وما كان ابتداؤه رهبنة جديدة، وديراً زاهراً، ومكانة أثيرة من الكنيسة المحلية وأساقفتها، وتوافدَ مؤمنين كثر، وصيتً قداسة، وطلبَ "معجزات" وكرامات وبركات، واعتقاد هذه، انتهى الى تهمة بقتل ثلاث راهبات من أخوات الرهبنة بعد تعذيبهن عذاباً فظيعاً. وتكشَّفَ عن تعسف وقسر قاسيين، وأماط الستر عن أساليب في حكم الرهبنة واستدراج التصديق والتسليم بالكرامات تخالف معايير الرعاية والإدارة الكنيستين الرومانيتين غداة الرد على الإصلاح البروتستانتي. ولما لابست "حركة" هندية عجيمي، وهي جملة أعمالها وعباداتها وكتاباتها (أو "أماليها" – ما أملته على كاتبها أو كتابها)، من إنشاء رهبنة قلب يسوع ثم أخوية القلب الأقدس الى تدبير الدير واستجابة رجاء المؤمنين، لما لابست أحوال الموارنة الكنسية والسياسية والاجتماعية والثقافية ملابسة قوية وحميمة، ترددت أصداء الأزمة في كل وجوه الجماعة المارونية وعلاقاتها، داخلاً وخارجاً.
القضية
فإنزال الأم هندية، من مرتبة القداسة، وهي على قيد
الحياة، الى مرتبة النبذ والازدراء خلّف في الجماعة
المارونية، وهي يومذاك في طور الانتقال الى مباشرة دور
متعاظم في إمارة الجبل الصغير، أصداء أليمة ومحبطة لا
يزال بعضها يتردد في نفوس موارنة مؤمنين الى اليوم.
وأصابت الأصداء هذه رابطة الكنيسة المحلية، المتحدة
بحاضرة الكثلكة وعاصمتها، بالكنيسة الجامعة، في صميمها
وقلبها. فالموفدون البابويون هم الذين تولوا تحقيق ما
نُسب الى الأم هندية من تهم، وهم من انتهوا الى إدانتها،
وإدانة البطريرك يوسف أسطفان وبعض وكلائه وأساقفته.
وقامت رابطة الكنيسة المارونية بالكنيسة الكاثوليكية
مقام الركن من تجدد الكنيسة المحلية، ومن استجماعها
عوامل قيامها بدورها الجديد هيئة تتصدر اجتماع الموارنة،
وتربط بين أجزائهم ومراتبهم وبلادهم، وتؤلف منهم جماعة
وطنية مستقلة في كنف السلطنة العثمانية.
ولكن نواة "قضية" الأم هندية هي هندية عجيمي نفسها،
والراهبات اللواتي حطْنها، وكن "أخواتها" و "بناتها"، ثم
صار بعضهن شريكاتها في تثبيت قداستها، وبعضهن الآخر
ضحايا هذه القداسة، وضحايا شريكاتها المقربات وشركائها
الذين لا يقلون قرباً. فهندية عجيمي عَلَم على حياة
اختبرت بعض أقاصي المشاعر والانفعالات، أو المواقف
والمقامات التي ترجحت بينها التجارب والأحوال الإنسانية
في مستهل العصر الحديث. والمرأة التي عمّرت وناهزت
الثمانين (1720 الى 1798) ارتقت معارج التصوف الى ذراها،
وسلكت مسالك الرؤيا والعبارة الى ابعدها وأغربها، وانتشت
بسلطان التصديق، وانحطت الى درك الشعوذة، وناءت بالشك
والمرض والوحدة، وسبقت معاصراتها الى ما لم يدر بخاطرهن
من قيام بالنفس ونكصت الى صور وانفعالات بدائية ومدمرة.
فكأن "الروح" الذي سكنها، وأمتلأت منه بركة وأعطيات،
تركها. فخلف تركه أنقاضاً خاوية ومتصدعة. وحلت محل
المرأة الملهمة والمنعمة على معتقدي ولايتها آيات
الخصوبة والحياة والصحة امرأة أخرى متسلطة ومراوغة،
قادتها ضغينتها، وقادها حرصها على تثمير صيتها، وتثبيت
سلطانها على من حاطها، الى قهر وعنف مميتين.
وقد يكون من غريب الأمور، وهو حتماً من أقواها دعوة الى
النظر، إغفال الكتابات التاريخية والأدبية والفلسفية
اللبنانية قضية هندية، والإشاحة عنها الى أقل منها شأناً
وأفقر معنى. وعلى جاري سنة مألوفة تولى كاتب ومؤرخ
أوروبي، هو الفرنسي برنار ايبرجيهن، استاذ التاريخ في
جامعة تولوز إحياء هذا التاريخ، رواية وتأويلاً، في ضوء
محاضر الفاتيكان، ورسائل المبعوثين والموفدين، ووثائق
الكنيسة المحلية (في كتابه: "هندية/ متصوفة ومجرمة"، عن
دار أوبييه، 2001). ويعود بعث كتابات هندية، أو أماليها،
الى ميشال الحايك، في "المشرق" اليسوعية، قبل خمس
وثلاثين سنة تامة (في 1965 و1966)، وإلى بطرس فهد في
1972 ("أقوال الراهبة هندية عجيمي الحلبية وترجمة حياتها").
واقتصرت الرواية القصصية على عبدالله حشيمة في "القديسة
هندية". (من غير تاريخ).