زمن الميلاد
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2009 - 2010
 احد تقديس البيعة  الاحد الاول من  تشرين الثاني 2009
 عيد
الميلاد -
25 كانون الاول 2007
  1. احد تقديس البيعة - الكنيسة مقدسة باللّه الواحد والثالوث
  2. احد تجديد البيعة - بالمسيح يتجدد كل شيء
  3. احد بشارة زكريا - الرجاء الذي لا يخيّب
  4. احد بشارة العذراء مريم - المحبة والمبادلة بين الله والانسان
  5. احد زيارة مريم لاليصابات -  حضارة المحبة ومواهب الروح القدس
  6. احد مولد يوحنا المعمدان - الرحمة ميزة شعب الله
  7. احد البيان ليوسف - انكشاف سرّ الله المكتوم منذ الدهر
  8. احد نسب يسوع - يسوع المسيح رجاء الشعوب
  9. ميلاد الرب يسوع -  تأنس الله ليؤلّه الانسان
  10. عيد رأس السنة 2010 - يسوع المسيح مخلصنا وسلامنا
ميلاد الرب يسوع

 

 
بشارة الملاك لزكريّا بشارة الملاك لمريم زيارة مريم لاليصابات
     
مولد يوحنا المعمدان البيان ليوسف نسب يسوع
 

 

احد تقديس البيعة

    عبرانيين 9: 1-12

  متى 16/13-20

الكنيسة مقدسة باللّه الواحد والثالوث

 

         احد تقديس البيعة يفتتح السنة الطقسية، للدلالة ان الكنيسة مقدسة بحضور الثالوث الالهي فيها. فالآب يظللها بمحبته، والابن يقدّسها بنعمة اسراره، والروح القدس ينعشها بالحياة الالهية. وهي مقدسة بقديّسها. ان الاحتفال بتقديسها دعوة لابنائها وبناتها الى التزام حياة القداسة فيها. يتزامن هذا الأحد مع عيد جميع القديسين.

         اساس القداسة في الكنيسة الايمان " بالمسيح ابن الله الحي" ( متى16:16)، الذي اعلنه سمعان-بطرس في قيصرية فيليبس. اما تحقيق القداسة فيتّم بذبيحة المسيح على ما يقول بولس في رسالته لهذا الاحد ( عبرانيين 9:12).

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

         من انجيل القديس متى:16/13-20.

         جَاءَ يَسُوعُ إِلى نَواحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيْلِبُّسَ فَسَأَلَ تَلامِيْذَهُ قَائِلاً: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَان؟". فقَالُوا: "بَعْضُهُم يَقُولُون: يُوحَنَّا الـمَعْمَدَان؛ وآخَرُون: إِيْليَّا؛ وغَيْرُهُم: إِرْمِيَا أَو أَحَدُ الأَنْبِيَاء". قَالَ لَهُم: "وأَنْتُم مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟". فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وقَال: أَنْتَ هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الـحَيّ!". فأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بنَ يُونَا! لأَنَّهُ لا لَحْمَ ولا دَمَ أَظْهَرَ لَكَ ذـلِكَ، بَلْ أَبي الَّذي في السَّمَاوَات. وأَنَا أَيْضًا أَقُولُ لَكَ: أَنْتَ هُوَ بُطْرُسُ، أَيِ الصَّخْرَة، وعلى هـذِهِ الصَّخْرَةِ سَأَبْنِي بِيْعَتِي، وأَبْوَابُ الـجَحِيْمِ لَنْ تَقْوى عَلَيْها. سَأُعْطِيكَ مَفَاتيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَات، فَكُلُّ مَا تَربُطُهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا في السَّمَاوَات، ومَا تَحُلُّهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً في السَّمَاوَات". حينَئِذٍ أَوْصَى تَلامِيْذَهُ أَلاَّ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ هُوَ الـمَسِيح.

 

         تعمّد الرب يسوع طرح السؤال عن نفسه على الرسل في قيصرية فيليبس، حيث كانت آمال الناس ورجاؤهم موضوعة في الهة الوثن وقدرة القيصر وعظمة القصور، ليكشف سرَّه وسرّ الكنيسة، مستوحياً المكان والاشخاص.

         1. المكان: قيصرية فيليبس

         هي بانياس اليوم، القائمة في السفح الشمالي لجبل حرمون، عند ينابيع الاردن. الاسم القديم بانياس، وكانت مكرّسة لاله الحقل " بان" (Pan). المنطقة وثنية، فيها شفى يسوع المرأة النازفة، حسب اوسابيويس المؤرخ. في بانياس بنى هيرودس الكبير هيكلاً اكراماً لاغسطس قيصر الامبراطور الروماني. ثم جاء ابنه هيرودس فيلبس والي الربع فوسّع الابنية وجمّلها بين سنة 3 و2 قبل المسيح، وسمّيت قيصرية فيليبس.

         في نواحيها، أعلنت شخصية يسوع، " القيصر الجديد"، " المسيح ابن الله الحي". وأعلن الايمان الحقيقي، اساس المعرفة الحقه التي تفوق حقيقة ابحاث الناس: "من يقول الناس اني انا ابن الانسان؟" وجاء الجواب دون الحقيقة. اما جواب الايمان الذي أعطاه سمعان بطرس ففيه كل الحقيقة. الكنيسة مؤتمنة على اعلان الحقيقة. نقرأ في الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني الصادرة بتاريخ 14 ايلول 1998، بعنوان  الايمان والعقل:  الايمان والعقل جناحان يمكّنان الانسان من الارتفاع الى التأمل في الحقيقة. فالله نفسه هو الذي وضع في قلب الانسان التوق الى معرفة الحقيقة، ثم في النهاية الى معرفة الله ذاته، حتى اذا عرفه وأحبه، يستطيع البلوغ الى الحقيقة الكاملة"، اي حقيقة الله والانسان. ويضيف: "الكنيسة هي خادة الحقيقة ، رسالتها ان تشرك جماعة المؤمنين في مسعى البشرية المشترك للبلوغ الى الحقيقة، وان تلزمها بتحمل مسؤولية اعلان الثوابت المكتسبة، علماً ان كل حقيقة نبلغ اليها ليست سوى مرحلة باتجاه الحقيقة الكاملة التي ستظهر في تجلي الله الاخير"[1]. بولس الرسول يسمي الكنيسة " بيت الله وعمود الحق واساسه" (1تيموتاوس 3/15).

 

         2. الاشخاص:عنصرا الكنيسة الالهي والبشري.

         المسيح والتلاميذ هم عنصرا الكنيسة التي اعلنت في قيصرية فيليبس. يسوع المسيح،  هو العنصر الالهي، والتلاميذ هم العنصر البشري. لا كنيسة بدون هذين العنصرين المرتبطين عضوياً وبشكل غير منفصم.

             أ-العنصر الالهي هو الثالوث الاقدس الذي تجلّى بيسوع المسيح، والكنيسة هي عمله.

             الآب بحكمته وجودته خلق الكون، واراد ان يرفع البشر الى الشركة في حياته الالهية، فدعا اليها جميع الناس بابنه المتجسد. وجمعهم شعباً له ليؤلفوا الكنيسة المقدسة، التي هي " عائلة الله" الساكنة في بيته، كما يؤكد بولس الرسول: " بالمسيح صار القرب لنا جميعاً لدى الآب بروح واحد. فلستم الآن بعد غرباء ولا دخلاء، بل انتم بنو مدينة القديسين وبنو بيت الله. وقد بُنيتم على اساس الرسل والانبياء، والمسيح يسوع هو كان رأس البناء. وبه يشاد البناء كله، فيرتفع هيكلاً مقدساً بالرب، وبه انتم تُشادون لسكنى الله بالروح" ( افسس 2/18-22). بدأ " تجمع شعب الله، عندما هدمت الخطيئة شركة الناس مع الله والشركة في ما بينهم، كما يصف ذلك سفر التكوين. "تجمّع الكنيسة" هو ، اذا جاز التعبير، ردة فعل الله على الفوضى التي تسببت بها الخطيئة. وهكذا بدأ تحضير تجمع شعب الله بدعوة ابراهيم ( تكوين 12/2؛ 15/ 5-6)، واختيار هذا الشعب، شعب العهد القديم ( خروج 19/ 5-6؛ تثنية 7/6) ليكون علامة لتجمع كل شعوب الامم ( اشعيا 2/2-5؛ ميخا 4/1-4). ثم كان اعلان شعب الله الجديد الابدي بالمسيح، المتمثل في الكنيسة على لسان الانبياء[2]، وذلك عندما خان الشعب القديم عهد الله معه وكسره ( هوشع 1؛ اشعيا 1/ 2- 4؛ ارميا 2).

             حقق يسوع ابن الله، في ملء الازمنة، تصميم الآب الخلاصي، فوضع اسس الكنيسة باعلان البشرى الجديدة اي مجيء ملكوت الله الموعود به في الكتب منذ القديم. ودشن ملكوت السماء على الارض، متمماً ارادة الآب. تجلّى هذا الملكوت في شخص المسيح وحضوره، وفي كلامه واعماله. فكانت الكنيسة بداية ملكوت الله  ونواته، المعروفة " بالقطيع الصغير" ( لوقا 12/32)، المولودة من هبة المسيح ذاته كاملة لخلاصنا. وقد رُمز اليها في الدم والماء اللذين سالا من صدر المسيح المطعون على الصليب ( يو19/34)، وهما علامة الافخارستيا والمعمودية. وأعطى الرب يسوع كنيسته هيكلية تثبت حتى نهاية العالم واكتمال الملكوت. فاختار الاثني عشر وعلى رأسهم بطرس. وهكذا هيأ الكنيسة وبناها: " انت الصخرة، وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي"[3].

             الروح القدس اُرسل يوم العنصرة ليقدس الكنيسة بشكل دائم، بعد ان أكمل الابن عمل الآب. يومها ظهرت الكنيسة للعلن، وبدأت تنشر الانجيل بالكرازة في جميع اقاصي الارض. ولانها " دعوة" جميع الناس الى الخلاص، فهي من طبيعتها رسولية. ان الروح القدس يمنح الكنيسة مواهب متنوعة، ويهديها في رسالتها الى شعوب الارض[4].

 

             ب- العنصر البشري ظاهر في الاثني عشر الذين يمثلون اسباط شعب العهد القديم الاثني عشر (متى21/14). هؤلاء الرسل، وعلى رأسهم بطرس، والتلاميذ الآخرون (لوقا10/1-2)، راحوا يشاركون في رسالة المسيح وفي سلطانه ومصيره ( متى10/25). وما زال هذا العنصر البشري يتواصل حتى ايامنا، وسيتواصل بمعية الرب يسوع حتى انتهاء العالم  (متى28/20).

            هذا هو سرّ الكنيسة. لا يمكن ان نراه الاّ بعين الايمان. انها في التاريخ لكنها تسمو عليه. نرى واقعها المنظور، ونؤمن ونختبر واقعها الروحي، حامل الحياة الالهية. هو المسيح، الوسيط الوحيد، الذي أسس الكنيسة، يعضدها باستمرار كجماعة الايمان والرجاء والمحبة، ويوزع من خلالها لجميع الناس الحقيقة والنعمة. انها في آن جماعة منظمة وجسد المسيح السرّي، تجمّع منظور وجماعة روحية، كنسية ارضية ومزدانة بالمواهب السماوية. انها تحمل سلطاناً اليهاً مثلثاً هو سلطان التعليم والتقديس والتدبير، المعروف " بسلطان مفاتيح ملكوت السماوات" اي " الحلّ والربط"، باسم المسيح وبشخصه ( انظر متى 16: 19). وتمارس الكنيسة بسلطان رعاتها الالهي سلطة تشريعية واجرائية وقضائية وادارية على ابنائها, تناط هذه السلطة تراتبياً بقداسة البابا والمجمع المسكوني في الكنيسة الجامعة، وبالبطاركة ومجامع اساقفتهم في كنائسهم، وبالاساقفة في ابرشياتهم.

   هذا كله يشكل واقعاً واحداً وموحداً من عنصر مزدوج الهي وانساني[5].

 

             3. عيد جميع القديسين

            يتزامن الاحتفال بتقديس الكنيسة مع عيد جميع القديسين، الذي حدده في اول تشرين الثاني البابا غريغوريوس الثالث ( +741)، وعممه على الكنيسة الجامعة البابا غريغوريوس الرابع سنة 835. وكان العيد موجوداً قبل انشائه رسمياً، منذ القرن الخامس، ومحتفلاً به بين عيدي القيامة والعنصرة. انهم وجه الكنيسة المقدسة، وقد عاشوا ببطولة فضائل الايمان والرجاء والمحبة وسائر الفضائل، وهم للجميع نماذج في عيش الاتحاد بالله والوحدة مع جميع الناس، وشفعاء لدى الله يصلّون من اجلنا.

 

             4. تذكار الموتى المؤمنين

             فيما الكنيسة المجاهدة " تسعى الى بناء ملكوت الله في هذه العالم، وهو الاتحاد بالله عمودياً ووحدة الجنس البشري افقياً، بعمل الثالوث وتعاون البشر، فانها تتأمل وتستلهم "كنيسة السماء الممجدة" في هذا المسعى، وتذكر " كنيسة المطهر المتألمة" لتنعم بسعادة السماء.

             اعلن المجمع التريدنتي في 3 كانون الاول 1563 وجود حالة تُسمى " المطهر" حيث الاموات الذين لم يعيشوا بطولة القداسة، ولم يكن مصيرهم الهلاك الابدي، يحتاجون الى تنقية "وتطهير" من خطاياهم بآلام، لكي يؤهلوا لمشاهدة الله السعيدة والمشاركة في مجد السماء. انهم بحاجة الى مساعدة كنسية الارض وشفاعة كنيسة السماء. فتُقدم عنهم ومن اجلهم قداسات وتُقام صلوات وابتهالات، وتؤدى اعمال رحمة وخير وتصدّق من اجلهم. ان التضامن الذي يجمع بين الناس على الارض، لا ينتهي مع الموت، بل يستمر في شركة روحية تضامنية مع الموتى. ومنذ الاجيال الاولى للكنيسة، كانت مبادرات متنوعة من اجل الانفس المطهرية، وكانت تذكارات الثلاثة ايام والاربعين يوماً والسنة، واحياء قداسات لراحة الموتى في سعادة السماء[6]

*** 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن والكنيسة[7]

 

         1. الكاهن عطية من المسيح للكنيسة لكي يقدّم لجميع الناس سرّ القربان الذي هو عطيته العظمى للكنيسة. انه مدعو ليكون عطية مجّانية دائمة، وليتميّّز بما تميّز به المسيح، الكاهن الازلي، الذي يشركه في كهنوته. فالمسيح هو كاهن العليّة والجلجلة. في العليّة وهب ذاته خبزاً بجسده ودمه لحياة العالم. وعلى الجلجلة، وهب ذاته ذبيحة فداء عن شعوب العالم. هذا هو جوهر الكهنوت: عطاء الذات بسخاء ومن دون تحفّظ، وقتاً وقدرة وامكانيات، قوةً وضعفاً، وبذل الذات بكل تفانٍ وقبول المحن والمصاعب وصلبان الدعوة والرسالة في خدمة المسيح والكنيسة. لقد وُلد الكاهن في العشاء الاخير وعلى اقدام الصليب مع سرّ القربان، الوليمة والذبيحة.

         2. الكاهن مؤتمن على وليمة جسد المسيح ودمه ليوزعه حياة للمؤمنين، وعلى ذبيحة جسده ودمه ليقيمها فداء وتكفيراً عن الخطايا أجمعين. كل كاهن كان حاضراً في نية يسوع وقلبه بشخص يوحنا الذي ارتمى على صدره ليغرف من قلبه الحب الكهنوتي والامانة لهذا الحب، والذي تقبّل ذبيحة جسده ودمه على اقدام الصليب مع مريم امّه، لكي يتماهى معه في كهنوته بحماية مريم، ام الكاهن: " يا يوحنا، هذه امك! ويا امرأة هذا ابنك!" لا أعزّ على قلب مريم من جسد ابنها ودمه الموكَلين في سرّ القربان الى الكاهن الذي يقدمهما بيديه الكهنوتيتين، دونما انقطاع، ذبيحة ووليمة لحياة العالم. الى عناية مريم يكل الكاهن دعوته ورسالته.

         3. من اجل استمرارية هذه العطية المزدوجة للكنيسة، الكهنوت والقربان، يلتزم كل كاهن ببذل كل قواه لاحياء الدعوات الكهنوتية ودعمها، بالصلاة وشهادة الحياة والبحث. انه بذلك يلبّي دعوة الرب يسوع: "صلّوا اذاً لرب الحصاد، ليُرسل فعلة الى حصاده" (متى9: 38). فكل مدعو الى الكهنوت هو عطية المسيح الشخصية للكنيسة عروسته، مثل عطية وليمة جسده ودمه وذبيحتهما العظمى لها. ينبغي تمييز الدعوة وانعاشها بروحانية العطية، وتجميلها بالجهوزية على اعطاء الذات بسخاء ومجّانية.

         في يوم الاحتفال بقداسة الكنيسة، نصلي: " اعطنا، يا رب، كهنة قديسين!".

 

***

 ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني 

         تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي الثامن عشر: الكنيسة المارونية والثقافة، وتحديداً الفصل الثالث: الكنيسة المارونية امام تحديات العالم المعاصر الثقافية. فنتناول اثنين من تحديات الحداثة:

 

1.    الحداثة وحركة العلمنة (الفقرتان 39 و40).

الحداثة ( modernité) هي الثقافة الجديدة التي محورها الانسان، وتطاول كل جوانب الحياة الانسانية: العلوم والفلسفة والسياسة والاقتصاد والمجتمع والدين والدولة. اما العلمنة ( sécularisation) فتضع مسافة بين الانسان الحديث والتقليد، وتجعل الحياة الاجتماعية مستقلة عن سيطرة السلطة الدينية، وتحصر الدين في المجال الخاص بدون ان يكون له تأثير في مجريات الحياة العامة. وثمة العلمانية (laďcité) التي على المستوى السياسي تحدّ من طموح الدين الى الشمولية، فتفصل الدين عن الدولة.

ما يعني الكنيسة هو المحافظة على الحداثة بحيث لا تصل العلمنة والعلمانية الى حصر الثقافة بنظرة ارضية محضة الى الانسان، ومعادية للدين. 

 

2. الانثقاف الماروني الحديث ( الفقرتان 41 و42).

الانثقاف الماروني وانفتاحه على العالم الغربي مدعو ليرفض الاختيار بين التراث والحداثة؛ وبالمقابل ليجمع دائماً التراث الشرقي واستيعاب الثقافة الغربية الحديثة. فلا يجوز التخلّي عن القيم والمبادىء الاخلاقية والاجتماعية الاساسية في حياة الفرد والجماعة.

ولا بدّ من المحافظة على الشبيبة وحمايتها من هذا التخلّي عن القيم والمبادىء الاساسية، فيما هي تتمسّك بالعقلانية الحديثة في طابعها العلمي والتقني والجدلي والنقدي. فالشبيبة هي في الخط الامامي من حركة المثاقفة. 

 

***

صلاة

ايها الثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، قدّس ابنا الكنيسة وبناتها بثمار الفداء والخلاص. جمّل رعاتها بالقداسة ليعكسوها في ممارسة ما أوكلت اليهم من رسالة تعليمية وتقديسية وتدبيرية. وباستحقاقات آلام يسوع على الصليب وآلام مريم امه والرسل الابرار والشهداء الابطال، وبشفاعة القديسين، ارح في الملكوت السماوي موتانا المؤمنين، وخفف آلامهم المطهرية. ايها المسيح، الكاهن الازلي، نوّر عقول الكهنة وقلوبهم ليدركوا في العمق انهم عطيتك للكنيسة، فينعشوا مقتضياتها بكل تفانٍٍ واخلاص. ساعدنا جميعاً، بنعمة روحك القدوس، لنحافظ على ثقافة الانجيل والقيم والمبادىء الاخلاقية في الحداثة وحركة العلمنة. فنرفع التمجيد والشكر للآب والاب والروح القدس، الآن والى الابد. آمين.


[1] . الايمان والعقل، 2.

[2] . انظر تعليم الكنيسة الكاثوليكية 758-762).

[3] . المرجع نفسه، 763-766.

[4] . المرجع نفسه، 767-768.

[5] . الدستور العقائدي في الكنيسة 8.

[6] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1030-1032.

[7] . من رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى الكهنة بمناسبة خميس الاسرار، سنة 1982.

 


 

احد تجديد البيعة

عبرانيين 9: 11-15

يوحنا 10: 22-42

بالمسيح يتجدد كل شيء

 

الاحتفال بأحد تجديد البيعة هو الالتزام بتجدد ابنائها وبناتها بالمسيح الجالس على العرش الذي قال على لسان يوحنا الرسول، في رؤياه: " هاءنذا اجعل كل شيء جديداً" ( رؤيا21:5). في انجيل هذا الاحد الرب يسوع يدعونا الى التجدد به لنكون مقدسين ومرسلين الى العالم، مثله، وقد قال عن نفسه: " انا الذي قدّسه الآب وأرسله الى العالم" ( يو10:36).

ويكلمنا بولس الرسول في الرسالة الى العبرانيين عن دم المسيح الذي يطهّرنا ويجددنا، ويجعلنا بالتالي مؤهلين " لاراء العبادة لله، ولنيل الميراث الابدي" ( عبرانيين 9: 14-15).

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

من انجيل القديس يوحنا 10/22-42

         حَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ في أُورَشَلِيم، وكَانَ فَصْلُ الشِّتَاء. وكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى في الـهَيْكَل، في رِوَاقِ سُلَيْمَان. فَأَحَاطَ بِهِ اليَهُودُ وأَخَذُوا يَقُولُونَ لَهُ: "إِلى مَتَى تُبْقِي نُفُوسَنَا حَائِرَة؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الـمَسِيح، فَقُلْهُ لَنَا صَرَاحَةً". أَجَابَهُم يَسُوع: "قُلْتُهُ لَكُم، لـكِنَّكُم لا تُؤْمِنُون. أَلأَعْمَالُ الَّتِي أَعْمَلُهَا أَنَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. لـكِنَّكُم لا تُؤْمِنُون، لأَنَّكُم لَسْتُم مِنْ خِرَافِي. خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وأَنَا أَعْرِفُهَا، وهِي تَتْبَعُنِي. وأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّة، فَلَنْ تَهْلِكَ أَبَدًا، وَلَنْ يَخْطَفَهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الكُلّ، ولا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَهَا مِنْ يَدِ الآب. أَنَا والآبُ وَاحِد". فَأَخَذَ اليَهُودُ، مِنْ جَدِيدٍ، حِجَارَةً لِيَرْجُمُوه. قَالَ لَهُم يَسُوع: "أَعْمَالاً حَسَنَةً كَثِيرَةً أَرَيْتُكُم مِنْ عِنْدِ الآب، فَلأَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونِي؟". أَجَابَهُ اليَهُود: "لا لِعَمَلٍ حَسَنٍ نَرْجُمُكَ، بَلْ لِتَجْدِيف. لأَنَّكَ، وَأَنْتَ إِنْسَان، تَجْعلُ نَفْسَكَ إِلـهًا". أَجَابَهُم يَسُوع: "أَمَا كُتِبَ في تَوْرَاتِكُم: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُم آلِهَة؟ فَإِذَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ تَدْعُو آلِهَةً أُولـئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِم كَلِمَةُ الله،  ولا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الكِتَاب، فَكَيْفَ تَقُولُونَ لِي، أَنَا الَّذي قَدَّسَهُ الآبُ وأَرْسَلَهُ إِلى العَالَم: أَنْتَ تُجَدِّف؛ لأَنِيِّ قُلْتُ: أَنَا ابْنُ الله؟ إِنْ كُنْتُ لا أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي، فلا تُصَدِّقُونِي، أَمَّا إِذَا كُنْتُ أَعْمَلُهَا، وإِنْ كُنْتُم لا تُصَدِّقُونِي، فَصَدِّقُوا هـذِهِ الأَعْمَال، لِكَي تَعْرِفُوا وتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنِّي في الآب". فَحَاوَلُوا مِنْ جَدِيدٍ أَنْ يَقْبِضُوا عَلَيْه، فَأَفْلَتَ مِنْ يَدِهِم. وعَادَ يَسُوعُ إِلى عِبْرِ الأُرْدُنّ، إِلى حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدْ مِنْ قَبْلُ، فَأَقَامَ هُنَاك. وأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وكَانُوا يَقُولُون: "لَمْ يَصْنَعْ يُوحَنَّا أَيَّ آيَة، ولـكِنْ، كُلُّ مَا قَالَهُ  في هـذَا الرَّجُلِ كَانَ حَقًّا". فآمَنَ بِهِ هُنَاكَ كَثِيرُون.

 

         الكنيسة سرّ المسيح

         يكشف لنا الانجيل ان الكنيسة هي سر المسيح الاله المتجسد، المتواصل في التاريخ، هو راعيها وابناؤها خرافه. وبما انها مؤلفة من عنصرين الهي وبشري، تبقى عرضة للرفض من الذين يقتصرون نظرتهم الى العنصر البشري فيها. وتظل في عملية تجدد لكي تظهر للعالم في بهاء هويتها ورسالتها. الليتورجيا، عبر السنة الطقسية، هي " مكان" اللقاء بين الله والانسان، تتوفر فيها الكلمة والنعمة، وتتحقق المشاركة في الحياة الالهية: " انا قلت انكم الهة" (يو10/34).

          يذكرنا الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان "  بان الروح القدس في الاحتفال بالليتورجيا وبخاصة الافخارستيا ، يجدّد الكنيسة ويجعلها اكثر فاكثر على مثال ربها خادمة الفداء. كما يجدد حياة الاشخاص والجماعة بالمشاركة في الليتورجيا، لان فيها يصبح كلام الله بالفعل " روحاً وحياة" (يو6/36). ويحثنا نحن المصلّين على ان نردد بلا انقطاع: " ابا، ايها الآب ". وينعش فينا الايمان لنصمد بالرجاء وسط المحن. وبقوة الروح الساكن في الانسان،  تبدأ عملية "التأليه" فتتحول الخليقة  ويبتدىء ملكوت الله[1].

        


 

2. الكنيسة، مثل المسيح، موضوع قبول ورفض

         تبقى الكنيسة على مثال يسوع المسيح، الله الحق والانسان الحق،  موضوع ايمان أو شكّ، قبول أو رفض، مسالمة  أو اضطهاد. لقد تنبأ عن يسوع سمعان الشيخ يوم تقدمته طفلاً في الهيكل للرب: " ها هوذا قد وُضع لسقوط الكثيرين ونهوض الكثيرين، وآية للخصام" (لو2/34). وقال يسوع عن نفسه : " من ليس معي فهو ضدي". هذه النبؤة تنطبق على الكنيسة.

         اليهود الذين جادلوه، في الهيكل تحت رواق سليمان، شكّوا فيه ورفضوه، انطلاقاً من جوابه على سؤالهم: "الى متى تريب نفسنا؟ فان كنت المسيح ، فقل لنا صراحة" (يو 10/24). وقد اعطاهم فيه وجهين متكاملين: الاول ، ان اعماله تشهد بانه المسيح لانه يعملها باسم ابيه: " الاعمال التي اعملها باسم ابي هي تشهد لي " (يو10/25). الثاني، انه يختلف عن أي مسيح آخر بل عن المسيح الذي عرفوه بين قادتهم وملوكهم، مثل داود، والمسيح الذي ينتظرون، انه ابن الله المساوي للآب في الجوهر: " انا والآب واحد " (يو10/30).

         رفضوه وارادوا ان يرجموه مبررين فعلتهم: " لا نرجمك للعمل الحسن، بل للتجديف لانك ، وانت انسان، تجعل نفسك الله" (يو10/33).

 ثم ارتفع بهم الى حقيقتهم، كطريق الى حقيقته: " ألم يكتب في شريعتكم : قلت انكم آلهة؟" (يو10/34)، وهذا قول من المزمور 82/6: " قد قلت : انتم آلهة وبنو العلي كلكم"،  ويُطبّق على الذين يقضون ويحكمون ويرئسون باسم الله، كما جاء في المزمور المذكور، وعلى الذين اُلقيت اليهم كلمة الله وقبلوها، كما اكدّ السيد المسيح في شرحه (يو10/35). ويضيف، منتقلاً الى اعلان حقيقته انه هو اله لان الآب قدّسه وارسله الى العالم" (يو10/36).

         اما الجمع الذي التف حوله في عبر الاردن فآمن به على شهادة يوحنا : " ان يوحنا لم يأتِ بآية، ولكن كل ما قاله في هذا الرجل كان حقاً. فآمن به كثيرون" (يو10/41-42).

         الكنيسة هي جماعة المؤمنين بالمسيح الذين يؤلفون بالروح القدس جسد المسيح السّري ، وهي ايضاً، على صورة سيدها، مؤلفة من عنصرين بشري والهي مرتبطين احدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً.العنصر البشري فيها هو الجانب المنظور أي وضع الانسان الجسدي والاجتماعي، والطائفة المنظمة اجتماعياً ودينياً وقانونياً؛ والعنصر الالهي غير المنظورهو الاتحاد بالنعمة مع الله وفيه،ومع جميع الناس، والكنيسة الغنية بنعم السماء[2] .  

         منذ الفي سنة الى اليوم والكنيسة موضوع رفض واضطهاد، وستظل كذلك كل مرة ينظرون اليها من واقعها البشري فقط وينفون واقعها الالهي، لدى سماع تعليمها وتنديدها بالشر، ولدى رؤية اعمالها وشهادة حياتها ورسالتها.

         في احد تجديد البيعة نصلي :

         " طوبى لكِ ايتها البيعة ، لان صوت الابن فيكِ يدوّي ، وهو يكون لكِ حارساً، فلا تتزعزع اساساتك. تبارك الذي ذُبح لاجلكِ ، فوهبكِ جسده مأكلاً  ودمه مشرباً روحياً ، غفراناً وحياةً لكِ ولأولادك."

 

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن والكنيسة[3]

 

         1. الكاهن في الكنيسة هو خادم الحقيقة والمحبة، بفضل مسحة الروح القدس الذي اُعطي لكنيسة المسيح، روح الحقيقة والمحبة. بهما تُبنى الكنيسة، جسد المسيح. الكاهن مؤتمن،  قبل اي شيء، على اعلان انجيل الخلاص الذي يحتوي كل حقيقة الله والانسان والتاريخ. انه معلم حقيقة الكلمة الالهية، باسم المسيح وباسم الكنيسة. هذه الكلمة هي الحقيقة التي " تنير كل انسان آتٍ الى العالم" ( يو1: 9)، وهي " قدرة الله لخلاص كل من يؤمن" ( روم 1: 16).

         والكاهن مؤتمن في الوقت عينه على توزيع اسرار الله التي تحتوي نعمة محبته الشافية والمحيية لنفس كل مؤمن. بفضل هذه الخدمة، جعله المسيح صديقاً اي شريكاً في محبته الكهنوتية: " دعوتكم اصدقائي" ( يو15: 15). فالكاهن يكرر ذات الالفاظ التي نطق بها يسوع على الخبز والخمر، ليكون ذبيحة فداء ووليمة حياة. وبهذه الخدمة، الكاهن يكرس ذاته " ذبيحة ووليمة" حبّاً  للكنيسة وابنائها. ايمكن ان يكون هناك تعبير عن الصداقة أكمل من هذا التعبير، وهذه صداقة الهية تجعل الكاهن خادم الحقيقة والمحبة[4].

 

         2. الامانة الكهنوتية هي في الاساس امانة للحقيقة والمحبة. ان الامانة للحقيقة تقتضي من الكاهن ان يقوم بالزاماته المقدسة بضمير مستقيم وقلب نقي، حتى النهاية، على مثال المسيح الذي " احبّ حتى النهاية" (يو13: 1). على الكاهن ان يحمي عقله من التيارات الفكرية التي تشوّه الحقيقة التي يعلمها الانجيل والتقليد والسلطة التعليمية في الكنيسة، او تشوّّه اهمية كهنوت الخدمة وكرامته؛ وان يحمي نفسه من " الدهرنة" والرغبة في التشبّه بذهنية العالم، ومن تجربة الهرب بادّعاء " الحق بالحرية"، ومن الاراء والاميال التي تنال من طبيعة دعوته المقدسة وخدمته التي دعاه اليها المسيح في الكنيسة. بل عليه ان يتّصف بالجهوزية للشهادة للانجيل " بالفعل والحق" ( 1 يو3: 18).

         والامانة للمحبة تقتضي من الكاهن ان يؤدي خدمته بمحبة المسيح الفادية، هو الذي " أحب كنيسته، فبذل نفسه عنها لكي يقدّسها بغسل الماء والكلمة، ويزفها الى نفسه كنيسة مجيدة، لا عيب فيها" ( افسس5/25-27). هذه المحبة التي تفتدي وتخلّص هي التي تخصب كل عمل الكاهن وكل ما يعطيه الروح من خِدم ومواهب، هذه التي يزيّن بها الروح الكنيسة، والتي من خلالها يقودها ويوجهها[5]. هذه المحبة اياها تعطي النشاطات الكهنوتية والكنسية حيويتها، وبفضلها يصبح الكاهن رجل المحبة، على مثال المسيح-الكاهن الذي امره حبه الاسمى، في السّر- الفصحي، ليكون مطيعاً حتى الموت، موتاً على الصليب" (فيليبي2: 8). هذه الطاعة تزيّنه بالتواضع، على مثال المسيح، وتجعله يقول" " انا عبد بطال، وغير مستاهل" ( لو17: 10).

 

                             3. الكاهن خادم الحقيقة والمحبة هو رجل الرجاء الكبير. والرجاء لا يخيّب، لان محبة    الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا (روم 5: 7)، ولأن الحقيقة الكاملة يهدينا اليها الروح القدس عينه (يو14: 26). دعوة الكاهن ورسالته ان يتنزع من العقول والقلوب كل شك ويأس وادّعاء. ارسل روحك ايها المسيح، وجدّد الكهنة في دعوتهم ورسالتهم. جددهم في الحقيقة والمحبة، ليكونوا علامة الرجاء الناطقة والفاعلة.

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تتناول الخطة الراعوية من النص المجمعي الثامن عشر: الكنيسة المارونية والثقافة، تحديين آخرين من تحديات الحداثة (الفصل الثالث).

        

         1. التحرر من الروح الطائفية ( الفقرتان 43-44)

         الروح الطائفية هي مجموعة سلبيات تحرّف الحياة الكنسية، واهّمها الانغلاق على الذات، واعتلال الصلة بالآخر المنتمي الى طائفة او ديانة اخرى. انها تحريف خطير لمفهوم الدين ونقض صريح لمفهوم الكنيسة. كما انها تهتم بمظاهر الشعائر الدينية اكثر من اهتمامها بروحها.

         على الكنيسة ان تعزز ثقافة حديثة تساعد على التحرر من شوائب الطائفية ورواسبها في القول والفعل، وان تعمل على تحرير ابنائها من كل اشكال التعصّب الديني ونبذ الانطواء على الذات، والانفتاح على حركة نقدية ذاتية متواصلة. كما ينبغي تحديث الهيكليات والادارة داخل الكنيسة، وتأمين المشاركة في المسؤوليات بروح علمية واستناداً الى الكفايات والمواهب المتنوعة.

1.    تعزيز الحرية ومجابهة اخطارها

        الشرط الاساسي للثقافة الحديثة بقاء حرية الفرد في اختيار نمط عيشه، وفي التفكير والتعبير والنشر. انها بالنسبة الى الموارنة الاساس لكرامة الشخص البشري، وشرط لوجوده الثقافي الحقيقي؛ وتشكل جزءاً لا يتجزأ من رسالتهم القافية والروحية. فالثقافية عندهم تموت بانتفاء الحرية.

تعمل الكنيسة مع ابنائها على مجابهة اخطار ثلاثة تحدق بالحرية، هي:

أ‌-          الضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحمل الموارنة على تحجيم حضورهم الثقافي.

ب‌-     الفكر الاستهلاكي الذي يقلّص الحرية الفردية، اذ  تصبح قدرة الفرد على الاختيار محصورة بنوع السلعة التي يشعر وكأنه ملزم بشرائها، وليس بمدى صوابية هذا الاختيار ومعناه. يعود هذا الفكر الاستهلاكي الى تنامي قدرة الفرد الاقتصادية والشرائية، مع تزايد تنوّع السلع التجارية والثقافية.

ج- الضغط الذي تمارسه البنية الكنسية او الجماعة او العائلة على الفرد، فيشدد على التقاليد والعادات الموروثة، ويقيم حاجزاً امام الفرد في تحقيق نموه الشخصي داخل جماعته، فيذوّب فرادته ويعطّل الاستفادة من مواهبه الخاصة.

        

*** 

         صلاة

         ايها الرب يسوع، قلت انك أتيت لتجعل كل شيء جديداً، جدّد كنيستك بنعمة روحك القدوس، وزيّنها بالقديسين المرسلين الى عالمنا ليتجدد فيك. اعطِ الوعي لرعاة الكنيسة وابنائها وبناتها ليدركوا ان الليتورجيا المقدسة هي لقاء بالثالوث القدوس، يرفع المؤمنين والمؤمنات الى عمق الشركة في الحياة الالهية، فلا تزعزعهم محن الحياة والاضطهادات والمصاعب ومغريات الدنيا. ساعد الكهنة، بانوار الروح القدس، ليخدموا بشجاعة وامانة الحقيقة والمحبة. حررنا، بثقافة الانجيل، من شوائب التعصّب الديني والانطواء على الذات، وجمّلنا بحرية ابناء الله لنواجه الاخطار المحدقة بها. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآف، والى الابد، آمين.


[1] . رجاء جديد للبنان، 42.

[2] . المرجع نفسه، 19.

[3] . من رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى الكهنة بمناسبة خميس الاسرار، سنة 1982.

[4] . انظر مجمع الاكليروس: الكاهن معلم الكلمة وخادم الاسرار ودليل الجماعة (1999)،ص 22 و40.

[5] . الدستور العاقئدي في الكنيسة، 4.

 


 

بشارة زكريا

رومية 4/ 13-25

لوقا 1/5-25

الرجاء الذي لا يخيّب   

 

بهذا الاحد يبدأ زمن الميلاد، ويُسمّى زمن البشارة وزمن المجيء. فالبشارة لزكريا بمولد يوحنا هي بمثابة الفجر الذي يسبق ويعلن طلوع الشمس. ولهذا يقال عن يوحنا المعمدان انه "السابق"، وهو في الوقت عينه آخر نبي من العهد القديم، واول نبي في العهد الجديد. انه بمثابة حلقة الوصل بين العهدين. في ليتورجيا البخور كان اللقاء بين زكريا والملاك، وهذا نموذج لايحاءات الله للانسان.

بسبب هذا الوصل تتكلم رسالة بولس الرسول الى اهل رومية عن انطلاقة عهد الخلاص مع ابراهيم الذي وعده الله بأن يكون اباً وبركة لجميع الشعوب. وهذا الوعد تحقق بميلاد الرب يسوع الذي نشأت منه الكنيسة ام جميع الشعوب. ولقد تميّز كلٌ من زكريا وابراهيم بالايمان والرجاء.

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

من انجيل القديس لوقا 1/5-25

         كَانَ في أَيَّامِ هِيرُودُس، مَلِكِ اليَهُودِيَّة، كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا، مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، لهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ اسْمُها إِليصَابَات. وكَانَا كِلاهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ الله، سَالِكَيْنِ في جَمِيعِ وصَايَا الرَّبِّ وأَحْكَامِه بِلا لَوْم. ومَا كَانَ لَهُمَا وَلَد، لأَنَّ إِليصَابَاتَ كَانَتْ عَاقِرًا، وكَانَا كِلاهُمَا قَدْ طَعَنَا في أَيَّامِهِمَا. وفِيمَا كَانَ زَكَرِيَّا يَقُومُ بِالـخِدْمَةِ الكَهَنُوتِيَّةِ أَمَامَ الله، في أَثْنَاءِ نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ، أَصَابَتْهُ القُرْعَة، بِحَسَبِ عَادَةِ الكَهَنُوت، لِيَدْخُلَ مَقْدِسَ هَيْكَلِ الرَّبِّ ويُحْرِقَ البَخُور. وكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلِّي في الـخَارِج، في أَثْنَاءِ إِحْرَاقِ البَخُور. وَتَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ  لِزَكَرِيَّا وَاقِفًا مِنْ عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ البَخُور، فَاضْطَرَبَ زَكَرِيَّا حِينَ رَآه، واسْتَولَى عَلَيْهِ الـخَوف. فقَالَ لهُ الـمَلاك: "لا تَخَفْ، يَا زَكَرِيَّا، فَقَدِ اسْتُجيبَتْ طِلْبَتُكَ، وَامْرَأَتُكَ إِلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا، فَسَمِّهِ يُوحَنَّا.  ويَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاج، ويَفْرَحُ بِمَوْلِدِهِ كَثِيرُون، لأَنَّهُ سَيَكُونُ عَظِيمًا في نَظَرِ الرَّبّ، لا يَشْرَبُ خَمْرًا ولا مُسْكِرًا، وَيَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَهُوَ بَعْدُ في حَشَا أُمِّهِ. ويَرُدُّ كَثِيرينَ مِنْ بَني  إِسْرَائِيلَ إِلى الرَّبِّ إِلـهِهِم. ويَسيرُ أَمَامَ الرَّبِّ بِرُوحِ  إِيلِيَّا وقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلى الأَبْنَاء، والعُصَاةَ إِلى حِكْمَةِ الأَبْرَار، فيُهيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُعَدًّا خَيْرَ إِعْدَاد". فقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاك: "بِمَاذَا أَعْرِفُ هـذَا؟ فإِنِّي أَنَا شَيْخٌ ، وامْرَأَتي قَدْ طَعَنَتْ في  أَيَّامِهَا!". فأَجَابَ الـمَلاكُ وقالَ لهُ: "أَنَا هُوَ جِبْرَائِيلُ الوَاقِفُ في حَضْرَةِ الله، وقَدْ أُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وأُبَشِّرَكَ بِهـذَا. وهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا، لا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّم، حَتَّى اليَوْمِ الَّذي يَحْدُثُ فِيهِ ذـلِكَ، لأَنَّكَ لَمْ تُؤْمِنْ بِكَلامِي الَّذي سَيَتِمُّ في أَوَانِهِ". وكَانَ الشَّعْبُ يَنْتَظرُ زَكَرِيَّا، ويَتَعَجَّبُ مِنْ إِبْطَائِهِ في مَقْدِسِ الـهَيْكَل. ولَمَّا خَرَجَ زَكَريَّا، لَمْ يَكُنْ قَادِرًا أَنْ يُكَلِّمَهُم، فأَدْرَكُوا أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا في الـمَقْدِس، وكَانَ  يُشيرُ إِلَيْهِم بِالإِشَارَة، وبَقِيَ أَبْكَم. ولَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ، مَضَى إِلى بَيْتِهِ. وبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّام، حَمَلَتِ امْرَأَتُهُ إِلِيصَابَات، وكَتمَتْ أَمْرَهَا خَمْسَةَ أَشْهُر، وهِيَ تَقُول: "هـكَذا صَنعَ الرَّبُّ إِليَّ، في الأَيَّامِ الَّتي نَظَرَ إِليَّ فِيهَا، لِيُزيلَ العَارَ عَنِّي مِنْ بَيْنِ النَّاس!".

 

1.     انجيل الرجاء

          يمكننا اعطاء هذه اللوحة الانجيلية عنوان " انجيل الرجاء"، هذه الفضيلة التي يسكبها الروح القدس في قلب الانسان. الرجاء موقف يتميز بالالتزام اليومي الساعي الى تحويل واقع الحياة فيجعله مطابقاً لتصميم الله وارادته. انه موقف الذين لا تغيب عن بصرهم الغاية الاخيرة من الوجود التي تعطي حياتهم معنى وقيمة. تقود هذا الموقف فضائل ثلاث هي من مواهب الروح القدس السبع: التقوى ومخافة الله والقوة.

          انه موقف زكريا واليصابات اللذين " كانا بارين امام الله، وسائرين بجميع وصاياه، وببرّ الرب بدون لوم" (لو1/6). بفضل الرجاء المسكوب في قلبيهما، تميّزا بالبرارة امام الله ( تقوى الله) وبالسير بوصياه بدون لوم ( مخافة الله)، وبالثبات حتى النهاية ( القوة).

          فضيلة تقوى الله هي توجيه القلب والحياة بكاملها لعبادة الله، عبادة تقرّ بأن الله هو نبع كل عطية صالحة وغايتها. التقوى هي محبة الله والرغبة في تمجيده بكل عمل وخيار.

          مخافة الله هي العيش بشكل دائم تحت نظر الله، والانصراف الى مرضاته لا الى مرضاة الناس. انه خوف بنوي واحترامي وعاطفي يخشى ان يسىء الى قلب الآب. الله الذي ينظر اليك هو ديانك، انما ينظر اليك نظرة اب يعرفك ويحبك ويريد لك الخير الحقيفي. عندما تعمل انت ما يرضيه تجد الخير الاكبر.

          القوة تثبّت الرجاء في خياراته ومواقفه. نكون اقوياء عندما نكون امناء وثابتين في الايمان، غير متقلبين مع رياح الآراء والظروف، ومع حسابات الوصول والنجاح. القوة هي موقف الثابتين في الطاعة المحبة لله، والصابرين على المحن والضيقات، في طريقهم على خطى يسوع المسيح. وبذلك نختبر ما تعيش الكنيسة، حسب تعبير القديس اغسطينوس: " الكنيسة تتقدم وسط اضطهادات العالم وتعزيات الله".

 

2.     في الليتورجيا ايحاءات الله للانسان

" فيما كان زكريا يكهن في ترتيب خدمته، ودخل هيكل الرب لوضع البخور، وكان كل جماعة الشعب تصلي خارجاً في وقت البخور، تراءى لزكريا ملاك الرب وافقاً عن يمين المذبح" (لو1/8-11).

فالجماعة المصلية هي مكان حضور الله واللقاء به: " حيث يجتمع اثنان باسمي اكون الثالث بينهما" ( متى18/20). الليتورجيا هي الوسيلة لسماع نداءات الله، ولمعرفة سرّ الثالوث: محبة الآب، ونعمة الابن، وقوة الروح القدس؛ وهي القوة التي مكّنت الكنيسة من الصمود في الرجاء عبر اجيال من المحن؛ وهي المعين الذي يروي الايمان وينعشه، دون ان ينضب [1].

في هذا الاطار كانت البشارة لزكريا، تلقاها هو واليصابات وجماعة الرجاء والصلاة، وبفضلها نظروا الى المستقبل بثقة، وبتجرد من خيرات الارض. في الصلاة يتجلى الرجاء ويعاش كانتظار لخير مستقبلي صعب لكنه ممكن المنال، اعني الخير الاسمى الذي هو الحياة الابدية. هذا الرجاء ليس ثمرة رغبة بشرية، بل عطية من الله نقبل بها الوعود التي قطعها معنا، وقد توالت واكتملت بالمخلص يسوع المسيح منذ الفي سنة، وتتحقق فينا جيلاً بعد جيل بالروح القدس الحي والفاعل في نفس كل انسان. الرجاء لا يخيّب بل يفتح المؤمن على مستقبل الله، وعلى جديده، وعلى مفاجأته. هذا ما حصل لزكريا ويحصل لكل مؤمن ولكل جماعة مصلية.

ان الواقع الراهن في لبنان يستدعي منا قوة الرجاء، فنقرّ وندرك الخطأ الشخصي والجماعي والوطني، مع الاسباب والنتائج، ونتخذ موقف التجدد في الذهنيات والقلوب، كما يهدينا الروح القدس، ونعيد أحياء لبنان بمسؤولية مشتركة. وكما تحقق الوعد لزكريا (لو1/24-25) يتحقق الوعد لنا " ان لبنان سيزهر كلياً من جديد، ويلبي دعوته بأن يكون نوراً لشعوب المنطقة، وعلامة سلام اتٍ من الله[2].

 

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن والليتورجيا

 

كون الكاهن خادم الليتورجيا الالهية والاسرار، نخصص القسم الثاني من التنشئة المسيحية، للخدمة الليتورجية التي يقوم بها الكاهن بحكم مهمة التقديس الموكولة اليه.

طبيعة الليتورجيا وأهميتها في حياة الكنيسة

1. لفظة " ليتورجيا" تعني في الاساس " عمل الله" الذي "يقوم به الشعب، ويُقام لصالح الشعب". هذا العمل الالهي هو فداء البشر الذي قام به المسيح، الفادي والكاهن الاعظم، ويواصله بالليتورجيا، في الكنيسة ومعها وبواسطتها.

وراحت الليتورجيا تعني في العهد الجديد ثلاثة مترابطة ومتكاملة هي: اعلان الانجيل والعبادة الالهية وخدمة المحبة. هكذا عاشت الكنيسة الناشئة، كما وصفها لوقا في كتاب اعمال الرسل: " كان المؤمنون مواظبين على تعليم الرسل، والصلاة وكسر الخبز، والمشاركة في ما يملكون" ( اعمال 2: 42).

ان الكنيسة في خدمتها هذه، على يد كهنتها، وكما ظهرت جلياً في كتاب اعمال الرسل تشارك في ليتورجيا المسيح اي في كهنوت العبادة الالهية ( اعمال 13: 2)، وفي نبؤة باعلان الانجيل ( روم 15: 16)، وفي ملوكية خدمة المحبة ( 2 كور 9: 12). الليتورجيا هي ممارسة وظيفة المسيح الكهنوتية، بحيث تحتفل الكنيسة بالسّر الفصحي الذي بواسطته أتمّ المسيح عمل خلاصنا. ومن خلال علامات حسيّة ورموز وما لها من معانٍ لاهوتية، يتحقق خلاص الانسان، ويعبّر المؤمنون في حياتهم عن سرّ المسيح، ويُظهرون للآخرين طبيعة الكنيسة في اصالتها الحقّة. ليتورجيا الكنيسة هي ليتورجيا خدمة المسيح الكهنوتية، يقوم بها جسد المسيح السرّي، اي الرأس والاعضاء، في عبادة عمومية شاملة[3].

2. الليتورجيا هي ينبوع الحياة المسيحية في الكنيسة. اذا شارك فيها المؤمنون بوعي وايمان وتوبة ينالون ثمارها الروحية: الحياة الجديدة التي يبثّها الروح القدس، والالتزام في رسالة الكنيسة، وخدمة وحدتها. والليتورجيا، عندما تؤتي ثمارها، تجعل الكنيسة، جماعة المؤمنين، علامة منظورة للشركة مع الله وبين الناس بواسطة المسيح[4].

3. والليتورجيا ينبوع الصلاة المسيحية، لانها تُشرك في صلاة المسيح الموجّهة الى الآب بالروح القدس. فيها تجد الصلاة المسيحية ينبوعها وغايتها. فبواسطة الليتورجيا يتأصل الانسان بداخله في المحبة العظمى التي أحبنا بها الله بالمسيح ابنه الحبيب ( افسس 2: 4). وهكذا تصبح الصلاة ولوجاً في محبة الله بالروح القدس ( افسس 6: 18)، ينعكس بالاعمال الصالحة والمسلك المستقيم[5].

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

في معرض تقبل النص المجمعي 18: الكنيسة المارونية والثقافة، تتناول الخطة الراعوية تحديات العولمة (الفقرتان 49-52) من بعد ان تناولت تحدّيات الثقافة (الفصل الثالث).

1. العولمة ظاهرة تشمل امور الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا الحديثة والثقافة والاجتماع والسلوك، وتجعل الانسان منتمياً الى الكون كله، وتربط اكثر فاكثر بين المجتمعات البشرية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس الاموال وتقنيات الانتاج والاشخاص والمعلومات والثقافات، وتطرح اخيراً رؤية جديدة للثقافة والهوية.

2. للعولمة وجه ايجابي ووجه سلبي:

الوجه الايجابي هو تقاسم وتداول المعلومات والمعرفة والتقدم وفهم الآخر وتقاسم القيم والثروات.

الوجه السلبي هو التماثل والتجانس، وسيطرة قانون السوق بشكل يتجاهل الثقافة الانسانية القائمة جوهرياً على التلاقي حول المبادىء الاخلاقية.

3. ان مواجهة العولمة في وجهها السلبي، تكون بالاستفادة من كل ما تقدّمه العولمة من انفتاح وغنى، للتنمية الذاتية ونشر البشارة المسيحية والقيم، لا بالتقوقع والانعزال الثقافي.

فيجب التمسّك بالخصوصية الثقافية ومقاومة كل اندماج يلغي الذات، ورفض كل تبعية تلغي الارادة المستقلة والقدرة على النقد والمقارنة، بغية المحافظة على الهوية.ويجب، من اجل هذه الغاية، اعتماد الحوار وتبادل الخبرات الثقافية، كعامل اساسي لحفظ الهوية والوحدة الجماعية.

من الاهمية بامكان خلق هيئة تعنى بتنظيم التعاون والتبادل على مستوى الطاقات البشرية، مع اعطاء الاولوية للشباب، على ان يتمّ ذلك بين الشرق والغرب. 

***
 

صلاة 

ايها الرب يسوع، رجاء الشعوب وملء انتظاراتهم، اليك نتوق في بداية زمن المجيء، هاتفين مع الكنيسة: " تعال، ايها الرب يسوع!" نلتمس منك ان تسكب في قلوبنا مواهب روحك القدوس: التقوى ومخافة الله والقوة، لكي نسلك امام الله والناس بغير لوم، ونثبت في الايمان، ونصمد في خياراتنا الصالحة، مثل زكريا  واليصابات. اعطنا ان نترقّب ايحاءاتك الالهية في صلولتنا واحتفالاتنا الليتورجية، وان نستلهم منها حياة مسيحية صالحة. ثبتّنا في ثقافتنا الانجيلية، لنلج ظاهرة العولمة، طابعينها بالقيم الروحية والانسانية والخلقية. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الى الابد، آمين.


[1] . رجاء جديد للبنان، 42.

[2] . المرجع نفسه، 125.

[3] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1067-1070.

[4] . المرجع نفسه، 1071-1072.

[5] . المرجع نفسه، 1073.

 


 

بشارة العذراء مريم

غلاطية 3: 15-22

لوقا 1: 26-38

المحبة والمبادلة بين الله والانسان

 

         بالبشارة لمريم تنكشف محبة الله الخلاصية ويتحقق وعده بخلاص الجنس البشري، الذي قطعه لابراهيم. وينكشف عمل الله الثالوث في خلاص البشر بدءاً من تجسّد الكلمة، ابن الله. فالآب يدّبر الخلاص ويرسل الملاك جبرائيل ليعلن لمريم هذا التدبير بالمسيح الذي يتجسّد منها. مريم تجيب بنعم لمشيئة الآب، فيحلّ عليها الروح القدس، وبالقدرة الالهية، التي تفوق سنّة الطبيعة، يتكوّن ابن الله، يسوع المسيح، جنيناً في حشاها. في ضوء هذا العمل الثالوثي، تُسمى مريم "ابنة الآب، وعروسة الروح، وام الابن". انها المبادلة العجيبة بين الله والانسان.

         رسالة بولس الرسول الى اهل غلاطية تؤكد ان الوعد الخلاصي كان لابراهيم، اما تحقيقه فتمّ بالمسيح مرة واحدة، ويتحقق في كل انسان يؤمن بالمسيح، الوسيط الوحيد بين الله،  والناس، بحلول الروح القدس وفعله.

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

 

من انجيل القديس لوقا 1/26-38

         وفي الشَّهْرِ السَّادِس، أُرْسِلَ الـمَلاكُ جِبْرَائِيلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلى مَدِينَةٍ في الـجَلِيلِ اسْمُهَا النَّاصِرَة، إِلى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاودَ اسْمُهُ يُوسُف، واسْمُ العَذْرَاءِ مَرْيَم. ولَمَّا دَخَلَ الـمَلاكُ إِلَيْهَا قَال: "أَلسَّلامُ عَلَيْكِ، يَا مَمْلُوءَةً نِعْمَة، أَلرَّبُّ مَعَكِ!". َاضْطَربَتْ مَرْيَمُ لِكَلامِهِ، وأَخَذَتْ تُفَكِّرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هـذَا السَّلام! فقَالَ لَهَا الـمَلاك: "لا تَخَافِي، يَا مَرْيَم، لأَنَّكِ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ الله. وهَا أَنْتِ تَحْمِلينَ، وتَلِدِينَ ابْنًا، وتُسَمِّينَهُ يَسُوع. وهُوَ يَكُونُ عَظِيمًا، وابْنَ العَليِّ يُدْعَى، ويُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلـهُ عَرْشَ دَاوُدَ أَبِيه، فَيَمْلِكُ عَلى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلى الأَبَد، ولا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَة!". فَقالَتْ مَرْيَمُ لِلمَلاك: "كَيْفَ يَكُونُ هـذَا، وأَنَا لا أَعْرِفُ رَجُلاً؟". فأَجَابَ الـمَلاكُ وقالَ لَهَا: "أَلرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وقُدْرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، ولِذـلِكَ فالقُدُّوسُ الـمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله! وهَا إِنَّ إِلِيصَابَاتَ نَسِيبَتَكِ، قَدْ حَمَلَتْ هيَ أَيْضًا بابْنٍ في شَيْخُوخَتِها. وهـذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الَّتي تُدْعَى عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللهِ أَمْرٌ مُسْتَحِيل!". فقَالَتْ مَرْيَم: "هَا أَنا أَمَةُ الرَّبّ، فَلْيَكُنْ لِي بِحَسَبِ قَوْلِكَ!". وانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِها الـمَلاك.

 

1.    انجيل المحبة

          هي محبة  الله تواصل تجلياتها. تجلّت في البشارة لزكريا، واليوم، بعد ستة أشهر، تتجلّى في البشارة لمريم العذراء في الناصرة. وفي كلا الحالتين، محبة الله هي لجميع الشعوب عبر زكريا ومريم.

          فابن زكريا، الذي سيدعى يوحنا، يكون عظيماً امام الرب، ويفرح الكثيرون بمولده، ويردّ الذين لا يطيعون الى معرفة الحق، ويعدّ  للرب شعباً كاملاً (لو1/13-17).

          وابن مريم، الذي سيدعى يسوع، يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويملك الى الابد ولا يكون لملكه انقضاء (لو1/31-33).

          ان محبة الله، صاحب المبادرة الاولى دائماً، عملت في الخفاء على اعداد مريم لما سيكون في سر تدبيره الخلاصي. وقد ادركنا ذلك بعد اجيال، وهو ان الله عصم مريم، لحظة بداية تكوينها في حشى امها القديسة حنه زوجة يواكيم، من الخطيئة الاصلية، خطيئة آدم وحواء ابوينا الاولين. هذا ما رمز اليه سلام الملاك: " السلام عليك،الذي معناه افرحي، يا مريم يا ممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة انت في النساء (لو1/28). وهذا ما اعلنته الكنيسة عقيدة ايمانية بلسان البابا الطوباوي بيوس التاسع  في 8 كانون الاول 1854، وهي عقيدة الحبل بلا دنس. ثم ثبتت امنا مريم العذراء الكلية القداسة هذه العقيدة بعد اربع سنوات في ظهوراتها لبرناديت في مغارة لورد في 25 اذار 1858وقالت " انا التي حبل بها بلا دنس".

 

          انه انجيل محبة مريم لله التي تفتح قلبها للكلمة المتجسد، وتكرّس ذاتها بكليتها لشخص ابنها وعمله: " انا أمة الرب، فليكن لي كقولك" (لو1/8). بهذه المحبة تلقت مريم كلمة الله في قلبها وفي احشائها معاً؛ وأسهمت بحرية ايمانها وطاعتها في خلاص البشر، محافظة على الاتحاد مع ابنها حتى الصليب، حيث وقفت منتصبة لا لغير التدبير الالهي، متألمة مع ابنها الوحيد آلاماً مبرّحة، مشتركة في ذبيحة الفداء بقلب والدي. وبهذا الحب الامومي تسهر مريم الكلية القداسة على اخوة ابنها المسافرين وسط المشقات والمحن الى ان يبلغوا الوطن السعيد[1].

          المحبة فضيلة الهية تجعل محبة الله لنا حاضرة فينا، وقد " سكبها في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا" (روم5/5). بفضل هذه المحبة يصبح قلبنا مضيافاً للغير، منفتحاً على نعمة الله وكلامه ونداءاته. ونصبح نحن، وقد تجددنا بمحبة الله، شهوداً لمحبته.

 

          2. المبادلة العجيبة بين الله والانسان

          على سؤال مريم: " كيف يكون هذا وانا لا اعرف رجلاً"، أجاب الملاك: " الروح القدس يأتي وقوة العلي تظللك، لذلك فالمولود منك قدوس، وابن الله يدعى" ( لو1/34-35). منذ الفي سنة كان ملء الزمن (غلاطية4/4) الذي به دخل تاريخ الانسان في " زمن الله". هذا الزمن " هو فوق كل زمن، هو الآن الابدي، زمن  الذي هو كائن، الذي كان، والذي سيأتي، ومن ذاك الذي هو  الالف والياء، الاول والآخر، البداية والنهاية"[2].

           تعلن الكنيسة في قانون الايمان: " وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصار انساناً". هذا يعني ان الروح القدس هو الشخص- الحب في سرّ الاله الواحد المثلث الاقانيم، العطية غير المخلوقة ومصدر كل العطايا المنحدرة من عند الله في نظام الخلق، وهو  من بعد يعطي الله ذاته في نظام النعمة. هذا اعظم ما صنعه الروح القدس في تاريخ الخلق والخلاص، اعني الحبل بيسوع المسيح وولادته: النعمة الكبرى، نعمة الاتحاد الاقنومي، اي اتحاد الطبيعة الالهية بالطبيعة البشرية في شخص واحد، شخص الكلمة- الابن. هذه هي "المبادلة العجيبة": الاله الابن يصبح انساناً، والطبيعة البشربة تدخل في اتحاد مع الله، ويدخل معها كل ما هو جسد، اي الجنس البشري كله، والعالم المادي المنظور كله. نصلي في القداس: " وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، اخذت ما لنا واعطيتنا ما لك".

          الروح القدس يوزع المواهب المتنوعة من اجل وحدة جسد المسيح السري، الذي هو الكنيسة. ان واقع الكنيسة في لبنان يتميز " بالتنوع في الوحدة" فيجدر بنا ان نحافظ على هذه الميزة، وننشطها وننقيها من كل شائبة ونجعلها منطلقاً لذهنيتنا الجديدة.

 

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن والليتورجيا

 

         بما ان الكاهن يتمم خدمته الكهنوتية باسم المسيح وبشخصه، هذا يعني ان المسيح حاضر فعلياً في الليتورجيا، انما بشكل غير منظور. فبات على الكاهن ان يستحضره في كل عمل ليتورجي، ويعكس وجهه في ما يحتفل به بالورع والتقوى والخشوع.

         حضور المسيح الرب في الليتورجيا

         ان حضور المسيح الرب في الاحتفالات الليتورجية هو الذي يمكّن الكنيسة من القيام بعملها الخلاصي الكبير. فانها تحتفل بالسّر الفصحي بقراءة عظائم الله واقامة الافخارستيا، الذبيحة والوليمة، التي انتصر بها المسيح على الخطيئة والموت، ورفع الشكر لله على " عطيته بالمسيح يسوع التي لا وصف لها" (2كور9: 15)، و" الاشادة بمجده بقدرة الروح القدس (افسس1: 12). وهذه اشكال حضوره[3]:

         1. حاضر في ذبيحة القداس بشخص الكاهن، بحيث ان يسوع المسيح الذي قدّم ذاته مرة على الصليب، يقدّمها الآن وهنا اسرارياً بواسطة الخدمة الكهنوتية؛ كما هو حاضر بنوع أخص تحت الاشكال القربانية اي الخبز والخمر المحوّلين في جوهرهما الى جسده ودمه.

         2. حاضر في الاسرار، بحيث انه هو نفسه الذي يعمّد عندما احدٌ يعمّد. وهو نفسه يغفر الخطايا عندما الكاهن يحلّ منها. وهو نفسه يقيم الذبيحة ويعطي وليمة جسده ودمه، عندما يقيمها الكاهن ويوزعها، فالمسيح هو اياه الكاهن والذبيحة، المولم والوليمة.

         3. حاضر في كلمته، لانه هو نفسه يتكلم عندما تُقرأ الكتب المقدسة في الكنيسة، وعندما يكرز الكاهن بالكلمة، وعندما تعلمها السلطة الكنسية. فهو القائل لكهنة العهد الجديد: " من يسمع منكم يسمع مني، ومن يقبلكم يقبلني، ومن يرفضكم يرفضني" ( لو 10: 16؛ متى 10: 40).

         4. حاضر عندما الكنيسة تصلي وتنشد، كما وعد: " حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي، فهناك اكون في وسطهم" ( متى 18: 20).

         ان حضور الرب يسوع مرتبط بخدمة الكاهن، خادم الاسرار ورأس الجماعة الملتئمة حول ذبيحة القداس، والمشاركة في الاسرار، والمصغية لكلمة الحياة والمصلية بأناشيد المجد والتسبيح، الاستغفار والتشفع، الطلب والشكر.

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         ما زالت الخطة الراعوية تتقبل النص المجمعي 18: الكنيسة المارونية والثقافة، وتواصل الاطلاع على التحديات الثقافية التي تواجهها في العالم المعاصر (الفصل الثالث)، فتتناول اليوم " تحديات الانتشار والتنوّع الثقافي" (الفقرات 53-57).

         التحدّي الاساسي على هذا المستوى هو كيف يحافظ الموارنة على وجدانهم الروحي الانطاكي وبعده اللبناني، الذي يشكّل خصوصيتهم الثقافية، مع تبنّيهم المحق للثقافات الجديدة النابعة من اماكن انتشارهم؟

         يقدّم النص المجمعي الجواب على مستوى المبدأ والوسائل.

         1. الاعلان العالمي للتنوع الثقافي، الصادر عن الاونيسكو، يعتبر ان التنوّع الثقافي تراث مشترك للانسانية، ومصدر للتبادل والتجديد والابداع داخل الاوطان، ولا يشكل حاجزاً للوحدة الثقافية الخاصة بكل شعب. على الموارنة ان يتمسّكوا بخصوصيتهم الثقلافية وتعزيزها من ضمن التعددية الثقافية، اينما وجدوا.

 

         2. ثمة وسائل لهذه الغاية اعتمدها موارنة الانتشار:

         أ- الادب المهجري الذي نقل عادات وتقاليد وحكايات من الشرق الى المجتمعات الغربية.

         ب- الصحافة المهجرية التي واصلت بين المنتشرين والمقيمين في الوطن الام، ونقلت اخبار وتراث الشرق الى الغرب.

         ج- ترجمة الكتب الليتورجية والتراث السرياني الماروني الى لغات بلدان الانتشار.

 

         3. ولا بد من استنباط وسائل جديدة:

         أ- انشاء اكاديمية مارونية عالمية، ذات فروع في بلدان الانتشار الاوسع كثافة مارونية لاغناء الكنيسة ابناءها في الانتشار بالتقاليد الثقافية السريانية الانطاكية اللبنانية والاغتناء من ابنائها المنتشرين بخبراتهم الثقافية والانسانية الجديدة في بلدانهم.

         ب- تعليم اللغتين: السريانية، حفظاً للتراث الروحي والليتورجي، والعربية التي يتكلمها موارنة الشرق، الى جانب اتقان لغات الانتشار كوسيلة للتواصل ونقل المعارف. 

***
 

         صلاة 

         ايها الرب يسوع، كلمة الله التي صارت بشراً من مريم العذراء بالروح القدس، ازرع كلمتك في قلوبنا، لنجسّدها حقيقة ومحبة، ونعكس وجهك في مجتمعنا، وكما دخلت كلمتك في جسد بشري، اعطنا ان نُدخلها في ثقافات الشعوب، فنعيش ملء التبادل بين الله والانسان. اننا نؤمن بحضورك المتنوع في الكنيسة عبر الاحتفالات الليتورجية، ساعدنا بنعمة روحك القدوس، لنفتح العقول والقلوب والارادات لثمار حضورك الخلاصي. واجعلنا، على مثال مريم ويشفاعتها، بشرى رجاء وفرح لعائلتنا ومجتمعنا والوطن. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد. آمين.


[1] . الدستور العقائدي في الكنيسة " نور الشعوب" الفصل 8.

[2] . الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني: الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم، 49.

[3] . دستور اللينورجيا المقدسة، 7.

 


 

زيارة العذراء مريم لاليصابات

افسس 1: 1-14

لوقا 1: 39-45

حضارة المحبة ومواهب الروح القدس

 

         في زيارة مريم لبيت اليصابات التقى العهدان القديم والجديد، من خلال لقاء الجنينين يوحنا ويسوع، والامّّين اليصابات ومريم. هذا يعني ان يسوع المسيح يكمّل العهد الذي سبقه ولا يلغيه. فالعهد القديم كله رمز الى المسيح، كلمة الله المتجسّد، وهيّأ له، وهو بمثابة الاساس للبيت، ورموزه لا تُفهم من دون سرّ الكلمة. والعهد الجديد يجلي الرموز ويحقق النبوءات، ولذلك لا يُفهم إلاّ من خلالها. ولما كانت نتيجة الزيارة حلول الروح القدس على الجنين يوحنا وامّه، وفيض الفرح في بيت عين كارم، فاذا بالزيارة استباق لحضور مريم والمسيح في الكنيسة، الذي من خلاله يفتقد الله شعبه وينير دربه ويعزّيه بالفرح الروحي.

         رسالة بولس الرسول الى اهل افسس هي نشيد لله الثالوث الذي يتمم فينا الخلاص المحقق بالمسيح، بارادة الآب وفعل الروح القدس.

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

من انجيل القديس لوقا 1/ 39-45

         وفي تِلْكَ الأَيَّام، قَامَتْ مَرْيَمُ وَذَهَبَتْ مُسْرِعَةً إِلى الـجَبَل، إِلى مَدِينَةٍ في يَهُوذَا. ودَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا، وسَلَّمَتْ عَلَى إِليصَابَات. ولَمَّا سَمِعَتْ إِلِيصَابَاتُ سَلامَ مَرْيَم، ارْتَكَضَ الـجَنِينُ في بَطْنِها، وَامْتَلأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُس. فَهَتَفَتْ بِأَعْلَى صَوتِها وقَالَتْ: "مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّسَاء، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! مِنْ أَيْنَ لي هـذَا، أَنْ تَأْتِيَ إِليَّ أُمُّ ربِّي؟ فَهَا مُنْذُ وَقَعَ صَوْتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ، ارْتَكَضَ الـجَنِينُ ابْتِهَاجًا في بَطْنِي! فَطُوبَى لِلَّتي آمَنَتْ أَنَّهُ سَيَتِمُّ ما قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبّ!". فقالَتْ مَرْيَم: "تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرَّبّ، وتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظرَ إِلى تَواضُعِ أَمَتِهِ. فَهَا مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُنِي جَمِيعُ الأَجْيَال، لأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ بي عَظَائِم، واسْمُهُ قُدُّوس، ورَحْمَتُهُ إِلى أَجْيَالٍ وأَجْيَالٍ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ عِزًّا بِسَاعِدِهِ، وشَتَّتَ الـمُتَكبِّرينَ بأَفْكَارِ قُلُوبِهِم. َنْزَلَ الـمُقْتَدِرينَ عنِ العُرُوش، ورَفَعَ الـمُتَواضِعِين.ا َشْبَعَ الـجِيَاعَ خَيْرَاتٍ، وصَرَفَ الأَغْنِياءَ فَارِغِين. عَضَدَ إِسْرائِيلَ فَتَاهُ ذَاكِرًا رَحْمَتَهُ، لإِبْراهِيمَ ونَسْلِهِ إِلى الأَبَد،كمَا كلَّمَ آبَاءَنا". ومَكَثَتْ مَرْيَمُ عِندَ إِليصَابَاتَ نَحْوَ ثَلاثَةِ أَشْهُر، ثُمَّ عَادَتْ إِلى بَيتِهَا.

 

         1. انجيل حضارة المحبة

عندما اجابت مريم في البشارة: " ها انا امة الرب، فليكن لي كقولك"، حلّ عليها الروح القدس، وبدأ في حشاها تكوين ابن الله انساناً. هي محبة الله تتجسّد في حشاها، لتظهر بعد تسعة اشهر انساناً وتأخذ اسماً في التاريخ هو يسوع المسيح. وهكذا امتلأت مريم من محبة الله بحلول الروح القدس عليها، فقالت " نعم" لتدبير الله وقامت مسرعة ومضت الى بيت اليصابات ومكثّت تخدمها ثلاثة اشهر، وتتأمل معها في سرّ محبة الله اللامتناهية.

محبة الله المفاضة في قلبك بالروح القدس، بواسطة اسرار الميرون والتوبة والافخارستيا والكهنوت والزواج، تقتضي منك ان تكون مضيافاً وسخياً، ومستعداً لتوسع مكاناً للآخر في حياتك، مهما كان مختلفاً عنك، وتستقبله باحترام ومحبة وتقدم له مجاناً عطية الله المقدمة لك، وتصفح عنه بفرح وتزرع بكل قواك السلام في القلوب. هذه هي " حضارة المحبة"، هذا هو " الانجيل" الخبر المفرح.

 

2. الروح القدس ينبوع المواهب الروحية

حلّ الروح القدس على مريم وملأها من موهبة المشورة التي أملت عليها الذهاب الى خدمة اليصابات والمكوث عندها ثلاثة اشهر، حتى مولد يوحنا. فالمشورة تهدينا الى حسن الاختيار في مختلف ظروف الحياة، وتوجهنا لنعيش حياتنا، في كل وضع ومناسبة، وفقاً لتصميم الله. والمشورة هي اساس التشاور في حياة الجماعة العائلية والكنيسة والوطنية. وهي علامة لنضج شخصي وجماعي، وعلامة للحرية الداخلية. هكذا باتت مريم لنا " ام المشورة الصالحة".

لما دخلت مريم بيت اليصابات، وهي ممتلئة من الروح القدس، فاض هذا الروح على اليصابات، فأمتلأت بدورها منه، وتنبأت هاتفة: " مباركة انت في النساء ومباركة ثمرة بطنك، من اين لي ان تزورني ام ربي؟ فطوبى لتلك التي أمنت أنه سيتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو1/42-45). هو الروح القدس افاض فيها موهبة الفهم والعلم.

بموهبة الفهم، ادركت اليصابات الحقيقة الآتية من الله، وأعطيت قلباً جديداً وعيوناً جديدة لتقبل هذه الحقيقة وتؤمن بها. لقد ادخلتها موهبة الفهم في عمق سرّ الله.

وبموهبة العلم نالت المعرفة الروحية، معرفة الايمان عن سرّ مريم وسرّ الابن الذي تحمله في حشاها.

وهكذا في عين كارم بجبل يهوذا، في بيت زكريا، قامت اول " جماعة مسيحية" مبنية على الايمان والرجاء والمحبة، جماعة جمعها الروح القدس بالعطايا وغذاها بالمواهب. فالروح القدس نهر تنفجر منه ينابيع الحياة. عندما يقبله المؤمنون، "تجري منهم انهار ماء الحياة" (يوحنا 7/38-39). هذا ما حصل لمريم ولاليصابات حسب اللوحة الانجيلية. انه النهر الذي تجري منه الفضائل السبع، حسب نبؤة اشعيا: روح العلم والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة والتقوى، روح مخافة الله. واحد هو الينبوع، اما العطايا الالهية فمتعددة.

في اطار زيارة مريم لاليصابات ومواهب الروح القدس، حيث الحقيقة الالهية المتجلية في حدث البشارة لمريم تدفع الى مبادرات المحبة في الزيارة، ننظر الى الكنيسة المدعوة لتقيم حوار الحقيقة الذي يغذيه ويسنده حوار المحبة.

 

1.     طوبى لتلك التي آمنت (لو1/45)

ان مريم، بفضل حلول الروح القدس، خضعت لمبادرة الله الذي اعطي ذاته عطاء يفوق ادراك البشر وقدرتهم. فدخلت مريم تاريخ الخلاص بطاعة الايمان الذي هو في جوهره انفتاح الروح البشرية على العطية الالهية، تلك التي بها يجود الله بذاته في الروح القدس. ونحن نعلم مع بولس الرسول انه "حيث روح الله هناك الحرية " (2كور3/17)، وان ملء الحرية يتجلى في  "طاعة الايمان" (روم1/5). وبهذا مريم هي المثال والقدوة لكل انسان.

طوبى لمن يسمع ويؤمن، لان كل نفس مؤمنة " تحبل وتلد" قياساً كلمة الله. لم يكن للمسيح، ابن الله، غير أمّ واحدة بحسب الجسد، لكنه يريد ان يكون ثمرة الجميع بحسب الايمان. وهكذا، كل نفس نقية تسطيع ان تقبل كلمة الله، فتعظّم الرب، كما عظّمت نفس مريم، وتهللت روحها بالله مخلصها. هو الله يتعظم فينا بالمسيح صورة الله، كل مرة نتصرّف بتقوى وعدل، وبهذا التعظيم نرتفع على نحو ما الى حدّ المشاركة في عظمة الله، على ما يقول القديس امبروسيوس[1].

 

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن والليتورجيا

 

الكاهن، بوصفه معلم الكلمة، يقوم بمهمة الكرازة والتعليم، بنوع أخص، عندما يقيم الاحتفالات الليتورجية. ننظر اليوم في وجه آخر من وجوه الليتورجيا: الليتورجيا وتعليم الكلمة.

          1. يؤكد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في دستور الليتورجيا المقدسة، ان الليتورجيا هي  "الذروة التي يسعى اليها عمل الكنيسة، وفي الوقت عينه الينبوع الذي تستقي منه كل فاعليتها"[2]. وهي بالتالي المكان المميّز الذي يتم فيه تعليم شعب الله. ذلك ان هذا التعليم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل العمل الليتورجي والاسراري، لان في الاسرار وبخاصة في سرّ القربان، يعمل يسوع المسيح في العمق على تحويل جميع الناس.

          ان الكرازة والتعليم، من خلال الاحتفال الليتورجي، يهدفان الى الولوج في سرّ المسيح، انطلاقاً من المنظور الى اللامنظور، ومن المعنى الى المعني، ومن العلامات الاسرارية الى حقائق الايمان[3].

 

          2. في الليتورجيا يبحث الانسان عن المسيح، لالتماس الخلاص والشفاء والحياة الجديدة.  ولكن كيف يشعر بالحاجة اليه، ويبحث عنه، اذا لم يكن مؤمناً به. وكيف يؤمن ان لم يسمع به وبكلامه؟ هذا ما يقوله بولس الرسول: " كل من يدعو اسم الرب يخلص. ولكن كيف يدعون من لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون به بدون مبشّر؟" ( روم10: 13-14).

          ولهذا تكرز الكنيسة بالايمان والتوبة، وتهيء المؤمنين للاسرار، وتعلّمهم ان يحفظوا كل ما دبّر المسيح وعلّم  (انظر متى 18: 20). فان تعليم الكنيسة يرمي الى ان يعرف الجميع الاله الحقيقي يسوع المسيح والذي أرسله، وان يغيّروا مسلكهم بالتوبة ( انظر يو 17: 3؛ لو 24 : 47؛ اعمال 2: 38).

          فيما الكنيسة تحتفل بالافعال الليتورجيا والاسرار، تعلّم كلمة الله، وتشجّع المؤمنين على اللالتزام في اعمال المحبة والتقوى والرسالة. انهم بهذا يؤدّون رسالتهم بأن يكونوا نوراً في العالم، ويمجّدوا الآب وسط الشعب[4].

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تبلغ الخطة الراعوية في تقبّل النص المجمعي 18: الكنيسة المارونية والثقافة، الى الفصل الرابع: آفاق جديدة للعمل الثقافي الماروني. فتتناول اليوم " ثقافة الترفيه والرياضة والبيئة" (الفقرات 58-64).

 

1.       الترفيه ثقافة تُسهم في انسنة الانسان الذي يقع اليوم ضحية أحادية الفكر الانتاجي النفعي الاستهلاكي، ومكننة العمل التي تفقده فرصة استعمال قواه الجسدية، وتبعده عن الارض والطبيعة، وتحمله على الانزواء مع تجهيزاته الالكترونية.

         ان الترفية باستخدام اوقات اللهو يعيد اليه سلامه مع ذاته وفرحه بالحياة، ويقوّي صحة الجسد والروح، ويحمله على البحث عن المغامرة والتحدي والاندهاش امام الفن والجمال، وعلى عيش الحرية الخلاّقة. ان النشاطات الترفيهية المرتبطة بالطبيعة تأخذ بُعداً روحياً، اذ ان الطبيعة تعكس صورة الجمال الالهي ومجده بحسب الكتاب المقدس ( اشعيا 35: 2)، وان قدرة الله والوهته تظهران لنا في الخليقة كلها ( روم 1: 20)، وان الطبيعة ارض مقدسة لمستها اقدام المسيح وتلاميذه وعطّرها اريج القديسين. ومعلوم ان طريق القداسة يمرّ اولاً بعلاقة الانسان المتكاملة والسليمة بذاته وبالطبيعة.

 

2.       الرياضة ثقافة هي عطية من الله لعيش الحياة الانسانية:

            أ- تقوّي لدى الشباب فضائل اساسية كالنزاهة والمثابرة والمشاركة والتضامن والصداقة.

ب- تساعد في تحقيق وحدة سليمة ومتناغمة بين الجسد والروح.

ج- تشكّل فرصة للتلاقي والحوار بين مختلف الفئات والشعوب، ووسيلة لبناء حضارة المحبة.

من المهم تأسيس جمعيات تتعاون مع الرعايا والنوادي والمنظمات الرسولية لتعزيز النشاطات الترفيهية والرياضية مع ابعادها الروحية والانسانية والاجتماعية.

 

3.       البيئة ثقافة تعيد العلاقة العضوية بالارض والطبيعة لتحمي الحياة البشرية ومصيرها. تواجه البيئة اليوم تحديّات مصيرية منها: الانحباس الجراري وانثقاب طبقة الاوزون والتلوث الناجم عن الازدحام السكاني في المدن، وتلوث الهواء والمياه، والتلوث النووي.

فلا بدّ من وضع برامج توجيهية واتخاذ مبادرات، تتعاون فيها الكنيسة مع هيئات مدنية وحركات كشفية وهيئات رسمية ودولية، للمحافظة على بيئة سليمة، وتشجيع التعامل مع الطبيعة بسلام واحترام.

*** 

صلاة

يا مريم، ام المحبة والخدمة، علّمينا ان نحمل الرب يسوع الى اخوتنا في العائلة والمجتمع والوطن، ونشهد له بمبادرات الخدمة السخية، فيعرفه الناس الذين  نخدمهم باسمه، وينالون مثل اليصابات عطية الروح القدس وفرح القلوب. ويا ايها المسيح، الكاهن الازلي، فقّه الكهنة بانوار روحك القدوس ليقوموا بخدمة الكلمة، كرازة وتعليماً، فيما هم يحتفلون بالليتورجيا الالهية. وهب الذين يسمعون كرازتهم وتعليمهم ان يولد الايمان في نفوسهم، فيبحثوا عنك في الاسرار المقدسة، ملتمسين نعمة الشفاء والخلاص. اعضد الكنيسة، الام والمعلمة، في اعلان لاهوت ثقافة الترفيه والرياضة والبيئة لينعم جميع الناس بصحة العقل والجسد، ويتحلوا بالقيم الانسانية والخلقية والاجتماعية. فنرفع المجد والاكرام للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . قراءات زمن الميلاد في الشحيمة المارونية – زمن المجيء او الميلاد، صفحة 599.

[2] . الدستور الليتنورجيا المقدسة، 10.

[3] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1072-1075.

[4] . دستور الليتورجيا المقدسة،9.

 


 

مولد يوحنا المعمدان

غلاطية 4: 2-15

لوقا 1/57-66

الرحمة ميزة شعب الله

 

         البشارة لزكريا تتحقق بمولد يوحنا. الرحمة الالهية المعلنة باسم " يوحنا"- الله رحوم، هي مصدر تدبير الله الخلاصي واساس رجاء المؤمنين. ولقد ظهرت رحمة الله اللامتناهية في ثلاثة: نزع عار الزوجة العاقر، هبة الولد لزوجين بارّين امام الله والناس، وانحلال عقدة لسان زكريا. واذا بزكريا ينشد، على انوار الروح القدس رحمة الله هذه ( انظر لوقا 1: 67-80).

         في ضوء ما جاء في رسالة بولس الرسول الى اهل غلاطية، يكون مولد يوحنا، ابن الوعد لزكريا، استباقاً لمولد المؤمنين بالمسيح الذين هم ابناء الوعد الخلاصي. فالمعمودية، ميلادهم الثاني، تجعلهم احراراً من الخطيئة ومن سيطرة قوى الشر عليهم. فاذا بحياتهم سعي دائم الى التحرر من عبوديات الدنيا، ليعيشوا في حرية ابناء الله، عملاً بقول بولس الرسول ودعوته: " ان المسيح قد حررنا تحربراً. فاثبتوا اذاً، ولا تدعوا احداً يعود بكم الى نير العبودية" ( غلاطية5:1).

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

من انجيل القديس لوقا 1/ 57-66

 

         وتَمَّ زَمَانُ إِليصَابَاتَ لِتَلِد، فَوَلَدَتِ ابْنًا. وسَمِعُ جِيرانُهَا وأَقَارِبُها أَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. وفي اليَوْمِ الثَّامِنِ جَاؤُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيّ، وسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زَكَريَّا. فأَجَابَتْ أُمُّهُ وَقالَتْ: "لا! بَلْ  يُسَمَّى يُوحَنَّا!". فقَالُوا لَهَا: "لا أَحَدَ في قَرابَتِكِ يُدْعَى بِهـذَا الاسْم". وأَشَارُوا إِلى أَبِيهِ مَاذَا يُريدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ. فطَلَبَ لَوْحًا وكَتَب: "إِسْمُهُ يُوحَنَّا!". فَتَعَجَّبُوا جَمِيعُهُم. وانْفَتَحَ فَجْأَةً  فَمُ زَكَرِيَّا، وانْطَلَقَ لِسَانُهُ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ ويُبَارِكُ الله، فَاسْتَولى الـخَوْفُ على جَمِيعِ جِيرانِهِم، وتَحَدَّثَ النَّاسُ بِكُلِّ هـذِهِ الأُمُورِ في كُلِّ جَبَلِ اليَهُودِيَّة. وكانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِذـلِكَ يَحْفَظُهُ في قَلْبِهِ قَائِلاً: "ما عَسَى هـذَا الطِّفْلُ أَنْ يَكُون؟". وكانَتْ يَدُ الرَّبِّ حَقًّا مَعَهُ.

 

1.    مولد يوحنا تتويج لتاريخ رحمة الله

        مع مولد يوحنا تتجلى رحمة الله، فاسمه لفظتان " يهو حنان" " اي  الله رحوم"، ويتتوّج تاريخ رحمة الله مع شعبه الذي اختبرها افراداً وجماعات، وعرف الله " الهاً رحوماً ورؤوفاً، طويل الاناة، كثير المراحم والوفاء" ( خروج34/6). فكان يلجأ اليه بهذه الصفة عندما تحلّ به المصائب، وعندما يدرك ما ارتكب من معاصي ومآثم، وعندما يخون العهد الذي قطعه الله معه، وعندما يعاني الالآم وكل انواع المصائب، وكلما صنع الشر المادي والادبي، وكلما هددته اخطار. في كل ذلك كان يلجأ اليه لانه رب المحبة والحنان والرحمة والامانة، بصلاة المزامير، مثل: المزمور 103: " باركي يا نفسي الرب.." ، والمزمور 145: " يا الهي الملك اعظمك".

        ليست الرحمة صفة من صفات الله  وحسب، لكنها ايضاً ميزة حياة شعب باسره، اذ انها جوهر ما لهم من دالة حميمة على ربهم، وجوهر الحوار معه.

        فداود الملك توجّه الى الله عندما شعر بفظاعة اثمه: " قد خطئت خطيئة كبيرة فيما صنعت، والآن يا رب اغفر اثم عبدك، لاني بحماقة عظيمة تصرفت". ولما عرض جاد النبي على داود ان يختار واحدة من ثلاث: المجاعة او الطاعون او الهرب امام الاعداء، قال: " قد ضاق بي الامر كثيراً، فلنقع في يد الرب، لان مراحمه كثيرة، ولا اقع في يد الناس". فكان الطاعون الذي أباد سبعين ألف رجل، عندها قال داود للرب: " انا الذي خطئت، وانا الذي فعلت السوء، واما اولئك الخراف، فماذا فعلوا؟ فلتكن عليّ يدك وعلى بيت ابي" (2صموئيل24/10 و14 و17).

        وايوب ارتدّ الى الله بعد طول البلوى: " قد علمت انك قادر على كل شيء، فلا يستحيل عليك مُراد... الآن عيني قد رأتك، فلذلك أرجع عن كلامي وأندم في التراب والرماد" ( ايوب 42/2: 5-6), اما الله فزاد ايوب ضعف ما كان له قبلاً ( ايوب 42/10-16).

        واستير الملكة هرعت الى الله بعد ان تأكد لها ما يهدد شعبها من اخطار قاتلة. فخلعت ثياب مجدها ولبست ثياب الشدّة والحزن وغطت رأسها بالرماد، وصلّت: " ايها الرب ملكنا، انت الأوحد، اغثني انا الوحيدة،  والتي لا نصير لي سواك... ايها الاله القادر على كل شيء، أصغ الى صوت البائسين وأنقذنا من ايدي المسيئين وانقذني من خوفي (استير 4/17).

        واصبحت رحمة الله اختباراً اكتسبه الشعب القديم،واعتقاداً رسخ في ذهن الجماعة والافراد.

        فعندما نظر الله الى شقاء شعبه الرازخ تحت نير العبودية، وأصغى الى صراخه، ورأى ما به من ضيق، عزم على تحريره وارسل موسى الى فرعون لهذه الغاية ( خروج 3/7-12). ورأى اشعيا النبي في عمل الخلاص، الذي قام به الرب، محبة الله لشعبه وشفقته عليه (اشعيا 63/8-9). على هذا الاساس توطدت ثقة الشعب كله بالرحمة الالهية، التي يمكن التطلع اليها من وسط المحن على اختلاف انواعها.

        هكذا نفهم معنى ان " جيران اليصابات وانسباءها فرحوا معها، لان الله اكثر رحمته لها"، وهتاف زكريا: " مبارك هو الرب... لانه صنع رحمته لآبائنا وذكر عهده المقدس" ( لو1/72).

 

2.    الرحمة من جوهر الله وصفة المؤمنين

يوجد في الكتاب المقدس لفظتان في اللغة العبرية لكلمة " رحمة" ، هما " حِسِدْ" و "راحاميم". لفظة " حِسِدْ" تعني الحب القوي، الصامد ، الامين في المحن، الناتج من مشاعر تنشأ بين اثنين يريد احدهما الخير للآخر. وتشير اللفظة الى العهد الذي ابرمه الله مع شعبه، فتنطوي على "النعمة" كعطية هي اقوى من الخطيئة، وعلى " المحبة" كامانة تتغلب على الخيانة. وهكذا تعني الرحمة امانة لله لذاته: " ليس لاجلكم انا فاعل، لكن لاجل اسمي القدوس الذي دنّستموه فاعلموا واخزوا واخجلوا من سلوككم" ( حزقيال26/22 و23).

اما لفظة " راحاميم" فتدل على محبة الام، لانها مشتقة من الرحم – حشى الام. وتنشأ عن الرباط الاصيل والعضوي القائم بين الام وطفلها. انها علاقة خاصة تنطوي على محبة فريدة، مجانية، وليست ثمرة اي استحقاق. وتتميز بالطيبة والحنان وطول الاناة والشفقة والمسارعة الى الغفران: " قالت صهيون: تركني الرب ونسيني سيدي. اتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن حشاها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا انساك" ( اشعيا 49/15)[1].

في ضوء  معاني " الرحمة" ينكشف لنا اسم الله " عمانوئيل" اي " الهنا معنا" (متى1/23)، للدلالة على ان الله اختار ان لا يكون ذاته الا معنا، كما يشير يوحنا في الرؤيا: "وسمعت صوتاً عظيماً من السماء يقول: " هوذا مسكن الله مع الناس، يسكن معهم، هم يكونون له  شعباً، والله معهم يكون لهم الهاً ( رؤيا21/3).

 

3.    حاجتنا الى رحمة تلطّف العدالة

قلق كبير يساور شعبنا، والشعور بالخطر يشتد، بسبب ما يكتنفنا من ازمات سياسية واقتصادية، اجتماعية وخلقية، امنية ومصيرية. هذا القلق يتطلب قرارات حاسمة. فهل تكفي دولة القانون؟ كلنا يتطلع الى حياة عادلة من جميع الوجوه. لكن هناك قوى سلبية كالحقد والبغض والشراسة الفئوية، سياسياً وطائفياً، تتغلب على العدالة وتحول دون اقامة المساواة والتوازن. لذلك العدالة وحدها لا تكفي بل تحتاج الى المحبة، لان " منتهى العدالة منتهى الظلم".

نقرأ في الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان": " لا سبيل لدولة القانون ان تقوم على القوة لتفرض احترامها. فالسلام والمصالحة والوفاق هي الشروط الاساسية لبناء لبنان ديموقراطي... يكون قادراً على تأمين وجود كريم وحرّ لجميع ابنائه ( الفقرة 98)، ولقيام نظام سياسي واجتماعي عادل ومنصف" (الفقرة 94).

الرحمة تلطّف العدالة وتعطيها معنى جديداً يتجلّى في المغفرة. فالعدالة، في مفهومها الصحيح، تشكل غاية المغفرة. العدالة تفرض التكفير عن الشر والشكوك، والتعويض عن الاساءة والضرر، بينما المغفرة النابعة من الرحمة، تشترط هذا التكفير والتعويض، لكي تتغاضى عن الشر والاساءة والشكوك. وهكذا يقوم مجتمع جديد، وتكون بداية جديدة.

 

***


 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن والليتورجيا

 

         الليتورجيا هي عمل الله بواسطة خدمة الكاهن. هي ليتورجيا السماء على مذابح الارض، انها عمل الله في ايدي ابناء البشر. الكاهن هو خادم الله، يستعمل كلام الله بأمر الله وترتيبه. يوصي كتاب الاقتداء بالمسيح الكاهن قائلاً: " عليك في هذا السّر السامي جداً ان تلاحظ نفسك وتنتبه اليها (1تيمو 4: 16)، وتحرص على ان تقترب من الله بايمان وتقوى، وان تحفظ نفسك بغير لوم. انك، ولو كانت لك طهارة الملائكة، وبرّ القديس يوحنا المعمدان، لما كنت اهلاً لقبول سرّ الكهنوت ولا للمس اسراره. لقد اُعطي لك ما لم يعطَ للملائكة"[2].

 

         الليتورجيا عمل الله الثالوث

         1. الآب ينبوع الليتورجيا وغايتها

         كل عمل الله منذ بدء الخلق حتى نهاية الازمنة هو بركة اي كلمة وعطية، كما تبيّن اللفظة اللاتينية bene-dictio”" واليونانية التي توازيها " eu-logia". نبع البركة الالهية التي تعطي الحياة هو الآب ( انظر افسس 1: 3-6).

         ان بركة الله ، بكل وجوهها، تجد كمالها في الليتورجيا حيث الآب معبود كينبوع وغاية لكل بركات الخلق والخلاص، وهو بكلمته المتجسد، يسوع المسيح الذي مات وقام من اجلنا، يملاءنا من بركاته، وبواسطته يفيض في قلوبنا الروح القدس، العطية التي تحتوي كل العطايا.

         ان ليتورجيا الارض هي جواب الايمان والحب للبركات الروحية التي يهبنا اياها الآب. الكنيسة بالاتحاد مع سيدها وبفعل الروح القدس، تبارك الآب على "عطيته التي لا توصف" ( 2 كور 9: 15)، بالسجود والمديح والشكران. وتقدم له قرابينها، ملتمسة منه ارسال الروح القدس على القرابين وعليها وعلى المؤمنين وعلى العالم باسره، لكي تؤتي البركات الالهية ثمار الحياة الجديدة في المؤمنين[3].

 

         2. الله الابن يحقق الخلاص بواسطة الليتورجيا

         ان سرّ الخلاص، الذي اتّمه ابن الله المتجسد بموته وقيامته، حاضر الآن وهنا في العمل الليتورجي بقوة الروح القدس. الكنيسة، جسد المسيح، هي العلامة والاداة التي بواسطة خدمتها الكهنوتية، تؤتي الروح القدس في النفوس مفاعيل سرّ الخلاص. وبهذا تستبق الكنيسة ليتورجيا السماء وتتتذوّقها[4].

         3. الروح القدس يؤون عمل الخلاص في الليتورجيا

         فيما الليتورجيا تتذكر اعمال سرّ الخلاص، فان الروح القدس يؤوّنها ويجعلها حاضرة وفاعلة في الافعال الليتورجية. انه يذكّر ايمان الجماعة بالمسيح، ويجعل عمله الخلاصي حاضراً وفاعلاً، بقدرته التي تحوّل كل شيء[5].

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         في اطار تقبّل النص 18: الكنيسة المارونية والثقافة، تتناول الخطة الراعوية من الفصل الرابع: آفاق جديدة للعمل الثقافي الماروني موضوع ثقافة الحوار (الفقرات 65-67).

 

         1. لثقافة الحوار اساس لاهوتي هو ان الله دخل في حوار طويل مع الانسان على مدى تاريخ الخلاص. وتسلمت الكنيسة رسالة الحوار مع العالم الذي تعيش فيه. فاضحى الحوار حالة كيانية مرتبطة بهوية الكنيسة ودعوتها ورسالتها. وبهذه الصفة، الحوار في منطلقاته موقف روحي امام الله يستمد منه روحانية تطبع حواره مع نفسه ومع الآخرين. وهكذا ثقافة الحوار تنقلنا من الاستبعاد الى الاستيعاب، ومن الرفض الى القبول، ومن التنافر الى التلاقي، ومن التصنيف الى التفهّم، ومن التشويه الى الاحترام.

         2. ثقافة الحوار، في ضوء هذا المفهوم اللاهوتي تشكل مصدر اغناء للذات وللتراث الانساني. ذلك انها تنفتح على الآخر بكل خصوصياته في الاجتماع والسياسة والثقافة، ما يجعل  الحوار هدفاً بحدّ ذاته، وفضيلة انسانية وروحية. ان الكنيسة تواصل هذا النوع من الحوار مع عالمها، وتوصي ابناءها بممارسته داخلياً ومع الاخرين على مختلف المستويات.

         3. بالنسبة الينا نحن المسيحيين في لبنان والشرق وبلدان الانتشار، يدعونا الارشاد الرسولي  "رجاء جديد للبنان" الى اقامة حوار صادق وعميق مع المسلمين يهدف الى ثلاثة:

         أ- ان يساعد الحوار التعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان اخرى.

         ب- ان يبلور هذا الحوار والتعاون القيم والمفاهيم التي تحكم الاجتماع السياسي.

         ج- ان يصل الى ايجاد نقاط الالتقاء حول الانسان والمواطن والمجتمع والدولة والتاريخ.

         نأمل ان يظل ابناء كنيستنا وبناتها رسل الانفتاح والحوار وعلامة حيّة لوحدة الاسرة البشرية.

 

***

صلاة

ايها الرب يسوع، لقد جسّدتَ رحمة الله في تاريخ البشر، وجعلت يوحنا حاملاً اسمها ليسبقك، كما يسبق الفجر شمس الصباح. جمّلنا بفضيلة الرحمة لنحقق صورة الله فينا، هو الغني بالرحمة، ونعكسها في مبادرات حياة وعمل في مجتمعنا. املأ قلوبنا وقلوب البشر من مشاعر الانسانية والحنان والانصاف، لكي تتلطف العلاقات فيما بينهم بالرحمة، التي هي روح العدالة الساهرة على تعزيز الحقوق والواجبات. اعطنا يا رب ان نستقي الرحمة والغفران والمحبة من احتفالاتنا الليتورجية، فنجعل من حياتنا ونشاطاتنا انشودة رحمة نعكس بها ليتورجيا السماء القائمة حول عرش الحمل الذي تتفجّر منه ينابيع البركات الالهية. ولتكن ثقافة الحوار، التي تعلمنا اياها الكنيسة، التزاماً بروحانية التفاهم والتعاضد والسير معاً على دروب التلاقي من اجل عالم أفضل، يليق بخالقه وفاديه. فنرفع انشودة المجد والتسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني، " في الرحمة الالهية"، حاشية 52.

[2] . الاقتداء بالمسيح، 4/5، 1 و2.

[3] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثولسكية، 1077-1083.

[4] . المرجع نفسه، 1111.

[5] . المرجع نفسه، 1112.

 


 

البيان ليوسف

افسس 3: 1-13

متى 1:18-25

انكشاف سرّ الله المكتوم منذ الدهر

 

         البيان ليوسف هو البشارة له، على مثال البشارة لزكريا، والبشارة لمريم، مع فرق مزدوج: الفرق الاول هو ان الملاك يبشره في الحلم لا في اليقظة، والثاني يُعلمه بحدث قد حصل لا بحدث سيحصل في المستقبل. لكهنا بشارة ليوسف ايضاً بأنه هو ابو يسوع بالشريعة مع كامل مسؤوليات الابوّة، لا ابوة الجسد. ان ابوّة يوسف وامومة مريم رمز للابوة والامومة الروحية في الكهنوت والحياة المكرسة، وانهما الدليل بأن الابوة والامومة الجسدية هي في الاساس ابوّة وامومة روحية. هذه اشارة الى روحانية الزواج والعائلة، التي بدونها، لا مجال لحياة زوجية وعائلية سليمة وسعيدة.

         يوحي بولس الرسول في رسالته الى اهل افسس أن البشارة الالهية تتواصل لكل انسان. فسرّ الله في تدبير الخلاص، الذي انكشف كلياً بالمسيح، انما تنكشف مضامينه جيلاً بعد جيل، ولانسان فانسان بالروح القدس، كما كشفه للرسل والانبياء والقديسين ولبولس ( انظر افسس 3: 3 و5). وهذه دعوة الى الرجاء الذي ننتظر فيه تجليّات الله لنا بالمسيح.

 

من انجيل القديس متى 1/ 18-25

         أَمَّا مِيلادُ يَسُوعَ الـمَسِيحِ فَكانَ هـكَذَا: لَمَّا كانَتْ أُمُّهُ مَرْيَمُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُف، وقَبْلَ أَنْ يَسْكُنَا مَعًا، وُجِدَتْ حَامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس.  ولَمَّا كَانَ يُوسُفُ رَجُلُها بَارًّا، ولا يُرِيدُ أَنْ يُشَهِّرَ بِهَا، قَرَّرَ أَنْ يُطَلِّقَهَا سِرًّا. ومَا إِنْ فَكَّرَ في هـذَا حَتَّى تَرَاءَى لَهُ مَلاكُ الرَّبِّ في الـحُلْمِ قَائِلاً:"يَا يُوسُفُ بنَ دَاوُد، لا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ، فَالـمَوْلُودُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وسَوْفَ تَلِدُ ابْنًا، فَسَمِّهِ يَسُوع، لأَنَّهُ هُوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُم". وحَدَثَ هـذَا كُلُّهُ لِيَتِمَّ مَا قَالَهُ الرَّبُّ بِالنَّبِيّ: "هَا إِنَّ العَذْرَاءَ تَحْمِلُ وتَلِدُ ابْنًا، ويُدْعَى اسْمُهُ عِمَّانُوئِيل، أَي اللهُ مَعَنَا". ولَمَّا قَامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْم، فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاكُ الرَّبِّ وأَخَذَ امْرَأَتَهُ.  ولَمْ يَعْرِفْهَا، فَوَلَدَتِ ابْنًا، وسَمَّاهُ يَسُوع.

 

         1. انكشاف السّر المكتوم في الله منذ الدهور (افسس 3: 9)

                   ما أوحاه ملاك الرب في الحلم ليوسف، كما رواه متى الانجيلي (متى1/18-25)، يكمّل مضمون البشارة لمريم، كما نقرأ في انجيل لوقا (1/26-38). وما اجابته مريم بالكلام للمرسل الالهي: " انا امة الرب، فليكن لي حسب قولك"، اجابه يوسف بالافعال: " ولما نهض من النوم صنع كما امره ملاك الرب". هي في كلا الزوجين " طاعة الايمان"، التي يقول عنها بولس الرسول انها قبول " البشارة التي سبق ان وعد بها الله على ألسنة انبيائه في الكتب المقدسة، بشأن ابنه الذي ولد من نسل داود بحسب الطبيعة البشرية، وجُعل ابن الله في القدرة يقيامته من بين الاموات، وهو يسوع المسيح ربنا" ( روم1/2-4).

                   ب. طاعة الايمان نقبل في العقل ما يوحيه الله ويأمر به، ونخضع له بالارادة ونترجمه بالاعمال. هكذا فعلت مريم. وها يوسف يشاركها في مسيرة الايمان، وقد أتمنهما الله على السّر الالهي الذي كشف به عن ذاته في المسيح، اعني التجسد والفداء، وهما يشكلان وحدة عضوية لا تنفصم[1] .

                   كشف الله ليوسف ابوته للمولود من مريم بفعل الروح القدس، ومهمته في التدبير الخلاصي وهي ان يأخذ مريم زوجته الى بيته، ويتعهد تربية ابنها الذي سيسميه يسوع، ويكرس ذاته معها لهذا " الاله الذي يخلص شعبه من خطاياهم". وشدده بالتأكيد الالهي: " لا تحف!" كما شدد مريم: " لا تخافي!" وهكذا " عهد اليه الله بحراسة اثمن كنوزه"  (البابا الطوباوي بيوس التاسع)، و" بحراسة الاسرار الخلاصية". ان كلمة " لا تخف"  يرددها الله في اعماق كل زوج وزوجة، وكل اب وام، بل في اعماق كل مكّرس ومكرسة لخدمة الكهنوت او لعيش المشورات الانجيلية، اذ يكل اليهم اسراره ورسالته.

                   زواج يوسف بمريم هو المرتكز القانوني لابوة يوسف وامومة مريم ومهمتهما وسلطتهما الوالدية. فاستحقا، ان يُدعيا والدي المسيح كما قالت مريم: " ها انا وابوك كنا نبحث عنك بغمّ شديد" (لو2/48)، وكما عرفه اهل الناصرة انه " ابن يوسف النجار، وامه تدعى مريم" ( متى13/55).

                   صان ابن الله المتجسد بتولية يوسف المكرسة في الزواج، كما صان بتولية مريم الام: " اخذها الى بيته، ولم يعرفها، فولدت ابنها البكر"، اي الاول والوحيد. بهذا الزواج البتولي، وبهذه الابوة والامومة البتوليتين الحاضر فيها كلها الاله المتجسّد، تجلت قدرة الله في تنقية الاسرة، والارتقاء بها الى ذروة القدسية بجعلها  هيكل الحب، ومهد الحياة النابعين من الله[2].  هكذا الحضور الالهي متواصل في عقد الزواج الذي رفعه الى رتبة سرّ خلاصي، وفي العائلة التي جعلها "كنيسة منزلية صغرى[3].

                   في البيان ليوسف وفي طاعة الايمان ظهرت مقومات الزواج على انه عهد حب بين الله والزوجين وبينهما، ومع تاريخ الجنس البشري، وعقد قانوني مرتكز على الرضى الحر والواعي، وسرّ يحمل نعمة الخلاص بحضور الله فيه. وظهرت ايضاً " خيور الزواج"، حسب تعبير القديس اغسطينوس، المعروفة في التعبير القانوني " بحليات الزواج" وهي : الانجاب بولادة يسوع، الامانة بتكريس يوسف ومريم، الديمومة في رباطهما الزوجي الى الابد.

 

       2          . عقيدة الحبل بلا دنس دعوة الى الرجاء

عيد الحبل بلا دنس، " هو عيد عصمة مريم ام يسوع من دنس الخطيئة الاصلية، التي يرثها بنو البشر من خطيئة ابوينا الاولين آدم وحواء حسب الوحي الالهي وتعليم الكنيسة. نقرأ في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية حول عقيدة الخطيئة الاصلية : " نعلم عن طريق الوحي ان آدم نال القداسة والبرارة الاصليتين، لا له وحده بل للطبيعة البشرية كلها. ولكن بانقياد آدم وحواء للشيطان المجرّب، قد ارتكبا خطيئة شخصية، وانتقل اثرها الى الطبيعة البشرية التي سينقلانها وهما في حالة الخطيئة. وهكذا انتقلت الى جميع البشر عن طريق التفشي، أي بنقل طبيعة بشرية مجردة من القداسة والبرارة الاصليتين، مجروحة في قواها الطبيعية، وخاضعة للجهل والألم والموت، وميالة الى الخطيئة بما فيها من شهوة.

الخطيئة الاصلية هي " خطيئة " فينا على سبيل المشابهة وليست ذات طابع شخصي عند أي من ابناء آدم، أي البشر. وهي " اصلية" بالنسبة الى الخطيئة الاولى التي ارتكبها آدم وحواء، حين كانا في حالة القداسة والبرارة الاصليتين، ولانها خطيئة  موروثة لا  مرتكبة، فهي حالة لا فعل. لقد اثبتت الكنيسة عقيدتها المستندة الى الوحي الالهي في مجمع اورانج الثاني سنة 529 وفي المجمع التريدنتيني سنة1546 [4].

عُصمت مريم من الخطيئة الاصلية في اللحظة الاولى من الحبل بها في حشا امها جنه زوجة يواكيم، باستحقاقات من سيكون ابنها فادي الانسان. فتحقق فيها وعد الخلاص الذي سيتمه يسوع المسيح. وهي التي اُعدت لتكون ام مخلص البشر البريئة من الخطيئة الاصلية ومن سائر الخطايا الشخصية الفعلية. اعلن هذه العقيدة البابا الطوباوي بيوس التاسع في 8 ك1 سنة 1854. ان عصمتها من الخطيئة الاصلية بقوة النعمة الالهية، ومن أي خطيئة شخصية فعلية، انكشفت في انتقالها الى مجد السماء بنفسها وجسدها. وهذه عقيدة   أعلنها البابا بيوس الثاني عشر في اول تشرين الثاني 1950.

ان مريم علامة الرجاء المرفوعة لجميع البشر، وهو ان جميع الناس مدعوون الى الخلاص بالمسيح من بعد ان كانوا منجرفين بخطيئة آدم وهلاكه، وان شمولية الخلاص بالمسيح تقابل شمولية الخطيئة، على ما قال بولس الرسول: " كما انه بخطيئة واحد كان القضاء على جميع الناس، كذلك ببرّ واحد، يكون لجميع الناس تبرير الحياة" (روم5/18).

 

***

 


 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن والليتورجيا

 

         ان الكاهن من خلال مهمة التقديس التي يمارسها بسلطان الهي، في الخدمة الكهنوتية، يجعل سرّ المسيح الفصحي حاضراً في ليتورجيا الكنيسة وفي الاسرار المقدسة، ومحققاً ثمار الفداء في نفوس المؤمنين. هذا يقتضي منه ان ينفتح هو و المؤمنين بغيرة رسولية متقدّة.

         في ليتورجيا الكنيسة يحقق المسيح سرّه الفصحي. اثناء حياته على الارض أعلن في تعليمه واستبق في افعاله سرّه الفصحي. وعندما اتت الساعة (يو13: 1؛ 17؛ 1)، عاش الحدث الوحيد في التاريخ الذي لا ينتهي: يسوع يموت ويُدفن ويقوم من بين الاموات، ويجلس من عن يمين الآب " مرة واحدة" ( روم6:10؛ عبرانيين 7: 27؛9:12).

         انه حدث حقيقي وقع في التاريخ، لكنه وحيد. كل ما عداه من احداث في التاريخ تحصل مرة، ثم ينطوي ويُبتلع في الماضي. اما سرّ المسيح الفصحي فلا يستطيع ان يبقى فقط في الماضي، لانه بموته هدم الموت. فكل ما هو المسيح وكل ما تممه وتألّمه من اجل جميع البشر، انما يشارك في الابدية الالهية، وبالتالي يشمل كل الازمنة، ويصبح حاضراً فيها. ان حدث الصليب والقيامة يستمر ويجتذب الكل نحو الحياة[5].

         هذا هو دور الكاهن المقدس والشريف، الذي " ارسله يسوع كما ارسله الآب" ( يو 20: 21)، ليس فقط ليكرز بالانجيل لجميع الناس، ويعلن ان ابن الله، بموته وقيامته، حررنا من سلطان الشيطان والموت، ونقلنا الى ملكوت الآب، بل ايضاً لكي يحقق في نفوس المؤمنين، بواسطة ذبيحة القداس والاسرار، عمل الخلاص الذي أعلنه[6].

         وليدرك الكاهن والمؤمنون انهم عندما يحتفلون بالليتورجيا في كنيسة الارض، انما يشاركون، بالشوق والتذوق، في ليتورجيا السماء حول عرش الحمل الجالس عن يمين الآب، فيرفعون افكارهم وقلوبهم الى حيث مقرّ القديسين الممجدين، منتظرين تجلّي الرب يسوع مخلصاً في حياتهم اليومية، وراجين ان يشركهم في مجده السماوي الآتي[7].

 

***

 

ثانياً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي 18: الكنيسة المارونية والثقافة، وقد بلغت فصله الرابع: آفاق جديدة للعمل الثقافي الماروني. فتتناول، بعد ثقافة الحوار، ثقافة حقوق الانسان (الفقرات 68-70).

         1. ان ثقافة كنيستنا ومسيحيتنا هي ثقافة احترام حقوق الانسان وتعزيزها، والانسان الذي في منطقتنا، وهو انه يتألم بانواع شتى.

         * يتألم من كيانه الداخلي.

         * يتألم في ظروف معيشته اليومية الصعبة.

         * يتألم بسبب ما يُفرض عليه، او بسبب تدخّل الآخرين في شؤونه، او بسبب نظرة

          الآخرين اليه.

* يتألم بسبب الادوات القمعية التي يتعرّض لها كل يوم من اهل بيته.

         ان ثقافة حقوق الانسان تدفعنا الى احترام هذا الانسان في ثقافته وتقاليده، وتعزيز حالة الطمأنينة عنده والازدهار، والاعتراف بحرياته الجوهرية.

         2. هذه الثقافة القائمة على التضامن مع الانسان المتألم، حيثما وُجد، مدعوة لتكون موقفاً نبوياً لصالح تحرير الانسان، ونموه في الكرامة التي أولاه اياها الله، ولمقاومة الظلم اياً كان مصدره وفاعله، وللمطالبة والدفاع في مجتمعنا المشرقي عن اولويات هي:

         * حقوق المرأة من اجل تعزيز مكانتها في الكنيسة والمجتمع،واعطائها دورها الكامل في بناء الحياة الانسانية.

         * الحق بالحياة والحرية وتعزيزها والدفاع عنه كأساس لكل الحقوق .

         ان هذا الموقف النبوي يقتضي تعاوناً مع المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية، العاملة في هذا المجال، والتنشئة عليه بحيث يصبح حضارة حياة. 

** 

         صلاة

         ايها الرب يسوع، انرنا بروحك القدوس والانجيل وتعليم الكنيسة، لكي ندرك السّر المكتوم عند الله منذ الدهور، الذي تجلّى لنا بسرّك، يا ابن الله المتجسّد لخلاصنا. اعطنا ان نفتح عقولنا وقلوبنا لكل ما يوحي لنا الله عن سرّه في احداث تاريخ الخلاص وفي حياة الكنيسة وحياتنا الشخصية. ساعدنا لنعمل بما يوحيه الله لنا بطاعة الايمان، على مثال يوسف ومريم. جّدد فينا الرجاء بانك ترافق حياتنا منذ اللحظة الاولى من تكويننا في حشى امهاتنا، وترسم لكل واحد دوراً في تدبير الله الخلاصي، لكي نعيش في الشركة الكاملة معك ونلتزم بما تنتظر منا في حياة الكنيسة ورسالتها وفي المجتمع. قدّس الكهنة في خدمتهم الليتورجية، لكي يجتذبوا المؤمنين الى المشاركة فيها بوعي وفاعلية، فينالوا ثمار الخلاص الحاضرة على المذابح. ولتعمل الكنيسة جاهدة في نشر ثقافة حقوق الانسان، وفي تربية ابنائها وبناتها على التضامن مع كل انسان متألم. فنرفع التمجيد والاكرام للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . البابا يوحنا بولس الثاني: حارس الفادي،-6.

[2] . المرجع نفسه، 7.

[3] . الدستور العقائدي في الكنيسة،11.

[4] . التعليم المسيحي، 404 -406.

[5] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1085.

[6] . المرجع نفسه، 1086.

[7] . المرجع نفسه، 1090.

 


 

نسب يسوع

رومية 1: 1-12

متى 1: 1-12

يسوع المسيح رجاء الشعوب

 

         بانتساب يسوع ابن الله الى العائلة البشرية، متجسّداً من مريم البتول بقدرة الروح القدس، والى سلالة داود الملك عبر زواج قانوني لابيه يوسف بالشريعة، وهو من بيت داود، ولامه مريم، حقق ملوكية داود والوعد الكهنوتي لابراهيم. هذا ما يعنيه متى الانجيلي بكتابته  "كتاب ميلاد يسوع، ابن داود، ابن ابراهيم".

         يؤكد بولس الرسول في رسالته الى اهل رومية ان يسوع هو ابن الله بالقدرة الالهية، وابن الانسان بالطبيعة البشرية. ويستنتج ان لقاء الطبيعتين الالهية والبشرية في شخصه الواحد دعوة لجميع الناس الى القداسة، التي هي اتحاد الانسان بالله، بنعمة يسوع المسيح. فاصبحنا كلنا، حسب كلام بولس: " أحباء الله المدعوين ليكونوا قديسين" ( رومية 1: 6-7).

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

من انجيل القديس متى 1/1-17

         كِتَابُ ميلادِ يَسُوعَ الـمَسِيح، إِبنِ دَاوُد، إِبْنِ إبْرَاهِيم: ِبْرَاهِيمُ وَلَدَ إِسْحـق، إِسْحـقُ وَلَدَ يَعْقُوب، يَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وإِخْوَتَهُ، يَهُوذَا وَلَدَ فَارَصَ وزَارَحَ مِنْ تَامَار، فَارَصُ وَلَدَ حَصْرُون، حَصْرُونُ وَلَدَ آرَام، آرَامُ وَلَدَ عَمِينَادَاب، عَمِينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُون، نَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُون، سَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَاب، بُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوت، عُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى، َيسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الـمَلِك.  دَاوُدُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنِ امْرَأَةِ أُوْرِيَّا، سُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَام، رَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا، أَبِيَّا وَلَدَ آسَا، آسَا وَلَدَ يُوشَافَاط، يُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَام، يُورَامُ وَلَدَ عُوزِيَّا، عُوزِيَّا وَلَدَ يُوتَام، يُوتَامُ وَلَدَ آحَاز، آحَازُ وَلَدَ حِزْقِيَّا، حِزْقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى، مَنَسَّى وَلَدَ آمُون، آمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا، يُوشِيَّا وَلَدَ يُوكَنِيَّا وإِخْوَتَهُ، وكانَ السَّبْيُ إِلى بَابِل. بَعْدَ السَّبْيِ إِلى بَابِل، يُوكَنِيَّا وَلَدَ شَأَلْتِيئيل، شأَلْتِيئيلُ وَلَدَ زُرُبَّابِل، زُرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُود، أَبيهُودُ وَلَدَ إِليَاقِيم، إِليَاقِيمُ وَلَدَ عَازُور، عَازُورُ وَلَدَ صَادُوق، صَادُوقُ وَلَدَ آخِيم، آخِيمُ وَلَدَ إِلِيهُود، إِلِيهُودُ وَلَدَ إِلِيعَازَر، إِلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّان، مَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوب،َيعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَم، الَّتي مِنْهَا وُلِدَ يَسُوع، وهُوَ الَّذي يُدْعَى الـمَسِيح. فَجَميعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْرَاهيمَ إِلى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، ومِنْ دَاوُدَ إِلى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، ومِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلى الـمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جيلاً.

 

1.    التصميم الالهي للخلاص الشامل

شجرة السلالات التي تبدأ بأبراهيم وتنتهي بيسوع المسيح مروراً بداود، تحمل بُعدين: الكهنوت والملوكية. فابراهيم نقطة الانطلاق بوعد الخلاص الذي سيتم بذبيحة يسوع الكاهن الازلي؛ وداود علامة الوعد بملوكية يسوع الى الابد، ملوكية المحبة في شعب الله الجديد. والكنيسة اداة الخلاص الشامل وعلامة الشركة ببعديها الاتحاد بالله عمودياً، ووحدة الجنس البشري افقياً، هي نواة هذه المملكة الثابتة المنيعة على ابواب الشر، وتكتمل ابدياً في نهية الازمنة، عندما يسلّم يسوع المُلك كله للآب.

               كل هذه الاسماء، التي تضم وجوهاً من المؤمنين وغير المؤمنين، ومن الابرار والخاطئين، ليست متروكة لذاتها. رغم وجود الخطيئة الكامنة في اساس واقع البشرية الراهن، لكن اشعة حقيقة الله تظللها، ونعمة الخلاص تخيّم عليها. فعمل الخلق لا ينفصل عن عمل الخلاص، وكلاهما من الله الواحد. ان روح الرب وكلمته حاضران في كل مكان. فالروح رمى زرع الحقيقة الخلاصية والنعمة بين جميع الشعب وفي ثقافاتهم وفلسفاتهم واديانهم. وهكذا نعرف، من السلسلة المتناسقة والقائمة على الخلق والوعد، ان الله نظّم كل شيء لكي يُشرك المخلوقات، ولاسيما البشرية بشكل فريد، في مجده وحقيقته وجودته وعلاقته المتناغمة: " هو الذي يعطي حياة ونفساً لكل انسان... وفيه نحن نحيا ونتحرك ونكون" ( اعمال17/25-28). ويؤكد لنا المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا المجال " ان الله اظهر، بدون انقطاع، عنايته بالجنس البشري، لكي يعطي الحياة الابدية الى كل الذين يبحثون، من خلال التزامهم بالصلاح، عن الخلاص"[1].

             فلو اكملنا هذه السلسلة من السلالات لوجدنا أسماءنا فيها. هذا يعني، وقد بلغنا الى عتبة ميلاد الرب، ان " المخلص يولد" لهم ولنا ولكل من سيأتي بعدنا. هو تحقيق الوعد لابراهيم وداود، وعد الكهنوت والملوكية الذي يشمل الجنس البشري من آدم الى آخر مولود لامرأة حتى نهاية الازمنة.

 

2.    حوار الله مع البشر

          انه حوار الروح القدس والكلمة المتجسّد، حوار الخلاص. فالكلمة تزرع بين الشعوب وفي حضاراتهم وانظمتهم بذور الحقيقة والنعمة. والروح القدس يقودهم الى الحقيقة الكاملة والى الخلاص بالمسيح. اما الخطيئة فلا تستطيع احباط تصميم الله.

          الخلق  والخلاص يتواصلان. ذلك ان الخلاص مقدّم بالمسيح لجميع الناس، بدون تمييز لأحد، وبدون استثناء احد. انه يأتي من الله ويُعطى مجاناً: " اذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمّدوهم بأسم الآب والابن والروح القدس (متى28/19). ان الذين يقبلون عطية الخلاص في قلوبهم بالخضوع لشريعة الله، وعيشها بالمحبة، انما يشاركون نوعاً ما في طاعة المسيح للآب وفي حبه. بينما يريد الله ان يبلغ جميع الشعوب الى معرفة المسيح ابنه بواسطة الايمان والمعمودية، فانه يريد ايضاً ان يشمل خلاصه الاناس الذين لا يعرفونه، عن غير خطأ منه، ولكن لاسباب تاريخية وثقافية. انه يقدم للجميع امكانية الانضمام الى سره الفصحي[2].

          ان الروح القدس الذي كان يرفرف على المياه ( تكوين1: 2)، يفعل في العالم منذ بداية الخلق واضعاً فيه الترتيب والانسجام والجمال بالرغم من الفوضى. ان مجال عمله يحيط بمجمل الخلق وبخاصة العائلة البشرية. حيث الروح هناك خليقة جديدة. بحلوله يوم العنصرة صارت جماعة المؤمنين كنيسة، وتحوّل التلاميذ الى مرسلين على صورة معلمهم.  وهو عينه يجمع المؤمنين في الوحدة الافقية فيما بينهم، والاتحاد العمودي مع الله، في سرّ الشركة.

      ابناء الكنيسة عامة،  وفي لبنان خاصة، مدعوون الى ان ينفتحوا لعمل الروح القدس. فهو وحده يستطيع ان يقود المؤمنين الى التوبة والى ادراك دعوتهم فتستأنف كنيستنا سيرها بحيوية جديدة، وتعمل من اجل المصالحة بين المسيحيين انفسهم، وبين المسيحيين ومواطنيهم.

           عندئذ يحقق الروح سرّ التأليه فينا وينتشر ملكوت الله على ارضنا، وبذلك نواصل رسالة المسيح في العالم، وهي ان يبلغ الجميع الى معرفة الحقيقة والى الخلاص بالمسيح[3].

          ان سلسلة نسب يسوع المنسقة للاجيال (متى1/17) تعني ان حضور الروح القدس في العالم وفي الثقافات وفي الاديان، انما يهدف الى ان يقود جميع الناس الى سرّ المسيح. فهو يهيئهم، ويغمرهم بنعمته، لكي يجتذبهم الى المسيح بمواهب الفهم والعلم والمشورة.

 

***

 

ثانياً، الكاهن والليتورجيا

 

          الكاهن، وكيل اسرار الله، يمارس هذه المهمة في الاحتفالات الليتورجية ولاسيما في الاسرار. عليه ان يدرك، في ممارسة وكالته هذه، انه يساهم باسم الكنيسة ومعها ومع الروح القدس في اظهار المسيح وعمله الخلاصي. فالليتورجيا هي العمل المشترك بين الروح القدس والكنيسة[4].

          1. دور الكاهن ان يهيء المؤمنين لعمل الروح القدس من خلال القراءات المقدسة والكرازة والتعليم اثناء الاحتفالات الليتورجية والاسرارية. فيساعدهم على ان يفتحوا عقولهم وقلوبهم بايمان مخلص لفهم الكلمة وتدبير الله الخلاصي على هدي الروح القدس. هو يذكّرهم بمعنى الحدث الخلاصي. ويعطي حياة للكلمة التي يتلقونها من فم الكاهن، ويحيي الصلوات والاناشيد والافعال والعلامات التي يقيمها الكاهن والجماعة. وهو يضع الكاهن المؤمنين في علاقة حيّة مع المسيح، كلمة الله وصورته، ويمكّنهم من ان يُدخلوا في حياتهم معاني ما يسمعون ويشاهدون ويتموّن في الاحتفال الليتورجي والاسراري[5].

 

          2. لا يغيبنّ عن بال الكاهن ان الليتورجيا لا تذكّر فقط بالاحداث الخلاصية، بل تحققها الآن وهنا، وتجعلها حاضرة وفاعلة في المؤمنين، بحلول الروح القدس وفعله. الكاهن والجماعة لا يكرران سرّ المسيح الفصحي، بل يحتفلان به. الاحتفالات تعاد، ولكن يوجد فيها حلول الروح القدس الذي يحقق الآن وهنا السّر الواحد والوحيد.

 

          3. هو الكاهن يلتمس من الآب ان يرسل روحه القدوس لكي تصبح القرابين جسد المسيح ودمه، ولكي يصبح المؤمنون، بقبولهم الجسد والدم، قرباناً حيّاً لله. ويصلي مع الجماعة لينال، الذين يقبلوا الروح بايمان، الحياة الجديدة، عربوناً للميراث الابدي، وليدخلوا بعمل الروح عينه في شركة مع المسيح، ويؤلفوا جسده الحي. ان عمل الروح فيهم يشبه الماوية التي تحيي اغصان الشجرة، وتخصبها لتحمل ثماراً وافرة (يو15: 1-17؛ غلاطية 5: 22)[6].

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         ان الخطة الراعوية تستعيد، بمناسبة مسيرة الاجيال نحو المسيح، رجاء الشعوب وقبلة آمالهم، النص المجمعي الاول: كنيسة الرجاء، لانه يضيء على مسيرة حياتنا وحياة كنيستنا والوطن.

         1. نحن ننتمي الى كنيسة الرجاء المدعوة لبناء ملكوت الله في العالم بثبات وثقة بالمسيح وبمواعيده. فالمسيح رجاؤنا كراع صالح يعرف خرافه الناطقة، ويقودها الى ينابيع الحياة الالهية، ويحميها من ذئاب الشر والاضطهاد. وهو رجاؤنا لكونه النور الحقيقي الذي ينير العالم في ظلماته المادية والروحية، الاجتماعية والمعنوية. وهو رجاؤنا لانه قدرة الله التي انتصرت على الخطيئة والموت واحلّت في العالم شريعة الحقيقة والعدالة والحرية والمحبة [7].

 

         2. يقتضي منا الرجاء ان نرسّخه في ذاكرتنا التاريخية، ونتمسّك بالامانة للانجيل وللكنيسة وللوطن التي ميّزت تاريخنا. كما يقتضي من ابناء كنيستنا وبناتها ان يحملوا رسالة تراثها الانطاكي السرياني على اصالته، ويتفاعلوا مع مجتمعهم روحياً وخلقياً وثقافياً، ويتعاونوا مسكونياً مع الكنائس بروح الوحدة في المحبة، ويقيموا حوار الحياة مع الاديان الاخرى، ويواصلوا الانفتاح الثقافي النهضوي على محيطهم الشرق اوسطي وعلى الغرب، مستلهمين الفكر والرؤية والتوجيه من الكنيسة[8].

 

         3. الرجاء التزام بما يطلبه المسيح منا وتعمل الكنيسة من اجله. انه التزام بصنع الحقيقة بالمحبة، وباحياء التضامن في ما بيننا ومع سائر مواطنينا، من اجل بناء حضارة المحبة. وهو التزام برسالة الحرية والعدالة والمساواة في مجتمعنا، تعزيزاً لكرامة الشخص البشري، وتأميناً لحقوقه[9].

 

         4. هذا الرجاء هو موضوع صلاتنا. نرفعها الى المسيح، الرجاء الوحيد للمؤمنين، لانه مخلص العالم ولا يخيّب المتكلين عليه. اليه نلتجىء لطلب المعونة، لاننا لا نعرف باباً آخر نقرعه غير بابه. وفي الضيقات والمحن نلوذ اليه، متذكرين مآثر الله مع شعبه، لان رجاءنا به، واتكالنا عليه، واياه ندعو. كل صلواتنا الليتورجية مفعمة بهذا الرجاء الذي هدى الابرار، وقوّى الشهداء وعزّى الموتى[10].

 

***

         صلاة 

         ايها المسيح رجاء الشعوب ومحطّ آمالهم وانتظاراتهم، اليك نرفع عيوننا وقلوبنا، انت الراعي الصالح، والنور الحقيقي، والقدرة الالهية الفاعلة في تاريخ البشر. حقق فينا مواعيدك الكهنوتية والملوكية. قدّسنا بنعمة خلاصك، شددنا في حضارة المحبة والحقيقة والعدالة. وليأتِ روحك القدوس، ويُدخلنا في شركة حياة وحوار وصلاة مع الله، ومع جميع الناس ذوي الارادة الحسنة. وليحقق فينا روحك القدوس، من خلال المشاركة  الواعية في الليتورجيا والاسرار، ثمار الفداء التي تفيض من ذبيحة جسدك ودمك، ايها المسيح الفادي والمخلص للجنس البشري باسره. اعضد كنيستك لتظل علامة الرجاء المرفوعة لجميع الشعوب، واداة الرجاء، فنرفع جميعنا المجد والتسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . دستور الوحي الالهي،3.

[2] . الكنيسة في عالم اليوم، 22.

[3] . رجاء جديد للبنان، 24-26.

[4] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1091.

[5] . المرجع نفسه، 1100-1101

[6] . المرجع نفسه، 1104-1108.

[7] . النص الاول: كنيسة الرجاء،1 ؛ رجاء جديد  للبنان، 28-36.

[8] . المرجع نفسه، 18 و21.

[9] . المرجع نفسه، 24 و25.

[10] .المرجع نفسه، 5-8.

 


 

ميلاد الرب يسوع

عبرانيين 1: 1-12

لوقا 2: 1-20

تأنس الله ليؤلّه الانسان

 

         ميلاد المسيح، ابن الله، هو الحدث الاعظم والأفراح في تاريخ البشر وتاريخ الخلاص. الله يصير انساناً، ليؤله الانسان، بميلاده كان الخلاص للبشر اجمعين، وتحقق مجد الله، وحلّ السلام على الارض، واستقرّ الرجاء في القلوب. وبميلاده، انبلج النور الالهي في ظلمة العالم، واُعطي سبب للحياة البشرية والعمل من خلال رعاة بيت لحم، وسمعت اناشيد ليتورجيا السماء التي تَردد صداها في ليتورجية الارض. ابن الله يُحصى في سجلات البشر، لكي يُحصي جميع الناس المتحدين به في سجل الخلاص الابدي. يولد في بساطة المذود وفقره، ليرسم في العالم طريق التواضع والبساطة والغنى بالله.

         في الرسالة الى العبرانيين، يؤكد بولس الرسول ان الله دخل في حوار دائم مع بني البشر، من خلال الكلمة المتجسّد. انه تمام كلامه القديم والجديد، فقد قال به كل شيء. بالالوهة هو كل حقيقة الله، فهو " شعاع مجده، وصورة جوهره" ( عبرانيين 1:3)، وبالبشرية هو كل حقيقة الانسان، المخلوق على صورة الله، ووريث الملكوت الالهي، المدعو ليسلك، وفقاً لمسحة الروح القدس الملوكية، بالاستقامة والبر ومحاربة الاثم.

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

من انجيل القديس لوقا 2/ 1-20

         وفي تِلْكَ الأَيَّام، صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أَغُوسْطُسَ قَيْصَرَ بِإِحْصَاءِ كُلِّ الـمَعْمُورَة. جَرَى هـذا الإِحْصَاءُ الأَوَّل، عِنْدَمَا كانَ كِيرينيُوسُ والِيًا على سُورِيَّا. وكانَ الـجَمِيعُ يَذهَبُون، كُلُّ واحِدٍ إِلى مَدِينَتِهِ، لِيَكْتَتِبوا فِيهَا. وَصَعِدَ يُوسُفُ أَيضًا مِنَ الـجَلِيل، مِنْ مَدينَةِ النَّاصِرَة، إِلى اليَهُودِيَّة، إِلى مَدينَةِ دَاوُدَ الَّتي تُدْعَى بَيْتَ لَحْم، لأَنَّهُ كَانَ مِن بَيْتِ دَاوُدَ وعَشِيرَتِهِ، لِيَكْتَتِبَ مَعَ مَرْيَمَ خِطِّيبَتِهِ، وهِيَ حَامِل. وفِيمَا كانَا هُنَاك، تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِد، فوَلَدَتِ ابنَهَا البِكْر، وَقَمَّطَتْهُ، وأَضْجَعَتْهُ في مِذْوَد، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ في قَاعَةِ الضُّيُوف. وكانَ في تِلْكَ النَّاحِيَةِ رُعَاةٌ يُقِيمُونَ في الـحُقُول، ويَسْهَرُونَ في هَجَعَاتِ اللَّيْلِ على قُطْعَانِهِم. فإِذَا بِمَلاكِ الرَّبِّ قَدْ وقَفَ بِهِم، ومَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ حَولَهُم، فَخَافُوا خَوفًا عَظِيمًا. فقالَ لَـهمُ الـمَلاك: "لا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِلشَّعْبِ كُلِّهِ، لأَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ اليَوْمَ مُخَلِّص، هُوَ الـمَسِيحُ الرَّبّ، في مَدِينَةِ دَاوُد. وهـذِهِ عَلامَةٌ لَكُم: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا، مُضْجَعًا في مِذْوَد!". وانْضَمَّ فَجْأَةً إِلى الـمَلاكِ جُمْهُورٌ مِنَ الـجُنْدِ السَّمَاوِيّينِ يُسَبِّحُونَ اللهَ ويَقُولُون: "أَلـمَجْدُ للهِ في العُلَى، وعَلى الأَرْضِ السَّلام، والرَّجَاءُ الصَّالِحُ لِبَني البَشَر". ولَمَّا انْصَرَفَ  الـمَلائِكةُ عَنْهُم إِلى السَّمَاء، قالَ الرُّعَاةُ بَعْضُهُم لِبَعْض: "هيَّا بِنَا، إِلى بَيْتَ لَحْم، لِنَرَى هـذَا الأَمْرَ الَّذي حَدَث، وقَد أَعْلَمَنا بِهِ الرَّبّ". وجَاؤُوا مُسْرِعِين، فوَجَدُوا مَرْيمَ ويُوسُف، والطِّفْلَ مُضْجَعًا في الـمِذْوَد. ولَمَّا رَأَوْهُ  أَخبَرُوا بِالكَلامِ الَّذي قِيلَ لَهُم في شَأْنِ هـذَا الصَّبِيّ. وجَمِيعُ الَّذِينَ سَمِعُوا، تعَجَّبُوا مِمَّا قَالَهُ لَهُمُ الرُّعَاة. أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ هـذِهِ الأُمُورَ كُلَّهَا، وتتَأَمَّلُهَا في قَلْبِهَا.ثُمَّ عَادَ الرُّعَاةُ وهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ ويُسَبِّحُونَهُ على كُلِّ ما سَمِعُوا ورأَوا، حَسَبَما قِيْلَ لَهُم.

 

1.     حدث الميلاد في ملء الزمن

          كان ميلاد الرب يسوع في ظرف تاريخي محدد: في عهد اغسطس        قيصر امبراطور روما، وفي زمن ولاية قيرينيوس حاكم سورية، بمناسبة الاحصاء العام الذي امر به القيصر الروماني. معروف ان اغسطس قيصر كان امبراطوراً من سنة 29 ق.م. الى سنة 14 بعد المسيح. وكان قيرينيوس حاكماً منذ سنة 12 ق.م. وتمّ الميلاد في بيت لحم، مدينة داود، في مذود، لعدم وجود مكان في المضافة.

          جاء الحدث نتيجة تحضير طويل من قبل الله، بدأ مع اول اعلان لمجيء المخلص بوجه خطيئة آدم وحواء (تك3/15). وتواصل بنبوءات الانبياء، وبخاصة اشعيا: " ها ان العذراء تحبل فتلد ابناً يسمونه عمانوئيل، " الله معنا" (اش7/14)، وميخا: " وانت يا بيت لحم، منك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي"  (ميخا5/2). وتزامن مع ظرف اداري، اذ بسبب الاحصاء العام، سافر يوسف ومريم الحامل من الناصرة بلدتهم الى بيت لحم مدينتهم الادارية، فتمّ فيها مولد يسوع كما تنبأ ميخا. هذا ما سماه بولس الرسول " ملء الزمن": " ولما بلغ ملء الزمن، ارسل الله ابنه مولوداً من امرأة، وكان تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس، وننال نحن منزلة البنين" ( غلاطية 4/4-5).

          يقول البابا يوحنا بولس الثاني ان " ملء الزمن يعني بلوغ غاية الزمن وخروج الانسان من كيانه المحدود ليجد ملء كماله في ازلية الله"[1]. بتأنس الاله يتأله الانسان، كما يقول اباء الكنيسة. هكذا يصبح حدث ميلاد المسيح حدثاً خاصاً بكل انسان. فالكل مدعوون للولادة الجديدة في الحياة الالهية: " لا يستطيع احد ان يدخل ملكوت الله ما لم يولد ثانية" ( يوحنا 3/3 و5). بميلاد المسيح الكلمة اصبح الزمن بعداُ الهياً، ينشأ منه واجب تقديس الزمن، كمسرح يتجلّى فيه حضور الله، ويتحقق تاريخ الخلاص، ويؤدي الانسان دوره فيه، ويهيء ابديته.

          أما تاريخ الميلاد فنجهل يومه وساعته. كان الاحتفال بالميلاد يتم حتى الجيل الرابع في 6 كانون الثاني، تحت اسم "عيد " الدنح" اي الظهور. وكان يشمل الاحتفال ظهور الله الواحد والثالوث في كل من الميلاد، ومعمودية يسوع، وآية قانا الجليل.

          في العام 353 بدأ الغرب رسمياً الاحتفال في 25 كانون الاول، لان المجتمع الوثني اصلاً والمسيحي ارتداداً كان يحتفل ما بين 17 و24 كانون الاول بعيد طلوع الشمس فوق الافق، استعداداً لعيد الاله الشمس " جانوس" (Junus) الذي منه أُخذ اسم كانون الثاني في اللغات المتحدرة من اللاتينية ( Janvier – Januarius) والذي كان له وجهان: وجه ملتفت الى الماضي، ووجه متجه الى المستقبل. فاعطى المسيحيون هذا العيد معنى جديداً، وهو الاحتفال بطلوع النور الحقيقي على العالم، نور المسيح: " في هجعة الليل أشرق مجد الرب عليهم" (لو2/8-9). سأل المجوس القادمون من المشرق الى اورشليم: " اين ملك اليهود الذي ولد، فقد رأينا نجمة طالعاً، فجئنا لنسجد له" ( متى 2/1-2). وشهد يوحنا الانجيلي عن الكلمة الذي صار بشراً: " هو النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم" (يو1/9). وله شهد سمعان الشيخ متنبئاً: " ابصرت عيناي خلاصك، ذاك الذي اعددته امام جميع الامم نوراً ينجلي للشعوب" (لو2/30 -32). وفيما بعد يعلن يسوع عن نفسه: " انا النور، جئت الى العالم، حتى لا يمكث في الظلام كل من يؤمن بي" (يو12/46). فأصبح عيد الميلاد في 25 كانون الاول، ويبدأ في منتصف الليل لأن يوماً جديداً ينبثق معه. وحدد التقليد مولد يسوع في منتصف الليل استناداً الى نبؤة من سفر الحكمة: "وبينما كان صمت هادىء يخيّم على كل شيء وكان الليل في منتصف مسيره السريع، وثبت كلمتك القديرة من السماء، من العرش الملكي، كالمحارب العنيد، في وسط الارض الملعونة" (حكمة 18/14-15). انه المسيح: " في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله... والكلمة صار بشراً وحلّ بيننا، فرأينا مجده، المجد الذي له من الآب،كابن وحيد مملؤ نعمة وحقاً (يو1/1و14).

 

          2.رموز الميلاد 

          المغارة 

          "وضعته في مذود، لانه لم يكن لهما موضع في المضافة" ( لو2/7). المضافة دار مؤلفة من قاعة كبيرة ينزل فيها الزائرون والحجاج. وبالطبع لا يتوفر فيها المكان للولادة الطفل، فانحازت مريم الى زريبة الحيوانات المجاورة وأضجعت ابنها في " مذود" حيث الدفء. ابن الله وخالق الكون، سليل داود الملك، كافي كل حي من عطاء يده، يولد فقيراً في مذود حقير. يشرح بولس الرسول معنى ذلك:  " انتم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح الذي، وهو الغني، صار فقيراً لأجلكم، لتغتنوا انتم بفقره" ( 2كور8/9). فكان هذا الحدث اساساً للتضامن الاجتماعي، وللالتزام بخدمة الفقراء، روحياً ومادياً ، ثقافياً ومعنوياً. هذه حضارة الفقر الانجيلي، في وجه " شهوة العين": " طوبى للفقراء بالروح، فان لهم ملكوت السماء" ( متى 5/3)، وحضارة التضامن الانساني: " كنت جائعاً، عطشاناً، غريباً ، عرياناً، مريضاً، ومحبوساً ( متى 25/35-36).

          بدأ في القرن الحادي عشر تمثيل ليتورجي للميلاد: فكان المذبح في الكنائس بمثابة المذود، اذ عليه يسوع المسيح يصبح حاضراً تحت شكلي الخبز والخمر بعد تقديسهما. يأخذ الميلاد مفهومه من سرّ الفصح. في سنة 1223 جمع فرنسيس الاسيزي المؤمنين وأحيوا قداس الميلاد في مغارة في منطقة اسيزي ووضعوا فيها حماراً وثوراً، وخلقوا اطاراً يذكّر بمجيء المخلص الى الارض، دونما تمثيل ليسوع ومريم ويوسف. فالمسيح كان حاضراً في سرّ القربان، ومريم ويوسف متمثلان بجماعة المؤمنين. تمثيل الحمار والثور في مغارة الميلاد مأخوذ من اشعيا " عرف الثور مالكه، والحمار معلف صاحبه. لكن اسرائيل لم يعرف وشعبي لم يفهم" ( اشعيا 1/3).

 

          شجرة الميلاد 

          عادة مسيحية ترقى الى القرن الحادي عشر، وترمز الشجرة الى النور والحياة. الشجرة المملوءة اثماراً ترمز الى شجرة الفردوس التي تمثل الكون والحياة، اذ لا حياة الا من الله وفي الله. موضوع الشجرة مأخوذ من الكتاب المقدس: شجرة الحياة في الفردوس الارضي ( تك 2/9)، شجرة يسىّ التي منها تحدّر المسيح (اشعيا 21/1)، شجرة المسيح والكنيسة (يوحنا 165/1)، شجرة الصليب ( آباء الكنيسة)، شجرة الحياة التي يقتات منها المنتصرون (رؤيا2/7). ثم ابتداءً من القرن السادس عشر دخلت عادة الشجرة المضاءة بالشموع، واليوم بالكهرباء، للدلالة على نور المسيح. الذي يواكب اشواط الحياة. شجرة الميلاد تعني ان من المسيح تنبثق الحياة وينبلح النور، وبدونه موت وظلمة (انظر يو 1/1-5).

 

          بابا نويل 

          اصول بابا نويل قديمة قبل المسيح. كانت في روما عادة تبادل الهدايا في عيد الالهة Strenia  التي منها في الفرنسية كلمة  étrennes  في العربية البسترينه اي " الصباحية" ، هدية يوم رأس السنة. ثم دخلت في اوروبا الشمالية اسطورة الاله Odin الذي كان يأتي على حصان من فوق الغيوم ويحمل هدايا للاطفال مكافأة لهم على حسن سلوكهم. بعد الحملات الصليبية، حمل جندي فرنسي من الشرق الى اللورين اسطورة عن القديس نيفقولاوس ( + 342). ففي يوم عيده، في 6 كانون الاول،  كان ينتقل من سطح الى سطح، ويضع هدايا في احذية الاطفال الموضوعة امام الموقدة. ثم حلّ محله فيما بعد يسوع الصغير الذي يوزع هداياه ليلة 24 -25 كانون الاول. اما بابا نويل فبدأ في الولايات المتحدة منتصف القرن التاسع عشر كتذكار للقديس نيقولاوس. لكن العلمنة المستشرية افرغت معنى الميلاد في حضارة اليوم. فاذا بالفلكور يتآكل اعيادنا، والوثنية المكنونة فينا تبتلع روحانية العيد، وتجعل الدين مناسبة للكسب والاستهلاك. لكن الميلاد هو سرّ ميلاد كل انسان في الحق والحب. 

          3. الرعاة والمجوس

 

         الرعاة جماعة الوضعاء والفقراء والامّيين والعائشين على هامش احكام الشريعة. سمعوا البشرى حيث هم باعلان الملائكة وتسبيح الجند السماويين. صدّقوا الخبر واسرعوا الى المذود، فرأوا وآمنوا وسبّحوا ( لو2/8-20).

          المجوس يمثلون فئة ملوك العلماء والمثقفين والاغنياء، قرأوا البشرى في حركة النجوم وهي ان ملكاً لليهود ولد في اليهودية، وساروا على هدي نجم اقتادهم من بلاد فارس (ايران) الى المنزل حيث كان الطفل، فدخلوا ورأوا الطفل مع امه، فسجدوا له، وفتحوا ذخائرهم وقدموا له الهدايا، ذهباً وبخوراً ومراً (متى 2/11). فكانت في الهدايا نبوءة عن المولود الجديد: " الملك المتمثل بالذهب والكاهن بالبخور، والفادي بالمرّ للحنوط.

          اعتبر التقليد ان المجوس ملوك، وفي القرن الخامس تبنّى اوريجانس والبابا القديس لاوون الكبير عددهم بثلاثة. واُعُطوا في القرن السابع اسماء وفي القرن الخامس عشر الواناً، فهم ملكيور ولونه ابيض، وغسبار اصفر، وبلتازار اسود، كرمز للبشرية جمعاء.

          الرعاة والمجوس ونحن ومن سيأتي بعدنا نقول مع يوحنا الرسول: " نحن رأينا ونشهد ان الآب ارسل ابنه مخلصاً للعالم. فمن اعترف ان يسوع هو ابن الله يقيم الله فيه، وهو في الله يقيم" ( 1 يو 14-15).

 

اننا مع الرعاة نعرفه لالوحي، ومع المجوس بالعلم.

صلاة 

ليلة الميلاد، يُمّحى البغضُ، ليلة الميلاد، تُزهر الارضُ

ليلة الميلاد، تدفنُ الحربُ، ليلة الميلاد، ينبتُ الحب.ُّ

عندما نسقي عطشان كأس ماء، نكون في الميلاد.

عندما نكسو عرياناًً ثوبَ حبّ، نكون في الميلاد.

عندما نكفكفُ الدموعَ في العيون، نكون في الميلاد.

عندما نفرشُ القلوبَ بالرجاء، نكون في الميلاد.

 

ولد المسيح.... هللويا!


[1] . اطلالة الالف الثالث، 9.

 


 

عيد رأس السنة 2010

عيد اسم يسوع ويوم السلام العالمي

يوحنا 14: 27-31 ولوقا 2: 21-24

يسوع المسيح مخلصنا وسلامنا

 

         نجمع معاً ثلاثة اعياد: عيد اسم يسوع بمناسبة ختانته وهو بعمر ثمانية ايام (لو2: 21-24)، ويوم السلام العالمي بعنوان: "اذا اردت ان تبني السلام، فاحمِ الخلق"؛ وعيد العائلة المقدسة، بمناسبة وجود الصبي يسوع، وهو في الثانية عشرة من عمره، في الهيكل بين العلماء، وعودته الى الناصرة وحياته العائلية، حيث راح ينمو بالقامة والحكمة والنعمة امام الله والناس.

 

اولاً، عيد اسم يسوع- ختانة الطفل

 

         من انجيل القديس لوقا 2: 21-24.

         ولَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيُخْتَنَ الصَّبِيّ، سُمِّيَ "يَسُوع"، كمَا سَمَّاهُ الـمَلاكُ قَبلَ أَنْ يُحْبَلَ بِهِ في البَطْن. ولَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرهِمَا بِحَسَبِ تَورَاةِ مُوسَى، صَعِدَا بِهِ إِلى أُورَشَلِيمَ لِيُقَدِّماهُ للرَّبّ، كمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في شَرِيعَةِ الرَّبّ: "كُلُّ ذَكَرٍ فَاتِحِ رَحِمٍ يُدْعَى مُقَدَّسًا لِلرَّبّ"، ولِكَي يُقدِّمَا ذَبِيحَة، كَمَا وَرَدَ في شَرِيعَةِ الرَّبّ: "زَوجَيْ يَمَام، أَو فَرْخَيْ حَمَام".

         ابن الله تجسّد واُعطي في التاريخ اسم " يسوع" الذي معناه " الله الذي يخلص شعبه من خطاياه" ( متى1:  ). الاحتفال باسم يسوع اعلان لايماننا بأنه اتى لخلاصنا بمصالحتنا مع الله الذي " هكذا أحب العالم حتى انه ارسل ابنه كفارة عن خطايانا" و " مخلصاً للعالم" (يو4: 10؛ 4: 14).

         كتب القديس غريغوريوس النيصي:

         " ان طبيعتنا المريضة تطلب ان تشفى؛ والساقطة ان تنهض؛ والميتة ان تقوم. لقد خسرنا امتلاك الخير، فينبغي ان يُعاد الينا. لقد انغلقنا في الظلمة، فينبغي ان نستنير. نحن مخطوفون، ننتظر مخلصاً؛ واسرى ننتظر مساعد"؛ وعبيد ننتظر محرراً[1].

         الاحتفال باسم يسوع  التزام منا بالدخول في تصميم الله الخلاصي، وهو الغاية من تجسّد ابن الله الذي كثيراً ما ردد: " طعامي ان اعمل ارادة الذي ارسلني، وأتمم عمله" (يو4: 34؛ انظر ايضاً يو 6: 38). لا تقف معرفتنا ليسوع عن حدود العقل والايمان اللفظي، بل تدعونا الى طاعة الايمان، بالسعي الى الخلاص من خطايانا بنعمة اسرار الخلاص المتفجرة من موت المسيح لفدائنا، ومن قيامته لتبريرنا.

 

ثانياً، يوم السلام العالمي

 

         تحتفل الكنيسة، في الاول من شهر كانون الثاني/ يناير، بيوم السلام العالمي، وقد اختار له قداسة البابا بندكتوس السادس عشر موضوع الرباط بين السلام والبيئة الطبيعية، فكان العنوان: "اذا اردت ان تبني السلام، فاحمِ الخلق". ووجّه كعادته لهذه المناسبة رسالة توسّعت بالموضوع.

         1. تبيّن الرسالة الرباط الوثيق القائم بين حماية المحيط الطبيعي وبنيان السلام الشخصي والجماعي، في عالمنا المعولم والمترابط. ان محيط الانسان الطبيعي يشمل استعمال الثروات الطبيعية، ومتغيرات الطقس، واستخدام تقنيات الحياة، والنمو الديموغرافي. اذا لم تحسن العائلة البشرية مواجهة هذه التحدّيات الجديدة بحسّ متجدد للعدالة الاجتماعية والانصاف والتضامن الدولي، فقد تتسبب بزرع العنف بين الشعوب والاجيال الحاضرة والمستقبلة.

         2. تستلهم رسالة قداسة البابا ما جاء في الفقرات 48-51 من رسالته العامة: " المحبة في الحقيقة"[2].

         " البيئة الطبيعية" عطية من الله لجميع الناس. استعمالها مسؤولية تجاه الفقراء والاجيال الآتية بل والبشرية جمعاء. ان المؤمن يرى في الطبيعة عمل الله الخالق، وان الانسان يستطيع استعمالها لتلبية حاجاته الشرعية، المادّية وغير المادية، باحترام التوازنات الخاصة بالخلق. اذا فقد الانسان هذه الرؤية، ينتهي إما الى اعتبار الطبيعة واقعاً لا يُمسّ، وإما الى الافراط في استعمالها (الفقرة 48).

         الطبيعة تعبير عن تصميم الحب والحقيقة، هي تسبق الانسان وقد اعطاناها الله كمحيط للحياة. فيجدر بالاسرة الدولية تنظيم استغلال ثروات الطاقة الطبيعية التي لا تتجدد، لكي تحميها من استئثار الدول الغنية لها، على حساب الدول الفقيرة. مثل هذا الاستئثار سرعان ما يولّد نزاعات تؤدي الى نتائج وخيمة كالقتل والدمار واضرار اخرى. تقضي الحاجة الادبية الملحّة ان يقوم تضامن في العلاقات بين الدول الصناعية الكبيرة والدول التي في طور النمو، وان يصار الى اعادة توزيع ثروات الطاقة لكي يُتاح للدول البلوغ اليها. ولا بدّ ايضاً من تحسين انتاج الطاقة، والبحث عن طاقات رديفة. انها مسؤولية تجاه العديد من الشباب، في الدول الفقيرة، الذين يطالبون بدورهم الفاعل في بناء عالم أفضل (الفقرة 49).

         ثمة عهد بين الكائن البشري والبيئة الطبيعية. سلامه منوط بحمايتها وتثميرها والافادة منها بصيغ جديدة وتقنيات متقدمة، بحيث تتمكن الارض من استقبال سكانها بكرامة وتغذيتهم بكفاية، ومن ان تبقى للاجيال الجديدة بحالة تؤمّن لهم سكنها بما يليق، ومواصلة استثمارها ورعايتها. من واجب الاسرة الدولية والحكومات المحلية مواجهة اي استغلال للبيئة تكون نتائجه وخيمة (الفقرة 50).

         ان مقتضيات حماية الخلق من اجل توطيد السلام توجب تغييراً حقيقياً في الذهنيات وفي انماط الحياة. فلا يعيش الانسان بذهنية الروح الاستهلاكية، بل يستوحي خياراته، في الاستهلاك والتوفير والتثمير، البحث عن ما هو حق وخير وجمال، والشركة مع جميع الناس من اجل النمو المشترك (الفقرة 51).

         3. يشدد قداسة البابا بندكتوس في رسالته ليوم السلام العالمي على الطابع الملحّ لحماية المحيط الطبيعي الذي يشكل تحدياً كبيراً للبشرية جمعاء. هذه الحماية الملحّة تُترجم في واجب احترام الخير المشترك المعدّ للجميع، بحيث يعيشون في بيئة سليمة، وينعمون بثرواتها الطبيعية، ويبنون سلامهم الشخصي والجماعي. ان سكان الارض مدعوون ليعوا الترابط الذي يجمعهم بعضاً الى بعض بروح التضامن والمسؤولية المشتركة.

 

***

 

ثالثاً، العائلة المسيحية على صورة عائلة الناصرة

 

         من اجيل القديس لوقا 2: 41-52

         وكانَ أَبَوَا يَسُوعَ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ في عِيدِ الفِصْحِ إِلى أُورَشَليم. ولَمَّا بَلَغَ يَسُوعُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدُوا مَعًا كَمَا هِيَ العَادَةُ في العِيد. وبَعدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ العِيد، عَادَ الأَبَوَان، وبَقِيَ الصَّبِيُّ يَسُوعُ في أُورَشَلِيم، وهُمَا لا يَدْرِيَان. وإذْ كَانَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ في القَافِلَة، سَارَا مَسِيرَةَ يَوْم، ثُمَّ أَخَذَا يَطْلُبانِهِ بَيْنَ الأَقارِبِ    والـمَعَارِف. ولَمْ يَجِدَاه، فَعَادَا إِلى أُورَشَليمَ يَبْحَثَانِ عَنْهُ. وَبعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّام، وَجَدَاهُ في الـهَيكَلِ جَالِسًا بَيْنَ العُلَمَاء، يَسْمَعُهُم ويَسْأَلُهُم. وكَانَ جَمِيعُ الَّذينَ يَسْمَعُونَهُ مُنْذَهِلينَ بِذَكَائِهِ وأَجْوِبَتِهِ. ولَمَّا رَآهُ أَبَوَاهُ بُهِتَا، وقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: "يا ابْنِي، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هـكَذا؟ فهَا أَنَا وأَبُوكَ كُنَّا نَبْحَثُ عَنْكَ مُتَوَجِّعَين!". فَقَالَ لَهُمَا: "لِمَاذَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلا تَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ في مَا هُوَ لأَبي؟". َمَّا هُمَا فَلَمْ يَفْهَمَا الكَلامَ الَّذي كَلَّمَهُمَا بِهِ. ثُمَّ  نَزَلَ مَعَهُمَا، وعَادَ إِلى النَّاصِرَة، وكانَ خَاضِعًا لَـهُمَا. وكَانَتْ أُمُّه تَحْفَظُ كُلَّ هـذِهِ الأُمُورِ في قَلْبِهَا.  وكَانَ يَسُوعُ يَنْمُو في الـحِكْمَةِ والقَامَةِ والنِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ والنَّاس.

         يسوع في الثانية عشرة من عمره يبدأ مرحلة ثانية من حياته الخفية. بدأت الاولى بمولده في بيت لحم وانتهت بعودته الى الناصرة مع ابيه وامه، بعد ختانته، وانهاء عملية الاكتتاب في الاحصاء المسكوني وتسجيل القيود المدنية اللازمة، وهو في اشهر حياته الاولى، هكذا ختم لوقا هذه المرحلة: " وبعدما اتموا كل شيء بحسب ناموس الرب. عادوا  الى الجليل الى الناصرة مدينتهم. وكان الطفل ينمو ويتقوى بالروح ويمتلىء حكمة، وكانت نعمة الله عليه" (لو2/39-40).

         وبدأت المرحلة الثانية بصعود الصبي يسوع الى اورشليم في عيد الفصح حسب العادة في كل سنة،  تواجد في الهيكل بين العلماء، وانتهت بعودته مع ابيه وامه الى الناصرة، وهو في الثانية عشرة من العمر، فعاش فيها  مطيعاً لهما، وكان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة امام الله والناس (لو2/41-52). امتدت هذه المرحلة حتى عمر الثلاثين، فشملت فتوة يسوع وشبابه وسنوات الرشد. وتسمى " حياة يسوع الخفية"، قضاها في الناصرة، يترعرع في العائلة المقدسة، وفي المجتمع الناصري، ويمارس مهنة النجارة مع يوسف ابيه، ويتخللها صعود الى اورشليم في عيد الفصح، كما كانت عادة عائلته.

         اما المرحلة الثالثة فبدأت مع معموديته في نهر الاردن على يد يوحنا المعمدان " في السنة الخامسة عشرة من ملك طيباريوس قيصر في ولاية بيلاطس البنطي على اليهودية، وفي عهد هيرودس رئيس الربع على الجليل وحنان وقيافا عظيمي الكهنة". ويسوع في الثلاثين من العمر " وكان يظن انه ابن يوسف" (لو3/21-23). هذه المرحلة الثالثة تسمى " حياته العامة" السابقة لآلامه وموته وقيامته وصعوده، المعروفة " بمرحلة الفداء والتبرير". ولما بدأ يسوع رسالته الخلاصية، بعمر الثلاثين، حالاً بعد اعتماده في الاردن، وتجربة الشيطان له اربعين يوماً في البرية (لو4/1-13)، اتى الى الناصرة، حيث نشأ، ودخل كعادته الى المجمع يوم السبت، وقام ليقرأ، ففتح سفر أشعيا النبي المكتوب فيه: " روح الرب عليّ مسحني وارسلني..." (لو4/14-18).

التربية في البيت[3]

تربّى يسوع في عائلة الناصرة على يد يوسف ومريم، وقد أمّنا له المعيشة اللائقة لينمو بالقامة والتربية الخلقية والروحية لينمو بالحكمة والنعمة.

ينال الابناء والبنات تربيتهم الاساسية في عائلاتهم التي هي: " المدرسة الاولى" للقيم الخلقية والانسانية والاجتماعية، و "الكنيسة المنزلية" التي تنقل الايمان من جيل الى جيل وتعلّم الصلاة وتحيي الشركة مع الله والناس، و" خلية المجتمع الاساسية" التي يحاك فيها اول نسيج للعلاقات بين الناس" ، و "مشتل الدعوات" حيث يكتشف الشباب دعوتهم في الحياة لعيش " حضارة المحبة" سواء في الحياة الزوجية ام الكهنوتية ام المكرسة في الرهبانية او في العالم.

         يسوع الانسان احتاج، ككل الابناء والبنات، الى تربية في عائلته. فالتربية " عطية حرّة" من الوالدين لاولادهم، تبدأ باعطائهم الوجود البشري في الحبل بهم وانجابهم، ويواصلونها بتربيتهم تربية تدريجية نابعة من الابوة والامومة. وكل مولود جديد يعطي بدوره والديه جدّة ونضارة لانسانيتهم وللانسانية التي يحملها معه الى العالم . والتربية هي التعبير عن " الحب الزوجي" الذي يصبح " الحب الوالدي" في شركة الاشخاص. وهكذا الاهل المربون والخبراء في الانسانية بسبب الحب الزوجي، يتلقنون بدورهم من اولادهم مزيداً من الانسانية بسبب الحب الوالدي. ولفظة  "نحن" التي تجمع الزوج والزوجة تتعمق وتتواصل، عبر الانجاب والتربية، لتصبح " نحن" العائلة.

         بانجاب الحياة يشارك الوالدون في عمل الله الخالق، وبالتربية يشاركون في عمل الله المربي، بابوة  وامومة تنبعان من ابوة الله " الاب الذي منه تُسمى كل ابوة في السماء وعلى الارض" ( افسس3/14-15). ذلك ان الكلمة المتجسد كشف لنا ابوّة الله " واصول التربية الالهية"، وكشف للانسان انسانيته مع بعدها الحقيقي والكامل في البنوّة الالهية، التي تتحقق في السّر الفصحي، سرّ موت المسيح وقيامته. وهكذا كل تربية، في العائلة وخارجها، انما تندرج في البعد الخلاصي الذي تتصف به " اصول التربية الالهية" (pédagogie divine)، لكي تبلغ الى ملء الانسانية. ولهذا قيل: " ان مستقبل البشرية يمرّ عبر الاسرة"  و" مستقبل العائلة يمرّ عبر الاعداد الملائم لها"، و" مستقبل المجتمع مرتبط بالقيم الانسانية والخلقية التي يتربى عليها كل مولود، وهي جزء من جوهر الكائن البشري وحقيقته[4] .

         تعتبر الكنيسة ان تربية الاولاد في العائلة هي " حق للوالدين وواجب عليهم"،ينبعان من الحب الزوجي ويتحققان في الحب الوالدي الغني بالرقة والحنان، والطيبة والتجرد، والثبات وروح التضحية. انه حق وواجب  جوهريان بسبب ارتباطهما الوثيق بانجاب الحياة البشرية، واساسيان لكونهما ينبثقان من رباط الحب الفريد القائم بين الوالدين واولادهم قبل اي شخص آخر، ولا غنى عنهما او بديل بحيث ان حق التربية وواجبها لا يُفوّضان كلياً الى آخرين، ولا يحق لاحد انتزاعهما من الوالدين[5]. ان كل من يقوم بتربية الاولاد، خارج العائلة، في المدرسة او الجامعة او الرعية او اي هيئة اخرى، انما يقوم به باسم الاهل، وبموافقتهم، وبتكليف منهم نوعاً ما، وفقاً " لمبدأ الاستعانة" ( principe de subsidiarité )، وهو ان الاهل هم المربون الاولون لاولادهم لانهم الوالدون، ويشركون في رسالتهم التربوية اشخاصاً آخرين ومؤسسات في الكنيسة والدولة[6].

 

         2. مضمون التربية في البيت

         التربية في البيت حسيّة، وثقافية خلقية، ودينية، اختصرها لوقا الانجيلي بالقول ان الصبي يسوع الذي تربى في الناصرة، في رحاب العائلة المقدسة، " كان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة امام الله والناس".

         وفر يوسف البار ما يلزم ليسوع من غذاء وكساء، وعلمّه الشريعة والمهنة، وفقاً للواجبات المنوطة بالاب. وهذا ما يفعله كل اب وام. فالعمل هو الاساس الذي عليه تقوم الحياة العائلية، وهو بالتالي الشرط اللازم لقيام العيلة لانه يوفر لها الوسائل الضرورية لحياتها، ولتحقيق اهدافها، وفي مقدمتها التربية بكل ابعادها الثقافية والخلقية، الاجتماعية والوطنية.

         ينبغي ان تشمل التربية في البيت: [7]

         أ- التربية على القيم الجوهرية للحياة البشرية وهي التحرر من التعلق بالخيرات المادية والعيش بروح البساطة والتجرد، "فقيمة الانسان في ما هو اكثر منه في ما يملك"؛ روح العدالة والاهتمام بحاجات الغير، ولاسيما الفقراء والمتألمين، بدافع من المحبة وتقاسم خيرات الدنيا الروحية والمادية والثقافية، بروح الترابط والمسؤولية المشتركة.

   ب- التربية على الحب كهبة ذات من خلال الرجولة والانوثة اللتين تميزان شخصية الابن والابنة، وابراز " الجنس" من ناحية  قيمته التي ارادها له الخالق في تكوين شخصية الفرد، وكرامة غايته في اطار الزواج كتعبير عن الاتحاد الروحي بين الزوجين، وعن العهد الذي قطعاه بتبادل هبة الذات كاملة، وكوسيلة مقدسة لنقل الحياة البشرية وقبول شرف الابوة والامومة اللتين تشركهما في ابوة الله الخالق.

   ج- التربية على الطهارة كفضيلة تنمي وتطوّر النضج الاصيل للشخص، وعلى قيمة العفة الزوجية، والبتولية قبل الزواج، وعند من دعاهم الله لتكريسها في الحياة الرهبانية والكهنوت كقيمة ساطعة في العالم بوجه شهوة الجسد والغريزة.

         د- التربية الدينية التي تمكّن العائلة من ان تكون " كنيسة منزلية"، تصيّرها فاعل أنجلة ورسالة. هذه التربية حق للوالدين مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرية الدينية، وبحرية الوالدين في اختيار التربية الدينية والخلقية التي يريدون لاولادهم، والمطابقة لقناعاتهم .

         ه- التربية على السلام، وتشمل التربية على احترام النظام الخلقي والقانوني، وعلى العدالة والتضامن والخير العام، وعلى المحبة التي تنعش العدالة وتكملها، وعلى الغفران الذي بدونه لا سلام . هذه الفضائل تشكّل "حضارة المحبة"." وحيث حضارة المحبة، هناك سلام أصيل ودائم".

****

         صلاة

         ايها الرب يسوع، نحن نؤمن بانك اتيت لتخلص العالم من خطاياه، اجتذبنا اليك لنلتمس منك الخلاص بالتوبة عن خطايانا وقبول نعمة المصالحة من جودة الآب ومحبته. وابعث فينا الحياة الجديدة بالروح القدس.

         ايها المسيح سلامنا، ازرع سلامك في قلوبنا، لنعيشه سلاماً مع الخليقة كلها، ولنعيد الى البيئة الطبيعية جمالها، وهي عطية عجيبة من حكمة الخالق وجودته. يا ابن عائلة الناصرة التي أمّنت لك النمو في القامة والحكمة والنعمة، بارك عائلاتنا بحضورك فيها، ليدرك الازواج قيمة الابوة والامومة، ودعوتهم السامية الى نقل الحياة البشرية وتربيتها بكل ابعادها الروحية والخلقية والاجتماعية. فنرفع المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 465-457

[2] . هذه الرسالة العامة صدرت في 29 حزيران/يونيو 2009.

[3] . راجع رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى العائلات (2شباط 1994)، الفقرة 16.

[4] . البابا يوحنا بولس الثاني: في وظائف العائلة المسيحية، 86؛ خطابه الى المجلس الحبري للعائلة في 30 ايار 1983، وفي 26 ايار 1984؛ انجيل الحياة، 71.

[5] . في وظائف العائلة المسيحية، 36.

[6] . رسالة الى العائلات، 16.

[7] .في وظائف العائلة المسيحية، 37؛ رسالة البابا يوحنا بولس الثاني ليوم السلام العالمي 2004-،9 و10.

 


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code