، في دائرة نفوس الامبراطورية. بهذا
القيد انتمى يسوع، ابن الله وابن مريم، الى الجنس البشري، انساناً
بين الناس من سكان هذا العالم، خاضعاً للشريعة وللمؤسسات المدنية،
ولكن " مخلصاً للعالم" ايضاً. وهكذا تاريخ البشر يمهّد
للتدخل
الالهي فيه، فينسجم مع تاريخ الخلاص.
ب- المكان محدد
هو بيت لحم، الملقبة بمدينة داود (لو2/4)، الى جانب اورشليم مدينة
داود بامتياز، لان داود الملك استولى عليها وجعلها مجيدة. يسوع
الذي ينتمي الى سلالة داود، اراد بالتدبير الخلاصي ان يكون
انتماؤه وضيعاً في بيت لحم، بدلاً من الانتماء الى مجد داود
الملوكي في اورشليم. فكان ان ولد في مغارة تستعمل مذوداً للبهائم،
بسبب كثرة الوافدين للاحصاء، وبسبب حاجة مريم الى مكان بعيد عن
الانظار لتلد ابنها. لقد وضعته في فقر المذود وحالة وضيعة للغاية،
فيظهر فقر المسيح منسجماً مع فقر امه (لو1/48)، ومع فقر
الرعاة الذين اعلنوه وسجدوا له، فبات الفقر يشكل غنى روحياً
وخلقياً في حياة المؤمنين والكنيسة.
داود نفسه
الذي من بيت لحم، والابن الثامن والاصغر ليسّى، وراعي الغنم،
اختاره الله ومسحه ملكاً على يد صموئيل (1صمو16/1-13). هذا الفقير
الوضيع اصبح، بنعمة الله واختياره ومسحته، البطل المحبوب، وقدوس
اسرائيل، والملك التيوقراطي بامتياز، والشاعر والنبي، ورمز المسيح
(1042-971 قبل المسيح). هذه قيمة فقر المسيح الذي " افتقر وهو
الغني ليغنينا بفقره" (2كور8/9)، ودعانا بولس الرسول لنتخلق بخلقية
هذا المسيح ( فيليبي2/5-8)، بولس الرسول اكّد حقيقة تاريخية
قديمة وجديدة، هي ان الله اختار جهال العالم ليخزي الاقوياء،
واختار الوضيعة احسابهم في العالم والمنبوذين والذين ليسوا بشيء
ليبطل المعدودين، لكي لا يفتخر بين يديه كل ذي جسد" (1كور1/27-29).
ويعقوب الرسول اشترط فضيلة الفقر لدخول الملكوت: " اما
اختار الله فقراء العالم، الاغنياء بالايمان، ليكونوا ورثة الملكوت
الذي وعد به الله من يحبونه؟" ( يعقوب2/5). وجعل السيد المسيح
هذا الشرط في رأس دستور الخلاص: " طوبى للفقراء بالروح، فان لهم
ملكوت السموات" ( متى5/3). وهكذا تمت نبوءة ميخا ( سنة 700
قبل المسيح): " وانت يا بيت لحم، انك اصغر عشائر يهوذا، ولكن منك
يخرج لي من يكون قائداً لشعبي واصوله قديمة، منذ ايام الازل"
(ميخا5/1).
ج- الاسرة محددة
هي عائلة يوسف ومريم الزوجين البتولين، من الناصرة وكلاهما من
سلالة داود. هذه العائلة تسجلت في الاحصاء المدني العام، مع كل ما
للابوة والامومة من مفاعيل على حياة يسوع ورسالته. شخص الابن
الاله يتأنس آخذاً جسداً من مريم، وبالتالي هي ام هذا الشخص في
طبيعته البشرية، وتدعى ام الاله "
Theotokos"،
كما اعلنها مجمع افسس ( سنة 431). فالامومة تشمل الشخص بكامله، ولا
تقتصر على الجسد، ولا على الطبيعة البشرية وحدها. لقد حبلت مريم
بشخص هو ابن الله، الواحد مع الآب في الجوهر. انها في الحقيقة ام
الله المتأنس، الذي غذته بحليبها وسكبت في قلبه حبها وحنانها
وقيمها، وربّته وتعهدته وشاركته في رسالة الفداء (انظر كرامة
المرأة،4).
يوسف زوج مريم، الذي لم يولد المسيح من زرعه بل بقوة الروح القدس،
هو ايضاً ابو يسوع في الشريعة مع كامل حقوق الابوة، وقد اختاره
الله لذلك. زواج يوسف بمريم ( متى1/16؛ لو1/27) هو المرتكز
القانوني لابوته ليسوع. مريم نفسها تسمي يوسف ابا يسوع (لو2/48).
لقد اقيم يوسف، بقرار من الارادة الالهية، حارس ابن الله واباً في
نظر الناس. فكان كلمة الله خاضعاً ليوسف خضوعاً متواضعاً، يطيعه
ويؤدي له كل الواجبات التي يجب على الابناء ان يؤدوها لوالديهم
(البابا يوحنا بولس الثاني: حارس الفادي،8).
2.
نداءات الميلاد
مع حدث ميلاد الكلمة الالهي انطلقت نداءات:
أ-" نور مجد الرب اشرق في قلب الليل".
الطفل الالهي في المذود يشع في ظلمة الليل، لكي يشع في القلوب
والعقول وفي ظلمات العالم الروحية والاجتماعية والثقافية
والسياسية. فيسوع المولود هو " ضياء مجد الله وصورة جوهره " (
عبرا1/3)، وسيقول عن نفسه: " انا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في
الظلام، بل يجد نور الحياة" (يو8/12). انه النور بشخصه وكلامه
ومثله. في ظلمة الألم والفقر والظلم واليأس والضياع والاستضعاف،
ظلمات يلفها الصمت الذي يسدّ الآفاق، اشرق المسيح كلمةًَ لكل من
هو في ظلمة. فهو محط الانتظارات " انه الكلمة الخارجة من الصمت"
(القديس اغناطيوس الانطاكي). كلمة خلاص يعلنها الله
بالملاك: " ابشركم بفرح عظيم يكون للعالم كله، لقد ولد لكم اليوم
المخلص، وهو المسيح الرب!" انه "الدنح" اي ظهور الله
للعيان. في كل ظلمة ليل من حياتنا يظهر الله. في صمت التأمل
والانتظار يظهر الله؟ الصمت باب الشفاء، " فعالم اليوم
مريض من الضجيج" (Kierkegaard).
تنبأ كاتب سفر الحكمة قبل ميلاد المسيح بثلاثين سنة: " بينما كان
صمت هادىء يخيّم على كل شيء، وكان الليل في منتصف سيره السريع،
وثبتْ كلمتك القديرة من السماء، من العروش الملكية، كالمحارب
العنيف في وسط الارض الملعونة" ( حكمة 18/14-15). انها الكلمة
التي صارت بشراً (يو1/14). انها كلمة الانجيل، انجيل الخلاص.
انها كلمة السلام والرجاء، كما انشد الملائكة: المجد لله في
العلى، وعلى الارض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر". المسيح
مجدنا، المسيح سلامنا، المسيح رجاؤنا! ينشد الناس في الميلاد
الاغنية الالمانية
Stille Nacht
للشاعر
Gruber:
" ايها الليل الصامت! الكل يصمت، فقط زوجان تقيان يسهران. وانت
ايها الطفل اللطيف والحبيب تنام في هذا السلام السماوي". في الصمت
نسمع الله يتكلم. انه حاجة من حاجات يومنا.
ب- " اسرع الرعاة الى بيت لحم ليروا الكلمة...
ولما رأوا اخبروا بالكلمة. والذين سمعوا تعجبوا من
الكلمة... وعاد الرعاة يسبحون الله ويهللون" (
لو2/15-20).
الرعاة الفقراء، الصامتون، البعيدون عن ضجيج المدينة، الساهرون على
ماشيتهم سمعوا الكلمة ورأوا نورها. فاسرعوا الى بيت لحم. لقد
رأوا واخبروا وسبّحوا. قاموا باول ليتورجيا في العهد الجديد:
حول الكلمة الالهي، يسوع المسيح الاله والانسان، بحضور يوسف ومريم.
جماعة الرعاة ترى الطفل وتؤمن بالمخلص، تخبر
بالكلمة وتشهد لها بالاعمال، تسبّح الله وتعود
الى حقل العمل بفرح ورجاء. ليتورجيا المغارة في بيت لحم تتواصل في
ليتورجيا القداس في كنائسنا. جميلة مغارة الميلاد قرب المذبح
وبتواصل معه.
3.
ليتورجيا الميلاد
ليتورجيا الميلاد،
ككل ليتورجيا، وقفة تأمل: يوسف، المؤتمن على " السّر
المكتوم في الله منذ الدهور" ( افسس3/9)، يتأمل في هذا السّر الذي
بدأ يتحقق امام عينيه، سرّ مجيء ابن الله الى العالم، بما فيه من
تجرّد وتحرير للعالم، ومن فقر يغني كل انسان ينفتح بالافتقار من
الذات الى غنى المسيح. ويتأمل يوسف، كمستمع، في ما اخبر رعاة بيت
لحم ( لو2/15-16) وما رواه مجوس المشرق ( متى2/11).
مريم،
الصامتة المتأملة، " تحفظ في قلبها كل هذه الكلمات". تسجد لمن
ولدت، وهي " ام خالقها"، وتستقي الحياة من الذي وضعته انساناً، وهي
"ابنة ولدها" (البابا يوحنا بولس الثاني، ام الفادي،10). تتأمل في
وجه من هو ثمرة بطنها، ثمرة حب الله للبشر وحب مريم له، باسم
البشرية جمعاء. ما من ولد يولد لولا تبادل الحب بين والديه. بكلمة
" نعم، انا امة الرب" اعطت مريم كل حبها لله، بعد ان سبق وسكبه في
قلبها بالروح القدس، فأصبح الكلمة بشراً. تأملت هذا المولود منها
الذي يحقق الوعد الذي قطعه الله قديماً للبشر في اعقاب خطيئة آدم
وحواء. فها " نسل المرأة" يسحق رأس الحية، وينتزع الخطيئة التي
القت بثقلها على تاريخ الانسان على هذه الارض ( تك3/15) ( ام
الفادي،11). في ليتورجيا القداس، مريم الحاضرة قرب مائدة
الكلمة وجسد الرب ودمه، تقودنا الى عمق هذا التأمل وتعيننا على عيش
ما نتأمل فيه. وفي تلاوة مسبحة الوردية، مريم تكشف لنا وجه
ابنها يسوع الذي يشع منه الفرح والنور، والذي يفتدي ويغفر، ويقيم
الانسان من الموت ويشركه بمجد السماء.
الرعاة
المنذهلون، يرون ويخبرون، و" يقدمون حملاً وضيعاً لحمل الفصح،
بكراً للبكر، وذبيحاً للذبيح" (القديس افرام). وراحوا يهللون لمن
رأوا فيه " راعي الرعاة".
مجوس الشرق
يسيرون على هدي النجم الى من هو شمس الكون، على هدي العلم الى من
هو الحكمة الالهية، من قراءة علامات الازمنة انتقلوا الى عمق
الايمان، وهم من الشعب الوثني، فسجدوا له وقدموا الهدايا رموزاً:
الذهب لملك الملوك، والبخور للكاهن الازلي، والمر حنوطاً للفادي
الالهي الذي يموت من اجل بشرية جديدة.
ليتورجيا القداس تأوين للتجسد والفداء، وينبوع ثمارها الروحية
والاجتماعية.
4. تبادل عجيب
بالميلاد تمّ التبادل العجيب:
الاله المتجسد يهبنا الوهيته، ونحن بشخص مريم ويوسف نبادله
بشريتنا. الارض وهبته مغارة وهو بادلها كنيسة ومائدة خلاص.
الامبراطورية قدمت له شعباً محصياً وارضاً موحَّدة وسلاماً شاملاً،
وهو بادلها مملكة سماوية تعطي ممالك الارض سيادة الحق وكرامة العدل
وقدسية الانسان. الرعاة هدوه حملاً من ماشيتهم، وهو بادلنا ذاته
حملاً فصحياً. المجوس هدوه رموزاً، وهو بادلنا النبوءة والكهنوت
والملوكية. اما قمة التبادل فهي ان " الاله صار انساناً ليؤله
الانسان" (القديس امبروسيوس). ولهذا نهتف ونقول: " ولد المسيح،
هللويا!".
|