الانقسام  في رئاسة الكنيسة حيث انتخب الموارنة بطريركان، (رقم 38 ورقم 39)
روايات واستنتاجات، عام 1282\1283، البطريرك  لوقا البهراني والبطريرك أرميا الدلمصاوي
 
 
عام 1282\1283
رواية واستنتاج رقم واحد
مطلع سنة 1282 وجه المماليك حملة كبيرة إلى جبل لبنان بقيادة السلطان قلاوون ولاقاه حسام الدين من دمشق وحاصروا جبة بشري واجتاحوا حصرون والحدث وحاصروا الموارنة المتحصنين في إهدن بقيادة البطريرك دانيال الحدشيتي الذي كان يقود المقاتلين الموارنة بنفسه مدة 40 يوماً، ولم يتمكنوا من إقتحام إهدن إلا بالحيلة بعد أن قبضوا على البطريرك وقتلوه  في أسره، ودفن في إيليج سنة 1282
سبب هذا التدهور والفتنة
في صفوف الموارنة  بسبب بدعة اليعاقبة وانقسام الجسم الماروني عندما قام الموارنة المتورطون في بدعة اليعاقبة والمناوؤن للبطريرك دانيال الحدشيتي، بتسهيل القبض على البطريرك دانيال الحدشيتي. اذ وفروا للماليك ذريعة للقبض عليه. فوشوا به وشايات كاذبة كما يقول الدويهي والقلاعي.

إن أزمة العام 1282 هامة جداً في تاريخ الموارنة، الانقسام الخطير في رئاسة الكنيسة حيث انتخب الموارنة بطريركان.
ظاهرة الانحراف والخيانة والخروج عن الصف الواحد الموحد ليست بظاهرة جديدة، فهي ظاهرة قديمة في كل المجتمعات، يجب أن نفهمها على حقيقتها وببعدها التاريخي وبالتالي نأخذ المثل والاستنتاج منها
كيف يجب على المجتمع وبشكل موحد أن يأخذ القرارات حتى لا يسمح لهكذا ظواهر أن تكبر وأن تؤدي بنتائجها إلى مآسي كبرى للشعوب!

 فكان لهذه الفتنة الاثر السلبي  مارونيا، بانتخاب بطريركين للموارنة:
  1. على اثر ذلك، في سنة 1282، وفي دير سيدة إيليج، انتخب البطريرك لوقا البهراني

    وقد اتخذ مركزاً له في حدث الجبّة
    ، (انه لوقا الاول من بنهران، الكورة، وتسلم من بعد البطريرك دانيال الحدشيتي).
    كان هذا البطريرك  لوقا البهراني من الموارنة الخارجين عن طاعة بابا روما وعن طاعة الفرنج، "الصليبيين" وبهذا الانتخاب اعتمد الًبطريرك جديد على حصانة
     حدث الجبّة
    وموقعها في منطقة جبلية وعرة، كمنطلق يتحدى الموالين لكنيسة روما والفرنج معاً، حتى استفحل أمرُه في منطقته إلى درجة أنه كان يقطع الطرقات والدروب في الجبال، وتسبب في إزعاج الناس وأذيتهم، وامتد أذاه إلى أطراف بلاد المسلمين المحيطة بجبة بشري والحدث، وشكل فرقة مسلحة وأظهر العصيان والإفساد في البلاد، وصار مصدر إزعاج للفرنج والمسلمين معاً، وعجز الفرنج في طرابلس عن القضاء على حركته.
    وقد كتب المؤرخ "ابن عبد الظاهر" مدوّن سيرة الملك "المنصور قلاوون" في حوادث سنة 682هـ/ 1283م. النص التالي:
    "اتفق أن في بلاد طرابلس بَطْركا عتا وتجبّر، واستطال وتكبّر، وأخاف صاحب طرابلس (بوهموند السابع) وجميع الفرنجية، واستقوى أهل تلك الجبال، وأهل تلك الأهوية من ذوي الضلال، واستمر أمره حتى خافه كل مجاور، وتحصّن في الحَدَث وشمخ بأنفه، وما قدر أحد على التحيّل عليه من بين يديه ولا من خلفه. ولولا خوفه من سطوة مولانا السلطان (قلاوون) لخرّب تلك البلاد، وفعل ذلك أو كاد، فاتفق أن النواب ترصدوه مراراً فما وجدوه، فقصد التركمان في مكانٍ وتَحَيّلوا عليه حتى أمسكوه وأحضروه أسيراً حسيراً.  وكان إمساك لوقا البنهراني ه فتوحًا عظيمًا، أعظم من افتتاح حصن أو قلعة"، كما سجّل ابن عبد الظاهر كاتب سيرة السلطان قلاوون في "تشريف الأيّام والعصور بسيرة الملك المنصور".

    وذكر البطريرك "إسطفان الدويهي" في كتابه تاريخ الأزمنة أن أهل القرية "الحدث" (أو الحدَد) كما يسميها الطرابلسيون، هربوا إلى مغارةٍ تُعرف بالعاصي، وهي مغارة جميلة منيعة في وادي قنوبين، فيها صهاريج ماء، فاستمر عليها الحصار مدة سبع سنين، وبنوا برجاً قبالة المغارة، وأبقوا فيه كميناً من العسكر، ثم هدموا جميع الأماكن الحصينة.
     
  2.  في هذه الظروف القاسية والخطيرة اجتمع الأساقفة والكهنة والمقدمين في دير سيدة الدوير الفيدار واشترك في هذا الاجتماع أمير جبيل(اجنبي) "غويدو جبلات" وانتخبوا أرميا الثالث الدملصاوي بطريركا وأرسلوه إلى روما ليطلع البابا "مرتين الرابع" وملوك الغرب على الحالة في جبل لبنان.
    وبما ان السفن في جبيل كانت على إربة الابحار نحو أوروبا اضطر البطريرك إلى مغادرة دير سيدة الدوير على عجل في الليل ليسافر بحراً إلى روما.
    وصل إلى روما بثياب فقيرة حقيرة فأدمع البابا مرتين الرابع لما رآه بهذه الحالة فنزع غفارته وألبسه إياها اذ ظن ان اللصوص سلبوه ثيابه وسأله: "من اعتدى عليك وعرّاك من ثيابك؟" فأخذ البطريرك الإنجيل الذي كان معه وأجاب: "هذا الذي سلبني راحتي وأمرني بالقدوم مسرعاً إليك". فتعجب البابا والحاضرون من تواضعه وقداسته. كان هذا الإنجيل الشهير "انجيل رابولا" الذي رافق البطاركة الموارنة في ترحالهم. هو تراث سرياني نسخه سنة 586  الراهب ربولا في دير مار يوحنا بيت زغبا الذي يقع ما بين انطاكيه وحلب.
     

    على الهامش الأيسر تجاه صورة ابن ارملة نائين في انجيل "رابولا" كتب البطريرك الماروني ارميا الدملصاوي الكتابة السريانية التي ترجمتها ما يلي:  

     "في سنة ألف وخمسماية وتسعين لليونان  الموافقة لسنة 1279  في اليوم التاسع من شهر شباط أتيت انا الحقير أرميا من قرية دملصا المباركة، إلى دير القديسة سيدتنا مريم بميفوق في وادي إيليج من بلاد البترون، لدى سيدي بطرس بطريرك الموارنة ورُسمت بيديه المقدستين مطراناً على دير كفتون ذلك المبني على شاطئ النهر.
    وبقيت هناك أربع سنوات بأيام الرهبان سكان الدير وهم الراهب يشوع ورفيقه إيليا والراهب داود والباقون وعددهم اثنان وثلاثون.
    وبعد أربع سنوات طلبني ملك جبيل والأساقفة والخوارنة والكهنة وألقوا القرعة فأصابيتني وصيّروني بطريركاً بدير حالات المقدس. وبعد ذلك أرسلوني إلى روما المدينة العظمى وتركت اخانا المطران تاودوروس ليدبر الرعية ويسهر عليها".

نجح  المماليك في خرق الصف الماروني، كنيسة وشعب، بالدسائس منها:

دسّ حكام المماليك بعض العملاء في صفوف سكان جبل لبنان، فزرعوا بذور الانشقاق بين الاهالي، و قد أثر ذلك على وحدة وتعايش الاهالي.  و من النكسات التي ادت اليها، دخول الحاكم بزواش من بعلبك الى طرابلس و لكن سرعان ما رئب الصدع   و ازيل الانشقاق و طهرت الصفوف من الشوائب،  و تمّ ذلك على يد البطريرك دانيال الحدشيتي الماروني انذاك.

و لكن الازمة لم تنطفىء فاستغلها الحكام و أرسلوا مزيد من المندسين الذين توافدوا الى وادي قنوبين ومحيطها وبعضهم بلباس رهبان فزرعوا بذور الفتنة من جديد، متسترين بالكرم و العطاء و السخاء. و لكن اهالي جبة بشري ثاروا عليهم وعينوا مقدما، تتبعهم و طهر المنطقة مجددا منهم. و بعد ان توفي المقدم، تجددت الازمة لغايات:

  1. شكل من اشكال الخيانة المارونية، المتكررة ليومنا:
    خلف مقدم جبة بشرى ابنه سالم، فاستدعى أعدادا من الأغراب و الهراطقة و العملاء وفك الارتباط مع سائر المقدمين الموارنة الذين كانوا يحاربون المماليك.  
    المقدم سالم الذي كان حاكماً لمنطقة جبة بشرى وإهدن، هدفه هو أن يتحول إلى أمير على  كل جبل لبنان المسيحي فوق كل المقدمين الآخرين. ولكن بما أنه لم يتمكن من خوض هذه المعركة سياسياً ولا عسكرياً، إستنجد بقوة خارجية.
    فالمماليك الموجودين في البقاع والمحيطين بجبل لبنان كان هدفهم القضاء على الصليبيين في طرابلس وفي الوقت نفسه الإنتهاء من الكيان المستقل الحر الموجود في جبل لبنان. فاتفق السلطان المملوكي مع المقدم سالم على أن يفتح هذا الأخير له ممرات الجبال الوعرة في الشمال أمام جيوش المماليك كي تمر هذه الجيوش في منطقة الشمال وأن تنزل نحو الشواطئ وتحاصر الصليبيين.

    وفي المقابل وعد المماليك المقدم سالم إذا سمح لهم بمرور الجيوش المملوكية وبعد ان ينتصروا على الصليبيين أن ينصبّوه حاكماً مطلقاً على لبنان، أي في جبل لبنان آنذاك.    

     وزّع المقدم سالم مجموعاته العسكرية على بعض الممرات التي كانت عصية على الغزاة  والتي لم تستطع ولم تتمكن من اختراقها. وفي هذه العملية الخيانية، تمكنت القوات المملوكية ولأول مرة منذ على الأقل ستة أو سبعة قرون من اجتياز هذه الممرات ومن دخول جبة بشري وإهدن والتوجه نحو طرابلس.
    لكن جيوش المماليك لم تتوجه فوراً نحو طرابلس، فلقد استوطنت في منطقة  الشمال ودخلت القرى والبلدات من حصرون وبزعون وبشرى وإهدن والحدث وكل هذه المناطق التي كانت محصنة وحرّة، حيث دمّروها وأحرقوها وارتكبوا فيها مجازر كبرى.  

     أذاً استخدم المماليك المقدم سالم لدخول مناطق الشمال فاحتلوها وهجّروا أهاليها في العام 1283 وانسحبت قوات المردة الجراجمة من مناطق الشمال وتمركزت في مناطق جبيل والبترون بانتظار العودة.
     

  2. هذا الزمن غامض برواياته:
     
    اما كنسيا، انقسام الكنيسة المارونية الى جناحين نتيجة الحروب الصليبية وفشلها في الجوهر وانحرافها نحو التسلط والخسارة.
    فالفريق الاول قراءوا بالعودة الى الجزور االسريانية اليعقوبية والتعاون مع الفتواحة  الاسلامية يحفظون وجودهم  بعد فشل الصليبين وانهزامهم.
    اما الفريق الثاني، فضلوا كنيستهم على اتحاد مع الغرب وروما والكثلكة هو الاحسن.
    اما النتيجة فكانت سوداء،  الفريق الاول و
    بطريرك لوقا البهراني، او بطلرك الحرب، قدم المساعدة غير المحدودة للمماليك، فما حصد من هذا الصديق المسلم الذي بشرعه الاسلمة والقتل، سوى التدمير والالغاء للشعب الماروني الحالم بهذا الصديق المملوك.
    اما الفريق الثاني،
     بالرغم من استغلال المماليك ضعف الصليبيين عمدوا إلى رسم خريطة جديدة للبلاد إلّا أن هؤلاء الموارنة ونساكهم ثاروا ودعموا البطريرك ارميا  الدملصاوي رجل الصلاة فأخافوا سيف الدين قلاوون الوالي المملوكي”

 ملاحظة تحليلية من واقع الشعب الماروني في القرن العشرين، لكن العجيب انه في اي زمن ضعف ماروني تخرج قوة وتعيد التوازن للمارونية . كانه عند فشل كنيسة الار ض تتدخل كنيسة السماء!!
للاسف هذا الذي يتكرر، انه الخروج عن سياق المشروع النهضوي الماروني الذي رعته  كنيسة مارون، فيسقط نتيجة تهورسياسي موارني لغايات سلطوية.!
   
عام 1282\1283
رواية واستنتاج رقم  2
إن أزمة العام 1282 هامة جداً في تاريخ الموارنة، لكن يشوبها كلام عن انقسام الخطير في رئاسة الكنيسة حيث انتخب الموارنة بطريركان. ما حقيقة ذلك!
1-
بحسب التعريف المتبع في المتحف البناني، بين العامين 1988 و1993، عثر أعضاء من "الجمعيَّة اللبنانيَّة للأبحاث الجوفيَّة" على مجموعةٍ من الأجساد البشريَّةٍ المحنَّطة طبيعيّاً مع العديد من قطع الثياب والحلي في مغارة من مغارات وادي قاديشا تقع في منطقة حَدَث الجِبَّة. وتحديدا ان هذه المومياوات قد اكتُشفت العام 1989 في وادي قاديشا المدرج على قائمة منظمة يونيسكو للتراث العالمي، وهو الوادي الذي يُعرف محلياَ بـ"الوادي المقدّس". وفي العام 1995، تمّ إيداع المكتشفات في مديرية الآثار ، وعُرض بعض هذه المكتشفات في ركن من المتحف من الطابق السفلي الذي خصّص للفنون الجنائزية في لبنان.

2- بحسب الروايات المتناقلة، لجأ الموارنة إلى هذا الوادي في الماضي هرباً من اضطهاد الروم البيزنطيين ومن ثم المماليك المسلمين، وبات قلعتهم الحصينة. وبناءا على رواية  نقلها البطريرك الماروني العلامة اسطفان الدويهي وسجلها في كتابه "تاريخ الأزمنة" (اي تاريخ الموارنة)، ما نصه الحرفي: "في شهر أيار (العام 1283)، سارت العساكر الإسلامية إلى فتح جبة بشري فصعد شرقي طرابلوس العسكر في وادي حيرونا وحاصر إهدن حصاراً شديداً، وفي نهار الأربعين ملكها بشهر حزيران، فنهبوا وقتلوا وسبوا ودكوا للأرض القلعة التي بوسط القرية والحصن الذي على رأس الجبل، ثم انتقلوا إلى بقوفا وفتحوها في شهر تموز، وقبضوا على أكابرها وأحرقوهم بالبيوت ونهبوا وسبوا ودكوها إلى الأرض، وبعدما ضربوا بالسيف أهالي حصرون وكفرسالون في الكنيسة، توجهوا في الاثنين وعشرين من شهر آب إلى الحدث، فهربوا أهلها إلى العاصي، وهي مغارة منيعة فيها صهريج للماء، فقتلوا الذين لحقوهم وخربوا الحدث، وبنوا برجاً قبال المغارة، وابقوا فيه عسكر يكمن عليهم، ثم هدموا جميع الأماكن العاصية. واذ لم يقدروا يفتحوا قلعة حوقا التي قبال الحدث، أشار عليهم ابن الصبحا من كفرسغاب بجر النبع الذي فوق بشري وتركيبه عليها، فملكوها بقوة الماء لأنها داخل الشير، واذنوا لابن الصبحا بلبس عمامة بيضه يانس وان تقيم العبيد بخدمته. ولما رجع العسكر وتاب عن سوء فعله عمر دير سيدة حوقا لسكنة الرهبان، وهو بالقرب من برج الذي كان في الشير". فهذا الذي ذكره  البطريرك  اسطفان الدويهي، كان السند االداعم "لجمعيَّة اللبنانيَّة للأبحاث الجوفيَّة" في رحلتها في استكشاف منطقة حدث الجبة وما عثروا عليه ذاك المعروض في المتحف .

3- بحسب هذه الرواية، شن المماليك في العام 1283 حملة على جبة بشري في شمال لبنان، وحاصروا إهدن، ثم توجّهوا إلى الحدث، فلجأ أهلها إلى "مغارة منيعة فيها صهريج للماء"، فقطعوا عنها الماء.
 تأتي هذه الأحداث في زمن نهاية حكم الفرنجة وانهيار "كونتية طرابلس"، وهي المقاطعة التي أنشأها الصليبيون في مطلع القرن الثاني عشر، وكانت تمتد من المنطقة التي تُعرف اليوم بجسر المعاملتين قرب جونية، إلى مدينة طرطوس، على الساحل السوري، وتضمّ جبل لبنان "التاريخي"، أي جبة بشري، وبلاد جبيل والبترون، وجبة المنيطرة.
وبحسب مؤرخ الفرنجة، وليم، رئيس أساقفة صور ومستشار الملك بدوين الرابع ملك "مملكة أورشليم"، جرى أول اتصال للموارنة مع الصليبيين في العام 1099، واتحدوا بكنيسة روما في العام 1182.
"لم يكن هؤلاء الناس الموارنة قليلي العدد"، يقول مؤرّخ الفرنجة، "وقدّروا بأنّهم أكثر من أربعين ألف، وكانوا شعبًا قوي البنية ومقاتلين شجعان، وقدّموا فوائد عظيمة للمسيحيين في المعارك الصعبة التي كانوا قد خاضوها مرارًا مع العدو"، فمنحوهم "جميع الحقوق الكنسية والمدنية التي كانت لأبناء الكنيسة الرومانية الكاثوليكية".
لكن هذا الإتحاد لم يكن ثابتاً، إذ تعرّض لأكثر من انشقاق كما يقول المؤرّخون الذي عاصروا هذه الحقبة الشائكة.

في العام 1268 شنّ السلطان بيبرس حملة عسكرية على جبّة بشري، وتلا هذه الحملة تساقط المناطق التابعة لكونتية طرابلس الواحدة بعد الأخرى. بعدها عقد السلطان قلاوون في العام 1281، معاهدة صلح لمدة عشر سنوات مع صاحب طرابلس بوهيموند السابع، وشملت هذه المعاهدة جميع أراضي الكونتية.
في ظلّ هذه الهدنة، شنّ المماليك العام 1283 حملة أخرى على منطقة جبة بشري وشرّد أهلها، وهي الحملة التي أشار إليها البطريرك إسطفان الدويهي "تاريخ الأزمنة"،
وتقابلها رواية "إسلامية" نقلها محي الدين بن عبد الظاهر في كتابه "تشريف الأيّام والعصور بسيرة الملك المنصور". تقول هذه الرواية المملوكية: "إتّفق أنّ في بلاد طرابلس بطريركًا عتا وتجبّر واستطال وتكبّر وأخاف صاحب طرابلس وجميع الفرنجة، واستمرّ أمره حتى خافه كل مجاور. وتحصّن في الحدث وشمخ بأنفه، وما قدر أحد على التحيّل عليه من بين يديه ولا من خلفه. ولولا خوفه من سطوة مولانا السلطان لخرب تلك البلاد، وفعل ذلك أو كاد. فاتفق أن النواب ترصّدوه مراراً فما وجدوه. فقصده التركمان في مكانه وتحيّلوا عليه حتى أمسكوه وأحضروه أسيرا وحسيرا. وكان من دعاة الكفر وطواغيهم، واستراح المسلمون منه وآمنوا شره. وكان إمساكه فتوحًا عظيمًا، أعظم من افتتاح حصن أو قلعة، وكفى الله مكره".

اما المفارقة هنا:

  • يتحدّث مؤرّخ المماليك عن "بطرك الحدث من بلاد طرابلس"، ولا يذكر اسمه.
  •  في المقابل ، يتحدّث البطريرك إسطفان الدويهي عن البطريرك لوقا من بنهران الذي انتخب يطريركا مارونيا. في نفس الزمن الذي تحدث فيه  مؤرّخ المماليك
  • اما في الاستنتاج، بين 1982 و1983:
    • من الظاهر ان هذا البطريرك لوقا والشعب الماروني في منطقة جبة بشري، كانوا مشمازون من معاهدة الصلح عام 1281 بين صاحب طرابلس الصليبي بوهيموند السابع واللمماليك، وفقدوا الثقة بفريقي الصلح
    • وخوفا من تكرار مصيبة الابادة لتي حلت بالموارنة زمن البطريرك الاسبق دانيل الحتشيني.على يد المماليك، كانت جهوزيتهم مع البطريرك لوقا من بنهران للتصدي وحيدين لاي هجوم من المماليك
    • وما وصف المماليك لهذا البطريرك الا لشرعنة جريمتهم.
      مضمون الوصف: "ان هذا البطريرك عتا وتجبّر واستطال وتكبّر وأخاف صاحب طرابلس وجميع الفرنجية حتى المماليك، لدرجة انه خرج عن الملّة وتحرّك ضد الفرنجة".
    • مما يعني ان صاحب طرابلس الصليبي كان على خلاف مع موارنة جبة بشري، ولكي يثار منهم تم تفويض المماليك بالمهمة. بحجة ان البطريرك كان خارج عن الملة (الكاثولبكبة). اي ان البطريرك لوقا قد اتبع نهج اليعاقة.
    • اما الغموض هو هنا، بطريرك متهم باتباع نهج اليعاقبة لا الكثلكة يهاجم من الجيش المملوكي بواسطة تعاون بين رهبان يعاقبة ومقدم بشري لتسهيل فتح الممرات الجبلية عبر بشري  للمماليك. اي منطق هو ان رهبان مسيحيين يعاقبة كانوا وراء هلاك بطريرك ماروني انتهج خط المسيحيين اليعاقبة !!
    • اما الاوضح هو ان خسارة صاحب طرابلس الصليبي امام الممليك، انفجرحقدا على الموارنة وبطريكهم فالصقوا بهم التهم حتى تخوينهم دينيا. اما المماليك هم اصلا مسلمين متطرفيين نهجم ابادة كل من يرفض الخنوع  للاسلمة.
    • ونتيجة لسقوط وابادة موارنة جبة بشري وتدميرها ووفقا للتواريخ التقريبية،  كان على أهالي جبة المنيطرة منعا الفراغ ان ينتخبوا بطريركا للطائفة ، فكان البطريرك أرميا الدلمصاوي المنتخب في دير حالات بحضور امير حبيل الصليبي، حنا الماروني. فقيل انه بات للطائفة المارونية بطريرك مناصر لروما  في حالات
    • بعد سقوط جبة بشري، اضطر البطاركة إلى هجرة مركزهم في دير سيدة يانوح
   
عام 1282\1283
رواية واستنتاج رقم  3
إن أزمة العام 1282، هل هي واقعا تاريخ صحيح عن انقسام خطير في رئاسة الكنيسة المارونية حيث انتخب الموارنة بطريركان؟
يقول
الأب المؤرخ بطرس ضو في تاريخ الموارنة الجزء الثالث (صفحة 532 ) نقلا عن نصوص لجبرائيل ابن القلاعي بخصوص البطريرك لوقا البنهراني المعروف ب (بطرس الثاني) بما يلي:

اولا : لقد اثبت جبرائيل ابن القلاعي وجود البطريرك لوقا البنهراني الماروني في سنة 1145 و ليس بين سنتي 1281 و 1282 كما اكد سقوطه في البدعة الجديدة المعروفة ببدعة ابوليناريوس التي احدثت بين الموارنة انشقاقا . فكان من جرائها و لو بعد سنين طويلة هجوم السلطان قلاوون على كسروان في سنة 1305 (و ليس في سنة 1308 ) فاستولى على كسروان و احرقها و بدد شمل اهلها الذين ظلوا عائشين فيها .
ثانيا : اكد ابن القلاعي ان بابا روما لما عرف بتفشي هذه البدعة بين بعض الموارنة ارسل من قبله الى البطريرك لوقا البنهراني قصادا للنظر فيها و حث هذا البطريرك على الابتعاد عنها و الرجوع الى الايمان القويم .
 لكن هذا البطريرك لم يقبلهم لعلمه بان "احتكاكات كثيرة حصلت بين الموارنة و الصليبيين و هي ناتجة عن اختلاف المزاج الفرنجي و المزاج الشرقي الماروني "(الاب بطرس ضو صفحة 470 ) فضلا عن الضغوط الناشئة من جهة الكنيسة الرومانية على الكنيسة المارونية باتجاه (الليتنة ) في مجال الطقوس و العادات و التنظيم الكنسي .
و السبب الاهم في حصول هذا الاحتكاك و التباعد بين الموارنة و الصليبيين كان تعاون بعض الموارنة في جبال بشري و الجبة مع حملة التركي بزواش على طرابلس و للاسف تصرف الفرنج على اثر هذه الحادثة بعنف و فظاظة و قساوة زادت في سوء الوضع اذ انتقموا من هؤلاء الموارنة بشراسة منقطعة النظير و اعتقلوا الذين من نصارى الجبل عاونوا بزواش مع نساءهم و اولادهم حتى الاطفال منهم و اقتادوهم الى طرابلس حيث اعدموهم جميعا فكان هذا التصرف السيئ منطلقا لأزمة خطيرة انفجرت بين الفرنج و شطر كبير من الموارنة و على رأسهم رأس كنيستهم المارونية البطريرك لوقا البنهراني من جبة بشري و ذلك سنة 1145, و بلغت ذروتها العسكرية بأخذ نور الدين لحصن المنيطرة في سنة 1165 ... و بتوغل صلاح الدين في جبل الموارنة في سنة 1186.

كما قال العلامة الدويهي بهذا الخصوص ما يلي : و في سنة 1165 سار الى جرد بلاد جبيل نور الدين التركي و افتتح حصن المنيطرة . و عقب على ذلك الأب ضو قائلا : لو لم يكن بعض الموارنة آنذاك متضامنا مع نور الدين (ردا على افعال الفرنج ضد بعض الموارنة ) لما كان استطاع هذا الاخير اخذ حصن المنيطرة المنيع و دخل تلك المنطقة الحصينة التي لم يتعرض لها المسلمون قبل ذلك الزمن ابدا .
و هذا ما يعطي فكرة واضحة عن مدى تمسك الموارنة بكرامتهم و استقلال قرارهم و تعلقهم برأس كنيستهم المارونية مستعدين للموت فداء عنه كما هو يرفض التخلي عن رعيته بل 
الموت معهم عندما لا يستطيع انقاذهم من الشرور و المخاطر خاصة عندما يكون الظلم ظلم ذوي القربى و الدين و من كنا بالامس سبب انتصارهم. و هذا ما جعل الموارنة يتعاونون مع نور الدين التركي فقط للثأر لأجل كرامتهم و ثأرا لمن اعدمهم الافرنج .
   
عام 1282\1283
رواية  رقم  4
 

استفاد  السلطان المملوكي قلاوون، من الهدنة مع الصليبيين سنة 1283 وتوغل جيشه الى معاقل الموارنة في اعالي لبنان الشمالي، فاحتل القرى والبلدات التي تحيط بطرابلس والتي كانت تساعد المدينة دائما ضد المماليك حتى وصل الى بشري واهدن وحدث الجبة وخربها، فنزحت جماعات كبيرة من الاهالي الى الوديان العميقة والجبال العاصية والى جزيرة قبرص.

لم يتحرك الصليبيون لنجدة هؤلاء الموارنة الاقحاح الذين كانوا يدافعون عنهم ويتكبدون الخسائر في كل مرة كان المماليك يتقدمون باتجاه طرابلس لاحتلالها، الامر الذي ادى الى التنكيل بقرى اهدن وبشري والحدث بعنف بالغ.
 
يقول البطريرك الدويهي: «… في شهر ايار سنة 1283،سارت عساكر المماليك الى فتح جبة بشري وصعدت الى وادي حيرونا شرقي طرابلس، وحاصرواقرية اهدن حصارا شديدا وملكوها بعد اربعين يوما في شهر حزيران، وسلبوا ما وجدوا،وضربوا القلعة التي في وسطها، والحصن الذي كان على رأس الجبل، ثم انتقلوا الى ميفوق ففتحوها في شهر تموز وقبضوا على اكابرها واحرقوهم في البيوت ودكّوها للأرض واكثروا من النهب والسلب.

وبعد ان اعملوا السيف بأهل حصرون وكفرسارون وذبحوهم في الكنيسة رجعوا في 22 اب الى حدث الجبة فهرب اهلها الى  مغارة عاصي الحدث.  

إستمر حصار مغارة عاصي الحدث 7 سنوات تمكن من خلالها أهالي الحدث من الصمود في وجه المماليك الذين احتلوا البلدة ونكلوا باهلها واحرقوا منازلها ولم تسلم كنيسة مار دانيال من الخراب التي أصابها. تمكن أهالي الحدث من الصمود داخل المغارة وذلك بعد أن جرّوا اليها  قناة ماء من عين كوسا، حيث كانت تصل الى المغارة بطريقة سرّية. وكان الأهالي يؤمّنون المؤن من حبوب وطحين وزيوت ومواشي وذلك عبر التنقل بدهاليز تصل المغارة بالبلدة.  

إستعان المماليك بالخيل لمساعدتهم في إيجاد الطريقة للدخول الى المغارة. فعطّشوا الخيل ثلاثة أيام، واطلقوها فوق المغارة لأكتشاف مصادر المياه اليها،  ولم تمض ثلاثة أيام على تعطيش الخيل حتى إكتشفت مجرى للماء فجلبوا الحيوانات، وذبحوها على قنوات الماء، وإمتزج الماء بالدم، وتلوّثت كليّاً المياه. فأستسلم الأهالي بعد سبع سنوات من الحصار. منهم مَن مات داخل المغارة جوعاً وعطشاً، ومنهم مَن هرب الى خارج المغارة فقتله المماليك، ومنهم لا يتعد عدد أصابع اليد، تمكنوا من الهرب إلى جبيل.

 
ملحق رواية، قصة ابن الصبحا والبطريركين: 
بعد هزيمة الافرنج على يد المماليك ،عينوا البطريرك أرميا، بينما انتخب اكليروس الجبل البطريرك لوقا البنهراني . غضب الافرنج من البطريرك لوقا الذي كان يحكم ناحية حدث الجبة .فتآمروا مع السلطان قلاوون للقبض على البطريرك فأعطوه صندوقا مملؤا من الذهب وخارطة اهدن بان حصرون حدث الجبة .
تحرك المماليك ناحية اهدن صيف 1283 فسقطت القلعة في وسط الضيعة (الكتلة) فالتجأ الاهالي الى قلعة سيدة الحصن وبعد حصار اربعين يوم سقطت القلعة و ذبح كل من التجأ اليها .ومن بعدها هاجموا بقوفا واحرقوا البيوت قبل ان يتوجهوا الى حصرون حيث ارتكبوا مذبحة في حق المؤمنين .
التجأ الاهالي والبطريرك الى مغارة عاصي الحدث وعبثاً حاول المماليك الوصول اليها لوعورة المسالك المؤدية اليها .وبعد سبعة اشهر من الحصار الشديد اراد البطريرك الاستسلام وطلب من الاهالي الانتقال الى المغارة المقابلة اي مغارة حوقا .حاول المماليك لعدة اشهر احتلال المغارة لكن عبثاً ...واذ بقروي يدعى ابن الصبحا من قرية كفرصغاب، كان والده مدير شؤون البطريرك لوقا الذي طرده البطريرك لوقا من دون سبب واراد ابن الصبحا الثأر لوالده فألتقى المماليك وعرض عليهم خطة بتحويل مجرى ساقية مار سمعان التي تنبع من بشري الى المغارة. و بالفعل تم حفر قنوات لمدة يومين تصب مباشرة في اعالي مغارة حوقا التي غمرتها المياه فخرج الجميع فأطبق عليهم المماليك و ذبحوا الجميع ...

 
©   pure software code 2019